Académique Documents
Professionnel Documents
Culture Documents
الصعلكة هي الخروج على العراف و التمرد على الهل و الحيّ و المجتمع ،و تلك لعمري مرحلة يجتازها
كل يافع شاب مراهق .و الصعلوك من تمرد على الخلق و العراف و حقد على المجتمع لسبب من
السباب و عادى الهل و القارب و اتخذ لنفسه النحراف سلوكا و الشذوذ عن القواعد طريقا ،فأضحى
عاقا يتبرأ منه الهل و العشيرة و ينبذه المجتمع.
على أن الصعلوك هذا يمكن ثنيه و إعادة تأهيله و تقويم سلوكه ليصير فردا مندمجا في مجتمعه و أهله
لكن في مجتمع متفكك منعزل فقير مثل مجتمع الجزيرة العربية قلما كان يعالج الصعلوك من صعلكته ،بل
كان المجتمع يفرخ من الصعاليك ما ل قدرة له على استيعابه.مما جعل أعداد الصعاليك تتزايد و أوضاعهم
تتفاقم و أنواعهم تتناسل.فأصبحوا يتجمعون بمعازل لهم مبتعدين عن التجمعات البشرية .يمارسون كل
أنواع الجرام و اللصوصية و البغي بغية الحصول على لقمة العيش .فكثرت تجمعاتهم و كبرت أحياؤهم ،و
أصبحت لهم صولة و سمعة و مصالح و حرمات ،و أضحى منهم المسيرون و المنظمون و الرؤساء و
المناء و الفوارس و الشجعان و الشعراء و الدباء و الرؤساء.و هؤلء كلهم من المستفيدين من الصعلكة
و القائمين عليها ،ليسوا بالضرورة كلهم من فئة اجتماعية واحدة ،بل منهم أبناء الملوك كامرئ القيس
ومنهم العبيد كالسليك و تأبط شرا و عنثرة فارس العرب و منهم الفقراء الذين تشبثوا بحياة الصعلكة و أبوا
المحيد عنها مثل عروة بن الورد العبسي معاصر عنثرة.فهؤل ء ل أسميهم بالصعاليك إنما هم متصعلكون
احترفوا الصعلكة فصاروا لها أبطال.
و في كتابه «العصر الجاهلي» يحدد الدكتور شوقي ضيف معنى الصعلوك لغة بأنه الفقير الذي ل يملك المال
الذي يساعده على العيش وتحمل أعباء الحياة,و كذلك لسان العرب و القاموس المحيط .ثم يؤكد أن هذه
اللفظة تجاوزت دللتها اللغوية و أخذت معاني أخرى كقطاع الطرق الذين يقومون بعمليات السلب و
النهب ....و يمكن تقسيم الصعاليك إلى فئات ثلث:
فئة الخلعاء الشداد و هم الذين خلعتهم قبائلهم بسبب أعمالهم التي ل تتوافق مع أعراف القبائل التي ينتمون
إليها مثل حاجز الزدي ,و قيس الحدادية .
و فئة أبناء الحبشيات السود ممن نبذهم آباءهم و لم يلحقوهم بأنسابهم مثل السليك بن السلكة ,وتأبط
شرًا ,والشنفرى
و فئة احترفت الصعلكة احترافًا وحولتها إلى ما يفوق الفروسية من خلل العمال اليجابية التي كانوا
يقومون بها مثل عروة بن الورد سيد الصعاليك و قبيلتي هذيل وفهم .انتهى
و هؤلء هم المتصعلكون الذين صنفهم بدورهم عروة ابن الورد في البيات التالية إلى صنفين:
لحا ال صعلوكا إذا جن ليله ......مصافي المشاش آلـفًا كًل مجرر
بعد الغنى من دهره كل ليلٍة .....أصاب قَراها من صديق ميسِر
ينام عشاًء ثم يصبح طاويًا ........يحث الحصى عن جنبه المتعفِر
جّور سِ الزاِد إل لنفسه.......إذا هو اَمسى كالعريش الم َ قليل التما ِ
حـسر حى طليحا كالبعير الم ّ ستعينُه ......فيص ِ يعين نساَء الحي ما َي ْ
ب القابس المتّنور شها ِ
ك صحيفة وجهه..........كضوء ِ ول صعلو ٌ
ل على أعدائه يزجرونه.........بساحاتهم زجر المنيح المشهِر مط ً
ف أهل الغائب المنتظِر شو َفإن بعدوا ل يأمنون اقتراَبهَ........ت ّ
,,فصنف جعله في منتهى الضعة والذله ,,وصنف الخر وصفه بمنتهى العزة والسمو
و جعل الفقر أساسا و سببا لكليهما ،فوصف المتصعلك الول بالفقير الكسول الخامل الدنيء النفس ،
.ساقط الهمة الذي يتلمس رزقه من السؤال ويدور على الموسرين ،.فهذا صعلوك حقير
و وصف الثاني بالشهم والشجاع المتللئ الوجه عند الشدائد ،.الذي يطلب رزقه من سن رمحه ،فإن
طعِم منه وأطعم ،واكل وآكل ،وتزوّد وزّود ،حتى يأتي على آخره فإذا هو فقير ...نال ما طلب َ
:كما نجد حاتما الطائي يقول بنفس التصنيف لهذه الفئة من المتصعلكين ،لما ينشد قائل
ى َلبوسًا ومطعما لحا ال صعلوكا ُمناه وّهمه......من العيش أن يلق َ
ينام الضحى حتى إذا الليل جنه.....تنبه مثلوج الفؤاد َُمَوّرما
جثمامقيما مع المثرين ليس ببارح.....إذا نال جْدَوى من طعام وم ْ
صّمماصعلوكا ُيساوُر الهمُه.......ويمضى على الهيجاء ليثًا ُم َ ولكن ُ
ن ثمت صّمما إذا ما رأى يومًا مكارم أعرضت......تيمم ُكْبَراه ّ
لقد استطاع المتصعلكون من أمثال عروة و ابن بصير الذي سوف نأتي على ذكره من أن يخلقوا
بالصعاليك المنتمين إليهم داخل الجزيرة مجتمعا هامشيا ذا أخلق و مبادئ منافية للعراف القبلية
السائدة ،تقوم على العنف و السلب و المكر و الخداع و الخيانة و الغدر و القتل لتفه السباب و توزيع
الغنائم و تخصيص الزعيم بالخمس أو الربع .و يدعي دارسو الدب و الشعر الجاهلي أن هؤلء
المتصعلكين كانوا إلى جانب لصوصيتهم و خشونة أخلقهم كرماء جوادين نبلء ،يحسنون إلى الفقير
و يجودون على المعسر و يعينون المغلوب على أمره؟؟ و هذا ما نجده فعل متراكما في أشعارهم.إل أن
هناك تناقضا بسيطا يقفز عليه هؤلء الدارسون و المحللون .فالكريم هو من يجود من ماله الحلل على
الخرين و ليس من مال غيره.أما إذا كان هذا المال عن طريق السطو و القتل فأي أخلق تذكر بعد
هذا؟؟
يقول الشاعر الصعلوك.
يجود علينا الخيرون بمالهم
و نحن بمال الخيرين نجود
فالفرق بين الصعلوك و الخّير ظاهر
إذا جاد الصعلوك جاد بما ليس له أي بما لغيره ،إذا فهو ليس خّيرا و ل كريما
و من أين لمن تشبع باللصوصية و الجرام و قطع الطرق و سبي النساء أن يكون خّيرا كريما جوادا.؟؟
تلك من التناقضات التي ل يقبلها إل العقل العربي بفعل الذين يريدونه أن يبقى عقل عربيا متفردا متميزا
عن العقل النساني الذي ل يقبل بالتناقض بتاتا
و نجح هؤلء الساهرون على تنظيم مجتمع الصعاليك في وضع قواعد و سلوكيات و فلسفة لمجتمعهم
الهامشي تناقض أعراف و قواعد المجتمعات النسانية المتحضرة.تهدف أول هدَم العلئق و الروابط
القبلية و النسانية التقليدية و تجاوزها إلى خلق روابط الخوة في الصنعة و المذهب و التفكير ،ثانيا
هجرة الوطان و العيش عالة على المجتمع بممارسة النهب و القتل و احتراف الغزو لصالح الغير ثالثا
.هدم المجتمع الذي ينبذهم و ينبذونه و تخريبه و السيطرة على خيراته و نسائه و تقاسمها
و من بين مبادئ الصعاليك
ـ الحق في انتزاع أي شيء من مالكه *
:يقول جواد علي في المفصل في تاريخ العرب قيل السلم ،الجزء التاسع ،صفحة 602
والصعاليك حاقدون على مجتمعهم ،متمردون عليه ...ل يبالون من شيء ولو كان ذلك سلبًا ونهبًا وقتل
أبناء قبيلتهم وعشيرتهم ،لنهم خلعوا منها ...وكل ما تقع أعينهم عليه ،هو مفيد لهم نافع ،ومن حقهم
بحكم فقرهم انتزاعه من مالكه ،وإن كان مالكه فقيرًا معدمًا مثلهم... ،ويرون الخلص من هذا الذل
بالحصول على المال بالقنا وبالسيف ،فمن استعمل سيفه نال ما يريد ،ل يبالي فيمن سيقع السيف عليه،
“وإل عّد من "العيال
سليك
":قال "ال ّ
فل تصلي بصعلـوك َنـؤوم ***** إذا أمسى ُيعد من الـعـيال
الشعراء الصعاليك ،صفحة ٢٣٥مستشهد من جواد علي ،الجزء التاسع
ـ الحق في سلب الخرين البخلء يأمر من ال *
ولذلك كان صعاليك العرب ولصوصهم وأرباب الغارة منهم يرون أن ما يحوونه من النعم بالغارة ،إنما“
:ذلك مال منعت منه الحقوق ،فأرسله ال لهم ،كما قال عروة الصعاليك
حـلي حيازيم المطّية بالّر ْ لعّل انطلقي في البلد وبغيتي ****وشد ّ
"سيدفعني يومًا إلى رب هجـمة ***** يدافع عنها بالعقوق وبالبخـل
الجمان في تشبيهات القرآن ،عبد ال بن الحسين بن ناقيا البغدادي ،صفحة ٢٦٢وما بعدها ؛ جواد
علي ،المفصل ،الجزء التاسع ،صفحة 603
ـ حق القتل والفتك بالخرين *
القتل عند الصعلوك كشربة ماء :فالحاجة عندهم تبرر الواسطة ،وإذا امتنع إنسان على صعلوك وأبى
تسليم ما عنده إليه ،فهو ل يبالي بقتله ،فالقتل ليس بشيء في نظره ،منظره مألوف ...والصعلوك نفسه
ل يدري متى يقتل ،فل عجب إذا ما رأى القتل وكأنه شربة ماء
جواد علي ،المفصل ،الجزء التاسع ،ص .604
فمن وجد شخصًا ومعه مال ،ل يجد الصعلوك سببًا أخلقيًا يمنعه من قتله للحصول على ماله ”جواد”
علي ،المفصل ،الجزء التاسع ،صفحة 611/612
أغار قيس بن الحدادية -صعلوك مشهور -على جموع هوازن ،فأصاب سبيا ومال ،وقتل يومئذ من بني”
“قشير :أبا زيد وعروة وعامرا ومروحا ،وأصاب أبياتا من كلب خلوفا ،واستاق أموالهم وسبيا
الغاني للصفهاني الجزء السادس ،صفحة 64
ـ القسوة في القتل *
شْنَفَرى ،يصف غارة ملت الرعب في قلب من وقعت عليهم ،قام بها في ليلة باردة ،عاد منها نجد ال ّ
:سالمًا معافى بغنائم ،وهو فرح بما تركه من قتل وسلب وألم في نفوس النساء والطفال ،فيقول
ت والّلْيُل َأْلَيُل
ت كما َأْبَدْأ ُ
عْد ُ
ت ِإْلَدًة ***** و ُ
سوانًا وَأْيتْم ُت ِن ْ
فَأّيْم ُ
الشعراء الصعاليك ،صفحة ٤٩؛ ُمستشَهد من جواد علي ،المفصل ،الجزء التاسع ص 612
سَليك" يخرج مع صعلوكين يريدون الغارة ،فساروا حتى أتوا بيتًا متطرفًا ،ووجد شيخًا غطى وهذا "ال ّ
وجهه من البرد ،وقد أخذته إغفاءة ،ومعه إبله ترعى ،فأسرع إليه وضربه بسيفه فقتله ،ونهبوا إبله،
وعادوا بها مسرعين فرحين ،قتله دون أن يشعر بوخزة ضمير ،لقتله انسانًا نائمًا طاعنًا في السن
“.يرعى إبله... ،إلى أن قال :والضرورات تبيح المحظورات
الشعراء الصعاليك ،صفحة 172؛ ُمستشَهد من جواد علي ،المفصل ،الجزء التاسع صفحة 613
ـ التمثيل بالقتلى و تقطيع أطرافهم من خلف *
شْنَفَرى عندما يرمي رجل يقطع رجله ويرمي عينه كان ال ّ
الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الثامن ص 287
“السليك يدخل بخبث ليسرق بيت عازل ويقطع رأس شيخ”
الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الثامن صفحة 219
ـ تقسيم الغنائم و نظام العصابات *
عروة بن ورد كان يجمع الصعاليك ويكرمهم ويغير بهم ويجعل لصحابه الباقين نصيبه من الغنيمة
الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الول ،صفحة 270
أما زعيم الصعاليك في الغزو فله الربع أو الخمس
،حاجز بن عوف أحد زعماء الصعاليك كان عمه يأخذ الربع من الغنيمة
الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الخامس صفحة 687وما بعدها
و من عادات الصعالكة تأليف العصابات من الصعالكة الخرين من العرب والغارة بهم على قبائلهم
الصلية
خزاعة وجمع صعاليك من العرب يغير عليهم خلع من قومه وهم ُ حداِدية ُ قيس بن ال ُ
الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء السادس ،صفحة 64
ـ اعتماد أخوة الصنف والحرفة بدل أخوة العشيرة والقبيلة *
يقول جواد علي في المفصل ،الجزء التاسع ،صفحة 620
وهم من عشائر مختلفة ،فل ينتسبون إلى نسب واحد ،ونسبهم الوحيد الذي يربط بينهم ،هو الصعلكة،
.والتمرد على المجتمع والتشرد في البوادي والهضاب والجبال
ـ تفضيل الموت على البقاء في حالة الفقر و المبايعة عليه *
ب عقاِرُبهْحياِتِه ***** فقيرًا ،ومن مْوًلى تِد ّ ن َت خيٌر للَفتى م ْ فَللَمو ُ
ن مذاهُبْه صعلوك :أي َ ن الّرحيل؟ وساِئٍل ***** وَمن يسأُل ال ّ وسائلٍة :أي َ
ن عنه ،بالَفعاِل ،أقارُبهج عريضٌة **** إذا ضَ ّ ن الِفجا ََمذاِهُبُه أ ّ
ديوان عروة بن الورد ،صفحة 29
صر؟ ك عما يبتغي القوُم ُمح ِ ن المنايا َثْغُر كّل ثنّية ****** فهل ذا َ وأ ّ
ب المناياُ ،مَغّرري َرداهاَ ،مخوفٍة ******* أخوها ،بأسبا ِ غبراَء َمخش ّ وَ
ديوان عروة بن الورد ،صفحة 77؛ جواد علي ،المفصل ،الجزء التاسع صفحة 632
ـ العمل بمبدأ الترويع وإلقاء الرعب في قلوب الناس *
في الحديث عن تأبط شرا – أحد قادة الصعاليك معنى يفيد أنه يغيرعلى القادم واليب ،يسلبه ويأخذ ما
عنده ،ل يبالي بشيء إل بحصوله على غنيمة السلب ،وهو إن قابل قافلة ،فلم يتمكن منها ،يكون قد
رضي من فعله بما ألقاه من رعب وذعر في قلوب أصحابها ،ويكون قد اشتفى بذلك منها .فهو رجٍل
منتقم ،يريد أن يفرج عما ولد في قلبه من غَل ،بأية طريقة كانت
جواد علي ،المفصل ،الجزء التاسع صفحة 644
ـ نجاح الغزوات ل يتم إل بسبي النساء *
سنمها خْثَعم" ،أهله خلوف ،فرأى فيهم امرأة بضة شابة ،فت ّ سَلْيك" في بعض غزواته ببيت من " َ ومّر " ُ
ومضى
جواد علي ،المفصل ،الجزء التاسع صفحة 648
نجد عروة يأخذ بعض الصعاليك فنزل بهم ما بينهما بموضع يقال له :ماوان .ثم قتل رجل وسبى جماله
وزوجته
الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الول ،صفحة 270
حَداِدية أغارعلى جموع َهَواِزن ،فأصاب سبيا ومال ،وقتل يومئذ من بني قشير :أبا زيد قيس بن ال ُ
وعروة وعامرا ومروحا ،وأصاب أبياتا من كلب خلوفا ،واستاق أموالهم وسبيا
الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء السادس ،صفحة 64
كما أن من خصائص الصعاليك ما يتصفون به من صفات وحشية همجية تميزهم عن سائر البشرمنها
ـ سلب الناس من أجل ان يفتدي أهلهم السبي بمال كثير *
عروة يسلب امرأة وأهلها يفدوها بفداء كبير
الغاني،الجزء الول ،صفحة 269
ـ الغدر والخداع بالدخول بمكر إلى البيوت حيث يقتلوا وينهبوا *
تأبط شرا " يذهب مع صعاليك الى بلد هذيل ويسأل راعيا لهم ويقول له عن بيت من قبيلة عتير كثير
المال .ويبيتهم صاحب البيت ،ولكن الصعاليك يقتلوا كل سكان البيت ويستقوا الموال
الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الثامن ،صفحة 681
ـ بدأ مواجهة العدد الكبر بالفئة الصغرى وعدم الهرب *
خْثَعم ،فخرج 40رجل من خثعم ومعهم كبير القوم . تأبط شرا " يغير مع ستة صعاليك على قبيلة من َ
.ومبدأ الصعاليك عدم الهرب وهم ل يبالون إن ماتوا .فقتل الصعاليك منهم عددا وهرب الباقون
الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الثامن صفحة 276/277
لفظة العرب أول ما أطلقت ،أطلقها الشوريون و البابليون و اليهود و أهل مصر الفرعونية على القبائل
المترحلة التي تجوب و تقطن الصحاري الممتدة ما بين بادية السماوة و صحراء العربية السعيدة بالشام
شمال ،و صعيد مصر و سيناء غربا و خليج فارس و بلد عمان و البحرين شرقا ،و اليمن جنوبا.و كانوا
ـ هم وغيرهم من فرس و يونانيين و بيزنطيين ـ يسمون العرب المستقرين القاريين ممن لهم ممالك على
حدود بلدهم ،بأسماء ممالكهم .فيقولون أهل الح;يرة و النبط و الغساسنة و حمير و مملكة سبأ و حضر
موت إلخ..على أن تفيئ العرب إلى بائدة و عاربة و مستعربة و عدنانية و قحطانية تفيئ فج ل علمية له.
إنما المراد منه تغليب قريش على سائر الجناس و تغليب بني هاشم عن سائر البطون و القبائل.أما الواقع
و التاريخ فيجعلن العرب فئتين .فئة اختلطت بالشعوب و تفتحت على الحضارات فهذبت من عنجهيتها
البدوية و لينت سلوكها و طباعها ،و غيرت من نمط حياتها .فكان لها حظها من الحضارة و البنيان و
الثار الشاهدة عليها من مدن و قصور و منشآت ،و من كتابات و أقلم و لهجات.و فئة تمسكت بحبل
البداوة و الشظف و الفقر و استمرأت حياة الكسب السهل السريع الرخيص من وراء الرعي و التجار و
الفروسية و حماية القوافل و قطع الطرق و اللصوصية .و كانت تنتظم هذه الفئة الطويلة العريضة ضمن
قبائل تنتشر على طول الجزيرة و عرضها ،وازعها المشترك وحدة النساب و لهجة القرآن و تبادل
المصالح مع قريش أهل مكة.و هذا التقسيم يوافق تقسيم أهل الخبار حينما يقسمون العرب إلى أهل وبر و
مدر.فيقولون أن عرب الوبر هم من كانوا يأوون الخيام المصنوعة من شعر الماعز و هم البدو الرحل ،أما
عرب المدر فهم من كانوا يتخذوا البيوت من الطين و الطوب الحمر ،و المدر هو الطين الجاف.وأمثال
هؤلء عرب الحيرة و الغساسنة و حمير و بنو كهلن و كندة الذين أتى عليهم و على ديارهم و معيشتهم
الولى الزحف السلمي و البربرية البدوية العربية.هؤلء العرب الذين طغوا في البلد و استعلوا على
العباد و اكتسحوا البلدان و خربوا الديار ،الذين يسميهم القرآن و أهل الخبار بالعراب البدو هم من
سنتناول بالدرس في هذا المقال لنقف على خصائصهم التي تميزهم عن سائر الناس و لو أن هذا يعتبر
مستحيل ،و لنقف على معالم شخصيتهم و تفكيرهم و نظرتهم للمور و للكون و العالم و النسان.
فالحديث عن العرب و عقليتهم ،حديث قديم،حيث نجد الثوراة قد وصفتهم بأنهم :متنابذون يغزون بعضهم
بعضًا ،مقاتلون يقاتلون غيرهم كما يقاتلون بعضهم بعضًا "يده على الكل ،ويد الكل عليه").التكوين ،
الصحاح 16الية (12يغيرون على القوافل فيسلبونها ويأخذون أصحابها أسرى ،يبيعونهم في أسواق
النخاسة ،أو يسترقونهم فيتخذونهم خدمًا ورقيقًا يقومون بما يؤمرون به من أعمال ،إلى غير ذلك من
نعوت وصفات.
وقد وصفهم "ديودورس الصقلي" بأنهم يعشقون الحرية ،فيلتحفون السماء .وقد اختاروا القامة في
أرضين ل أنهار فيها ول عيون ماء ،فل يستطيع العدّو المغامر الذي يريد اليقاع بهم أن يجد له فيها
مأوى.و أنهم ل يزرعون حبًا ،ول يغرسون شجرًا ،ول يشربون خمرًا ،ول يبنون بيوتًا .ومن يخالف
العرف عندهم فإنه يقتل .وهو يشارك في وصفه هذا رأي "هيرودوتس" الذي أشاد بحب العرب للحرية
وحفاظهم عليها ومقاومتهم لية قوة تحاول استرقاقهم واستذلهم .فالحرية عند العرب هي من أهم الصفات
التي يتصف بها العرب في نظر الكتبة اليونان واللتين.
