Vous êtes sur la page 1sur 138

‫هدية إلى كل باحث عن الحق من غير المسلمين‬

‫عَّرف على‬
‫ت َ‬
‫الســل‬
‫م‬
‫د‪ .‬منقذ‬
‫بن محمود السقار‬
‫تعرف على‬
‫(‪)2‬‬
‫السلم‬

‫مقدمة‬
‫الحمد لله والصلة والسلم على رسل الله‪ ،‬وبعد‬
‫فإن دين النبياء جميعا ً واحد‪ ،‬حيث أرسل الله‬
‫رسله وأنزل كتبه بدعوة جوهرها واحد‪ ،‬وهي الدعوة‬
‫إلى توحيده وعبادته والتمسك بطيب الخلق وحسن‬
‫السلوك‪.‬‬
‫ولما بعث الله محمدا ً أمره بما أمر به إخوانه من‬
‫النبياء‪ ،‬وأرسله إلى الناس أجمعين‪ ،‬وارتضى دينه‬
‫للعالمين ديناً‪ ،‬فكمل به الدين‪ ،‬وتم ببعثته الفضل‬
‫العميم‪.‬‬
‫ولن السلم دين الله الخاتم‪ ،‬فقد امتاز بخصائص‬
‫ذاتية جعلته في الماضي وتجعله اليوم أسرع الديان‬
‫انتشارا ً على وجه الرض‪ ،‬فقد غطى السلم نصف‬
‫الرض بحضارته‪ ،‬وتسابقت المم إلى الدخول فيه‬
‫لما قرأت فيه من توافق مع الفطرة ومواءمة مع‬
‫العقول‪ ،‬وسماحة في المعاملة‪ ،‬ويسر في المعتقد‪.‬‬
‫لكن هذا النجاح الذي حققه المسلمون بإسلمهم‬
‫دفع البعض للساءة إلى السلم ‪ ،‬فما من دين ول‬
‫نحلة أصيب بما تعرض له السلم العظيم من تشويه‬
‫أسهمت به جيوش من المفكرين الذين تعمدوا أحياناً‬
‫الساءة إليه بطمس حقائقه وإلصاق النقائص به‬
‫زورا ً وبهتاناً‪ ،‬في حين أخطأوا في أحيان أخر في‬
‫فهمه‪ ،‬فانحرفوا بعيدا ً عن حقائقه وأصوله‪.‬‬
‫ولسنا نبرئ أنفسنا نحن المسلمين من الساءة‬
‫إلى ديننا بتصرفات بعضنا التي يبرأ منها السلم‬
‫الذي أضحى أسيرا ً بين مطرقة أعدائه وسندان جهل‬
‫محيط ببعض أبنائه‪.‬‬
‫والواجب على العاقل الحصيف إذا ما أراد التعرف‬
‫على دين ما؛ النظر في أصوله بعيدا ً عن تصرفات‬
‫أبنائه واتهامات أعدائه‪ ،‬فما من دين ول فكر إل‬
‫ويوجد خطأ وجنوح في بعض المنتسبين إليه‪ ،‬من‬
‫غير أن يجنح أحد إلى تعميم الحكام‪ ،‬فالحكم على‬
‫الهيئات فضل ً عن الديان إنما يرجع فيه إلى‬
‫(‪)3‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫الصول‪ ،‬ل إلى السلوك الرعن أو الخاطئ من بعض‬


‫التباع‪ ،‬لذا كان من الواجب أن نفهم السلم كما‬
‫هو‪ ،‬كما أنزله الله بعيدا ً عن الحكام المسبقة‬
‫المثقلة بأوهام الستشراق وإفكه‪.‬‬
‫وإذا أردنا التعرف على السلم عن طريق أصوله؛‬
‫فإنا لن نجد مدخل ً أفضل من تدبر الحوار الذي جرى‬
‫بين جبريل عليه السلم أمين الوحي من أهل‬
‫السماء‪ ،‬والنبي محمد أمين الوحي من أهل الرض‪،‬‬
‫حيث أتى جبريل النبي فسأله عن مراتب الدين‪،‬‬
‫ليُسمع الصحابة إجابته‪ ،‬فيفقهوا دينهم‪ ،‬قال جبريل‪:‬‬
‫يا محمد أخبرني عن السلم؟ فقال رسول الله ‪:‬‬
‫((السلم‪ :‬أن تشهد أن ل إله إل الله‪ ،‬وأن محمداً‬
‫رسول الله ‪ ،‬وتقيم الصلة‪ ،‬وتؤتي الزكاة‪ ،‬وتصوم‬
‫رمضان‪ ،‬وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلً))‪ .‬قال‪:‬‬
‫صدقت‪ .‬قال عمر‪ :‬فعجبنا له يسأله ويصدقه!‪.‬‬
‫قال جبريل‪ :‬فأخبرني عن اليمان؟ فأجابه ‪:‬‬
‫((أن تؤمن بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر‬
‫وتؤمن بالقدر خيره وشره)) قال‪ :‬صدقت‪.‬‬
‫قال جبريل‪ :‬فأخبرني عن الحسان؟ فقال ‪ :‬أن‬
‫(‪)1‬‬
‫تعبد الله كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك))‪.‬‬
‫فهذه أصول السلم بإجمال‪ ،‬فأي شيء يعاب‬
‫منها؟‬
‫ولسوف نشرع في التعريف والتفصيل في شرح‬
‫هذه الصول ‪ ،‬لنقف على البعاد الخلقية والحكم‬
‫اللهية في تأسيس السلم واليمان على هذه‬
‫القواعد‪.‬‬
‫كما سنعرض بالشرح والبيان لكشف حقيقة ما‬
‫يردده البعض عن اتهام السلم بالرهاب والحض‬
‫على الكراهية‪ ،‬وبأنه ظلم المرأة وعطل طاقتها‪،‬‬
‫فنجيب في هذا الصدد عن بعض ما يثار عن السلم‪،‬‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)50‬ومسلم ح (‪.)9‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)4‬‬
‫السلم‬

‫ونهديه لمن أراد التعرف على السلم عن طريق‬


‫أصوله ومبادئه‪.‬‬
‫ونتقدم بهذه الرسالة التي تبتغي منها التعريف‬
‫بالحق الذي انشرحت به صدورنا‪ ،‬وارتضته عقولنا‪،‬‬
‫فهي دعوة للتأمل في تعاليم السلم ثم اللحاق‬
‫برهط المؤمنين الفائزين عند الله ﴿إن الذين آمنوا‬
‫وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم‬
‫ن تجري من تحتها النهار خالدين‬ ‫عند ربهم جنات عد ٍ‬
‫فيها أبدا ً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن‬
‫خشي ربه ﴾ (البينة‪.)8-7 :‬‬
‫والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا ً لوجهه‬
‫الكريم‪ ،‬إنه ولي ذلك والقادر عليه‪.‬‬
‫(‪)5‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫السلم وأركانه‬
‫وقبل الشروع في تبيان حقائق السلم وأركانه؛‬
‫فإن من الواجب أن نتحدث عن اسم (السلم)‪.‬‬
‫لفظة السلم في اللغة مصدره من أسلم يسلم‪،‬‬
‫ومنه السلمة والسلم‪.‬‬
‫وحين نتحدث في هذه الدراسة عن السلم‪ ،‬فإنا‬
‫نعني الدين الذي أنزله على نبيه محمد ‪ ،‬وسماه‬
‫بذلك لما تضمنه من الدعوة إلى الستسلم لله وحده‬
‫والنقياد والخضوع له بالطاعة ‪.‬‬
‫وهذا السم ل يستمد اسمه من اسم نبي أو‬
‫وطن‪ ،‬بل مشتق من خصيصته الساس التي لم‬
‫تفارقه في طور من أطواره طوال تاريخ النسانية‪،‬‬
‫فهو الستسلم لله تبارك وتعالى وحده دون سواه‪.‬‬
‫والسلم هو دين الله الذي أنزله على جميع‬
‫النبياء‪ ،‬فقد دعوا جميعا ً إلى أصول واحدة‪ ،‬تقوم‬
‫على توحيد الله وتعظيمه وعبادته والستسلم‬
‫لوامره والخضوع لحكامه والدعوة إلى حراسة‬
‫فضائل الخلق والرتقاء بالسلوك النساني‪.‬‬
‫وأما ما نجده اليوم من تباعد واختلف بين أتباع‬
‫الديان؛ فسببه اندراس الحق وما مرج في رسالت‬
‫الله السابقة من الباطل‪.‬‬
‫وقد أطلق الله هذا السم الشريف (السلم)‬
‫على المؤمنين في كل حين‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬هو‬
‫سماكم المسلمين من قبل﴾ (الج‪ ،)78 :‬لن المسلم ‪-‬‬
‫المؤمن بأي نبي من أنبياء الله ‪ -‬يمتثل حقيقة‬
‫السلم‪ ،‬فيستسلم لله‪ ،‬وينقاد له بالطاعة‪ ،‬ويقف‬
‫عند حدوده وشرائعه‪.‬‬
‫فأبو النبياء نوح عليه السلم يقول لقومه‪﴿ :‬‬
‫وأمرت أن أكون من المسلمين﴾ (يونس‪.)72 :‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)6‬‬
‫السلم‬

‫وما فتئ إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلم‬


‫يدعوان الله أن يجعلهما من المسلمين‪﴿ :‬ربنا واجعلنا‬
‫ة لك﴾ (البقرة‪.)128 :‬‬
‫ة مسلم ً‬
‫مسلمين لك ومن ذريتنا أم ً‬
‫وقبيل وفاة يعقوب عليه السلم جمع أبناءه‪،‬‬
‫وأوصاهم بالستمساك بملة إبراهيم الحنيف‬
‫المسلم ﴿إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب‬
‫العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني‬
‫إن الله اصطفى لكم الدين فل تموتن إل وأنتم‬
‫مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ‬
‫قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله‬
‫آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها ً واحدا ً ونحن له‬
‫مسلمون﴾ (البقرة‪.)133 -131 :‬‬
‫كما طلب موسى عليه السلم من قومه الذعان‬
‫لمقتضيات السلم الذي دخلوا فيه‪ ،‬فقال‪ ﴿ :‬يا قوم‬
‫إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين﴾‬
‫(يونس ‪ ،)84 :‬فاستجاب لندائه سحرة فرعون‬
‫وقالوا‪﴿ :‬ربنا أفرغ علينا صبرا ً وتوفنا مسلمين﴾‬
‫(العراف‪.)126 :‬‬
‫وبمثل هذا دعا يوسف عليه السلم ربه حين طلب‬
‫من الله أن يميته ويحشره مع المسلمين‬
‫الصالحين‪﴿ :‬توفني مسلما ً وألحقني بالصالحين﴾‬
‫(يوسف‪.)101 :‬‬
‫ولما دخلت ملكة سبأ بلط سليمان‪ ،‬ورأت علمات‬
‫نبوته؛ نادت بنداء اليمان فقالت‪﴿ :‬رب إني ظلمت‬
‫نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين﴾‬
‫(النمل‪.)44 :‬‬
‫وقد أوضح خاتم النبيين محمد وحدة دين النبياء‬
‫فقال‪(( :‬أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا‬
‫(‪)7‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫علت‪ ،‬أمهاتهم شتى‪،‬‬ ‫والخرة‪ ،‬والنبياء إخوة ل َ‬


‫(‪)1‬‬
‫ودينهم واحد))‪.‬‬
‫وهكذا فإن دين النبياء جميعا ً واحد‪ ،‬بني على‬
‫أساس واحد يدعو إلى توحيد الله وإفراده وحده‬
‫بالعبادة‪ ،‬والستسلم لوامره‪ ،‬فهو السلم دين الله‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬إن الدين عند الله السلم ﴾ (آل عمران‪:‬‬
‫‪ ،)19‬وهو الدين الذي ل يقبل الله من الناس ديناً‬
‫سواه ﴿ ومن يبتغ غير السلم دينا ً فلن يقبل منه‬
‫وهو في الخرة من الخاسرين﴾ (آل عمران‪.)85 :‬‬
‫﴿قل ما كنت بدعاً‬ ‫وقد صدق الله إذ قال لنبيه‬
‫من الرسل﴾ (الحقاف‪ )9 :‬فأصول جميع ما أتى به‬
‫قد سبقه إلى التيان بها إخوانه من النبياء ﴿‬ ‫النبي‬
‫ح والنبيين من بعده‬‫إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نو ٍ‬
‫وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب‬
‫والسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان‬
‫وآتينا داوود زبوراً ﴾ (النساء‪.)163 :‬‬

‫علت هم الخوة من أب‬


‫‪)( 1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)3443‬والخوة ل َ‬
‫واحد‪ ،‬وأمهاتهم مختلفات‪.‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)8‬‬
‫السلم‬

‫أركان السلم‬
‫إن السلم بنيان كبير يشمل الحياة النسانية‬
‫بُرمتِّها‪ ،‬وهو يقوم على أركان خمسة‪ ،‬ويوضحها‬
‫النبي بقوله‪(( :‬بني السلم على خمس‪ :‬شهادة أن‬
‫ل إله إل الله‪ ،‬وأن محمدا ً عبده ورسوله‪ ،‬وإقام‬
‫(‪)1‬‬
‫الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وحج البيت‪ ،‬وصوم رمضان))‪.‬‬
‫وسوف نمضي سراعا ً مع هذه الركان ومقاصدها‪،‬‬
‫ونتجاوز تفصيلتها وأحكامها التي يمكن للقارئ أن‬
‫يطلع عليها في مظانها من كتب التوحيد والفقه‪.‬‬
‫الركن الول‪ :‬الشهادة لله بالتوحيد‪ ،‬ولرسوله‬
‫محمد بالرسالة‬
‫أول ً ‪ :‬الشهادة لله بالتوحيد‬
‫إن أهم مسألة توافق النبياء على الدعوة إليها‬
‫وتعريف الناس بها؛ هي الشهادة لله رب العالمين‬
‫بالوحدانية‪ ،‬والتعريف بصفات الله العظيم الذي أبدع‬
‫الكون وخلقه على هذا النسق المذهل العجيب‪ ،‬ومن‬
‫ثم التأكيد على استحقاقه وحده للعبادة دون سواه‪.‬‬
‫وبداية؛ فإن مسألة إثبات وجود الله لم تشغل حيزاً‬
‫كبيرا ً في القرآن الكريم‪ ،‬ذلك أنها قضية بدهية‬
‫وحقيقة يجدها المسلم وغيره في أعماق كيانه‪ ،‬فكل‬
‫شيء في هذا الكون المحيط بنا يدعونا – ضرورة ‪-‬‬
‫للعتقاد الجازم بوجود خالق حكيم مدبر متصف‬
‫بصفات الكمال‪ ،‬فكل مخلوق حولنا هو في حقيقته‬
‫شهادة لله على وجوده‪ ،‬بل على عظمته وكماله‪.‬‬
‫إن البشرية لم تنكر يوما ً وجود هذا الله ‪-‬وإن‬
‫اختلفت في تسميته ووصفه ‪ ، -‬فقد اتفقت‬
‫معتقداتها على وجود خالق مبدع للكون‪ ،‬سماه‬
‫البعض بواجب الوجود الذي أوجد هذه الممكنات‬
‫جميعاً‪.‬‬
‫وحتى ما يسمى بالمذاهب المادية اللحادية هي‬
‫في حقيقتها ل تنكر وجود هذه القوة اللهية التي‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)8‬ومسلم ح (‪.)16‬‬
‫(‪)9‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫نسجت الكون وفق قوانين محكمة‪ ،‬بيد أنها هربت‬


‫من السم الذي تدعيه الكنيسة لهذه القوة العظيمة‬
‫(الله)‪ ،‬ونسبتها إلى تسمية مبتدعة تفتقر إلى‬
‫الوضوح (الطبيعة وقوانينها)‪ ،‬فاسم الطبيعة ل يدل‬
‫على شيء محدد‪ ،‬إذ ل يمكن أن يفهم منه أن‬
‫النسان الول خلق نفسه وهو أحد مكونات الطبيعة‪،‬‬
‫ول أن ما نراه من بحار زاخرة قد أبدعت نفسها في‬
‫زمن ما‪ ،‬بينما عمدت الطيور والحيوانات إلى إنتاج‬
‫الجناس الحيوانية الولى‪ ،‬بل وحتى المخلوقات‬
‫البسط كالبكتيريا ل تستطيع أن تهب نفسها وقود‬
‫الحياة الذي يد ُّ‬
‫ب فيها‪.‬‬
‫إن أحدا ً ل يخالف في أن هذا الكون من خلق‬
‫وإبداع خالق عظيم حكيم‪ ،‬هو ربنا ﴿العلى الذي‬
‫خلق فسوى والذي قدر فهدى﴾ (العلى‪ ،)3-1 :‬ولو‬
‫صدقوا في تسميته لسموه خالق الطبيعة ومدبر‬
‫ء أم هم الخالقون‬‫شؤونها ﴿أم خلقوا من غير شي ٍ‬
‫أم‬ ‫أم خلقوا السموات والرض بل ل يوقنون‬
‫عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون﴾ (الطور‪-35 :‬‬
‫‪.)37‬‬
‫ولما سمع الصحابي جبير بن مطعم هذه الية‬
‫(‪)1‬‬
‫قال‪( :‬كاد قلبي أن يطير)‪.‬‬
‫إن اللحاد المتمثل في إنكار الخالق شذوذ‬
‫يستبشعه العقل البشري وتأباه الفطرة السوية‪ ،‬فما‬
‫النسان بخالق نفسه‪ ،‬وإذا كان النسان الذي يتميز‬
‫عن كل الموجودات بما يمتاز به من العقل والرادة‬
‫والتسخير عاجزا ً عن خلق نفسه؛ فغيره من‬
‫المخلوقات أعجز‪ ،‬لذا فل مناص من التسليم بوجود‬
‫الله العظيم ‪ ،‬ففي كل زاوية من زوايا الكون آية‬
‫تدل على وجوده‪ ،‬ل بل تشهد له بالكمال والجلل‬
‫والعظمة‪.‬‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪.)4854‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)10‬‬
‫السلم‬

‫وأهم ما توافق النبياء على الدعوة إليه؛ وحدانية‬


‫الله وإفراده بالعباده دون سواه‪ ،‬فهو جوهر‬
‫رسالتهم جميعا ً ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسو ٍ‬
‫ل إل‬
‫نوحي إليه أنه ل إله إل أنا فاعبدون﴾ (النبياء‪.)25 :‬‬
‫وسجل القرآن الكريم مضمون هذه الدعوة على‬
‫لسان عدد من النبياء‪ ،‬فهاهم رسل الله ‪ -‬نوح وهود‬
‫وصالح وشعيب وغيرهم ‪ -‬يقولون بلسان واحد‪﴿ :‬يا‬
‫ه غيره﴾ (المؤمنون‪:‬‬ ‫قوم اعبدوا الله ما لكم من إل ٍ‬
‫‪( ،)23‬هود‪( ،)60 ،50 :‬العراف‪.)85 :‬‬
‫وكما دعا النبياء إلى توحيد الله الواحد؛ فإنهم‬
‫حذروا أقوامهم من الشرك ‪ -‬سواء أكان المعبود مع‬
‫الله بشرا ً أم حجرا ً أم حيوانا ً أم ملكا ً ‪ -‬لن الله‬
‫أوحى إليهم جميعا ً بذلك ﴿ولقد أوحي إليك وإلى‬
‫الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن‬
‫من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾‬
‫(الزمر‪.)66-65 :‬‬
‫وكان المسيح عليه السلم من هؤلء النبياء الذين‬
‫حذروا أقوامهم من الشرك‪﴿ :‬وقال المسيح يا بني‬
‫إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله‬
‫فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين‬
‫من أنصار﴾ (المائدة‪.)72 :‬‬
‫ولما كانت معرفة أسماء الله وصفاته تعجز عن‬
‫التنبؤ بها العقول وتحار في إدراكها الفهام‬
‫وتختلف؛ فإن الله تبارك وتعالى ‪ -‬بمنِّه وفضله ‪-‬‬
‫خلّص البشرية من حيرتها‪ ،‬فعّرفها بأسمائه وصفاته‬
‫حين بعث بوحيه أنبياءه وأنزل على العالمين كتبه‪،‬‬
‫فكان أهم ما حملته النبوات إلى النسانية تعريفها‬
‫بخالقها‪.‬‬
‫وقد ذكر الله في كتابه الخير‪ ،‬القرآن الكريم‪ ،‬أن‬
‫له تبارك وتعالى أسماء حسنى‪ ،‬غاية في الحسن‬
‫(‪)11‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫والجلل والكمال ﴿الله ل إله إل هو له السماء‬


‫الحسنى﴾ (طه‪ ،)8 :‬وهي تدل جميعها على ذات‬
‫واحدة يدعوها المسلم في صلته ودعائه ﴿ولله‬
‫السماء الحسنى فادعوه بها﴾ (العراف‪.)180 :‬‬
‫ومن أسماء الله الحسنى ما جاء في قوله‬
‫تعالى‪﴿ :‬هو الله الذي ل إله إل هو عالم الغيب‬
‫والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي ل إله‬
‫إل هو الملك القدوس السلم المؤمن المهيمن‬
‫العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو‬
‫الله الخالق البارئ المصور له السماء الحسنى يسبح‬
‫له ما في السموات والرض وهو العزيز الحكيم﴾‬
‫(الحشر‪.)24-22 :‬‬
‫وهذه السماء اللهية مع دللتها على الذات‬
‫اللهية فإنها تثبت لله تبارك وتعالى غاية ما تدل‬
‫عليه من أوصاف الكمال والتنزيه ‪ ،‬فهو الملِك الذي‬
‫ل نِدَّ له في ملكه‪ ،‬وهو الحكيم الذي ل يُدانى في‬
‫ل عن النظير والمثيل‬‫حكمته‪ ،‬إنه الله العظيم الذي ج َّ‬
‫والشبيه ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾‬
‫(الشورى‪ ،)11 :‬وهو الله الواحد الحد ﴿ قل هو الله‬
‫ولم يكن له‬ ‫لم يلد ولم يولد‬ ‫الله الصمد‬
‫أحدٌ‬
‫كفوا ً أحدٌ ﴾ (سورة الخلص)‪﴿ ،‬فل تضربوا لله‬
‫المثال إن الله يعلم وأنتم ل تعلمون﴾ (النحل‪.)74 :‬‬
‫إن اليمان بالله الموصوف بصفات العظمة‬
‫والكمال يهذب السلوك النساني‪ ،‬حين يستحضر‬
‫معية الرب له‪ ،‬فيعلم باطلع الرب عليه‪ ،‬وهو العليم‬
‫المحيط القادر على كل شيء‪ ،‬فيستحي المؤمن به‬
‫أن يراه ربه وموله على حال المعصية؛ وهو القوي‬
‫ذو البأس والبطش الشديد‪ ،‬وأولى منه أن نعبده‬
‫تعرف على‬
‫(‪)12‬‬
‫السلم‬

‫ونسعى في مراضيه‪ ،‬لنفوز بجنته وعظيم جزاء الرب‬


‫العفو الغفور الكريم الودود‪.‬‬
‫وهكذا فالمؤمن يستقيم سلوكه خوفا ً من الله‬
‫وعقابه‪ ،‬وطمعا ً في ثوابه وجزائه‪ ،‬وهذا هو حال‬
‫المؤمنين الذين امتدحهم ربهم ﴿إنهم كانوا يسارعون‬
‫في الخيرات ويدعوننا رغبا ً ورهبا ً وكانوا لنا‬
‫خاشعين﴾ (النبياء‪.)90 :‬‬
‫إن المسلم حين يؤمن بالله الواحد الخالق الرازق‬
‫الذي بيده مقادير المور؛ فإنه يلجأ إليه وحده في‬
‫السراء والضراء‪ ،‬في الصغير من أموره والكبير‪،‬‬
‫ليقينه بمعية الله تعالى للمؤمنين وقربه منهم‬
‫وإطلعه على سرائرهم وأعمالهم‪ ،‬وأنه تعالى وحده‬
‫القدير الذي بيده مقاليد المور ﴿ إنما أمره إذا أراد‬
‫شيئا ً أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده‬
‫ء وإليه ترجعون﴾ (يس‪ ،)83-82 :‬وهو‬
‫ملكوت كل شي ٍ‬
‫تبارك وتعالى الذي ﴿ له مقاليد السموات والرض‬
‫م﴾‬
‫ء علي ٌ‬
‫يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شي ٍ‬
‫(الشورى‪.)12 :‬‬
‫فإذا نظر المرء إلى ما أوله الله من نعمه وآلئه‬
‫التي ل تحصى؛ فإنه يفيض قلبه بمحبته ﴿ والذين‬
‫آمنوا أشد حبا ً لله ﴾ (البقرة‪ ،)165 :‬وكيف ل يحبه‪،‬‬
‫والله العظيم قد سبق فأحب عباده المؤمنين‬
‫الطائعين ﴿ إن الله يحب المحسنين ﴾ (البقرة‪،)195 :‬‬
‫﴿إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين﴾ (البقرة‪:‬‬
‫‪ ﴿ )222‬والله يحب الصابرين﴾ (آل عمران‪ ﴿ )146 :‬إنه‬
‫وهو الغفور الودود﴾ (البروج‪-13 :‬‬ ‫هو يبدئ ويعيد‬
‫‪.)14‬‬
‫وهذه المحبة لله تجعل المسلم معلق القلب بالله‪،‬‬
‫يرجو رضاه‪ ،‬ومن أعظم ما يتطلع إليه المؤمن نوال‬
‫(‪)13‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫الجنة دار الخلود التي أعدها الله لمن أحبه من‬


‫ن‬
‫س ما أخفي لهم من قرة أعي ٍ‬ ‫عباده ﴿فل تعلم نف ٌ‬
‫جزاءً بما كانوا يعملون﴾ (السجدة‪.)17 :‬‬
‫ومحبة المسلم لربه تجعله يمتنع عن كل ما يغضب‬
‫الرب الذي يحبه ‪ ،‬فيكره ما كرهه محبوبه‪ ،‬والله ل‬
‫يكره ول يمقت إل السيء من القول والعمل والخلق‬
‫﴿إن الله ل يحب من كان خوانا ً أثيماً ﴾ (النساء‪:‬‬
‫‪﴿ )107‬والله ل يحب المفسدين﴾ (المائدة‪﴿ )64 :‬ول‬
‫تعتدوا إن الله ل يحب المعتدين﴾ (المائدة‪.)87 :‬‬
‫ثانياً‪ :‬الشهادة بأن محمدا ً رسول الله‬
‫حتى تقوم حجة الله على خلقه أرسل الله‬
‫الرسل‪ ،‬وختمهم بمحمد ‪ ،‬وجعله رسوله إلى‬
‫ة للناس بشيرا ً ونذيراً‬
‫العالمين ﴿ وما أرسلناك إل كاف ً‬
‫﴾ (سبأ‪ ،)28 :‬فهي مزيته على سائر إخوانه من‬
‫النبياء ((كان النبي يبعث إلى قومه خاصة‪ ،‬وبعثت‬
‫(‪)1‬‬
‫إلى الناس كافة))‪.‬‬
‫والنبي هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب‬
‫القرشي‪ ،‬ولد يتيما ً بمكة المكرمة عام ‪571‬م‪ ،‬ونشأ‬
‫فيها‪ ،‬وحين بلغ الربعين من العمر آتاه الله النبوة‪،‬‬
‫حين نزل عليه الملك جبريل بالوحي وهو في غار‬
‫حراء شرق مكة المكرمة‪ ،‬فدعا قومه إلى السلم‪،‬‬
‫فآمن به رهط قليل‪ ،‬وامتنع عن اليمان به سادة‬
‫قبيلته (قريش) الذين خافوا من ذهاب زعامتهم‬
‫وزوال امتيازاتهم‪ ،‬فكذبوه وآذوه‪ ،‬وعذبوا بعضا ً من‬
‫أصحابه بأشد أنواع النكال والعذاب‪ ،‬بل قتلوا‬
‫بعضهم‪ ،‬رضوان الله على الجميع‪.‬‬
‫فهاجر النبي والمؤمنون معه إلى يثرب (المدينة‬
‫المنورة)‪ ،‬وأقام فيها المجتمع السلمي الممتثل‬
‫()أخرجه البخاري ح (‪ ،)438‬ومسلم ح (‪.)521‬‬ ‫‪1‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)14‬‬
‫السلم‬

‫بهدي الله‪ ،‬وكان أول ما صنعه النبي فيها أن بنى‬


‫مسجده فيها وآخى بين المسلمين بآصرة العقيدة‬
‫على اختلف أجناسهم وأوطانهم‪ ،‬ثم عقد مع يهود‬
‫المدينة معاهدة للتعايش المشترك المن والتعاضد‬
‫على حماية المدينة‪.‬‬
‫وفي المدينة المنورة دعا النبي العرب والعجم‬
‫إلى اليمان به‪ ،‬فأرسل الرسل إلى ملوك الرض‬
‫وحكامها يشرح لهم مبادئ دينهم‪ ،‬فآمن به بعضهم‪،‬‬
‫وناوأه غيرهم‪ ،‬وأرسلوا إليه الجيوش‪ ،‬فقاتل من‬
‫عاداه وأعاق دعوته‪ ،‬حتى نصره الله بنصره‪ ،‬وقبل أن‬
‫يغادر النبي الدنيا عام ‪633‬م أقر الله عينيه بانتشار‬
‫السلم في سائر الجزيرة العربية‪.‬‬
‫ي بما يشهد على نبوته من‬ ‫وقد أيد الله النب َّ‬
‫دلئل وبراهين‪ ،‬كما أُيد بذلك من سبقه من إخوانه‬
‫من النبياء والمرسلين‪ ،‬وخصه الله عنهم بدليل‬
‫ساطع يدوم بدوام رسالته ‪ ،‬فل تنقضي دللته‬
‫بتقادم الزمان‪ ،‬ول تبلى بتصرم اليام‪ ،‬وهو القرآن‬
‫جز الذي بهر العالمين‪ ،‬وعجز‬ ‫العظيم‪ ،‬الكتاب المع ِ‬
‫عن التيان بمثله الولون‪ ،‬ولن يأتي بسورة من مثله‬
‫الخرون ﴿ قل لئن اجتمعت النس والجن على أن‬
‫يأتوا بمثل هذا القرآن ل يأتون بمثله ولو كان‬
‫ض ظهيراً ﴾ (السراء‪ ، )88 :‬يقول ‪(( :‬ما‬ ‫بعضهم لبع ٍ‬
‫من النبياء من نبي‪ ،‬إل قد أُعطي من اليات‪ ،‬ما مثلُه‬
‫ت وحيا ً أَوحى‬ ‫ُ‬
‫آمن عليه البشر‪ ،‬وإنما كان الذي أوتي ُ‬
‫ي‪ ،‬فأرجو أن أكون أكثَرهم تابعا ً يوم‬ ‫ه إل ّ‬
‫الل ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫القيامة))‪.‬‬
‫فقد حوى القرآن من العلوم ما حير بأسبقيته‬
‫وعمقه العلماء‪ ،‬كيف ل وقد أنزله الله العليم بكل‬
‫شيء ﴿ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)4981‬ومسلم ح (‪ )152‬واللفظ له‪.‬‬
‫(‪)15‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫والملئكة يشهدون وكفى بالله شهيداً ﴾ (النساء‪:‬‬


‫‪.)166‬‬
‫فقد سبق القرآن العلم الحديث إلى وصف نشأة‬
‫الخلق في الماضي السحيق‪ ،‬حين أشار إلى ما‬
‫يسميه العلماء اليوم بنظرية النفجار الكبير (‪bang‬‬
‫‪ ،)Big‬فقال تعالى‪﴿ :‬ثم استوى إلى السماء وهي‬
‫ن فقال لها وللرض ائتيا طوعا ً أو كرها ً قالتا‬ ‫دخا ٌ‬
‫أتينا طائعين ﴾ (فصلت‪ ،)11 :‬وقال تعالى‪﴿ :‬أولم يَر‬
‫الذين كفروا أن السموات والرض كانتا رتقاً‬
‫ء حي أفل‬ ‫ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شي ٍ‬
‫يؤمنون﴾ (النبياء‪.)30 :‬‬
‫كما تحدث القرآن عن اتساع الكون وتمدده في‬
‫د وإنا لموسعون﴾‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬والسماء بنيناها بأيي ٍ‬
‫(الذاريات‪ ،)47 :‬وذكر دوران الشمس والقمر والرض‬
‫في أفلك مستديرة ﴿والشمس تجري لمستقر لها‬
‫والقمر قدرناه منازل‬ ‫ذلك تقدير العزيز العليم‬
‫حتى عاد كالعرجون القديم ل الشمس ينبغي لها‬
‫ك‬‫أن تدرك القمر ول الليل سابق النهار وكل في فل ٍ‬
‫يسبحون﴾ (سورة يس‪ ،)40-38 :‬فهذه الخبار وغيرها‬
‫علوم دقيقة لم تعرفها البشرية قبله ول بعده إل في‬
‫أواسط القرن المنصرم‪.‬‬
‫ومما يبهر العقول من أخبار القرآن التي سبق‬
‫فيها العلم الحديث؛ إخباره بمراحل تطور الجنين في‬
‫بطن أمه وصور تخلقه‪﴿ :‬يا أيها الناس إن كنتم في‬
‫ة‬
‫ب ثم من نطف ٍ‬ ‫ريب من البعث فإنا خلقناكم من ترا ٍ‬
‫ة وغير مخلقة لنبين‬ ‫ة ثم من مضغة مخلق ٍ‬
‫ثم من علق ٍ‬
‫ل مسمى ثم‬ ‫لكم ونقر في الرحام ما نشاء إلى أج ٍ‬
‫نخرجكم طفل ً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى‬
‫ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيل يعلم من بعد‬
‫تعرف على‬
‫(‪)16‬‬
‫السلم‬

‫علم شيئا ً وترى الرض هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء‬


‫ج بهيج ﴾ (الحج‪.)5 :‬‬ ‫اهتزت وربت وأنبتت من كل زو ٍ‬
‫إن هذا الوصف الدقيق لمراحل الجنين أذهل‬
‫البرفسور مارشال جونسون رئيس قسم التشريح‬
‫ومدير معهد دانيال بجامعة توماس جيفرسون‬
‫بفلدلفيا بالوليات المتحدة المريكية‪ ،‬فقال‪" :‬إنني‬
‫كعالم أستطيع فقط أن أتعامل مع أشياء أستطيع أن‬
‫أراها بالتحديد‪ ،‬أستطيع أن أفهم علم الجنة وتطور‬
‫علم الحياء‪ ،‬أستطيع أن أفهم الكلمات التي تترجم‬
‫لي من القرآن ‪ ..‬إنني ل أرى شيئاً‪ ،‬ل أرى سبباً‪ ،‬ل‬
‫أرى دليل ً على حقيقة تفند مفهوم هذا الفرد محمد [‬
‫] الذي لبُد وأنه يتلقى هذه المعلومات من مكان‬
‫ما‪ ،‬ولذلك إنني ل أرى شيئا ً يتضارب مع مفهوم‪ :‬أن‬
‫التدخل اللهي كان مشمول ً فيما كان باستطاعته أن‬
‫يبلغه"‪.‬‬
‫ويضيف البرفسور كيـث ل مور مؤلف الكتاب‬
‫الشهير "أطوار خلق النسان" (‪The Developing‬‬
‫‪ )Human‬الذي يعتبر مرجعا ً معتمدا ً في كليات الطب‬
‫العالمية‪" :‬يتضح لي أن هذه الدلة حتما ً جاءت لمحمد‬
‫من عند الله‪ ،‬لن كل هذه المعلومات لم تكشف إل‬
‫حديثا ً وبعد قرون عدة‪ ،‬وهذا يثبت لي أن محمداً‬
‫(‪)1‬‬
‫رسول الله"‪.‬‬
‫﴿قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والرض‬
‫إنه كان غفورا ً رحيماً ﴾ (الفرقان‪.)6 :‬‬
‫وهكذا فإن هذه الخبار الغيبية العلمية ‪ -‬وغيرها‬
‫مما يطول الحديث بذكره ‪ -‬دليل الله الساطع على‬
‫نبوة النبي ‪ ،‬فمثل هذه العلوم يستحيل تحصيلها‬
‫ي نشأ في بيئة‬
‫في تلك الزمنة ‪ ،‬وخاصة من رجل أم ّ‬
‫جاهلة ﴿ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من‬

‫‪)( 1‬إنه الحق‪ ،‬هيئة العجاز العلمي للقرآن والسنة برابطة العالم‬
‫السلمي (ص ‪.)120-116 ،81 ،52-51 ،49‬‬
‫(‪)17‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد﴾‬


‫(سبأ‪.)6 :‬‬
‫ما أوتيه من حسن سيرة‬ ‫ومما يشهد له بالنبوة‬
‫وخلق عظيم ‪ ،‬فقد وصفه ربه تبارك وتعالى‪﴿ :‬وإنك‬
‫ق عظيمٍ ﴾ (القلم‪ ،)4 :‬وقد غلب لقبه‬ ‫لعلى خل ٍ‬
‫(الصادق المين) على اسمه‪ ،‬فصار علما ً عليه بين‬
‫ك الروم هرقل لبي سفيان‬ ‫أهل مكة‪ ،‬لذا قال مل ُ‬
‫عدو النبي حينذاك‪" :‬أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب‬
‫على الناس ويكذب على الله ‪ ..‬يأمركم أن تعبدوا‬
‫الله ول تشركوا به شيئاً‪ ،‬وينهاكم عن عبادة الوثان‪،‬‬
‫ويأمركم بالصلة والصدق والعفاف ‪ ..‬فإن كان ما‬
‫ي هاتين‪ ،‬وقد كنت‬ ‫تقول حقا ً فسيملك موضع قدم َّ‬
‫أعلم أنه خارج‪ ،‬لم أكن أظن أنه منكم‪ ،‬فلو أني أعلم‬
‫ت عنده‬ ‫أني أخلُص إليه لتجشم ُ‬
‫ت لقاءه‪ ،‬ولو كن ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫ت عن قدمه"‪.‬‬ ‫لغسل ُ‬
‫إن مدعيي النبوة إنما ينتحلونها سعيا ً وراء الكسب‬
‫الدنيوي الرخيص‪ ،‬سواء أكان هذا الكسب مالً‬
‫يسابقون إلى جمعه ليستمتعوا به أو ليورثوه إلى‬
‫أهليهم من بعدهم‪ ،‬أم كان جاها ً بين الناس يرفع من‬
‫قدرهم‪ ،‬فيشار لهم بالبنان‪ ،‬ويوسع لهم في‬
‫المجالس‪....‬‬
‫فهل كان النبي من هذا الصنف أو ذاك؟‬
‫تكشف لنا ما كان‬ ‫إن نظرة سريعة على سمته‬
‫من تواضع وزهد في الدنيا‬ ‫عليه النبي محمد‬
‫جمعهما النبي ‪ ،‬فأوضح خللهما نبل أخلقه وطهر‬
‫سلوكه‪ ،‬بل ودلل على نبوته ورسالته‪.‬‬

‫()أخرجه البخاري ح (‪ ،)7‬ومسلم ح (‪.)1773‬‬ ‫‪1‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)18‬‬
‫السلم‬

‫ومن زهده أنه‪( :‬ما ترك عند موته درهما ً ول‬


‫مة ول شيئاً؛ إل بغلتَه البيضاء‬ ‫دينارا ً ول عبدا ً ول أ َ‬
‫(‪)1‬‬
‫حه‪ ،‬وأرضا ً جعلها صدقة)‪.‬‬ ‫وسل َ‬
‫وهذه الرض هي أرض فدك التي منعها خليفة‬
‫النبي أبو بكر الصديق من ورثته‪ ،‬وقال لهم‪ :‬إن‬
‫رسول الله قال‪(( :‬ل نورث‪ ،‬ما تركنا صدقة))‪،‬‬
‫وأضاف الصديق‪" :‬لست تاركا ً شيئا ً كان رسول الله‬
‫يعمل به إل عملت به‪ ،‬فإني أخشى إن تركت شيئاً‬
‫(‪)2‬‬
‫من أمره أن أزيغ"‪.‬‬
‫ليس ميراثا ً يغتنون به من‬ ‫إن الذي تركه النبي‬
‫بعده‪ ،‬بل دَيْنا ً يؤدونه من بعده‪ ،‬فقد مات ‪ ،‬ودرعه‬
‫(‪)3‬‬
‫مرهونة عند يهودي على ثلثين صاعا ً من شعير‪.‬‬
‫لقد كان يحذر أن يغادر الدنيا وقد أخذ منها‬
‫مغنما ً ‪ ،‬إذ تذكر زوجته عائشة رضي الله عنها أنه‬
‫ع من ذهب‪ ،‬فقال لها رسول‬ ‫ض قط ٍ‬‫كان في بيتها بع ُ‬
‫ب ‪ ..‬ما ظن محمد بالله لو‬ ‫ت الذه ُ‬
‫الله ‪(( :‬ما فعل ْ‬
‫(‪)4‬‬
‫لقي الله عز وجل وهذه عنده؟ أنفقيها))‪.‬‬
‫وليس تعففه عن شهوة الجاه بأقل من تعففه‬
‫ن‬‫عن شهوة المال‪ ،‬فقد قال له رجل‪ :‬يا سيدَنا واب َ‬
‫رنا‪ .‬فقال عليه الصلة‬ ‫ن خي ِ‬
‫دنا‪ ،‬ويا خيَرنا واب َ‬
‫سي ِ‬
‫والسلم‪(( :‬يا أيها الناس عليكم بتقواكم‪ ،‬ول‬
‫د الله‪ ،‬عبدُ الله‬
‫ن عب ِ‬
‫يستهوينكم الشيطان‪ ،‬أنا محمد ب ُ‬
‫ورسولُه‪ ،‬والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي‬
‫(‪)5‬‬
‫التي أنزلني الله عز وجل))‪.‬‬

‫البخاري ح (‪.)2739‬‬ ‫‪)( 1‬أخرجه‬


‫البخاري ح (‪ ،)3093‬ومسلم ح (‪.)1757‬‬ ‫‪ )(2‬أخرجه‬
‫أحمد ح (‪.)2719‬‬ ‫‪ )(3‬أخرجه‬
‫أحمد ح (‪.)24964‬‬ ‫‪ )(4‬أخرجه‬
‫أحمد ح (‪.)12141‬‬ ‫‪)( 5‬أخرجه‬
‫(‪)19‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫وكان يمقت كل مظاهر الكِبْر والترفع على‬