المفصل في تاريخ العرب قبل السلم الجزء 1ـ (262
أما كسرى فيقول :أنه نظر فوجد أن لكل أمة من المم ميزة وصفة ،فوجد للروم حظًا في اجتماع اللفة
وعظم السلطان وكثرة المدائن ووثيق البنيان ،وأن لهم دينًا يبين حللهم وحرامهم ويرد سفيههم ويقيم
جاهلهم ،ورأى للهند ،نحوًا من ذلك في حكمتها وطّبها مع كثرة أنهار بلدها وثمارها ،وعجيب صناعاتها
ودقيق حسابها وكثرة عددها .ووجد للصين كثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب
وصناعة الحديد ،وان لها ملكًا يجمعها ،وأن للترك والخزر ،على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة
الريف والثمار والحصون ملوك تضم قواصيهم وتدّبر أمرهم .ولم يَر للعرب دينا ول حزمًا ول قوة.
همتهم ضعيفة بدليل سكنهم في بوادي قفراء ،ورضاؤهم بالعيش البسيط ،والقوت الشحيح ،يقتلون أولدهم
من الفاقة ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة .أفصل طعامهم لحوم البل التي يعافها كثير من السباع لثقلها
وسوء طعمها وخوف دائها".
ثم يضيف "وإن قَرى أحدهم ضيفًا عّدها مكرمة .وإن أطعم أكلة عدها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم ،وتفتخر
بذلك رجالهم".
" ثم إنهم مع قلتهم وفاقتهم وبؤس حالهم ،يفتخرون بأنفسهم ،ويتطاولون على غيرهم وينزلون أنفسهم فوق
مراتب الناس".
"حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكّا أجمعين""،
" وأبوا النقياد لرجل واحد منهم يسوسهم ويجمعهم .إذا عاهدوا فغير وافين .سلحهم كلمهم ،به يتفننون،
ن .ل صبر لهم ،إذا حاربوا ووجدوا قوة وبكلمهم يتلعبون .ليس لهم ميل إلى صنعة أو عمل ول ف ّ
أمامهم ،حاولوا جهدهم التغلب عليها ،أما إذا وجدوها قوة منظمة هربوا مشتتين متبعثرين شراذم.
يخضعون للغريب ويهابونه ويأخذون برأيه فيهم ،ما دام قويًا ،ويقبلون بمن ينصبه عليهم ،ول يقبلون بحكم
واحد منهم ،إذا أراد أن يفرض سلطانه عليهم).بلوغ الرب ص 147و ما بعدها(
وقد ُذكر أن أحد ملوك الهند كتب كتابًا إلى "عمر ين عبد العزيز" ،جاء فيه:
ل شق من الرض لها ملوك تجمعها ومدائن تضمها وأحكام تدين بها "لم تزل المم كلها من العاجم في ك ّ
وفلسفة تنتجها وبدائع تفتقها في الدوات والصناعات ،مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة ،ولعب
الشطرنج وهي أشرف لعبة ،ورّمانة القبّان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل ،ومثل فلسفة الروم في
ذات الخلق والقانون ،والصطرلب الذي يعدل به النجوم ويدرك به البعاد ودوران الفلك وعلم
الكسوف وغير ذلك من الثار المتقنة ،ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها ،ويقمع ظلمها
وينهى سفيهها ،ول كان لها قط نتيجة في صناعة و ل أثر في فلسفة إل ما كان من الشعر .و قد شاركتها
فيه العجم ،وذلك إن للروم أشعارا عجيبة قائمة الوزن و العروض ،فما الذي تفتخر به العرب على العجم ؟
فإنما هي كالذئاب العادية ،و الوحوش النافرة ،يأكل بعضها بعضا و يغير بعضها على بعض .فرجالها
حَلق السر .و نساؤها سبايا مردفات على حقائب البل ،فإذا أدركهن الصريخ استنقذن موثوقون في َ
بالعشي ،و قد وطئن كما توطأ الطريق المهيع".
)السيد محمود شكري اللوسي بلوغ الرب ج 1ص .(156
أما ابن خلدون فرأيه معروف في العرب ،خلصته أن:
لب إذا أخضع مملكة أسرع إليها الخراب ،يصعب انقياده لرئيس ،ل يجيد " العربي متوحش نّهاب س ّ
صناعة ول يحسن علمًا ول عنده استعداد للجادة فيهما ،سليم الطباع ،مستعد للخير شجاع" ).أحمد أمين
في تلخيصه لرأي ابن خلدون في كتابه فجر السلم (1/41وتجد آراء ابن خلدون هذه مدّونة في مقدمته
الشهيرة لكتابه العام في التًاريخ.
ي ،ينظر إلى الشياء نظرة ل أو نموذجًا ،ماد ّو يرى المستشرق "أول ;10ري" أن " :العربي الذي يعد مث ً
مادية وضيعة ،ول يقومها إل بحسب ما تنتج من نفع .يتملك الطمع مشاعره ،وليس لديه مجال للخيال ول
للعواطف .ل يميل كثيرًا إلى دين ،ول يكترث بشيء إل بقدر ما ينتجه من فائدة عملية .يمله الشعور
بكرامته الشخصية حتى ليثور على كل شكل من أشكال السلطة ،وحتى ليتوقع منه سيد قبيلته و قائده في
الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه ولو كان صديقًا حميما له من قبل .من
أحسن أليه كان موضع نقمته ،لن الحسان يثير فيه شعورًا بالخضوع وضعف المنزلة وأن عليه واجبًا
لمن أحسن إليه.
و يقول لمانس" :إن العربي نموذج الديمقراطية" ،ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها إلى حد بعيد ،وإن ثورته
على كل سلطة تحاول أن تحدد من حريته ولو كانت في مصلحته هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم
والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تأريخ العرب ،وجهل هذا السر هو الذي قاد الوروبيين في أيامنا هذه
إلى كثير من الخطاء ،وحملهم كثيرًا من الضحايا كان يمكنهم الستغناء عنها ،وصعوبة قيادة العرب
وعدم خضوعهم للسلطة هي التي تحول بينهم وبين سيرهم في سبيل الحضارة الغربية ،ويبلغ حب العربي
لحريته مبلغًا كبيرًا ،حتى إذا حاولت ان تحدها أو تنقص من أطرافها هاج كأنه وحش في قفص ،وثار
ثورة جنونية لتحطيم أغلله والعودة إلى حريته .ولكن العربي من ناحية أخرى مخلص ،مطيع لتقاليد
قبيلته ،كريم يؤدي واجبات الضيافة والمحالفة في الحروب كما يؤدي واجبات الصداقة مخلصًا في أدائها
بحسب ما رسمه العرف ) .المفصل .(1/265
وقد تعرض "أحمد أمين" في الجزء الول من "فجر السلم" للعقلية العربية ،وأورد رأي الشعوبيين في
العرب ،ثم رأي "ابن خلدون" فيهم ،وتكلم على وصف المستشرق "أوليري" لتلك العقلية ،ثم ناقش تلك
الراء ،وأبان رأيه فيها وذلك في الفصل الثالث من هذا الجزء "..،ثم استمر يناقش تلك الراء إلى أن قال:
فلنقتصر الن على وصف العربي الجاهلي) ،فجر السلم (1/43فوصفه بهذا الوصف:
"العربي عصبي المزاج ،سريع الغضب ،يهيج للشيء التافه ،ثم ل يقف في هياجه عند حد ،وهو أشد
هياجًا إذا جرحت كرامته ،أو انتهكت حرمة قبيلته .وإذا اهتاج ،أسرع إلى السيف ،وأحكم إليه ،حتى أفنتهم
الحروب ،وحتى صارت الحرب نظامهم المألوف وحياتهم اليومية المعتادة.
ثم يضيف
"خياله محدود وغ;ير متنوع ،فقلما يرسم له خياله عيشة خيرًا من عيشته ،وحياة خيرًا من حياته يسعى
وراءها ،لذلك لم يعرف "المثل العلى" ،لنه وليد الخيال ،ولم يضع له في لغته لفظة واحدة دالة عليه،
ولم يشر إليه فيما نعرف من قوله،وقلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنى جديدًا ولكنه
ع أن يذهب كل مذهب". في دائرته الضيقة استطا َ
ل أن يحّدها حّد ،ولكن الذي فهموه من الحرية هي الحرية الشخصية "أما ناحيتهم الخلقية ،فميل إلى حرية ق ّ
ل الجتماعية ،فهم ل يدينون بالطاعة لرئيس ول حاكم ،تأريخهم في الجاهلية -حتى وفي السلم -سلسلة
حروب داخلية" وعهد عمر بن الخطاب كان عصرهم الذهبي ،لنه شغلهم عن حروبهم الداخلية بحروب
خارجية.
"والعربي يحب المساواة ،ولكنها مساواة في حدود القبيلة ،وهو مع حبه للمساواة كبير العتداد بقبيلته ثم
بجنسه ،يشعر في أعماق نفسه بأنه من دم ممتاز ،لم يؤمن بعظمة الفرس والروم مع ما له ولهم من جدب
وخصب وفقر وغنى وبداوة وحضارة ،حتى إذا فتح بلدهم نظر إليهم نظرة السيد إلى المسود").نفس
المصدر (44/
ثم تحدث عن مظهر آخر من مظاهر العقلية العربية ،لحظه بعض المستشرقين و وافقهم هو عليه ،و
هوأن :
طبيعة العقل العربي ل تنظر إلى الشياء نظرة عامة شاملة ،وليس في استطاعتها ذلك .فالعربي لم ينظر
إلى العالم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني،بل كان يطوف فيما حوله؛ فإذا رأى منظرا خاصا أعجبه
تحرك له ،و جاس صدره بالبيت أو البيات من الشعر أو الحكمة أو المثل" .فأما نظرة شاملة وتحليل دقيق
لسسه وعوارضه فذلك ما ل يتفق والعقل العربي .وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشيء الواحد ل يستغرقه
بفكره ،بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه ،فهو إذا وقف أمام شجرة ،ل ينظر إليها ككل ،إنما
يستوقف نظره شيء خاص فيها ،كاستواء ساقها أو جمال أغصانها ،و إذا كان أمام بستان ،ل يحيطه
بنظره ،ول يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا" ،إنما يكون كالنحلة ،يطير من زهرة إلى زهرة،
فيرتشف من كل رشفة" .إلى أن قال:
"هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف ما ترى في أدب العرب -حتى في العصور
السلمية -من نقص وما ترى فيه من جمال".
وقد خلص من بحثه ،إلى أن هذا النوع من النظر الذي نجده عند العربي ،هو طور طبيعي تمر به المم
جميعًا في أثناء سيرها إلى الكمال .فهو؛ و هو يريد الدفاع عن العرب يحكم عليهم بعدم الكمال .فكيف لهم
يهدون الناس و يخرجون ;07م من الظلمات إلى النور؟
وتقوم نظرية أحمد أمين في العقلية العربية على أساس أنها حاصل شيئين وخلصة عاملين ،أثرا مجتمعين
في العرب وكّونا فيهما هذه العقلية التي حددها ورسم معالمها في النعوت المذكورة .والعاملن في رأيه
هما :البيئة الطبيعية والبيئة الجتماعية .وعنى بالبيئة الطبيعية ما يحيط بالشعب طبيعيًا من جبال وأنهار
وصحراء ونحو ذلك .وبالبيئة الجتماعية ما يحيط بالمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة
ونحو ذلك .وهما معًا مجتمعين غير منفصلين ،أّثرا في تلك العقلية .ولهذا رفض أن تكون تلك العقلية
طا من أنكر أثر البيئة الطبيعية في حاصل البيئة الطبيعية وحدها ،أو حاصل البيئة الجتماعية وحدها .وخ ّ
تكوين العقلية ومن هنا انتقد "هيكل" " ،"Heagelلنه أنكر ما للبيئة الطبيعية من أثر في تكوين العقلي
اليوناني .وحجة "هيكل" أنه لو كان للبيئة الطبيعية أثر في تكوين العقليات ،لبان ذلك في عقلية التراك
الذين احتلوا أرض اليونان وعاشوا في بلدهم .ولكنهم لم يكتسبوا مع ذلك عقلهم ولم تكن لهم قابلياتهم ول
ثقافتهم .و رّد "أحمد أمين" عليه هو أن "ذلك يكون صحيحًا لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد،
إذن لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد إقليمه ،و ينعدم حيث ينعدم ،أما والعقل اليوناني نتيجة
عاملين ،فوجود جزء العلة ل يستلزم وجود المعلول") .المفصل (1/270
و عليه فأحمد أمين يأخذ بمقولة النسان ابن بيئته ترصيعا للكلم و تهوينا لوقعه على نفوس من يهمهم
المر.إذ ،في حين نجده يعرض أكثر الصور قثامة للعقلية العربية،فإننا نجده يحاول تبريرها بخضوع
النسان العربي و غيره للظروف البيئية الطبيعية و الجتماعية المحيطة به .فتناسى أن النسان هو من
خر الطبيعة و البيئة في صالحه ،و ليس النسان هو من كونته الطبيعة و صقلته و فرغته حسب شهوتها سّ
و قوالبها .و تناسى أن النسان هو من صنع المجتمع و وضع له قوانينه و آلياته ،و هو الذي بالتالي يملك
بيده و حده أمر تعطيل تلك الليات و هدمها أو تغييرها أو البقاء عليها ،حسب ما تتطلبه ظروفه و
رغباته و أهواؤه.
كما تناسى أحمد أمين كذلك أنه كما تخاف الطبيعة الفراغ فكذلك التاريخ ل يقبل الصدف .فإذا كانت العقلية
العربية هذه هي حالهأ ،فإن لذلك علُله و أسباُبه و التي ل تنحصر بالضرورة في العوامل البيئية الطبيعية و
الجتماعية ،دون الخذ بعين العتبار العوامل النفسية التكوينية والعوامل التربوية و الثقافية ،ناهيك عن
العوامل القتصادية و الجيو سياسية العامة .و بالطبع بقدر ما تضيق في أي دراسة ،خانة السباب و العلل
المنطقية المؤدية إلى معلول ما ،بقدر ما تكثر بؤر الشك و نقط الفراغ فيها،فل يجد المؤرخ العربي في
مثل هذه الحال ;š8غير الصدفة ملجأ تنقذه من ورطته .هذا مع العلم أن العالم العربي يرفض مقدما مبدأ
الصدفة و ينبذه.
و لحافظ وهبة في كتاب " جزيرة العرب في القرن العشرين" ملحظات قيمة عن عقلية البدو العرب
المعاصرين في الجزيرة العربية ،جاء فيه
"أما البدو ،فهم القبائل الرحل المتنقلون من جهة إلى أخرى طلبًا للمرعى أو للماء ،والطبيعة هي التي
تجبر البدوي على المحافظة على هذه الحياة ،وحياة البدوي حياة شاقة مضنية ،ولكنه وهو متمتع بأكبر
ي حياة مدنية أخرى .هذه الحياة الخشنة هي التي جعلت القبائل يتقاتلون في قسط من الحرية يفضلها على أ َ
سبيل المرعى والماء ،وهي التي جعلت سوء الظن يغلب على طباعهم ،فالبدوي ينظر إلى غيره نظرة
العدو الذي يحاول أخذ ما بيده أو حرمانه من المرعى".
"إن البدوي في الصحراء ل يهمه إل المطر والمرعى ،فأزمته الحقيقية انحباس المطر وقلة المرعى ول
يبالي بما يصيب العالم في الخارج ما دامت أرضه مخضرة ،وبعيره سمينا وغنمه قد اكتنزت لحمًا وقد
طبقت شحمًا".
"أما إذا نما السكان وضاقت بهم الرض أو لم تجد أراضيهم بالمرعى ،فليس هناك سبيل إل الزحف
والقتال ،أو الهجرة إن كان هناك سبيل إليها ،وكذلك القبيلة التي غلبت على أمرها وحرمت من مراعيها
وأراضيها ليس أمامها سبيل آخر سوى الهجرة.
"لقد كان البدو قبل ثلثين سنة في غارات وحروب مستمرة ،كل قبيلة تنتهز الفرص للغارة على جارتها
لنهب مالها ،وتعدد المارات وتشاحن المراء وتخاصمهم مما يشجع البدوي.
"وقد جرى العرف أن القبائل تعتبر الرض التي اعتادت رعيها ،و المياه التي اعتادت أن تردها ملكًا لها،
ل تسمح لغيرها من القبائل الخرى بالدنّو منها إل بإذنها ورضاها ،وكثيرا ما تأنس إحدى القبائل من
نفسها القوة فتهجم بل سابق إنذار على قبيلة أخرى و تنتزع منها مراعيها و مياهها".
"إن قبائل العرب ليسوا كلهم سواء في الشر و التعدي على السابلة و القوافل ،فبعضها قد اشتهر أمره
بالكرم و السماحة و الترفع عن الدنايا ،كما اشتهر بعضها بالتعدي و سفك الدماء بل سبب سوى الطمع
فيما في ايدي الناس".
ليس للبدوي قيمة حربية تذكر ،و لذا كان اعتماد المراء على الحضر ،فهم الذين يصمدون للقتال و
يصبرون على بلئه و بلوائه .و كثيرا ما كان البدو شرا على المير المصاحبين له ،فإن ذلك المير إذا ما
بدت الهزيمة كانوا هم البادئين بالنهب و السلب و يحتجون بأنهم هم أولى من العداء المحاربين")وهبة
ص 11و ما بعدها(
"و البدوي إذا لم يجد سلطة تردعه أو تضرب على يده يرى من حقه نهب الغادي و الرائح ،فالحق عنده
القوة التي يخضع لها ،و يخضع غيره بها .على أن لهؤلء قواعد للبادية معتبرة عندهم كقوانين يجب
احترامها ،فالقوافل التي تمر بأرض قبيلة و ليس معها من يحميها من أفراد هذه القبيلة معرضة للنهب،
ولذا فقد اعتادت القوافل قديما أن يصحبها عدد غير قليل من القبائل التي ستمر بأرضها و يسمون هذا
رفيقا.
ويضيف"و البدوي يحتقر الحضري مهما أكرمه ،كما أن الحضري يحتقر البدوي ،فإذا و صف البدوي
حضيري تصغيرا لشأنه. الحضري ،فإنه في الغالب يقول ُ
و من عادة البدوي الستفهام عن كل شيء ،و انتقاد ما يراه مخالفا لذوقه أو لعادته بكل صراحة ،فإذا
مررت بالبدوي في الصحراء استوقفك و سألك من أين أنت قادم؟ و عمن وراءك من المشايخ و الحكام؟ و
عن المياه التي مررت بها ؟ وعن أسعار الغذية و القهوة؟ وعمن في البلد من القبائل؟ و عن العلقات
السياسية بين الحكام بعضهم و بعض.
و مع أن البدوي قد اعتاد النهب و السلب ،فإنهم كثيرا ما يعفون عن أهل العلم خوفا من غضب ال عليهم،
و بعض البدو ل يحلف كاذبا مهما كانت النتيجة .و البدوي ينكر إذا وجد مجال للنكار ،و يفلت بمهارة من
الجابة عما يسأل ،و لكن إذا وجه له اليمين و كان ل مفر له اعترف بجرمه إذا كان مذنبا ،و ل يحلف
كذبا"
"وليس أعدل من البدوي في تقسيم الغنيمة حتى قد يتلفون الشيء تحريا للعدل ،و يقسمون السجادة بينهم
كما يقسمون القميص لو السروال ،كل هذا إرضاء لضمائرهم دفعا للضلم ،إنهم يعرفون الخيام حق
المعرفة لنها بيوتهم التي يعيشون فيها ،و مع ذلك فهم يقسمونها مراعاة للعدل ،أما البل و الغنم فأنهم
يقسمونها إذا أمكن القسمة أو يقومونها بثمن إذا لم يكن هناك سبيل للقسمة".
"و البدو ل يفهمون الحياة حق الفهم كما يفهمها الحضري ،ل يفهمون البيوت و هندستها ،ول يفهمون فائدة
البواب والنوافذ الخشبية ،حتى أن البدو الذين كانوا في جيش الملك حسين في الثورة العربية كان عملهم
بعد الستيلء على الطائف نزع خشب النوافذ والبواب ،ل لبيعها والنتفاع بثمنها بل لستعمالها وقودَا إما
للقهوة أو الطبخ أو التدفئة .وبدو نجد قد فعلوا مثل ذلك تمامأ ،فعندما أسكنت الحكومة بعض القبائل في
ل ،اكتشفت الحكومة أن النوافذ الخشبية والبواب تنقص بالتدريج ،وأنها استعملت للطبخ جْرَو ْ
ثكنة َ
وتحضير القهوة ،فأخرجهم جللة الملك توًا من الثكنة ،وأسكن الحضر فيها ،والحضر بطبيعت;هم
يصفمون ما ل يفهمه جهلة البدو عن النوافذ والبواب.
"وللبدو مهارة فائقة في اقتفاء الثر ،وكثيرًا ما كانت هذه المعرفة سببا في اكتشاف كثير من الجرائم ول
تكاد تخلو قبيلة من طائفة منهم.
"والقبائل العريقة المشهورة من حضر وبادية تحافظ على أنسابها تمام المحافظة وتحرص عليها كل
الحرص ،فل تصاهر إل من يساويها في النسسب ،والقبائل المشكوك في نسبها ل يصاهرها أحد من
القبائل المعروفة.
"أما حكام العرب ،فيترفعون عن سائر الناس حضرهم وبدوهم،ل يزوجون بناتهم إل لقرباهم .أما هم
فيتزوجون من يشاءون .وطبقات الحكام يترفع بعضها على بعض :الشراف يرون أنفسهم أرفع الخلق
بنسبهم ،وآل سعود يرون أنفسهم أرفع من الشراف ،وأرفع من سواهم من حكام العرب الخرين" ).وهبة
ص 13و ما بعدها(
أما القرآن فقد وصف العرب بالغلظة والجفاء وبعدم الدراك وبالنفاق وبالتظاهر في اللسان بما يخالف ما
في الجنان:
ن في قلوبكم ،وإن تطيعوا القالت العراب :آمنا ،قل ،لم تؤمنوا ،ولكن قولوا :أسلمنا ،ولما يدخل اليما ُ
ورسوله ،ل يلتكم من أعمالكم شيئًا ،إن ال غفور رحيم)الحجرات (14
وممن حولكم من العراب منافقون ومن أهل المدينة َمَرُدوا على النفاق ،ل تعلمهم ،نحن نعلمهم ،سنعذبهم
مرتين ،ثم يرّدون إلى عذاب عظيم) التوبة .(101
فالعرابي "البدوي"حسب القرآن إنسان ل يعتمد عليه ،مسلم ومع ذلك يتربص بالمسلمين الدوائر ،فإذا
خذل المسلمون في معركة ،أو شعر بضعف موقفهم خذلهم وانقلب عليهم ،أو اشترط شروطًا ثقيلة عليهم،
بحيث يجد فيها مخرجًا له ليخلص نفسه من الوضع الحرج الذي أصاب المسلمين.
فل يكلف نفسه ،ول يخشى من مصير سيئ ينتظره إن غلب المسلمون.