‫الناس‪ ،‬ومنه كراهيته أن يقوم له أصحابُه إذا دخل‬
‫المجلس‪ ،‬يقول صاحبه أنس بن مالك‪( :‬ما كان‬
‫ب إليهم من رسول الله ‪ ،‬وكانوا إذا رأوه‬‫ص أح َّ‬
‫شخ ٌ‬
‫(‪)1‬‬
‫لم يقوموا؛ لِما يعلمون من كراهيته لذلك)‪.‬‬
‫إنه رسول تتلل عليه صفات الكمال النساني‪ ،‬أتاه‬
‫عد‪ ،‬فقال له ‪(( :‬هون عليك‪،‬‬ ‫صه تْر َ‬
‫رجل فجعلت فرائ ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫ة تأكل القديد))‪.‬‬ ‫ك‪ ،‬إنما أنا ابن امرأ ٍ‬ ‫فإني لست بمل ِ ٍ‬
‫وتحكي زوجه عائشة رضي الله عنها عن حاله‬
‫داخل بيته‪ ،‬فتكشف لنا أن تواضعه ليس خلقاً‬
‫َ‬
‫خل ّة شريفة لم تفارقه‪،‬‬ ‫يتزين به أمام الناس‪ ،‬بل َ‬
‫سئلت ‪ :‬ما كان يصنع في بيته؟ فقالت‪( :‬كان‬ ‫فقد ُ‬
‫يكون في مهنة أهله ‪ -‬تعني‪ :‬خدمة أهله ‪ -‬فإذا‬
‫حضرت الصلة خرج إلى الصلة)‪ ،‬وفي رواية‪( :‬كان‬
‫م‬
‫د ُ‬‫فلي ثوبه‪ ،‬ويحلِب شاته‪ ،‬ويخ ِ‬ ‫بشرا ً من البشر‪ ،‬ي َ ْ‬
‫(‪)3‬‬
‫سه)‪.‬‬
‫نف َ‬
‫وأما صاحبه ابن مسعود‪ ،‬فيحكي عن تناوب النبي‬
‫على الراحلة ‪ -‬وهو منطلق إلى بدر – مع اثنين من‬
‫أصحابه‪ ،‬وكانا يودان لو بقي النبي على الراحلة‪،‬‬
‫وأنهما يمشيان عنه‪ ،‬لكنه كان يقول لهما‪(( :‬ما‬
‫(‪)4‬‬
‫أنتما بأقوى مني‪ ،‬وما أنا بأغنى عن الجر منكُما))‪.‬‬
‫وهنا نسأل‪ :‬ماذا أفاده دعواه النبوة من متاع‬
‫الدنيا؟ أفهكذا يصنع الدعياء؟!‬

‫‪)( 1‬أخرجه أحمد ح (‪ ،)11936‬والترمذي ح (‪ ،)2754‬وقال‪ :‬هذا‬


‫حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫‪)( 2‬أخرجه ابن ماجه ح (‪ ،)3312‬وصححه اللباني في صحيح ابن‬
‫ماجه ح (‪ )2677‬والقديد هو اللحم المجفف‪.‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)676‬وأحمد ح (‪)25662‬‬
‫‪)( 4‬أخرجه أحمد ح (‪.)3769‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)20‬‬
‫السلم‬

‫وإن من دلئل نبوته ما آتاه الله من المعجزات‬


‫الحسية التي خرق الله فيها لنبيه نواميس الكون‬
‫إظهارا ً لنبوته‪ ،‬وقد فاقت هذه المعجزات في عددها‬
‫اللف‪ ،‬منها أن الله أطعم ببركته يوم الخندق زهاء‬
‫ع من‬‫جراب فيه صا ٌ‬ ‫ألف رجل من بهيمة واحدة و ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫شعير ل يربو وزنه على ثلث كيلوات‪.‬‬
‫كما تفجر الماء من بين أصابعه‪ ،‬حتى سقى الله‬
‫(‪)2‬‬
‫من يديه الجموع الكثيرة من أصحابه‪.‬‬
‫وشفى الله على يديه المرضى‪ ،‬ومنهم محمد بن‬
‫حاطب‪ ،‬فقد انكفأ على ذراعه قدر ماء يغلي‪ ،‬فتفل‬
‫النبي في فيه‪ ،‬ومسح على رأسه‪ ،‬ودعا له‪ ،‬فقام‬
‫صحيحا ً ما به بأس ول علة(‪ ، )3‬وكذلك مسح على رجل‬
‫عبد الله بن عتيك النصاري لما كُسرت‪ ،‬فقام من‬
‫(‪)4‬‬
‫بين يديه وقد شفيت‪.‬‬
‫ومما يشهد بالنبوة لمحمد بشارة الكتب السابقة‬
‫به‪ ،‬فهذه الكتب رغم ما تعرضت له من تغيير وتبديل؛‬
‫فإنها ما تزال تحمل شهادات صادقة تدل على نبوة‬
‫النبي محمد ‪ ،‬ومن ذلك بشارة النبيين موسى‬
‫وحبقوق به ‪ ،‬حين بشرا بنبي قدوس طاهر يخرج‬
‫من بلد فاران‪ ،‬ففي سفر التثنية المنسوب إلى‬
‫موسى عليه السلم أنه قال لبني إسرائيل قبيل‬
‫وفاته‪" :‬جاء الرب من سيناء‪ ،‬وأشرق لهم من سعير‪،‬‬
‫وتلل من جبل فاران" (التثنية ‪ ،)33/2‬فقد أخبرهم‬
‫عليه السلم بأنه كما جاءت رسالة الله إليه على جبل‬
‫الطور في سيناء‪ ،‬فإن النبوة ستشرق من جبل‬
‫سعير في وسط فلسطين‪ ،‬وذلك بنبوة عيسى عليه‬

‫في البخاري ح (‪ ،)4102‬ومسلم ح (‪.)2039‬‬ ‫‪ )(1‬انظره‬


‫البخاري ح (‪ ،)169‬ومسلم ح (‪.)2279‬‬ ‫‪)( 2‬انظره‬
‫في مسند أحمد ح (‪.)15027‬‬ ‫‪)( 3‬انظره‬
‫في البخاري ح (‪.)4039‬‬ ‫‪)( 4‬انظره‬
‫(‪)21‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫السلم‪ ،‬ثم ستتلل النبوة من فوق جبل فاران بنبي‬


‫عظيم يخرج فيها‪.‬‬
‫وأكد سفر النبي حبقوق البشارةَ بالنبي المبعوث‬
‫في فاران‪ ،‬فقال‪" :‬والقدوس من جبل فاران‪ ،‬جلله‬
‫غطى السماوات‪ ،‬والرض امتلت من تسبيحه"‬
‫(حبقوق ‪ ،)3/3‬فمن هو هذا العبد الطاهر ذو الهيبة‬
‫الذي يخرج من فاران‪ ،‬وتمتلئ الرض من تسبيحه‬
‫وتسبيح أتباعه؟ وأين هي فاران التي تللت النبوة‬
‫على جبلها؟‬
‫وحتى ل نتيه بعيدا ً نذكر أن اسم فاران تستخدمه‬
‫التوراة في حديثها عن مكة المكرمة‪ ،‬فقد جاء في‬
‫سفر التكوين أن إسماعيل عليه السلم نشأ وتربى‬
‫سفر عن إسماعيل‪ " :‬كان‬ ‫في برية فاران‪ ،‬يقول ال ِّ‬
‫الله مع الغلم فكبر ‪ ..‬وسكن في برية فاران‬
‫" (التكوين ‪ ،)21/21‬ففاران هي الحجاز التي ل‬
‫تختلف المصادر التاريخية على نشأة إسماعيل في‬
‫ربوعها‪.‬‬
‫وبهذا وأمثاله قامت حجة الله على خلقه في نبوة‬
‫محمد ‪.‬‬
‫والقرار بنبوته يستلزم من المسلم العتراف‬
‫باطنا ً وظاهرا ً أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة‪،‬‬
‫والعمل بمقتضى ذلك‪ ،‬بطاعته فيما أمر‪ ،‬وتصديقه‬
‫فيما أخبر‪ ،‬واجتناب ما نهى عنه وزجر‪ ،‬وأل يُعبد الله‬
‫إل بما شرع‪﴿ ،‬وأرسلناك للناس رسول ً وكفى بالله‬
‫شهيدا ً من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى‬
‫فما أرسلناك عليهم حفيظاً ﴾ (النساء‪ ،)80-79 :‬وقال‬
‫تعالى‪﴿ :‬يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا‬
‫ء‬
‫الرسول وأولي المر منكم فإن تنازعتم في شي ٍ‬
‫فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله‬
‫واليوم الخر ذلك خيٌر وأحسن تأويلً ﴾ (النساء‪.)59 :‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)22‬‬
‫السلم‬

‫التأسي بهديه‬ ‫ومن مقتضيات اليمان به‬


‫وسلوكه وأخلقه ﴿لقد كان لكم في رسول الله‬
‫ة لمن كان يرجو الله واليوم الخر وذكر‬‫أسوةٌ حسن ٌ‬
‫الله كثيراً ﴾ (الحزاب‪.)21 :‬‬
‫الركن الثاني‪ :‬إقام الصلة‬
‫الصلة هي الركن الثاني من أركان السلم‪ ،‬وهي‬
‫عمود الدين وركنه الركين‪.‬‬
‫وقد فرضها الله عز وجل على المسلمين‪ ،‬ومنها‬
‫ما شرع وجوباً‪ ،‬وهو الصلوات الخمس‪ ،‬فهي أول حق‬
‫الله على عباده‪ ،‬ومنها ما يؤديه المسلم تطوعاً‬
‫وتحببا ً إلى الله الذي خلقه وأنعم عليه بآلئه التي ل‬
‫تحصى‪.‬‬
‫والصلة لما لها من الثر العظيم البالغ في تهذيب‬
‫النفوس وتقويم السلوك وفي تقوية اليمان؛‬
‫فرضها الله على النبياء والمم السابقة‪ ،‬فلم تخل‬
‫منها شريعة من الشرائع‪ ،‬وقد حكى القرآن وصاة‬
‫الله بها لنبيائه وأقوامهم‪ ،‬فقد دعا إبراهيم أبو‬
‫صلة ومن‬ ‫النبياء ربه فقال‪﴿ :‬ر ّ‬
‫ب اجعلني مقيم ال ّ‬
‫ذّريتي﴾ (إبراهيم‪ ،)40:‬فاستجاب الله دعاءه فكان‬
‫ابنه إسماعيل من المصلين ﴿وكان يأمر أهله بال ّ‬
‫صلة‬
‫والّزكاة وكان عند ربّه مرضيّاً﴾ (مريم‪.)55 :‬‬
‫ومن بعدهما خاطب الله نبيه موسى عليه‬
‫السلم فقال‪﴿ :‬إنّني أنا اللّه ل إلـه إل أنا فاعبدني‬
‫صلة لذكري﴾ (طه‪ ،)14 :‬وأوصى العذراء‬‫وأقم ال ّ‬
‫البتول بالصلة فقال‪﴿ :‬يا مريم اقنتي لربّك‬
‫واسجدي واركعي مع الركعين﴾ (آل عمران‪،)42 :‬‬
‫وبيَّن المسيح عليه السلم أمر الله تعالى له‬
‫بالصلة‪ ،‬فقال وهو في المهد‪﴿ :‬إني عبد الله‬
‫(‪)23‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫آتاني الكتاب وجعلني نبيا ً وجعلني مباركا ً أين ما‬


‫صلة والّزكاة ما دمت حيّاً ﴾‬
‫كنت وأوصاني بال ّ‬
‫(مريم‪.)31-30 :‬‬
‫وأخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يحافظوا‬
‫على الصلة ﴿وإذ أخذنا ميثـاق بني إسرائيل ل‬
‫تعبدون إل ّ اللّه وبالوالدين إحسانا ً وذي القربى‬
‫واليتـامى والمساكين وقولوا للنّاس حسنا ً وأقيموا‬
‫صلة وآتوا الّزكاة﴾ (البقرة‪.)83 :‬‬ ‫ال ّ‬
‫ومن بعدهم جاء نبينا يدعو إلى ما دعا إليه‬
‫إخوانه النبياء من تعظيم الله وعبادته والصلة له‪،‬‬
‫وقد أمره الله بها‪ ،‬فقال‪﴿ :‬وأمُر أهلك بالصّلة واصطب عليها﴾‬
‫(طه‪ ،)132 :‬وامتدح الله في وحيه إليه عباده‬
‫صلة ويؤتون‬ ‫المصلين فقال‪﴿ :‬الّذين يقيمون ال ّ‬
‫الّزكاة وهم بالخرة هم يوقنون أولئك على هدًى‬
‫من ربهم وأولئك هم المفلحون﴾ (لقمان‪،)5-4 :‬‬
‫ووعدهم بالجنة جزاء عليها‪﴿ :‬والذين هم على‬
‫صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الّذين‬
‫يرثون الفردوس هم فيها خالدون﴾ (الؤمنون‪.)11-9 :‬‬
‫وما زال النبي يوصي بالصلة لله وعبادته حتى‬
‫فاضت روحه إلى باريها‪ ،‬يقول خادمه وصاحبه أنس‪:‬‬
‫كان آخر وصية رسول الله وهو يُغرغر بها في‬
‫صدره‪ ،‬وما كان يفيض بها لسانه‪(( :‬الصلة الصلة‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم))‪.‬‬
‫وحين شرع الله الصلة وغيرها من العبادات؛ فإنه‬
‫تبارك وتعالى لم يكن يستكثر بها من قلة‪ ،‬ول‬
‫ل ل تزيده طاعة‬ ‫و بها من ضعف‪ ،‬فهو عز وج ّ‬ ‫يستق ِ‬
‫الطائعين‪ ،‬ول تنقصه معصية العاصين‪ ،‬وإنما شرعها‬

‫‪ )(1‬أخرجه أبو داود ح (‪ ،)5156‬وابن ماجه ح (‪ ،)2698‬وأحمد ح (‬


‫‪ ،)586‬وصححه اللباني في صحيح ابن ماجه ح (‪.)2698‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)24‬‬
‫السلم‬

‫لمنفعة العباد وتزكية أنفسهم وتهذيب ضمائرهم‬


‫وتقويم سلوكهم وصلح دنياهم وأخراهم‪.‬‬
‫وأول ما تحققه الصلة في المؤمن أنها تنير حياته‬
‫وتؤنسها بذكر الله‪ ،‬فقد وصفها النبي بأنها نور‪،‬‬
‫فقال‪(( :‬من حافظ عليها كانت له نورا ً وبرهانا ً ونجاةً‬
‫(‪)1‬‬
‫يوم القيامة))‪.‬‬
‫وقال‪(( :‬والصلة نور‪ ،‬والصدقة برهان‪ ،‬والصبر‬
‫(‪)2‬‬
‫ضياء))‪.‬‬
‫وقوله ‪(( :‬والصلة نور)) معناه‪ :‬أنها تمنع‬
‫المصلي من المعاصي‪ ،‬وتنهاه عن الفحشاء والمنكر‪،‬‬
‫وتهديه إلى الصواب كما النور الذي يستضاء به‪.‬‬
‫فأما اجتناب المسلم للكبائر من الذنوب‬
‫والفواحش‪ ،‬فسببه أن الصلة تذكره ‪ -‬فينة بعد فينة‬
‫‪-‬بحق الله عليه وبمراقبته له‪ ،‬فيرعوي وينزجر عن‬
‫محارمه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬اتل ما أوحي إليك من الكتاب‬
‫وأقم الصلة إن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر‬
‫ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون﴾ (العنكبوت‪:‬‬
‫‪.)45‬‬
‫ولما أُخبر النبي عن رجل يصلي بالليل‪ ،‬فإذا‬
‫أصبح سرق؛ قال عليه الصلة والسلم‪(( :‬إنه سينهاه‬
‫(‪)3‬‬
‫وم‬
‫ما يقول))‪ .‬أي في صلته ما سيزجره ويق ِّ‬
‫سلوكه‪.‬‬
‫وكما تبعد الصلة المؤمن عن الكبائر والفواحش؛‬
‫فإنها سبب في مغفرة الله للصغائر من الذنوب التي‬
‫يلم بها المرء عامدا ً أو جاهلً‪ ،‬فيعود بصلته قريبا ً من‬
‫الله العفو الكريم‪ ،‬لن الصلة صلة بين العبد وربه‪،‬‬
‫فقد كان يقول‪(( :‬الصلوات الخمس‪ ،‬والجمعة إلى‬
‫‪ )(1‬أخرجه أحمد ح (‪ ،)6540‬وابن حبان في صحيحه ح (‪،)1467‬‬
‫ووثق الهيثمي رجاله في مجمع الزوائد (‪.)1/292‬‬
‫‪ )(2‬أخرجه مسلم ح (‪.)223‬‬
‫‪)( 3‬أخرجه أحمد ح (‪.)9486‬‬
‫(‪)25‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫ت ما بينه َّ‬
‫ن؛ إذا‬ ‫الجمعة‪ ،‬ورمضان إلى رمضان مكفرا ٌ‬
‫(‪)1‬‬
‫اجتنب الكبائر))‪.‬‬
‫وفي حديث آخر سأل النبي أصحابه‪(( :‬أرأيتم لو‬
‫أن نهرا ً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم ٍ خمس مرات‬
‫هل يبقى من درنه شيء؟)) فقالوا‪ :‬ل يبقى من‬
‫ل الصلوات الخمس‬ ‫درنه شيء‪ ،‬فقال ‪(( :‬فذلك مث ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫يمحو الله بهن الخطايا))‪.‬‬
‫والصلة فرصة للمسلم للستجمام من أتعاب‬
‫الدنيا‪ ،‬فالمسلم حين يقوم للصلة يناجي ربه‬
‫وموله؛ يطمئن قلبه بهذه الصلة مع ربه ﴿الذين آمنوا‬
‫وتطمئن قلوبهم بذكر الله أل بذكر الله تطمئن‬
‫القلوب﴾ (الرعد‪ ،)28 :‬لذلك كان يقول لمؤذنه بلل‪:‬‬
‫((يا بلل أرحنا بالصلة))‪ )3( .‬وكان يفزع إليها كلما‬
‫حزبه أمر‪ ،‬ويقول‪(( :‬جعلت قرة عيني في الصلة))‪.‬‬
‫(‪)4‬‬

‫وأخيراً؛ فلهمية هذه العبادة سماها النبي عمود‬


‫الدين‪ ،‬وأخبر أنها أول ما يحاسب الله الناس عليه‬
‫ب به العبدُ‬‫ن أول ما يُحاس ُ‬
‫يوم القيامة‪ ،‬فقال‪(( :‬إ ّ‬
‫يوم القيامة من عمله صلته‪ ،‬فإن صلحت فقد أفلح‬
‫(‪)5‬‬
‫وأنجح‪ ،‬وإن فسدت فقد خاب وخسر))‪.‬‬
‫الركن الثالث ‪ :‬إيتاء الزكاة‬
‫يتقلب الناس في هذه الدنيا في نعم الله التي‬
‫آتاهم‪ ،‬ويستمتعون فيها بما منحهم الله من المال‬
‫والسعة واليسار الذي به تزدان الحياة وتزهو‪.‬‬

‫‪)( 1‬أخرجه مسلم ح (‪.)233‬‬


‫‪ )(2‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)528‬ومسلم ح (‪.)666‬‬
‫‪)( 3‬أخرجه أبو داود ح (‪ ،)4985‬وأحمد في المسند ح (‪،)32578‬‬
‫واللفظ له‪.‬‬
‫‪)( 4‬أخرجه النسائي ح (‪ ،)3939‬وأحمد في المسند ح (‪.)11884‬‬
‫‪ )(5‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)413‬والنسائي ح (‪ ،)464‬وصححه‬
‫اللباني في صحيح الترمذي ح (‪.)337‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)26‬‬
‫السلم‬

‫وحتى يسعد الجميع في أرض الله؛ فإن الله جعل‬


‫النصيب الوفر من رزقه لبعض الناس ابتلء‬
‫واختباراً‪ ،‬وأوجب لخوانهم من الفقراء والمساكين‬
‫وغيرهم حقا ً معلوما ً في أموال الغنياء التي آتاهم‬
‫الله إياها ﴿وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ (النور‪:‬‬
‫‪ ،)33‬وهذا الحق المعلوم هو الزكاة‪ ،‬وهي الركن‬
‫الثالث من أركان السلم‪.‬‬
‫وما يدفعه المسلم من ماله فإنما هو طهرة له من‬
‫ذنوبه وآثامه‪ ،‬وهو سبب في تزكية نفسه وسموها‬
‫في معارج الطاعة ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم‬
‫وتزكيهم بها﴾ (التوبة‪.)103 :‬‬
‫وأما المتناع عن أداء الزكاة فهو خيانة لحق‬
‫الفقير‪ ،‬يتوعد الله فاعله بأليم العذاب‪﴿ :‬والذين‬
‫يكنزون الذهب والفضة ول ينفقونها في سبيل الله‬
‫ب أليم ٍ يوم يحمى عليها في نار‬ ‫فبشرهم بعذا ٍ‬
‫جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما‬
‫كنـزتم لنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنـزون﴾ (التوبة‪:‬‬
‫‪.)35-34‬‬
‫وفي الحديث أن النبي ‪ r‬قال‪(( :‬ما من صاحب كنز‬
‫ل يؤدي زكاته إل أحمي عليه في نار جهنم‪ ،‬فيجعل‬
‫صفائح‪ ،‬فيكوى بها جنباه وجبينه حتى يحكم الله بين‬
‫عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة‪ ،‬ثم‬
‫(‪)1‬‬
‫يرى سبيله‪ ،‬إما إلى الجنة‪ ،‬وإما إلى النار))‪.‬‬
‫وكما أوجب الله هذا الحق؛ فإنه بيَّن أنصبته‬
‫ومقاديره والموال التي يجب فيها‪ ،‬ولم يترك المر‬
‫إلى أذواق الغنياء وسعة إحسانهم ﴿والذين في‬
‫للسائل والمحروم﴾ (المعارج‪:‬‬ ‫أموالهم حق معلوم‬
‫‪.)25-24‬‬

‫‪ )(1‬أخرجه مسلم ح (‪.)987‬‬


‫(‪)27‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫وقد راعى السلم في مقدار الزكاة مصلحة‬


‫الغني والفقير‪ ،‬فالغني إنما يدفع ‪ %2.5‬فقط من‬
‫أمواله النقدية وتجاراته التي مر عليها عام وهي في‬
‫حوزه‪ ،‬أي هي مما زاد عن حاجاته ومصروفاته‪ ،‬فهذا‬
‫هو الحق المعلوم‪ ،‬وأما ما عداه فهو الصدقات غير‬
‫الواجبة التي يستبق بها المسلمون إلى محبة الله‬
‫وعظيم رضوانه‪.‬‬
‫وأما الموال التي أوجب الله فيها الزكاة فهي‬
‫الذهب والفضة وما يقابلهما من النقود والسهم‬
‫والتجارات‪ ،‬وكذلك ما يعطيه الله للمسلم من زروع‬
‫وثمار وأنعام ﴿يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات‬
‫ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الرض﴾ (البقرة‪:‬‬
‫‪.)267‬‬
‫وأما المستحقون لخذ الزكاة فهم أصناف ثمانية‪،‬‬
‫جمعتهم الية القرآنية‪﴿ :‬إنما الصدقات للفقراء‬
‫والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي‬
‫الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل‬
‫م﴾ (التوبة‪.)60 :‬‬
‫م حكي ٌ‬ ‫ة من الله والله علي ٌ‬
‫فريض ً‬
‫وأداء الزكاة ينبغي أن يصان بضوابط أخلقية‬
‫عالية تجعل من هذا النفاق عبادة سامية لله ل‬
‫منَّة على الفقير‪ ،‬فقد‬ ‫يخالطها كِبر ول استعلء ول ِ‬
‫وصف الله المؤمنين بقوله‪﴿ :‬الذين ينفقون أموالهم‬
‫في سبيل الله ثم ل يتبعون ما أنفقوا منا ً ول أذًى‬
‫ف عليهم ول هم‬ ‫لهم أجرهم عند ربهم ول خو ٌ‬
‫ة‬
‫ف ومغفرةٌ خيٌر من صدق ٍ‬ ‫ل معرو ٌ‬ ‫يحزنون قو ٌ‬
‫م ﴾ (البقرة‪.)263-262 :‬‬ ‫يتبعها أذًى والله غني حلي ٌ‬
‫والمسلم يقصد بصدقاته وزكاته مرضات الله‬
‫وجميل ثوابه‪ ،‬وأما المنفق للسمعة والمفاخرة فإن‬
‫نفقته مردودة عليه ‪ ،‬ل بل هو متوعد بالعذاب في‬
‫الخرة‪ ،‬ففي الحديث عن النبي أن أول من تسعر‬
‫تعرف على‬
‫(‪)28‬‬
‫السلم‬

‫بهم النار يوم القيامة ثلثة‪ ،‬فذكر منهم رجل تصدق‬


‫ل ليرضى عنه الله‪ ،‬بل ليقال عنه جواد (‪ ،)1‬وهو ما‬
‫يحبط هذه العبادة‪ ،‬ويوجب العقوبة عليها بدل ً من‬
‫المثوبة ﴿من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف‬
‫إليهم أعمالهم فيها وهم فيها ل يبخسون أولئك‬
‫الذين ليس لهم في الخرة إل النار وحبط ما صنعوا‬
‫ل ما كانوا يعملون﴾ (هود‪.)16-15 :‬‬‫فيها وباط ٌ‬
‫إن هذه الشرعة الربانية صورة من صور التراحم‬
‫والتلحم‪ ،‬تحفظ للمجتمع وحدته وتحقق تماسكه‪،‬‬
‫حتى يكون الجميع فيه كالجسد الواحد‪ ،‬قال ‪(( :‬مثل‬
‫المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل‬
‫الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر‬
‫(‪)2‬‬
‫الجسد بالسهر والحمى))‪.‬‬
‫الركن الرابع ‪ :‬صوم رمضان‬
‫الصيام هو رابع أركان السلم‪ ،‬وهو عبادة فرضها‬
‫الله في شهر رمضان(‪ ،)3‬وفيه يمتنع المسلم عن‬
‫الطعام والشراب والجماع ومقدماته من طلوع‬
‫الفجر إلى غروب الشمس‪.‬‬
‫والصيام فرضه الله على المسلمين وعلى المم‬
‫قبلهم لغاية عظيمة‪ ،‬يجليها قول الله تعالى‪﴿ :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين‬
‫من قبلكم لعلكم تتقون﴾ (البقرة‪ ،)183 :‬فغاية هذه‬
‫العبادة تدريب المؤمن على حياة التقوى واجتناب‬
‫المناهي‪ ،‬وتربيته على السيطرة على إرادته‬
‫وضبطها‪ ،‬وعدم النسياق وراء الرغبات الجسدية‪،‬‬
‫وتحريره من أسر الشهوات والعبودية للملذات‪،‬‬
‫فالمسلم الذي يترك في نهار رمضان الحلل من‬

‫‪ )(1‬الحديث أخرجه مسلم ح (‪.)1905‬‬


‫‪ )(2‬أخرجه البخاري ح (‪ )6011‬ومسلم ح (‪.)2585‬‬
‫‪)( 3‬شهر رمضان هو الشهر التاسع من شهور السنة القمرية‪.‬‬
‫(‪)29‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫الطعام والشراب والمتع؛ فإنه من باب أولى يمتنع‬


‫عن الحرام منها في ليل رمضان وفي سائر اليام‬
‫والليالي‪.‬‬
‫وقد أخبر النبي بأثر الصيام في ضبط الغرائز‬
‫بقوله‪(( :‬من كان منكم ذا طول فليتزوج؛ فإنه أغض‬
‫(‪)1‬‬
‫للبصر وأحصن للفرج‪ ،‬ومن ل فالصوم له وجاء))‪.‬‬
‫ويصف النبي الصيام بأنه وقاية للمسلم‪ ،‬بما‬
‫يحتمه عليه من معاني فاضلة وأخلق سامية‪:‬‬
‫جنة‪ ،‬وإذا كان يوم صوم أحدكم فل يرفث‬ ‫((والصيام ُ‬
‫ول يصخب‪ ،‬فإن سابه أحد أو قاتله فليقل‪ :‬إني امرؤ‬
‫( )‬
‫جنة ما لم‬
‫صائم))‪ 2 .‬وفي حديث آخر‪(( :‬الصوم ُ‬
‫(‪)3‬‬
‫يخرقها))‪.‬‬
‫وقد فقه الصحابي جابر بن عبد الله قول النبي‬
‫ت؛ فليصم سمعك وبصرك‪ ،‬ولسانك‬ ‫صم َ‬
‫فقال‪( :‬إذا ُ‬
‫عن الكذب والمآثم‪ ،‬ودع أذى الخادم‪ ،‬وليكن عليك‬
‫وقار وسكينة يوم صيامك‪ ،‬ول تجعل يوم فطرك‬
‫(‪)4‬‬
‫ويوم صيامك سواء)‪.‬‬
‫ط الصيام ثمرته السلوكية فقد‬ ‫وأما إذا لم يع ِ‬
‫أضحى عمل ً ميتا ً ل روح فيه‪ ،‬وقد قال رسول الله ‪:‬‬
‫((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة‬
‫(‪)5‬‬
‫في أن يدع طعامه وشرابه))‪.‬‬
‫وهذا العمل الذي ل روح فيه ل يؤجر المسلم عليه‬
‫ب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش‪ ،‬وُر َّ‬
‫ب‬ ‫((ُر َّ‬
‫(‪)6‬‬
‫قائم حظه من قيامه السهر))‪.‬‬

‫النسائي ح (‪.)3206‬‬ ‫‪)( 1‬أخرجه‬


‫البخاري ح (‪ ،)1904‬ومسلم ح (‪.)1151‬‬ ‫‪ )(2‬أخرجه‬
‫النسائي ح (‪ ،)2235‬وأحمد ح (‪.)1692‬‬ ‫‪ )(3‬أخرجه‬
‫ابن أبي شيبة ح (‪.)2/422‬‬ ‫‪ )(4‬أخرجه‬
‫البخاري ح (‪.)1903‬‬ ‫‪ )(5‬أخرجه‬
‫ابن ماجه ح (‪ ،)1690‬وأحمد ح (‪.)8639‬‬ ‫‪ )(6‬أخرجه‬
‫تعرف على‬
‫(‪)30‬‬
‫السلم‬

‫ومما يتعلمه المسلم في مدرسة رمضان تحسس‬


‫مشاعر الفقراء والحساس بمعاناتهم‪ ،‬وما يستجيشه‬
‫ذلك من بذل وكرم وإنفاق في سبيل الله‪ ،‬فقد حكى‬
‫ابن عباس ابن عم النبي عنه‪ ،‬فقال‪( :‬كان رسول‬
‫أجود الناس‪ ،‬وكان أجود ما يكون في رمضان‬ ‫الله‬
‫‪ ..‬فلَرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة)‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫وقد شرع السلم لولئك الذين ل يقدرون على‬


‫مشاركة المسلمين صيامهم لمرض ونحوه‪ ،‬شرع لهم‬
‫إطعام المساكين فدية للصيام الذي عجزوا عنه‪،‬‬
‫فلئن فاتهم مشاركة الفقراء والمحرومين في ألم‬
‫الجوع‪ ،‬فلن يفوتهم المساهمة في إطعامهم ورفع‬
‫ة طعام مسكين‬ ‫جوعهم ﴿وعلى الذين يطيقونه فدي ٌ‬
‫فمن تطوع خيرا ً فهو خير له وأن تصوموا خيٌر لكم‬
‫إن كنتم تعلمون﴾ (البقرة‪.)184 :‬‬
‫ولتعدد حكم هذه العبادة فإن النبي ما فتئ‬
‫مرني‬ ‫يوصي بها أصحابه‪ ،‬فقد قال له أبو أمامة‪ُ :‬‬
‫بأمر آخذه عنك؟ فقال ‪(( :‬عليك بالصيام؛ فإنه ل‬
‫(‪)2‬‬
‫مثل له))‪.‬‬
‫ِ‬
‫الركن الخامس ‪ :‬حج بيت الله الحرام‬
‫الحج عبادة بدنية فرضها الله على المسلم في‬
‫العمر مرة واحدة‪ ،‬حيث يفد المسلمون من أصقاع‬
‫الرض إلى قبلتهم في مكة المكرمة‪ ،‬ليؤدوا مناسك‬
‫حجهم في أيام معلومات‪ ،‬يحققون فيها المقاصد‬
‫التي أرادها الله من تشريع هذه العبادة التي أمر بها‬
‫أبا النبياء إبراهيم عليه السلم حين قال له‪﴿ :‬وأذن‬
‫في الناس بالحج يأتوك رجال ً وعلى كل ضام ٍ‬
‫ر يأتين‬
‫ق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا‬ ‫من كل فج عمي ٍ‬
‫ت على ما رزقهم من‬ ‫اسم الله في أيام ٍ معلوما ٍ‬

‫‪)( 1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)6‬ومسلم ح (‪.)2308‬‬


‫‪ )(2‬أخرجه النسائي ح (‪ ،)2221‬وأحمد ح (‪.)21636‬‬
‫(‪)31‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫بهيمة النعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير﴾‬


‫(الحج‪.)28-27 :‬‬
‫فنادى إبراهيم‪ ،‬ولبى المؤمنون من كل حدب‬
‫وصوب‪ ،‬وأدوا المناسك كما أداها إبراهيم عليه‬
‫السلم‪ ،‬وحافظوا على سنة الخليل إبراهيم عليه‬
‫السلم‪ ،‬كما قال للمسلمين في مناسك الحج‪:‬‬
‫((كونوا على مشاعركم؛ فإنكم اليوم على إرث من‬
‫(‪)1‬‬
‫إرث إبراهيم))‪.‬‬
‫والحج دورة تدريبية للمسلم على ممارسة السلم‪،‬‬
‫فمناسكه تؤدى في البلد الحرام الذي يأمن فيه‬
‫الطير والشجر والنسان‪ ،‬قال ‪(( :‬إن هذا البلد‬
‫حرمه الله‪ ،‬ل يعضد شوكه‪ ،‬ول ينفر صيده‪ ،‬ول يلتقط‬
‫(‪)2‬‬
‫لقطته إل من عرفها))‪.‬‬
‫والحج أيضا ً مظهر من مظاهر المساواة والوحدة‬
‫بين المسلمين ‪ ،‬حيث يجتمع فيه المسلمون من كل‬
‫حدب وصوب‪ ،‬في لباس واحد‪ ،‬على صعيد واحد‪ ،‬ل‬
‫يتقدم فيهم غني على فقير‪ ،‬ول أبيض على أسود‪،‬‬
‫وقد خطب النبي أصحابه في أيام الحج ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫((يا أيها الناس أل إن ربكم واحد‪ ،‬وإن أباكم واحد‪،‬‬
‫أل ل فضل لعربي على أعجمي‪ ،‬ول لعجمي على‬
‫عربي‪ ،‬ول لحمر على أسود‪ ،‬ول أسود على أحمر إل‬
‫(‪)3‬‬
‫بالتقوى))‪.‬‬
‫ومن مقاصد الحج ذكر الله تعالى وتعظيمه‬
‫واستغفاره مما سلف من الذنوب والعصيان ﴿‬
‫فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم‬
‫وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من‬
‫‪ )(1‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)833‬وأبو داود ح (‪ ،)1919‬وابن ماجه ح (‬
‫‪ ،)3011‬والحاكم ح (‪ ،)1699‬وصححه اللباني في صحيح أبي داود‬
‫ح (‪.)1675‬‬
‫‪ )(2‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)1587‬ومسلم ح (‪.)1353‬‬
‫‪)( 3‬أخرجه أحمد ح (‪.)22978‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)32‬‬
‫السلم‬

‫حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور‬


‫رحيم﴾ (البقرة‪.)199-198 :‬‬
‫منى‬ ‫وكما كان المشعر الحرام لذكر الله‪ ،‬فإن أيام ِ‬
‫هي أيضا ً كذلك ﴿واذكروا الله في أيام معدودات فمن‬
‫تعجل في يومين فل إثم عليه ومن تأخر فل إثم عليه‬
‫لمن اتقى﴾ (البقرة‪.)203 :‬‬
‫فإذا انتهت مناسك الحج؛ فإن المسلم مطالب‬
‫بلزوم ذكر الله في سائر أيامه ﴿فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا ال‬
‫كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا﴾ (البقرة‪.)200 :‬‬
‫ومن مناسك الحج وشعائره ذبح الهدي قربانا ً لله‬
‫عز وجل‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬والبُدْن جعلناها لكم من‬
‫شعائر الله لكم فيها خير﴾ (الحج‪ ،)36 :‬وفي مقدمة‬
‫هذا الخير تحقيق تقوى الله وتمثلها في حياتنا‬
‫مها ول دماؤها ولكن‬
‫ه لحو ُ‬‫السلوكية ﴿لن ينال الل َ‬
‫يناله التقوى منكم﴾ (الحج‪.)37 :‬‬
‫ومن أعظم مقاصد الحج تهذيب سلوك المسلم‬
‫ت فمن فرض‬ ‫الحاج‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬الحج أشهٌر معلوما ٌ‬
‫فيهن الحج فل رفث ول فسوق ول جدال في الحج‬
‫ر يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد‬‫وما تفعلوا من خي ٍ‬
‫التقوى واتقون يا أولي اللباب﴾ (البقرة‪،)197 :‬‬
‫فالحاج ينبغي عليه اجتناب المعاصي ليتحقق له‬
‫الغفران والخلوص من الذنوب والمعاصي‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫((من حج فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته‬
‫(‪)1‬‬
‫أمه))‪.‬‬
‫والحج الذي تتوافر فيه هذه الشروط ويحقق تلك‬
‫المعاني يسميه الرسول بالحج المبرور‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪.)1521‬‬


‫(‪)33‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫((الحج المبرور ليس له جزاء إل الجنة))‪ .‬قيل‪ :‬وما‬


‫(‪)2‬‬
‫بره؟ قال‪(( :‬إطعام الطعام وطيب الكلم))‪.‬‬
‫وهكذا فإن أركان السلم تهدف جميعا ً إلى تزكية‬
‫المسلم وتهذيب سلوكه وربط قلبه بربه تبارك‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫لكن السلم ليس هذه الركان فحسب‪ ،‬إنه هبة‬
‫الله للبشرية ‪ ،‬إنه الدين الذي يعالج مشكلت‬
‫النسانية على اختلفها‪ ،‬فينظم علقة النسان بربه‪،‬‬
‫ثم بأخيه النسان‪ ،‬ثم بالكون من حوله‪ ،‬وهو الدين‬
‫الذي يقوم على تحقيق التوازن بين مطالب الجسد‬
‫ومطالب الروح‪ ،‬ويشبع العقل ويروي العاطفة‪.‬‬
‫ولسوف يتجلى لنا بهاء هذه الحقيقة ونحن نتحدث‬
‫عن مفهوم العبودية في السلم‪.‬‬

‫‪ )(2‬أخرجه أحمد ح (‪ ،)14073‬وابن خزيمة ح (‪.)2514‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)34‬‬
‫السلم‬

‫مفهوم العبادة في السلم‬


‫خلق الله النسان على هذه الرض لغاية شريفة‪،‬‬
‫تسمو بوجوده عن سائر المخلوقات التي تعيش على‬
‫الرض للكل والشرب والجنس‪ ،‬هذه الغاية هي‬
‫عبادة الله تبارك وتعالى ﴿وما خلقت الجن والنس‬
‫ق وما أريد أن‬
‫إل ليعبدون ما أريد منهم من رز ٍ‬
‫يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين﴾‬
‫(الذاريات‪.)58-56 :‬‬
‫لكن مفهوم العبادة في السلم ليس محصورا ً في‬
‫صلوات وتمتمات وطقوس تمارس في أوقات‬
‫محددة‪ ،‬بل هو أوسع من ذلك بكثير‪ ،‬إنه منهج للحياة‬
‫متها ﴿ قل إن صلتي ونسكي ومحياي‬ ‫النسانية بُر َّ‬
‫ومماتي لله رب العالمين ل شريك له وبذلك أمرت‬
‫وأنا أول المسلمين﴾ (النعام‪ ،)163-162 :‬فل يعرف‬
‫المسلم لحظة يقضيها بعيدا ً عن عبادة موله‪.‬‬
‫ويرفض مفهوم السلم للعبادة وجود وسطاء بين‬
‫الله وعباده‪ ،‬فليس في السلم كهنوت أو رجال‬
‫دين‪ ،‬فالمسلم يصلي وحده وفي جماعة المسلمين‪،‬‬
‫في المسجد أو في البيت أو في أي مكان طاهر‬
‫تدركه فيه صلة؛ من غير حاجة إلى وسيط أو بناء‬
‫محدد‪ ،‬قال ‪(( :‬وجعلت لي الرض مسجدا ً وطهوراً‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫فأيما رجل من أمتي أدركته الصلة؛ فليصل))‪.‬‬
‫وإذا ما قصر المسلم في حق الله أو طمع في‬
‫خير عنده؛ فإنه يطلب من الله بُغيته من غير وسيط‬
‫يعترف له‪ ،‬ول شفيع يرجو شفاعته ﴿والذين إذا‬
‫ة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله‬
‫فعلوا فاحش ً‬
‫فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إل الله ولم‬
‫يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم‬
‫ت تجري من تحتها النهار‬‫مغفرةٌ من ربهم وجنا ٌ‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)335‬ومسلم ح (‪.)521‬‬
‫(‪)35‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫خالدين فيها ونعم أجر العاملين﴾ (آل عمران‪-135 :‬‬


‫‪.)136‬‬
‫وأيضا ً يرفض السلم قصر الدين على العلقة بين‬
‫العبد وربه فحسب‪ ،‬ويعتبر هذا قصورا ً يقعد بالدين‬
‫عن الغاية التي أنزل الله لجلها الكتب وبعث‬
‫لتحقيقها النبياء‪ ،‬وهي إصلح الحياة النسانية‪،‬‬
‫والقيام بواجب الستخلف في أرض الله وفق‬
‫منهجه وشرائعه ‪ ،‬فلجل هذا خلق الله أبانا آدم ﴿ وإذ‬
‫ة﴾‬ ‫قال ربك للملئكة إني جاع ٌ‬
‫ل في الرض خليف ً‬
‫(البقرة‪ ،)30 :‬وهذا الستخلف لدم يمتد ليشمل‬
‫ذريته من بعده ﴿ هو الذي جعلكم خلئف في الرض ﴾‬
‫(فاطر‪ ،)39 :‬ويسميه الله في آية أخرى بعمارة‬
‫الرض ﴿ هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها ﴾‬
‫(هود‪.)61 :‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن الواجب المطلوب من النسان هو‬
‫عمارة الرض‪ ،‬وهذا المطلب الكبير لن تحققه أديان‬
‫ل تتناول في نظرتها وتشريعاتها الحياة النسانية‬
‫بمناشطها المختلفة‪.‬‬
‫ومن هنا كان مفهوم السلم للعبادة شمولياً‪،‬‬
‫فالعبادة في السلم هي فعل كل ما يحبه الله‬
‫ويرضاه من الفعال والقوال الظاهرة والباطنة‪،‬‬
‫فهي ل تتوقف عند مظاهر الشعائر الظاهرة‪ ،‬بل‬
‫تتناول أفعال القلب واللسان والجوارح‪.‬‬
‫تغطي هذه العبادة دوائر عدة في حياة المسلم‪،‬‬
‫أولها‪ :‬علقته مع الله خالقه‪ ،‬وثانيها‪ :‬ما يتعلق‬
‫بالنسان من آداب خاصة كالنظافة الشخصية وآداب‬
‫الممارسات الحياتية‪ ،‬كالطعام والشراب والنوم‬
‫والجنس وقضاء الحاجة واللباس‪ ،‬وثالثها‪ :‬علقته مع‬
‫أسرته ومجتمعه‪ ،‬ورابعها‪ :‬علقته مع السرة‬
‫النسانية‪ ،‬وأخيراً‪ :‬علقته مع بيئته والكون من حوله‪.‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)36‬‬
‫السلم‬