ل يعلموا حدود ما أنزل ال على رسوله ،و ال عليم حكيم .ومن العراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر أ ّ
العراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء وال سميع عليم)التوبة (98
سلْم في الغالب عن عقيدة وعن فهم ،إنما أسلم لن رئيسه قد أسلم .فسّيد القبيلة إذا آمن والعرابي لم ُي ِ
وأسلم ،أسلمت قبيلته معه .وقد دخلت قبائل برمتها في اِلنصرانية لدخول سّيدها فيها .وقد وردت في سورة
الحجرات هذه اليات في وصف بعض العراب:
(قالت العراب آمنا ،قل :لم تؤمنوا ،ولكن قولوا :أسلمنا ،ولما يدخل اليمان في قلوبكم .وإن تطيعوا ال
ورسوله ل يلتكم من أعمالكم في شيئًا .إن ال غفور رحيم .إنما المؤمنون ،الذين آمنوا بال ورسوله ثم لم
يرتابوا وجاهدوا بأم;والهم وأنفسهم في سبيل ال ،أولئك هم الصادقون .قل أتعّلمون ال بدينكم ؛ وال يعلم
ي إسلمكم، ما في السموات وما في الرض .وال بكل شيء عليم .يمّنون عليك أن أسلموا .قل ل تمّنوا عل ّ
ن هداكم لليمان إن كنتم صادقين)الحجرات 14و ما بعدها( بل ال يمن عليكم ،أ ْ
وقد استثنى القرآن بعض العراب مما وصمهم به من الكفر والنفاق والتربص وانتهاز الفرص فنزل
الوحي فيهم:
)ومن العراب من يؤمن بال واليوم الخر ،ويتخذ ما ينفق قربات عند ال وصلوات الرسول ،أل إنها
قربة لهم ،سيدخلهم ال في رحمته ،إن ال غفور رحيم).التوبة 99ـ المصتف 1/280و ما بعدها(
وذكر أن الرسول وصفه "سراقة" وهو من أعراب "بني مدلج" بقوله:
"وان كان أعرابيا بّوال على عقبيه").الغاخر ، 64/بلوف الرب (3/425
عَيْيَنة بن حصن" قائد "غطفان" يوم الحزاب ب "الحمق المطاع". وأنه نعت " ُ
"وكان دخل على النبي صلى ال عليه وسلم ،بغير إذن ،فلما قال له أين الذن؟ قال ما استأذنت على
مضربي قبلك .وقال :ما هذه الحميراء معك يا محمد؟ فقال :هي عائشة بنت أبي يكر .فقال :طلقها وأنزل
لك عن أم البنين.و هناك أمور كثيرة تذكر في جفائه .أسلم ثم ارتد وآمن بطليحة حين تنبأ وأخذ أسيرًا فأتي
ن عليه ولم يزل مظهرًا للسلم على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته به أبا بكر ،رضي ال عنه ،أسيرا فم ّ
حتى مات".
والبدوي الذي تمكن "ابن سعود" أو غيره من الحكام من ضبطه بعض الضبط ومن الحد من غاراته على
الحضر أو على البدو ألخرين ،هو البدوي نفسه الذي عاش قبل الميلد وفي عهد إسماعيل ،والذي قالت
في حقه التوراة" :يده على الكل و يد الكل عليه" .و هو سيبقى كذلك ما دام بدويا ترتبط حياته بالصحراء،
ينتهز الفرص كلما وجد وهنا في الحكومات وقوة في نفسه على أخذ ما يجده عند الخرين ،وهو إن هدأ و
سكن ،فلنه يجد نفسه ضعيفا تجاه سلطة الحكومة ،ليس في استطاعته مقاومتها لضعف سلحه ،فإذا شعر
بقوته لم يخش عندئذ أحدا .المصنف 1/283
من الثوراة إلى القرآن مرورا بالملوك و الرؤساء و المفكرين و المؤرخين القدماء منهم و المعاصرين ،
العرب و غير العرب ؛ نجد أن النظرة إلى النسان العربي تكاد تكون نظرة واحدة موحدة،ل تختلف
باختلف الشخاص و ل الزمان .فرضتها خصائص ثابتة في هذا النسان ل تتغير ،إذا افتقد واحدة منها
افتقد خصوصيته و هويته العربية.
و من بين هذه الخصائص التي ترتكز عليها الشخصية العربية الكبر و الفخر بالباء و الجداد و الحساب
عَبّية قريش .و العبية هي الكبر و الفخر وو النساب.فقد عرفت قريش بالكبر و نعتت به حتى قيل" :هذه ُ
ل بالحرة،
منها عبية الجاهلية فقد ُروي أن الرسول أمر معاوية بإنزال "وائل بن حجر" الحضرمي منز ً
ي نعلك ،قال :ل ،إني لمفمشى معه ووائل راكب وكان النهار حارًا شديد الحرارة .فقال له معاوية :ألق ال ّ
أكن للبسها وقد لبستها .قال فاردفني ،قال :لست من أرداف الملوك :.قال :إن الرمضاء قد أحرقت قدمي،
قال :ل يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك .ولكن إن شئت قصرت عليك ناقتي فسرت في ظلها .فأتى
عَبّية الجاهلية) .وفد حضرموت ـ طبقات ابن سعد (1/349 معاوية النبي ،فأنبأه .فقال" :إن فيه َلُعَبّية من ُ
و قد حاول السلم محاربة هذه العبية فذّمها و نهى عنها و لكنه من جهة أخرى كرسها بفتوحاته
عَبّية الجاهلية،
وغنائمه و تفضيله لعنصر قريش على سائر البشر.فقد ورد في الحديث :أن ال وضع عنكم ُ
ظمها بآبائها ،يعني الِكَبر" ) .عبب ،تاج العروس (1/574 وتع ّ
كما يشكل الجهل المطبق ركيزة هامة في بناء شخصية النسان العربي و نخوته و فخره ،فالعربي تجده
ي بالسم ،ل يعرف عن النصرانية في وثنيا ولكنه ل يفهم شيئًا من أمور الوثنية ،و نصرانيا ،لكنه نصران ّ
الغالب شيئًا ،و مسلما ولكنه ل يعرف عن السلم إل السم ،ثم يفتخر بذلك الجهل و كأنه مزية ُيّتصف
ي رمي به العراب في بعضه بها .ونجد في كتب آهل الخبار والدب قصصًا كثيرا بمثل هذا الجهل الذ ُ
حق وفي بعضه موضوع على سبيل التنكيت و التسلية
كما أن النسان العربي حقود ،ل يرى أن يغفر ذنب من أساء إليه .بل يظل في نفسه حاقدًا عليه حتى يأخذ
بثأره منه" .قيل لعرابي :أيسرك أن تدخل الجنة ول تسيء إلى من أساء إليك ؟ فقال :بل يسرني أن أدرك
الثأر وأدخل النار)".نهاية الرب (6/96
و العربي إنسان عنصري يميز الناس حسب أعراقهم و ألوانهم و حسب تحضرهم و بداوتهم .فهذا
الرسول الكرم كان يميز بين العراب و بين البادية ،وهم الذين كانوا ينزلون أطراف القارة "القارية"
وحولهم .فلما أهدت "أم سنبلة" السلمية لبنًا إلى بيت رسول ال ،أبت عائشة قبوله ،لن الرسول قد نهى
أهله عن قبول هدية أعرابي .وبينما كانت أم سنبلة في بيته ،دخل رسول ال ،فقال :ما هذا ؟ قالت عائشة:
يا رسول ال ،هذه أم سنبلة أهدت لنا لبنًا ،وكنت نهيتنا أن نقبل من أحد من العراب شيئًا .فقال رسول ال:
خذوها ،فان أسلموا ليسوا بأعراب ،هم أهل باديتنا).ابن سعد (8/615
ويفيد هذا الخبر ،أن الرسول يميز بين العرب البادية المقيمين حول "القارية" أهل الحاضرة ،الذين هم
على اتصال دائم بالحضر ،وبين العراب .وهم البادون البعيدون عن أهل الحواضر .فنهى عن قبول هدية
منهم .وذلك بسبب جفائهم على ما يظهر ولنهم ل يهدون شيئًا إل طمعوا في رَد ما هو أكثر منه .لغلظ
معاشهم وضيق تفكيرهم .وآية ذلك ما ورد عنهم في القرآن .
"ومّمن حولكم من العراب منافقون ومن أهل المدينة َمَرُدوا على النفاق ،ل تعلمهم ،نحن نعلمهم،
سنعذبهم مرتين ،ثم يرّدون إلى عذاب عظيم") التوبة (101
ل يعلموا حدود ما أنزل ال على رسوله ،و ال عليم حكيم" .ومن "العراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر أ ّ
العراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء وال سميع عليم" )التوبة (98
و من خصوصيات العرب المّنة ،،إذا فعلوا معروفًا بقوا يتحدثون عنه ،ويمنون بصنعه فهم خشنون إذا
تكّلموا رفعوا أصواتهم .وقد ّوبخهم القرآن وأّنبهم لفعلهم هذا .فجاء فيه" :يا أيها الذين آمنوا ل ترفعوا
ل كجهر بعضكم لبعض ،أن تحبط أعمالكم وأنتم ل ي ول تجهروا له بالقو ِ أصواتكم فوق صوت النب ّ
ل قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر ل أولئك الذين امتحن ا ُ
لا ِتشعرون .إن الذين يغضون أصواتهم عند رسو ِ
عظيم)".الحجرات 2و ما بعدها "يا أيها الذين صدقوا ال ورسوله ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول
ال تتجهموه بالكلم وتغلظون له في الخطاب)".لقمان .(19و يقول الطبري" و كان من خشونتهم و
أعرابيتهم أن أحدهم إذا جاء الرسول فوجده في حجرته نادى :يا محمد يا محمد! .وذكر أن وفدًا من "تميم"
وفد على رسول ال ،فوجده في حجرته ،ونادى مناديه .:اخرج إلينا يا محمد! فإن مدحنا زين وذّمنا شين.
أو :يا محمد ! إن مدحي زين وإن شتمي شين .فأنزل ال" :إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم ل
يعقلون .ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم .وال غفور رحيم) ".تفسير الطبري (26/84
و يعرف العربي بماديته المفرطة و جشعه الكبير وطمعه الفظيع .فهو يحارب معك ،ثم ينقلب عليك
ويصير مع خصمك ،إذا وجد في الجانب الثاني أنه مستعد لعطائه أكثر مما أعطيته.
فقد حاربوا مع الرسول ثم صاروا عليه و انتهبوا عسكره ،و جاؤوا إليه فعرضوا عليه السلم ،فلما أرادوا
العودة إلى بلدهم وهم مسلمون ،وجدوا رعاًء للرسول ،فانتهبوه وقتلوا حماته مع علمهم بأنه له ،وأن
انتهاب مال المسلم حرام ،فكيف بهم وهم ينتهبون مال رسول ال .وقد ندد القرآن الكريم بطمعهم في الية:
ي،ـ قالت العراب آمنا ،قل لم تؤمنوا ،ولكن قولوا أسلمنا ـ .فهؤلء قوم من بوادي العرب قدموا على النب ّ
صلى ال عليه وسلم ،المدينة ،طمعًا في الصدقات ،ل رغبة في السلم ،فسماهم ال تعالى العراب ..و
مثلهم الذين ذكرهم ال في سورة التوبة ،فقال" :العراب أشد كفرًا ونفاقًا").عرب ـ اللسان (1/586
وذكر عن "قتادة" قوله" :قالت العراب آمّنا ،قل :لم تؤمنوا ،ولعمري ما عمت هذه الية العراب .إ ّ
ن
ن يؤمن بال واليوم الخر ،ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء العراب امتنوا بإسلمهم من العراب َم ْ
ي ال ،صل ال عليه وسلم ،فقالوا :أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلن وبنو فلن .فقال ال تعالى: على نب ّ
ل تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا"" .وقال أخرون :قيل لهم ذلك لنهم مّنوا على رسول ال ،صلى ال عليه
وسلم ،بإسلمهم .فقال ال لنبّيه ،صلى ال عليه وسلم ،قل لهم لم تؤمنوا ولكن استسلمتم خوف السباء
والقتل )".تفسير الطبري (26/90
و يتصف العربي بالهوجائية فهو ل يعرف شيئا سوى القوة و ل يخضع لشيء إل لسلطانها.كما يعرف
بالتفاخر بنفسه و التباهي بشجاعته ،إل أنه ل يصبر على طول القتال وجديته ،ول يتحمل الوقوف طويل
في ساحة المعركة ،لسيما إذا شعر أن القتال غبر متوازن ،وان أسلحة خصمه أمضى و أقوى في القتال
من أسلحته ،فيولي عندئذ الدبار ،و ل يرى في هروبه هذا من المعركة شيئًا ول عيبًا.
وفي تأريخ معارك الجاهلية ولسيما في معاركهم مع العاجم ومع القوات النظامية العربية أمثلة عديدة
من هذا القبيل .ففي الحروب التي وقعت بين المسلمين والفرس أو الروم ،خذلت بعض القبائل المسلمين،
وتركتهم لما رأت جد القتال وأن ل فائدة مادية ستحصل عليها منه" .وقد كان انضم إلى المسلمين حين
ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام ،فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى ،و
خذلوا المسلمين").الطبري (3/5719
لقد فروا لنهم وجدوا أن القتال قد طال وأنه ِقتال جّد ،و هم ل قبل لهم بالقتال الطويل الشديد الجّد.
فاختاروا الهروب دون إن يفكروا ،في عقدهم الذي عقدوه مع إخوانهم في الجنس على القتال معهم
والستمرار فيه حتى النهاية ،فإما نصر وإما هزيمة وموت وهلك.
ولكن طبيعة العراب ل تقيم وزنًا ول تعطي أهمية للعقود في مثل هذه المواقف .إن رأت هواها في
القتال قد تغّير وتحّول ،وأن المل في كسب مغنم قد تضاءل ،انسحبت منه بعذر قد يكون تافهًا وبغير عذر
أيضًا .وقد ل تنسحب ،وإنما تبدل الجبهة ،بأن تذهب إلى الجانب الخر فتحارب معه ،وتقاتل عندئذ من
كانت تقاتل معه .لنها وجدت أن الربح من هذا الجانب مضمون ،وأن ما ستناله منه من فائدة أكثر .وذاك
بعد مفاوضات سرية تجرى بالطبع .وهذا ما أزعج الروم والفرس ،وجعلهم ل يطمئنون إلى قتال العرب
معهم وفي صفوفهم ،.فرموهم بالغدر .فكانوا إذا كلفوهم بالحرب معهم عهدوا إليهم القيام فيها بأعمال
حربية ثانوية ،أو النفراد بحرب العراب العداء الذين هم من أنصار الجانب الخر .فقد حدث مرارًا أن
هرب العراب من ساحة القتال حين سعرت نار الحرب ،وارتفع لهيبها ،فأحدث هروبهم هذا ارتباكًا في
جانب من كان يقاتلون معه أدى إلى هزيمته هزيمة منكرة ،لما أحدثه فرارهم هذا من فجوة في صفوف
المقاتلين .وقد أشارت إلى هذه الحوادث مؤلفات الكتاب اليونان و اللتين ).المصنف .(4/295
ل ل يليق صدوره من إنسان والعربي صارم عبوس ،إذا ضحك ضحك بقدر .يكره الدعابة ،ويرى فيها تبذ ّ
كريم .بقي هذا شأنه حتى في السلم .فلما وصف "أبو عبد ال المصعب بن عمد ال بن المصعب
الزبيري" "عبد ال بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر-الصديق" قال عنه" :كان امرؤًا صالحًا ،وقد
عّد "الدعابة" من الشوائب التي تنقص المروءة ،وتؤثر في كانت فيه دعابة" .حتى أن من العلماء من َ
صاحبها ،وتطعن فيه ،فل تجعله أهل لن يؤخذ عنه الحديث .أي جعلوه شخصا غير موثوق به).نسب
قريش (278
ويعرف العربي بالفردانية و التطرف ،إلى درجة تجعله يقيس كل شيء بمقياس الفائدة التي يحصل عليها
من ذلك الشيء.و عرف في الوقت نفسه بخوفه من المعان في القسوة ،ومن المعان في القتل ،لما يدركه
من رد الفعل الذي سيحدث عند أعدائه ضده إذا تمكنوا منه ،ومن نتائج الخذ بالثأر .كما عرف عن العربي
ميله إلى المبالغة .المبالغة في كلمه .والمبالغة في إعطائه إذا أعطى ،والمبالغة في مدح نفسه ،والتباهي
بشجاعته و بكرمه و بشدة صبره إلى غير ذلك ،مع وجود تناقض فيه بالنسبة إلى دعاويه هذه .والعربي
يحب المديح كثيرًا ،وهو على حّد قولهم .إذا أعطى ،صور ذلك غاية الجود ،وبالغ فيه ،ويظل يذكره في
كل وقت ويحب إن يطرى عليه) .المصنف (298
ويفضل العربي فقر البادية وغلظ معاشها وشحها ،ويحن إليها ،ول يصبر عن فراقها
.قال الجاحظ" :وترى العراب تحن إلى البلد الجدب ،والمحل القفر ،والحجر الصلد ،وتستوخم الريف".
)رسالة في الحنين إلى الوطان ـ من رسائل الجاحظ 2/388تحقبقعبد السلم هارون(
"واعتل أعرابي في أرض غربة ،فقيل له :ما تشتهي? فقال :حسل فلة ،و حسو قلت") .نفس المصدر
(390
ويروى إن "ميسون بنت بحدل" الكلبية ،زوجة معاوية ،كانت تحن إلى وطنها ،وقد سمعها زوجها وهي
تنشد أبياتًا في شوق وحنين إلى البادية ،فخيمتها التي تلعب الرياح بها ،خير عندها وأحب لها من العيش
في قصر منيف ،ورجل من بني عمها نحيف أحب إليها من "علج عليف" ،أي حضري سمين من كثرة
الكل).بلوغ الرب 3/426و ما بعدها(
.
و الحضري من العرب يسخر من البدوي ويضحك عليه لحنينه إلى باديته .ولما استظرف "الوليد بن عبد
الملك" أعرابيًا واستملحه ،فأبقاه عنده وسأله عن سبب حنينه إلى وطنه أجابه جوابًا خشنًا ،مثل جفاء
العراب وصلفهم .فقال الوليد ،وهو يضحك :أعرابي مجنون).بلوغ الرب (3/433ولم يتأثر منه ،لنه
أعرابي ،والعرابي في حكم المجانين .وقد سقط حكم القلم عنه
هذه إذا هي حياة العرب حياة تكاد تكون حياة واحدة ل تغير فيها ول تبدل ،فهي على وتيرة واحدة ،على
تعدد القبائل ،وابتعاد مواضع بعضها عن بعض .ذلك لن الظروف المخيمة عليهم ،ظروف واحدة ل
اختلف فيها ول تبدل .إل ما كان منها بالنسبة إلى عرب الضواحي والحواضر و الحدود ،فان ظروفهم
تختلف عن هؤلء ،ومجال تفكيرهم أوسع من مجال تفكير أعراب نجد و ما والها من أرض الجزيرة
جنوبا.و ذاك بسبب نوع المعيشة المتغير ،المتصل بالرض ،وقربهم من الحضر.
ي عنها في الكتب ،وجدنا يقول جود علي :ولو درسنا حياة القبائل في الجاهلية وجمعنا دراستنا من المرو ّ
أن بين الماضي البعيد وبين الحاضر شبهًا في نمط الحياة ،وان ما ذكرته عن قبائل الجاهلية يكاد ينطبق
على حياة قبائل البادية في وقتنا هذا ،ذلك لن الظروف والمؤثرات بالنسبة إلى حياة العراب الممعنين في
البادية ل تزال كما كانت عليه .ولكنها سوف لن تبقى على ما هي عليه و إلى أبد البدين بالطبع ،لن التقدم
الحضاري والكتشافات المادية ،قد آخذت تغزو العراب وتضيق الخناق عليهم ،لتغير من حالهم .فبعد أن
كان البدو قوم غزو ،أكرهتهم الحكومات القوية على البتعاد عن الغزو ونبذه ،حتى اضطروا إلى توديعه
إن البد أو كادوا وصاروا مغزّوين ،تغزوهم الحضارة الحديثة واللّيات بما ل قبل لهم بمقاومته ،لتفوق
الغزو الجديد عليهم .وهم سيكونون ول شك بمرور الوقت على شاكلة النصف الخر من العرب .أي
إخوانهم الحضر .يوائمون أنفسهم مع التطور الجديد .وسوف يبدل هذا من حياتهم ول شك ،ومن أهم ما
سيفعله فيهم ،تحويل حياتهم من حياة غير مرتبطة بالرض ،إلى حياة ترتبط بها ارتباطا وثيقًا ،فتتحول
البداوة عندئذ إلى حضارة ،وسيشعر العرابي عندئذ انه مواطن له ارض ووطن وقوم هم إخوة له
يشعرون بشعوره .وأن من يعزل نفسه عن العالم ،فلن يعزل بذلك إل نفسه ،ولن يضر إل بصالحه .وان
النسان بغير عمل ول إنتاج ،إنسان تافه ل قيمة له .وأن العنتريات و الُعَبّية الجاهلية من جملة مؤخرات
الحياة في كل الزمنة والوقات" المفصل (4/302
ل في جزيرة العرب،حيث الطبيعة تحتضن الفراغ الطبيعة تخاف الفراغ و التاريخ ل يقبل الصدف،إ ّ
السطوري ،و التاريخ يستلقي على سرير القدر...مكة ،حسب خرافات العرب ،لم يبنها بشر...إنما ال
،منذ البدء أوجد مكة على صورة لها في السماء"حيث البيت المعمور يدخله كل يوم و ليلة سبعون ألف
ملك " )الزرقي ،أخبار مكة ، (1/34قال مجاهد :لقد خلق ال موضع البيت قبل أن يخلق شيئا من
الرض بألفي سنة "و قال كعب الحبار "كانت الكعبة غثاء على الماء قبل أن يخلق ال السماوات و
الرض بأربعين سنة" و عن ابن عباس قال"لّما كان العرش على الماء...بعث ال ريحا...و دحا الرض
فمادت ثم مادت...فكانت مكة أم القرى")..الزرقي ،أخبار مكة1/32 ،ـ 35؛78ـ .(79و العجب العجاب،
أن عمران ال الذي شيده بيديه المقدستين تهّدم و اندثر...و إبراهيم هو من أعاد بناء الكعبة .هو وابنه
إسماعيل...و عندما وصل إلى المنطقة المباركة لم يجدا للعمران اللهي أي أثر...لم يجدا منزل و ل حجرا
و ل طريقا معبدة و ل أي شاهد على عمران الواحد القهار...فهل هذا مما يعقل؟؟ ...هل يعقل أن يصمد
العمران البشري الذي شّيده إبراهيم في حين عمران العلي القدير اندثر؟؟ الطبيعة ل تقبل الفراغ ،و
التاريخ ل يقوم بالصدف ،و ال ل يبني العشاش لبني البشر.مكة لم يبنها بشر..و القرآن لم يكتبه بشر..و
ل دولة المسلمين أنشأها البشر...إنما كل شيء في عرف العرب يتم بالصدفة و العناية الربانية و هذا ما
تأباه العقول و ليس له في اللباب مقر ...أما العوامل الخارجة عن الجزيرة فلها اليد العليا في كل ما جرى
و يجري في بلد العرب و يعزوه المشدوهون و المبهورون إلى ال و الصدفة و القدر.