‫وبموجب المنهج الرباني للعبادة في السلم‬


‫يترابط بنيان اليمان ليشمل الصول ويمتد إلى‬
‫الفروع والداب‪ ،‬كما قال ‪(( :‬اليمان بضع وسبعون‬
‫شعبة‪ ،‬فأفضلها‪ :‬قول‪ :‬ل إله إل الله‪ ،‬وأدناها‪ :‬إماطة‬
‫(‪)1‬‬
‫الذى عن الطريق‪ ،‬والحياء شعبة من اليمان))‪.‬‬
‫وكل ذلك في ترابط فريد‪ ،‬وتمازج متناغم ل يقبل‬
‫الفصام النكد الذي يعزل الدين عن مناحي الحياة‬
‫النسانية‪ ،‬ويحبسه داخل المعبد‪ ،‬فقد قال الله مبكتاً‬
‫صنيع السابقين‪﴿ :‬أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون‬
‫ي في‬ ‫ض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إل خز ٌ‬ ‫ببع ٍ‬
‫الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب‬
‫ل عما تعملون أولئك الذين اشتروا‬ ‫وما الله بغاف ٍ‬
‫الحياة الدنيا بالخرة فل يخفف عنهم العذاب ول هم‬
‫ينصرون﴾ (البقرة‪.)86-85 :‬‬
‫وفي مقابله أمر الله المسلمين بأخذ الدين بكل‬
‫شرائعه وتفصيلته‪ ،‬وحذرهم من تجزئته والدبار عن‬
‫شيء منه؛ لنه فعل ذميم يقوم على منازعة الله‬
‫حقه في الهيمنة على كافة شؤون حياتنا النسانية‪،‬‬
‫وهو في حقيقته اتباع للشيطان واستجابة لطريقته‬
‫في الضلل ‪ ،‬حيث يتدرج بالمرء‪ ،‬فيغريه بترك‬
‫البعض‪ ،‬وما يزال به حتى يترك الكل‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬يا‬
‫ة ول تتبعوا‬ ‫أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كاف ً‬
‫ن﴾ (البقرة‪.)208 :‬‬ ‫خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبي ٌ‬
‫إن التمازج في السلم بين الدين والدنيا‪ ،‬والروح‬
‫والجسد‪ ،‬والدنيا والخرة‪ ،‬والفرد والمجتمع؛ حقيقة‬
‫ساطعة عبرت عنها آيات عديدة في القرآن ‪ ،‬فعلى‬
‫سبيل المثال تجمع اليات القرآنية العلقة مع الله‬
‫جنبا ً إلى جنب مع الخلق والمعاملة مع الناس من‬
‫غير تفريق‪ ،‬كما في قوله تعالى‪﴿ :‬ليس البر أن تولوا‬

‫‪ )(1‬أخرجه مسلم ح (‪.)25‬‬


‫(‪)37‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن‬


‫بالله واليوم الخر والملئكة والكتاب والنبيين وآتى‬
‫المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين‬
‫وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلة‬
‫وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا‬
‫والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك‬
‫الذين صدقوا وأولئك هم المتقون﴾ (البقرة‪.)177 :‬‬
‫ومثله في قوله تعالى‪﴿ :‬واعبدوا الله ول تشركوا‬
‫به شيئا ً وبالوالدين إحسانا ً وبذي القربى واليتامى‬
‫والمساكين والمساكين والجار ذي القربى والجار‬
‫الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت‬
‫أيمانكم إن الله ل يحب من كان مختال ً فخورا ً الذين‬
‫يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم‬
‫الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا ً مهينا ً والذين‬
‫ينفقون أموالهم رئاء الناس ول يؤمنون بالله ول‬
‫باليوم الخر ومن يكن الشيطان له قرينا ً فساء قريناً‬
‫﴾ (النساء‪.)38-36 :‬‬
‫ويؤكد السلم على شموليته بالتنبيه على بعض‬
‫العبادات المتعلقة بحقوق العباد‪ ،‬فيقول ‪(( :‬تبسمك‬
‫في وجه أخيك لك صدقة‪ ،‬وأمرك بالمعروف ونهيك‬
‫عن المنكر صدقة‪ ،‬وإرشادك الرجل في أرض الضلل‬
‫لك صدقة‪ ،‬وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة‪،‬‬
‫وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك‬
‫صدقة‪ ،‬وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك‬
‫(‪)1‬‬
‫صدقة))‪.‬‬
‫ويضع النبي ميزانا ً للخيرية‪ ،‬يقدم العبادة‬
‫بمفهومها الشمولي‪ ،‬حين يجعل بعض صورها‬
‫المختصة بالعباد مقدمة على أخرى مما يتعلق برب‬
‫العباد‪ ،‬وتجعل صاحبها محبوبا ً عند الله‪(( :‬أحب الناس‬

‫()أخرجه الترمذي ح (‪.)1956‬‬ ‫‪1‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)38‬‬
‫السلم‬

‫إلى الله عز وجل أنفعهم للناس‪ ،‬وأحب العمال إلى‬


‫الله سرور تدخله على مسلم‪ ،‬أو تكشف عنه كربة‪،‬‬
‫أو تقضي عنه ديناً‪ ،‬أو تطرد عنه جوعاً‪ ،‬ولن أمشي‬
‫مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا‬
‫(‪)1‬‬
‫المسجد شهراً))‪.‬‬
‫إن حرص المسلم على هذه المحبة اللهية يدفعه‬
‫لبذل الخير والمسابقة فيه حتى للحيوان العجم‪،‬‬
‫رس غرسا ً إل كان ما‬ ‫فقد قال ‪(( :‬ما من مسلم يغ ِ‬
‫سرق منه له صدقة‪ ،‬وما أَكل‬ ‫أكِل منه له صدقة‪ ،‬وما ُ‬
‫ُ‬
‫ت الطيُر فهو له‬ ‫السبُع منه فهو له صدقة‪ ،‬وما أكل ْ‬
‫صدقة‪ ،‬ول يرزؤه أحدٌ [أي يسأله] إل كان له‬
‫(‪)2‬‬
‫صدقة))‪.‬‬
‫ولكي يعمق النبي شعور المسلم بأهمية‬
‫جميعوحدة أنواع العبادة – حتى وإن كانت مرتبطة‬
‫بحق الحيوان – فإنه أخبر أصحابه والمسلمين من‬
‫بعدهم عن قصة رجل من السابقين رأى كلبا ً يأكل‬
‫فه‪ ،‬فجعل يغرف‬ ‫خ َّ‬
‫الثرى من العطش‪(( ،‬فأخذ الرجل ُ‬
‫له به‪ ،‬حتى أرواه‪ ،‬فشكر الله له فأدخله الجنة))‪،‬‬
‫فسأله الصحابة فقالوا‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬وإن لنا في‬
‫البهائم لجراً؟ فقال عليه الصلة والسلم‪(( :‬في كل‬
‫(‪)3‬‬
‫ذي كبد رطبة أجر))‪.‬‬
‫وأما ثمرات العبادة التي يؤديها المسلم لربه‪،‬‬
‫فهي كثيرة‪ ،‬منها اطمئنان قلبه واستقامة جوارحه‪،‬‬
‫وهو ما يُكسب المرء سعادة الدنيا‪ ،‬وهي عاجل نصيبه‬
‫من الخير ‪ ،‬الذي ليس آخره ما نشهده من استقرار‬
‫نفسي واجتماعي في حياة المسلمين الملتزمين‬
‫بهدي السلم‪ ،‬فهو ثمرة من ثمرات الطاعة واليمان‬
‫ن‬‫ر أو أنثى وهو مؤم ٌ‬ ‫﴿من عمل صالحا ً من ذك ٍ‬

‫سن اللباني‬
‫‪)( 1‬أخرجه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج‪ ،‬وح ّ‬
‫إسناده في السلسلة الصحيحة ح (‪.)906‬‬
‫‪)( 2‬أخرجه مسلم ح (‪.)1552‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)174‬و مسلم ح (‪.)2244‬‬
‫(‪)39‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫ة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما‬ ‫فلنحيينه حياةً طيب ً‬


‫كانوا يعملون﴾ (النحل‪.)97 :‬‬
‫وفي المقابل فإن ما تشهده بعض المجتمعات‬
‫من جرائم اجتماعية وأمراض نفسية وحالت اكتئاب‬
‫أدت إلى نسب مرتفعة ومقلقة في النتحار(‪ ،)1‬إنما‬
‫هو ثمن عادل تدفعه البشرية جزاءً وفاقا ً لتنكبها‬
‫هدي الله وإعراضها عنه ﴿فمن اتبع هداي فل يضل‬
‫ة‬
‫ومن أعرض عن ذكري فإن له معيش ً‬ ‫ول يشقى‬
‫ضنكا ً ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ (طه‪.)124-123 :‬‬
‫لكن الجزاء الكبر الذي يحوزه المؤمن ‪ -‬بعبادته‬
‫لربه ‪ -‬هو جنة الله ورضوانه ﴿ يا قوم إنما هذه الحياة‬
‫ع وإن الخرة هي دار القرار من عمل‬ ‫الدنيا متا ٌ‬
‫ة فل يجزى إل مثلها ومن عمل صالحا ً من ذك ٍ‬
‫ر أو‬ ‫سيئ ً‬
‫ن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها‬ ‫أنثى وهو مؤم ٌ‬
‫ب﴾ (غافر‪.)40-39 :‬‬
‫بغير حسا ٍ‬
‫العبادة والخلق‬
‫ومن أهم ما بعث الله النبياء من أجله؛ تزكية‬
‫خلق الحسن والسلوك القوم‪،‬‬ ‫عباده وتحليتهم بال ُ‬
‫وقد امتن الله على البشرية بمحمد الذي دعا إلى‬
‫تزكية نفوسهم وخلوصها من عيوبها وآفاتها ﴿لقد‬
‫من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسول ً من‬
‫أنفسهم يتلو عليهم آيـاته ويزكيهم ويعلمهم الكتـاب‬
‫والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلل مبين﴾ (آل‬
‫عمران‪.)164 :‬‬

‫‪)( 1‬تشير إحصائية منظمة الصحة العالمية ‪ -‬التي صدرت في‬


‫اليوم العالمي لمنع النتحار والهتمام بالصحة العقلية في‬
‫العاشر من شهر سبتمبر من العام ‪2006‬م – إلى أن عشرين‬
‫مليون شخص يحاولون النتحار سنوياً‪ ،‬وأن الذين ينجحون‬
‫ويموتون فعليا ً منتحرين يربو على مليون شخص سنوياً‪.‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)40‬‬
‫السلم‬

‫فتزكية النفوس بالخلق الفاضلة هدف رئيس في‬


‫بعثة النبياء ‪ ،‬ومنهم محمد القائل‪(( :‬إنما بعثت‬
‫(‪)1‬‬
‫لتمم صالح الخلق))‪.‬‬
‫وقد قدم القدوة الحسنة لصحابه حين تمثل‬
‫جميل الخلق وصفات الكمال‪ ،‬ممتثل ً ما يوحي الله‬
‫خلقه كما وصفه ربه ﴿‬ ‫إليه في القرآن ‪ ،‬فكان في ُ‬
‫وإنك لعلى خلق عظيم﴾ (القلم‪ ،)4 :‬وصادقت على‬
‫هذا الوصف زوجه عائشة فقالت‪( :‬كان خلقه‬
‫القرآن)(‪ ، )2‬وأكده صاحبه عبد الله بن عمرو رضي‬
‫الله عنهما بقوله‪ :‬لم يكن النبي فاحشا ً ول‬
‫متفحشاً‪ ،‬وكان يقول‪(( :‬إن من خياركم أحسنكم‬
‫(‪)3‬‬
‫أخلقاً))‪.‬‬
‫إن الهمية البالغة للخلق جعلت النبي يربط‬
‫خيرية المسلم عند الله بحسن الخلق الذي يثقل في‬
‫الميزان حسنات المؤمن ويحببه إلى الله‪ ،‬فقد قال‬
‫‪(( :‬ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة‬
‫(‪،)4‬‬
‫من خلق حسن‪ ،‬وإن الله ليبغض الفاحش البذيء))‬
‫فحسن الخلق يحسب للعبد في ميزانه بمثابة عبادتي‬
‫الصوم والقيام لله في الليل‪ ،‬وهما من أفضل‬
‫العبادات وأرفعها في ميزان المسلم‪ ،‬يقول ‪(( :‬إن‬
‫(‪)5‬‬
‫المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم))‪.‬‬
‫ووفق هذه الحيثية فإن حسن الخلق أوسع باب‬
‫يوصل إلى الجنة‪ ،‬ولما سئل رسول الله عن أكثر‬

‫‪)( 1‬أخرجه أحمد ح (‪ )8729‬واللفظ له‪ ،‬والبخاري في الدب‬


‫المفرد ح (‪ ،)273‬وصححه اللباني في الصحيحة (‪.)45‬‬
‫‪)( 2‬أخرجه أحمد ح (‪.)24080‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه البخاري ح (‪ ، )3559‬ومسلم ح (‪.)2321‬‬
‫‪ )(4‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)2002‬وصححه اللباني في صحيح‬
‫الترغيب ح (‪.)2641‬‬
‫‪ )(5‬أخرجه أبو داود ح (‪ ،)4798‬وأحمد ح (‪ ،)24492‬وصححه‬
‫اللباني في صحيح الترغيب والترهيب ح (‪.)2643‬‬
‫(‪)41‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫ما يدخل الناس الجنة؟ قال‪(( :‬تقوى الله وحسن‬


‫(‪)1‬‬
‫الخلق))‪.‬‬
‫إن صاحب الخلق الحسن ليس في الجنة فحسب‪،‬‬
‫بل هو في أعلها‪ ،‬ففي الحديث عن رسول الله أنه‬
‫م ببيت في ربض الجنة لمن ترك‬ ‫قال‪(( :‬أنا زعي ٌ‬
‫المراء وإن كان محقاً‪ ،‬وببيت في وسط الجنة لمن‬
‫ترك الكذب وإن كان مازحاً‪ ،‬وببيت في أعلى الجنة‬
‫(‪)2‬‬
‫لمن حسن خلقه))‪.‬‬
‫وأعلى الجنة هو جزاء الله للنبياء‪ ،‬فينعم صاحب‬
‫الخلق الحسن برفقتهم كما قال ‪(( :‬إن أحبكم إل َّ‬
‫ي‬
‫وأقربكم مني في الخرة محاسنكم أخلقاً‪ ،‬وإن‬
‫أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الخرة مساويكم‬
‫(‪)3‬‬
‫أخلقاً‪ ،‬الثرثارون المتفيهقون المتشدقون)‪.‬‬
‫وهذه الهمية للخلق تنبع من كونها جزءا ً من‬
‫اليمان‪ ،‬فل يكمل إيمان المسلم إل بالتزامه بها‪ ،‬ول‬
‫يزهر إيمانه إل بمقدار ما يتحقق فيه منها‪ ،‬فإذا‬
‫نقصت أخلق المرء نقص إيمانه‪ ،‬وإن زادت زاد‪،‬‬
‫يقول أنس بن مالك‪ :‬ما خطبنا نبي الله إل قال‪:‬‬
‫((ل إيمان لمن ل أمانة له‪ ،‬ول دين لمن ل عهد له))‬
‫(‪ ،)4‬وكان يقول‪(( :‬ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه‬
‫(‪)5‬‬
‫ما يحب لنفسه))‪.‬‬

‫‪)( 1‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)2004‬وابن ماجه ح (‪ ،)4246‬وأحمد ح (‬


‫‪ ،)9403‬والبخاري في الدب المفرد ح (‪ ،)289‬وحسنه اللباني‬
‫في صحيح الترغيب ح (‪.)2642‬‬
‫‪)( 2‬أخرجه أبو داود ح (‪ ،)4800‬وحسنه اللباني في صحيح‬
‫الترغيب ح (‪.)2648‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه أحمد ح (‪ ،)17278‬وحسنه اللباني في الصحيحة (‬
‫‪ )2/379‬بشواهده‪.‬‬
‫‪ )(4‬أخرجه أحمد ح (‪.)11975‬‬
‫‪ )(5‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)13‬ومسلم ح (‪.)45‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)42‬‬
‫السلم‬

‫يقول‪(( :‬خصلتان ل يجتمعان في مؤمن‪:‬‬ ‫وكان‬


‫(‪)6‬‬
‫البخل وسوء الخلق))‪.‬‬
‫والخلق الفاضلة التي صانها السلم وتعبَّد‬
‫المسلمين بتمثُلِها كثيرة‪ ،‬وليس بأقل منها ما حذر‬
‫منه من أخلق مستقبحة مستبشعة‪ ،‬ونكتفي بإيراد‬
‫بعض النصوص المتحدثة عن الخلق‪ ،‬فلعله يغني عن‬
‫الكثير من الشرح والتطويل‪:‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬إن الله يأمر بالعدل والحسان وإيتاء‬
‫ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي‬
‫يعظكم لعلكم تذكرون﴾ (النحل‪.)90 :‬‬
‫وقال‪﴿ :‬يا أيها الذين آمنوا ل تخونوا الله‬
‫والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾ (النفال‪:‬‬
‫‪.)27‬‬
‫وقال‪﴿ :‬إن الله يأمركم أن تؤدوا المانات إلى‬
‫أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن‬
‫ما يعظكم به إن الله كان سميعا ً بصيراً ﴾‬
‫ع َّ‬
‫الله ن ِ‬
‫(النساء‪.)58 :‬‬
‫وقال‪﴿ :‬يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع‬
‫الصادقين﴾ (التوبة‪.)119 :‬‬
‫وقال‪﴿ :‬الصابرين والصادقين والقانتين‬
‫والمنفقين والمستغفرين بالسحار﴾ (آل عمران‪:‬‬
‫‪.)17‬‬

‫‪ )(6‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)1962‬قال اللباني في صحيح الترغيب‬


‫والترهيب‪" :‬صحيح لغيره" ح (‪.)2608‬‬
‫(‪)43‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫مراتب الحكام التكليفية‬


‫وتدور تشريعات السلم بمناحيها المختلفة في‬
‫خمس مراتب من جهة إلزاميتها‪:‬‬
‫أولها الفروض والواجبات‪ ،‬وهي ما طلبه الله‬
‫ورسوله من الطاعات على جهة اللزام‪ ،‬فالمطيع‬
‫فيها مثاب مأجور‪ ،‬والعاصي مأزور‪ ،‬ومن ذلك‬
‫الصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان والمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر وحسن الخلق والتوبة‬
‫من الذنوب وكسب المال من الحلل والنفاق على‬
‫الزوجة والولد وبر الوالدين وصلة الرحم والتعاون‬
‫مع الخرين على أعمال البر والتقوى‪ ،‬وكذلك حجاب‬
‫المرأة من الرجال الجانب عنها‪.‬‬
‫والثانية هي السنن المستحبة‪ ،‬وهي ما طلبه الله‬
‫ورسوله على جهة الندب والختيار‪ ،‬ل المر واللزام‪،‬‬
‫فيأجر الله المطيع فيها‪ ،‬ول يؤاخذ المقصر‪ ،‬لكن‬
‫التيان بالمستحبات برهان على محبة العبد لربه‬
‫وتشوقه إلى طاعته ومرضاته‪ ،‬فيقابل الله صنيعه‬
‫بمحبة العبد وتوفيقه‪ ،‬فقد روى النبي عن ربه‬
‫تبارك وتعالى أنه قال‪(( :‬وما تقرب إلي عبدي بشيء‬
‫أحب إلي مما افترضت عليه‪ ،‬وما يزال عبدي يتقرب‬
‫ي بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه‬ ‫إل َّ‬
‫الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي‬
‫يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ ،‬وإن سألني‬
‫(‪)1‬‬
‫لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه))‪.‬‬
‫والسنن المندوب إليها باب واسع من أبواب الخير‪،‬‬
‫ومنه التنفل في العبادات بالصوم في غير رمضان‪،‬‬
‫والصلوات ‪ -‬غير الصلوات الخمس ‪ -‬والحسان إلى‬
‫الفقراء واليتام والمحتاجين في غير الزكاة الواجبة‪،‬‬
‫وزيارة المريض‪ ،‬وكثرة الستغفار‪ ،‬وذكر الله‪،‬‬
‫والتطوع في المشاركة في الخدمات العامة‪.‬‬
‫والثالثة هي المباحات التي ل يترتب عليها جزاء‬
‫أخروي بالثواب أو العقاب‪ ،‬كالطعام والشراب والنوم‬
‫()أخرجه البخاري ح (‪.)6052‬‬ ‫‪1‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)44‬‬
‫السلم‬

‫والبيع والشراء والزواج‪ ،‬ولكن هذه وأمثالها من‬


‫السلوكيات اليومية تصبح عبادة مأجورة إذا اقترنت‬
‫بنية صالحة واستحضار قلبي مشروع ‪ ،‬فترتفع‬
‫العادات إلى منزلة العبادات‪ ،‬ويوضح ذلك قول النبي‬
‫عن إتيان الرجل أهله بنية الستعفاف عن الحرام‪:‬‬
‫((وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا‪ :‬يا رسول الله‬
‫أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال‪ :‬أرأيتم‬
‫لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر‪ ،‬فكذلك إذا‬
‫(‪)1‬‬
‫وضعها في الحلل كان له أجراً))‪.‬‬
‫والرابعة هي المكروهات التي ل يليق بالمسلم‬
‫التلبس فيها‪ ،‬لكنها مما يعفو الله عنه ول يحاسب‬
‫عليه‪ ،‬ومن ذلك التشاغل عن ذكر الله بالغراق في‬
‫الدنيا‪ ،‬والكثار من المباحات‪ ،‬والتهاون في الداب‬
‫السلمية للطعام والشراب والحديث والزيارة‪.‬‬
‫والخامسة هي المحرمات التي يثيب الله على‬
‫تركها ويعاقب على فعلها‪ ،‬كالشرك والفواحش‬
‫والمعاملت القائمة على الربا والغش والحتيال‬
‫والستغلل ﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر‬
‫منها وما بطن والثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا‬
‫بالله ما لم ينزل به سلطانا ً وأن تقولوا على الله ما‬
‫ل تعلمون ﴾ (العراف‪.)33 :‬‬
‫﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أل تشركوا به‬
‫شيئا ً وبالوالدين إحسانا ً ول تقتلوا أولدكم من إمل ٍ‬
‫ق‬
‫نحن نرزقكم وإياهم ول تقربوا الفواحش ما ظهر‬
‫منها وما بطن ول تقتلوا النفس التي حرم الله إل‬
‫بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ول تقربوا‬
‫مال اليتيم إل بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده‬
‫وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ل نكلف نفسا ً إل‬
‫وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد‬

‫‪ )(1‬أخرجه مسلم ح (‪.)1006‬‬


‫(‪)45‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ﴾ (النعام‪:‬‬


‫‪.)152-151‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)46‬‬
‫السلم‬

‫خصائص الشريعة السلمية ومقاصدها‬


‫إن المفهوم السلمي للعبادة قد تجسد في‬
‫الشريعة السلمية العظيمة‪ ،‬التي أمر الله المؤمنين‬
‫بتحقيقها في الرض وجعلها دستورا ً لحياتهم‬
‫الجتماعية والخلقية والقتصادية والسياسية ﴿ثم‬
‫ة من المر فاتبعها ول تتبع أهواء‬‫جعلناك على شريع ٍ‬
‫الذين ل يعلمون﴾ (الجاثية‪ ،)18 :‬فالشريعة هي ما‬
‫شرعه الله لعباده من الدين وأحكامه المختلفة التي‬
‫شرعها لمنفعة المؤمنين جميعا ً إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫أولً‪ :‬خصائص الشريعة السلمية‬
‫وتمتاز الشريعة السلمية عن غيرها من الشرائع‬
‫التي قامت وتقوم إلى قيام الساعة بخصائص‪،‬‬
‫أهمها‪:‬‬
‫أ‪ .‬ربانية المصدر والغاية‬
‫أول خصيصة للشريعة السلمية أنها ربانية‬
‫المصدر والغاية‪ ،‬فهي من الله ‪ ،‬وتهدف إلى بلوغ‬
‫رضاه‪ ،‬فالمسلم يستمد شرائعه المختلفة من‬
‫مصدرين أصيلين‪ ،‬هما القرآن الكريم الذي أوحاه الله‬
‫بحروفه‪ ،‬ثم السنة النبوية‪ ،‬وهي أقوال النبي‬
‫وأفعاله وتقريراته التي أمر الله بالتأسي بها بقوله‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه‬
‫فانتهوا ﴾ (الحشر‪ ،)7 :‬فالنبي يحمل رسالة الله إلى‬
‫الناس‪ ،‬وما يقرره بقوله وفعله إنما هو بوحي الله‬
‫وأمره ﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إل وحي يوحى‬
‫﴾ (النجم‪.)4-3 :‬‬
‫ومن هذين المصدرين وتأسيسا ً على قواعدهما‬
‫اشتق العلماء عددا ً من المصادر الفرعية للشريعة‬
‫كالجماع والقياس والستصحاب والستحسان‬
‫والعرف وغيرها‪.‬‬
‫والخروج عن هذه المصادر إلى أحكام البشر إنما‬
‫هو تحاكم إلى الهوى ومشاركة لغير الله في إحدى‬
‫(‪)47‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫خصائصه تبارك وتعالى ﴿ أل له الخلق والمر تبارك‬


‫الله رب العالمين﴾ (العراف‪ ،)54 :‬فكما خلق وحده‬
‫فإنه يشرع وحده‪.‬‬
‫ومشاركة غيره له في التشريع اعتداء على حق‬
‫الله بالتشريع‪ ،‬وهو استعباد لخلق الله‪ ،‬لذلك لما دخل‬
‫عدي بن حاتم على النبي سمعه يقرأ قوله تعالى‪:‬‬
‫﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ً من دون الله﴾‬
‫سره النبي‬‫(التوبة‪ ،)31 :‬فاستغرب عدي ‪ ،‬حتى ف َّ‬
‫بقوله‪(( :‬أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم‪ ،‬ولكنهم كانوا‬
‫إذا أحلوا لهم شيئا ً استحلوه‪ ،‬وإذا حرموا عليهم شيئاً‬
‫حرموه)) (‪ ،)1‬فعبادتهم لحبارهم‪ ،‬ليس سجودهم‬
‫وركوعهم لهم‪ ،‬بل الذعان لما أحدثوه في الدين في‬
‫مجامعهم التي جعلت من رجال الدين مشرعين مع‬
‫الله‪.‬‬
‫وتهدف الشريعة إلى تحقيق رضا الله الذي شَّرع‬
‫بحكمته البالغة للنسانية ما يسعدها في دنياها‬
‫وأخراها ﴿كتا ٌ‬
‫ب أنزلناه إليك لتخرج الناس من‬
‫الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز‬
‫الحميد﴾ (إبراهيم‪ ،)1 :‬وشريعته خير كلها‪ ،‬لنها‬
‫صدرت عن الله العليم بما يصلح أحوالنا وبما يناسب‬
‫فطرنا وتكويننا ﴿ أل يعلم من خلق وهو اللطيف‬
‫الخبير﴾ (الملك‪ ،)14 :‬وهي بهذه المثابة تسمو على‬
‫غيرها من الشرائع البشرية التي يتلبسها قصور‬
‫النسان وجهله وما يكتنف تشريعه من الهوى الذي‬
‫رع البشري يميل بتشريعاته إلى حراسة‬ ‫يجعل المش ّ ِ‬
‫مصالحه الشخصية والفئوية‪ ،‬كما هو الحال في‬
‫تشريعات النظم العلمانية‪.‬‬
‫أما حين تكون الشريعة إلهية؛ فإنها ل تحابي في‬
‫أحكامها جنسا ً أو عرقا ً أو لوناً‪ ،‬فالجميع عبيد لله‬
‫‪ )(1‬أخرجه الترمذي ح (‪.)3095‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)48‬‬
‫السلم‬

‫متساوون أمام أحكامه ﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق‬


‫مصدقا ً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا ً عليه فاحكم‬
‫بينهم بما أنزل الله ول تتبع أهواءهم عما جاءك من‬
‫ة ومنهاجا ً ولو شاء الله‬ ‫الحق لكل جعلنا منكم شرع ً‬
‫ة واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم‬ ‫لجعلكم أم ً‬
‫فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا ً فينبئكم‬
‫بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل‬
‫الله ول تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض‬
‫ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن‬
‫يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا ً من الناس‬
‫لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من‬
‫الله حكما ً لقوم ٍ يوقنون﴾ (المائدة‪.)50-48 :‬‬
‫إن كون هذه الشريعة من الله يعطيها هيبة‬
‫وسلطانا ً في النفوس والضمائر ل تجده في قانون‬
‫ما‪ ،‬فالناس منقادون إليها بسلطة اليمان الذي يمل‬
‫قلوبهم‪ ،‬منقادون إليها ظاهرا ً وباطناً‪ ،‬سرا ً وعلنية‪،‬‬
‫يرقبون في ذلك كله جزاء الله الذي ل يعزب عنه‬
‫شيء في الرض ول في السماء‪.‬‬
‫وتتميز الشريعة في مسألة الجزاء عن غيرها من‬
‫القوانين في أنها القانون الوحيد الذي يجازي في‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬فالمؤمن يلتزم حدودها‪ ،‬طمعا ً في‬
‫سعادة الدنيا التي يعيشها في جنبات الطاعة‬
‫والفضيلة‪ ،‬ثم هو موعود بحسن الجزاء في الخرة‪،‬‬
‫بالجنة التي أعدها الله للتقياء من عباده‪ ،‬فلجلهما‬
‫معا ً يمتثل المؤمن قانون الشريعة ويلتزم به‪.‬‬
‫وللتعرف على أهمية هذه الخصيصة نذكر أن‬
‫أمريكا أدركت مضار الخمر الصحية والجتماعية‬
‫والقتصادية‪ ،‬وعزمت على تحريمه‪ ،‬وأصدرت تشريعاً‬
‫بذلك‪ ،‬ثم بذلت المليين لتنفيذ هذا القانون‪ ،‬وبعد‬
‫سنوات من النفير في المن والمحاكم ‪ ،‬وبعد سجن‬
‫اللوف من المدمنين عادت أمريكا إلى إباحة الخمر‪،‬‬
‫(‪)49‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫مع يقينها بما فيه من الفساد‪ ،‬لكنها عجزت وعجز‬


‫قانونها البشري أن يجد له بين الناس قبولً‪.‬‬
‫وفي مقابله فإن السلم حين حرم الخمر‪ ،‬لم‬
‫يستعن بشرطة أو جنود أو محاكم‪ ،‬ولم يجد عنتا ً ول‬
‫مشقة في جعل المجتمع المسلم أطهر المجتمعات‬
‫النسانية‪ ،‬بابتعاده عن المسكرات بأنواعها‪ ،‬إن‬
‫طهارة المجتمع من هذه الفة لم يتطلب سوى آية‬
‫أنزلها الله في تحريمه‪ ،‬وهي قوله‪﴿ :‬يا أيها الذين‬
‫س‬
‫آمنوا إنما الخمر والميسر والنصاب والزلم رج ٌ‬
‫من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾‬
‫(المائدة‪.)90 :‬‬
‫فالتزم أصحاب النبي بذلك‪ ،‬بل وتساءلوا عن‬
‫مصير إخوانهم ممن شرب الخمر ومات قبل‬
‫ت ساقي القوم‬ ‫تحريمها‪ ،‬يقول أنس بن مالك‪ :‬كن ُ‬
‫في منزل أبي طلحة‪ ،‬فنزل تحريم الخمر‪ ،‬فأمر‬
‫مناديا ً فنادى‪ ،‬فقال أبو طلحة لنس‪ :‬اخرج فانظر ما‬
‫ت‪ ،‬فقلت‪ :‬هذا مناد‬ ‫هذا الصوت؟ قال أنس‪ :‬فخرج ُ‬
‫ينادي‪ :‬أل إن الخمر قد حرمت‪ .‬فقال لي‪ :‬اذهب‬
‫فأهرقها‪.‬‬
‫سكك المدينة‪.‬‬ ‫ت في ِ‬ ‫قال أنس‪ :‬فجر ْ‬
‫قتِل قوم وهي في بطونهم؟‬ ‫فقال بعض القوم‪ُ :‬‬
‫فأنزل الله‪ ﴿ :‬ليس على الذين آمنوا وعملوا‬
‫الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا‬
‫وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا‬
‫والله يحب المحسنين ﴾ (المائدة‪ ،)1()93 :‬أي لن‬
‫يحاسبوا عن شربها قبل التحريم لنه ل عقوبة إل‬
‫بتشريع‪.‬‬
‫ب‪ .‬العدل والمساواة‬
‫العدل اسم من أسماء الله تعالى‪ ،‬وهو صفة لزمة‬
‫للرب في أوامره وتشريعاته وجزائه‪ ،‬ومظاهر عدل‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)4620‬ومسلم ح (‪.)1980‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)50‬‬
‫السلم‬

‫الله في شرائعه كثيرة‪ ،‬من أولها أنه تعالى ل‬


‫يحاسب النسان على ما ل يقدر عليه‪ ،‬بل لم يكلفه‬
‫أصل ً بما يعجزه ﴿ ل يكلف الله نفسا ً إل وسعها لها ما‬
‫كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا ل تؤاخذنا إن نسينا أو‬
‫أخطأنا ربنا ول تحمل علينا إصرا ً كما حملته على‬
‫الذين من قبلنا ربنا ول تحملنا ما ل طاقة لنا به ﴾‬
‫(البقرة‪ ،)286 :‬فشرائع الله مبناها على اليسر‬
‫والسهولة ﴿ يريد الله بكم اليسر ول يريد بكم العسر‬
‫﴾ (البقرة‪﴿ )185 :‬ما يريد الله ليجعل عليكم من حر ٍ‬
‫ج‬
‫ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم‬
‫تشكرون﴾ (المائدة‪ ،)6 :‬والنبي يقول‪(( :‬أحب الدين‬
‫(‪)1‬‬
‫ة))‪.‬‬
‫ة السمح ُ‬
‫إلى الله الحنيفي ُ‬
‫ومن عدله تبارك وتعالى أنه رفع التكليف بأحكام‬
‫الشريعة عن الطفال الذين لم يحوزوا كمال العقل‬
‫رم نعمة‬ ‫ح ِ‬
‫الذي يجيز محاسبتهم‪ ،‬كما أسقطه عمن ُ‬
‫العقل ابتداءً ‪ ،‬يقول ‪(( :‬رفع القلم عن ثلثة‪ :‬عن‬
‫ب‪ ،‬وعن‬ ‫النائم حتى يستيقظ‪ ،‬وعن الصبي حتى يش َّ‬
‫المعتوه حتى يعقل))(‪ ،)2‬كما يعفو الله عمن وقع في‬
‫الخطأ من غير إرادته لذلك أو من وقع فيه مكرها ً أو‬
‫ناسيا ً تحريمه‪ ،‬فقد قال ‪(( :‬إن الله تجاوز عن أمتي‬
‫(‪)3‬‬
‫الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))‪.‬‬
‫وإذا كانت الشريعة ل تحاسب من هو دون التكليف‬
‫على خطئه؛ فإنه يعلم أنها ‪ -‬من باب أولى ‪ -‬ل‬
‫تحاسبه على ذنب غيره‪ ،‬فالمرء مسؤول عن عمله‬
‫الشخصي ﴿ قل أغير الله أبغي ربا ً وهو رب كل شي ٍ‬
‫ء‬
‫س إل عليها ول تزر وازرةٌ وزر‬
‫ول تكسب كل نف ٍ‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري معلقا ً باب ((الدين يسر))‪ ،‬وأحمد ح (‪.)2108‬‬
‫‪ )(2‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)1423‬وابن ماجه ح (‪ ،)3042‬وأحمد ح (‬
‫‪.)943‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه ابن ماجه ح (‪.)3043‬‬
‫(‪)51‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه‬


‫تختلفون﴾ (النعام‪.)164 :‬‬
‫وعليه فالسلم ل يقر بالذنب الصلي المتوارث‬
‫عن البوين [آدم وحواء]‪ ،‬فالبوان تحمل وزريهما‬
‫بنفسيهما‪ ،‬واستغفرا الله منه‪ ،‬فتاب عليهما‪ ،‬ول‬
‫ٌٌ‬
‫ل‬ ‫علقة لذريتهما بذنبهما من قريب أو بعيد‪ ،‬بل ك ّ‬
‫ت فتاب‬ ‫مسؤول عن عمله ﴿فتلقى آدم من ربه كلما ٍ‬
‫عليه إنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعاً‬
‫ف‬‫فإما يأتينكم مني هدًى فمن تبع هداي فل خو ٌ‬
‫عليهم ول هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا‬
‫أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ (البقرة‪-37 :‬‬
‫‪.)39‬‬
‫وأيضا ً فإن شرائع الله تبارك وتعالى راعت ‪-‬‬
‫لعدالتها ‪-‬الفروق بين الذكر والنثى‪ ،‬فلم تكلف‬
‫المرأة بما ل يلئم طبيعتها كالجهاد والخروج من‬
‫المنزل للتكسب والنفاق‪ ،‬وغيرهما مما ل يتناسب‬
‫وأنوثتها أو يخالف رونق حياتها وصفاء أحاسيسها‪.‬‬
‫ولم تميز الشريعة العادلة في أحكامها العامة بين‬
‫ملك وسوقة‪ ،‬ول بين أبيض وأسود‪ ،‬ول بين غني‬
‫وفقير‪ ،‬فالجميع متساوون أمام شرائع الله‪ ،‬فقد‬
‫خطب النبي في ما يربو على مائة ألف من‬
‫أصحابه‪ ،‬فقال‪(( :‬يا أيها الناس‪ ،‬أل إن ربكم واحد‪،‬‬
‫وإن أباكم واحد‪ ،‬أل ل فضل لعربي على أعجمي‪ ،‬ول‬
‫لعجمي على عربي‪ ،‬ول لحمر على أسود‪ ،‬ول أسود‬
‫على أحمر؛ إل بالتقوى))(‪ ،)1‬فالخيرية مبناها على‬
‫العبادة والستقامة‪ ،‬ل الحسب والجاه‪﴿ ،‬يا أيها الناس‬
‫ر وأنثى وجعلناكم شعوبا ً وقبائل‬ ‫إنا خلقناكم من ذك ٍ‬
‫م‬‫لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله علي ٌ‬
‫خبيٌر﴾ (الحجرات‪.)13 :‬‬

‫()أخرجه أحمد ح (‪.)22978‬‬ ‫‪1‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)52‬‬
‫السلم‬

‫وقد طبَّق النبي بنفسه عدل السلم و ِ‬


‫قيَمه حين‬
‫رفض التمييز في إقامة الشرائع بين شريف ووضيع‪،‬‬
‫فقد حكم على سارقة من أشراف قريش بقطع‬
‫يدها الخؤون‪ ،‬فاستشفع الناس لها‪ ،‬طلبوا من‬
‫أسامة بن زيد ‪-‬بما له من مكانة عند النبي ‪ -‬أن‬
‫يشفع لها عنده‪ ،‬فقال له ‪(( :‬أتشفع في حد من‬
‫حدود الله))‪.‬‬
‫ثم قام فخطب الناس‪ ،‬فقال‪(( :‬إنما أهلك الذين‬
‫قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه‪،‬‬
‫وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد‪ ،‬وأي ْ ُ‬
‫م الله‬
‫ت [أي ابنته ]؛‬‫لو أن فاطمة بنت محمد سرق ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫ت يدها))‪.‬‬
‫لقطع ُ‬
‫وهكذا فالعدل سمة شريعة الله الذي أمر به‬
‫وشرعه بين خلقه ﴿إن الله يأمر بالعدل والحسان‬
‫وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر‬
‫والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ (النحل‪.)90 :‬‬
‫ج‪ .‬الشمول والتوازن‬
‫لما كان السلم رسالة الله الخاتمة وكلمته الباقية‬
‫إلى قيام الساعة‪ ،‬فإن الله تلطف فيه على‬
‫النسانية بكل ما يصلح شؤونها في دار معاشها ثم‬
‫في دار جزائها‪ ،‬فكملت أنعم الله بكمال تشريعاته ﴿‬
‫اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي‬
‫ورضيت لكم السلم ديناً ﴾ (المائدة‪.)3 :‬‬
‫والسلم بنيان شمولي يغطي مناحي الحياة‬
‫المختلفة‪ ،‬فهو دين عبادة‪ ،‬وهو أيضا ً منظومة من‬
‫الشرائع الخلقية والجتماعية‪ ،‬والقتصادية‬
‫والسياسية التي تحقق سعادة الفرد والمجتمع في‬
‫الدنيا ثم الخرة‪.‬‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)3475‬ومسلم ح (‪.)1688‬‬


‫(‪)53‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫إن السلم ينظم علقات النسان المختلفة من‬


‫لدن ميلده إلى وفاته‪ ،‬وهو يحرس حقوقه حتى فيما‬
‫قبل الميلد وما بعد الوفاة‪ ،‬وأما ما بينهما فإنه‬
‫يتناول بأحكامه تفاصيل سلوكه الشخصي بما‬
‫شد أيضا ً علقة‬‫يتضمنه من عادات وآداب‪ ،‬وهو ير ّ ِ‬
‫النسان مع أسرته ومجتمعه‪ ،‬ل بل يتناول حاله مع‬
‫الكون كله بما فيه من حيوان وجماد ﴿وما من داب ٍ‬
‫ة‬
‫م أمثالكم ما‬ ‫ر يطير بجناحيه إل أم ٌ‬‫في الرض ول طائ ٍ‬
‫ء﴾ (النعام‪.)38 :‬‬ ‫فرطنا في الكتاب من شي ٍ‬
‫أما على الصعيد الجماعي فإن شرائع السلم‬
‫تنظم المجتمع وتضبط حقوق من فيه وواجباتهم‪،‬‬
‫وتنظم علقة الدولة والمة المسلمة مع القريب من‬
‫الناس والبعيد ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا ً لكل شي ٍ‬
‫ء‬
‫ة وبشرى للمسلمين﴾ (النحل‪.)89 :‬‬ ‫وهدًى ورحم ً‬
‫وتلبي هذه الشرائع حاجات النسان المختلفة‪،‬‬
‫فهي تعنى بجسده‪ ،‬ول تهمل روحه‪ ،‬تبتغي الخرة‪،‬‬
‫ول تفرط في الدنيا‪ ،‬تربط المجتمع ول تغفل‬
‫مصالحه‪ ،‬وهي في نفس الوقت تحقق ذاتية الفرد‬
‫وتحرس مصالحه وحقوقه‪ ،‬توازن عجيب‪ ،‬ل إفراط‬
‫فيه ول تفريط‪ ،‬وأي عجب ‪ ،‬فذلك تقدير اللطيف‬
‫الخبير‪.‬‬
‫إن هذه الثنائيات عبرت عنها نصوص عدة في‬
‫القرآن والسنة‪ ،‬منها قوله تعالى‪﴿ :‬وابتغ فيما آتاك‬
‫الله الدار الخرة ول تنس نصيبك من الدنيا وأحسن‬
‫كما أحسن الله إليك ول تبغ الفساد في الرض إن‬
‫الله ل يحب المفسدين﴾ (القصص‪ )77 :‬فلئن كانت‬
‫الخرة هي الغاية والمرتجى؛ فإن الدنيا هي الوسيلة‬
‫والمعاش‪ ،‬ومثله قوله تعالى في وصف المؤمنين‬
‫فهم ينفقون أموالهم من غير إسراف يبدد المال ول‬
‫تقتير يمنع النفع‪﴿ :‬والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم‬
‫تعرف على‬
‫(‪)54‬‬
‫السلم‬

‫يقتروا وكان بين ذلك قواماً ﴾ (الفرقان‪ ،)67 :‬وقال‬


‫الله لنبيه ‪﴿ :‬ول تجعل يدك مغلول ً‬
‫ة إلى عنقك ول‬
‫تبسطها كل البسط فتقعد ملوما ً محسوراً ﴾‬
‫(السراء‪.)29 :‬‬
‫غب في‬ ‫وقال موجها ً عثمان بن مظعون لما ر ِ‬
‫ابتغاء سمو الروح بتعذيب الجسد‪ ،‬فأراد هجر النوم‬
‫ت عن‬ ‫والنساء والدوام على الصيام‪(( :‬يا عثمان أرغب َ‬
‫سنتي؟‪ ..‬فإني أنام وأصلي‪ ،‬وأصوم وأفطر‪ ،‬وأنكح‬
‫النساء‪ ،‬فاتق الله يا عثمان‪ ،‬فإن لهلك عليك حقاً‪،‬‬
‫وإن لضيفك عليك حقاً‪ ،‬وإن لنفسك عليك حقاً‪ ،‬فصم‬
‫(‪)1‬‬
‫وأفطر‪ ،‬وصل ونم))‪.‬‬
‫وفي الجمع بين الدنيا والخرة يقول الله تعالى‪﴿ :‬‬
‫يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلة من يوم الجمعة‬
‫فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيٌر لكم إن‬
‫كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلة فانتشروا في‬
‫الرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً‬
‫لعلكم تفلحون﴾ (الجمعة‪.)10-9 :‬‬
‫ولما أراد أناس من أصحابه العراض عن الدنيا‬
‫وملذاتها وهجر النساء والترهب‪ ،‬قال ‪(( :‬إنما هلك‬
‫من كان قبلكم بالتشديد‪ ،‬شددوا على أنفسهم‪،‬‬
‫فشدد الله عليهم‪ ،‬فأولئك في الديارات والصوامع‪،‬‬
‫فاعبدوا الله ول تشركوا به‪ ،‬وحجوا واعتمروا‪،‬‬
‫واستقيموا يستقم بكم))‪ ،‬ونزلت فيهم الية‪﴿ :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا ل تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ول‬
‫(‪)2‬‬
‫تعتدوا إن الله ل يحب المعتدين﴾ (المائدة‪.)87 :‬‬
‫د‪ .‬المثالية الواقعية‬

‫‪ )(1‬أخرجه أبو داود ح (‪.)1369‬‬


‫‪ )(2‬أخرجه ابن جرير في التفسير (‪ ، )4/9‬وابن المبارك في‬
‫الزهد ح (‪.)1031‬‬
‫(‪)55‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫كثيرا ً ما تجنح الشرائع التي يشرعها النسان نحو‬


‫المثالية التي ل تتحقق‪ ،‬فجمهورية أفلطون الفاضلة‬
‫لم تجاوز عقله وقلمه‪ ،‬وفي مقابله قد يخضع البعض‬
‫للواقع الجاثم على المجتمع ‪ ،‬فيعمد إلى تكييف‬
‫نفسه ومبادئه مع الحالة الراهنة اعترافا ً بوطأة هذا‬
‫الواقع وإذعانا ً له‪ ،‬فحين عجزت مجتمعات الغرب عن‬
‫منع الخمر أو الزنا أو الفواحش لم تجد ما يمنعها من‬
‫العتراف بهذا الواقع وتقنينه‪ ،‬ليصبح شرعة مباحة‬
‫عند الناس؛ تفني الجنس البشري وتهدد وجوده بما‬
‫تحمله تلك الثام من أمراض وبليا اجتماعية‪ ،‬ليتحقق‬
‫ما أخبر به بقوله‪(( :‬لم تظهر الفاحشة في قوم‬
‫قط حتى يعلنوا بها إل فشا فيهم الطاعون والوجاع‬
‫(‪)1‬‬
‫التي لم تكن مضت في أسلفهم الذين مضوا))‪.‬‬
‫وأما السلم فإنه دين واقعي مثالي‪ ،‬فواقعيته‬
‫مبنية على أنه سلوك إنساني يعيشه الناس يومياً‪،‬‬
‫وأما مثاليته فيحققها أنه يهدف إلى إصلح المجتمع‪،‬‬
‫ول يرضى بالتعايش والمهادنة مع الخطأ والرذيلة‪.‬‬
‫واقعيته يوضحها تلؤم تشريعاته مع فطرة‬
‫النسان وتحقيقها لحاجاته ورغباته التي علمها الله‬
‫فشرع ما يناسبها ﴿ أل يعلم من خلق وهو اللطيف‬
‫الخبير﴾ (الملك‪ ،)14 :‬فلم يأمر السلم بالتعفف عن‬
‫النكاح‪ ،‬ول منع من استحالت عليهم الحياة الزوجية‬
‫من الفتراق بالطلق ﴿وإن يتفرقا يغن الله كل من‬
‫سعته وكان الله واسعا ً حكيماً ﴾ (النساء‪.)130 :‬‬
‫ولم يأمر السلم بإعطاء الخد اليسر لمن ضرب‬
‫الخد اليمن‪ ،‬بل شرع ما يرد الساءة ويردع الجاني‬
‫ويمنعه من التمادي‪ ،‬ولكنه رغب أيضا ً في العفو‬
‫والمسامحة والصفح‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬وجزاء سيئ ٍ‬
‫ة‬
‫ة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه ل‬‫سيئ ٌ‬

‫‪ )(1‬أخرجه ابن ماجه ح (‪.)4019‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)56‬‬
‫السلم‬

‫ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما‬ ‫يحب الظالمين‬


‫ل﴾ (الشورى‪.)41-40 :‬‬ ‫عليهم من سبي ٍ‬
‫وتسطع هذه المزاوجة بين الواقع والمثال في‬
‫تدرج السلم في معالجة المراض والثام‬
‫المستفحلة في المجتمع‪ ،‬فعندما بُعث النبي في‬
‫شربَها للماء؛ تدرج في تحريم‬ ‫أمة تشرب الخمر ُ‬
‫الخمر‪ ،‬فأشار أول ً إلى ما فيها من السوء‪ ،‬ليهجرها‬
‫أصحاب العزائم والحلم‪﴿ :‬يسألونك عن الخمر‬
‫م كبيٌر ومنافع للناس وإثمهما‬ ‫والميسر قل فيهما إث ٌ‬
‫أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو‬
‫كذلك يبين الله لكم اليات لعلكم تتفكرون﴾ (البقرة‪:‬‬
‫‪ ،)219‬فالخمر فيها منافع محدودة (كالتجارة) لكن ما‬
‫فيها من الثم والضرر أعظم‪.‬‬
‫ثم في مرحلة أخرى منع المسلمين من تناولها‬
‫سائر النهار‪ ،‬لنها تشغل عن الصلة وتفسدها‪،‬‬
‫فتضايق عليهم وقت شربها ﴿ يا أيها الذين آمنوا ل‬
‫تقربوا الصلة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون﴾‬
‫(النساء‪.)43 :‬‬
‫لما نزلت هذه الية أحس الصحابة أن الله يشدد‬
‫عليهم في الخمر‪ ،‬فدعا عمر الله فقال‪ :‬اللهم بيِّن‬
‫لنا في الخمر بيان شفاء‪ ،‬فنزل قوله تعالى‪﴿ :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والنصاب والزلم‬
‫س من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون‬ ‫رج ٌ‬
‫إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء‬
‫في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن‬
‫الصلة فهل أنتم منتهون﴾ (المائدة‪ ،)91-90 :‬فدُعي‬
‫(‪)1‬‬
‫عمر‪ ،‬ف ُ‬
‫قرئت عليه‪ ،‬فقال‪( :‬انتهينا انتهينا)‪.‬‬

‫‪ )(1‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)3049‬والنسائي ح (‪ ،)5540‬وأبو داود ح (‬


‫‪.)3670‬‬
‫(‪)57‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫تقول أم المؤمنين عائشة‪( :‬إنما نزل أول ما نزل‬


‫منه [أي من القرآن] سورة من المفصل فيها ذكر‬
‫الجنة والنار‪ ،‬حتى إذا ثاب الناس إلى السلم؛ نزل‬
‫الحلل والحرام‪ ،‬ولو نزل أول شيء‪ :‬ل تشربوا‬
‫الخمر‪ .‬لقالوا‪ :‬ل ندع الخمر أبداً‪ ،‬ولو نزل‪ :‬ل تزنوا‪.‬‬
‫ً (‪)1‬‬
‫لقالوا‪ :‬ل ندع الزنا أبدا)‪.‬‬
‫لهذا ولغيره يدعو المستشرق الشهير جوزيف‬
‫شاخت المحاضر في الدراسات السلمية في‬
‫جامعتي أكسفورد وليدن في كتابه "تراث السلم"‬
‫إلى دراسة الشريعة السلمية‪ ،‬فيقول‪" :‬من أهم ما‬
‫ضر قانونه الديني الذي‬ ‫أورثه السلم للعالم المتح ّ‬
‫يسمى (بالشريعة)‪ ،‬والشريعة السلمية تختلف‬
‫اختلفا ً واضحا ً عن جميع أشكال القانون إلى حدّ أن‬
‫دراستها أمر ل غنى عنه؛ لكي نقدر المدى الكامل‬
‫للمور القانونية تقديرا ً كافيا ً ‪ ..‬إن الشريعة‬
‫السلمية شيء فريد في بابه‪ ،‬وهي جملة الوامر‬
‫اللهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع‬
‫وجوهها‪ ،‬وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات‬
‫والشعائر الدينية كما تشتمل على قواعد سياسية‬
‫(‪)2‬‬
‫وقانونية‪"..‬‬
‫ثانيا ً ‪ :‬مقاصد الشريعة السلمية‬
‫وتهدف الشرائع السلمية في جملتها إلى تحقيق‬
‫ما يصلح أحوال النسان في الدنيا ويسعده في‬
‫الخرة‪ ،‬وفق قاعدة درء المفاسد عنه وجلب المصالح‬
‫له‪ ،‬فما تأمر الشريعة بأمر إل وفيه خير للنسان‪ ،‬وما‬
‫حرم فيها من شيء إل وفيه ضرر عليه ﴿ويسألونك‬
‫عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في‬
‫المحيض ول تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن‬
‫فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين‬
‫ويحب المتطهرين﴾ (البقرة‪.)222 :‬‬

‫‪)( 1‬أخرجه البخاري ح (‪.)4993‬‬


‫‪ )(2‬قالوا عن السلم‪ ،‬عماد الدين خليل (‪.)203‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)58‬‬
‫السلم‬

‫والشريعة جاءت تفصيلتها لحفظ مقاصد خمسة‬


‫(الدين والنفس والعقل والنسل والمال)‪ ،‬وهي في‬
‫حقيقتها أهم حقوق النسان ومصالحه في هذه‬
‫الحياة‪:‬‬
‫أ‪ .‬حفظ الدين‬
‫وم العظم الذي يهيمن على‬ ‫لما كان الدين المق ِّ‬
‫مجالت الحياة النسانية كان من الطبيعي أن تسعى‬
‫شرائع السلم إلى حفظه ‪ ،‬باعتباره حقا ً للنسان‪،‬‬
‫بل هو أغلى الحقوق وأهمها‪ ،‬وذلك بتشريع كل ما‬
‫يساعد على حفظه والنهي عن كل ما يضر به‬
‫ويضعفه أو يقضي عليه‪.‬‬
‫فقد حث القرآن على عبادات كثيرة تثبت اليمان‬
‫وتحرسه في صدور المؤمنين‪ ،‬بعضها ذهني فكري‬
‫كالتفكر والتدبر في خلق الله للستدلل على عظمة‬
‫الخالق‪ ،‬وبعضها ذهني بدني كالصلة‪ ،‬أو بدني‬
‫الصيام‪ ،‬أو مالي كالزكاة والصدقة‪ ،‬أو ذهني مالي‬
‫بدني كالحج‪.‬‬
‫ولحراسة اليمان والدين حَّرم الله الشرك اعتقاداً‬
‫وعمل ً ‪ ،‬كما حَّرم ما يفضي إليه كالغلو بالنبياء‬
‫والصالحين‪ ،‬واعتقاد وجود وسطاء بين الله وعبيده‪،‬‬
‫واعتقاد النفع والضر لغير الله‪.‬‬
‫كما أوجب الله على المجتمع والدولة حماية الدين‬
‫وتسهيل سبل التدين والتشجيع عليه‪ ،‬وكذلك فإن‬
‫من الواجب عليها الذود عنه ومنع سبل الغواية‬
‫والغراء بالفسق والعصيان والكفر‪ ،‬بالخذ على يد‬
‫المضلين المفسدين‪ ،‬وتطبيق العقوبات الشرعية‬
‫على المرتدين‪.‬‬
‫ب‪ .‬حفظ النفس النسانية‬
‫الحياة النسانية هبة الله للنسان‪ ،‬وليس لحد أن‬
‫سه‪ ،‬فالله خلق‬‫يعتدي على هذا الحق‪ ،‬ول النسان نف ُ‬
‫النسان وكرمه‪ ،‬ليحقق واجب الستخلف في الرض‬
‫وعمارتها‪ ،‬وليبتليه ويظهر مدى تحقيقه العبودية لله‬
‫رب العالمين‪.‬‬
‫(‪)59‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫ولجل ذلك صان السلم الوجود النساني بما‬


‫شرعه من شرائع تكفله وتحفظه‪ ،‬فأوجب على‬
‫المجتمع رعاية الضعيف وتأمين ضرورياته من سكن‬
‫وطعام وشراب ولباس‪ ،‬وغيرها من ضروريات‬
‫الحياة‪ ،‬وشرع في تأمين ذلك الزكوات الواجبة‬
‫والصدقات المندوبة التي تندرج ضمن منظومة‬
‫واسعة من شرائع التعاون على البر والتقوى بين‬
‫أفراد المجتمع ومؤسساته‪ ،‬بغية تحقيق التكافل‬
‫الجتماعي داخل المجتمع‪.‬‬
‫وكفل السلم الحياة الكريمة للنسان‪ ،‬فحرم‬
‫إهانته وإيذاءه ﴿والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات‬
‫بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا ً وإثما ً مبيناً ﴾‬
‫(الحزاب‪.)58 :‬‬
‫واعتبر السلم العتداء على النفس النسانية من‬
‫أقبح الجرائم‪ ،‬وعدَّه من الموبقات السبع التي تفسد‬
‫الدين والدنيا‪ ،‬فقد قال محذرا ً منها‪(( :‬اجتنبوا‬
‫السبع الموبقات)) قالوا‪ :‬يا رسول الله وما هن؟‬
‫قال‪(( :‬الشرك بالله‪ ،‬والسحر‪ ،‬وقتل النفس التي‬
‫حرم الله إل بالحق‪ ،‬وأكل الربا‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪،‬‬
‫والتولي يوم الزحف‪ ،‬وقذف المحصنات المؤمنات‬
‫(‪)1‬‬
‫الغافلت))‪.‬‬
‫ولعظم العتداء على النفس النسانية جعل الله‬
‫العتداء على نفس واحدة بمثابة العتداء على‬
‫مته ﴿من أجل ذلك كتبنا على بني‬ ‫الجنس البشري بر َّ‬
‫س أو فساٍد في‬ ‫ً‬
‫إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نف ٍ‬
‫الرض فكأنما قتل الناس جميعا ً ومن أحياها فكأنما‬
‫أحيا الناس جميعا ً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن‬
‫كثيرا ً منهم بعد ذلك في الرض لمسرفون﴾ (المائدة‪:‬‬
‫‪.)32‬‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)2767‬ومسلم ح (‪.)89‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)60‬‬
‫السلم‬

‫وتوالت اليات تصف المؤمنين بأنهم يجتنبون قتل‬


‫البرياء الذين يسميهم القرآن بـ (النفس التي حرم‬
‫الله)‪﴿ :‬والذين ل يدعون مع الله إلها ً آخر ول يقتلون‬
‫النفس التي حرم الله إل بالحق ول يزنون ومن‬
‫يفعل ذلك يلق أثاماً ﴾ (الفرقان‪.)68 :‬‬
‫تتهدد اليات من يعتدي على البرياء‪ ،‬وتعطي‬
‫لولي المظلوم حق المطالبة بالقصاص العادل من‬
‫خصمه ﴿ول تقتلوا النفس التي حرم الله إل بالحق‬
‫ومن قتل مظلوما ً فقد جعلنا لوليه سلطانا ً فل‬
‫يسرف في القتل إنه كان منصوراً ﴾ (السراء‪.)33 :‬‬
‫وسلطان القصاص العادل هو أحد أهم الضمانات‬
‫التي تمنع تفشي الجريمة‪ ،‬فيرعوي المجرم عن‬
‫عتوه؛ ليقينه بأن اعتداءه بالقتل على الخرين‬
‫مستوجب إزهاق نفسه‪ ،‬فيأمن الجميع ويستمتع‬
‫الجميع بحقهم في الحياة ﴿ ولكم في القصاص حيا ٌ‬
‫ة‬
‫يا أولي اللباب لعلكم تتقون ﴾ (البقرة‪.)179 :‬‬
‫وصونا ً لهذا المبدأ العظيم (حفظ النفس) شرع‬
‫القرآن الجهاد في سبيل حماية المستضعفين من‬
‫الضطهاد والقتل‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬وما لكم ل تقاتلون‬
‫في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء‬
‫والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية‬
‫الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا ً واجعل لنا من‬
‫لدنك نصيرا ً الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله‬
‫والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا‬
‫أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ﴾‬
‫(النساء‪.)76-75 :‬‬
‫ولن يفوتنا ‪-‬أن نذكر هنا ‪-‬أن أول نفس حرم الله‬
‫العتداء عليها نفس النسان التي هي وديعة عنده‪،‬‬
‫وتفريطه فيها بالنتحار أو التساهل في صونها‬
‫يعرضه لليم العذاب في الخرة‪ ،‬فقد قال ‪(( :‬من‬
‫(‪)61‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى‬


‫قتل‬ ‫ما ً ف َ‬
‫س َّ‬ ‫فيه خالدا ً مخلدا ً فيها أبداً‪ ،‬ومن تح َّ‬
‫سى ُ‬
‫مه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً‬ ‫س ُّ‬‫نفسه؛ ف ُ‬
‫مخلدا ً فيها أبداً‪ ،‬ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته‬
‫في يديه يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا ً مخلداً‬
‫(‪)1‬‬
‫فيها أبداً))‪.‬‬
‫ج‪ .‬حفظ العقل‬
‫ضل‬ ‫العقل أهم خصائص النسان التي بموجبها ف ّ‬
‫الله الجنس النساني على سائر المخلوقات ﴿ولقد‬
‫كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم‬
‫ر ممن خلقنا‬‫من الطيبات وفضلناهم على كثي ٍ‬
‫تفضيلً ﴾ (السراء‪.)70 :‬‬
‫ويعتبر السلم العقل مناط التكليف في سائر‬
‫المسؤوليات الدينية والدنيوية‪ ،‬إذ به يهتدي النسان‬
‫إلى الحقائق الكبرى التي دعا الله إلى الوصول إليها‬
‫بالبراهين العقلية‪ ،‬ل بمجرد اليمان العمى ‪﴿ :‬أم‬
‫اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم إن كنتم‬
‫صادقين﴾ (النبياء‪ ،)24 :‬فالعقل يرشد كل من تدبر‬
‫في الكون المنظور إلى وجود الله وصفاته ﴿إن في‬
‫خلق السماوات والرض واختلف الليل والنهار ليات‬
‫لولي اللباب﴾ (آل عمران‪.)190 :‬‬
‫ول يجوز للمرء تغييب العقل عن أداء واجبه في‬
‫الدللة على الحق والخير وتبصير النسان فيما يصلح‬
‫له دنياه وأخراه‪ ،‬ولجل ذلك حرم الله السحر‬
‫والشعوذة والكهانة وغيرها مما يتلعب بالعقل‬
‫ويزدريه ويعطل طاقاته‪ ،‬ولجل ذلك أيضا ً حرم‬
‫السلم الخمر‪ ،‬واعتبرها دنسا ً شيطانيا ً وكيدا ً منه‬
‫للنسان‪ ،‬يريد به إفساد علقة النسان بربه بشغله‬
‫بالخمر عن الصلة والعبادة‪ ،‬كما يصبو بواسطتها إلى‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)5778‬ومسلم ح (‪.)109‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)62‬‬
‫السلم‬

‫تدمير العلقات الجتماعية ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما‬


‫س من عمل‬ ‫الخمر والميسر والنصاب والزلم رج ٌ‬
‫الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد‬
‫الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر‬
‫والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلة فهل‬
‫أنتم منتهون﴾ (المائدة‪.)91-90 :‬‬
‫د‪ .‬حفظ النسل‬
‫التناسل وسيلة بقاء النوع النساني ‪ ،‬ولجله ركَّب‬
‫الله الغريزة في الجنسين‪ ،‬ودعاهما إلى إقامة‬
‫السرة عن طريق الزواج الذي يعتبره السلم‬
‫المحضن الذي يحقق حفظ النسل‪ ،‬ويديم المسيرة‬
‫النسانية السوية‪.‬‬
‫غب السلم في النكاح‪ ،‬ووضع ضوابطه‬ ‫وقد ر َّ‬
‫ومتطلباته عبر نظام اجتماعي محكم ينظم العلقة‬
‫بين الزوجين خصوصاً‪ ،‬وأبناء السرة عموماً‪.‬‬
‫ويُلزم السلم البوين بجملة من الواجبات تجاه‬
‫أبنائهما‪ ،‬منها حسن تربيتهم وتعهدهم بالحنو‬
‫والرعاية والنفاق وغيرها من مقتضيات البوة‬
‫والمومة السليمة‪.‬‬
‫وحرم السلم أشد التحريم العتداء على الطفل‬
‫بوأده أو إجهاضه ﴿ول تقتلوا أولدكم خشية إمل ٍ‬
‫ق‬
‫خطئا ً كبيراً﴾‬
‫نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان ِ‬
‫(السراء‪.)31 :‬‬
‫وصونا ً للسرة ورعاية لفرادها حَّرم الله الزنا‬
‫والفواحش عموماً ﴿ول تقربوا الزنى إنه كان فاحش ً‬
‫ة‬
‫وساء سبيلً ﴾ (السراء‪ ،)32 :‬وحرم أيضا ً ما يؤدي إلى‬
‫هذه الفواحش من اختلط الرجال بالنساء‪ ،‬كما ألزم‬
‫المرأة بالحجاب حال بروزها أمام الجانب درءاً‬
‫للفتنة‪ ،‬فالمرأة في السلم جوهرة مصونة عن‬
‫العبث والبتذال ﴿يا أيها النبي قل لزواجك وبناتك‬
‫(‪)63‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلبيبهن ذلك‬


‫أدنى أن يعرفن فل يؤذين وكان الله غفورا ً رحيماً ﴾‬
‫(الحزاب‪.)59 :‬‬
‫هـ‪ .‬حفظ المال‬
‫المال قوام الحياة‪ ،‬والسلم يعتبر ما يتداوله‬
‫ل الله الذي استخلف عليه النسان‪ ،‬وشرع‬ ‫الناس ما َ‬
‫له تكسبه وحيازته من الطرق المشروعة ‪ ،‬كما أمره‬
‫أن ينفقه ضمن حاجاته وحاجات مجتمعه من غير‬
‫إسراف ول تقتير‪.‬‬
‫وقد حث السلم على العمل والنتاج واكتساب‬
‫المال بالطرق المشروعة ﴿هو الذي جعل لكم الرض‬
‫ذلول ً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه‬
‫النشور﴾ (الملك‪ ،)15 :‬ورغب بالعمل واعتبره من‬
‫القربات إلى الله‪ ،‬فقال‪(( :‬ما كسب الرجل كسباً‬
‫أطيب من عمل يده‪ ،‬وما أنفق الرجل على نفسه‬
‫(‪)1‬‬
‫وأهله وولده وخادمه فهو صدقة))‪.‬‬
‫؛ رأى أصحاب رسول‬ ‫ولما مر رجل على النبي‬
‫جلَده ونشاطه‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول الله‪ :‬لو‬
‫الله من َ‬
‫كان هذا في سبيل الله؟‪ ،‬فقال رسول الله ‪(( :‬إن‬
‫كان خرج يسعى على ولده صغارا ً فهو في سبيل‬
‫الله‪ ،‬وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين‬
‫فهو في سبيل الله‪ ،‬وإن كان يسعى على نفسه‬
‫فها فهو في سبيل الله‪ ،‬وإن كان خرج رياء‬‫يع ُّ‬
‫(‪)2‬‬
‫ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان))‪.‬‬
‫لكن الكسب نوعان‪ :‬طيب وخبيث‪ ،‬فالطيب هو‬
‫الرزق الذي يكتسبه المرء بوسائل الكسب المشروعة‬
‫كالتجارة والصناعة والزراعة والوظائف العامة‬

‫‪)( 1‬أخرجه ابن ماجه ح (‪.)2138‬‬


‫‪)( 2‬أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (‪ ،)15619‬وصححه‬
‫اللباني في صحيح الترغيب والترهيب ح (‪.)1692‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)64‬‬
‫السلم‬

‫والخاصة ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما‬


‫رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون﴾ (البقرة‪:‬‬
‫‪.)172‬‬
‫وأما الخبيث من الكسب فهو حيازة المال‬
‫بالطرائق الملتوية كالربا والرشوة والغش والغبن‬
‫والحيلة أو المتاجرة بالسلع الضارة للنسانية ﴿ول‬
‫تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام‬
‫لتأكلوا فريقا ً من أموال الناس بالثم وأنتم تعلمون﴾‬
‫(البقرة‪.)188 :‬‬
‫وللسلم قاعدة جامعة في هذا الشأن ﴿ويحل‬
‫لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث﴾ (العراف‪:‬‬
‫‪ ،)157‬فكل كسب للمال ل يؤذي صاحبه ول الخرين‬
‫فهو حلل طيب‪ ،‬وكل ما عداه حرام خبيث‪.‬‬
‫وكذا يوجه السلم إلى المصارف الصحيحة للمال‪،‬‬
‫فامتلك النسان للمال ل يسوغ له إنفاقه كيفما‬
‫اتفق‪ ،‬فالسراف والتبذير في إنفاق المال‪،‬‬
‫والتقصير في إخراج حقوق الفقراء عمل شيطاني‬
‫بغيض ﴿وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل‬
‫ول تبذر تبذيرا ً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين‬
‫وكان الشيطان لربه كفوراً ﴾ (السراء‪ ،)27-26 :‬وقال‬
‫‪(( :‬إن الله حرم عليكم عقوق المهات‪ ،‬ووأد البنات‪،‬‬
‫ومنع وهات‪ ،‬وكره لكم‪ :‬قيل وقال‪ ،‬وكثرة السؤال‬
‫وإضاعة المال))(‪ ،)1‬فهذا المال عطية الله‪ ،‬وقد‬
‫استخلفنا عليه لننفقه في الوجه المشروعة‪،‬‬
‫وأعظمها الصدقة على الفقراء والمساكين ﴿وآتوهم‬
‫من مال الله الذي آتاكم﴾ (النور‪﴿ ،)33 :‬وأنفقوا مما‬
‫جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا‬
‫لهم أجٌر كبيٌر (الحديد‪.)7 :‬‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)2408‬ومسلم ح (‪.)1715‬‬
‫(‪)65‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫وهكذا فهذه الضرورات الخمس التي تمثل أهم‬


‫حقوق النسان في الحياة تدور على حفظها سائر‬
‫تشريعات السلم‪ ،‬فمن التزمها أكرمه الله بالسعادة‬
‫في الدنيا والنجاة في الخرة‪ ،‬ومن تنكبها شقي في‬
‫الدنيا بمقدار ما أعرض عن هدي الله وناموسه‬
‫العادل والكامل ﴿فمن اتبع هداي فل يضل ول يشقى‬
‫ة ضنكاً‬
‫ومن أعرض عن ذكري فإن له معيش ً‬
‫قال رب لم حشرتني‬ ‫ونحشره يوم القيامة أعمى‬
‫أعمى وقد كنت بصيرا ً قال كذلك أتتك آياتنا‬
‫فنسيتها وكذلك اليوم تنسى﴾ (طه‪.)126-123 :‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)66‬‬
‫السلم‬

‫أركان اليمان‬
‫اليمان هو المرتبة التي يسمو إليها المسلم بعد‬
‫إسلمه‪ ،‬فيرنو إلى الرتقاء بإسلمه إلى مرتبة‬
‫اليمان‪ ،‬فل يقف في دينه عند عتبة العبادات‬
‫الظاهرة‪ ،‬بل يترقى في كمالت اليمان بمقدار ما‬
‫عبِه التي تشمل العتقاد‬ ‫يتمثل في سلوكه من ُ‬
‫ش َ‬
‫والعبادة والخلق‪ ،‬قال ‪(( :‬اليمان بضع وسبعون أو‬
‫بضع وستون شعبة‪ ،‬فأفضلها قول‪ :‬ل إله إل الله‪،‬‬
‫وأدناها إماطة الذى عن الطريق‪ ،‬والحياء شعبة من‬
‫(‪)1‬‬
‫اليمان))‪.‬‬
‫وأما أركان اليمان فهي ستة يوضحها حديث‬
‫جبريل حين سأل النبي عن اليمان فأجاب النبي ‪:‬‬
‫((أن تؤمن بالله‪ ،‬وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم‬
‫(‪)2‬‬
‫الخر‪ ،‬وتؤمن بالقدر خيره وشره))‪.‬‬
‫وهكذا فأول اليمان أن ينعقد قلب المسلم على‬
‫التصديق بهذه المسائل الست‪ ،‬ثم يبرهن بعمله على‬
‫صحة إيمانه بها‪ ،‬فاليمان اعتقاد وقول وعمل‪ ،‬ويزيد‬
‫بالطاعة‪ ،‬وينقص بالمعصية‪.‬‬
‫ولما كنا قد تحدثنا عن الولى منها‪ ،‬وهي اليمان‬
‫بالله‪ ،‬نشرع بذكر بقية الركان‪.‬‬
‫اليمان بالملئكة‬
‫الملئكة مخلوقات نورانية فريدة‪ ،‬خلقها الله من‬
‫نور‪ ،‬فقد قال ‪(( :‬خلقت الملئكة من نور))(‪ ،)3‬وهم‬
‫جند الله الذين ل يعرف عددهم إل هو ﴿وما يعلم‬
‫جنود ربك إل هو وما هي إل ذكرى للبشر﴾ (المدثر‪:‬‬
‫‪.)31‬‬
‫وبسبب طبيعتهم النورانية اللطيفة فإن الملئكة‬
‫يقدرون على التشكل في هيئة أجسام كثيفة‪،‬‬
‫كصورة البشر‪ ،‬فقد ظهرت الملئكة بصورة بشرية‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)9‬ومسلم ح (‪ ،)35‬واللفظ له‬
‫‪ )(2‬أخرجه مسلم ح (‪.)8‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه مسلم ح (‪.)2996‬‬
‫(‪)67‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫لبراهيم ثم لوط ‪ ،‬وكذا ظهر الملك جبريل لمريم‬


‫عليها السلم على صورة رجل‪ ﴿ :‬فأرسلنا إليها‬
‫روحنا فتمثل لها بشرا ً سويا ً قالت إني أعوذ‬
‫بالرحمـن منك إن كنت تقيا ً قال إنما أنا رسول‬
‫ربك لهب لك غلما ً زكياً ﴾ (مريم‪.)19-17 :‬‬
‫وهذه الصورة البشرية في الظهور الملئكي يأنس‬
‫لها قلب النسان‪ ،‬لذا كثيرا ً ما نزل بها جبريل على‬
‫النبي ‪ ،‬فقد سأل الحارث بن هشام رسول الله ‪:‬‬
‫كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ‪(( :‬أحياناً‬
‫يأتيني مثل صلصلة الجرس‪ ،‬وهو أشده علي‪ ،‬فيفصم‬
‫عني وقد وعيت عنه ما قال‪ ،‬وأحيانا ً يتمثل لي الملَك‬
‫(‪)1‬‬
‫رجلً‪ ،‬فيكلمني فأعي ما يقول))‪.‬‬
‫والملئكة عباد لله مكرمون مفطورون على عبادة‬
‫الله بل كلل ول فتور‪ ،‬فهم ﴿يسبحون الليل والنهار‬
‫ل يفترون﴾ (النبياء‪ ،)20 :‬وكذلك فإنهم ل يسأمون‬
‫من عبادة الله ﴿يسبحون له بالليل والنهار وهم ل‬
‫يسـئمون﴾ (فصلت‪.)38 :‬‬
‫لقد استحقوا وصف الله لهم بالكرام البررة‬
‫(عبس‪ ،)16 :‬فهم ﴿ل يعصون الله ما أمرهم ويفعلون‬
‫ما يؤمرون ﴾ (التحريم‪.)6 :‬‬
‫وللملئكة أفعال تختص بالنسان‪ ،‬منها مرافقة‬
‫النسان في حياته وتسجيل أعماله‪ ،‬والشهادة عليه‬
‫بما صنعه يوم القيامة ﴿وإن عليكم لحـافظين كراماً‬
‫كـاتبين يعلمون ما تفعلون﴾ (النفطار‪،)12-10 :‬‬
‫فالملئكة تسجل عليه سائر أقواله وأفعاله‪﴿ :‬إذ‬
‫يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما‬
‫يلفظ من قول إل لديه رقيب عتيد﴾ (سورة ق‪-17 :‬‬
‫‪ ،)18‬ومعرفة المؤمن بمعية الملئكة له أدعى في‬
‫الحياء منهم أن يسجلوا عليه سيئة وهم البرار الذين‬
‫ل يفترون من عبادة الله‪.‬‬
‫()أخرجه البخاري ح (‪ ،)2‬ومسلم ح (‪.)2333‬‬ ‫‪1‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)68‬‬
‫السلم‬

‫والملئكة جند الله المنفذون لوامره وحكمه في‬


‫أعدائه‪ ،‬فينزلون العقوبة بالمجرمين المستحقين‬
‫لعذاب الله‪ ،‬كما أرسلهم الله لعذاب قوم هود وقوم‬
‫صالح وقوم لوط‪.‬‬
‫ومن وظائف الملئكة قبض الرواح التي ختم الله‬
‫ة‬
‫آجالها ﴿وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظ ً‬
‫حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم ل‬
‫يفرطون﴾ (النعام‪﴿ ،)61 :‬قل يتوفـاكم ملك الموت‬
‫كّل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ﴾ (السجدة‪.)11 :‬‬ ‫و ِ‬
‫الذي ُ‬
‫والملئكة يحبون ما أحبه الله‪ ،‬فيحبون المؤمنين‬
‫والتقياء من عباد الله‪ ،‬ويستغفرون لهم‪ ،‬قال الله‬
‫تعالى‪﴿ :‬الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون‬
‫بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا‬
‫ة وعلما ً فاغفر للذين تابوا‬
‫وسعت كـل شيء رحم ً‬
‫واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم﴾ (غافر‪.)7 :‬‬
‫وقال ‪(( :‬فإذا صلى [أي المؤمن] لم تزل‬
‫الملئكة تصلي عليه ما دام في مصله‪ :‬اللهم صل‬
‫(‪)1‬‬
‫عليه‪ ،‬اللهم ارحمه))‪.‬‬
‫ويتواصل استغفار الملئكة ليشمل جميع‬
‫المؤمنين كما قال الله‪ ﴿ :‬والملئكة يسبحون بحمد‬
‫ربهم ويستغفرون لمن في الرض أل إن الله هو‬
‫الغفور الرحيم﴾ (الشورى‪.)5 :‬‬
‫وأما من كفر وعصى فالملئكة تدعو عليه‬
‫باللعنة ﴿إن الذين كفروا وماتوا وهم كفاٌر أولئك‬
‫عليهم لعنة الله والملئكة والناس أجمعين﴾ (البقرة‪:‬‬
‫‪.)161‬‬
‫فإذا قامت القيامة استقبلت الملئكة المؤمنين‬
‫في الجنات‪ ،‬وساقت المجرمين والكافرين إلى‬
‫الدركات‪ ،‬فعن استقبالهم للمؤمنين وتهنئتهم إياهم‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)647‬ومسلم ح (‪ ،)649‬واللفظ للبخاري‪.‬‬


‫(‪)69‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫يقول الله تعالى‪﴿ :‬والملئكة يدخلون عليهم من كل‬


‫م عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار﴾‬
‫سل ٌ‬ ‫ب‬
‫با ٍ‬
‫(الرعد‪ ،)24-23 :‬وأما الكافرون فتعذبهم الملئكة في‬
‫ة غل ٌ‬
‫ظ‬ ‫نار ﴿وقودها الناس والحجارة عليها ملئك ٌ‬
‫شدادٌ ل يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾‬
‫(التحريم‪.)6:‬‬
‫اليمان بالكتب‬
‫ولما كانت وظيفة الرسل حمل الهداية اللهية إلى‬
‫البشرية فقد أنزل الله عليهم هديه ووحيه‪ ،‬ليستنقذ‬
‫ة واحدةً‬‫به البشرية من ضللها وتيهها ﴿كان الناس أم ً‬
‫فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم‬
‫الكتـاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾‬
‫(البقرة‪.)213 :‬‬
‫وهذه الكتــــب اللهيــــة تحمــــل رســــالة الله إلى‬
‫النســان‪ ،‬وتبعا ً لذلك فهــي تتصــف بصــفات منزلهــا‪،‬‬
‫فهــي الهدى والنور‪ ،‬وقــد وصــف الله توراتــه التــي‬
‫أنزلهــا على موســى بقوله‪﴿ :‬إنــا أنزلنــا التوراة فيهــا‬
‫هدى ونور﴾ (المائدة‪ ،)44 :‬ومثله قال فــــي وصــــف‬
‫النجيـــل الذي أنزله على عيســـى عليـــه الســـلم‪﴿ :‬‬
‫وآتيناه النج يل فيـه هدى ونور وم صدقا ً ل ما بيـن يد يه‬
‫ة للمتقيـن﴾ (المائدة‪،)46 :‬‬ ‫مـن التوراة وهدى وموعظ ً‬
‫وهكذا فالهدى والنور صـفة لزمـة لكـل وحـي يوحيـه‬
‫الله إلى نبي من أنبيائه‪.‬‬
‫والمســلم يؤمــن بكــل وحــي لله امتثال ً لمــر الله‬
‫منوا بالله‬
‫منوا آ ِ‬ ‫وتصــديقا ً لكلمــه‪﴿ :‬يــا أيهــا الذيــن آ َ‬
‫ورســوله والكتـــاب الذي نزل على رســوله والكتـــاب‬
‫الذي أنزل مـن قبـل ومـن يكفـر بالله وملئكتـه وكتبـه‬
‫ورسـله واليوم الخـر فقـد ضـل ضلل ً بعيداً ﴾ (النسـاء‪:‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)70‬‬
‫السلم‬

‫‪ ،)136‬فالكفر بأحد كتب الله هو كفر بها جميعاً‪.‬‬


‫ويأمــر الله نــبيه والمؤمنيــن بــه‪ ،‬فيقول‪﴿ :‬قولوا‬
‫آمنـــا بالله ومـــا أنزل إلينـــا ومـــا أنزل إلى إبراهيـــم‬
‫وإســماعيل وإســحاق ويعقوب والســباط ومــا أوتــي‬
‫موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ل نفرق‬
‫بيــن أحــد منهــم ونحــن له مســلمون﴾ (البقرة‪.)136 :‬‬
‫(وانظر آل عمران‪.)84 :‬‬
‫وقـد أمـر الله جـل وعل المـم السـابقة بحفـظ مـا‬
‫أنزل الله إليهــم مــن كتاب‪ ،‬كمــا قال ســبحانه‪ ﴿ :‬إنــا‬
‫أنزلنا التوراة فيها هدى ونوٌر يحكم بها النبيون الذين‬
‫أســـــلموا للذيـــــن هادوا والربانيون والحبار بمـــــا‬
‫اســــتحفظوا مــــن كتاب الله وكانوا عليــــه شهداء﴾‬
‫(المائدة‪ ،)44 :‬فأضاعهــــــا الولون‪ ،‬ولم يكونوا أمناء‬
‫عليهـا‪ ،‬فصـارت نهبـة للتحريـف والتبديـل ‪ ،‬فتعرضـت‬
‫للزيادة‪ ،‬حين أضيف إليها ما لم ينزله الله ﴿وإن منهم‬
‫لفريقا ً يلوون ألســـنتهم بالكتــــاب لتحســـبوه مـــن‬
‫الكتـاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله‬
‫ومـا هـو مـن عنـد الله ويقولون على الله الكذب وهـم‬
‫يعلمون﴾ (آل عمران‪.)78 :‬‬
‫وقــد توعــد الله بعذابــه الذيــن فعلوا ذلك‪﴿ :‬فويــل‬
‫للذيــن يكتبون الكتـــاب بأيديهــم ثــم يقولون هذا مــن‬
‫عنـد الله ليشتروا بـه ثمنا ً قليل ً فويـل لهـم ممـا كتبـت‬
‫أيديهم وويل لهم مما يكسبون﴾ (البقرة‪.)79 :‬‬
‫كما تعرضت هذه الكتب للنقصان والضياع المتعمد‬
‫الذي توعــد الله أيضا ً فاعله بأليــم العذاب فقال‪﴿ :‬إن‬
‫الذيـن يكتمون مـا أنزل الله مـن الكتــاب ويشترون بـه‬
‫ثمنا َ قليل ً أولــئك مـا يأكلون فـي بطونهـم إل النار ول‬
‫يكلمهــم الله يوم القيـــامة ول يزكيهــم ولهــم عذاب‬
‫أليم﴾ (البقرة‪.)174 :‬‬
‫(‪)71‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫وممــا ضاع مــن الكتــب الســابقة؛ النجيــل(‪ )1‬الذي‬