لقد كان هناك تنافس قوي و صراع مرير بين كل من الفرس و مواليهم من عرب ما بين النهرين من جهة،
و الروم و مواليهم من عرب الشام،من جهة ثانية،والحبشة وأتباعهم من أهالي اليمن من جهة ثالثة؛من
أجل السيطرة على القاليم الصحراوية وسط الجزيرة العربية )نجد و تهامة و الحجاز( ،و تحديد
مصيرها .ما حذا بالمنطقة؛و في ظل الحفاظ على مصالح كل جهة فيها ،و حتى ل تتضرر الطرق
التجارية المارة منها؛لتصبح منطقة عازلة منزوعة السلح .و الملحظ أن المبراطور فيليب العربي الذي
جه أنظار الرومان إلى الطريق المخترقة للصحراء، حكم روما ما بين 204و 249للميلد كان أول من و ّ
و أن التجار الرومان بدأوا في استعمالها منذ عهده .و ذلك ،لصعوبة المسالك البحرية في البحر الحمر و
سيطرة الساسان على الخليج الفارسي .و الملحظ أيضا ،أن هذه التجارة كانت تكبر و تزدهر في فترات
السلم ،وأن أطول مدة سلم بين الفرس و الرومان كانت ما بين 384و 502م.حيث شهدت هذه الطريق
أزهى و أطول فترات ازدهارها .فل الصدفة و ل ال و ل وعورة الصحراء أو اشتغال المبراطوريتين
بالحروب فيما بينهما ،كانت هي العوامل التي نأت بهذه المنطقة عن الحروب ،و حالت دون استعمارها
من طرف إحدى المبراطوريتين...إنما هي المصالح العليا التي اقتضت عزل صحراء العرب و تسخير
أهلها في عمليات الربط و التواصل بين المبراطوريتين والسخرة و حماية الحدود و التخوم.
و كان الرومان أكثر الطراف اهتماما بجزيرة العرب.فالمبراطورية الحبشية كانت تهيمن على بحر
الحبشة الممتد من القرن الفريقي إلى الهند ،بجزره و سواحله .و تحتكر تجارتها البرية صحراء صعيد
مصر التي تربط الحبشة )أكسوم( ،بالبحر البيض المتوسط..أما فارس فتلك كانت جارة لممالك الهند و
الصين ،و تسيطر على بحر عمان و الخليج الفارسي..أما البحر العربي ) الحمر( فكانت فيه الملحة
شبه مستحيلة بالنسبة للسطول الروماني ،و بالخصوص في مناطقه الوسطى .لذا كان الرومان يراهنون
أكثر من غيرهم على الطريق التي تمر بيثرب و مكة ،و تصل بلد الشام بنجران التي كانت مستعمرة من
طرف الحباش ،من جهة،و ممالك اليمن السعيد و خليج عدن ،من أخرى .فبتواطؤ من الحباش
النصارى ،و مساهمة من ممالك حمير و حضر موت و مشاركة عرب الشام و تخوم الرومان أسست
الرومان أسطول تجاريا هاما تمّوله القسطنطينية و يسهم فيه اليمنيون و الحباش ،و يسهر على أمنه
عرب الشام ومرتزقة البدو المنتشرون في البادية على شكل تجمعات قبلية و عصابات و عشائر ،تترحل
طلبا للكل و الماء .فأثارت الحركة الطارئة الجديدة على ساحل الصحراء انتباه العراب المترحلين و
القبائل الممحلة بالمنطقة ،بالضافة إلى مجاميع الخلعاء والصعاليك المنتشرين في أصقاع الصحراء ،ما
جعلهم يرابضون على طول الممرات و المفاوز التي تقطعها هذه القوافل ،يتربصون بها ليغيروا عليها أو
ليرتزقوا منها.فنشأت بذلك حركة القرصنة الصحراوية التي أدت إلى عقد أول اتفاق في التاريخ بين شيوخ
و أعيان القبائل العربية و فيليب العربي إمبراطور الرومان.والتي سيستغلها محمد فيما بعد ،في عملية
إنشاء دولته الكبرى.
في هذه الثناء كانت بين تلل و أودية الحجاز الفاصلة بين الشام و نجران تتلل عين ماء تجدب إليها
ب على الرمال القاحلة.كانت العين تقبع في الراحل و المسافر ،فيقصدها الطائر في الجواء الحارة ،و الّدا ّ
قرطاس من الخرافات و الساطير...فهي بئر زمزم التي يقال حفرها إسماعيل ،جوار كومة الحجار
المكدسة في شكل بيت مكعب يقال ،بناه إبراهيم ،و سمي ببيت ال الحرام...و نحن نعلم ،إنما المدن تنشأ
على ضفاف النهار و مصابها،و على سواحل البحار و على مفترقات الطرق..و زمزم ماء على ملتقى
طريقين ،طريق تربط الشام بنجران و أخرى تربط يثرب بساحل بحر العرب)الحمر(..فل ال و ل
إبراهيم ،لي أحد منهما اليد في إنشاء مكة..إنما هي الحاجة الموضوعية و الضرورة الملحة ما حذا
بمحترفي و مستكشفي هذه الطريق إلى إحداث هذا المكان ،الذي هو عبارة عن منتجع ضيق بين جبال ،به
بئر و ظلل و يتوسطه خان بدائي يضع فيه الزوار و خصوصا أصحاب القوافل رحلهم،و ينتجعون
الظلل حوله .فنسجوا حوله مع اليام هالة من الساطير و المخاريق ،و أحاطوه بالقدسية و الجلل
ليوقعوا الهيبة منه في نفوس السذج من العرب الممتنعين في الجبال و المنتشرين على الطرقات.و جعلوا
له حراسا و نساكا يأخذون أجورهم .أما إبراهيم أبو النبياء و رمز العقوق و الصعلكة فتلك شخصية ،تبقى
أسطورية من وحي خيال التوراة إلى إشعار آخر..ذلك أن الدراسات العلمية و البحاث الركيولوجية
العديدة التي أجريت في بلد ما بين النهرين و فلسطين أثبتت جميعها عدم تاريخانية إبراهيم ،الشخصية
النجيلية الذي جعله سفر التكوين الجد الكبر لبني إسرائيل و العرب و أب الموحدين )أنظر :أبراهام ،
موسوعة ويكيبيديا ،فرنسية(.كما أن زمزم و كعبته ،من جهة أخرى لم يكونا في واد غير ذي زرع كما
يدعي القرآن .إنما الوادي كان معشوشبا خصبا ظليل ،و أنه لم يصبح غير ذي زرع إل بعد ظهور
السلم .فلدينا من الخبار ما يفيد أنه " قد كان حول الحرم شجر ذو شوك نبت من قديم و كّون غوطة،
فقطعها عبد مناف بن قصي ،و هو أول من بنى دارا بمكة ،و لم تبن دار قبلها،بل كان بها مضارب للعرب
من الشعر السود).نزهة الجليس.(1/24 ،و عند غربلته لروايات الخباريين المتقدمة عن سعة الحرم و
زمان بناء الدور بمكة استنتج جواد علي أن باطن مكة ،و هو الوادي الذي فيه البيت ،كان حرما آمنا ،ل
بيوت فيه ،أو أن بيوته كانت قليلة حصرت بسدنة البيت و ممن كانت له علقة بخدمته.لذلك نبت فيه
الشجر حتى غطى سطح الوادي ،من السيول التي كانت تسيل إليه من الجبال.و لم يكن في وسع أحد
التطاول على ذلك الشجر ،لنه شجر حرم آمن.و بقي هذا شأنه يغطي الوادي و يكسو وجهه بغوطة حتى
جاء قصي.فتجاسر عليه بقطعه..و خاف الناس من فعله ،خشية غضب رب البيت ،و نزول الذى بهم إن
قطعوه .فلما وجدوا أن ال لم يغضب عليهم ،و أنه لم ينزل بهم سوءا،اقتفوا أثره ،فقطعوا الشجر ،و
استحوذوا على الرض الحرام)المصنف .(4/53و سيبقى هذا الغطاء النباتي منتشرا بالرض الحرام حتى
مجيء السلم و نزول القرآن.إذ " يتبين من خطبة الرسول عام الفتح و يوم دخوله البيت الحرام و قوله :
ل يخلى خل مكة و يعضد شجرها ..أن حرم مكة كان ل يزال ذا شجر .و لم يكن قد قطع تماما منه في أيام
الرسول)..نفس المصدر أعله(
كان الوادي إذا ،عبارة عن واحة ظليلة كثيفة الشجر الذي في ظلله ينصب التجار و المنتجعون خيامهم
بعد أن يستودعوا خان زمزم أمتعتهم.وتحيط بالوادي جبال و تلل و أودية من كل جانب ُتؤوي أطيافا من
البشر في غالبيتهم من البدو و الحابيش و الخلعاء و المطرودين من بلدان منشئهم".هؤلء يسميهم القرآن
بالراذل و الذلة و الرذلين ،وفيهم الفقير و اليتيم و المسكين و ابن السبيل و المحتاج ،أما كتب السير و
الخبار فتنعتهم بالصعاليك و الخلعاء و الطرداء و الخلطاء و لصوص البادية و ذؤبان العرب و الشياطين
و الفتاك و غير ذلك )تاريخ الواقدي 457،؛ تاريخ الطبري 1/1438 ،؛ الغاني 8/65؛ النهاية لبن
الثير 2/52ـ 63؛أسد الغابة في أسماء الصحابة.(5/178،فأهل الخبار كلهم يجمعون على أن سكان
الوادي إنما نزحوا إليه من" مختلف أنحاء الجزيرة المسماة عربية و من الهلل الخصيب و من اليمن و
بلد فارس و الروم و من مصر و الحبشة و السودان و من فينيقيا و فلسطين و بلد الشام،واختلطهم هذا
أدى إلى زرادشتيون مجوس كما كان في لغاتهم الحميرية و المسند و الثمودية و اللحيانية و الديدانية و
النبطية و الحبشية و الرومية و اليونانية و العبرانية و الرامية و العربية " )تاريخ اليعقوبي
.(1/254هؤلء النازحون إلى أصقاع الصحراء القاصدون لهذا الوادي عاش معظمهم عشائر و أفرادا،
فسكنوا على طرق القوافل التجارية بحثا عن لقمة العيش،إما بواسطة عمل ينالون أجره و إما بواسطة
النهب و السلب و الغزو.و جلهم عاش حوالي الكعبة و بالقرب منها ،أو على الطريق الممتد بين مكة و
المدينة و وادي القرى و تيماء مرورا بالبتراء حتى بلد الشام .هكذا أنشأت هذه الوفود التجمعات الهائلة و
انتشرت من حوالي خان زمزم مستفيدة من مكانته الخرافية و موقعه التجاري.
أما عن تاريخ مكة في السير وعند أهل الخبار،فإن الناس قد عادوا إليها بعد الطوفان ،فقامت فيها قبائل
عديدة ،و كان أول من اشتهر منهم ،بعلم المؤرخين المسلمين ،قبائل يمنية أفسدت الرض و ما
عليها،عرف منها قبيلتا :جرهم و قطورا .هاتان جاءتا في الوقت الذي جاء فيه إبراهيم )العاق( و ابنه
إسماعيل )اللقيط( من بلد الكلدانيين.و نكح إسماعيل في جرهم ...و لما توفي إسماعيل تولى أمر البيت
بنوه ابتداء بنابت أكبرهم ثم مضاض بن عمرو الجرهمي خال أولد إسماعيل،ثم تنافست جرهم و قطورا
في الملك،و تداعوا إلى الحرب ،فانهزمت قطورا؟؟ ،ثم تداعوا إلى السلم .ثم أن جرهم بغت في مكة
فاستحلوا حراما ،و ظلموا من دخلها و أكلوا مال الكعبة .في هذه الثناء جاء العماليق من سيناء هربا من
وجه موسى الذي حاربهم و طردهم إلى نواحي مكة.فسكنوا مع جرهم الذين ملكوا و استبدوا.ثم هجرت
خزاعة قبيلة أخرى من اليمن و فرع من الزد عقب خراب سد مأرب ،و وقع بين خزاعة من جهة و
جرهم و العماليق من جهة ثانية معارك فكان النصر لخزاعة التي وليت البيت ثلثمائة سنة ،يتوارثون ذلك
كابرا عن كابر حتى آخرهم حليل بن حبشية )معجم البلدان 185 /5 ،ـ (187الذي تزوج قصي بن كلب
بنته حبى بنت حليل
هذه هي الوضاع المزرية المخيفة التي كانت ترقبها القسطنطينية بعين من الريبة و الحذر و التريث.هذه
هي الوضاع المقلقة التي كانت تقض مضجع الروم ،و تجعلهم غير آمنين على مستقبلهم السياسي و
مستقبل أوطانهم.فطالما أن المنطقة غير آمنة،ل برا و ل بحرا،فإن هذا يشكل خطرا حقيقيا يهدد بيزنطة
في الصميم ،خصوصا و أنها تعيش على إيقاع حروب ل تنهي في الغرب حيث ظهرت أقوام منافسة مثل
برابرة الجرمان و الوندال و ظهور الفرانك في بلد الغال بالضافة إلى المعارك التي ل تنتهي على حدود
الساسان.و ل يغيب عن الذهان ما كانت تشهده بيزنطة داخليا ،مع ظهور اليعقوبية و النسطورية و الفرق
الدينية المختلفة و اشتغال البلد و العباد بالهرطقة ،من تمزق اجتماعي و انقسام في الصفوف.لم تستطع
القسطنطينية فتح جبهة أخرى للحرب ،و كانت رغبتها ملحة في السيطرة على أوضاع خان زمزم و
تأطير هذه الحركة الناشئة الخطيرة و المنفلتة عن أي سيطرة و الخارجة عن كل العراف و القواعد..في
هذا الطار كلفت القسطنطينية عملءها من الغساسنة بالتدخل الحاسم الذي من شأنه التحكم في الوضاع
داخل الصحراء و استتباب المن ،و ضمان حسن سير الطرق و المدادات التجارية على المد البعيد ،و
يمّكن،بالتالي ،من التقرير في مصير المنطقة و السيطرة عليه.و كانت دولة الغساسنة في هذه الثناء دولة
قوية الشوكة شبه مستقلة،و كانت تبسط نفوذها على المنطقة الممتدة من صحراء سوريا شمال ،إلى حدود
يثرب جنوبا .و كانت تتخذ مدينة جباليا بالجولن عاصمة ..كما كانت غسان تتربع على عرش تجارة
الشرق الوسط ،و يشهد على ذلك ما خلفته غسان من عمران و آثار و وثائق تشهد لها على مكانتها
التجارية ،عكس مكة و أهلها الذين ل نتوفر على أي دليل مادي يدل على أنهم كانوا يحتكرون التجارة
العالمية قرنين من الزمن اللهم ما نستقيه من أخبارهم و سيرهم.
و لعلمهم بالمنطقة و وعورتها ،و خان زمزم و قدسيته لدى السذج ،و بالبدو و همجيتهم ،فقد آثرت غسان
عدم التدخل المباشر و المغامرة بالمال و الرجال،فانتدبت للمأمورية سرية على رأسها مرتزق من
ضواحي تبوك يعرف بانتمائه من جهة أمه إلى إحدى قبائل البدو في الحجاز ،يلقبونه هناك بالقرشي و
اسمه زيد بن كلب الذي يدعوه أهل الخبار قصيا.فقد سأل عبد الملك بن مروان محمدا بن جبير ،متى
سميت قريش قريشا ؟قال:حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها ،فذلك التجمع التقرش.فقال عبد الملك بن
مروان :ما سمعت هذا ،و لكن سمعت أن قصيا كان يقال له القرشي.و لم تسم قريش قبله).الطبري
2/264و ما بعدها ؛ المفصل .(4/25لم تكن بعثة فصي اعتباطية و ل ارتجالية ،إنما جاءت نتيجة دراسة
متأنية للوضع و تهيئ ما يليق به من خطة بليغة ،ثم اختيار الشخص المناسب و الوفت المناسب.و كانت
الخطوة الولى أحسم خطوة لما نسبوا قصي إلى كعب بن لؤي.فقالوا هو قصي أو زيد بن كلب بن مرة
ين كعب بن لؤي)ابن الثير،الكامل ، 2/8ابن سعد ،(1/68و قالوا هو قصي بن كلب بن مرة بن كعب
بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار
بن معد بن عدنان)الطبري ، 2/661،تاريخ السلم للذهبي ،1/18أبو الفدا،المختصر .(1/112و كعب بن
لؤي هو أهم شخصية في هذه السلسلة لدى مبرمجي الخطة لما سمعوا من محاولته المبكرة توحيد أشتات
الذين يسمون قريش المفسدين في البلد و تأطيرهم و السيطرة عليهم.يذكر أهل الخبار أن مكة لم تكن
ذات منازل ،و كانت قريش بعد جرهم و العمالقة ينتجعون جبالها و أوديتها و ل يخرجون من حرمها
انتسابا إلى الكعبة لستيلئهم عليها و تخصصا بالحرم لحلولهم فيه،و لّما كان كعب بن لؤي بن غالب جمع
قريشا و صار يخطب فيها كل جمعة ،وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية "عروبة" فسماه كعب
الجمعة.و بذلك ألف بين قريش حتى جاء قصي ففعل ما فعل )الحكام السلطانية .. ( 162فجرهم و
العمالقة ،إذا ،و بنو خزاعة و كنانة بعدهم ،و جميع من تجّمع حول مكة لم يكونوا يسكنون البطاح
المعشوشبة جوار البيت..إنما كانوا ينتجعون الجبال المجاورة و الطم ،و ينتشرون على جنبات الطرقات
و السبل المؤدية إلى مكة ،قصد تسّول القروش.فكانوا كلما مرت بهم قافلة أو أفراد أو جماعات ،ينادون
عليهم :من فضلك يا قاصدا البيت قرشا..هاي ،قرشا من فضلك ..و كانوا يحبون القروش حّبا جما ،و
يجمعون المال لّما لّما..فتراهم يلحفون في الطلب ،و طالما تبعوا الزوار لمسافات طوال ،و هم ينادون :
قرشا من فضلك! ..قرشا من فضلك!...حتى أضحوا يصرونه استقلل من قيمته فيقولون :أي!!! ولو
قريشا،حفظتك اللت!!...قريشا من فضلك!!...فمنذ أن يدخل المسافر أرض الحجاز،سواء من شمالها أو
من جنوبها،ل تكف أذناه عن سماع قريش من فضلك قريش من فضلك.فما كان من التجار و محترفي هذه
الطريق يوميا إل أن أطلقوا على هؤلء القوم لقب محبي القريش ،على وزن محبي الحكمة؛ أو أحباب
القريش .ثم رخموها مع مرور الوقت حتى أبقوا على قريش .و كان يعرف عن هؤلء الناس حبهم الشره
للمال،و أنهم يجمعونه و ل يصرفونه في أي شيء.فقد ورد في مذكرات سترابون الجغرافي التي يصف
فيها رحلة إيلوس جالوس في عهد المبراطور سيزار أوغست أن هذا الخير قال لجالوس:أريد منك أن
تستخبر لي أمور هؤلء العرب الذين سمعت عن غناهم المفرط و الذين يستبدلون عطورهم و أحجارهم
الكريمة بكل ذهب و فضة المم الخرى ،دون أن يصرفوا منها على أنفسهم شيئا )...سترابون
الجغرافي ،أول رحلة اسكشافية ،معطيات جغرافية ،العربية بدون نبي ـ موقع إسلم وثائق ،فرنسي(
.فهم كانوا إنما يعيشون على الصدقات و يلبسون من الصدقات و إذا جاد عليهم أحد بقريش أضافوه إلى ما
معهم من القريشات و احتفظوا به...حتى أصبحوا يربون قريشاتهم و يقرضونها لولئك الذين كانوا بها
عليهم يتصدقون ،أو يضاربونهم في تجاراتهم و يساهمون في قوافل شركة مكة التي سوف ينشئها قصي ،
كما سنأتي على ذكره في مكانه..فلقد قيل سميت قريش من القرش و هو الكسب و التجارة ،و حكاه ابن
هشام رحمه ال .وقال الجوهري :القرش الكسب و قيل قرش قرش) ..ابن كثير ،البداية و النهاية
(2/187وقال ابن سيده"قرش ِقرشا أي جمع و ضّم من هنا و هنا)عن لسان العرب ،6/334مادة"قريش"(
،أما البيهقي فيقول في هذه المسألة ،قال معاوية لبن عباس :فلم سميت قريش قريشا" .قال لدابة تكون
في البحر ،أعظم دوابه ،يقال لها القرش.ل تمر بشيء من الغث و السمين إل أكلته.و أنشده شعر الجمحي
إذ يقول:
و قريش التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا
تترك لدي الجناحين ريشا تأكل الغث و السمين و ل
يأكلون البلد أكل كميشا هكذا هي في البلد قريش
يكثر القتل فيهم و الخموشا و لهم آخر الزمان نبي
)ابن كثير ،البداية و النهاية (2/187
إذا فكلمة قريش لم تكن اسما علما لمجموعة اثنية معينة أو لقبيلة أو عشيرة ،بل كانت صفة يلقب بها
الجياع الصياع المتربصون بالمارة على طرقات الحجاز لتسول القريشات.و فيه قول ابن الكلبي :إنما
قريش جّماع النسب ،ليس بأب و ل بأم و ل حاضن و ل حاضنة )ابن سعد 1/66ـ ،69نهاية الرب
.(16/20و كان قصي كما سبق ذكره يلقب في صغره عند أخواله بالقرشي .يقرن أهل الخبار بين
قصي و اسم قريش حبث يقولون أنه هو من جمع أشتات القبائل و العشائر و العصابات التي آوى إليها و
سماها قريشا.فإذا صح هذا الخبر فإنه ليس يعني أن الكلمة لم تكن موجودة من قبل ،و إنما يعني أن قصيا
هو أول من أعطاها صبغة الرسمية و الشرعية فأصبحت اسما علما عوض صفة كاريكاتورية لبدو خان
زمزم.أما التسمية فيظهر أنها غسانية ،أطلقها أهل الشام على سكنة الحجاز استهزاء منهم و استخفافا
بهم.و أهل غسان جيران يثرب من الشمال ،فهم أعلم الناس بأحوال جيرانهم ،لدى كانوا يلقبونهم بأحب
شيء إلى قلوبهم و هو القرش.
كما أن قريشا كما فصل فيه ابن الكلبي ) و لذلك ينقمون عليه( ليسوا قبيلة و ل عشيرة و ل عائلة و ل
أسرة ،بل هم فروع أنساب عديدة و صعاليك و أشتات قبائل و خلعاء مجرمون كما سبق ذكره ،كانوا
مشتتين حول خان زمزم )مكة المكرمة( ،يتربصون بالمارة ،ينهبون و يسرقون و أكثرهم يتسولون ،و
منهم مرتزقة عديدون يحاربون مقابل الجر و تسميهم السير و الخبار بذؤبان العرب و الشداد .يعرفون
باللصوصية والبخل و الشح و حب القرش و تكديس الذهب و الفضة.فالخطة اقتضت أن ينتسب قصي إلى
بيت أو كهف من كهوف هؤلء المرتزقة لتأطيرهم و التأثير المباشر فيهم و تكوين قوة ضاربة بهم .فكان
كعب بن لؤي أنسب نسب ،و كان زهرة أنسب كهف ،استقبلوه مستبشرين ،و استلحقوه بنسبهم.و كانت
العرب تأخذ بمبدأ الستلحاق في أنسابهم.فلما جمع قصي قريشا و كان أدهى من رئي من العرب قال لهم:
هل لكم أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول البيت؟؟؟فوال ل يستحل العرب قتالكم و ل يستطيعون
إخراجكم منه.و تسكنونه فتسودوا العرب أبدا.فقالوا:أنت سيدنا و رأينا تبع لرأيك ،فجمعهم ،ثم أصبح في
الحرم حول الكعبة )قريش من القبيلة إلى الدولة (38،هكذا بايع صعالكة الجبال قصيا البيعة الولى ،فتمكن
قصي من وضع أول رجل له في مكة ،و هو آنذاك ابن العشرين حجة و نيف.فقد ورد في معجم البلدان أن
قصيا أول من أصاب الملك من ولد إسماعيل ،و ذلك أيام المنذر بن النعمان على الحيرة و الملك بهرام
جور في الفرس )(5/178و بهرام جور هو بهرام الخامس الذي تولى الحكم إثر حرب أهلية دامت طوال
سّرّيةسريته ال ّ
سنة ،420تولى الحكم في آخرها بعدما قتل جميع أفراد عائلته.في هذه السنة انتقل قصي ب َ
إلى مكة .و قد ولد قصي سنة 400و عاش ثمانين سنة ،و عبد مناف ثالث أبنائه ولد سنة 430م)موسوعة
ويكيبيديا ـ قصي بن كلب ـ فرنسية(.هكذا أصبح قصي بصعاليكه ينزلون على مكة فيثيرون فيها الفوضى
و يحدثون القلقل و المشاكل ،و يستهزئون بأهلها شيبا و شبابا و ينكلون بأسيادها .فأصبحت أخباره
تتناقلها جميع اللسن.ذاك الشاب الزعر فارع الطول ،عريض المنكبين.قال علي بن برهان الدين الحلبي
في وصفه "رجل جليدا حازما بارعا" ،ذاك النبيل البيض البشرة القادم من عالم ما وراء الشمس ،تّيم
بمشاكساته و صبيانياته و جماله و صعلكته قلوب نساء قريش و بناتها .فاستمال إليه سيدتهن حبى بنت
حليل سيد خزاعة ،فتوّدد إلى أبيها الذي عرف نسبه)صعلكته( ما أفضى به إلى الذعان إلى مصاهرته.و
به تّم لقصي وضع ثاني أقدامه في مكة .و يروي المام محمد يوسف الصالحي الشامي في موسوعته سبل
الهدى و الرشاد في سيرة خير العباد ،فيما يرويه عن مسألة مال قصي فيقول رحمه ال"و كان أول مال
أصابه )قصي( مال رجل قدم مكة بأدم )جلود( كثير ،فباعه و حضرته الوفاة و ل وارث له فوهبه لقصي
و دفعه له 1/321...ـ .(325
هذه هي الصدف و إل فل!!!و هذا هو تاريخ العرب الجميل.فالتاريخ عند العرب عاقل مبدع فنان ،يحدد
أهدافه و يخلق شخصياته ثم يحدث الظروف الملئمة فيقول لها كن فتكون .أما الشخصيات في التاريخ
العربي فهي كراكيز جامدة يسيرها التاريخ بواسطة خيوط الصدف و القدار.فبالصدفة تربى قصي بالشام
وعاد منها صدفة.و بالصدفة العربية وجد قصي نفسه ابن كلب بن مرة بن كعب بن لؤي و بالصدفة
العربية و العناية اللهية سيجد قصي نفسه تزوج بنت سيد خزاعة ثم أجل أهلها عن مكة و نفاهم منها ،و
بالصدفة التي ل صدفة بعدها و ل قبلها سيجد قصي نفسه أول ملوك الحجاز...و نحن استهللنا هذا القول
بأن التاريخ ل يقوم بالصدف .و أنه ل يمتطي المجد من لم يركب الخطرا ،و ل ينال العل من قدم
الحذرا)المتنبي( .و أن قصيا لم يجد الملك على طبق من ذهب..إنما لكل شيء ثمنه و لكل حادث علته و
لكل سبب مسببه ،ما سنقف عليه سببا سببا و علة علة بغية الوقوف على أحقية قصي بلقب الصعلوك
الكبر.
بعد انتسابه إلى آل كعب بن لؤي و سطوته على مال العرابي تاجر الدم و زواجه من حبى بنت حليل
،استطاع قصي غرز كل أقدامه في رمال مكة و مّد جذوره فيها...هنا تدخل ابن هشام راويا"أنه لما استقر
أمره و كثر ماله ،هلك حليل بن حبشية ،فرأى قصي أنه أولى بالكعبة ،و بأمر مكة من خزاعة ،فكّلم
قريش و بني كنانة ،و دعاهم إلى إخراج خزاعة من مكة .و بخدعة استطاع أن يشتري من أبي غبشان
ق من الخمر و قعود ،في ليلة سامرة .قال الحافظ ابن الخزاعي..و كان شيخا خرفا..مفاتيح الكعبة مقابل ز ّ
ق من الخمر و قعود ،فكان يقال أخسر من صفقة ابن غبشان"..و كثير"فاشترى قصي ولية البيت منه بز ّ
يزيد ابن هشام بقوله":فكان قصي بن لؤي أول من أصاب ملكا من فريش و أطاع له به قومه ،فكانت إليه
الحجابة و السقاية و الرفادة و الندوة فحاز شرف مكة كلها")ابن هشام ،1/109ابن كثير ،البداية و النهاية
.(2/194و يؤكد الزرقي أنه"أول من أصاب ملكا من بني كنانة و أطاع به قومه ،فكانت إليه الحجابة و
الرفادة و السقاية و الندوة و اللواء و القيادة")" ،(1/108فكان بهذا أول من أعّز قريشا و ظهر به
فخرها،و مجدها و سناها و تقّرشها .فجمعها و أسكنها مكة و كانت قبائل متفرقة الديار ،قليلة العّز ،ذليلة
البقاع حتى جمع ال ألفتها و أكرم دارها و أعّز مثواها")اليعقوبي "(1/240ثم كان أمره في قومه كالدين
المّتبع في حياته و بعد مماته" فنظم بطون قريش ،و دّبر لهم منازل في مكة و ضواحيها ،فأسكن بغضهم
في ظواهر مكة فسموا قريش الظواهر ،و كانوا في الغالب فقراء معدمين.و أسكن بعضهم الخر في بطاح
عرف عرف القسم الول بتبديه و فقره و غزواته.و ُ مكة و سموا قريش البطاح ،و كانوا أغنياء ميسورينُ .
القسم الثاني باستقراره و غناه و اهتمامه البالغ بالتجارة")الحلبية ،1/13الشريف ،مكة و المدينة (122و
القسمان يضمان اثنتي عشرة قبيلة لم تنصهر بعضها ببعض تمام النصهار ،و لم تؤلف جماعة واحدة
ذات مصير واحد مشترك،بل بقيت تجمعا)الستاذ لمنس ،مكة(148 ،و في موطن آخر من حلبيتة
يضيف ابن سعد" و كان قصي أول من بنى المساكن في مكة و نقض الخيام و حّولها إلى بيوت ذات أعمدة
و ذات أبواب.و هو الذي أمر قريشا أن يبنوا بيوتهم داخل الحرم و حول البيت ،و قال لهم إن فعلتم ذلك
ظم شؤون المدينة و هابتكم العرب)أي البدو( و لم تستحل قتالكم" )الحلبية .(1/19فثّبت الحكم في عقبه و ن ّ
سم الوظائف على أولده ،و أوجد لمكة مكانة تجارية واسعة ،و خلق لها نوعا من الدارة .فاجتمعت إليه قّ
الرفادة و هي إطعام الحج و الزائر و تأمين إقامته ،فكان أول من فرض قرى الحجاج و زوار البيت تأليفا
للقلوب و إشهارا لمكة الجديدة و تلميعا لصورة قريش أمام القبائل الذين يكرهونهم و يتبرمون من خلعتهم
و عنجهيتهم و تحّللهم من جميع العراف و القوانين.فكانت تلك أول خطوة تعتمدها قريش للتقرب من
العراب و غيرهم ،بعد سيطرتهم غير الشرعية على مقاليد الحكم في خان زمزم.و تكون الرفادة خراجا
تخرجه قريش كل موسم من أموالها إلى قصي ليصنع به طعاما للحاج يأكله الفقراء)المصنف (4/59و
يوضح جواد علي أمر الرفادة فبقول" و قد كان قصي قال لقومه:إنكم جيران ال و أهل بيته ،و إن الحاج
ضيف ال و زوار بيته ،و هم أحق الضيف بالكرامة ،فاجعلوا لهم شرابا و طعاما أيام الحج حتى بصدروا
عنكم" )رواه الطبري ،2/259و ابن الثير ،2/10و ورد في اللسان ، 2/1814و تاج العروس 2/355
و عند الزرقي 1/61ـ المصنف (4/59
كما اجتمعت إليه الحجابة و هي الوصاية على مفاتيح البيت و الشراف على خزائنه و تسيير سدنته و
حّراسه.قالت باتريشيا كراون"لكن مكةهي المدينة التي يقيم فيها الناس بصفة دائمة و التي يوجد فيها البيت
الحرام المزود بالحّراس)".تجارة قريش .(174فالخان إذا ،كان يؤّمن فيه على التجارات و الموال التي
توضع داخله و التي غالبا ما تكون عطورا و ذهبا و فضة و أحجارا كريمة .فالتجارة إنما تتطلب الوثائق
كالعقود و الفواتير و المكاتبات و السجلت و تتطلب التفاقيات و المعاهدات و السفارات لدى البلدان،
كما أن التجارة ُتحدث العمران و التشييد و البناء فتؤثر على المظاهر الجتماعية و الثقافية.كل هذه
الشواهد تنعدم بالنسبة للتجارة المكية ،حتى ل تكاد تجد أي أثر ملموس يدل عليها ،ما يدفع إلى التساؤل
الجدي حول ماهية و حقيقة هذه التجارة المهولة التي تشير إليها المصادر العربية و نوعيتها .و تكفي
الشارة هنا إلى أن الملحة البحرية الرومانية قد بدأت خلل هذا القرن في الزدهار و أن السفن
البيزنطية أصبحت تنتشر في كل المحيطات و البحار بما فيها البحر الحمر ،فتقول باتريشيا في هذا
المضمار"إن القمح كان يشحن بالسفن و ينقل من السكندرية لروما عبر مسافة تبلغ 1250ميل في عصر
ديقلديانوس بسعر أقل من سعر نقله برا لمسافة تبلغ خمسين ميل.و تبلغ المسافة بين نجران و غزة 1250
ميل دون العروج على مكة" ،ثم تضيف باتريشيا قائلة"،لنا أن نتساءل عن أنواع البضائع التي قام أهل
مكة بالتجارة فيها؟؟ل بد أنها كانت نادرة جدا تثير الطمع فيها ،و بطبيعة الحال خفيفة الحمل و غالية
الثمن") 19قائمة جيروم فرانكان عن المسافات التي تقطعها الرحلة بالميال واليام ـ تجارة قريش ،
.(19على كل و مهما تكن حقيقة هذه التجارة و نوعيتها ،فإن الحجابة تعني السهر على حراسة هذه
التجارة و تأمين طرقها و تيسير سبلها و إضفاء الشرعية القانونية عليها .و لهذا الغرض فرض قصي
الضرائب و العشور على القوافل المارة بمكة مقابل تأمينهم و تأمين تجاراتهم و توفير السقاية و الرفادة
شر على من دخل مكة من غير قريش و بنى لهم .حدثنا المسعودي عنه ،قال:و استقام أمر قصي و ع ّ
الكعبة و رّتب قريشا على منازلها في النسب بمكة )مروج الذهب و معادن الجوهر .(2/58ثمّ بدأ في عقد
اليلفات و التي هي عبارة عن معاهدات مع شيوخ القبائل تعمل بموجبها قبائلهم على تأمين قوافل قريش
و ضمان حرية تنقلهم مقابل نصيب تأخذه القبائل من أرباح التجارة،إلى جانب العطايا و الهدايا و
الرشوات .كما تسمح لفراد القبائل بالمساهمة في التجارة التي تحملها قوافل قريش سواء بالسلع أ و في
رؤوس الموال و استخلص أرباحهم كل حسب مساهمته .و به يكون قصي قد أسس نواة أول شركة
تجارية مساهمة يسهم فيها كل سكان قريش و القبائل المنضوية تحت لواء اليلف ،بالقليل و الكثير
فتأتيهم أرباحهم حسب أسهمهم ،و سميت هذه العملية التجارية بالمضاربة".فصارت قريش بأجمعها بعده
تجارا خلطاء ،و قد أخذت عنه مآثر التجارة حتى أصبحت مكة في أيام حكمهم)قريش( ملتقى القوافل من
جميع أنحاء العالم المعروف لديهم.و سافر أبناء قصي و أحفاده)في حياته( و تاجروا مع البلدان المجاورة
و أخذوا منها العهود.فأخذ هاشم بن عبد مناف بن قصي عهدا من ملوك الروم و الغساسنة و أخذ شمس بن
عبد مناف عهدا من نجاشي الحبشة و أخذ عبد المطلب بن هاشم عهدا من ملوك حمير و اليمن ،و أخذ
نوفل بن عبد مناف بن قصي عهدا من أكاسرة الفرس) أبو موسى الحريري ،نبي الرحمة .(74وفي
معرض حديثهما عن اليلف يقول القالي في ذيل المالي و النوادر) (199و الثعالبي في ثمار القلوب)
ب ليت أن تكت َ 1/8و ما بعدها(:قال )هاشم( له )قيصر الروم( :أيها الملك:إن قومي تجار العرب ،فإن رأي َ
كتابا يؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز و ثيابه ،فتباع عندكم ،فهو أرخص
عليكم.فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم.فأقبل هشام بذلك الكتاب ،فجعل كلما مّر بحي من العرب بطريقه
إلى مكة،عقد معهم عقدا على أن تقدم قريش إليهم ما يرضيهم من بضائع و هدايا تؤلف بينهم و بين
قريش ،فكان اليلف"انتهى.و يضيف الثعالبي قائل" .وكان يأخذ اليلف )و يعني به العهد هنا( من
رؤساء القبائل و سادات العشائر لخصلتين :إحداهما أن ذؤبان العرب وصعاليك العراب وأصحاب
الغارات وطلب الطوائل كانوا ل يؤّمنون على أهل الحرم ول غيرهم ،والخصلة الخرى أن أناسًا من
العرب كانوا ل يرون للحرم حرمة ،ول للشهر الحرام قدرًا ،كبني طيء و خثعم و قضاعة ،وسائر العرب
يحجون البيت و يدينون بالحرمة له .ومعنى اليلف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من
ل مع إبله ليكفيهم مؤنة السفار ،ويكفي قريشًا مؤنة
الربح ،ويحمل لهم متاعًا مع متاعه ،ويسوق إليهم إب ً
العداء ،فكان ذلك صلحًا للفريقين ،إذ كان المقيم رابحًا ،والمسافر محفوظًا ،فأخصبت قريش)،ثمار
القلوب 115و ما بعدها( .وعليه فاليلف إذا عقد أمان تبرمه قريش مع زعماء القبائل تؤلفهم بمقتضاه
بالمال و الرباح مقابل عدم التعرض لقوافلهم و العمل على تأمينها على أراضيهم...
ل فرضه هاشم على القبائل لحماية مكة من الصعاليك ومن .إل أن الجاحظ يفسر اليلف على أنه جع ٌ
سره قوم بغير ذلك .قالوا :إن هاشما جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها المتطاولين ،إْذ قال" :وقد ف ّ
إليه ليحمي بها أصل مكة .فإن ذؤبان العرب وصعاليك الحياء وأصحاب الطوائل ،كانوا ل يؤمَنون على
الحرم ،لسيما وناس من العرب كانوا ل يرون للحرم حرمة ول للشهر الحرام قدرًا .مثل طيء و خثعم و
قضاعة وبعض بلحارث بن كعب")رسائل الجاحظ ،70،السندوبي(
وإذا صحت هذه الرواية فإنها تعني بالواضح أن وظيفة قريش كانت تنحصر في التحكم في صعاليك
الحياء و ذؤبان العرب و أصحاب الطوائل ،و أن قريشا هم الذين كانوا يسلطون الذؤبان و الصعاليك و
الخلعاء على القبائل و على تجارات تلك القبائل .و أنهم الوحيدون الذين يستطيعون كف أيديهم عنهم ،
مقابل خراج تدفعه تلك القبائل لقريش لتصرفه في تأليف أولئك الصعاليك و المحرومين و أبناء السبيل و
إجارتهم و تقديم كل التسهيلت لهم ،و من تم تجييشهم لصالح تأمين التجارات التي تمر بطرق الحجاز.و
تفسير الجاحظ هذا أكثر منطقية و ملئمة للوضاع التي أمامنا .فقصي إنما تحّكم في الصعاليك الذين كانوا
يقطعون الطرق التجارية و لم يخلق لقريش تجارة خاصة بها.بل كان الصعاليك هم العملة التي بدأ قريش
يسوقون لها ،و تأمين الطرق هي الوظيفة التي أناطها قصي بهم .فأصبحت قريش بهذه السياسة تهيمن
على طرق الحجاز بأسرها من خلل أولئك الصعاليك ،و تفرض على السلع المارة منها و القبائل
المجاورة لها الخراج و العشور مقابل تأمين الرواح و المتاع.و هذا هو الدور المطلوب القيام به من
قصي...كما يساهم هذا التفسير الموضوعي من جهة أخرى في إزاحة بعض شكوك باتريشيا كراون
الشرعية حول تجارة قريش وأنواعها و حجومها .فقريش و مكة فعل،ل يتوفران على شواهد إثبات تثبت
أنهما كانا يسيطران على التجارة العالمية ذات يوم .كما أن القالي و الثعالبي يقولن على لسان هاشم أن
تجارة قريش مع الروم كانت تقتصر على المتاجرة في الدم و هي الجلود الخالصة الغير مدبوغة و ثياب
الحجاز ،و هاتان البضاعتان ل تصلحان لتشكيل تجارة من الحجم الذي تتحدث عنه المصادر.لكن إذا قبلنا
بتفسير الجاحظ مع الخذ بعين العتبار تحفظات باتريشيا جاز لنا أن نقول بأن تجارة قريش كانت هي
تجييش المرتزقة و المحرومين و الصعاليك .و العمل على تسخيرهم في تأمين تجارة حلفاء قريش و كل
من يؤدي حق قريش .و بيع خدماتهم لكل من يؤدي عليها.و تلك لعمري كانت هي تجارة قريش الحقيقية.
أما ما عدا ذلك فكل تجارة أمنتها قريش و أخذت خراجها تنسبها إليها و تسميها تجارة قريش فتصير لتلك
التجارة صفة القانونية و الشرعية على طول الطرق التي تؤّمنها قريش.
.وهذا النوع من التجارة الذي نفترض أن قريشا كانت تمارسه ل يتطلب مع كل السف الوثائق التقليدية
التي يبحث عنها المؤرخون ،و ل الشواهد و ل العهود و ل التفاقيات .كما أنه ليس تجارة خلق و إبداع و
ضر و تبادل و تلقح و انفتاح من شأنها أن تغني الذوق في مكة و ترتقي بالنسان فيها إلى مصاف التح ّ
الرقي ،إنما هي كانت تجارة سطو و نهب و تخريب وهدم ،تجارة يمكن تصنيفها من قبيل ما ل تبقي و ل
تذر،لهذا ل تملك مكة اليوم دلئل ملموسة على أنها كانت تتربع على عرش التجارة لقرنين من الزمن.
كما أن لقريش أنشطة تجارية أخرى و من نوع آخر.فلقد كانت تقرض الموال بالربا و تجري
المرابحات ،و كانت تجمع أموالها و أموال التجار و الحجاج في الكعبة و تضع عليها الكتبة و الحراس،
حتى الصنام إنما اسُتجلبوا لُيساهموا في تأمين خان زمزم ،حيث ُتجمع الموال و تخزن الفضة و
الذهب.و مما يزيد من تأكيد هذا الطرح ما أتى على لسان الجاحظ في قوله وهو يفسر اليلف على أنه
ل فرضه هاشم على القبائل لحماية مكة،فيقول :إن هاشما جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها جع ٌ
إليه ليحمي بها أصل مكة.فما علقة رؤساء القبائل بمكة حتى يؤدوا الخراج لُتحمى به مكة و
أصولها.الجواب التقليدي يقول بأن السبب هو تواجد أصنام تلك القبائل بالكعبة و قداسة مكة و ما إلى ذلك
من التفاسير المستهلكة.و لكن إذا افترضنا أن أموال تلك القبائل كانت هي الخرى تخزن في الكعبة،
ستصبح مسألة حماية القبائل لمكة و الكعبة مسألة منطقية و مقبولة عقليا.فالقبائل كما نعرفها تترحل يوميا
إما للرعي أو للغزو.و في كلتي الحالتين يجب على رجالها التخلص مما يزيد على حاجتهم من المال و
المتاع و العتاد.و لّما كان السبي بينهم كثيرا و النهب ،فإنهم يلجأون إلى خزن أموالهم في الماكن المنة
البعيدة عن العيون.و الكعبة حرم آمن بالقوة و العراف و الصنام و هالة القداسة المحيطة به.فليس هناك
مكان على الرض أأمن منه و أكثر منه مناعة و حرمة لذلك أراهم كان يحتفظون بذهبهم و فضتهم
بالكعبة مقابل أجر يؤدونه لقريش،وقد يضاربون بها قريشا في تجاراتهم.و عليه فإن مناعة و قداسة الكعبة
قد استمدتها من هذه الوظيفة الخطيرة التي كانت تقوم بها وظيفة خزن الموال و ترويجها..
ومما تجدر الشارة إليه هنا هو أن هاشما بن عبد مناف ،هذا الذي تكثر من ذكره السير و الخبار في
شأن اليلف ،لم يعش بعد موت جده قصي بن كلب إل 19عاما ،و أنه قد توفى سنة 497و هذا يعني
أن هاشما قد عايش جده ردحا من الزمان ما يؤكد أن اليلفات التي عقدها كانت بأمر من قصي وفي
حياته .و أن هاشما إنما كان سفيرا لجده.و هذا ما سنقف عليه في مكانه.