‫أنزله الله على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلم‬
‫﴿ومن الذين قالوا إنا نصـارى أخذنا ميثـاقهم فنسوا‬
‫حظا ً مما ذكروا به﴾ (المائدة‪.)14 :‬‬
‫ولتـبيان الحقيقـة الضائعـة مـن الكتـب السـابقة أو‬
‫المطموســة بالتحريــف والتبديــل فيهــا؛ أرســل الله‬
‫محمدا ً برســالته الخاتمــة‪ ،‬وأعطاه القرآن الذي جعله‬
‫أيضا ً نورا ً وهدى ورحمــة للناس جميعاً‪ ،‬فدعاهــم الله‬
‫إلى اليمان بـه ﴿يــا أهـل الكتــاب قـد جاءكـم رسـولنا‬
‫يـبين لكـم كثيرا ً ممـا كنتـم تخفون مـن الكتــاب ويعفـو‬
‫عــن كثيــر قــد جاءكــم مــن الله نور وكتـــاب مــبين﴾‬
‫(المائدة‪.)15 :‬‬
‫وبهذا أصبح القرآن خاتمة وحي الله المصدق لما‬
‫سبقه والمهيمن عليه بما خصه الله من الحفظ‬
‫والبيان قال تعالى‪﴿ :‬وأنزلنا إليك الكتـاب بالحق‬
‫مصدقا ً لما بين يديه من الكتـاب ومهيمنا ً عليه فاحكم‬
‫بينهم بما أنزل الله ول تتبع أهواءهم عما جاءك من‬
‫ة ومنهـاجاً ﴾ (المائدة‪:‬‬‫الحق لكل جعلنا منكم شرع ً‬
‫‪.)48‬‬
‫وتكاملت نعمة الله على عباده بهذا الكتاب الذي‬
‫سماه الله القرآن العظيم‪ ،‬وبالرسول الذي يبلغ إلى‬
‫منَّة البالغة ﴿لقد م َّ‬
‫ن الله‬ ‫العالمين‪ ،‬فلله في ذلك ال ِ‬
‫على المؤمنين إذ بعث فيهم رسول ً من أنفسهم‬
‫يتلوا عليهم آيـاته ويزكيهم ويعلمهم الكتـاب‬
‫والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلل مبين﴾ (آل‬

‫‪)( 1‬ما نجده اليوم بين أيدي النصارى ليس إنجيل الله المنزل‬
‫على عيسى‪ ،‬بل الناجيل المنسوبة إلى تلميذ المسيح‬
‫وتلميذهم ‪ ،‬وتتضمن تأليفات شخصية لهم سجلوا فيها سيرة‬
‫المسيح عليه السلم وأخبار دعوته ومعجزاته‪ ،‬ول تخلو هذه‬
‫المؤلفات البشرية من بعض وصايا الله لعيسى ووحيه إليه‪.‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)72‬‬
‫السلم‬

‫عمران‪.)164 :‬‬
‫وحتــى تبقــى كلمــة الله شاهدة على خلقــه جيلً‬
‫فجيـل؛ تكفـل الله جـل وعل بحفـظ كتابـه الخيـر ﴿إنـا‬
‫نحــن نزلنــا الذكــر وإنــا له لحـــافظون﴾ (الحجــر‪،)9 :‬‬
‫فإذا قرأناه‬ ‫وقال لنـبيه ‪﴿ :‬إن علينـا جمعـه وقرآنـه‬
‫فاتبـع قرآنـه ثـم إن علينـا بيانـه﴾ (القيامـة‪،)19-17 :‬‬
‫ب اللهي الوحيد المحفوظ‬ ‫ن الكتا َ‬
‫وهكذا أضحى القرآ ُ‬
‫ب عزيٌز ل يأتيه الباطل من‬ ‫بحفظ الله له ﴿وإنه لكتا ٌ‬
‫د﴾‬ ‫بيــن يديــه ول مــن خلفــه تنزي ٌ‬
‫ل مــن حكيمــ ٍ حمي ٍ‬
‫(فصلت‪.)42-41 :‬‬
‫وحتـى يحفـظ الله كتابـه ي َّـ‬
‫سره للحفـظ‪ ،‬وأنزله فـي‬
‫أمة أمية ل تقرأ ول تكتب‪ ،‬وإنما تعتمد الحفظ وسيلة‬
‫للمحافظة على تراثها وتاريخها وأشعارها وأنسابها ﴿‬
‫ولقـد يسـرنا القرآن للذكـر فهـل مـن مدكـر﴾ (القمـر‪:‬‬
‫‪ ،)17‬وأنزله منجما ً مفرقا ً على مدى ثلث وعشريــــن‬
‫ســـنة‪ ،‬ليســـهل حفظـــه ومدارســـته على النـــبي‬
‫وأصحابه‪.‬‬
‫وقـد حفـظ النـبي القرآن‪ ،‬وتعهده الله بمدارسـته‬
‫مــع جبريــل عليــه الســلم مــن كــل عام فــي شهــر‬
‫رمضان‪ ،‬يقول ابــن عباس‪( :‬كان رســول الله أجود‬
‫الناس‪ ،‬وكان أجود مــا يكون فــي رمضان حيــن يلقاه‬
‫جبريـــل‪ ،‬وكان يلقاه فـــي كـــل ليلة مـــن رمضان‪،‬‬
‫فيدارسه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الريح‬
‫(‪)1‬‬
‫المرسلة)‪.‬‬
‫ويخبرنــا القرآن عــن حرص النــبي على حفــظ‬
‫النـص القرآنـي‪ ،‬فقـد كان يردده حال سـماعه له مـن‬
‫جبريــل عليــه الســلم‪ ،‬خشيــة أن ينســى بعضا ً منــه ‪،‬‬

‫()أخرجه البخاري ح (‪ ،)1902‬ومسلم ح (‪.)2308‬‬ ‫‪1‬‬


‫(‪)73‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫فطمأن الله روعه‪ ،‬وأعلمه أن القرآن محفوظ بحفظ‬


‫الله‪﴿ :‬ول تعجــل بالقرآن مــن قبــل أن يقضــى إليــك‬
‫وحيه وقل رب زد ني علماً ﴾ ( طه‪ ،)114 :‬وقال له‪﴿ :‬ل‬
‫إن علينـا جمعـه وقرآنـه﴾‬ ‫تحرك بـه لسـانك لتعجـل بـه‬
‫(القيامة‪.)17-16 :‬‬
‫وقــد حرص النــبي على تعليــم أصــحابه القرآن‪،‬‬
‫وكانوا يتعاهدون بــه مــن أســلم حديثاً‪ ،‬فيبادرون إلى‬
‫تعلي مه مـا نزل مـن القرآن‪ ،‬يقول عبادة بن ال صامت‪:‬‬
‫غل‪ ،‬فإذا قدم رجـل مهاجـر على‬ ‫(كان رسـول الله يُش َـ‬
‫(‪)1‬‬
‫رسول الله دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن)‪.‬‬
‫وكان الصحابة يتابعون باهتمام بالغ يوميا ً ما ينزل‬
‫من القرآن‪ ،‬يقول عمر بن الخطاب ‪ :‬كنت أنا وجاٌر‬
‫لي من النصار في بني أمية بن زيد ‪-‬وهي من‬
‫ل على رسول الله‬ ‫ب النزو َ‬
‫عوالي المدينة ‪-‬وكنا نتناو ُ‬
‫ه بخبر ذلك‬ ‫ت جئت ُ‬‫ينزل يوماً‪ ،‬وأنزل يوما ً ‪ ،‬فإذا نزل ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫ل مثل ذلك‪.‬‬ ‫اليوم من الوحي وغيره‪ ،‬وإذا نزل فع َ‬
‫وحث النبي أصحابه على تعلم القرآن‪ ،‬فقال‬
‫مستحثا ً لهممهم‪(( :‬خيركم من تعلم القرآن‬
‫وعلمه))(‪ ،)3‬وأخبرهم أنه ((يقال لصاحب القرآن إذا‬
‫دخل الجنة‪ :‬اقرأ واصعد‪ ،‬فيقرأ‪ ،‬ويصعد بكل آية‬
‫درجة‪ ،‬حتى يقرأ آخر شيء معه)) (‪ ،)4‬فقراءة القرآن‬
‫وحفظه من أفضل العبادات‪ ،‬و((الماهر بالقرآن مع‬
‫السفرة الكرام البررة‪ ،‬والذي يقرأ القرآن ويتتعتع‬
‫(‪)5‬‬
‫فيه ‪ ،‬وهو عليه شاق؛ له أجران))‪.‬‬
‫وقـــد ســـارع الصـــحابة إلى حفـــظ ســـور القرآن‬
‫أحمد ح (‪.)22260‬‬ ‫‪ )(1‬أخرجه‬
‫البخاري ح (‪ ،)89‬ومسلم ح (‪ ،)89‬واللفظ للبخاري‪.‬‬ ‫‪)( 2‬أخرجه‬
‫البخاري ح (‪.)5027‬‬ ‫‪)( 3‬أخرجه‬
‫ابن ماجه ح (‪.)3780‬‬ ‫‪ )(4‬أخرجه‬
‫البخاري ح (‪ ،)4937‬ومسلم ح (‪ ،)798‬واللفظ له‪.‬‬ ‫‪ )(5‬أخرجه‬
‫تعرف على‬
‫(‪)74‬‬
‫السلم‬

‫ومدارســتها وتعلم مــا فيهــا مــن معان وأحكام‪ ،‬فكان‬


‫منهــم مئات القراء‪ ،‬وقــد أتــم بعضهــم حفــظ كامــل‬
‫م‬
‫القرآن فــي عهــد النــبي ‪ ،‬فقــد ســأل قتادة خاد َــ‬
‫النـبي أنـس بـن مالك‪ :‬مـن جمـع القرآن على عهـد‬
‫النبي ؟ فقال أنس‪( :‬أربعة‪ ،‬كلهم من النصار‪ :‬أبي‬
‫(‪)1‬‬
‫بن كعب‪ ،‬ومعاذ بن جبل‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وأبو زيد)‪.‬‬
‫وممن حفظه من نساء الصحابة أم ورقة بنت عبد‬
‫الله بــن الحارث النصــاري‪ ،‬فأمرهــا النــبي أن تؤم‬
‫(‪)2‬‬
‫أهل دارها‪ ،‬وكان لها مؤذن‪ ،‬فكانت تؤم أهل دارها‪.‬‬
‫وقـــد نقـــل القرآن الكريـــم بحفـــظ الجموع عـــن‬
‫الجموع فـي كـل عصـر‪ ،‬وكان القرآن كمـا وصـفه الله‬
‫لرســوله‪ ،‬حيــن قال له فــي الحديــث القدســي الذي‬
‫يرويـه النـبي عـن ربـه تبارك وتعالى‪(( :‬ومنزل عليـك‬
‫(‪)3‬‬
‫كتابا ً ل يغسله الماء‪ ،‬تقرؤه نائما ً ويقظان))‪.‬‬
‫يقول ابـــن الجزري‪" :‬العتماد فـــي نقـــل القرآن‬
‫على حفـــــظ القلوب والصـــــدور‪ ،‬ل على حفـــــظ‬
‫المصــاحف والكتــب‪ ،‬وهذه أشرف خصــيصة مــن الله‬
‫تعالى لهذه المـة ‪ ..‬فأخـبر تعالى أن القرآن ل يحتاج‬
‫في حف ظه إلى صحيفة تغسل بالماء‪ ،‬بل يقرؤه في‬
‫كـل حال‪ ،‬كمـا جاء فـي صـفة أمتـه‪(( :‬أناجيلهـم فـي‬
‫(‪)4‬‬
‫صدورهم))"‪.‬‬
‫وحتـى نقـف على كثرة هؤلء القراء مـن الصـحابة‬
‫يكفينا أن نذكر أنه قد قتل منهم في يوم بئر معونة‬
‫سـبعون‪ ،‬يقول أنـس‪( :‬جاء ناس إلى النـبي فقالوا‪:‬‬
‫ابعث معنا رجال ً يعلمونا القرآن والسنة‪ .‬فبعث إليهم‬
‫سـبعين رجل ً مـن النصـار يقال لهـم القراء‪ ،‬يقرؤون‬
‫‪)( 1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)5003‬ومسلم ح (‪.)2465‬‬
‫‪)( 2‬أخرجه أبو داود ح (‪ ،)591‬وأحمد ح (‪.)26739‬‬
‫‪)( 3‬أخرجه مسلم ح (‪.)2865‬‬
‫‪)( 4‬النشر‪ ،)1/6( :‬والحديث أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح‬
‫(‪ ،)9903‬والبيهقي في دلئل النبوة ح (‪.)343‬‬
‫(‪)75‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫القرآن‪ ،‬ويتدارسون بالليل يتعلمون ‪ ..‬فبعثهم النبي‬


‫(‪)1‬‬
‫إليهم‪ ،‬فعرضوا لهم‪ ،‬فقتلوهم)‪.‬‬
‫وبعـد وفاة النـبي قتـل فـي وقعـة اليمامـة الكثيـر‬
‫مــن القراء‪ ،‬حتــى خشــي عمــر مــن ضياع شيــء مــن‬
‫القرآن‪ ،‬فقال لخليفة المسلمين أبي بكر‪( :‬إن القتل‬
‫قد استحر [أي كث ُر] يوم اليمامة بقراء القرآن‪ ،‬وإني‬
‫أخشـى أن يسـتحر القتـل بالقراء بالمواطـن)‪ )2(.‬فكان‬
‫هذا سـببا ً فـي مبادرة الصـحابة إلى جمـع القرآن فـي‬
‫مصــحف واحــد مكتوب فــي عهــد الخليفــة أبــي بكــر‬
‫الصديق‪.‬‬
‫وجمــع القرآن فــي عهــد الصــديق إنمــا كان جمعاً‬
‫للمكتوب بيـــن يدي النـــبي الذي حرص على جمـــع‬
‫القرآن فـي عهده ليتكامـل حفـظ السـطور إلى حفـظ‬
‫الصدور‪.‬‬
‫يقول عثمان بــن عفان‪ :‬إن النــبي كان إذا نزلت‬
‫عليـه اليات يدعـو بعـض مـن كان يكتـب له‪ ،‬ويقول له‪:‬‬
‫((ضــع هذه اليــة فــي الســورة التــي يذكــر فيهــا كذا‬
‫(‪)3‬‬
‫وكذا))‪.‬‬
‫وكان الصـحابة يكتبون كـل مـا نزل‪ ،‬بـل ويسـارعون‬
‫إليـه مهمـا كثـر‪ ،‬ومثاله مسـارعتهم إلى كتابـة سـورة‬
‫النعام‪ ،‬وهــي مــن أطول ســور القرآن‪ ،‬نزلت دفعــة‬
‫واحدة فـي مكـة زمـن الضطهاد‪ ،‬يقول ابـن عباس ‪:‬‬
‫((نزلت جملة واحدة‪ ،‬نزلت ليلً‪ ،‬وكتبوهـا مـن ليلتهـم‬
‫(‪)4‬‬
‫غير ست آيات؛ فإنها نزلت في المدينة))‪.‬‬

‫‪ )(1‬أخرجه مسلم ح (‪.)677‬‬


‫‪)( 2‬أخرجه البخاري ح (‪.)4986‬‬
‫‪)( 3‬أخرجه أبو داود ح (‪ ،)786‬والترمذي ح (‪ ،)3086‬واللفظ لبي‬
‫داود‪.‬‬
‫‪)( 4‬ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (‪ ،)3/1‬والقاسمي في‬
‫محاسن التأويل (‪.)6/446‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)76‬‬
‫السلم‬

‫وقد أولى النبي المكتوب بين يديه اهتماما ً بالغاً‪،‬‬


‫إذ كان يستوثق من دقة المكتوب بين يديه‪ ،‬يقول زيد‬
‫ت أكتب الوحي عند رسول‬ ‫بن ثابت كاتب الوحي‪ :‬كن ُ‬
‫ي‪ ،‬فإذا فرغت‪ ،‬قال‪(( :‬اقرأه))‪،‬‬ ‫الله وهو يملي عل َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫فأقرأُه‪ ،‬فإن كان فيه سقط أقامه‪.‬‬
‫وخوفا ً مــن تداخــل المكتوب مــن القرآن مــع غيره‬
‫من كلم النبي أمر أصحابه‪ ،‬فقال‪(( :‬ل تكتبوا عني‬
‫شيئا ً إل القرآن‪ ،‬فمــن كتــب عنــي شيئا ً غيــر القرآن‬
‫(‪)2‬‬
‫فليمحه))‪.‬‬
‫ثم لحق النبي بالرفيق العلى قبل أن يجمع هذا‬
‫المكتوب بيــن يديــه فــي مصــحف واحــد‪ ،‬يقول كاتــب‬
‫الوحي زيد بن ثابت‪( :‬قبض النبي ‪ ،‬ولم يكن القرآن‬
‫(‪)3‬‬
‫جمع في شيء)‪.‬‬
‫قال الخطابـــي‪" :‬إنمـــا لم يجمـــع القرآن فـــي‬
‫المصــحف لمــا كان يترقبــه مــن ورود ناســخ لبعــض‬
‫م‬
‫أحكامـه أو تلوتـه‪ ،‬فلمـا انقضـى نزوله بوفاتـه؛ أله َـ‬
‫الله الخلفاء الراشديـــــن ذلك وفاء بوعده الصـــــادق‬
‫بضمان حفظـه على هذه المـة‪ ،‬فكان ابتداء ذلك على‬
‫(‪)4‬‬
‫يد الصديق بمشورة عمر"‪.‬‬
‫وبعــد وفاة النــبي بدأت حروب المرتديــن‪ ،‬وكان‬
‫أشدهـا معركـة اليمامـة التـي قتـل فيهـا قرابـة اللف‬
‫من أصحاب النبي ‪ ،‬وبينهم كثير من القراء‪.‬‬
‫فجاء عمـــر بـــن الخطاب إلى الخليفـــة أبـــي بكـــر‬

‫‪ )(1‬أخرجه الطبراني في الوسط ح (‪ ،)1985‬قال الهيثمي‪:‬‬


‫"أخرجه الطبراني بإسنادين‪ ،‬ورجال أحدهما ثقات"‪ .‬مجمع‬
‫الزوائد (‪.)8/257‬‬
‫‪ )(2‬أخرجه مسلم ح (‪.)3004‬‬
‫‪)( 3‬أخرجه الدير عاقولي بإسناده إلى زيد بن حارثة في فوائده‪،‬‬
‫كما نقل السيوطي في التقان في علوم القرآن (‪.)1/164‬‬
‫‪ )(4‬التقان في علوم القرآن‪ ،‬السيوطي (‪.)1/164‬‬
‫(‪)77‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫الصــديق‪ ،‬يقترح جمــع القرآن فــي مصــحف واحــد‪،‬‬


‫خشيـــة ضياعـــه بوفاة المزيـــد مـــن القراء‪ ،‬ووافـــق‬
‫الخليفـــة على المقترح ‪ ،‬وانتدب لجنـــة لذلك العمـــل‬
‫العظيم برئاسة كاتب الوحي وحافظه الشاب زيد بن‬
‫ثابـت‪ ،‬الذي يروي لنـا الخـبر بتمامـه فيقول‪( :‬أرسـل‬
‫ل أهـل اليمامـة وعنده عمـر‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫إلي أبـو بكـر مقت َ‬
‫أبـو بكـر إن عمـر أتانـي فقال‪ :‬إن القتـل قـد اسـتحر‬
‫يوم اليمامـة بالناس‪ ،‬وإنـي أخشـى أن يسـتحر القتـل‬
‫بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن‪ ،‬إل أن‬
‫تجمعوه‪ ،‬وإنـي لرى أن تجمـع القرآن‪ .‬قال أبـو بكـر‪:‬‬
‫قلت لعمــر كيــف أفعــل شيئا لم يفعله رســول الله؟‬
‫فقال عمـر‪ :‬هـو والله خيـر‪ .‬فلم يزل عمـر يراجعنـي‬
‫فيــه حتــى شرح الله لذلك صــدري‪ ،‬ورأيــت الذي رأى‬
‫عمر‪.‬‬
‫فقال أبـو بكـر‪ :‬إنـك رجـل شاب عاقـل ول نتهمـك‪،‬‬
‫كنـــت تكتـــب الوحـــي لرســـول الله ‪ ،‬فتتبـــع القرآن‬
‫فاجمعه‪.‬‬
‫قال زيد‪ :‬فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما‬
‫ي مما أمرني به من جمع القرآن‪ .‬قلت‪:‬‬ ‫كان أثقل عل ّ‬
‫كيف تفعلن شيئا لم يفعله النبي؟ فقال أبو بكر‪ :‬هو‬
‫والله خيــر‪ .‬فلم أزل أراجعــه حتــى شرح الله صــدري‬
‫للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر‪.‬‬
‫فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والكتاف‬
‫والعســب وصــدور الرجال‪ ،‬حتــى وجدت مــن ســورة‬
‫التوبـة آيتيـن مـع خزيمـة النصـاري لم أجدهمـا مـع أحـد‬
‫غيره‪﴿ :‬لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما‬
‫عنتم حريص عليكم﴾ (التوبة‪ )128 :‬إلى آخرهما‪.‬‬
‫وكانـت الصـحف التـي جمـع فيهـا القرآن عنـد أبـي‬
‫بكر حتى توفاه الله‪ ،‬ثم عند عمر حتى توفاه الله‪ ،‬ثم‬
‫(‪)1‬‬
‫عند حفصة بنت عمر)‪.‬‬
‫وتـبين لنـا روايـة أخرى المنهـج الذي اتبعـه زيـد فـي‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪.)4679‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)78‬‬
‫السلم‬

‫جمعـــه‪ ،‬إذ لم يعتمـــد على محفوظاتـــه ومحفوظات‬


‫الصـحابة‪ ،‬بـل بحـث عـن المكتوب بيـن يدي النـبي ‪،‬‬
‫والموثـق بشهادة شاهديـن يشهدان بكتابتـه بيـن يدي‬
‫النـبي ‪ ،‬يقول يحيـى بـن عبـد الرحمـن بـن حاطـب‪:‬‬
‫(قام عمــر بــن الخطاب فــي الناس فقال‪ :‬مــن كان‬
‫تلقــى مــن رســول الله شيئا ً مــن القرآن فليأتنــا بــه‪،‬‬
‫وكانوا كتبوا ذلك فـــي الصـــحف واللواح والعســـب‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وكان ل يقبل من أحد شيئا ً حتى يشهد شهيدان)‪.‬‬
‫قال أبو شامة المقدسي‪( :‬وكان غرضهم أل يكتب‬
‫إل مــن عيــن مــا ك ُ ـتب بيــن يدي النــبي‪ ،‬ل مــن مجرد‬
‫الحفظ‪ ،‬ولذلك قال في آخر سورة التوبة‪( :‬لم أجدها‬
‫مـع غيره) أي لم أجدهـا مكتوبـة مـع غيره‪ ،‬لنـه كان ل‬
‫(‪)2‬‬
‫يكتفي بالحفظ دون الكتابة)‪.‬‬
‫وهكذا أكملت اللجنة عملها بجمع ما كتب بين يدي‬
‫النـبي موثقا ً بشهادة شاهديـن على القـل‪ ،‬يشهدان‬
‫أنه كتب بين يدي النبي ‪.‬‬
‫وفـي عهـد عثمان أمـر الخليفـة بتكويـن لجنـة تعيـد‬
‫نسـخ المجموع فـي عهـد أبـي بكـر‪ ،‬كان عمادهـا أربعـة‬
‫من حفاظ القرآن (‪ ،)3‬وبدأت اللجنة بنسخ مصحف أبي‬
‫بكــر وكتابتــه وفــق لســان قريــش‪ ،‬يقول حذيفــة‪:‬‬
‫(فأرســــل عثمان إلى حفصــــة‪ :‬أن أرســــلي إلينــــا‬
‫بالصـحف؛ ننسـخها فـي المصـاحف‪ ،‬ثـم نردهـا إليـك‪،‬‬
‫فأرسلت بها حفصة إلى عثمان‪.‬‬
‫فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن‬

‫‪)( 1‬أخرجه ابن أبي داود في كتابه المصاحف ح (‪.)33‬‬


‫‪)( 2‬انظر‪ :‬التقان في علوم القرآن (‪ ،)1/167‬وفتح الباري (‬
‫‪.)8/630‬‬
‫‪ )(3‬وقد وصلت اللجنة فيما بعد إلى اثني عشر من أصحاب النبي‬
‫‪ ،‬يقول كثير بن أفلح ‪( :‬لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف‬
‫جمع له اثني عشر رجل ً من قريش والنصار‪ ،‬فيهم أُبي بن كعب‬
‫وزيد بن ثابت) أخرجه ابن أبي داود في كتابه المصاحف ح (‪.)89‬‬
‫(‪)79‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام‪ ،‬فنسخوها‬


‫فـــي المصـــاحف‪ ،‬وقال عثمان للرهـــط القرشييـــن‬
‫الثلثة‪ :‬إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من‬
‫القرآن فاكتبوه بلســــــان قريــــــش؛ فإنمــــــا نزل‬
‫(‪)1‬‬
‫بلسانهم)‪.‬‬
‫وفي رواية الترمذي أن الكتبة اختلفوا في كيفية‬
‫كتابة كلمة واحدة‪ ،‬يقول حذيفة‪( :‬فاختلفوا في‬
‫"التابوت" و" التابوة " ‪ ،‬فقال القرشيون بالول‪،‬‬
‫وقال زيد بالثاني ‪ ،‬فرفعوا اختلفهم إلى عثمان‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫فقال‪ :‬اكتبوه بالتابوت‪ ،‬فإنه نزل بلسان قريش)‪.‬‬
‫وتكامــل الجمــع العثمانــي بكتابــة ســبع نســخ مــن‬
‫المصحف‪ ،‬أرسل كل واحد منها إلى قطر من أقطار‬
‫المســـــلمين‪ ،‬ليكون إماما ً للناس‪ ،‬يضبطون وفقـــــه‬
‫مصــاحفهم‪ ،‬وأمــر عثمان مــن كان عنده شيــء مــن‬
‫صــحف القرآن أن يحرقهــا‪ ،‬يقول حذيفــة‪( :‬حتــى إذا‬
‫نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى‬
‫حفصـة‪ ،‬وأرسـل إلى كـل أفـق بمصـحف ممـا نسـخوا‪،‬‬
‫وأمــر بمــا ســواه مــن القرآن فــي كــل صــحيفة أو‬
‫(‪)3‬‬
‫مصحف أن يُحرق)‪.‬‬
‫والسبب الذي دعا الخليفة إلى طلب إحراق الناس‬
‫لما بين أيديهم من الصحف والمصاحف أن بعضها قد‬
‫ك تب ق بل العر ضة الخيرة للو حي في ال سنة الخيرة‬
‫من حياة النبي ‪ ،‬ففيها ما نسخت تلوته‪ ،‬كما يمكن‬
‫أن يقـع فـي مصـاحف الصـحابة الخاصـة نقـص آيـة أو‬
‫كلمة أو زيادة ناسخ لشرح كلمة وسواها‪ ،‬فيخشى أن‬
‫يظن من يأتي بعد ناسخها أنه من القرآن‪ ،‬كما كانت‬
‫مصــاحف الصــحابة مختلفــة فــي ترتيــب ســورها‪،‬‬
‫فمصـــحف علي مثل ً كان ترتيبـــه بحســـب النزول‪،‬‬
‫فلهذه السباب أمر عثمان بإحراق المصاحف‪.‬‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪.)3506‬‬
‫‪)( 2‬أخرجه الترمذي ح (‪. )3104‬‬
‫‪)( 3‬أخرجه البخاري ح (‪.)4988‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)80‬‬
‫السلم‬

‫وقد فعل الصحابة ذلك وامتثلوا أمر الخليفة ‪،‬‬


‫واتفقوا على صحة صنيعه‪ ،‬يقول علي ‪( :‬يا أيها‬
‫الناس‪ ،‬ل تغلوا في عثمان‪ ،‬ول تقولوا له إل خيراً‬
‫في المصاحف وإحراق المصاحف‪ ،‬فوالله ما فعل‬
‫الذي فعل في المصاحف إل عن مل منا جميعا ً ‪..‬‬
‫(‪)1‬‬
‫والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل)‪.‬‬
‫ويقول مصــعب بــن ســعد ‪( :‬أدركــت الناس حيــن‬
‫شقـق عثمان المصـاحف‪ ،‬فأعجبهــم ذلك‪ ،‬أو قال‪ :‬لم‬
‫(‪)2‬‬
‫يعب ذلك أحد)‪.‬‬
‫وامتثال الصحابة وفعلهم؛ إقرار لعثمان على صحة‬
‫مـا فعله‪ ،‬لن مـا فعله عثمان هـو إعادة نسـخ مصـحف‬
‫أبـي بكـر وفـق حرف قريـش ولسـانهم‪ ،‬ولو كان فـي‬
‫فعله شائبـة لثاروا عليـه‪ ،‬كمـا ثار عليـه مـن ثار لمور‬
‫أقــل منهــا كتوليتــه بعــض أقاربــه على بعــض مدائن‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫ومـــن المعلوم أن عثمان لم يأمـــر عماله بمتابعـــة‬
‫الناس في بيوت هم ومعرفـة مـن أحرق مـن الم سلمين‬
‫مصــحفه ومــن لم يحرق‪ ،‬فقــد فعــل المســلمون ذلك‬
‫بمحض إرادتهم واختيارهم‪.‬‬
‫وثِّق النص القرآني كتابة‪ ،‬فاجتمع إلى‬ ‫وهكذا ُ‬
‫توثيقه بحفظ الحفاظ من أصحاب النبي ‪ ،‬وتناقلت‬
‫المة في أجيالها نص القرآن الكريم‪ ،‬يحفظه في‬
‫كل عصر اللوف المؤلفة منهم‪ ،‬فوصل إلينا القرآن‬
‫الكريم محفوظا ً من أي تغيير أو تبديل أو زيادة أو‬
‫نقصان‪.‬‬
‫اليمان بالنبياء‬
‫ولكي تبلغ رسالة الله إلى العالمين اصطفى الله‬
‫خيرة من خلقه‪ ،‬فجعلهم رسل ً له‪ ،‬أولهم تعريف‬

‫‪ )(1‬أخرجه أبو بكر بن أبي داود في كتابه المصاحف ح (‪.)77‬‬


‫‪)( 2‬أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد ح (‪ ،)161‬والقاسم بن‬
‫سلم في فضائل القرآن ح (‪ ،)460‬وقال السيوطي‪ :‬إسناده‬
‫جيد‪.‬‬
‫(‪)81‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫الناس بدينهم وإبلغهم ما يريد ربهم منهم‪ ،‬فمن‬


‫أطاعهم وآمن بهم بشروه بالسعادة والرضوان‪ ،‬ومن‬
‫عصاهم أنذروه غضب الملك الديان ﴿رسل ً مبشرين‬
‫ة بعد الرسل‬‫ومنذرين لئل يكون للناس على الله حج ٌ‬
‫وكان الله عزيزا ً حكيماً ﴾ (النساء‪.)165 :‬‬
‫فبهؤلء الرسل قامت حجته تبارك وتعالى على‬
‫خلقه‪(( :‬وليس أحد أحب إليه العذر من الله‪ ،‬من أجل‬
‫(‪)1‬‬
‫ذلك أنزل الكتاب‪ ،‬وأرسل الرسل))‪.‬‬
‫والرسل والنبياء الذين أرسلهم الله كُثُر‪ ،‬فما من‬
‫أمة إل وأرسل الله فيها رسول ً يقيم حجته عليها ﴿‬
‫ة إل خل فيها نذيٌر﴾ (فاطر‪.)24 :‬‬
‫وإن من أم ٍ‬
‫وقد ذكر القرآن والسنة أسماء بعضهم ‪ ،‬وهم ‪:‬‬
‫آدم ونوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط‬
‫وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وإدريس وذو الكفل‬
‫وداود وسليمان وأيوب ويوسف ويونس وموسى‬
‫وهارون ويوشع وإلياس واليسع وزكريا ويحيى‬
‫وعيسى ومحمد صلوات الله وسلمه عليهم أجمعين‪.‬‬
‫لكن ثمة كثيرين غيرهم لم يذكرهم القرآن‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ورسل ً قد قصصناهم عليك من قبل‬
‫ورسل ً لم نقصصهم عليك﴾ (النساء‪.)164 :‬‬
‫وجميع النبياء من البشر‪ ،‬وهم ل يتميزون عن‬
‫غيرهم إل بما خصهم الله من النبوة وأنوارها‬
‫وعبقها ﴿وما أرسلنا قبلك إل رجال ً نوحي إليهم‬
‫وما جعلناهم‬ ‫فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون‬
‫جسدا ً ل يأكلون الطعام وما كانوا خالدين﴾ (النبياء‪:‬‬
‫‪ ،)8-7‬فكلهم يجري عليه ما يجري على البشر من‬
‫عوارض جسدية كالطعام والشراب والمرض‪ ،‬ومن‬
‫أقدار علوية كالبلء والموت‪.‬‬

‫()أخرجه مسلم ح (‪.)2760‬‬ ‫‪1‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)82‬‬
‫السلم‬

‫وهم ل يملكون من القدرة أكثر مما أمكنهم الله‬


‫منه ﴿قالت لهم رسلهم إن نحن إل بشٌر مثلكم ولكن‬
‫الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن‬
‫ن إل بإذن الله وعلى الله فليتوكل‬ ‫نأتيكم بسلطا ٍ‬
‫المؤمنون﴾ (إبراهيم‪.)11 :‬‬
‫وقد أيد الله هؤلء النبياء بالدلئل التي برهنت‬
‫لقوامهم على صدقهم في دعوى النبوة والرسالة‪،‬‬
‫قال ‪(( :‬ما من النبياء من نبي‪ ،‬إل قد أُعطي من‬
‫اليات‪ ،‬ما مثلُه آمن عليه البشر‪ ،‬وإنما كان الذي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ي‪ ،‬فأرجو أن أكون أكثَرهم‬ ‫ت وحيا ً أوحى الل ُ‬
‫ه إل ّ‬ ‫أوتي ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫تابعا ً يوم القيامة))‪.‬‬
‫سله؛ فإن الله‬
‫ولما كان الرسول على قدر مر ِ‬
‫اصطفى هؤلء النبياء من بين سائر خلقه‪ ،‬ليكونوا‬
‫خلقاً‪ ،‬بل‬
‫رسله وسفراءه إلى خلقه‪ ،‬فهم خيرتهم ُ‬
‫خلقاً‪.‬‬ ‫و َ‬
‫ومن صفاتهم عليهم السلم تحملهم المشاق‬
‫والبلء في سبيل إقامة دينه ﴿الذين يبلغون رسالت‬
‫الله ويخشونه ول يخشون أحدا ً إل الله وكفى بالله‬
‫حسيباً ﴾ (الحزاب‪ ،)39 :‬وهم في بلغهم لرسالة الله‬
‫ل يطلبون الجر من الناس‪ ،‬فقد قال نوح عليه‬
‫السلم‪﴿ :‬ويا قوم ل أسألكم عليه مال ً إن أجري إل‬
‫أن يقول‬ ‫على الله﴾ (هود‪ ،)29 :‬وقد أمر الله نبيه‬
‫للناس ما قاله إخوانه النبياء‪﴿ :‬قل ما أسألكم عليه‬
‫من أجر إل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلً ﴾‬
‫(الفرقان‪.)57 :‬‬
‫ولما تمثل بهؤلء النبياء من الكمالت؛ فإن الله‬
‫أمر نبيه محمدا ً والمؤمنين من بعده بالتأسي بهم‪،‬‬
‫فقال بعد أن عدَّد أسماء ثمانية عشر رسولً‪﴿ :‬أولئك‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)4981‬ومسلم ح (‪ ،)152‬واللفظ له‪.‬‬


‫(‪)83‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها‬


‫هؤلء فقد وكلنا بها قوما ً ليسوا بها بكافرين أولئك‬
‫الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ (النعام‪،)89-88 :‬‬
‫فتمثل النبي هديهم‪ ،‬ومشى على غرزهم‪ ،‬فرفع‬
‫الله قدره‪ ،‬وأعلى ذكره‪ ،‬وجعله أسوة حسنة للعالمين‬
‫ة لمن كان‬‫﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسن ٌ‬
‫يرجو الله واليوم الخر وذكر الله كثيراً﴾ (الحزاب‪:‬‬
‫‪.)21‬‬
‫وقد كانت دعوة هؤلء جميعا ً واحدة في أصولها‪،‬‬
‫وهي الدعوة إلى عبادة الله الواحد دون سواه ﴿وما‬
‫أرسلنا من قبلك من رسول إل نوحي إليه أنه ل إله‬
‫إل أنا فاعبدون﴾ (النبياء‪ ،)25 :‬كما أن أصول‬
‫شرائعهم وجوهرها واحد ﴿شرع لكم من الدين ما‬
‫وصى به نوحا ً والذي أوحينا إليك وما وصينا به‬
‫إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ول‬
‫تتفرقوا فيه﴾ (الشورى‪.)13 :‬‬
‫وعليه فالمسلم يؤمن بجميع النبياء بل تفريق‬
‫بينهم ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه‬
‫والمؤمنون كل آمن بالله وملئكته وكتبه ورسله ل‬
‫د من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا‬ ‫نفرق بين أح ٍ‬
‫غفرانك ربنا وإليك المصير﴾ (البقرة‪.)285 :‬‬
‫والكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل وبمن‬
‫أرسلهم وبالرسالة الواحدة التي يحملونها ﴿إن الذين‬
‫يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله‬
‫ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون‬
‫أن يتخذوا بين ذلك سبيل ً أولـئك هم الكـافرون‬
‫حقاً ﴾ (النساء‪.)151 -150 :‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)84‬‬
‫السلم‬

‫أما طرائق الوحي التي يوحي الله بها إلى هؤلء‬


‫النبياء‪ ،‬فتتلخص في ثلثة طرق‪ :‬الول‪ :‬خطاب الله‬
‫المباشر‪ ،‬كما كلم الله موسى في الوادي المقدس‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬الوحي الذي يقذفه الله في قلب النبي‪،‬‬
‫والثالث‪ :‬ما يحمله ملك الله إلى النبي من وحي‬
‫الله‪ ،‬سواء ظهر له على شكل بشري إيناسا ً له أو‬
‫على صورته الحقيقية‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وما كان لبشر‬
‫أن يكلمه الله إل وحيا ً أو من وراء حجاب أو يرسل‬
‫رسول ً فيوحي بإذنه ما يشاء﴾ (الشورى‪.)51 :‬‬
‫وجميع هؤلء الرسل من أهل الفضل والكمال‪،‬‬
‫لكنهم متفاوتون في أقدارهم عند الله ﴿تلك الرسل‬
‫فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع‬
‫بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات‬
‫وأيدناه بروح القدس﴾ (البقرة‪.)253 :‬‬
‫وأفضلهم أولو العزم‪ ،‬وهم خمسة ذكرهم الله‬
‫بقوله‪﴿ :‬وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن‬
‫نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم﴾ (الحزاب‪:‬‬
‫‪ ،)7‬وقد أمر الله نبيه بالصبر على الدعوة ومشاقها‬
‫اقتداء بمن سبقه من أولي العزم من الرسل ﴿‬
‫فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل﴾ (الحقاف‪:‬‬
‫‪.)35‬‬
‫وأفضل هؤلء النبياء عند الله خاتمهم الذي‬
‫ارتضاه الله للبشرية كلها نبيا ً ورسولً‪ ،‬محمد بن عبد‬
‫الله الذي قال مخبرا ً عن منزلته عند ربه‪(( :‬أنا سيد‬
‫ولد آدم يوم القيامة))‪ ،‬وفي رواية‪(( :‬أنا سيد ولد‬
‫آدم يوم القيامة‪ ،‬ول فخر))‪ )1( .‬أي ل أفخر على أحد‬
‫بذلك‪ ،‬إنما أبلغ بما خصني الله من الشرف‬
‫والمنـزلة‪.‬‬
‫‪ )(1‬أخرجه مسلم ح (‪ ،)2278‬والترمذي ح (‪ ،)1348‬وابن ماجه ح (‬
‫‪ ،)4308‬وأحمد ح (‪.)2542‬‬
‫(‪)85‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫ولكي ل توهم المفاضلة بين النبياء نقصا ً في‬


‫المفضول؛ فإن النبي نهى عنها‪ ،‬فقال لمن قال‬
‫بأنه خير من موسى‪(( :‬ل تخيروني على موسى‪ ،‬فإن‬
‫الناس يصعقون يوم القيامة‪ ،‬فأصعق معهم‪ ،‬فأكون‬
‫أول من يفيق‪ ،‬فإذا موسى باطش جانب العرش‪ ،‬فل‬
‫أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي‪ ،‬أو كان ممن‬
‫(‪)1‬‬
‫استثنى الله))‪.‬‬
‫اليمان بالقضاء والقدر‬
‫وسادس أركان اليمان هو اليمان بقضاء الله‬
‫وقدره‪ ،‬وأن كل ما يجري في هذه الدنيا من خير أو‬
‫شر إنما يجري بقضاء الله الذي ل راد له ول مانع‬
‫منه‪ ،‬فقد كتبه الله قبل أن يخلق الخلق بدهر طويل‪.‬‬
‫وتتضمن عقيدة المسلم في القضاء والقدر ثلث‬
‫مسائل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أن الله عز وجل عليم بكل شيء‪ ،‬وأن كل‬
‫ما يحصل منا من خير أو شر قد علمه الله أزلً‪ ،‬وهو‬
‫مصداق قوله تعالى‪﴿ :‬الله الذي خلق سبع سمـاوات‬
‫ومن الرض مثلهن يتنزل المر بينهن لتعلموا أن‬
‫الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل‬
‫شيء علماً ﴾ (الطلق‪.)12 :‬‬
‫الثانية‪ :‬أن الله كتب ما علمه‪ ،‬قال الله تعالى‪﴿ :‬‬
‫ألم تعلم أن لله يعلم ما في السماء والرض إن ذلك‬
‫في كتـاب إن ذلك على الله يسير﴾ (الحج‪،)70 :‬‬
‫وقال‪﴿ :‬وكل شيء أحصيناه في إمام مبين﴾ (يس ‪:‬‬
‫‪ ،)12‬وما كتبه الله إنما كتبه قبل أن يخلق الخلق‬
‫بخمسين ألف سنة‪ ،‬قال ‪(( :‬كتب الله مقادير‬
‫الخلئق قبل أن يخلق السماوات والرض بخمسين‬

‫‪)( 1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)2411‬ومسلم ح (‪ ،)2373‬واللفظ‬