إلى هنا و ل زالت السير و الخبار تتستر على علقة قصي بأهل غسان.فتصور لنا المر كما لو أنه كانت
هناك قطيعة بينه و بين غسان في الشمال.و لكن الواقع يقول أن التصال بين قصي و الغساسنة لم ينقطع
طوال هذه المدة.بل لقد كانت التقارير ُترفع يوميا إلى غسان و المراسلت تتم أول بأول:فكان الغساسنة
يتتبعون ما يجري يوميا بمكة و يعّدون له العدد و يهيئون المدادات.فلول تموين الغساسنة و تمويلهم ما
كان لمشاريع قصي أن ترى النور أو تتحقق.
ت قصي إلى البيت الذي اشترى مفاتيحه بزق ففي إطار تعزيز سلطته السياسة الفتية و تثبيتها التف ّ
خمر،ابتغاء السيطرة على الوظيفة الدينية التي كانت بيد بني صوفة.فكان اعتناؤة البليغ بشعيرة الحج و
هيمنته عليها يدخل في باب استغلل الدين في تدعيم و نشر التماسك بين قبائل العرب ،باعتبار أن الحج
هو الشعيرة الوحيد التي ُتجمع عليها جميع قبائل العرب و تتوحد فيها دياناتهم ،بخلف الصنام التي ترمز
إلى التعددية و استقللية القبائل و تحررها..كما كان اعتناؤه بشعيرة الحج يدخل ،من جهة أخرى ،في باب
توظيف الجانب الديني الروحي و السحري في فرض سلطته الفردية و تكريسها .و لجل بلوغ هذا المرام
النبيل قام قصي بن كلب بأول انقلب عسكري في تاريخ العرب.جمع له أول صعاليكه من الشعاب و
الودية و الجبال و اعترض بهم بني صوفة و غلبهم على ما بأيديهم من أمور الحج.يقول جواد
علي"وترجع بعض الروايات نزاع خزاعة مع قصي إلى عامل آخر غير ولية البيت ،فتذكر إن خزاعة
ل" أوصى بذلك قصيًا ،وبقيت على كانت قد سلمت لقصي بحقه في ولية البيت ،وأنها زعمت أن "حلي ً
ولئها له ،إلى إن اختلف "قصي" مع "صوفة" .وكانت "صوفة" وهي من "جرهم" تتولى أمر الجازة
عَرَفة .فتجيزهم إذا نفروا من "منى" تولت ذلك من عهد جرهم وخزاعة .فلما كان قصي ،أتاهم بالناس من َ
مع قومه من قريش وكنانة و قضاعة عند العقبة ،فقالوا :نحن أولى بهذا منكم ،فناكروه ،فناكرهم ،فقاتلوه،
ل شديدًا ،ثم انهزمت صوفة ،وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك ،وحال بينهم فاقتتل الناس قتا ً
وبينه ،فانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي بن كلب ،وعرفوا انه سيمنعهم كما منع صوفة،
فوقع من ثم ما وقع على نحو ما مّر")المصنف (4/43
والذي وقع حقيقة هو أن قصيا أبرق إلى عملئه الغساسنة و أعلمهم أن اللحظة الحرجة في الخطة قد
حانت ،وأن الدقيقة الصفر قد وصلت ،فاستنفروا كتيبة من المرتزقة المدججين بالعدة و العتاد و المدربين
أحسن التدريب تحت قيادة المدعو رزاح بن ربيعة أخي قصي ،و بعثوا بها على الفور.أما بنو خزاعة و
بنو بكر لما استفاقوا من خداع قصي لهم ،و ذلك على هول ما أصاب بني صوفة،انحازوا عن قصي و
حاولوا لّم صفوفهم و استنفار أنصارهم ،و لكن يعد أن فات الوان.فلقد كانوا في ثقتهم العمياء بقصي أغفل
من ابن غبشان.فما أن صحوا من غفلتهم حتى وصل الدعم و المدد و العدة و الرجال لقصي ،فخاضوا
حربا غير متكافئة لم يكونوا في مستواها و ما كانوا لها مستعدين.فكانت الهزيمة النكراء حليفهم و التنكيل
و التهجير مصيرهم
.يقول المام محمد بن يوسف الصالحي على لسان الرشاطي في موسوعته :فبادر قصي و استصرخ أخاه
رزاح بن ربيعة فحضر هو و إخوته ...فخرجت خزاعة و بنو بكر فالتقوا و اقتتلوا اقتتال شديدا.ثم إنهم
تداعوا إلى الصلح و أن يحّكموا رجل من العرب ،فحّكموا يعمر بن عوف بن كعب ،المعروف
بالشداخ.فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالكعبة و أمر مكة من خزاعة.و أن كل دم أصابته قريش من خزاعة
موضوع يشدخ تحت قدميه .و أن ما أصابته خزاعة و بنو بكر من قريش و كنانة ففيه الّدية.فوّدوا
خمسمائة و عشرين دية و ثلثين جريحا و أن تخلي بين قصي و بين البيت )سبل الهدى و الرشاد
1/325ـ ، 332قريش بين القبيلة و الدولة 32ـ .(40
هكذا فرض قصي نفسه ملكا على مكة و رئيسا و زعيما ،فاقتطعها أرباعا على أنصاره" يذكر الخباريون
ك مجّمعا، ي لذل ُسم ّ
أن" قصيًا بعد أن تمت له الغلبة ،جمع قومه من الشعاب والودية والجبال إلى مكة ،ف ُ
وانه حكم منذ ذلك الحين فيهم ،وملك عليهم .فكان قصي أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكًا ،وأطاعه قومه
به ،وأنه قسم مكة أرباعًا بين قومه ،فبنوا المساكن ،وأن قريشًا هابت قطع شجر الحرم في منازلهم،
فقطعها قصي بيده ،وأعانوه )"...الطبري 2/257وما بعدها ،ابن الثير ،الكامل 2/13و ما بعدها ،ابن
هشام ،السيرة 2/124و ما بعدها ـ المصنف ..(4/45ثم أمر بالكعبة فهدمها و جّدد بناءها بما يناسب
أهداف الحكم الجديد و التوسع التجاري المرتقب،فتتفق جميع الموارد السلمية من سير و أخبار على" أن
قصيا هو أول من بنى الكعبة بعد بناء تبع لها ،و كان سمكها قصيرا فنقضه و رفعها .و إذا صحت
الرواية ،يكون قصي من بناة الكعبة و من مجدديها "..و ُذكر أنه أول من جّدد الكعبة من قريش ،و أنه
سّقفها بخشب الّدوم و جريد النخل.و قد أشير إلى هذا البناء في شعر ينسب إلى العشى..و هذه الرواية
تناقض بالطبع ما يرويه الخباريون من أن الكعبة لم تكن مسقفة ،و أنها سقفت لول مرة عندما جدد
بناؤها في أيام شباب رسول ال و هو يومئذ ابن خمس و ثلثين سنة") الحكام السلطانية ، 160الطبري
(2/283و يضيف جواد علي"و في رواية أن قصيا أول من أظهر الحجر السود و كانت إياد دفنته في
جبال مكة)الطبري 2/283ـ المصنف 53 /4ـ (54
هكذا تمكن قصي من خان زمزم ،قلب الصحراء ،أم القرى ،كهف القطاع و قبلة الصعاليك و الخلعاء و
طلب الطوائل.فابتنى لنفسه دارا قرب الكعبة و بدأ يصرف منها أمور دولته الصغيرة ،فسماها دار
الندوة".فكانت قريش ل تعقد أمرا إل في داره ،كما ل تنكح امرأة و ل رجل إل في داره ،و ل يتشاورون
في أمر ينزل بهم إل في داره ،و ل يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إل في داره ،و يعقدها لهم بعض
ولده ،و ل تّدّرع جارية إذا بلغت إن تّدّرع من قريش إل في داره ،يشقّ عليها درعها ثم تدرعه ثم ُينطلق
بها إلى أهلها .فكان أمره في قومه من قريش في حياته و بعد موته كالدين المتبع ل يعمل بغيره تيمنا
بأمره و معرفة بفضله و شرفه.و اتخذ قصي لنفسه دار الندوة و جعل بابها إلى مسجد الكعبة ،ففيها كانت
قريش تقضي أمورها ") الطبري 2/257و ما بعدها،الكامل 2/13و ما بعدها ـ المفصل (45؛ وفيها
كانت تحسب رعاياها و تتتبع أخبارهم فردا فردا من مهودهم إلى لحودهم ،فكانت دار الندوة أول مركز
مخابرات في دولة مكة الناشئة .و أظن أن الفكرة اصطحبها معه قصي من كنائس الشام .و دار الندوة هي
من جهة ثانية دار مشورة في أمور السلم و الحرب ،عرفت على أنها" مجلس المدينة التي عرف رؤساؤها
كيف يحصلون على الثروة و كيف يستعيضون عن فقر أرضهم بتجارة تدّر عليهم أرباحا عظيمة ،و
بخدمة يقدمونها إلى عابدي الصنام جاءت إليهم بأموال وافرة من الحجيج.في هذه الدار يجتمع الرؤساء و
أعيان البلد للتشاور في المور و البت فيها ..و في هذه الدار أيضا تجري عقود الزواج و تعقد
المعاملت.فهي دار مشورة و دار حكومة في آن واحد ،يديرها المل العلى و هم مثل أعضاء مجلس
شيو خ أثينا الذين يجتمعون في المجلس).الحكام السلطانية ،162نزهة الجليس (1/24و الذين يمثلون
زعماء السر و رؤساء الحياء و أصحاب الرأي و المشورة )واط ص ،9أوليري ص ".(183و في
رواية أنه كان ل يدخلها إل ابن الربعين أو ما زاد")الشتقاق (97
و لم يبق لقصي لن يكون دولة على النمط الحديث إل إنشاء القوة العسكرية ،و نحن نعلم أن قصي لم
يستول على الحكم إل بالقوة و السلح و أن جيشه كان يتكون من فرسان العرب ،الصعاليك و الخلعاء إلى
جانب فرسان الغساسنة المدججين بالسلح و العتاد.لهذا فرض قصي على أنصاره و أتباعه من المستفيدين
خراجا تخرجه قريش مرتين في السنة من أموالها يطعم منه الحاج و المعتمر و يصرف ما تبقى منه على
الصعاليك و الجياع و المجرمين المستجيرين بالكعبة و الخلعاء و الخلطاء و الحابيش الذين سيشكلون
النواة الولى لقوة نظامية في مكة.قال أبو عبيدة :و لما ولي قصي أمر مكة قال :يا معشر قريش إنكم
جيران ال و جيران بيته و أهل حرمه .و أن الحجاج زوار بيت ال ،فهم أضياف ال و أحق الضياف
بالكرامة.فترافدوا و اجعلوا لهم طعاما و شرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم ،و لو كان مالي يسع ذلك
قمت به.ففرض عليهم خراجا تخرجه قريش مرتين من أموالها ،فتدفعه إليه ،فيصنع به طعاما و شرابا و
لبنا و غير ذلك للحاج بمكة و عرفة)قريش من القبيلة إلى المدينة 32/40سبل الهدى و الرشاد
(321/325
تلكم كانت قراءتنا لشخصية قصي أول حاكم و زعيم في قريش.قراءة توخينا فيها البراءة و الصدق و عدم
المحاباة.فقصي لدينا مرتزق بعثه الغساسنة تحت طلب قيصر بيزنطة ،ليقيم بتهامة و الحجاز حكما تابعا
لهم يؤمن تجارتهم البرية و البحرية و يحمي حدودهم و تخومهم.فآزروه على ذلك و أمدوه بالموال و
العدة و العتاد و الرجال الشداء.يقول رزاح أخو قصي و هو يصف حملته على مكة لمؤازرة قصي:
ولما أتى من قصي رسول * فقال الرسول أجيبوا الخليل
نهضنا إليه نقود الجياد * ونطرح عنا الملول الثقيل
جمعنا من السر من اشمذين * ومن كل حي جمعنا قبيل
فلما انتهينا إلى مكة * أبحنا الرجال قبيل قبيل
نعاورهم ثم حد السيوف * وفي كل أوب خلسنا العقول
نخّبزهم بصلب النسور * خبز القوي العزيز الذليل
قتلنا خزاعة في دارها * وَبكرا قتلنا وجيل فجيل
نفيناهم من بلد المليك * كما ل يحلون أرضا سهول
فأصبح سيبهم في الحديد * ومن كل حي شفينا الغليل
)خبر قصي بن كلب و ارتجاعه ولية البيت..البداية و النهاية ـ الجزء الثاني(
فهذا الشعر يبين لنا إلى أي مدى كان يعمر الشداخ حكيما في قضائه بين قصي و خزاعة.فما كان حكمه
لصالح قصي ،و هو المتطاول على الحكم و المسيطر على حقوق الغير ،بالحكم العتباطي الغير العادل،
بقدر ما كان حكما متعقل رزينا يبغي الخير لخزاعة التي كادت تفنى عن آخرها.فحكم الشداخ دليل على أن
الفريقين لم يكونا متكافئين و على أن جنود قصي كانوا منظمين و مسلحين بما ل قبل للشداخ و ل لخزاعة
به.و أن خزاعة كانت أمام جيش قصي ضئيلة الحجم هزيلة القوة منعدمة العتاد .فل سلح تملكه و ل
جيشا منظما تقوده و ل فرسان تفخر بهم .و مع ذلك فقد استطاعت خزاعة أن تقتل من هذا الجيش العتيد
المعتدي خمسمائة و عشرين فارسا وتجرح منهم ثلثين .فقدمت فديتهم حقنا للدماء و نزول عند حكم
الشداخ.فآل حكم مكة إلى قصي الذي كّلف أبناءه في حياته بوظائف الزعامة من رفادة و حجابة و سقاية و
لواء و ندوة.فبعثهم سفراء إلى القبائل لبعقدوا اتفاقيات اليلف التي ستؤمن الطرق التجارية باسم قريش و
لصالح قريش .فكان قصي أول حاكم عسكري و ديكتاتور عربي يصعد سدة الحكم في مكة بواسطة تمرد
شعبي و انقلب عسكري مؤلف من المرتزقة و الجياع و اللصوص و الصعاليك ،و يقيم بهم نواة مشروع
لمبراطورية إثنية دينية في تلك المنطقة الصحراوية ،القليلة السكان ،والمنعزلة عن العالم.
و أظن أن قراءتنا هذه أعدل في حق الرجل و حق مآثره و محاسنه .فأهل السير و الخبار إنما يصفون
الرجل بالصعلوك العاق الذي تنكر لجميل من رّبوه و آووه ،فنبذهم و خلع نفسه منهم ،تماما كما فعل
موسى مع فرعون .،فقصي حسب السير و عند أهل الخبار ناكر جميل متمرد شرير آوى إلى الخلعاء و
المطرودين و أصحاب الطوائل في جبال تهامة ،فتزعم فيهم و نشرهم في طرقات الحجاز من الطائف إلى
يثرب للسيطرة عليها ،ثم سلطهم على خزاعة الذين صاهروه و آثروه على أنفسهم ،فأفنوهم عن بكرة
أبيهم ،واحتلوا مكانهم .و استحلوا حرم البيت فتجاسروا على بيئته و شجره ،فخبروا بيئته و قطعوا شجره
و أقاموا فيه لهم الغرف و المنازل ،و نكحوا فيه قرب الكعبة بعدما كان محرما عليهم.فقصي إذا ثائر
متمرد في بلد غير بلده ،قلب الوضاع بمكة و أقام نظام البروليتاريا والعبيد والجياع و اللصوص.
و قبل أن نطوي ورقة فصي أرى أنه من اللزم الدلء بملحظتين مفصليتين في هذا الموضوع.أما
أولهما فتتعلق باسم قصي الذي ل يرد في المصادر العربية إل مرة واحدة في التاريخ.فل قصي تجده قيل
قصي بن كلب و ل قصي بعده..أما جواد علي فروي في هذا الصدد أن هذا السم لم يرد في نصوص
المسند)بمعنى أنه ليس يمنيا( و إنما ورد في النصوص النبطية .و هذا السم هو اسم صنم في الصل بدليل
ورود اسم عبد قصي.ثم يستطرد مضيفا"و يلحظ أن السم الذي زعم الخباريون أنه اسم قصي الصلي
الذي سمي به يوم ولد بمكة و هو زيد فقد نص أهل الخبار على أن زيدا هو صنم من أصنام
العرب)الشتقاق 13ـ المصنف .(4/57و ثاني الملحظات هي سكوت أهل الخبار عن ديانة المدعو
قصي.و إنما اكتفوا بذكر دفنه في الحجون مدفن الحنفاء من آل قريش حيث قبر عبد المطلب جد النبي .إل
أن هناك أمرين يفرضان الشك في أمر حنفية قصي أولهما أن قصيا تزوج مرة واحدة في حياته ،و كانت
زوجته الوحيدة و أم أولده هي حبى بنت حليل ،بعكس الحنفاء الذين يعتمدون نظام التعدد في الزواج سيرا
على هدي أبيهم الكبر الصعلوك العظم إبراهيم السطورة عليه السلم.و ثانيهما أن قصيا قد أوصى
لبنه البكر عبد الدار بن قصي قبل وفاته بكل مقاليد الزعامة و الحكم ،بعدما كانت وظائفها موزعة على
أبنائه و أحفاده.و هذا كذلك ليس دأب الحناف الذين يوزعون الرث على أصحاب الحقوق .و إنما ذاك
دأب النصارى و أتباع المسيح..
الثابت إذن من كل ما أوردناه سابقا ،أن مكة حسب الروايات و الخبار كانت عشية وفاة قصي تعيش تحت
رحمة قوتين عسكريتين تتحكمان في مصيرها ،أما إحداهما فقوة شبه منظمة أو نظامية سميت على
استحياء بالحابيش ،وأما الثانية فهي قوة عسكرية منفلتة عن التنظيم و القوانين ،مشكلة من عصابات و
مرتزقة تنتشر في كل مكان من شبه جزيرة العرب و مركزها مكة و تسمى بالصعاليك .و الثابت في شأن
الحابيش أنهم حسب السير و أهل الخبار قوة عسكرية قوامها الحباش و بعض القبائل العربية المهجنة
نتيجة التواجد الحبشي القديم بتهامة ،و الذي يعود إلى القرن الثالث الميلدي.و أن عبد الدار إما أن يكون
قد قبل الخضوع لهذه القوات و سيطرتها على الحجاز بل قيد و ل شرط و بدون مناقشة و ل مقاومة ،و
ذلك امتثال لوامر قيصر الروم الذي طلب إلى النجاشي أن يدخل قريشا أرضه ،إذا أخذنا بعين العتبار
رواية ابن سعد الواردة أعله)الطبقات ـذكر هاشم بن عبد مناف ج ،(2و إما أن عبد الدار و أخاه عبد
مناف أنشآ هذه القوات نتيجة تردي الوضاع المنية و حاجة مكة الماسة إلى المن و المان في ظل
تنامي تواجد و تعاظم قوة الصعاليك غير المرغوب فيها .و الثابت تاريخيا أن قريشا لما أصبح لها الملك و
تحرشت بالمم احترمت الحبشة و وقرت جانبها ،لما لها من فضل في استقبال المهاجرين الولين حسب
السير و الخبار .و بالرغم من ذلك فقد هاجم عمر بن الخطاب ميناء أدوليس و كانت الهزيمة من نصيب
قريش .إل أن الملحظ هو أن قريشا لم تثأر للهزيمة و لم ُتعد الكرة مرة ثانية و لم تفعل بالحبشة ما فعلته
بسائر بلدان أفريقية التي دخلت إليها ،مما يعزز النطباع على أنه كانت هناك بين الثنين ،في الماضي
الذي نتحدث عنه ،علقات خاصة متميزة ،أقل ما يقال عنها أن السير و الخبار قد نجحت نجاحا في
التستر عليها و تمويهها.
و الثابت كذلك من ثنايا هذه السير أن هذه القوات كانت نذير شؤم على بني عبد الدار الذين رغم بقاء
وظائف الزعامة فيهم بالتعاقب لغاية مجيء السلم و بعده ،فإن ذكرهم سيتوارى في الخبار و تطردهم
السير من سجلت الشرفاء و الخيار .فعبد الدار السياسي المحنك،برفضه احتواء الصعاليك و محاولته
التخلص من نفوذهم و تبنيه فكرة التوفر على قوات نظامية في البلد ،يكون قد تنكر لفضل أولئك
المرتزقة على مكة و على أمن طرقها و مسالكها ،و نقض ما بينهم و بين قريش ،في شخص هاشم ،من
العهود و اليمان و اليلف.فاليلف ،كما مر بنا ذكره ،تورد الخبار أنه تأليف للقبائل مقابل حق المرور
في أراضيها ،و يكون بجعل تعطى للقبيلة و أرباح و هدايا تقدم لها.إل أن نفس الخبار تفيد من جهة أخرى
أن هذا الضرب من العهود كان معروفا في الجزيرة ساري المفعول فيها".فكل قبيلة كانت تستقضي جعل
من كل من يمر بحماها و أرضها.حتى كسرى نفسه عندما كان يبعث بتجارة داخل الجزيرة كان يدفع جعل
لكل قبيلة تمر هذه التجارة بأرضها ،برغم أنها كانت محروسة ب"أساورة" كسرى ،أي جنوده الشداء .و
عندما كان يتقاعس كسرى لسبب أو لخر عن دفع الجعالة لي قبيلة تمّر بها قافلة ،كانت القبيلة تعتدي
عليها .و قد حدث أن قافلة لكسرى مرت بأرض قبيلة تميم لم تدفع الجعالة المعهودة ،قام بنو تميم بنهبها ،
و أسر جنودها.بل إنهم أسروا هوذة بن علي و كان ملكا على قبيلة بني حنيفة ،و لم يفكوا أسره إل بعد أن
دفع دية مضاعفة")محمد أحمد جاد المولى بك و آخرون ـ أيام العرب في الجاهلية ـ ص .(2أما الجديد في
إيلف هاشم بن عبد مناف فهو تأليف الخلعاء و الصعاليك المنتشرين على طرق القوافل ،و ذلك بإيوائهم
في مكة و حمايتهم و فرض حق معلوم لهم في أموال أهل قريش و حلفائهم ,و إشراكهم و استعمالهم في
التجارة ،مقابل تأمين الطرق من القطاع و المنافسين و الدود عن حمى الديار.