‫للبخاري‪.‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)86‬‬
‫السلم‬

‫ألف سنة))‪)1(.‬وقال أيضا ً ‪(( :‬وكتب في الذكر كل‬


‫(‪)2‬‬
‫شيء‪ ،‬وخلق السماوات والرض))‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن ما كتبه الله في كتابه كائن ل محالة‪،‬‬
‫ول يمكن لحد أن يغيره ﴿وكان أمر الله قدراً‬
‫مقدوراً ﴾ (الحزاب ‪ ،)38 :‬وما يقع من الناس من شر‬
‫وخير إنما يجري بعلم الله ومشيئته الزلية ﴿وما‬
‫تشاؤون إل أن يشاء الله رب العالمين﴾ (التكوير‪:‬‬
‫‪.)29‬‬
‫لكن الفعل النساني ل يصدر من النسان جبراً‬
‫وقهراً‪ ،‬فالنسان أكرم مخلوقات الله‪ ،‬كّرمه الله ‪،‬‬
‫فمنحه القدرة على التمييز ﴿ ألم نجعل له عينين‬
‫ولسانا ً وشفتين وهديناه النجدين ﴾ (البلد‪،)10-8 :‬‬
‫ثم دعاه تبارك وتعالى لختيار الحق وهجر الباطل‪،‬‬
‫من غير إكراه منه على ذلك‪.‬‬
‫فإذا ما اختار النسان خير النجدين‪ ،‬فسلك سبيل‬
‫الهداية؛ زاده الله من أنوار الهدى ﴿والذين اهتدوا‬
‫زادهم هدًى وآتاهم تقواهم ﴾ (محمد‪ ،)17 :‬وإن‬
‫تنكبها واختار الضللة والعماية زاده الله ضللً‪ ،‬كما‬
‫ض‬‫وصف الله تعالى المنافقين ‪ ﴿ :‬في قلوبهم مر ٌ‬
‫م بما كانوا يكذبون‬ ‫فزادهم الله مرضا ً ولهم عذا ٌ‬
‫ب ألي ٌ‬
‫﴾ (البقرة‪.)10 :‬‬
‫وهكذا فالنسان يختار فعله وفق اختياره وإرادته‪،‬‬
‫لذلك نسب الله فعله إليه بقوله‪﴿ :‬وما تفعلوا من‬
‫م ﴾ (البقرة‪ ،)215 :‬لكن اختياره‬
‫ر فإن الله به علي ٌ‬
‫خي ٍ‬
‫وفعله ليس جبرا ً لله أو قهراً‪ ،‬بل هو بقدرة الله‬

‫‪ )(1‬أخرجه مسلم ح (‪.)2653‬‬


‫‪)( 2‬أخرجه البخاري ح (‪.)3192‬‬
‫(‪)87‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫الخالق الذي أقدره على ذلك ﴿ والله خلقكم وما‬


‫تعملون﴾ (الصافات‪.)96 :‬‬
‫ويشمل اليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬التصديق بجملة‬
‫من القضايا التي قدرها الله بسابق علمه‪.‬‬
‫أولها‪ :‬ما يصيب النسان من خير وشر‪ ،‬يقول‬
‫النبي ‪(( :‬ل يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره‬
‫وشره من الله‪ ،‬وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن‬
‫ليخطئه‪ ،‬وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه))(‪ ،)1‬وبذلك‬
‫يتعلق قلب العبد بربه مسبب السباب‪ ،‬ل بالسباب‬
‫المنظورة التي جعلها الله طريقا ً لتحقيق قدره‬
‫المكتوب‪ ،‬وهذا يُحل بالمؤمن راحة النفس وطمأنينة‬
‫القلب عند نزول البلء‪ ،‬ومحبة المنعم ورجاء المزيد‬
‫ة في الرض‬ ‫من نواله عند الرخاء ﴿ما أصاب من مصيب ٍ‬
‫ب من قبل أن نبرأها إن‬ ‫ول في أنفسكم إل في كتا ٍ‬
‫ذلك على الله يسيٌر لكيل تأسوا على ما فاتكم ول‬
‫ر﴾‬
‫ل فخو ٍ‬ ‫تفرحوا بما آتاكم والله ل يحب كل مختا ٍ‬
‫(الحديد‪.)23-22 :‬‬
‫ومنها أيضاً‪ :‬تقدير أرزاق الخلق ‪ ،‬فكل ذلك‬
‫مسطور في علم الله أزلً‪ ،‬يقول الله تعالى عما‬
‫يقدره من أرزاق للناس‪﴿ :‬وإن من شيء إل عندنا‬
‫خزائنه وما ننزله إل بقدر معلوم﴾ (الحجر‪.)21 :‬‬
‫وبسبب هذا اليمان فإن المؤمن أشجع الناس بما‬
‫أوتي من يقين بالله الذي هو وحده يملك أرزاق‬
‫الناس وآجالهم‪﴿ ،‬قل لن يصيبنا إل ما كتب الله لنا‬
‫هو مولنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ (التوبة‪:‬‬
‫‪.)51‬‬
‫َّ‬
‫ولجل ذلك علم النبي ابن عباس والمة من‬
‫بعده ((أن المة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء‬

‫‪)( 1‬أخرجه الترمذي ح (‪ ، )2144‬وصححه اللباني في صحيح‬


‫الترمذي لشواهد تقويه ح (‪ ,)1143‬وفي السلسلة الصحيحة ح (‬
‫‪.)2439‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)88‬‬
‫السلم‬

‫لم ينفعوك إل بشيء قد كتبه الله لك‪ ،‬ولو اجتمعوا‬


‫على أن يضروك بشيء لم يضروك إل بشيء قد كتبه‬
‫(‪)1‬‬
‫فت الصحف))‪.‬‬ ‫ت القلم وج َّ‬‫الله عليك‪ُ ،‬رفع ِ‬
‫وبسبب إيمان المسلم بأن الرزق مقسوم من الله‬
‫عبَّاد المال‬ ‫هم ُ‬‫بسابق قدره‪ ،‬فإنه ل يطلب الدنيا بن َ َ‬
‫الذين ل يعرفون في الكسب حلل ً ول حراماً‪ ،‬إنما‬
‫يطلبها بوجوهها المشروعة‪ ،‬يقول ‪(( :‬ل تستبطئوا‬
‫الرزق ‪ ،‬فإنه لن يموت العبد حتى يبلغه آخر رزق هو‬
‫له ‪ ،‬فأجملوا في الطلب‪ :‬أخذ الحلل ‪ ،‬وترك‬
‫الحرام))(‪ ،)2‬وفي حديث آخر يقول ‪(( :‬وإن الروح‬
‫المين قد نفث في روعي‪ :‬أنه لن تموت نفس حتى‬
‫(‪)3‬‬
‫تستوفي رزقها‪ ،‬فاتقوا الله وأجملوا في الطلب))‪.‬‬
‫وكذلك فإن الله قدر آجال الناس وأعمارهم في‬
‫سابق علمه ﴿الله يتوفى النفس حين موتها والتي‬
‫لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت‬
‫ل مسمى﴾ (الزمر‪.)42 :‬‬ ‫ويرسل الخرى إلى أج ٍ‬
‫قدره‬ ‫وإيمان المسلم بذلك يعرف النسان ب ْ‬
‫الضعيف‪ ،‬وينبؤه عن ضعفه الكبير‪ ،‬وعن عظيم‬
‫حاجته إلى ربه‪ ،‬قال ‪(( :‬لو أن الله سبحانه عذب‬
‫أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم‪،‬‬
‫ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرا ً من أعمالهم‪ ،‬ولو‬
‫كان لك مثل جبل أحد ذهبا ً أنفقته في سبيل الله‬
‫تعالى ما قبله منك؛ حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما‬
‫أصابك لم يكن ليخطئك؛ وأن ما أخطأك لم يكن‬
‫(‪)4‬‬
‫ليصيبك؛ وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار))‪.‬‬
‫فيستقبل المؤمن بالقضاء والقدر مصائب الدنيا‬

‫‪)( 1‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)2516‬وأحمد ح (‪.)2664‬‬


‫‪)( 2‬أخرجه ابن حبان في صحيحه ح (‪ ،)3308‬والحاكم في‬
‫مستدركه (‪ ،)4/224‬وصححه اللباني في السلسلة الصحيحة ح (‬
‫‪.)2607‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه الشافعي في كتابه الرسالة ص (‪ 87‬و ‪ ،)93‬والبيهقي‬
‫في السنن (‪ ،)7/76‬وصححه أحمد شاكر في تعليقه على‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫(‪)89‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫بالبشر‪ ،‬ويراها منحة حملتها إليه محنة ((عجبا ً لمر‬


‫المؤمن إن أمره كله له خير‪ ،‬وليس ذلك إل للمؤمن ‪،‬‬
‫إن أصابته سراء شكر فكان خيرا ً له‪ ،‬وإن أصابته‬
‫(‪)1‬‬
‫ضراء صبر فكان خيرا ً له))‪.‬‬
‫اليمان باليوم الخر‬
‫خلق الله النسان في هذه الدنيا ليعمرها وفق‬
‫َ‬
‫منهج الله ‪ ،‬فإذا ول ّت وانقضت؛ جمع الله الولين‬
‫والخرين في يوم جديد‪ ،‬هو يوم الحساب والجزاء‪،‬‬
‫حيث يجازى كل إنسان على عمله‪ ،‬وهذا هو ما‬
‫تقتضيه حكمة الله وعدله‪ ،‬وإل لستوى الطائع‬
‫والعاصي‪ ،‬والمؤمن والكافر‪ ،‬وهذا من العبث الذي‬
‫يتنزه عنه الله الحكيم ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً‬
‫فتعالى الله الملك الحق ل‬ ‫وأنكم إلينا ل ترجعون‬
‫إله إل هو رب العرش الكريم ﴾ (المؤمنون‪-115 :‬‬
‫‪.)116‬‬
‫وقد تولى القرآن إثبات معقولية البعث والنشور‪،‬‬
‫وردَّ بالبرهان على مكذبي البعث الذين ضعف‬
‫تصورهم لقدرة الله العظيمة‪ ،‬فتساءلوا‬
‫مستنكرين‪﴿ :‬وقالوا أئذا كنا عظاما ً ورفاتا ً أئنا‬
‫لمبعوثون خلقا ً جديدا ً قل كونوا حجارةً أو حديدا ً‬
‫أو خلقا ً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا‬
‫قل الذي فطركم أول مرة﴾ (السراء‪.)51-49 :‬‬
‫وضرب الله لهؤلء المنكرين المثا َ‬
‫ل العقلية التي‬
‫رب فكرة البعث إلى أذهانهم‪ ،‬فقال جل ذكره‪﴿ :‬‬ ‫تق ّ ِ‬
‫وضرب لنا مثل ً ونسي خلقه قال من يحيي العظام‬
‫وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو‬
‫الذي جعل لكم من الشجر الخضر‬ ‫بكل خلق عليم‬

‫‪)( 4‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)2155‬وابن ماجه ح (‪ ،)77‬وأحمد ح (‬


‫‪.)21101‬‬
‫‪)( 1‬أخرجه مسلم ح (‪.)2999‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)90‬‬
‫السلم‬

‫نارا ً فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق‬


‫السماوات والرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى‬
‫وهو الخلق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا ً أن يقول‬
‫فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء‬ ‫له كن فيكون‬
‫وإليه ترجعون﴾ (يس‪.)83-78 :‬‬
‫والقيامة تشمل جميع البشر‪ ،‬مؤمنهم وكافرهم ﴿‬
‫وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً ﴾ (الكهف‪ ،)47 :‬فل‬
‫مناص من ذلك اليوم ول مهرب كما قال تعالى‪﴿ :‬أين‬
‫ً‬
‫جميعا ﴾ (البقرة‪.)148 :‬‬ ‫ما تكونوا يأت بكم الله‬
‫والقيامة تقوم في زمن ل يعلم موعده إل الله ‪،‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث‬
‫ويعلم ما في الرحام وما تدري نفس ماذا تكسب‬
‫غدا ً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم‬
‫خبير﴾ (لقمان‪.)34 :‬‬
‫ل–‬‫فإذا أذن الله بانتهاء الدنيا وانصرامها‪ ،‬تنح ُّ‬
‫بأمر الله ‪ -‬سنن الكون ويختل نظامه وترابطه وتقوم‬
‫الساعة ﴿يوم تبدل الرض غير الرض والسماوات‬
‫وبرزوا لله الواحد القهار﴾ (إبراهيم‪.)48 :‬‬
‫ويرافق قيام الساعة أهوال شديدة‪ ،‬منها ما ذكره‬
‫الله بقوله‪﴿ :‬إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت‬
‫وإذا‬ ‫وإذا العشار عطلت‬ ‫وإذا الجبال سيرت‬
‫وإذا النفوس‬ ‫وإذا البحار سجرت‬ ‫الوحوش حشرت‬
‫وإذا‬ ‫ب قتلت‬‫زوجت وإذا الموءودة سئلت بأي ذن ٍ‬
‫الصحف نشرت وإذا السماء كشطت﴾ (التكوير‪-1 :‬‬
‫‪.)11‬‬
‫وأول ما يكون من أحداث القيامة نفختا الصور‪،‬‬
‫حيث تصعق الخلئق في الولى منهما‪ ،‬وتقوم إلى‬
‫(‪)91‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫ربها بعد النفخة الثانية ﴿ونفخ في الصور فصعق من‬


‫في السماوات ومن في الرض إل من شاء الله ثم‬
‫نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون﴾ (الزمر‪.)68 :‬‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬ونفخ في الصور فإذا هم من‬
‫قالوا يا ويلنا من بعثنا‬ ‫الجداث إلى ربهم ينسلون‬
‫من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‬
‫ع لدينا‬
‫ة واحدةً فإذا هم جمي ٌ‬
‫إن كانت إل صيح ً‬
‫س شيئا ً ول تجزون إل‬ ‫محضرون فاليوم ل تظلم نف ٌ‬
‫ما كنتم تعملون﴾ (يس‪.)54-51 :‬‬
‫فإذا ما جمع الله الولين والخرين‪ ،‬وآذن ببدء‬
‫الحساب؛ أمر بإعطاء البشر صحفهم فرأوا فيها‬
‫أعمالهم‪ ،‬الصالح منها والطالح‪ ،‬فيوم القيامة يوم‬
‫عدل الله ودينونته‪.‬‬
‫ويصف القرآن مشهد تطاير الصحف ووقوعها في‬
‫أيدي أصحابها‪ ،‬فأما المؤمنون منهم فيأخذون‬
‫صحفهم بأيمانهم‪ ،‬ويهتفون بالبشرى والفرح لما‬
‫وجدوه فيها من صالح العمل ﴿فأما من أوتي كتابه‬
‫إني ظننت أني‬ ‫بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه‬
‫ة‬
‫ة في جن ٍ‬ ‫ة راضي ٍ‬
‫ق حسابيه فهو في عيش ٍ‬ ‫مل ٍ‬
‫ة كلوا واشربوا هنيئا ً بما‬‫ة قطوفها داني ٌ‬
‫عالي ٍ‬
‫أسلفتم في اليام الخالية﴾ (الحاقة‪.)24-19 :‬‬
‫وأما الذين كفروا بالله واليوم الخر فيأخذون‬
‫كتبهم بشمائلهم‪ ،‬ويتنادون بالحسرات على‬
‫المسطور فيها من سيء القول والعمل ﴿وأما من‬
‫أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه‬
‫ما‬ ‫يا ليتها كانت القاضية‬ ‫ولم أدر ما حسابيه‬
‫هلك عني سلطانيه﴾ (الحاقة‪-25 :‬‬ ‫أغنى عني ماليه‬
‫‪.)29‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)92‬‬
‫السلم‬

‫وهذه الصحف يجد فيها المرء كل ما عمله من‬


‫ذ يصدر الناس أشتاتا ً ليروا أعمالهم‬
‫عمل ﴿يومئ ٍ‬
‫ة خيرا ً يره ومن يعمل مثقال‬ ‫فمن يعمل مثقال ذر ٍ‬
‫ة شرا ً يره﴾ (الزلزلة‪﴿ ،)8-6 :‬ووضع الكتاب فترى‬
‫ذر ٍ‬
‫المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما‬
‫لهذا الكتاب ل يغادر صغيرةً ول كبيرةً إل أحصاها‬
‫ووجدوا ما عملوا حاضرا ً ول يظلم ربك أحداً ﴾‬
‫(الكهف‪.)48 :‬‬
‫ويحاسب الله الخلئق على أعمالهم ﴿والله سريع‬
‫صب لهم في المحشر‬ ‫الحساب﴾ (البقرة‪ ،)102 :‬وين ِ‬
‫ميزاناً‪ ،‬ل يزن الناس بأطوالهم ول أثقالهم‪ ،‬بل‬
‫ميزان عدل وحق ‪ ،‬يزن العبد بمقدار عمله ((إنه‬
‫ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة ل يزن عند‬
‫الله جناح بعوضة‪ ،‬واقرؤوا‪﴿ :‬فل نقيم لهم يوم‬
‫القيامة وزناً ﴾))(‪( )1‬الكهف‪.)105 :‬‬
‫وهذا الميزان الخروي مظهر من مظاهر عدل‬
‫الله وعلمه المحيط ‪ ،‬فهو يزن الصغير من العمل كما‬
‫يزن الكبير ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة‬
‫فل تظلم نفس شيئا ً وإن كان مثقال حبة من خردل‬
‫أتينا بها وكفى بنا حاسبين﴾ (النبياء‪.)47 :‬‬
‫فهو‬ ‫ثم تكون النتيجة‪﴿ :‬فأما من ثقلت موازينه‬
‫فأمه‬ ‫وأما من خفت موازينه‬ ‫في عيشة راضية‬
‫هاوية﴾ (القارعة‪.)9-6 :‬‬
‫ومما يثقل ميزان العبد يوم القيامة ما يأتي به من‬
‫الحسنات والعمال الصالحة‪ ،‬ومنها ذكر الله عز وجل‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)4729‬ومسلم ح (‪.)2785‬‬


‫(‪)93‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫((كلمتان خفيفتان على اللسان‪ ،‬ثقيلتان في‬


‫الميزان‪ ،‬حبيبتان إلى الرحمن‪ :‬سبحان الله العظيم‪،‬‬
‫سبحان الله وبحمده ))(‪ ،)1‬ومثلها الصبر والتسبيح‬
‫والتهليل والتحميد والتكبير‪ ،‬لقوله ‪(( :‬ما أثقلهن‬
‫في الميزان‪ :‬سبحان الله‪ ،‬والحمد لله‪ ،‬ول إله إل‬
‫الله‪ ،‬والله أكبر‪ ،‬والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم؛‬
‫فيحتسبه))(‪ ،)2‬وأما حسن الخلق فالبشرى لصاحبه‪،‬‬
‫فإنه ((ما من شيء أثقل في الميزان من حسن‬
‫(‪)3‬‬
‫الخلق))‪.‬‬
‫رد عليه‬‫وينصب الصراط على جهنم ‪ ،‬وهو جسر ي ِ‬
‫الجميع ‪ ،‬فيمرون عليه على قدر أعمالهم‪ ،‬فسعيد‬
‫ناج إلى الجنة‪ ،‬أو مخدوش‪ ،‬أو شقي مكردس في‬
‫النار‪ ،‬قال ‪(( :‬ويضرب الصراط بين ظهري جهنم ‪..‬‬
‫وفي جهنم كلليب مثل شوك السعدان ‪ ..‬غير أنه ل‬
‫يعلم ما قدر عظمها إل الله؛ تخطف الناس‬
‫بأعمالهم‪ ،‬فمنهم الموبق بعمله‪ ،‬أو الموثق بعمله‪،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ومنهم المخردل أو المجازى))‪.‬‬
‫والمكردسون في النار هم الكافرون‪ ،‬ومن غلبت‬
‫عليه سيئاته من عصاة المسلمين‪ ،‬فأما الكافرون‬
‫فيخلدون فيها ول يخرجون‪ ،‬وأما غيرهم من‬
‫المسلمين‪ ،‬فيخرجون منها إذا طهرتهم النار من‬
‫سالف أفعالهم ﴿والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك‬
‫أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ (البقرة‪.)39 :‬‬
‫ويصف الله بعض حسرات أهل النار وعذابهم‬
‫فيها‪﴿ :‬والذين كفروا لهم نار جهنم ل يقضى عليهم‬
‫فيموتوا ول يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)6406‬ومسلم ح (‪.)2694‬‬
‫‪)( 2‬أخرجه أحمد ح (‪.)15235‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)2002‬وأبو داود ح (‪ ،)4799‬وأحمد ح (‬
‫‪.)26971‬‬
‫‪ )(4‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)7438‬ومسلم ح (‪.)182‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)94‬‬
‫السلم‬

‫كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل‬


‫صالحا ً غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه‬
‫من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من‬
‫نصير﴾ (فاطر‪.)37-36 :‬‬
‫وحتى ل يتوقف العذاب عن أهل النار فإن الله‬
‫يهيئ من السباب ما يجعله مستمراً ﴿إن الذين‬
‫كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا ً كلما نضجت جلودهم‬
‫بدلناهم جلودا ً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان‬
‫عزيزا ً حكيماً ﴾ (النساء‪.)56 :‬‬
‫وتصور آيات القرآن مشاهد من عذاب أهل النار‬
‫ليهلك من هلك عن بينة‪﴿ :‬فالذين كفروا قطعت لهم‬
‫يصهر‬ ‫ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم‬
‫ولهم مقامع من حديد‬ ‫به ما في بطونهم والجلود‬
‫كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها﴾‬
‫(الحج‪.)22-19 :‬‬
‫ويخبرنا النبي بأهون أهل النار عذابا ً ‪ ،‬ففيه‬
‫غنية ومزدجر لكل من ألقى السمع وهو شهيد‪،‬‬
‫يقول ‪(( :‬إن أهون أهل النار عذابا ً من له نعلن‬
‫وشراكان من نار‪ ,‬يغلي منهما دماغه كما يغلي‬
‫المرجل‪ ،‬ما يرى أن أحدا ً أشد منه عذاباً‪ ،‬وإنه‬
‫(‪)1‬‬
‫لهونهم عذاباً))‪.‬‬
‫وأما أهل السعادة من أهل اليمان فهم في الروح‬
‫والريحان‪﴿ ،‬وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن‬
‫لهم جنات تجري من تحتها النهار كلما رزقوا منها‬
‫من ثمرة رزقا ً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به‬
‫متشابها ً ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها‬
‫خالدون﴾ (البقرة‪.)25 :‬‬

‫()أخرجه البخاري ح (‪ ،)6561‬ومسلم ح (‪ ،)213‬واللفظ له‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫(‪)95‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫إن نعيم الجنة فاق كل وصف‪ ،‬وتعالى عن كل‬


‫شبه ‪ ،‬فليس له في الدنيا مثيل ول نظير‪ ،‬ول يشتبه‬
‫شيء مما في الجنة مع شيء مما في دنيانا إل في‬
‫السماء‪ ،‬وأما الحقائق فتتباين ‪ ،‬فالجنة ل يشبهها‬
‫شيئا ً من الموصوفات والمدركات‪ ،‬وهي كما وصفها‬
‫الله في الحديث القدسي الذي يرويه النبي عن‬
‫ربه‪(( :‬أعددت لعبادي الصالحين ما ل عين رأت‪ ،‬ول‬
‫أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪ ،‬فاقرؤوا إن‬
‫شئتم‪ ﴿ :‬فل تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‬
‫جزاء بما كانوا يعملون﴾)) (السجدة‪.)17 :‬‬
‫(‪)1‬‬

‫ومن نعيم الجنة ما جعله الله فيها من أنهار طيبة‬


‫الشراب عذبة المذاق ﴿مثل الجنة التي وعد المتقون‬
‫فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير‬
‫طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من‬
‫عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة‬
‫من ربهم﴾ (محمد‪.)15 :‬‬
‫شر الله به أهل طاعته بقوله‪﴿ :‬‬‫ومن نعيمها ما ب َّ‬
‫في سدر‬ ‫وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين‬
‫وماء‬ ‫وظل ممدود‬ ‫وطلح منضود‬ ‫مخضود‬
‫ل مقطوعة ول ممنوعة‬ ‫وفاكهة كثيرة‬ ‫مسكوب‬
‫وفرش مرفوعة﴾ (الواقعة‪.)34-27 :‬‬
‫ويبشر النبي أهل الجنة بمزيد فضل الله لهم‪،‬‬
‫فإن داخلها ((ينعم ول يبأس‪ ،‬ول تبلى ثيابه‪ ,‬ول‬
‫يفنى شبابه))(‪ ،)2‬بل يصرف الله عنه كل سوء مما‬
‫كان يصيبه في الدنيا‪ ،‬فقد قال ‪(( :‬ل يبصقون‬
‫فيها‪ ،‬ول يمتخطون‪ ،‬ول يتغوطون‪ ،‬آنيتهم فيها‬
‫الذهب‪ ،‬أمشاطهم من الذهب والفضة‪ ،‬ومجامرهم‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)3244‬ومسلم ح (‪.)2824‬‬
‫‪ )(2‬أخرجه مسلم ح (‪.)2836‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)96‬‬
‫السلم‬

‫اللوة‪ ،‬ورشحهم المسك‪ ،‬ولكل واحد منهم زوجتان؛‬


‫حسن‪ ،‬ل‬ ‫يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من ال ُ‬
‫اختلف بينهم ول تباغض‪ ،‬قلوبهم قلب واحد‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫يسبحون الله بكرة وعشياً))‪.‬‬
‫ومن أعظم ما ينعم به أهل الجنة دوامه وأبديته‪،‬‬
‫فالجنة دار نعيم ل ينفد ول ينقطع‪ ﴿ :‬إن الذين آمنوا‬
‫وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم‬
‫ن تجري من تحتها النهار خالدين‬ ‫عند ربهم جنات عد ٍ‬
‫فيها أبدا ً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن‬
‫خشي ربه ﴾ (البينة‪.)8-7 :‬‬
‫وينقـل النـبي البشارة لهـل الجنـة بالخلود فيهـا‬
‫حوا فل تســقموا‬ ‫حيــن‪(( :‬ينادي مناد‪ :‬إن لكــم أن تص ـ ُّ‬
‫أبداً‪ ،‬وإن لكــم أن تحيوا فل تموتوا أبداً‪ ،‬وإن لكــم أن‬
‫تشبوا فل تهرموا أبداً‪ ،‬وإن لكم أن تنعموا فل تبأسوا‬
‫أبداً‪ ،‬فذلك قوله عــز وجــل‪﴿ :‬ونودوا أن تلكــم الجنــة‬
‫أورثتموها بما كنتم تعملون﴾ (العراف‪.))43 :‬‬
‫(‪)2‬‬

‫وأمـا النعيـم العظـم الذي ل يدانـى والشرف الذي‬


‫ل يبارى فهــو رؤيــة المؤمنيــن ربهــم تبارك وتعالى‪،‬‬
‫فلطالمــا عبدوه فــي الدنيــا ولم يروه‪ ،‬فيتجلى لهــم‬
‫الله يوم القيامـة من ّـة وتفضل ً وإحسـانا ً ﴿وجوه يومئذ‬
‫ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ (القيامة‪.)23-22 :‬‬
‫واليمان باليوم الخر له أكبر الثر في تهذيب‬
‫وتقويم سلوك المسلم‪ ،‬الذي يطمع برضوان الله‬
‫ويخشى عقوبته‪ ،‬فيمتثل أوامر الله ويستكين لها‪،‬‬
‫وهو موقن بأن ما يصنعه اليوم يلقيه غداً‪ ،‬وأن‬
‫امتثاله لمر ربه في دنياه سبب في عاجل سعادته‪،‬‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)3245‬ومسلم ح (‪ ،)2834‬وقوله‪:‬‬
‫((مجامرهم اللوة)) يعني أنهم يستمتعون بأطيب أنواع العود‬
‫رائحة‪ ،‬وقوله‪(( :‬رشحهم المسك)) أي رائحة عرقهم زكية‬
‫كالمسك‬
‫‪)( 2‬أخرجه مسلم ح (‪.)2837‬‬
‫(‪)97‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫ذ يصدر‬‫ويعقبه الفرح والثواب في أخراه ﴿ يومئ ٍ‬


‫الناس أشتاتا ً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذر ٍ‬
‫ة‬
‫ة شرا ً يره﴾ (الزلزلة‪:‬‬
‫خيرا ً يره ومن يعمل مثقال ذر ٍ‬
‫‪.)8-6‬‬
‫وهكذا فإن أركان اليمان هي صمام أمان للمجتمع‬
‫النساني بما تغرسه في صدور المؤمنين من‬
‫موجبات الرحمة والسكينة والخبات‪ ،‬وما تثمره في‬
‫دنيا المؤمنين من بذل وإحسان وتراحم‪ ،‬تسعد به‬
‫البشرية في دنياها‪ ،‬وترضي به ربها ومولها‪.‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)98‬‬
‫السلم‬

‫ردود على أباطيل‬


‫لقد بُلي المسلمون اليوم بتحديات كبيرة‪ ،‬لعل‬
‫أهمها تلك الهجمة التي تتنادى إليها دوائر دينية‬
‫وصحفية وسياسية‪ ،‬وكلها تنصب في باب الفتراء‬
‫على السلم؛ بغرض إقامة السدود التي تحول دون‬
‫تعرف العالم على حقيقة السلم الذي تصوره هذه‬
‫الدوائر على أنه دين يجمع بين الهمجية والوثنية ‪،‬‬
‫يظلم المرأة‪ ،‬ويقتل البرياء‪ ،‬ويعادي الحضارة‪ ،‬ويبث‬
‫الكراهية‪ ،‬إلى غيره من الفتراءات التي تفتقد أدنى‬
‫معايير الموضوعية العلمية والنصاف‪.‬‬
‫وهذه الرسالة في أصلها للتعريف بالسلم‪،‬‬
‫وليست للرد على ادعاءات الخرين عليه‪ ،‬لكن قد‬
‫يكون من المناسب أن نعرج فيها سريعا ً على بعض‬
‫ما قيل‪ ،‬ليكون أنموذجا ً يقيس فيه القارئ الغائب‬
‫على الشاهد‪ ،‬فتستبين بعض أطراف الحقيقة التي‬
‫يرنو إليها كل عاقل وحصيف‪.‬‬
‫أول ً ‪ :‬السلم والمرأة‬
‫مما يروجه البعض زورا ً عن السلم أنه امتهن‬
‫المرأة وحط من منزلتها‪ ،‬وتنقصها وهضم حقوقها‬
‫لصالح الرجل ‪...‬‬
‫إن هذا الزعم ليس من الحقيقة في شيء ‪ ،‬فما‬
‫عرف العرب ول غيرهم تكريما ً للمرأة يماثل تكريم‬
‫السلم لها‪ ،‬يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب‪:‬‬
‫(والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً؛ حتى‬
‫(‪)1‬‬
‫أنزل الله فيهن ما أنزل‪ ،‬وقسم لهن ما قسم)‪.‬‬
‫وقبل زمن مديد من اعتراف بعض المم بإنسانية‬
‫المرأة ؛ قرر السلم تساوي الذكر بالنثى في‬
‫إنسانيتهما وكافة المور العبادية‪ ،‬ولم يميز بينهما‬
‫في شيء إل حال التعارض مع الطبيعة التكوينية‬
‫والنفسية والوظيفية للذكر أو للنثى‪.‬‬

‫()أخرجه البخاري ح (‪.)4913‬‬ ‫‪1‬‬


‫(‪)99‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫فأما تساويهما في النسانية‪ ،‬فقد قرره النبي‬


‫بقوله‪(( :‬إنما النساء شقائق الرجال))‪ )2(.‬كيف ل‬
‫وهما معا ً أصل الجنس البشري ﴿يا أيها الناس إنا‬
‫خلقناكم من ذكر وأنثى﴾ (الحجرات‪ ،)13 :‬ويشملهما‬
‫جميعا ً تكريم الله للجنس البشري ﴿ولقد كرمنا بني‬
‫آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من‬
‫الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلً ﴾‬
‫(السراء‪.)70 :‬‬
‫ويقرر القرآن الكريم أهلية المرأة لليمان‬
‫والتكليف والعبادة‪ ،‬ومن ثم المحاسبة والجزاء‪ ،‬وهي‬
‫في كل ذلك مثل الرجل سواء بسواء ﴿من عمل‬
‫صالحا ً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة‬
‫طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾‬
‫(النحل‪ )97 :‬ويقول تعالى‪﴿ :‬فاستجاب لهم ربهم أني‬
‫ل أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من‬
‫بعض ﴾ (آل عمران‪.)195 :‬‬
‫ولم يعتبر السلم المرأة مصدر الشرور‪ ،‬ولم‬
‫يوافق على اعتبارها سببا ً في وقوع آدم في غواية‬
‫الشيطان ‪ ،‬فالقرآن الكريم يجعل آدم وزوجته‬
‫شريكين في اقتراف الخطيئة الولى ‪ ،‬شريكين في‬
‫جزائها ﴿فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا‬
‫فيه﴾ (البقرة‪ ،)36 :‬وكما اشتركا في الخطيئة فقد‬
‫اشتركا في التوبة منها ﴿قال ربنا ظلمنا أنفسنا وإن‬
‫لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾‬
‫(العراف‪.)23 :‬‬

‫‪)( 2‬أخرجه أحمد (‪ ،)25663‬وأبو داود ح (‪ ،)236‬والترمذي ح (‪،)113‬‬


‫وحسنه اللباني في صحيح أبي داود ح (‪.)234‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)100‬‬
‫السلم‬

‫وهذا التساوي بين الوالدين يسري في المسؤولية‬


‫الشرعية لذريتهما‪ ،‬حيث إن الله يساوي بين الرجال‬
‫والنساء في ثواب وعقاب أفعال النسان‪ ،‬بل تمييز‬
‫لجنس على جنس ﴿إن المسلمين والمسلمات‬
‫والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات‬
‫والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات‬
‫والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات‬
‫والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم‬
‫والحافظات والذاكرين الله كثيرا ً والذاكرات أعد الله‬
‫لهم مغفرةً وأجرا ً عظيماً ﴾ (الحزاب‪.)35 :‬‬
‫وقد حذر القرآن من صنيع الجاهلية التي كانت‬
‫تنتقص المرأة وتعتبرها عارا ً تتخلص منه بوأدها حال‬
‫الطفولة ﴿وإذا بشر أحدهم بالنثى ظل وجهه مسوداً‬
‫وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به‬
‫أيمسكه على هون أم يدسه في التراب أل ساء ما‬
‫يحكمون﴾ (النحل‪.)59-58 :‬‬
‫وفي إزاء هذا الواقع الجاهلي الظالم خص النبي‬
‫البنات والخوات بالمزيد من وصاته فقال‪(( :‬من‬
‫يلي من هذه البنات شيئاً‪ ،‬فأحسن إليهن؛ ك ُ َّ‬
‫ن له‬
‫(‪)1‬‬
‫سترا ً من النار))‪.‬‬
‫شر بالجنة من أحسن رعاية الناث من أخوات‬ ‫وب ّ‬
‫وبنات‪ ،‬فقال‪(( :‬من كان له ثلث بنات أو ثلث‬
‫أخوات‪ ،‬أو ابنتان أو أختان؛ فأحسن صحبتهن واتقى‬
‫(‪)2‬‬
‫الله فيهن؛ فله الجنة))‪.‬‬
‫ويرتفع الجزاء في حديث آخر ليبلغ بالمحسن‬
‫إليهن إلى أعلى الجنة‪ ،‬حيث أنبياء الله والصالحون‬
‫من عباده‪ ،‬يقول ‪(( :‬من عال جاريتين حتى تبلغا؛‬
‫جاء يوم القيامة أنا وهو)) وضم أصابعه‪ )3(.‬أي أنه‬
‫‪)( 1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)5995‬ومسلم ح (‪.)2629‬‬
‫‪ )(2‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)1916‬وأبو داود ح (‪ ،)5147‬وأحمد ح (‬
‫‪.)10991‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه مسلم ح (‪.)2631‬‬
‫(‪)101‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫في الجنة كما تتجاور الصبعان في يد‬ ‫يجاور النبي‬


‫الواحد فينا‪.‬‬
‫كل هذا الترغيب والحث من السلم ليبطل شرعة‬
‫الجاهلية في انتقاص المؤنسات الغاليات اللتي‬
‫غب النبي بمحبتهن فيقول‪(( :‬ل تكرهوا البنات‪،‬‬ ‫ير ِ ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫فإنهن المؤنسات الغاليات))‪.‬‬
‫ويبرأ السلم من تفضيل الذكر على النثى‪ ،‬ويعد‬
‫بالجنة من أكرم النثى وأنصفها‪ ،‬قال رسول الله ‪:‬‬
‫((من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر‬
‫(‪)2‬‬
‫ولده عليها؛ أدخله الله الجنة))‪.‬‬
‫وكما أوصى السلم برعاية البنة؛ فإنه أمر بذلك‬
‫ماً؛ بل وأكد على‬ ‫لكل أنثى‪ ،‬سواء كانت زوجة أم أ ّ‬
‫رعاية حقوقها حتى في حال العبودية‪ ،‬ففي حديث‬
‫الثلثة الذين يؤتيهم الله أجرهم مرتين ذكر‬
‫((الرجل تكون له المة‪ ،‬فيعلمها فيحسن تعليمها‪،‬‬
‫ويؤدبها فيحسن أدبها‪ ،‬ثم يعتقها فيتزوجها‪ ،‬فله‬
‫(‪)3‬‬
‫أجران))‪.‬‬
‫ما ً فللسلم معها شأن‬ ‫وأما المرأة حين تكون أ ّ‬
‫آخر‪ ،‬فلئن كانت النصوص التي تأمر ببر الوالدين‬
‫والحسان إليهما كثيرة في القرآن والسنة؛ فإن‬
‫النبي قدَّم حق الم على حق الب‪ ،‬فاعتبرها أحق‬
‫العالمين بحسن صحبة البن وأولى الناس ببره‬
‫وإحسانه‪ ،‬فقد جاء رجل إلى رسول الله فقال‪ :‬من‬
‫أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال‪(( :‬أمك))‪ ،‬قال‪ :‬ثم‬
‫من؟ قال‪(( :‬ثم أمك))‪ ،‬قال‪ :‬ثم من؟ قال‪(( :‬ثم‬
‫(‪)4‬‬
‫أمك))‪ ،‬قال‪ :‬ثم من؟ قال‪(( :‬ثم أبوك))‪.‬‬
‫وأما الزوجة فهي شريكة الرجل في بيته‪ ،‬تشاركه‬
‫السراء والضراء‪ ،‬وما فتئ النبي يوصي بها مرة بعد‬
‫مرة‪ ،‬حتى إذا اجتمع أمامه مائة ألف من أصحابه في‬
‫أحمد ح (‪.)16922‬‬ ‫‪ )(1‬أخرجه‬
‫أبو داود ح (‪ ،)5146‬وأحمد ح (‪.)1958‬‬ ‫‪)( 2‬أخرجه‬
‫البخاري ح (‪.)3011‬‬ ‫‪)( 3‬أخرجه‬
‫البخاري ح (‪ ،)5971‬ومسلم ح (‪.)2548‬‬ ‫‪ )(4‬أخرجه‬
‫تعرف على‬
‫(‪)102‬‬
‫السلم‬

‫حجة الوداع قام فخطبهم‪ ،‬فحمد الله وأثنى عليه‬


‫وقال‪(( :‬أل واستوصوا بالنساء خيراً‪ ،‬فإنما هن عوان‬
‫عندكم [أي مثل السيرات عندكم] ‪ ..‬أل إن لكم على‬
‫(‪)1‬‬
‫نسائكم حقاً‪ ،‬ولنسائكم عليكم حقاً))‪.‬‬
‫وما زال يوصي بحق المرأة‪ ،‬ويحذر الرجل من‬
‫الغترار بقوته وظلمها والضرار بها‪ ،‬فيشهد الله‬
‫على تأكيده على حقها وبراءته ممن آذاها‪(( :‬اللهم‬
‫(‪)2‬‬
‫إني أحرج حق الضعيفين‪ :‬اليتيم والمرأة))‪.‬‬
‫والزوجة درة مصانة‪ ،‬ل يلزمها أن تكدح وتشقى‬
‫بالعمل لتضمن مكانا ً لها في بيت الزوجية‪ ،‬فهذا‬
‫ليس من واجباتها ول هو متناسب مع أنوثتها وطبيعة‬
‫مهمتها السامية في إدارة بيتها وتربية أبنائها‬
‫ع‪،‬‬
‫وإعطائهم حقهم من الحنو والرعاية ((كلكم را ٍ‬
‫ع في أهله‪،‬‬ ‫وكلكم مسؤول عن رعيته‪ .. .‬والرجل را ٍ‬
‫وهو مسؤول عن رعيته‪ ،‬والمرأة راعية في بيت‬
‫(‪)3‬‬
‫زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها))‪.‬‬
‫ما ً كانت‬‫والنثى ‪ -‬في السلم ‪ -‬مكفولة النفقة‪ ،‬أ ّ‬
‫أو زوجة‪ ،‬أختا ً كانت أو ابنة‪ ،‬فمن واجب الرجل‬
‫النفاق على السرة عموما ً وعلى الزوجة خصوصاً‪،‬‬
‫ولو كانت ذات مال ووظيفة‪ ،‬فقد أمر النبي بذلك‬
‫في خطبة يوم عرفة العظيم وفي أكبر اجتماع‬
‫لصحاب النبي ‪ ،‬فقال‪(( :‬ولهن عليكم رزقهن‬
‫(‪)4‬‬
‫وكسوتهن بالمعروف))‪.‬‬
‫وأوجب الله تعالى للزوجة السكن الكريم‬
‫المتناسب مع قدرة الزوج المالية‪﴿ :‬أسكنوهن من‬
‫حيث سكنتم من وجدكم﴾ (الطلق‪ ،)6 :‬وكذا أوجب‬

‫الترمذي ح (‪ ،)1163‬وابن ماجه ح (‪.)1851‬‬ ‫‪)( 1‬أخرجه‬


‫ابن ماجه ح (‪ ،)3678‬وأحمد ح (‪.)9374‬‬ ‫‪)( 2‬أخرجه‬
‫البخاري ح (‪ ،)893‬ومسلم ح (‪.)1829‬‬ ‫‪)( 3‬أخرجه‬
‫مسلم ح (‪.)1218‬‬ ‫‪ )(4‬أخرجه‬
‫(‪)103‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫لها العشرة بالمعروف حال الحب وفي حال الكراهية‬


‫﴿وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن‬
‫تكرهوا شيئا ً ويجعل الله فيه خيرا ً كثيراً ﴾ (النساء‪:‬‬
‫‪.)19‬‬
‫وهذه العشرة للزوجة بالمعروف تصبح ميزاناً‬
‫للخيرية عند الله يستبق فيه المسلمون إلى محبة‬
‫الله ورضاه‪ ،‬فقد قال ‪(( :‬خيركم خيركم لهله‪ ،‬وأنا‬
‫خيركم لهلي))(‪ ،)1‬وفي رواية‪(( :‬إن من أكمل‬
‫(‪)2‬‬
‫المؤمنين إيمانا ً أحسنهم خلقا ً وألطفهم بأهله))‪.‬‬
‫وهكذا فالعلقة الزوجية سلسلة متبادلة من‬
‫الحقوق والواجبات‪ ،‬وهي قائمة على مبدأ الخذ‬
‫والعطاء ﴿ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال‬
‫عليهن درجة ﴾ (البقرة‪ ،)288 :‬وهذه الدرجة هي‬
‫القوامة‪.‬‬
‫وليس هذا التفضيل بسبب قعود جنس النساء عن‬
‫جنس الرجال ‪ ،‬بل تفضيل متناسب مع ما أودعه الله‬
‫في الرجل من استعدادات فطرية تلئم مهمته‬
‫وتتناسب أيضا ً مع دوره في إدارة السرة والنفاق‬
‫عليها‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬الرجال قوامون على النساء‬
‫بما فضل الله به بعضهم على بعض وبما أنفقوا من‬
‫أموالهم﴾ (النساء‪.)34 :‬‬
‫تقول الصحفية النجليزية روز ماري هاو‪" :‬إن‬
‫السلم قد كرم المرأة وأعطاها حقوقها كإنسانة‪،‬‬
‫وكامرأة‪ ،‬وعلى عكس ما يظن الناس من أن المرأة‬
‫الغربية حصلت على حقوقها‪ ..‬فالمرأة الغربية ل‬
‫تستطيع مثل ً أن تمارس إنسانيتها الكاملة وحقوقها‬

‫‪ )(1‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،) 3895‬وابن ماجه ح (‪ ،)1977‬وصححه‬


‫اللباني في السلسلة الصحيحة ح (‪.)285‬‬
‫‪)( 2‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)1162‬وأبو داود ح (‪ ،)4682‬وأحمد ح (‬
‫‪.)23648‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)104‬‬
‫السلم‬

‫مثل المرأة المسلمة‪ .‬فقد أصبح واجبا ً على المرأة‬


‫في الغرب أن تعمل خارج بيتها لكسب العيش‪ .‬أما‬
‫المرأة المسلمة فلها حق الختيار‪ ،‬ومن حقها أن‬
‫يقوم الرجل بكسب القوت لها ولبقية أفراد السرة‪.‬‬
‫فحين جعل الله للرجال القوامة على النساء كان‬
‫المقصود هنا أن على الرجل أن يعمل ليكسب قوته‬
‫وقوت عائلته‪ .‬فالمرأة في السلم لها دور أهم‬
‫وأكبر من مجرد الوظيفة‪ ،‬وهو النجاب وتربية‬
‫البناء‪ ،‬ومع ذلك فقد أعطى السلم للمرأة الحق‬
‫في العمل إذا رغبت هي في ذلك‪ ،‬وإذا اقتضت‬
‫(‪)1‬‬
‫ظروفها ذلك"‪.‬‬
‫ويصر البعض على أن السلم ظلم المرأة حين‬
‫أباح للرجل أن يتزوج عليها‪ ،‬وفي هذا إضرار‬
‫بمصلحتها‪.‬‬
‫وقبل التعرف على حكم السلم في تعدد‬
‫الزوجات نجد أن من الواجب التذكير بأن السلم لم‬
‫يكن أول من شرع هذه الشرعة التي عرفتها‬
‫ومارستها المم والملل قبل السلم‪ ،‬ويكفي في‬
‫ذلك أن نذكر بأن العهد القديم ‪ -‬الذي يؤمن به‬
‫اليهود والنصارى ‪ -‬يذكر بأن سليمان النبي كان له‬
‫ألف زوجة (انظر الملوك (‪ ،)11/4 )1‬فالتعدد وفق‬
‫العهد القديم أمر مشروع‪ ،‬وهو واقع عاشه النبياء‬
‫وأممهم قبل السلم‪.‬‬
‫والسلم حين يبيح للرجل التعدد؛ فإنما يسيجه‬
‫بجملة من الضوابط‪ ،‬وهو يشرعه لمر واقعي‬
‫ملموس‪ ،‬وهو حاجة بعض الزواج إلى الزواج بغير‬
‫زوجته لمرضها أو لعدم قدرتها على النجاب‪ ،‬أو لغير‬
‫ذلك من السباب‪ ،‬فتزوج الزوج بأخرى أولى من‬
‫طلق الولى ليتزوج بغيرها‪ ،‬وأولى أيضا ً من العلقة‬
‫المحرمة خارج نطاق الزوجية‪ ،‬فالتعدد المشروع‬
‫يغلق الباب أمام تعدد العشيقات غير المشروع الذي‬

‫‪ )(1‬قالوا عن السلم‪ ،‬عماد الدين خليل (‪.)436‬‬


‫(‪)105‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫يجتاح المجتمعات النسانية التي تمنع تعدد الزوجات‪،‬‬


‫واستبدلته بتعدد العشيقات‪.‬‬
‫إن البشرية ل غناء لها عن تعدد الزوجات إذا‬
‫شاءت أن تحيى حياة العفة والطهر‪ ،‬وهذا ما‬
‫ستقودنا إليه نظرة عابرة إلى الحصاءات العالمية‬
‫التي تشير إلى زيادة مطردة في نسبة النساء‪ ،‬فإذا‬
‫كان عدد الناث في الوليات المتحدة المريكية يزيد‬
‫على عدد الذكور بأربعة مليين امرأة‪ ،‬فإن المجتمع‬
‫مخير بين القبول بأربعة مليين بغي أو الرضا بأربعة‬
‫مليين أسرة شرعية تتعدد فيها الزوجات‪.‬‬
‫يقول المؤرخ غوستاف لوبون في كتابه "حضارة‬
‫العرب"‪" :‬إن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب‬
‫يرفع المستوى الخلقي في المم التي تقوم به‬
‫ويزيد السرة ارتباطاً‪ ،‬ويمنح المرأة احتراما ً وسعادة‬
‫ل تراها في أوروبا‪ ،‬ول أرى سببا ً لجعل مبدأ تعدد‬
‫الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من‬
‫مبدأ تعدد الزوجات السري عند الوروبيين‪ ،‬بل إنني‬
‫أبصر بالعكس ما يجعله أسنى منه"‪.‬‬
‫ويقول‪" :‬إن تعدد الزوجات المشروع عند‬
‫الشرقيين أحسن من تعدد الزوجات الريائي عند‬
‫الوروبيين‪ ،‬وما يتبعه من مواكب أولد غير‬
‫(‪)1‬‬
‫شرعيين"‪.‬‬
‫أما حين نسمح بتعدد الزوجات فالمر مختلف‪،‬‬
‫فالكل يعيش ضمن إطار السرة الشرعية الطبيعية‪،‬‬
‫لذا يقول مونتكومري وات في كتابه "محمد في‬
‫المدينة"‪" :‬إن الفكرة الرائدة في القرآن‪ ،‬هي أنه إذا‬
‫تبنى المسلمون تعدد الزوجات‪ ،‬فإن جميع الفتيات‬
‫اللواتي هن في سن الزواج يمكنهن الزواج بصورة‬
‫‪)2( .‬‬
‫حسنة"‬
‫وواقعية السلم في تشريعه للتعدد؛ لم تخل‬
‫بمثاليته في التشريع‪ ،‬فقد حدده بأربع زوجات‪،‬‬
‫‪)( 1‬قالوا عن السلم‪ ،‬عماد الدين خليل (‪.)431‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق (‪.)438‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)106‬‬
‫السلم‬

‫وفرض على الزوج العدل بينهن‪﴿ :‬فانكحوا ما طاب‬


‫لكم من النساء مثنى وثلث ورباع فإن خفتم أل‬
‫تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم﴾ (النساء ‪،)3 :‬‬
‫وتوعد النبي من ظلم إحدى زوجتيه بعقوبة خاصة‬
‫يوم القيامة تتناسب وميله إلى واحدة منهن‪(( :‬من‬
‫كان لـه امرأتان يميل مع إحداهما على الخرى جاء‬
‫(‪)1‬‬
‫يوم القيامة وأحد شقيه ساقط))‪.‬‬
‫إن تعدد الزوجات الذي يبيحه السلم ليس شهوة‬
‫عابرة‪ ،‬ول نوعا ً من التمييز والتفضيل‪ ،‬بل هو تهذيب‬
‫لواقع‪ ،‬يقنن لمسألة اجتماعية‪ ،‬يضفي فيها الرجل‬
‫المزيد من المسئوليات التي يلزمه القيام بها‬
‫والوفاء بمتطلباتها المالية والجتماعية والنسانية‪.‬‬
‫ونتساءل في خاتمة هذا المبحث‪ :‬أل يكفي إزاء‬
‫المزاعم الكذوبة عن وضع المرأة في السلم أن‬
‫نتامل الشهادة المنصفة للمفكر الفرنسي مارسيل‬
‫بوازار في كتابه "إنسانية السلم"‪" :‬أثبتت التعاليم‬
‫القرآنية وتعاليم محمد أنها حامية حمى حقوق‬
‫(‪)2‬‬
‫المرأة"‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬السلم والرهاب‬
‫إلى العالمين بشيرا ً ونذيراً‪،‬‬ ‫أرسل الله نبيه‬
‫ة للعالمين﴾‬
‫ووصفه بقوله‪﴿ :‬وما أرسلناك إل رحم ً‬
‫(النبياء‪ ،)107 :‬كما وصفه الله تعالى بالرأفة‬
‫والرحمة في قوله‪﴿ :‬لقد جاءكم رسو ٌ‬
‫ل من أنفسكم‬
‫ف‬
‫ص عليكم بالمؤمنين رؤو ٌ‬
‫عزيٌز عليه ما عنتم حري ٌ‬
‫م﴾ (التوبة‪ ،)128 :‬فمحمد هو رحمة الله‬ ‫رحي ٌ‬
‫المسداة إلى خلقه‪.‬‬
‫وقد امتن الله على البشرية ببعثته لما طواه من‬
‫الحقاد المريرة؛ التي أنّت المجتمعات النسانية منها‬
‫‪)( 1‬أخرجه ابن ماجه ح (‪ ،)1969‬وأحمد ح (‪.)8363‬‬
‫‪ )(2‬قالوا عن السلم‪ ،‬عماد الدين خليل (‪.)410‬‬
‫(‪)107‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫طويلً‪﴿ :‬واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف‬


‫بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ً وكنتم على شفا‬
‫ة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم‬ ‫حفر ٍ‬
‫آياته لعلكم تهتدون﴾ (آل عمران‪.)103 :‬‬
‫كما وصف الله كتابه الخير ‪ -‬القرآن العظيم ‪-‬‬
‫بالرحمة والشفاء بقوله‪﴿ :‬يا أيها الناس قد جاءتكم‬
‫ى‬
‫ة من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهد ً‬ ‫موعظ ٌ‬
‫ة للمؤمنين﴾ (يونس‪ ،)57 :‬وأكد عليه بقوله‪﴿ :‬‬ ‫ورحم ٌ‬
‫ة لقوم ٍ يوقنون﴾‬
‫ى ورحم ٌ‬
‫هذا بصائر للناس وهد ً‬
‫(الجاثـية‪.)20:‬‬
‫والرحمة كما هي صفة الله ونبيه وكتابه؛ فإنها‬
‫صفة لزمة للمؤمنين أيضا ً ‪ ،‬فالله الرحيم يرحم‬
‫الرحماء من عباده‪ ،‬و ((من ل يرحم الناس ل يرحمه‬
‫الله))(‪ ،)1‬والمتواصون بهذا الخلق العظيم هم أهل‬
‫السعادة يوم القيامة ﴿ثم كان من الذين آمنوا‬
‫أولئك أصحاب‬ ‫وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة‬
‫الميمنة﴾ (البلد‪.)18-17 :‬‬
‫المسلمين أن يتصفوا بصفة الرحمة‪،‬‬ ‫‪r‬‬ ‫وقد أمر‬
‫في تعاملهم فيما بينهم ومع غيرهم‪ ،‬بل وحتى مع‬
‫‪(( :‬من ل يرحم الناس))(‪ ،)2‬لفظ‬ ‫‪r‬‬ ‫الحيوان ‪ ،‬فقوله‬
‫عام يشمل كل أحد ‪ ،‬دون تمييز لجنس أو لون أو‬
‫دين ‪.‬‬
‫ومن صور الرحمة لغير المسلمين التصدق على‬
‫مسكينهم ‪ ،‬فقد روى أبو عبيد أن بعض المسلمين‬
‫كان لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير‪ ،‬وكانوا‬
‫يتقون أن يتصدقوا عليهم‪ ،‬يريدوهم أن يسلموا ‪،‬‬

‫‪)( 1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)7376‬ومسلم ح (‪.)2319‬‬


‫‪ )(2‬أخرجه البخاري ح (‪.)7376‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)108‬‬
‫السلم‬

‫فنزلت ‪ ﴿ :‬ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من‬


‫يشاء وما تنفقوا من خير فلنفسكم﴾ (البقرة‪.)272 :‬‬
‫(‪)1‬‬

‫وتمتد الرحمة لتشمل المحاربين الذين وقعوا في‬


‫أسر المسلمين‪ ،‬يقول أبو رزين‪ :‬كنت مع سفيان بن‬
‫سلمة‪ ،‬فمر عليه أسارى من المشركين‪ ،‬فأمرني أن‬
‫أتصدق عليهم‪ ،‬ثم تل هذه الية‪﴿ :‬ويطعمون الطعام‬
‫ً‬
‫وأسيرا ﴾ (النسان‪.)8 :‬‬ ‫على حبه مسكينا ً ويتيما ً‬
‫يقول أبو عزيز بن عمير‪ :‬كنت في السارى يوم‬
‫بدر‪ ،‬فقال رسول الله ‪(( : r‬استوصوا بالسارى‬
‫خيراً))‪ ،‬وكنت في نفر من النصار‪ ،‬وكانوا إذا قدموا‬
‫غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني الخبز‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫بوصية رسول الله ‪ r‬إياهم‪.‬‬
‫وإذا كان السلم دين رحمة‪ ،‬فمن أين أتى القول‬
‫الذي تروج له بعض الدوائر التي دأبت على وصف‬
‫السلم بالرهاب والقسوة؛ متذرعة بما جاء في‬
‫القرآن العظيم من نصوص تأمر المسلمين بإعداد‬
‫العدة والتأهب لصد العدوان‪ ،‬بل والقتال والتضحية‬
‫بالنفس ذودا ً عن الدين والوطن والنفس والنسان‪.‬‬
‫إن رحمة السلم ليست استكانة ول خنوعاً‬
‫للباطل على الضيم‪ ،‬ليست استخذاء أو مهانة‪ ،‬بل‬
‫هي رحمة القوي القادر على حماية حقه من‬
‫العدوان‪.‬‬
‫حقا ً لقد أمر القرآن بالقتال‪ ،‬لكن شتان بين‬
‫القتل والقتال‪ ،‬بين الرهاب والجهاد‪ ،‬فالرهاب هو‬
‫استهداف الضعيف العاجز أو البريء الذي ل حول له‬
‫ول طول بالقتل والترويع‪ ،‬فقتل البرياء إرهاب‬

‫‪)( 1‬أخرجه أبو عبيد في الموال ح (‪ ،)1321‬وابن زنجويه في‬


‫الموال ح (‪ )1862‬وصححه اللباني في تمام المنَّة (‪.)1/389‬‬
‫‪)( 2‬أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (‪ ،)18410‬قال‬
‫الهيثمي‪" :‬إسناده حسن" مجمع الزوائد (‪.)6/86‬‬
‫(‪)109‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫دنيء وإفساد في الرض‪ ،‬وهو ‪ -‬في السلم ‪ -‬من‬


‫رها‪.‬‬
‫أعظم الجرائم وأنك ِ‬
‫لقد استبشع القرآن إرهاب فرعون واعتداءه على‬
‫الطفال والمستضعفين من اليهود‪ ،‬واعتبره من‬
‫المفسدين في الرض العاتين فيها‪﴿ :‬إن فرعون عل‬
‫في الرض وجعل أهلها شيعا ً يستضعف طائف ً‬
‫ة منهم‬
‫يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من‬
‫المفسدين﴾ (القصص‪.)4 :‬‬
‫ونقل القرآن أيضا ً بغض الله للمفسدين‪﴿ :‬ول تبغ‬
‫الفساد في الرض إن الله ل يحب المفسدين﴾‬
‫(القصص‪ ،)77 :‬وحكى عن حال أهل البغي والفساد‬
‫محذرا ً من صنيعهم مستنكرا ً فعالهم‪﴿ :‬وإذا تولى‬
‫سعى في الرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل‬
‫والله ل يحب الفساد﴾ (البقرة‪.)205 :‬‬
‫إن قتل نفس بريئة واحدة إفساد في الرض‪ ،‬وهو‬
‫أمر جلل مستبشع‪ ،‬كيف ل وهو مشبه بالعتداء على‬
‫ً‬
‫جميع الجنس البشري ﴿من قتل نفسا بغير نف ٍ‬
‫س أو‬
‫فساٍد في الرض فكأنما قتل الناس جميعا ً ومن‬
‫أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ﴾ (المائدة‪.)32 :‬‬
‫وقد حرم الله قتل النفس إل بحق ‪ -‬كقصاص‬
‫ونحوه ‪ -‬في آيات كثيرة من القرآن ‪ ،‬منها قوله‬
‫تعالى‪﴿ :‬ول تقتلوا النفس التي حرم الله إل بالحق﴾‬
‫(النعام‪ ،151 :‬السراء‪ ،)33 :‬ووصف عباده المؤمنين‬
‫بأنهم ‪ ﴿ :‬ل يدعون مع الله إلها ً آخر ول يقتلون‬
‫النفس التي حرم الله إل بالحق﴾ (الفرقان‪.)68 :‬‬
‫ومن وقع في قتل نفس بل حق؛ فقد أدخل الخلل‬
‫على دينه ‪ ،‬قال ‪(( :‬ل يزال المؤمن في فسحة من‬
‫تعرف على‬
‫(‪)110‬‬
‫السلم‬

‫دينه‪ ،‬ما لم يصب دما ً حراماً))(‪)1‬؛ وكما يقول الصحابي‬


‫عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‪( :‬إن من ورطات‬
‫المور التي ل مخرج لمن أوقع نفسه فيها‪ ،‬سفك‬
‫(‪)2‬‬
‫الدم الحرام بغير حله)‪.‬‬
‫وحرمة النفس ل تختص بالمسلم دون غيره‪ ،‬بل‬
‫تشمل كل نفس من غير أهل الحرب والعدوان‪ ،‬وهذا‬
‫بيّن لمن تأمل وعيد النبي لمن اجترأ على دم‬
‫محرم من غير المسلمين؛ فقد قال متوعدا ً من‬
‫يفعل ذلك من المسلمين‪ (( :‬من قتل معاهدا ً لم يرح‬
‫رائحة الجنة‪ ،‬وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين‬
‫عاماً))‪ )3(.‬فهؤلء المسالمون من غير المسلمين لهم‬
‫عهد وذمة الله ورسوله‪ ،‬والوعيد النبوي شديد لمن‬
‫أخفر هذه الذمة ((أل من قتل نفسا ً معاهدة لها ذمة‬
‫الله وذمة رسوله‪ ،‬فقد أخفر ذمة الله‪ ،‬فل يرح رائحة‬
‫الجنة‪ ،‬وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين‬
‫(‪)4‬‬
‫خريفاً))‪.‬‬
‫إن السلم لم يحرم قتل أمثال هؤلء فحسب‪ ،‬بل‬
‫حرم ظلمهم وانتقاص حقوقهم والضرار‬
‫بمصالحهم‪ ،‬والنبي ‪ -‬وهو الرحمة المسداة ‪ -‬يحاج‬
‫يوم القيامة المسلمين الذين يظلمون هؤلء‪ ،‬ويجعل‬
‫نفسه الشريفة خصما ً للمعتدي عليهم‪ ،‬فيقول‪(( :‬من‬
‫ظلم معاهدا ً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو‬
‫أخذ منه شيئا ً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم‬
‫القيامة))‪ )5(.‬فالظلم ‪-‬لي أحد ‪-‬يغضب الله الذي يقبل‬
‫شكاة المظلوم على ظالمه ‪-‬ولو كان المظلوم غير‬

‫‪)( 1‬أخرجه البخاري ح (‪.)6862‬‬


‫‪ )(2‬أخرجه البخاري ح (‪.)6863‬‬
‫‪)( 3‬أخرجه البخاري ح (‪.)3166‬‬
‫‪ )(4‬أخرجه الترمذي ح ( ‪ ،)1403‬وابن ماجه ح (‪.)2687‬‬
‫‪ )(5‬أخرجه أبو داود ح (‪ ،)3052‬ونحوه في سنن النسائي ح (‬
‫‪ ،)2749‬وصححه اللباني في صحيح أبي داود ح (‪.)2626‬‬
‫(‪)111‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫مسلم ‪ ،‬فالله يجيب دعوته على ظالمه المسلم‪،‬‬


‫يقول ‪(( :r‬اتقوا دعوة المظلوم ‪-‬وإن كان كافراً‬
‫‪-‬فإنه ليس دونها حجاب)) (‪ ،)1‬فالله حرم الظلم على‬
‫ذاته العلية‪ ،‬وكذلك حَّرمه على سائر خلقه‪ ،‬ففي‬
‫الحديث القدسي أن الله تعالى يقول مخاطبا ً البشر‬
‫جميعاً‪(( :‬يا عبادي‪ ،‬إني حرمت الظلم على نفسي‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وجعلته بينكم محرماً؛ فل تظالموا))‪.‬‬
‫إن ظلم الحيوان يستوجب لصاحبه النار‪ ،‬فما بالنا‬
‫بظلم النسان لخيه النسان‪ ،‬قال ‪(( :‬دخلت امرأة‬
‫النار في هرة ربطتها‪ ،‬فلم تطعمها‪ ،‬ولم تدعها تأكل‬
‫(‪)3‬‬
‫من خشاش الرض))‪.‬‬
‫وهكذا فالسلم أبعد الديان عن الظلم وأكثرها‬
‫تنديدا ً به وامتناعا ً عنه‪ ،‬لكن ذلك ل علقة له من‬
‫قريب أو بعيد بشرعة الجهاد التي يقررها السلم‪،‬‬
‫ردعا ً للظالم وزجرا ً للباغي وصونا ً لليمان وحرية‬
‫العباد في عبادة الله‪.‬‬
‫إذا أردنا الحديث عن الجهاد فإنه يحسن بنا أن‬
‫نقرأ – ولو سريعا ً – بعض الحداث في فجر السلم‪،‬‬
‫حين بعث الله محمدا ً رسول ً للعالمين‪ ،‬فتصدت له‬
‫قريش‪ ،‬وآزرتها قبائل العرب‪ ،‬فأوقعوا النكال‬
‫والتعذيب والقتل بالمؤمنين‪ ،‬والمؤمنون صابرون‬
‫محتسبون ملتزمون بنهي الله لهم عن القتال‪ ،‬لقد‬
‫أمرهم الله بالصبر‪﴿ :‬ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا‬
‫أيديكم وأقيموا الصلة وآتوا الزكاة﴾ (النساء‪.)77 :‬‬
‫لكن الباطل أزبد وأصر على البغي‪ ،‬فأذن الله‬
‫للمؤمنين المضطهدين بالقتال والذب عن أنفسهم ﴿‬
‫أُِذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على‬

‫‪)( 1‬أخرجه أحمد ح (‪.)12140‬‬


‫‪)( 2‬أخرجه مسلم ح (‪.)2577‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)3318‬ومسلم ح (‪.)2619‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)112‬‬
‫السلم‬

‫الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق‬ ‫نصرهم لقديٌر‬


‫إل أن يقولوا ربنا الله﴾ (الحج‪.)40-39 :‬‬
‫وبينت الية نفسها مبلغ الفساد الذي يلحق‬
‫البشرية على اختلف أديانها إذا قصرت في رد‬
‫المعتدي وزجره بالقوة التي يندفع بها عدوانه وتأمن‬
‫ض‬‫بها المجتمعات ﴿ولول دفع الله الناس بعضهم ببع ٍ‬
‫ت ومساجد يذكر فيها‬ ‫ع وصلوا ٌ‬‫لهدمت صوامع وبي ٌ‬
‫اسم الله كثيرا ً ولينصرن الله من ينصره إن الله‬
‫لقوي عزيٌز ﴾ (الحج‪.)40 :‬‬
‫وبينت الية التي تلتها الصفات التي ينبغي أن‬
‫يكون عليها أهل اليمان الذين ينصرهم الله‪ ،‬فهم ﴿‬
‫الذين إن مكناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا‬
‫الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله‬
‫عاقبة المور﴾ (الحج‪.)41 :‬‬
‫ونهى الله نبيه والصحابة عن العتداء والبدء‬
‫بالقتال ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ول‬
‫تعتدوا إن الله ل يحب المعتدين واقتلوهم حيث‬
‫ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة‬
‫أشد من القتل ول تقاتلوهم عند المسجد الحرام‬
‫حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك‬
‫م‬‫جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفوٌر رحي ٌ‬
‫ة ويكون الدين لله فإن‬ ‫وقاتلوهم حتى ل تكون فتن ٌ‬
‫انتهوا فل عدوان إل على الظالمين الشهر الحرام‬
‫ص فمن اعتدى عليكم‬ ‫بالشهر الحرام والحرمات قصا ٌ‬
‫فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله‬
‫واعلموا أن الله مع المتقين﴾ (البقرة‪.)194-190 :‬‬
‫ولو انزجر هؤلء المعتدون بغير القتال لراحوا‬
‫الرض من عناء الحروب وويلتها ﴿فإن اعتزلوكم‬
‫(‪)113‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم‬


‫عليهم سبيلً ﴾ (النساء‪.)90:‬‬
‫وحين أعلن المشركون الحرب الشاملة على‬
‫المسلمين؛ قابلهم السلم بمثلها‪ ،‬فأمر الله في‬
‫القرآن بالتوحد لقتالهم‪﴿ :‬وقاتلوا المشركين كاف ً‬
‫ة‬
‫ة واعلموا أن الله مع المتقين﴾‬
‫كما يقاتلونكم كاف ً‬
‫(التوبة‪.)36 :‬‬
‫وهكذا فإن القتال في السلم فرض وفق أسباب‬
‫شرعية ومبررات واقعية‪.‬‬
‫إن الحرب ليست أمرا ً محببا ً إلى النفوس‪ ،‬لكنها ‪-‬‬
‫على كل حال ‪ -‬مبضع الجراح الذي ل غناء عنه إذا‬
‫أردنا صحة الجسم العليل ﴿كتب عليكم القتال وهو‬
‫كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئا ً وهو خيٌر لكم‬
‫وعسى أن تحبوا شيئا ً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم‬
‫ل تعلمون ﴾ (البقرة‪.)216 :‬‬
‫والنبي ‪ r‬يوجه أصحابه إلى دعاء الله واللتجاء إليه‬
‫لصرف العدو وقطع شره من غير قتال‪(( :‬يا أيها‬
‫الناس‪ ،‬ل تتمنوا لقاء العدو‪ ،‬وسلوا الله العافية‪ ،‬فإذا‬
‫لقيتموهم فاصبروا))‪ )1(.‬وقد امتن الله تعالى على‬
‫حين صرف عن المدينة الحزاب من غير أن‬ ‫نبيه‬
‫يقع بينهم قتل وقتال ﴿ورد الله الذين كفروا‬
‫بغيظهم لم ينالوا خيرا ً وكفى الله المؤمنين القتال‬
‫وكان الله قويا ً عزيزاً ﴾ (الحزاب‪.)25 :‬‬
‫إن غاية الحرب في السلم ليست الستعلء في‬
‫الدنيا والتسلط على الخرين‪ ،‬فمن كان همه الدنيا‬
‫وزخارفها خسر الخرة وكرامتها ﴿تلك الدار الخرة‬
‫نجعلها للذين ل يريدون علوا ً في الرض ول فساداً‬
‫والعاقبة للمتقين﴾ (القصص‪.)83 :‬‬

‫()أخرجه البخاري ح (‪ ، )3024‬ومسلم ح (‪.)1742‬‬ ‫‪1‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)114‬‬
‫السلم‬

‫ولما جاء أعرابي إلى النبي ‪ r‬يسأله عن غايات‬


‫الجهاد المشروع الذي شرعه الله‪ ،‬ويقول‪ :‬الرجل‬
‫يقاتل للمغنم‪ ،‬والرجل يقاتل ليُذكر‪ ،‬ويقاتل ليُرى‬
‫مكانه‪ ،‬من في سبيل الله؟ فقال ‪ r‬مبينا ً فساد‬
‫القتال إذا كان للدنيا ومتاعها وغاياتها الخسيسة‪:‬‬
‫((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في‬
‫(‪)1‬‬
‫سبيل الله))‪.‬‬
‫إن المتدبر لما ورد في القرآن والسنة وتاريخ‬
‫المسلمين لن تخطئ عينه رؤية مقصدين نبيلين‬
‫شرع الله الجهاد لحفظهما‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬دفع العدوان الواقع على الدين‪ ،‬ذلك‬
‫العدوان الذي يحول بين الناس ودعوة الحق سماعاً‬
‫لها أو إيمانا ً بها‪ ،‬كما قال تعالى ‪﴿ :‬وقاتلوهم حتى ل‬
‫ة ويكون الدين لله فإن انتهوا فل عدوان إل‬ ‫تكون فتن ٌ‬
‫على الظالمين﴾ (البقرة‪ ،)193 :‬يقول ابن عمر ‪:‬‬
‫(قد فعلنا على عهد رسول الله إذ كان السلم‬
‫قليلً‪ ،‬فكان الرجل يفتن في دينه‪ :‬إما يقتلونه وإما‬
‫(‪)2‬‬
‫يوثقونه حتى كثر السلم)‪.‬‬
‫قدُما ً بجهاده ليحرر النسان ‪،‬‬ ‫إن المسلم يمضي ُ‬
‫ويضمن له حرية القرار والختيار‪ ،‬ويدفع بذلك من‬
‫يحول بين الناس واختيارهم‪ ،‬يدفع شر أولئك الذين‬
‫يبغون الفتنة والبوار‪ ،‬فقتال هؤلء مشروع مبرور ﴿‬
‫والفتنة أكبر من القتل ول يزالون يقاتلونكم حتى‬
‫يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم‬
‫عن دينه فيمت وهو كافٌر فأولئك حبطت أعمالهم‬
‫في الدنيا والخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها‬
‫خالدون﴾ (البقرة‪.)217 :‬‬
‫ر يوم القادسية هذا الهدف‬ ‫وقد جلّى ربعي بن عام ٍ‬
‫النبيل حين قال لرستم قائد جيش الفرس في‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)2810‬ومسلم ح (‪.)1904‬‬
‫‪ )(2‬أخرجه البخاري ح (‪.)4515‬‬
‫(‪)115‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫القادسية‪ ،‬وقد سأله‪ :‬ما جاء بكم؟ فأجاب ربعي‪:‬‬


‫"الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى‬
‫عبادة الله‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إلى سعتها‪ ،‬ومن جور‬
‫الديان إلى عدل السلم‪ ،‬فأرسلنا بدينه إلى خلقه‬
‫(‪)1‬‬
‫لندعوهم إليه"‪.‬‬
‫إن اليمان أغلى ما يملكه المسلم‪ ،‬وهو أحق ما‬
‫حى من أجله‪ ،‬وقد أنصف الكاتب بيجي‬ ‫بذل له وض ّ‬
‫رودريك ولم يجاوز الحقيقة حين قال‪ " :‬السلم أذن‬
‫لرسوله بالجهاد لرفع الظلم والضطهاد ‪ ..‬ولزالة‬
‫العقبات التي تقف في وجه الدعوة للسلم‪ ،‬تلك‬
‫الدعوة التي ل تكره أحدا ً على الدخول في هذا‬
‫الدين‪ ،‬وإنما تدعو الناس إليه وتترك لهم الحرية‬
‫الكاملة للختيار ‪ ..‬إن السلم هو دين السلم ‪،‬‬
‫ً (‪)2‬‬
‫السلم مع الله والسلم مع الناس جميعا"‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬رد العدوان الذي يستهدف أوطان‬
‫المسلمين وينتهك حرماتهم‪ ،‬وتحرير النسان من‬
‫الظلم والضطهاد‪ ،‬فالظلم يمقته الله‪ ،‬والبغي‬
‫تستنكفه الضمائر‪ ،‬ول ترى بُدا ً من نصرة المظلوم‬
‫وإحقاق الحق وإقامة العدل الذي قامت عليه‬
‫السماوات والرض‪ ،‬قال الله تعالى‪﴿ :‬وما لكم ل‬
‫تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال‬
‫والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه‬
‫القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا ً واجعل‬
‫لنا من لدنك نصيراً ﴾ (النساء‪.)75 :‬‬
‫قتِل وهو يدفع عن‬ ‫ويقول مبشرا ً ومثبتا ً من ُ‬
‫قتِل دون ماله فهو شهيد‪،‬‬ ‫ماله وأهله ودينه‪(( :‬من ُ‬
‫قتِل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو‬ ‫ومن ُ‬
‫(‪)3‬‬
‫شهيد))‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البداية والنهاية (‪.)7/40‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قالوا عن السلم (‪.)246‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه الترمذي ح (‪ ،)1421‬وأبو داود ح (‪.)4772‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)116‬‬
‫السلم‬

‫وحين يجاهد المسلم فإنه يلتزم في جهاده جملة‬


‫من الضوابط التي يتميز بها عن الرهاب‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -‬القبول بالسلم والهدنة إن طلبها العدو المقاتل‪،‬‬
‫قال تعالى ‪﴿ :‬وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل‬
‫وإن يريدوا أن‬ ‫على الله إنه هو السميع العليم‬
‫يخدعوك فإن حسبك الله ﴾ (النفال‪.)62-61 :‬‬
‫‪ -‬المتناع عن قتل المدنيين من النساء والشيوخ‬
‫والطفال ومن في حكمهم من المدنيين المعصومين‬
‫كالخدم والُجراء ورجال الدين وغيرهم ممن ل‬
‫يشارك في القتال‪ ،‬فقد ورد النهي عن قتل النساء‬
‫والشيوخ والصبيان في حديث النبي ‪ ،r‬يقول ابن‬
‫عمر رضي الله عنهما‪( :‬وجدت امرأة مقتولة في‬
‫بعض مغازي رسول الله ‪ ،r‬فنهى رسول الله ‪ r‬عن‬
‫(‪)1‬‬
‫قتل النساء والصبيان)‪.‬‬
‫وكان رسول الله ‪ r‬إذا بعث جيشا ً يقول ‪:‬‬
‫((انطلقوا باسم الله‪ ،‬وعلى ملة رسول الله‪ ،‬ل‬
‫تقتلوا شيخا ً فانياً‪ ،‬ول طفلً‪ ،‬ول صغيراً‪ ،‬ول امرأة‪،‬‬
‫ول تغلوا‪ ،‬وضموا غنائمكم‪ ،‬وأصلحوا وأحسنوا‪ ،‬إن‬
‫(‪)2‬‬
‫الله يحب المحسنين))‪.‬‬
‫ومما جاء في النهي عن قتل النساء والجراء‬
‫والعمال الذين ل يحاربون‪ ،‬حديث الصحابي رباح بن‬
‫الربيع قال ‪ :‬كنا مع رسول الله ‪ r‬في غزوة‪ ،‬فرأى‬
‫الناس مجتمعين على شيء‪ ،‬فبعث رجل ً فقال‪:‬‬
‫((انظر علم اجتمع هؤلء؟)) فجاء فقال‪ :‬على امرأة‬
‫قتيل‪ .‬فقال ‪(( :r‬ما كانت هذه لتقاتل))‪ ،‬وكان على‬
‫المقدمة خالد بن الوليد‪ ،‬قال‪ :‬فبعث رسول الله ‪r‬‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ، )3015‬ومسلم ح (‪.)1744‬‬


‫‪ )(2‬أخرجه أبو داود ح (‪.)2614‬‬
‫(‪)117‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫رجلً‪ ،‬فقال‪(( :‬قل لخالد‪ :‬ل تقتلن امرأة ول‬


‫(‪)1‬‬
‫عسيفاً))‪.‬‬
‫يأمرك‬ ‫وفي رواية‪ ،‬فقل‪ :‬إن رسـول الله‬
‫(‪)2‬‬
‫فيقول‪(( :‬ل تقتلن ذرية ول عسيفاً))‪.‬‬
‫ولما بعث رسول الله سرية يوم حنين قاتلوا‬
‫المشركين‪ ،‬فأفضى بهم القتل إلى الذرية‪ ،‬فلما‬
‫جاءوا قال رسول الله مستنكراً‪(( :‬ما حملكم على‬
‫قتل الذرية؟)) فقالوا‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إنما كانوا أولد‬
‫المشركين‪ .‬فقال معلما ً ومصححا ً مفهومهم‬
‫الخاطئ‪(( :‬أوهل خياركم إل أولد المشركين؟ والذي‬
‫نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إل على الفطرة‬
‫(‪)3‬‬
‫حتى يعرب عنها لسانها))‪.‬‬
‫وهكذا نهى النبي عن قتل أبناء المشركين‪ ،‬ل‬
‫بل أخبر أنهم مولودون على الفطرة المؤمنة‪،‬‬
‫وحكمهم كذلك إلى أن يكبروا‪ ،‬فيختاروا الكفر الذي‬
‫عليه آباؤهم‪.‬‬
‫وممن يمنع قتله؛ الرهبان لنهم ل يشتركون في‬
‫القتال‪ ،‬وقد أوصى الخليفة أبو بكر قائد جيش‬
‫المسلمين إلى بلد الشام بقوله‪( :‬إنك ستجد قوماً‬
‫زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله‪ ،‬فذرهم وما زعموا‬
‫(‪)4‬‬
‫أنهم حبسوا أنفسهم له )‪.‬‬
‫وهكذا فالسلم بريء من الرهاب‪ ،‬وكذلك‬
‫المسلمون الذين التزموا خلل تاريخهم الجهادي‬
‫بضوابط السلم‪ ،‬ولم يكونوا كغيرهم من المحاربين‬
‫المفسدين في الرض‪ ،‬وبين أيدينا شهادات عديدة‬
‫منصفة تؤكد هذا وتجليه‪:‬‬
‫أبو داود ح (‪ ،)2669‬وابن ماجه ح (‪ ،)2842‬والعسيف‬ ‫‪)( 1‬أخرجه‬
‫الذي يخدم الجيش ول يشترك في القتال‪.‬‬ ‫هو الجير‬
‫ابن ماجه ح (‪.)2842‬‬ ‫‪ )(2‬أخرجه‬
‫أحمد في المسند ح (‪.)15161‬‬ ‫‪ )(3‬أخرجه‬
‫مالك في الموطأ ح (‪.)982‬‬ ‫‪)( 4‬أخرجه‬
‫تعرف على‬
‫(‪)118‬‬
‫السلم‬

‫يقول المؤرخ الشهير ول ديورانت‪" :‬إن المسلمين‬


‫– كما يلوح – كانوا رجال ً أكمل من المسيحيين‪ ،‬فقد‬
‫كانوا أحفظ منهم للعهد‪ ،‬وأكثر منهم رحمة‬
‫بالمغلوبين‪ ،‬وقلّما ارتكبوا في تاريخهم من الوحشية‬
‫ما ارتكبه المسيحيون عندما استولوا على بيت‬
‫(‪)1‬‬
‫المقدس في عام ‪1099‬م"‪.‬‬
‫وأما غوستاف لوبون فيقول ‪" :‬فالحق أن المم‬
‫لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب ول‬
‫(‪)2‬‬
‫دينا ً سمحا ً مثل دينهم "‪.‬‬
‫ويتحدث عن صور من معاملة المسلمين لغير‬
‫المسلمين فيقول ‪" :‬وكان عرب أسبانيا ‪-‬خل‬
‫تسامحهم العظيم ‪-‬يتصفون بالفروسية المثالية‪،‬‬
‫فيرحمون الضعفاء ويرفقون بالمغلوبين‪ ،‬ويقفون‬
‫عند شروطهم وما إلى ذلك من الخلل التي‬
‫(‪)3‬‬
‫اقتبستها المم النصرانية بأوربا منهم مؤخراً"‪.‬‬
‫وهكذا تبين لنا عظيم الفرق بين الجهاد المشروع‬
‫في السلم والساليب الرهابية التي تمارس من‬
‫بعض المسلمين وغيرهم اليوم‪ ،‬والتي يعتبرها‬
‫السلم إفسادا ً في الرض‪ ،‬وتنسب إلى السلم‬
‫جورا ً وظلماً!‬
‫إن اتهام السلم بالرهاب زور وظلم يفتقد‬
‫الموضوعية ويجافي الحقيقة‪ ،‬والزاعمون له أدعياء‬
‫تجردوا عن المصداقية والصدق حين كلّت أقلمهم‬
‫حت حناجرهم من لمز السلم بالرهاب‪ ،‬ولم‬ ‫وب ّ‬
‫ينطقوا ببنت شفة عن أديان أخرى ‪ ،‬تسوغ كتبها‬
‫قتل النساء والطفال والرضع وغيرهم ممن ل‬
‫علقة له بالقتال " هكذا يقول رب الجنود‪ ... :‬فالن‬
‫اذهب‪ ،‬واضرب عماليق‪ ،‬وحرموا كل ما له‪ ،‬ول تعف‬
‫عنهم‪ ،‬بل اقتل رجل ً وامرأة‪ ،‬طفل ً ورضيعاً‪ ،‬بقراً‬
‫وغنماً‪ ،‬جمل ً وحمارا ً " (صموئيل (‪.)3-15/2 )1‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قالوا عن السلم (‪. )245‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حضارة العرب ‪ ،‬غوستاف لوبون (‪.)720‬‬
‫‪ )(3‬حضارة العرب ‪ ،‬غوستاف لوبون (‪.)344‬‬
‫(‪)119‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫إنا ل نطالب هؤلء باتهام الخرين‪ ،‬إنما الذي‬


‫نطالبهم به أن يفهموا نصوصنا المقدسة بفهمنا لها‪،‬‬
‫ل بخلطهم وجهلهم‪ ،‬وأن يشيحوا بأقلمهم عنا حين‬
‫تغيب عنهم الفهوم الصحيحة‪ ،‬وإل فالحرى أن‬
‫يلتمسوا لنا من العذار ما التمسوه للخرين وكتبهم‪.‬‬
‫ونختم بشهادة للكاتب المريكي آندرو باترسون‬
‫حيث يقول‪ " :‬إن العنف باسم السلم ليس من‬
‫السلم في شيء‪ ،‬بل إنه نقيض لهذا الدين الذي‬
‫(‪)1‬‬
‫يعني السلم ل العنف"‪.‬‬
‫ثالثا ً ‪ :‬السلم والتعامل مع الخر‬
‫ما فتئت بعض الدوائر العلمية تتعرض للسلم‬
‫وتتهمه بالعنصرية في تعامله مع غير المسلمين‪،‬‬
‫وتزعم أن السلم أرغم الكثيرين على اعتناقه‪ ،‬وأنه‬
‫يحث على كراهية الخرين ويشجع على ظلمهم‪.‬‬
‫وهذه الدوائر جهلت السلم وأحكامه أو أنها‬
‫تعمدت تشويه حقائقه وتشريعاته‪ ،‬وأيا ً كان؛ فإن‬
‫السلم بريء من هذه الفرية‪ ،‬فالتاريخ يشهد أن‬
‫المسلمين طوال عطائهم الحضاري العظيم لم‬
‫يعمدوا إلى إجبار الشعوب أو الفراد على اعتناق‬
‫دينهم ‪ ،‬فقد أيقنوا أن اختلف البشر في شرائعهم‬
‫واقع بمشيئة الله تعالى ومرتبط بحكمته‪ ،‬يقول‬
‫الله‪﴿ :‬لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ً ولو شاء الله‬
‫لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم‬
‫فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً ﴾‬
‫(المائدة‪ ،)48 :‬ولو شاء الله لخلق الناس أو جعلهم‬
‫مسلمين فطرة‪ ،‬من غير اختيار منهم ول اقتدار ﴿ولو‬