فمبدأ اليلف و المان الذي تفرط الخبار في الكلم عنه و تستفيض ،إنما قصد به احتواء الصعاليك و
التحكم فيهم ،و تأطير عصاباتهم المنفلتة عن الحراسة و القانون ،و تسخيرها في سبيل مصالح قريش .ففي
حين كانت القبائل العربية أجمعها تخلع مجرميها و تتبرأ منهم كتابة و في السواق ،فإن قريش كانت
تؤويهم و تحميهم و تجيرهم و تمنحهم الحصانة أينما مروا يكونون آمنين .و في هذا الباب يعلق العلمة
جود علي قائل :بل نجد أهل مكة يجيرون كل غريب حتى إذا كان صعلوكا أو خليعا أو مستهترا بالعرف
و الخلق أو قاتل غادرا أمل في الستفادة منهم و في عدم التحرش برجالهم إن خرجوا متاجرين يحملون
أموالهم لبيعها في السواق البعيدة و لستخدامهم في حمايتهم ممن قد يتحرش بهم من العداء العراب ،و
نجد في كتب الخبار أسماء عدد من أمثال هؤلء كانوا قد لجأوا إلى مكة و أقاموا بها و استقروا و عاشوا
بها مجاورين لسادتها آمنين على حياتهم لنهم في جوار سيد من قريش)المصنف .(7/289فيتبين لنا من
خلل تعليقه هذا أن أعداء قريش الحقيقيين هم العراب البدو أي القبائل العربية المنتشرة في الصحراء
الذين يتحرشون برجالهم و الذين تفترض الروايات أن اليلفات عقدت معهم! فإذا كان الحال كذلك ،فما
حاجة قريش بإيواء الصعاليك إذا؟ و التودد إليهم؟.كما يفيد التعليق بأن هذه الفئة كانت تشكل جزءا هاما
من النسيج الجتماعي لمكة،لن عددا منهم أقاموا بها و استقروا و عاشوا بها فأصبحوا بذلك جزءا ل
يتجزأ من ساكنتها.كما أن أولئك البدو العراب الذين يصفهم التعليق بأعداء قريش هم في نفس الوقت
أعداء دول الشمال من غساسنة ومناذرة و روم و ساسان ،أو قل بالحرى ،هم أعداء الروم قبل أن يكونوا
أعداء لغيرهم.فمن يا ترى سيكون بحاجة إلى إيلف هؤلء القبائل من أجل تأمين تجارته؟ أ قريش أم
الروم؟؟ثم من جهة أخرى ما هي هذه التجارة المكية التي تستحق كل هذه العهود و الحبال و العصم التي
سميت إيلفا؟؟تلك أسئلة من ضمن جملة من السئلة المشروعة التي سوف نتناولها على طول هذا البحث
الذي نتوخى منها استقراء الظروف الموضوعية لنشأة ما يسمى بالسلم.لكن قبل ذلك دعونا نقف و لو
وقفة موجزة على هندسة القبيلة العربية الجتماعية ،عموما؛ لنتبين ملمحها العامة و نستوضح هيكلتها
الساسية فمن خلل الغربلة الدقيقة للخبار يتبين أنها تتفق جميعها على تقديم القبيلة العربية على أنها
وحدة اجتماعية تجمعها أهداف اقتصادية و سياسية أكثر منها عرقية أو دموية ،و يرتبط أفرادها بعلقات
تنظمها العراف العربية السائدة.و تنقسم في بنيتها إلى طبقتين رئيسيتين :طبقة الفقراء و هم أغلب أفرادها
كانوا يعيشون عيشة الكفاف قانعين به أحيانا و ساخطين عليه أحيانا)عبد الجواد الطيب ـهذيل في جاهليتها
و إسلمها ـ ص ،(119و طبقة الغنياء الذين يمتلكون قطعان البل و الشياه وعلى درجة كبيرة من الغنى
و اليسار.و من بينهم فئة يسمون "السادة" يمتازون بتحمل المسؤوليات في إصلح ذوات البين بين أفراد و
عشائر و بطون و أفخاذ القبيلة ذاتها ،أو بين قبيلة و أخرى ،و قد يتحملون التزامات مادية مثل دفع ديات
القتلى .و بجانب هاتين الطبقتين كانت توجد فئة تسمى بالموالي ،و تسميهم قواميس اللغة"الزعانف" و
يطلق على الواحد "الزنيم" و"التنواط" و هو الذي يناط بالقوم أو يلصق بهم و ليس منهم ) اللغوي عيسى
بن إبراهيم الحميري ،نظام الغريب في اللغة ص (87و هم في غالبيتهم عرب التجأوا إلى قبائل غير
ن عليهم بفك السر قبائلهم الصلية كي تسبغ عليهم حمايتها ،أو من أسرى غزوات القبائل فيما بينهاُ ،م ّ
ن عليهم سادتهم فتحولوا إلى موالي.و قد يكونون من العاجم الرقاء ،افتدوا أنفسهم من ناتج أعمالهم أو م ّ
بالعتق نظير خدمات أدوها لمن يملكهم أو للقبيلة كلها ،كإظهار شجاعة في إحدى الغزوات أو مهارة في
أحد العمال .و هم أقل مرتبة من أبناء القبيلة الخلص الصرحاء و لو وجد بينهم نوع من التوارث.و في
مقابل الموالي تأتي فئة الخلعاء ثم العبيد الذين هم دون الخلعاء .و يتكون العبيد أو الرقيق من أسرى
الغارات و الحروب أو بالجلب من الخارج كالحبشة أو بالشراء من سوق النخاسة ،و كانوا يقومون بأشق
العمال و أحقرها .فكانوا بذلك "في هذه الفترة يشكلون قوة منتجة ل استهلكية فقط...إلى جانب كونهم
كانوا يشكلون حينئذ إحدى السلع الشائعة و الرابحة")حسين مروة ـ النزعات المادية في الفلسفة العربية
السلمية ـ .(1/200فعبد ال ابن جدعان كان من كبار النخاسين..و كان ل يتورع من تشغيل الماء في
الزنا و يحصل على أجورهن من ذلك كما أنه كان يبيع أولدهن من الزنا )برهان الدين دلو ،جزيرة
العرب قبل السلم ..(1/168،أما الخلعاء فهم الشخاص الذين تلفظهم قبائلهم و تتبرأ منهم و من فعالهم.
و قد يتم ذلك كتابة أو بموجب إعلن يذاع عادة في السواق العامة ،و هم في أغلبهم" شبان فقراء أمثال
عروة بن الورد و تأبط شرا و السليك بن السلكة و الشنفرى.و يسمون أيضا ذؤبان العرب جمع ذئب ،لنهم
كانوا مشهورين بسرعة العدو ،و لكن مع فقرهم كانوا نبلء و من نبلهم أنهم كانوا ل يهجمون إل على
الشحاء البخلء من الغنياء .و كانوا يسمون بالعدائين لنهم كانوا مشهورين بسرعة العدو في السلب و
النهب )أحمد أمين ـ الصعلكة و الفتوة في السلم ص .(88و يجمع أهل الخبار على أن الصعلكة كانت
نتاجا طبيعيا للتراكمات المختلة في مجتمع شبه الجزيرة و َترّكز الثروة في أيدي طبقة محدودة من الناس ،
و في هذا الطرح يؤيدهم أحمد أمين إذ يبين في نفس الصفحة من نفس المصدر أعله ،أن " الحالة
الجتماعية في جزيرة العرب قد أنتجت هذه الصعلكة لن أكثرهم فقراء ل يجدون ما يأكلون ،و إذا
حصلوا على شيء من تجارة أو نحوها ،فشيخ القبيلة هو الذي يأخذ من الغنيمة حصة السد و هم ل
يأكلون إل الفتات..".انتهى "..فكانت النتيجة الطبيعية لهذا كله أن فّر الصعاليك من مجتمعهم النظامي
ليقيموا بأنفسهم مجتمعا فوضويا شريعته القوة و وسيلته الغزو و الغارة و هدفه النهب و السلب )د .
يوسف خليف ـ الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ـ ص .(55فعلى سبيل المثال ،في قبيلة هذيل "
فأغلب الفراد في هذه القبيلة كانوا من الدهماء يعيشون عيشة الكفاف قانعين أحيانا سخاطين عليه أحيانا
أخرى و بعضهم أو كثير منهم ،كان يعد من الصعاليك و الذؤبان مثل "العلم" و "صخر الغى" و "أبي
جندب" و غيرهم .و مع ذلك كان الخلعاء من هذيل أقل من غيرهم ") هذيل في جاهليتها و إسلمها ـ
د.عبد الجواد الطيب ص .(119و من خلل كل هذه القراءات نتلمس مبلغ ما يكنه أهل السير و
الخباريون من تعاطف اتجاه هذه الطبقة من المجرمين القحاح و من تنويه بفعالهم و تبرير لنذالتهم و
خستهم ،فهم يعني " الصعاليك أو الخلعاء أو الذؤبان امتازوا على فئة الموالي و طبقة العبيد بالشهامة ) و
ما معنى الشهامة غير حمل السلح ؟؟( و المروءة )يا سلم و هل من مروءة في الغدر و القتل و السلب و
السبي و النهب؟؟ هذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول المعايير الخلقية التي يقيس عليها هؤلء الخباريون
أحكامهم الخلقية ؟؟؟(.إذ أنهم ما كانوا يستأثرون لنفسهم يما كانوا ينهبونه من الغنياء البخلء) و ما
هي المقاييس التي كانوا يتخذونها في الحكم عليهم بالبخل من غيره؟؟(.بل كانوا يعطونه طواعية و
اختيارا) لنهم لم يشقوا فيه و لم يتعبوا عليه بل كان رزقا ساقه ال إليهم ( للفقراء و المعدمين الذين حكم
عليهم المجتمع القبلي بالعوز و الفاقة و الحرمان)سؤال يطرح نفسه بإلحاح هنا هو إذا ما كان المجتمع
القبلي يشكومن كل هذه السلبيات و النقائص فلماذا بقي صامدا لحد الن؟؟؟؟(.و يتوج منذر الجابوري
تهليله بالصعاليك معلنا أنهم امتازوا بنظرات إنسانية متقدمة إذ كانوا يعمدون إلى تلك المآتي لغاثة
المعوزين )أيام العرب و أثرها في الشعر الجاهلي ،منذر الجابوري،ص (16
نلك هي البنية الرئيسية و الهندسة الجتماعية للقبيلة العربية عموما و لقريش خصوصا ،كما ترسمها لنا
السير و الخبار .و يتبين من خللها أن المادة الرئيسية التي تتشكل منها التركيبة الجتماعية للقبائل
العربية هي طبقة الفقراء الطويلة العريضة المتذمرة و الساخطة ،و التي تمتد لتشمل العبيد و الموالي و
الصعاليك و الخلعاء و الطرداء و المحرومين و أبناء السبيل.و هؤلء للتذكير هم الذين جمعهم قصي أول
أمره ،و أجهز بهم على بني خزاعة و كنانة و بكر ،ثم أدخلهم الحرم و اقتطع لهم الرباع و أسكنهم
البطح و سّماهم قريشا و وعدهم بالسيادة على كل العرب .و ها هو ذا عبد الدار يتجاسر عليهم و
يتجاوزهم و يستن القواعد و القوانين ليضيق عليهم و يحد من نفوذهم و ينال من مكانتهم السياسية و
الجتماعية في البنية المختلة التي تعرضها علينا السير و الخبار.
أما هاشم بن عبد مناف فيقدمه لنا ابن الكلبي على أنه هو صاحب اليلف و منظمه و الساهر على تنفيذ
بنوده .و هو السفير بين قصي و أهل الشام الذين كانت تعنيهم الوضاع المنية بالحجاز إما لسبب التجار
أو لحماية الحدود .فهاشم كان هو المتعهد لهم بالمن و الضامن عندهم للمان .إذ ل يعقل أن تكون تجارة
البخور و الجلود و السمن و الزبيب و الحمير الحجازية بحاجة إلى أمان من قيصر الروم أي إلى معاهدة
على أعلى مستوى حسب مصطلحاتنا المعاصرة تسمح لها بأن تدخل أسواق الروم .أما إذا كانت هناك
فعل من تجارة فعلية بين بيزنطة و مكة ،فإن التجار الروم هم الولى بأخذ المان في هذه الحال و
تجارتهم أولى بالتأمين و الحراسة.لنهم مقدمون على أرض تحكمها قواعد الغدر و السطو و شريعة
الخلء ،أسيادها الذؤبان و رجالها العداءون..و الروم من جهة أخرى ليسوا في حاجة اقتصادية لتجارة
مكة إذ ليس لقريش من مواد حيوية تحتاجها الروم الشرقية في حياتها اليومية أو حركتها القتصادية.و لكن
بالعكس ،فأهل مكة و ورش مكة هم من يحتاج منتجات بيزنطة المختلفة و المتنوعة و رؤوس الموال
الرومية.فإذا كان هناك من شيء اسمه المان فالحرى أن يكون قد أعطي للروم و أهل الشام و ليس
العكس كما توحي لنا به السير .و أمان )معاهدة يعني( بهذا الحجم المهول و بهذه الهمية الخطيرة ،كما
يصور الخباريون ،لو أن البيزنطيين أخذوه من أي جهة أو أعطوه إليها لكانوا كتبوه و أشهروه و ذكروه
في مقالتهم و أخبارهم ،و الحال أن هذا المان ل تجد له أثرا في كتابات الغريق و الرومان التي على
العكس ،تحدثت بإسهاب عن عرب اليمن السعيد الذين قاموا بمّدهم بالطيوب في العصور السالفة ،وقدمت
لنا وصفا عن مدنهم و قبائلهم و نظمهم السياسية و قوافلهم التجارية .كما كتبوا عن الحبشة و أدوليس في
القرن السادس،لما كانت الوضاع السياسية و القتصادية في الجزيرة العربية تجذب انتباههم ،و مع ذلك
لم يرد أي ذكر لقريش و ل لنشاطها التجاري الخطير و ل لمان قيصر لهاشم ل عند الغريق و اللتين و
ل عند السوريين و الراميين و القباط و كل الكتابات التي تم تأليفها خارج بلد العرب قبل الفتوحات.
فهاشم هو من أعطى المان لهل الشام ،لنه بكل بساطة هو المتحكم في قراصنة الصحراء و قطاع
الطرق و النائب عنهم و المتحدث باسمهم ،بموجب اليلفات التي عقدها معهم.فلو أن هذه العهود أبرمت
مع شيوخ القبائل البدوية العدوة كما يوحي تعليق العلمة جواد علي ،فإن سؤال هنا يطرح نفسه ،وهو:
ما موقع الغساسنة من اليلف؟ فالسير تخطت الغساسنة و أخرجتهم من مسرح الخبار ،و حصرت
اليلف في قريش و القبائل العدوة ،أما الغساسنة الدولة التجارية التي تملك أرض الشام متجر قريش و
تمتد حدودها الجنوبية لغاية يثرب فغيبت ذكرها السير و مسحت اسمها الخبار حتى لتكاد ل تجد للغساسنة
ذكرا منذ قصي إلى غاية خيانات الفتوحات التي سنتحدث عنها بإسهاب في حينها و كأن ما يحدث بين
الروم و أهل قريش ل يهم بني غسان !!! و الواقع أن الغساسنة قوم تجار و صناع و مزارعون مهرة
تشهد لهم الثار و كتابات الغريق و الرومان و معاملتهم التجارية مع القوام في مصر و بيزنطة و
أرض ما بين النهرين .و الدهى و المر أنهم كانوا يتاجرون فيما يتاجرون في الزبيب و الجلود المدبوغة
و العطور و البخور ،نفس البضائع التي تدعي قريش المتاجرة فيها!!! فأ ليس من غير المعقول أل
يتخوف الغساسنة من أي توسع تجاري لغيرهم على حسابهم؟؟؟ فالمصادر السلمية ل تحدثنا عن أي رد
فعل للغساسنة اتجاه الجتياح التجاري المكي المزعوم لرضهم و التضييق على تجارتهم .كما أن كتب
الغريق و اللتين ل تحدثنا عن أي مضايقة أو منافسة خضعت لها تجارة بني غسان.فما موقع الغساسنة
من اليلف و المان؟و إذا ما افترضنا أن هذه المعاهدات إنما تمت مع الغساسنة بين قريش وملوك الشام
وليس قياصرة الروم ،باعتبار أنه ل يوجد لدينا أي دليل مادي يؤكد لنا أن العرب و خصوصا قريشا و
بالخص هاشما بن عبد مناف قد وصلوا إلى أنقرة أو القسطنطينية ،فيبقى السؤال المشكلة هو هل يعقل أن
تبرم غسان معاهدات لستيراد نفس المنتوجات التي تنتجها داخليا بوفرة و تسهر على تصديرها لكل
البلدان؟؟ و إذا ما حصل و عقد مثل هذا المان أ لن يكون له تأثير سلبي على الحركية القتصادية الداخلية
في غسان خصوصا و أن السير تخبرنا عن أمواج متلطمة من قوافل الزبيب و السمن و الطيوب التي
تتدفق على الشام من مكة...؟
لندع أمر التجارة قليل ،و التساؤلت المشروعة المنبثقة عنها فإننا سنفرد لذلك بابا خاصا به .و لنعد الن
لهاشم و بني عبد الدار لنقول بأن إيلفات هاشم قد تمت كلها في حياة قصي.ذلك أن هاشما الذي يرجح
النسابون و الخباريون أنه عاش ما بين عشرين و خمس و عشرين سنة )البلذري ـ أنساب ـ (1/63تثبت
الخبار أنه توفي بعد جده قصي بسبع عشرة سنة ،و بالضبط سنة سبع و تسعين و أربعمائة للميلد.فإذا
حذفنا سبع عشرة سنة من خمسة و عشرين التي يرجح أن هاشما عاشها فستبقى لدينا ثمان سنوات .فهل
يعقل أن يكون قصي قد أرسل لقيصر الروم طفل سفيرا عمره ثمان سنين ليعقد معه معاهدات المان؟ثم
قصة زواجه من سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجية التي أخرجها ابن سعد في طبقاته هل حدثت في هذا
العهد هي الخرى؟ و هل يعقل أن ينجز فتى توفي في ريعان شبابه كل تلك المآثر و العمال التي تنسبها
السير إلى هاشم؟؟.و من جهة أخرى نجد السير تؤكد على أن عبد المطلب بن هاشم قد عاش مائة و ثمان
سنين ،و أنه توفي لما بلغ الرسول ثمانية أعوام.فإذا كانت السير تتفق على أن الرسول قد ازداد عام الفيل
الموافق لسنة 570م ،فإن عبد المطلب سيكون قد توفي سنة 578م .و عليه فإذا حذفنا من تاريخ وفاته
هذا ،تلك المائة و الثمانية سنين التي عاشها فإننا سنحصل على تاريخ ميلده الذي ل تسعفنا به السير و
الذي سيكون هو سنة 470م.و عليه فسيكون الفارق بين تاريخ ازدياد عبد المطلب البن و تاريخ وفاة
هاشم الب هو 29سنة ،بينما السير تقول أن هاشما لم يعش إل خمسا و عشرين سنة على أبعد تقدير.فهل
هذا يعني أن عبد المطلب قد ازداد قبل أبيه بأربعة سنين؟؟؟؟ .لقد عاش هاشم أكثر من خمس و عشرين
سنة أبرم التفاقات في عهد أبيه و بمجرد وفاة قصي و وصايته بمقاليد الزعامة لعبد الدار و إقدام عبد
الدار على مسألة الحابيش ثار هاشم و إخوته بنو عبد مناف في وجه عبد الدار و " أجمعوا على أن
يأخذوا ما بأيديهم من الحجابة و اللواء و الرفادة و السقاية و الندوة و رأوا أنهم أحق به منهم لشرفهم عليهم
و فضلهم في قومهم )طبقات ابن سعد الجزء الثاني ذكر هاشم بن عبد مناف( فكان حلف المطيبين مع
هاشم و لعقة الدم مع عبد الدار .و لما كادت الحرب أن تنشب "تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد
مناف الرفادة و السقاية )نفس المصدر السابق و نفس الصفحة( .فالظاهر مما أخرجه ابن سعد عن ابن
الكلبي و عن عبد ال بن نوفل بن الحارث و غيرهما أن هاشما كان يطمع في الرفادة و السقاية أكثر من
أي وظيفة أخرى من وظائف الزعامة .و السبب في ذلك هو اتصالها المباشر باليلف مع الصعاليك.تقول
السير بأن الرفادة هي إطعام الحاج و المعتمر لغاية رحيله عن مكة .و نحن نسأل أي حاج هذا الذي يحتاج
إلى كل هذا الطعام الذي يهيأ بمكة حسب الخبار؟؟فالحاج يفترض فيه أنه قادم إلى مكة قصد التبرك و
التصدق و الستبضاع من أسواق مكة ،و كل هذه المور تتطلب من الحاج أن يكون معه مال لينفق منه
على نفسه و على سفره.كما أننا من جهة أخرى نعلم أن أهل قريشا كانوا يفرضون على الزائر حقا يدعونه
حق قريش و من جملة ما كانوا يأخذونه من الغريب القادم إليهم ثيابه أو بعض بذنته التي ينحر)الشتقاق
172ـ المصنف (2/21فمن هم الحجاج الذين كانت تطعمهم مكة على حسابها إذن؟؟؟ ثم من جهة أخرى
إذا كان أهل مكة ينفقون على الحجاج سنويا كل هذه الموال التي تجمع باسم الرفادة لنهم معدمون و
فقراء محرومون فما الجدوى إذا من موسم الحج و ما الجدوى من مثل هؤلء الزوار و ما الجدوى من
السكن بمكة إذا؟؟؟ ثم من جهة أخرى مع من كان يتاجر هؤلء المكيون أيام موسم الحج؟ و بمن كانت
تعمر أسواق عكاظ و مجنة و ذي المجاز؟؟؟.فمن جهة تعلمك السير أن السواق تزدهر في موسم الحج و
من جهة أخرى تقدم لك أفواج الفقراء و المعدمين متجهة لتأكل السخينة في مكة.و ذاك ديدن المصادر
العربية في كل وقت و حين .أما الحجاج ،فكما هو حالهم اليوم كانوا يحملون أموالهم و زادهم و أقواتهم
التي يتصدقون منها على متسولي القروش ناكري الجميل .و ما كانوا أبدا بحاجة لسخينة و ل عصيد
قريش.إنما الرفادة كانت حقا معلوما للصعاليك و الخلعاء في أموال قريش
يدعي لصوص التجارة أن مكة ورثت تجارة اليمن التي كانت تمر منها قوافلها نحو الشام لما انهارت دول
اليمن السعيد .و هذه المقولة ،لوحدها ،تتضمن اعترافا صريحا بالنصب و التربص و التبييت و السطو
على ما هو للخرين.فكيف ترث قريش حضارة قوم و أبناؤهم أحياء يبصرون؟ أ لم يكن لليمنيين ورثة
شرعيون ،حتى ترثهم قريش؟؟؟ إن المتمعن في تاريخ اليمن القديم ،يخرج منه بانطباع يرى فيه اليمن
جزيرة يحيط بها من الجنوب ،المحيط الهادي الذي يصطلح عليه بالبحر الريثيري ،و من الشرق و
الغرب البحران الحمر و الفارسي و يحيط به من شماله محيط الجوع و الخوف و الجفاف و القحط و
الرمل و الصخور .و يجد أن أهل اليمن قوم متفتحون على البحار الثلثة أكثر من تفتحهم على أهوال
الصحاري و الفيافي و الرمال.فقد كان أهل اليمن و الثيوبيون و أهل الهند يتداولون السيادة على شمال
غرب المحيط الهندي و البحر الحمر ،اللذين من خللهما كانوا على صلة وطيدة بالعالمين الشرقي و
الغربي .فاليمنيون اتصلوا بالهنود و الصين و بالروم و الغريق و بأهل فارس حتى من قبل أن تعرفهم
مكة .و هذا ما سنفيض فيه في هذه الحلقة.فنبدأ بالتساؤل حول ماهية هذه التجارة اليمنية التي استولى عليها
لصوص مكة؟ لتقودنا المصادر الدبية الثانوية و البحوث السلمية إلى شهرة أهل العربية الجنوبية في
إنتاج و تصدير الطيوب و التوابل و الذهب و الفضة .و أما الذهب و الفضة فتلك منتجات لم تتوفر في
اليمن إل إثر التدخل الفارسي فيه ،و هو ما سنقف عليه فيما بعد.و أما التوابل فكان أهل اليمن يتوفرون
على بعض منها عن طريق المقايضة.و أما الطيوب فتلك منتوجات يمنية اشتهرت بها اليمنمنذ فجر
التاريخ .هذه الشهرة استغلها الخباريون و البحاث المسلمون و كثير من المستشرقين ابتداء من لمينز و
اتخذوها ،إلى جانب قصة اليلف ،أساسا لبناء نظرية تربع مكة على عرش التجارة العالمية .فيقولون بأن
لتجارة الطيوب في العصور القديمة أثر كبير على تجارة مكة ذلك أن سبب قيام هذه يرجع في الساس إلى
انهيار تجارة الطيوب ومن جهة أخرى إلى التدخل الجنبي فيها .أما الطيوب المعنية بالذكر فهي كل المواد
التي تنبعث منها رائحة طيبة عند حرقها كالعطور والمراهم و المواد المعطرة ذات المذاق المستساغ التي
تستخدم في الطعام و الشراب و المواد التي تجدد الشباب و تطيل العمر نظرا لهميتها الطبية و السحرية ،
و كان منها أيضا المواد المضادة للسموم)(1
و يعد اللبان الحر و المّر النوعين الساسين في البخور العربي .و أما الول فهو لبانة حمضية زيتية
يمكن استحلبها .و منها عدة أنواع تستخرج من العائلة النباتية التي تسمى بوْرسيراكاي .و يتم جنيه عن
طريق عمل شقوق في اللحاء .و تعّد كل من بلد العرب الجنوبية و سقطرة و شرق إفريقيا و الهند هي
الموطن الصلي .و هناك نوعان من هذا القسم من النبات يعّدان من أنواعه الصلية التي تنتج اللبان الذكر
الصلي الذي كانت له أهمية كبيرة في العالم القديم و هذان النوعان هما
) B.Carteri (2و B.Sacra
و موطنهما الصلي العربية الجنوبية و شرق إفريقيا .و لقد رغب المصريون و اليهود و الغريق و
الرومان و الفرس في هذا النوع بل و طمع فيه الهنود و الصينيون أيضا .و كان يتم حرق اللبان في المعابد
تمجيدا لللهة ،و في الطقوس الجنائزية و في المنازل و الغراض الطبية و تركيب العطور في بعض
الحايين .و أما المر فهو لبان صمغي زيتي يمكن استحلبه .منه المسمى كوميفورا و المسمى
بلسامودندرون.