‫()ل سكوت بعد اليوم ‪ ،‬بول فندلي (‪.)91‬‬ ‫‪1‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)120‬‬
‫السلم‬

‫ة واحدةً ول يزالون‬
‫شاء ربك لجعل الناس أم ً‬
‫مختلفين إل من رحم ربك ولذلك خلقهم ﴾ ( هود ‪:‬‬
‫‪.)119 –118‬‬
‫ولذلك أدرك المسلمون أن هداية الجميع من‬
‫المحال‪ ،‬وأن أكثر الناس ل يؤمنون‪ ،‬وأن واجبهم‬
‫الدأب في دعوة واستمالة الناس إلى الحق وطلب‬
‫أسباب هدايتهم‪ ،‬فقد أخبرهم الله بأن مهمتهم هي‬
‫البلغ فحسب‪ ،‬وأنه تعالى هو من يتولى حساب‬
‫المعرضين في الخرة‪ ،‬قال الله مخاطبا ً نبيه ‪﴿ :r‬‬
‫فإن تولوا فإنما عليك البلغ﴾ (النحل‪ .)82 :‬وقال‪﴿ :‬‬
‫فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلغ‬
‫والله بصيٌر بالعباد﴾ (آل عمران‪﴿ ،)20 :‬ولو شاء ربك‬
‫لمن من في الرض كلهم جميعا ً أفأنت تكره الناس‬
‫حتى يكونوا مؤمنين﴾ (يونس‪.)99 :‬‬
‫وقد رفض السلم ابتداء فكرة إلغاء الخر‪،‬‬
‫وأعلنها صريحة‪ ﴿ :‬ل إكراه في الدين قد تبين الرشد‬
‫من الغي﴾ (البقرة‪ ﴿ ، )256 :‬وقل الحق من ربكم‬
‫فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا‬
‫للظالمين نارا ً أحاط بهم سرادقها﴾ (الكهف‪.)29 :‬‬
‫إن السلم يرفض إسلم المكره لسباب بسيطة‬
‫واضحة‪ ،‬منها أن المكره ليس بمؤمن حقيقة‪ ،‬ول‬
‫تلزمه تشريعاته في أحكام الدنيا‪ ،‬ول ينفعه ذلك في‬
‫الخرة‪ ،‬ومنها أن ذلك ليس مقتضى الحكمة‬
‫والمشيئة اللهية‪.‬‬
‫وقد شهد المؤرخون بالتزام المسلمين بتعاليم‬
‫دينهم في هذا الصدد‪ ،‬فيقول المفكر السباني‬
‫بلسكوا أبانيز في كتابه "ظلل الكنيسة" متحدثا ً عن‬
‫الفتح السلمي للندلس‪" :‬لقد أحسنت أسبانيا‬
‫(‪)121‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة‬


‫الفريقية‪ ،‬وأسلمتهم القرى أزمتها بغير مقاومة ول‬
‫عداء‪ ،‬فما هو إل أن تقترب كوكبة من فرسان العرب‬
‫من إحدى القرى؛ حتى تفتح لها البواب وتتلقاها‬
‫بالترحاب ‪ ..‬كانت غزوة تمدين‪ ،‬ولم تكن غزوة فتح‬
‫وقهر ‪ ..‬ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمنا ً عن فضيلة‬
‫حرية الضمير‪ ،‬وهي الدعامة التي تقوم عليها كل‬
‫عظمة حقة للشعوب‪ ،‬فقبلوا في المدن التي ملكوها‬
‫ش المسجد‬‫كنائس النصارى وبـيَع اليهود‪ ،‬ولم يخ َ‬
‫معابد الديان التي سبقته‪ ،‬فعرف لها حقها‪ ،‬واستقر‬
‫إلى جانبها‪ ،‬غير حاسد لها‪ ،‬ول راغب في السيادة‬
‫(‪)1‬‬
‫عليها"‪.‬‬
‫ويقول المؤرخ النجليزي السير توماس أرنولد‬
‫في كتابه "الدعوة إلى السلم"‪" :‬لقد عامل‬
‫المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح‬
‫عظيم منذ القرن الول للهجرة ‪ ،‬واستمر هذا‬
‫التسامح في القرون المتعاقبة‪ ،‬ونستطيع أن نحكم‬
‫بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت السلم قد‬
‫اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة ‪ ،‬وإن العرب‬
‫المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين‬
‫(‪)2‬‬
‫جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح "‪.‬‬
‫وتقول المستشرقة اللمانية زيغريد هونكه‪:‬‬
‫"العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول‬
‫في السلم‪ ،‬فالمسيحيون والزرادشتية واليهود‬
‫الذين لقوا قبل السلم أبشع أمثلة للتعصب الديني‬
‫()فن الحكم في السلم‪ ،‬مصطفى أبو زيد فهمي (‪.)387‬‬ ‫‪1‬‬

‫()الدعوة إلى السلم (‪.)51‬‬ ‫‪2‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)122‬‬
‫السلم‬

‫وأفظعها؛ سمح لهم جميعا ً دون أي عائق يمنعهم‬


‫بممارسة شعائر دينهم‪ ،‬وترك المسلمون لهم بيوت‬
‫عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن‬
‫يمسوهم بأدنى أذى‪ ،‬أو ليس هذا منتهى التسامح؟‬
‫(‪)1‬‬
‫أين روى التاريخ مثل تلك العمال؟ ومتى؟"‪.‬‬
‫إن السبب الحقيقي لنتشار السلم في الرض‬
‫هو تسامحه مع الخرين‪ ،‬وليس عنفه المزعوم‪ ،‬لقد‬
‫قرأت المم الحق في تسامح المسلمين‪ ،‬وعرفته‬
‫في طيب معشرهم وحسن تعاملهم‪ ،‬خلفا ً لما‬
‫يشيعه الخرون ظلما ً وزوراً‪ ،‬يقول المؤرخ غوستاف‬
‫لوبون‪" :‬إن القوة لم تكن عامل ً في انتشار القرآن ‪،‬‬
‫فقد ترك العرب المغلوبين أحرارا ً في أديانهم ‪ ..‬فإذا‬
‫حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية السلم‬
‫واتخذ العربية لغة له؛ فذلك لما كان يتصف به العرب‬
‫الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد‬
‫بمثله‪ ،‬ولما كان عليه السلم من السهولة التي لم‬
‫(‪)2‬‬
‫تعرفها الديان الخرى"‪.‬‬
‫ويقول‪" :‬وما جهله المؤرخون من حلم العرب‬
‫الفاتحين وتسامحهم كان من السباب السريعة في‬
‫اتساع فتوحاتهم وفي سهولة اقتناع كثير من المم‬
‫بدينهم ولغتهم ‪ ..‬والحق أن المم لم تعرف فاتحين‬
‫رحماء متسامحين مثل العرب‪ ،‬ول دينا ً سمحا ً مثل‬
‫(‪)3‬‬
‫دينهم "‪.‬‬
‫ويوافقه المؤرخ وول ديورانت فيقول‪" :‬وعلى‬
‫الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها‬
‫المسلمون الولون‪ ،‬أو بسبب هذه الخطة اعتنق‬
‫م المسيحيين وجميع الزرادشتيين‬ ‫الدين الجديدَ معظ ُ‬
‫والوثنيين إل عددا ً قليل ً منهم ‪ ..‬واستحوذ الدين‬
‫السلمي على قلوب مئات الشعوب في البلدان‬
‫الممتدة من الصين وأندنوسيا إلى مراكش‬
‫()شمس العرب تسطع على الغرب (‪. )364‬‬ ‫‪1‬‬

‫()حضارة العرب (‪.)127‬‬ ‫‪2‬‬

‫()حضارة العرب (‪.)605‬‬ ‫‪3‬‬


‫(‪)123‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫والندلس‪ ،‬وتملك خيالهم‪ ،‬وسيطر على أخلقهم‪،‬‬


‫وصاغ حياتهم‪ ،‬وبعث آمال ً تخفف عنهم بؤس الحياة‬
‫(‪)1‬‬
‫ومتاعبها"‪.‬‬
‫إن هذا التسامح السلمي هدي قرآني لزم‬
‫للمؤمن الذي ينصاع لقول الله‪﴿ :‬ل ينهاكم الله عن‬
‫الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من‬
‫دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب‬
‫المقسطين﴾ (الممتحنة‪.)8 :‬‬
‫فالية تنوه بفضيلتين‪ ،‬وهما حق لكل من لم‬
‫د علينا من غير المسلمين‪ :‬أولهما‪:‬‬ ‫يقاتلنا ولم يعت ِِ‬
‫التخلق بخصلة البر‪ ،‬وهذا البر الذي رغ َّ‬
‫ب به القرآن‬
‫تجلى في كثير من تشريعات السلم التي أبدعت‬
‫الكثير من المواقف الفياضة بمشاعر النسانية‬
‫والرفق‪.‬‬
‫فقد أوجب القرآن حسن العشرة وصلة الرحم‬
‫حتى مع الختلف في الدين ‪ ،‬فقد أمر الله بحسن‬
‫الصحبة للوالدين وإن جهدا في رد ابنهما عن التوحيد‬
‫إلى الشرك‪ ،‬فإن ذلك ل يقطع حقهما في بره‬
‫وحسن صحبته‪﴿ :‬وإن جاهداك على أن تشرك بي ما‬
‫ليس لك به علم فل تطعهما وصاحبهما في الدنيا‬
‫معروفاً ﴾ (لقمان‪.)15 :‬‬
‫‪r‬‬ ‫ولما جاءت أسماء بنت الصديق إلى رسول الله‬
‫مي وهي راغبة ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫يأ ّ‬‫تقول‪ :‬يا رسول الله ‪ ،‬قدمت عل ّ‬
‫صلِي‬ ‫أفأ َص ُ ُ‬
‫ل أمي؟ فأجابها الرحمة المهداة ‪ِ (( :‬‬ ‫ِ‬

‫‪ )(1‬قصة الحضارة (‪.)13/133‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)124‬‬
‫السلم‬

‫أ ُ َّ‬
‫مك))‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫ومن البر والتسامح الذي ل يمنعه اختلف الدين؛‬


‫عيادة المريض ‪ ،‬فقد عاد النبي ‪ r‬عمه الكافر أبا‬
‫طالب في مرضه (‪ ،)2‬وعاد أيضا ً جارا ً له من اليهود في‬
‫(‪)3‬‬
‫مرضه‪ ،‬فقعد عند رأسه‪.‬‬
‫إلى بعض أعدائه ومخالفيه في‬ ‫كما أهدى النبي‬
‫الدين‪ ،‬لما للهدية من أثر في كسب القلوب واستلل‬
‫الشحناء؛ فقد أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوة‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬
‫بمكة‪ ،‬وكتب إليه يستهديه أدماً ‪ ، 4‬كما قبِل النبي ‪r‬‬
‫( )‬

‫قبل هدية المقوقس‪ ،‬وهدية‬ ‫هدايا الملوك إليه‪ ،‬ف ِ‬


‫(‪)5‬‬
‫ملك أيلة أكيدر‪ ،‬وهدية كسرى‪.‬‬
‫وعلى المستوى الجتماعي قبِل ‪ r‬دعوة زينب بنت‬
‫الحارث اليهودية‪ ،‬حين دعته إلى شاة مشوية في‬
‫خيبر (‪ ،)6‬كما قبِل وأجاب دعوة يهودي دعاه إلى خبز‬
‫(‪)7‬‬
‫شعير وإهالة سنخة‪.‬‬
‫وأما الفضيلة الثانية التي ر ّ‬
‫غبت فيها آية سورة‬
‫الممتحنة فهي‪ :‬العدل الذي هو أهم مكارم الخلق‬
‫التي جاء السلم لحمايتها وتتميمها؛ وهو غاية قريبة‬
‫ميسورة إذا كان المر متعلقا ً بإخوة الدين أو النسب‪،‬‬
‫وغيرها مما يتعاطف ويتراحم له البشر‪.‬‬
‫خلة إنما يظهر إذا تباينت الديان‬
‫لكن صدق هذه ال ُ‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)2620‬ومسلم ح (‪.)1003‬‬


‫‪)( 2‬أخرجه أحمد ح (‪ ، )2009‬والترمذي ح (‪.)3232‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه البخاري ح (‪.)1356‬‬
‫‪ )(4‬أخرجه ابن زنجويه في كتاب الموال (‪.)2/589‬‬
‫‪)( 5‬انظر البخاري ح (‪ ،)1482‬وأحمد ح (‪.)749‬‬
‫‪)( 6‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)2617‬ومسلم (‪.)2190‬‬
‫‪)( 7‬أخرجه أحمد ح (‪.)12789‬‬
‫(‪)125‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫وتعارضت المصالح‪ ،‬لذا فقد أمر القرآن الكريم‬


‫بالعدل بين البشر عموماً‪ ،‬وخ َّ‬
‫ص ‪ -‬بمزيد تأكيده –‬
‫العدل مع المخالفين الذين قد يظلمهم المرء بسبب‬
‫الختلف والنفرة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يا أيها الذين آمنوا‬
‫كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ول يجرمنكم‬
‫شنآن قوم على أن ل تعدلوا اعدلوا هو أقرب‬
‫للتقوى﴾ (المائدة‪.)8 :‬‬
‫يقول الدكتور نظمي لوقا ‪" :‬ما أرى شريعة أدعى‬
‫للنصاف‪ ،‬ول أنفى للجحاف والعصبية من شريعة‬
‫تقول‪ ﴿ :‬ول يجرمنَّكم شنآن قوم ٍ على أل تعدلوا‬
‫اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ (المائدة‪ ،)8 :‬فأي إنسان‬
‫بعد هذا يكرم نفسه وهو يدينها بمبدأ دون هذا‬
‫المبدأ‪ ،‬أو يأخذها بدين أقل منه تسامياً‬
‫(‪)1‬‬
‫واستقامة؟!"‪.‬‬
‫وشواهد عدل المسلمين مع أهل ذمتهم كثيرة‪،‬‬
‫ومنه خصومة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ‪ t‬مع‬
‫يهودي في درعه التي فقدها‪ ،‬ثم وجدها عند يهودي‪،‬‬
‫فاحتكما إلى قاضي المسلمين شريح القاضي‪،‬‬
‫فحكم بها لليهودي‪ ،‬فأسلم اليهودي‪ ،‬وقال‪" :‬أما إني‬
‫أشهد أن هذه أحكام أنبياء! أمير المؤمنين يدينني‬
‫إلى قاضيه‪ ،‬فيقضي لي عليه! أشهد أن ل إله إل‬
‫الله‪ ،‬وأن محمدا ً رسول الله‪ ،‬الدرع درعك يا أمير‬
‫المؤمنين‪ ،‬اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين‪،‬‬
‫فخرجت من بعيرك الورق"‪ .‬فقال علي ‪( :t‬أما إذ‬
‫(‪)2‬‬
‫أسلمت فهي لك)‪.‬‬
‫ومن صور العدل مع المخالفين قصة القبطي مع‬
‫عمرو بن العاص والي مصر وابنه‪ ،‬وقد اقتص‬
‫‪)( 1‬محمد الرسالة والرسول (‪.)26‬‬
‫‪ )(2‬حلية الولياء (‪ ،)4/141‬والبداية والنهاية (‪.)5 - 8/4‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)126‬‬
‫السلم‬

‫الخليفة عمر بن الخطاب للقبطي في مظلمته من‬


‫أمير مصر وابنه‪ ،‬وقال مقولته التي أضحت بين‬
‫الناس مثلً‪" :‬يا عمرو‪ ،‬متى استعبدتم الناس وقد‬
‫(‪)1‬‬
‫ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟"‪.‬‬
‫إن أمثال هذه المواقف الرائعة دفع بطريك بيت‬
‫المقدس في القرن التاسع للقول عن العرب في‬
‫كتابه إلى بطريرك القسطنطينية‪" :‬إنهم يمتازون‬
‫بالعدل‪ ،‬ول يظلموننا البتة‪ ،‬وهم ل يستخدمون معنا‬
‫(‪)2‬‬
‫أي عنف"‪.‬‬
‫ولو أنصف الزاعمون لرددوا مع جوستاف لوبون‬
‫قوله‪" :‬السلم من أكثر الديان ملءمة لكتشافات‬
‫العلم‪ ،‬ومن أعظمها تهذيبا ً للنفوس وحمل ً على‬
‫(‪)3‬‬
‫العدل والحسان والتسامح"‪.‬‬
‫وصدق الدكتور لويس يونغ في كتابه "العرب‬
‫وأوروبا" حين قال‪" :‬إن أشياء كثيرة ل يزال على‬
‫الغرب أن يتعلمها من الحضارة السلمية منها نظرة‬
‫العرب المتسامحة وعدم تمييزهم فروق الدين‬
‫(‪)4‬‬
‫والعرق واللون"‪.‬‬
‫وهكذا فالسلم بريء بشهادة النصوص والتاريخ‬
‫مما يزعمه القائلون بأن السلم رعى العنصرية‬
‫الدينية‪ ،‬بل على العكس من ذلك‪ ،‬لقد قدم‬
‫المسلمون نموذجا ً حضاريا ً فريدا ً ما تزال البشرية‬
‫ترنو إلى مثله ‪ ،‬وهي أشد حاجة إليه اليوم في ظل‬
‫تصاعد حملت الكراهية للمسلمين من أولئك الذي ما‬
‫فتئوا يبشرون بصدام الحضارات والخطر المزعوم‬
‫الذي تحمله الحضارة السلمية‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ عمر‪ ،‬ابن الجوزي (‪ ،)130-129‬وانظر فتوح مصر‪،‬‬


‫لبن الحكم (‪.)195‬‬
‫‪ )(2‬شمس العرب تسطع على الغرب (‪.)364‬‬
‫‪ )(3‬حضارة العرب (‪.)126‬‬
‫‪)( 4‬قالوا عن السلم‪ ،‬عماد الدين خليل (‪.)326‬‬
‫(‪)127‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫رابعا ً ‪ :‬المسلمون والتحديات المعاصرة‬


‫إن نظرة سريعة في واقع المسلمين اليوم لن‬
‫تخطئ في رؤية الكثير من التحديات التي تواجهها‬
‫المة المسلمة في مطلع القرن الواحد والعشرين‪.‬‬
‫ولعل أول هذه التحديات قبوع المة التي قادت‬
‫ركب الحضارة النسانية ثمانية قرون في ذيل‬
‫القائمة في سلم الحضارة والعلم‪.‬‬
‫يستغل البعض هذا الواقع المرير للربط بين حال‬
‫المسلمين ودينهم‪ ،‬متناسين أنه ليس من العدل‬
‫والنصفة في شيء الحكم على دين بواقع أهله في‬
‫برهة من الزمان‪ ،‬فالسلم دين العلم والحضارة ‪،‬‬
‫وحين تمسك المسلمون بدينهم كانوا أكثر المم‬
‫عطاء في ركب الحضارة وأعظمها علما ً وإبداعاً‪،‬‬
‫لكنهم حين بعدوا عن دينهم واستبدلوه أو خلطوه‬
‫بالغث الوافد عليهم من هنا وهناك تردوا عن السبق‬
‫والحظوة التي منحها الله لهم بالعلم والمعرفة‪.‬‬
‫إن القرآن منذ نزلت أول آياته ﴿اقرأ باسم ربك‬
‫الذي خلق﴾ (العلق‪ )1 :‬ما فتئ يدعو المسلمين إلى‬
‫التعلم‪ ،‬ويثني على العلماء ويمتدح صنيع العقلء ﴿‬
‫يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم‬
‫ت ﴾ (المجادلة‪﴿ ،)11 :‬قل هل يستوي الذين‬ ‫درجا ٍ‬
‫يعلمون والذين ل يعلمون إنما يتذكر أولوا اللباب﴾‬
‫(الزمر‪.)9 :‬‬
‫لقد كرم السلم العلم‪ ،‬وأعطى لهله من الفضل‬
‫والمنزلة بونا ً شاسعا ً على سائر الناس‪ ،‬بما فيهم‬
‫عبّاد الذين نذروا أنفسهم لعبادة الله تعالى‪ ،‬يقول‬‫ال ُ‬
‫‪(( :‬فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم‪،‬‬
‫إن الله وملئكته وأهل السموات والرضين حتى‬
‫النملة في جحرها وحتى الحوت؛ ليصلون على معلم‬
‫(‪)1‬‬
‫الناس الخير))‪.‬‬
‫‪ )(1‬أخرجه الترمذي ح (‪.)2685‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)128‬‬
‫السلم‬

‫وحين تمسك المسلمون بدينهم والتزموا شرائعه‬


‫سبقوا أمم الدنيا ‪ ،‬وحملوا مشعل العلم والحضارة‪،‬‬
‫وأبدعوا حضارة فريدة‪ ،‬يكفينا عن العرض المسهب‬
‫لنجازاتها أن ننقل بعض اعتراف العلماء المنصفين‬
‫بسبقنا وإبداعنا‪ ،‬فقد سجلت كلماتهم بالعجاب‬
‫بعضا ً من مآثر حضارتنا‪ ،‬وكانوا شهود عدل على‬
‫مآثرنا‪.‬‬
‫ومن ذلك قول الدكتور ستانلي لين بول في كتابه‬
‫"تاريخ العالم" ‪" :‬لم يحدث في تاريخ المدنية حركة‬
‫أكثر روعة من ذلك الشغف الفجائي بالثقافة الذي‬
‫حدث في جميع أنحاء العالم السلمي‪ ،‬فكان كل‬
‫مسلم‪ ،‬من الخليفة إلى الصانع‪ ،‬يبدو كأنما قد اعتراه‬
‫فجأة شوق إلى العلم وظمأ إلى السفر‪ ،‬وكان ذلك‬
‫(‪)1‬‬
‫خير ما قدّمه السلم من جميع الجهات"‪.‬‬
‫ويضيف المؤرخ جوليفيه كستلو في كتابه "قانون‬
‫التاريخ" بأن "التقدم العربي بعد وفاة الرسول [ ]‬
‫كان عظيماً‪ ،‬جرى على أسرع ما يكون‪ ،‬وكان الزمان‬
‫مستعدا ً لنتشار السلم‪ ،‬فنشأت المدنية السلمية‬
‫نشأة باهرة‪ ،‬قامت في كل مكان مع الفتوحات بذكاء‬
‫غريب ظهر أثره في الفنون والداب والشعر‬
‫والعلوم‪ .‬وقبض العرب بأيديهم ‪ -‬خلل عدة قرون ‪-‬‬
‫على مشعل النور العقلي‪ ،‬وتمثلوا جميع المعارف‬
‫البشرية ‪ ..‬فأصبحوا سادة الفكر‪ ،‬مبدعين‬
‫ومخترعين‪ ،‬ل بالمعنى المعروف‪ ،‬بل بما أحرزوه من‬
‫قادة للغاية‪،‬‬ ‫أساليب العلم التي استخدموها بقريحة و َّ‬
‫وكانت المدنية العربية قصيرة العمر‪ ،‬إل أنها باهرة‬
‫(‪)2‬‬
‫الثر‪ ،‬وليس لنا إل إبداء السف على اضمحللها"‪.‬‬
‫وإذا كان حال المسلمين فيما مضى كذلك‪ ،‬فكيف‬
‫توارت المة المسلمة عن الشهود؟ ولم تقبع في‬
‫ذيل الركب اليوم؟!‬

‫()قالوا عن السلم (‪.)396‬‬ ‫‪1‬‬

‫()المصدر السابق (‪.)389‬‬ ‫‪2‬‬


‫(‪)129‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫إن ما نشهده اليوم من ضعف حضاري للمة‬


‫المسلمة يرتبط بعاملين اثنين‪ :‬أولهما هو بُعدُ‬
‫المسلمين عن دينهم‪ ،‬فلئن كان تقدم أوربا مرهوناً‬
‫بتخلصها من دينها المبدَّل؛ فإن نهضتنا لن تكون إل‬
‫بعودتنا إلى ديننا‪ ،‬فالمفارقة بين حالنا وحالهم‪ ،‬تنبع‬
‫من الختلف بين خصائص أدياننا‪.‬‬
‫والعامل الثاني الذي أسهم في تردي أحوال المة‬
‫المسلمة هو الستعمار الغربي الذي غزا الشرق‬
‫السلمي عقودا ً من السنين‪ ،‬ولم يبرحها إل وقد‬
‫ترك فيها من العقد المستعصية ما تعجز عن حلها‬
‫الجيال ‪ ،‬ليضمن بذلك استمرار تفوقه ورواج سلعه‬
‫في الشعوب التي جعلها أسواقا ً استهلكية لبضائعه‪،‬‬
‫فارتهن مقدراتها ليضمن تفوقه ودوام سيطرته‪.‬‬
‫وأما المظهر الثاني من المظاهر التي تزري بواقع‬
‫المسلمين اليوم‪ ،‬فهو اختلفهم وتناحرهم بل‬
‫واحتراب طوائفهم وتراميهم بالتكفير والتبديع‪ ،‬وهم‬
‫في ذلك أيضا ً قد خالفوا أمر ربهم وهو يدعوهم إلى‬
‫الوحدة والعتصام ﴿ واعتصموا بحبل الله جميعاً‬
‫ولتفرقوا ﴾ (آل عمران‪ ،)103 :‬فقد خالفوه وهو‬
‫يدعوهم إلى التوحد في أمة واحدة ﴿ وإن هذه أمتكم‬
‫أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ﴾ (المؤمنون‪.)52 :‬‬
‫إن تشرذم المسلمين وتناحرهم يرجع إلى عوامل‬
‫كثيرة‪ ،‬لكن أهمها تدخل أياد خفية تكيد لخوتهم‪،‬‬
‫وتتربص بوحدتهم الدوائر‪ ،‬فالكثير من خلفات‬
‫المذاهب السلمية لم تؤثر في وحدة المسلمين‬
‫طوال تاريخهم؛ لنها بقيت في منأى عن الهجمة‬
‫الستعمارية المغذية للنعرات المذهبية‪ ،‬كما هو‬
‫الحال في العلقة بين السنة والزيدية‪ ،‬أو بين أتباع‬
‫المذاهب الفقهية الربعة‪.‬‬
‫إن المسلمين حين افترقوا لم يفترقوا بسبب‬
‫اختلفهم حول أصول دينهم‪ ،‬فهذا ما لم تخالف فيه‬
‫طائفة من طوائفهم المعتبرة‪ ،‬فالكل يؤمن بالله‬
‫تعرف على‬
‫(‪)130‬‬
‫السلم‬

‫الواحد وصفاته وكتبه وأنبيائه ‪ ،‬وأصول شريعته‬


‫وأركان دينه‪ ،‬وخلفهم بقي بعيدا ً عن أصول الدين‬
‫التي لم يختلفوا فيها‪ ،‬فخلف السنة مع الشيعة –‬
‫وهو الخلف القوى بين المسلمين اليوم – إنما هو‬
‫خلف حول الشخص الحق باستحقاق الخلفة بعد‬
‫النبي ‪ ،‬فهو خلف سياسي تاريخي في جذوره‪ ،‬ولم‬
‫تمس امتداداته أصول الدين من قريب أو بعيد‪.‬‬
‫وافتراق المسلمين أيضا ً قدر الله لكل المم ‪،‬‬
‫وفيه مصداق نبوءة نبوية لنبينا حين قال‪:‬‬
‫((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة‪ ،‬فواحدة‬
‫في الجنة‪ ،‬وسبعون في النار‪ ،‬وافترقت النصارى‬
‫على ثنتين وسبعين فرقة‪ ،‬فإحدى وسبعون في‬
‫النار‪ ،‬وواحدة في الجنة‪ ،‬والذي نفس محمد بيده‬
‫لتفترقن أمتي على ثلث وسبعين‪ ،‬فرقة واحدة في‬
‫الجنة‪ ،‬وثنتان وسبعون في النار)) قيل‪ :‬يا رسول‬
‫(‪)1‬‬
‫الله من هم؟ قال‪(( :‬الجماعة))‪.‬‬
‫وهكذا فالتفرق ميراثنا من المم السابقة‪ ،‬وتناحر‬
‫بعضنا واقتتالهم مذموم لنكوصه عن هدي السلم‬
‫إلى سبل الضلل والكفر ((فإن دماءكم وأموالكم‬
‫عليكم حرام كحرمة يومكم هذا‪ ،‬في شهركم هذا‪،‬‬
‫في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ‪ ..‬فل ترجعوا‬
‫(‪)2‬‬
‫بعدي كفارا ً يضرب بعضكم رقاب بعض))‪.‬‬
‫إن حاضر المسلمين لن يصلح إل بما أصلح‬
‫ماضيهم‪ ،‬إن السلم هو الذي جعل من أوزاع العرب‬
‫وغيرهم أمة واحدة‪ ،‬وأحالهم من أمة أمية جاهلة إلى‬
‫أمة قادت ركب الحضارة النسانية ثمانية قرون‪.‬‬
‫إن الرصيد الذي يمتلكه السلم في مبادئه‬
‫وتصوراته ما يزال المل الذي يتطلع إليه العقلء‪،‬‬
‫فكل سؤدد وشرف وحضارة في الستمساك‬
‫بالسلم‪ ،‬في حين أن مظاهر التخلف والتفرق نتاج‬

‫‪ )(1‬أخرجه ابن ماجه ح (‪.)3992‬‬


‫‪ )(2‬أخرجه البخاري ح (‪ ،)1741‬ومسلم ح (‪.)1679‬‬
‫(‪)131‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫قدري حتمي لبعدنا عن السلم‪ ،‬فما أحرانا أن‬


‫نسارع في العود إليه والستمساك بهديه القويم‪.‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)132‬‬
‫السلم‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫وهكذا يتبين الحق لكل منصف‪ ،‬فمن قبِل هبة الله‬
‫التي تبينت له؛ شرح الله صدره للسلم ﴿ أفمن شرح‬
‫ر من ربه﴾ وأما من‬‫الله صدره للسلم فهو على نو ٍ‬
‫قسى فلبه وكبُر عليه الذعان للحق‪ ،‬فنصيبه تمام‬
‫الية‪﴿ :‬فوي ٌ‬
‫ل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك‬
‫ن ﴾ (الزمر‪.)22 :‬‬ ‫ل مبي ٍ‬
‫في ضل ٍ‬
‫وبعد‪ ،‬ما الذي يمنع المرء من الولوج في السلم‪،‬‬
‫أيشينه أن يعبد الله وحده‪ ،‬وأن يكون على دينه الذي‬
‫بشر به النبياء وارتضاه الله لعباده ديناً‪.‬‬
‫ما بال بعضنا ‪-‬في القرن الواحد والعشرين‬
‫فه على الحق الذي آمن‬ ‫‪-‬يفضل ميراث الباء وإل ِ‬
‫بصدقه عقله؟‬
‫إن الكثيرين من العقلء قد سبقوا إلى هذا الحق‬
‫فاعتنقوه‪ ،‬منهم النجاشي رحمه الله‪ ،‬ملك الحبشة‬
‫الذي عرض عليه الصحابة السلم فقال‪ :‬يا معشر‬
‫القسيسين والرهبان‪ ،‬ما يزيد ما يقول هؤلء على ما‬
‫تقولون في ابن مريم ما يزن هذه‪ ،‬مرحبا ً بكم وبمن‬
‫جئتم من عنده‪ ،‬فأنا أشهد أنه رسول الله‪ ،‬والذي‬
‫شر به عيسى ابن مريم‪ ،‬ولول ما أنا فيه من الملك‬ ‫ب ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫لتيته حتى أحمل نعليه‪.‬‬
‫لكم أشرق السلم في صدور أناس؛ فأخرجهم‬
‫الله به من ضيق الصدر وضنك الدنيا وقتامة الحياة‬
‫إلى رحابة الدنيا وسعادتها ونعيم الخرة‪ ،‬ولكم تنكب‬
‫طريق الحقيقة آخرون‪ ،‬فعاشوا في ضيق الدنيا‬
‫واستحقوا أيضا ً عذاب الخرة ﴿ فمن يرد الله أن‬
‫يهديه يشرح صدره للسلم ومن يرد أن يضله يجعل‬
‫صدره ضيقا ً حرجا ً كأنما يصعد في السماء كذلك‬

‫‪)( 1‬أخرجه أبو داود ح (‪ ،)3205‬وأحمد ح (‪ )4836‬وابن أبي شيبة ح‬


‫(‪.)36640‬‬
‫(‪)133‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫يجعل الله الرجس على الذين ل يؤمنون ﴾ (النعام‪:‬‬


‫‪.)125‬‬
‫إن السلم بما أوتي من حق وبصيرة ووضوح يمل‬
‫الكون بهديه القويم‪ ،‬وتشير الدراسات والحصاءات‬
‫إلى أنه أكثر الديان انتشارا ً رغم الضعف الذي ينتاب‬
‫المة السلمية عموماً‪ ،‬ورغم الحملت المسمومة‬
‫التي ما فتئت تفتري على السلم على صفحات‬
‫العلم وشاشات القنوات وغيرها من وسائل‬
‫التصال‪ ،‬ليتحقق من بعد ذلك كله موعود الله ﴿‬
‫يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إل‬
‫أن يتم نوره ولو كره الكافرون﴾ (التوبة‪.)32 :‬‬
‫ولو أنصف المرء لردد ما قاله الدكتور نظمي لوقا‬
‫عن النبي ‪" :‬أعرض بوجداني عن تلك النظرة‬
‫الجائرة أو المتجنية التي نظر بها كثيرون من‬
‫المستشرقين وغيرهم إلى الرسول العربي‪ ،‬ولكني‬
‫حين أحتكم إلى العقل أرى الخير كل الخير فيما‬
‫جنحت إليه ‪ ..‬فما كان كآحاد الناس في خلله‬
‫ومزاياه‪ ،‬وهو الذي اجتمعت إليه آلء الرسل‪ ،‬وهمة‬
‫مثل‬ ‫البطل‪ ،‬فكان حقا ً على المنصف أن يكرم فيه ال ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫ويحيي فيه الَّرجل"‪.‬‬
‫إن البشرية اليوم أحوج ما تكون إلى السلم‪ ،‬إذا‬
‫ما أرادت أن تتخلص من مشكلت عصرنا المتفاقمة‪،‬‬
‫فالسلم وحده كفيل بالقضاء على أمراضنا النفسية‬
‫والجتماعية‪ ،‬وهو وحده من يملك العصا السحرية‬
‫التي تخفض معدلت النتحار وتعيد لحياة البائسين‬
‫المعذبين جمالها ورونقها في ظلل السلم‪.‬‬
‫يقول دوجلس أرثر‪" :‬لو أحسن عرض السلم‬
‫ل كافة المشكلت‪ ،‬ولمكن‬ ‫على الناس لمكن به ح ّ‬
‫تلبية الحاجات الجتماعية والروحية والسياسية للذين‬
‫يعيشون في ظل الرأسمالية والشيوعية على‬

‫‪ )(1‬محمد الرسالة والرسول (‪.)28‬‬


‫تعرف على‬
‫(‪)134‬‬
‫السلم‬

‫ل مشكلت‬ ‫السواء‪ .‬فقد فشل هذان النظامان في ح ّ‬


‫النسان‪ .‬أما السلم فسوف يقدم السلم للشقياء‪،‬‬
‫والمل والهدى للحيارى والضالين‪ .‬وهكذا فالسلم‬
‫لديه أعظم المكانات لتحديث هذا العالم وتعبئة‬
‫طاقات النسان لتحقيق أعلى مستوى من النتاج‬
‫(‪)1‬‬
‫والكفاية"‪.‬‬
‫وأما الكاتب الهندي كوفهي لل جابا فيقول في‬
‫كتابه "رسول الصحراء"‪" :‬السلم بوسعه تلبية كافة‬
‫حاجات النسان في العصر الحاضر‪ ،‬فليس هناك أي‬
‫دين كالسلم يستطيع أن يقدم أنجح الحلول‬
‫للمشكلت والقضايا المعاصرة‪ .‬فمثل ً أشد ما يحتاج‬
‫إليه العالم اليوم الخوة والمساواة‪ ،‬وهذه وجميع‬
‫الفضائل ل تجتمع إل في السلم‪ ،‬لن السلم ل‬
‫(‪)2‬‬
‫يفاضل بين الناس إل على أساس العمل والبذل"‪.‬‬
‫ول نجد أخيرا ً إل أن نردد مع أديب ألمانيا يوهان‬
‫غوته هتافه الصادق‪" :‬إذا كان هذا هو السلم‪ ،‬أفل‬
‫(‪)3‬‬
‫نكون جميعنا مسلمين؟"‪.‬‬

‫‪ )(1‬قالوا عن السلم‪ ،‬عماد الدين خليل (‪.)443‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق (‪.)450‬‬
‫‪)( 3‬المصدر السابق (‪.)147‬‬
‫(‪)135‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫قائمة المصادر والمراجع‬


‫•القرآن الكريم ‪.‬‬
‫•الكتاب المقدس ‪ .‬طبعة دار الكتاب المقدس‬
‫في الشرق الوسط ‪.‬‬
‫ــــــــــــــــ‬
‫•التقان في علوم القرآن‪ ،‬جلل الدين‬
‫السيوطي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو الفضل‬
‫إبراهيم‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪1408 ،‬هـ‪.‬‬
‫•الجامع الصحيح (سنن الترمذي)‪ ،‬محمد بن‬
‫سورة الترمذي‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد شاكر‪ ،‬مكة‬
‫المكرمة‪ ،‬المكتبة الفيصلية‪.‬‬
‫•الخصائص العامة للسلم‪ ،‬يوسف‬
‫القرضاوي‪ ،‬ط ‪ ،4‬القاهرة‪ ،‬مكتبة وهبة ‪،‬‬
‫‪1409‬هـ‪.‬‬
‫•زاد المسير في علم التفسير‪ ،‬جمال الدين‬
‫عبد الرحمن بن علي الجوزي‪ ،‬المكتب‬
‫السلمي للطباعة والنشر‪.‬‬
‫•السلسلة الصحيحة‪ ،‬محمد ناصر الدين‬
‫اللباني‪ ،‬الرياض‪ ،‬مكتبة المعارف‪.‬‬
‫•سنن ابن ماجه‪ ،‬أبو عبد الله محمد بن يزيد‬
‫القزويني‪ ،‬بيت الفكار الدولية‪ ،‬عمان‪.‬‬
‫•سنن أبي داود ‪ ،‬أبو داود السجستاني‪ ،‬دار‬
‫الحديث ‪1391 ،‬هـ ‪.‬‬
‫•سنن النسائي‪ ،‬أبو عبد الرحمن أحمد بن‬
‫شعيب النسائي‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الفتاح أبو‬
‫غدة‪ ،‬ط‪ ،2‬حلب‪ ،‬مكتب المطبوعات‬
‫السلمية ‪1406 ،‬هـ‪.‬‬
‫•صحيح البخاري‪ ،‬محمد بن إسماعيل‬
‫البخاري‪ ،‬ترقيم‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي‪،‬‬
‫في تحقيقه لكتاب فتح الباري بشرح صحيح‬
‫البخاري‪ ،‬ابن حجر العسقلني‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫القاهرة‪ ،‬دار الريان للتراث‪1407 ،‬هـ‪.‬‬
‫تعرف على‬
‫(‪)136‬‬
‫السلم‬

‫•صحيح الترغيب والترهيب‪ ،‬محمد ناصر‬


‫الدين اللباني‪ ،‬ط‪ ،5‬الرياض‪ ،‬مكتبة‬
‫المعارف‪.‬‬
‫•صحيح مسلم‪ ،‬مسلم بن الحجاج القشيري‪،‬‬
‫ترقيم ‪ :‬محمد فؤاد الباقي‪ ،‬دار إحياء‬
‫التراث العربي ‪ .‬بيروت ‪1375 ،‬هـ ‪.‬‬
‫•قالوا عن السلم‪ ،‬عماد الدين خليل‪ ،‬طبع‬
‫الندوة العالمية للشباب السلمي‪1412 ،‬هـ‪.‬‬
‫•قصة الحضارة‪ ،‬وول ديورانت‪ ،‬ترجمة‪:‬‬
‫محمد بدران‪ ،‬ط‪ ،2‬مطبعة لجنة التأليف‬
‫والترجمة والنشر‪1964 ،‬م‪.‬‬
‫•محمد الرسالة والرسول‪ ،‬نظمي لوقا‪ ،‬ط‬
‫‪ ،2‬مطابع دار الكتاب العربي‪1959 ،‬م‪.‬‬
‫•المدخل إلى دراسة الشريعة‪ ،‬عبد الكريم‬
‫زيدان‪ ،‬ط ‪ ،5‬جامعة بغداد‪1396 ،‬هـ‪.‬‬
‫•المصاحف‪ ،‬أبو بكر بن أبي داود‬
‫السجستاني‪ ،‬تحقيق‪ :‬محب الدين عبد‬
‫السبحان واعظ‪ ،‬ط ‪ ،2‬دار البشائر‬
‫السلمية‪1423 ،‬هـ‪.‬‬
‫(‪)137‬‬ ‫تعرف على السلم‬

‫فهرس الموضوعات‬

‫رقم‬ ‫الموضوع‬
‫الصفحة‬
‫مقدمة‬
‫السلم وأركانه‬
‫بالرسالة الركن الول‪ :‬الشهادة ل بالتوحيد ولرسوله ممد‬
‫الركن الثان‪ :‬إقام الصلة‬
‫الركن الثالث‪ :‬إيتاء الزكاة‬
‫الركن الرابع‪ :‬صوم رمضان‬
‫الركن الامس‪ :‬حج بيت ال الرام‬
‫مفهوم العبادة في السلم‬
‫العبادة والخلق‬
‫مراتب الحكام التكليفية‬
‫خصـــــائص الشريعـــــة الســـــلمية‬
‫ومقاصدها‬
‫أو ًل ‪ :‬خصائص الشريعة السلمية‬
‫أ‪ .‬ربانية الصدر والغاية‬
‫ب‪ .‬العدل والساواة‬
‫ج‪ .‬الشمول والتوازن‬
‫د‪ .‬الثالية الواقعية‬
‫ثانيا ‪ :‬مقاصد الشريعة السلمية‬
‫أ‪ .‬حفظ الدين‬
‫ب‪ .‬حفظ النفس النسانية‬
‫ج‪ .‬حفظ العقل‬
‫د‪ .‬حفظ النسل‬
‫تعرف على‬
‫(‪)138‬‬
‫السلم‬

‫هـ‪.‬حفظ الال‬
‫أركان اليمان‬
‫اليان باللئكة‬
‫اليان بالكتب‬
‫اليان بالنبياء‬
‫القضاء والقدر‬
‫اليوم الخر‬
‫ردود على أباطيل‬
‫أو ًل ‪ :‬السلم والرأة‬
‫ثانيا ‪ :‬السلم والرهاب‬
‫ثالثا ‪ :‬السلم والتعامل مع الخر‬
‫رابعا ‪ :‬السلمون والتحديات العاصرة‬
‫خاتمة‬
‫المصادر والمراجع‬

Vous aimerez peut-être aussi