و ينتمي إلى العائلة النباتية التي ينتمي إليها اللبان الذكر.و شجرة المر الشائعة هي تلك التي تسمى
كوميفورا ،والتي كانت أكثر انتشارا من أشجار اللبان الذكر ،والتي وجدت بكثرة في الصومال ،و منه
أنواع في الهند يستخرج منها الصمغ النباتي بديليوم
وكانت أول إشارة للمر و اللبان وردت في التاريخ القديم ،هي ما ذكر عن قيام المصريين القدامى من
استيراده من بلد بونت على الجانب الفريقي والمعروفة بإنتاج العاج و البنوس و الزراف و الكواخ
المقامة من سيقان النباتات الجافة(3) .
ثم تسكت المصادر اللتينية و الغريقية عن ذكره ،إلى أن تتفق مع المصادر السلمية ،و بالخصوص
الحديثة منها ،على الشارات إليه الواردة في التوراة .حيث نجد في العهد القديم عدة إشارات إلى الطيوب
عند ذكر مملكة سبأ ،تختار منها المصادر السلمية بضع آيات كأنهن أم التوراة ،فتستهلكهن في مسألة
الستدلل على غنى جنوب العربية و ثرواتها المتنوعة التي فازت باحتكارها مكة في القرن السادس .و
من هذه اليات ما أورده العلمة جواد علي في مصنفه إذ يقول :وفي "المزامير" أن "شبا" ستعطي
"الذهب" لملك العبرانيين في جملة الشعوب التي ستخضع له ،تقدم له الجزية ) .(4وورد في "أرميا" أن
"شبا" كانت ترسل "اللبان" إلى إسرائيل ) .(5وقد ذكروا في سفر "حزقيال" في جملة كبار التجار .كانوا
يتاجرون بأفخر أنواع الطيب وبكل حجر كريم وبالذهب ) .(6وأشير في "أيوب" إلى قوافل "شبا" التي
كانت تسير نحو الشمال حتى تبلغ إسرائيل ).((7
و يعلق جواد علي بأن في هذه الشارات دللة على الصلت المستمرة التي كانت بين العبرانيين و
السبئيين ،وعلى أن السبئيين كانوا هم الذين يذهبون إلى العبرانيين ،يحملون إليهم الذهب و الحجار
الكريمة والطيب واللبان .فتبيع قوافلهم ما عندها في أسواق فلسطين ،ثم تعود حاملة ما تحتاج إليه من
حاصلت بلد الشام ومصر وفلسطين ) .(8ثم يستطرد قائل :ويظهر من سفر "يوئيل" إن السبئيين كانوا
يشترون السبي من فلسطين ،من "بني يهوذا" ،حيث جاء فيه تهديد لهل صور وصيدا بأن رب إسرائيل
سينتقم منهم جزاء اعتدائهم على السرائيليين ونهبهم ذهبهم وفضتهم .وسيجعلهم عبيدًا يباعون في
السواق إلى السبئيين" :وأبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا تبيعونهم للسبئيين ،لمة بعيدة ،لن الرب قد
تكلم" .مما يدل على أنهم كانوا من المشترين للرقيق ،ينقلونه إلى بلدهم للستفادة منهم في مختلف نواحي
الحياة ،يتخذون النساء الجميلت زوجات لهم ،ويتخذون البشعات والقويات للخدمة ،و يعهدون للرجال
بالعمال المختلفة التي تحتاج إلى ذكاء ومهارة وفن و إتقان ،وبأعمال أخرى صناعية وزراعية ،وأمثال
ذلك).(9
و عليه فمن خلل القراءة السريعة لهذه اليات يلحظ القارئ ورود عبارات مثل )شبا" كانت ترسل
اللبان( و) يحملون إليهم الذهب و الحجار الكريمة والطيب واللبان( أو )كانوا يتاجرون بأفخر أنواع
الطيب وبكل حجر كريم وبالذهب( و كذلك )إن السبئيين كانوا يشترون السبي من فلسطين( ،مما يفيد أن
الذهب كان هو المادة الساسية في تجارة و ثروة السبئيين الذين يفترض أنهم من اليمن.وتتبعه في المرتبة
الطيوب و اللبان و الحجار الكريمة .كما يفيد أن السبئيين كانوا يستوردون في المقابل الرقيق .و أول ما
يتبادر إلى الذهان فهو ما حاجة السبئيين اليمنيين إلى الرقيق و هم الذين يسكنون الحبشة و يستعمرونها؟؟
كما أن العرب يعرف عنهم استعبادهم بعضهم البعض من خلل سنة الغزو ،ما يجعلهم في غنى عن
استقدام الرقيق من مكان آخر.و إن حدث و ُوجد عندهم عبيد من غير العرب فهؤلء هم الذين يستغلون في
النخاسة .فما حاجة السبئيين إلى رقيق الشام إذا؟ كما أنه من جهة أخرى لم تذكر المصادر الدبية و ل
الثرية أي شيء يدل على تجارة سبأ في العبيد ،إنما كانت شهرة السبئيين محصورة في الطيوب بكل
أنواعها .أما الذهب و الفضة فتتفق المصادر السلمية و الكلسيكية من إغريقية و لتينية على أن معادن
الذهب و الفضة لم تشتهر بها اليمن إل بعد التدخل الفارسي فيها إثر قيام الثيوبيين بغزوها للمرة الثانية
عام 525م.آنذاك عثر الفارسيون على منجم الرضراض الشهير الذي يذكر الهمداني أنه "يوجد في إقليم
حمدان و أنه كان يقوم بإدارته من أطلق عليهم فرس المنجم ،و هم الذين قدموا إليه في العصر الجاهلي و
ظلوا موجودين هناك حتى القرن التاسع") .(10و في كتابه الصفة نجده يسمي الجيل الثاني من فرس
المنجم بالبناء ،فيقول:
"وكان يعمل في معدن الرضراض في اليمن عدد من البناء وهم من أصول فارسية" )، (11و يضيف في
نفس المصدر " أما الجاليات الجنبية التي شكلت قوة العمل الخرى بجانب الرقيق فتتمثل في البناء ,وهم
أفراد الجالية الفارسية في بلد اليمن ,الذين كانوا بالساس يمثلون بقايا الجنود الفرس .وهم أرسلوا على
دفعتين إلى هذه البلد من أجل محاربة الحباش.و تركز البناء في ما بعد حول معدن الرضراض عاملين
ومستثمرين ,وهو أهم معادن الفضة في اليمن .و يؤكد الهمداني أن أهله كانوا كلهم من الفرس .ولكثرتهم
وهيمنتهم على المعدن سموا بفرس المعدن".(12) .و في الجوهرتين يشيد بوجود عدة مناجم للذهب في
اليمن و جودة معدنها ) .(13أما ما يوردونه من أن الملك سليمان قد عثر على الذهب في منطقة عسير
فذلك خيال نحن الن في صدد تبديده شيئا فشيئا .و عليه فالذهب و الفضة و الحجار الكريمة لم تشتهر بها
اليمن في العصور القديمة إل في هذه اليات البينات التي يختارها جواد علي و من سار على هديه .و مما
يثير النتباه هو عدم إشارته ل من بعيد و ل من قريب إلى ما ورد في سورة النمل من الية 20إلى الية
44من أمر ملكة سبأ و الملك سليمان و قصة الهدهد و القرية و العرش .فهذه القصة رغم قصرها و
اختزالها ،فهي تحفل بعدة معطيات في غاية الهمية من ضمنها الطيوب و الموال .وبالضافة إليهما فهي
تفيدنا في تحديد تاريخ شبا الواردة في العهد القديم و ذلك في شخص الملك سليمان الذي نعرف أنه قد حكم
حوالي 900قبل الميلد .كما أن أسطورة الهدهد الواردة فيها تفيد أن قوم سبأ المعنيون بالذكر كانوا
يعبدون الشمس و كانت تحكمهم امرأة .و هذان أمران ل ينطبقان على أهل اليمن .إذ لم يثبت في أي تاريخ
أن عرب الجنوب كانوا يتخذون النساء ملكات و ل حتى في الحبشة ،و إنما هم عرب الشمال من نجد في
تاريخ دولهم ملكات مثل زنوبيا و غيرها.كما أن جميع المصادر تتفق على أن الشمس لم تكن تعبد في
العربية الجنوبية ،إنما كان أهل سبأ اليمنيون يعبدون القمر ويسمونه الله مقة .كما أنه لم يثبت في قائمة
ملوك سبأ اليمنيون اسم امرأة إطلقا .ثم نضيف أن ما قالته الملكة في القرآن بأن الملوك إذا دخلوا قرية
أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها ل يفيد أن الملكة تتحدث عن مملكة سبأ العظمى المعروفة بالحروب و
الملحم و الغزوات و النتصارات ،إنما هي تتحدث عن قرية أي دويلة مغمورة صغيرة ل شأن لها .و
عليه فإذا افترضنا صحة ما ورد في العهد القديم و القرآن من أمر سبأ فإننا سنكون أمام معضلة من هم
هؤلء السبأ الذين يعبدون الشمس و تحكمهم امرأة؟ فل نجد علجا لهذه المشكلة إل بافتراض أن سبأ
الواردة في العهد القديم و المصادر الشورية و الكلسيكية ثم القرآن ،ليست سبأ اليمن إنما هي مستعمرة
أو دويلة في العربية الشمالية ،يكون موقعها الفتراضي قرب مملكة سليمان المفترضة .و تنتج الذهب و
الفضة و تغزو ممالك بني إسرائيل و تسبي أبناءهم و عليها امرأة و تعبد الشمس من دون القمر.
و هذا ما ذهب إليه فيلبي و أشار إليه في كتابه ملكة شبا ،الفقرة ، 1و هذا ما توصل إليه فيما بعد إيرفين
و أشار إليه في كتاب العرب و الثيوبيين الصفحة 29كما عززه جروم و ناقشه دون الرتباط برأي
إيرفين في مؤلفه الطيوب )فرانكنسانس ،الفقرة .(3و ما يثبت هذا العتقاد أكثر و يرسخه هو تواجد
الفضة و الذهب في العربية الشمالية و كذلك الطيوب التي كانت أنواع منها تنمو بهذه المنطقة .و يظهر أن
جواد علي قد تحاشى جميع هذه المناقشات الجادة بعدم إشارته إلى قصة ملكة سبأ و اعتمد بدل عنها ما
ورد في الكتاب المقدس علما أنه من المؤمنين بتحريفه ،و بمصداقية القرآن المطلقة.
و لوضع حل لهذا الشكال فقد افترض المؤرخون أن هؤلء السبئيين كانوا يمثلون مستعمرة تجارية
أصلها من الجنوب و ذلك في ضوء ظهورهم كقوم محاربين في المصادر الشورية و كمغيرين على
قطيع يعقوب كما ورد في العهد القديم)(14
و أنهم ما لبثوا أن توسعوا شمال فأقاموا لهم المستوطنات التجارية على طول الطريق من العربية الجنوبية
إلى فلسطين .و هذا ما ل تدعمه المصادر الثرية التي تشير إلى أعداد هائلة من النقوش السبئية على طول
أرض اليمن وعرضها و في بعض مناطق العربية الشمالية و مصر و حتى في بعض الجزر القريبة من
اليونان ،و ل تشير إلى أي أثر للسبئيين يذكر في المنطقة الشاسعة الفاصلة بين العربية الشمالية و اليمن
السعيد .و بما أن سبأ هذه التي نتحدث عنها قد وجدت في القرن العاشر قبل الميلد زمن نبي ال سليمان
فما الداعي إلى افتراض أنهم قد قدموا إلى جوار مملكة سليمان من الجنوب حيث الخصب و الثروات
الخالية و الزدهار التجاري و قلة البشر و وفرة فرص الكسب و العمل؟.أما الهجرة إلى الشمال فلم تثبت
في حق اليمنيين إل بعد مسألة انهيار السد و سقوط مأرب،و الغزو الروماني والثيوبي ثم الفارسي لها!!.
فإذا عكسنا الفرضية هذه و أخذنا بعين العتبار أن طيوب اليمن ل يرجع تاريخ ظهورها إلى أبعد من
القرن السابع قبل الميلد فإنه يحق لنا أ ،نقترض أن قوم سبأ جيران سليمان كانوا يسكنون العربية الشمالية
في أول أمرهم ،و لما اكتظت بهم الرض ،و شحت المصادر ،و كثرت الحروب من حولهم ،و انتهى
سَكِنِهْم َآَيٌة
سَبٍإ ِفي َم ْ
ن ِل َ
إليهم ما انتهى من خبر جنان اليمن و سواحله و فرص العيش المغرية فيهَ )،لَقْد َكا َ
غُفوٌر ) ،(15فارتحلوا إليه ب َشُكُروا َلُه َبْلَدةٌ طَّيَبٌة َوَر ّ
ق َرّبُكْم َوا ْ
ن ِرْز ِ
ل ُكُلوا ِم ْ
شَما ٍ
ن َو ِ
ن َيِمي ٍ
عْ
ن َ
جّنَتا ِ
َ
حاملين معهم مهاراتهم و تقنياتهم و سكنوه و استغلوا إمكانياته القتصادية و الزراعية فاكتشفوا بخوره
الذي اشتهروا به و اشتهرت به اليمن معهم منذئذ.
و على أية حال فباب البحث في مسألة سبأ الواردة في العهد القديم و القرآن ل زال لم يوصد بعد و أن
النقاش فيه ل زال محتدما و لم يحسم فيه لغاية الن .و آخر ما ورد في هذا الباب هو ما تتداوله الصحف
اللكترونية مؤخرا عن قيام أحد الباحثين السعوديين ،و يدعى بالدكتور أحمد عويدي العبادي بالعلن في
إحدى محاضراته في شهر مايوه الخير عن أن سبأ التي وردت في القرآن ليست هي سبأ الجنوب
المشهورة في اليمن و إنما هي دومة الجندل ،مستشهدا بقربها من موقع سيدنا سليمان بعكس ما كانت عليه
سبأ اليمن البعيدة كثيرا عن موقع الحدث .وأكد العبادي أن هذه المملكة القائمة في دومة الجندل كانت
تتمتع بنظام حكم ديموقراطي قائم على مجلس شورى أو نواب أو مستشارين كما هو حال تسميتهم اليوم
في الحكومات والدول ،مستشهدا على ذلك بكلمة " المل " التي وردت بالقرآن الكريم على لسان الملكة
بعد أن جاءها كتاب سيدنا سليمان .كما أكد العبادي على أن مملكة دومة الجندل كان دورها بين الممالك
العربية عامة ،حيث كانت تعد نقطة استقطاب لقبائل شرق جزيرة العرب ،وقبائل الرافدين ومركزا
إستراتيجيا للتجارة العربية المتبادلة بين الشعوب في الممالك العربية وبلد الشام ،حيث كانت تحط بها
وقتها القوافل وتنطلق منها .وتابع العبادي :ان الملك العربي جندب الذي انضم إلى حلف مع الراميين كان
في دومة الجندل ،ذاكرا أن هذا الملك أول من أشار إلى العرب في نص من النصوص التاريخية(16).
أما بخور الجنوب الذي تدعي مكة الستيلء على طرقه فيبدو أن التجارة فيه ابتدأت مع القرن السابع و
ليس قبله كما تذهب إليه المصادر السلمية .فالمصادر الشورية تذكر الطيوب من بين البضائع التي
كان يقّدمها حكام العرب ضريبة لملوك آشور في القرنين الثامن و السابع قبل الميلد ،فهذا "تغلتبليزر"
ل ونوقًا ولبانًا وبخورًا من
ل :جما ًالثالث مثل" يذكر أنه أخذ الجزبة من السبئيين،أخذها ذهبًا وفضة وإب ً
جميع النواع ،كما ذكر "سرجون" أنه أخذ الجزية من "يثع أمر" ملك سبأ ،أخذها ذهبًا وخيل وجما ً
ل
ومن مصنوعات الجبال . (17) .و قد ذكر البخور في إحدى الوصفات الطبية التي تؤرخ بأواخر العصر
الشوري في فترة ليست بالطويلة قبل الفتح الفارسي ) .(18و كثيرا ما ورد المر و لكن ليس في صيغة
الضرائب التي يدفعها العرب للشوريين و إنما في إطار استعمالته المتنوعة كاستخدام بذوره مع مواد
أخرى في الدباغة .و يبدو من خلل الهدية التي قدمها توسهارتا الميتاني أن زيت المر الذي عرفه
الشوريون كان من منتجات العربية الجنوبية.
و هذا نفس ما تذهب إليه المصادر الدبية الكلسيكية حيث نجد اللبان و المر يعرفان باسمهميهما الساميين
في المناطق البعيدة مثل اليونان حوالي القرن السادس ق.م حيث يرد ذكرهما في أشعار صافو) .(19و يرد
كذلك لدى الشاعر الغريقي بيندال حوالي 490ق.م و عند ميلنيبيديس حوالي 450ق.م و لدى المؤرخ
هيرودوت بطبيعة الحال حوالي عام 450ق.م )(20
و نفس الشيء يذكر بالنسبة للمصادر الثرية التي ل تفيد في أكثر من أن تعزز نفس الطرح.فقد عثر على
أختام طينية عربية في بيثيل ،و هو معبد يقع على بعد 10كبلومترات من القدس .و مع كل السف فإنها ل
تدل بالتأكيد على وجود هذه التجارة في القرن 9ق.م ،و ذلك لوجود من يرى أن هذه الختام وصلت إلى
بيثيل في العصر الحديث ،و أنها من جهة أخرى غير مؤرخة(21).
إل أن جيم و بيك أشارا إلى أن العثور على هذين الخاتمين قد تم خارج أسوار المدينة ،أو أكثر تحديدا في
تلك النقاض التي يرجع تاريخها إلى الفترة الممتدة من عصر الحديد إلى العصر البيزنطي.و علبه فهما
يؤرخان للختام بالقرن التاسع قبل الميلد على أساس أنه ل بد أن تكون لها ارتباط بتجارة الطيوب ،التي
ترتبط من جانب آخر مع المعبد بيثيل و الذي كان موجودا في الفترة ما بين 922و ، 722و هذا تخمين ل
يلبث أن يتداعى بمجرد استحضار حقيقة أن اليهود لم يكن لديهم شعائر لستخدام البخور في تلك المرحلة
و إنما يتفق دارسو العهد القديم على أن الطقوس اليهودية ل يعود تاريخها إلى أبعد من القرن السابع ق.م .
كما عثر كذلك على قطع خزفية تعود إلى العربية الجنوبية في العقبة و هي عبارة عن بقايا آنية فخارية
كبيرة مهشمة عليها حرفان من الكتابة الجنوبية أرخها ريكمان بالقرن الثامن قبل الميلد على أساس تاريخ
علم تاريخ طبقات الرض ،و تّم قبول تاريخ النقش و صنف على أنه نقش معيني ) .(22ثم قرر ريكمان
بعد ذلك إرجاع تاريخ النقش إلى القرن السادس قبل الميلد .و هناك قطعة أخرى من الفخار يبدو أنها
أيضا معينية لنفس المؤلف و تؤرخ بالقرن السابع أو السادس للميلد)(23
كما عثر على حامل ذي قوائم ثلثة في العراق يؤرخ بدوره إلى القرن السادس أو الرابع قبل الميلد)(24
و ينطبق الشيء نفسه على البقايا الخرى التي عثر عليها و التي يرجع ارتباطها بالتجارة بين بلد العرب
الجنوبية و بين بلد ما بين النهرين و الشام.و لهذا يمكننا القول بأنه ل يوجد في مصادرنا التاريخية ما
يثبت وجود تجارة البخور في المنطقة الشاسعة بين جنوب جزيرة العرب و شمالها.في الجزء المقيل
سنبحث عن طرق تجارة اليمن التي تدعي المصادر السلمية أنها تمر من مكة و أن قريشا سيطرت
عليها.و إلى ذلك الخين ها هو أبو قثم يحييكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