Vous êtes sur la page 1sur 48

‫ككككك كككككككك‬

‫نظام الصعلكة و مبادئه العليا ‪1‬‬

‫الصعلكة هي الخروج على العراف و التمرد على الهل و الحيّ و المجتمع ‪ ،‬و تلك لعمري مرحلة يجتازها‬
‫كل يافع شاب مراهق ‪.‬و الصعلوك من تمرد على الخلق و العراف و حقد على المجتمع لسبب من‬
‫السباب و عادى الهل و القارب و اتخذ لنفسه النحراف سلوكا و الشذوذ عن القواعد طريقا ‪ ،‬فأضحى‬
‫عاقا يتبرأ منه الهل و العشيرة و ينبذه المجتمع‪.‬‬
‫على أن الصعلوك هذا يمكن ثنيه و إعادة تأهيله و تقويم سلوكه ليصير فردا مندمجا في مجتمعه و أهله‬
‫لكن في مجتمع متفكك منعزل فقير مثل مجتمع الجزيرة العربية قلما كان يعالج الصعلوك من صعلكته ‪ ،‬بل‬
‫كان المجتمع يفرخ من الصعاليك ما ل قدرة له على استيعابه‪.‬مما جعل أعداد الصعاليك تتزايد و أوضاعهم‬
‫تتفاقم و أنواعهم تتناسل‪.‬فأصبحوا يتجمعون بمعازل لهم مبتعدين عن التجمعات البشرية‪ .‬يمارسون كل‬
‫أنواع الجرام و اللصوصية و البغي بغية الحصول على لقمة العيش‪ .‬فكثرت تجمعاتهم و كبرت أحياؤهم ‪،‬و‬
‫أصبحت لهم صولة و سمعة و مصالح و حرمات‪ ،‬و أضحى منهم المسيرون و المنظمون و الرؤساء و‬
‫المناء و الفوارس و الشجعان و الشعراء و الدباء و الرؤساء‪.‬و هؤلء كلهم من المستفيدين من الصعلكة‬
‫و القائمين عليها ‪ ،‬ليسوا بالضرورة كلهم من فئة اجتماعية واحدة ‪ ،‬بل منهم أبناء الملوك كامرئ القيس‬
‫ومنهم العبيد كالسليك و تأبط شرا و عنثرة فارس العرب و منهم الفقراء الذين تشبثوا بحياة الصعلكة و أبوا‬
‫المحيد عنها مثل عروة بن الورد العبسي معاصر عنثرة‪.‬فهؤل ء ل أسميهم بالصعاليك إنما هم متصعلكون‬
‫احترفوا الصعلكة فصاروا لها أبطال‪.‬‬
‫و في كتابه «العصر الجاهلي» يحدد الدكتور شوقي ضيف معنى الصعلوك لغة بأنه الفقير الذي ل يملك المال‬
‫الذي يساعده على العيش وتحمل أعباء الحياة‪,‬و كذلك لسان العرب و القاموس المحيط ‪.‬ثم يؤكد أن هذه‬
‫اللفظة تجاوزت دللتها اللغوية و أخذت معاني أخرى كقطاع الطرق الذين يقومون بعمليات السلب و‬
‫النهب‪ ....‬و يمكن تقسيم الصعاليك إلى فئات ثلث‪:‬‬
‫فئة الخلعاء الشداد و هم الذين خلعتهم قبائلهم بسبب أعمالهم التي ل تتوافق مع أعراف القبائل التي ينتمون‬
‫إليها مثل حاجز الزدي‪ ,‬و قيس الحدادية ‪.‬‬
‫و فئة أبناء الحبشيات السود ممن نبذهم آباءهم و لم يلحقوهم بأنسابهم مثل السليك بن السلكة ‪,‬وتأبط‬
‫شرًا ‪,‬والشنفرى‬
‫و فئة احترفت الصعلكة احترافًا وحولتها إلى ما يفوق الفروسية من خلل العمال اليجابية التي كانوا‬
‫يقومون بها مثل عروة بن الورد سيد الصعاليك و قبيلتي هذيل وفهم ‪ .‬انتهى‬
‫و هؤلء هم المتصعلكون الذين صنفهم بدورهم عروة ابن الورد في البيات التالية إلى صنفين‪:‬‬
‫لحا ال صعلوكا إذا جن ليله ‪ ......‬مصافي المشاش آلـفًا كًل مجرر‬
‫بعد الغنى من دهره كل ليلٍة ‪ .....‬أصاب قَراها من صديق ميسِر‬
‫ينام عشاًء ثم يصبح طاويًا‪ ........‬يحث الحصى عن جنبه المتعفِر‬
‫جّور‬ ‫سِ الزاِد إل لنفسه‪.......‬إذا هو اَمسى كالعريش الم َ‬ ‫قليل التما ِ‬
‫حـسر‬ ‫حى طليحا كالبعير الم ّ‬ ‫ستعينُه‪ ......‬فيص ِ‬ ‫يعين نساَء الحي ما َي ْ‬
‫ب القابس المتّنور‬ ‫شها ِ‬
‫ك صحيفة وجهه‪..........‬كضوء ِ‬ ‫ول صعلو ٌ‬
‫ل على أعدائه يزجرونه‪.........‬بساحاتهم زجر المنيح المشهِر‬ ‫مط ً‬
‫ف أهل الغائب المنتظِر‬ ‫شو َ‬‫فإن بعدوا ل يأمنون اقتراَبه‪َ........‬ت ّ‬
‫‪,,‬فصنف جعله في منتهى الضعة والذله ‪ ,,‬وصنف الخر وصفه بمنتهى العزة والسمو‬
‫و جعل الفقر أساسا و سببا لكليهما ‪ ،‬فوصف المتصعلك الول بالفقير الكسول الخامل الدنيء النفس ‪،‬‬
‫‪.‬ساقط الهمة الذي يتلمس رزقه من السؤال ويدور على الموسرين‪ ،.‬فهذا صعلوك حقير‬
‫و وصف الثاني بالشهم والشجاع المتللئ الوجه عند الشدائد‪ ،.‬الذي يطلب رزقه من سن رمحه ‪ ،‬فإن‬
‫طعِم منه وأطعم ‪ ،‬واكل وآكل ‪ ،‬وتزوّد وزّود ‪ ،‬حتى يأتي على آخره فإذا هو فقير‬ ‫‪...‬نال ما طلب َ‬
‫‪:‬كما نجد حاتما الطائي يقول بنفس التصنيف لهذه الفئة من المتصعلكين ‪ ،‬لما ينشد قائل‬
‫ى َلبوسًا ومطعما‬ ‫لحا ال صعلوكا ُمناه وّهمه‪......‬من العيش أن يلق َ‬
‫ينام الضحى حتى إذا الليل جنه‪.....‬تنبه مثلوج الفؤاد َُمَوّرما‬
‫جثما‬‫مقيما مع المثرين ليس ببارح‪.....‬إذا نال جْدَوى من طعام وم ْ‬
‫صّمما‬‫صعلوكا ُيساوُر الهمُه‪.......‬ويمضى على الهيجاء ليثًا ُم َ‬ ‫ولكن ُ‬
‫ن ثمت صّمما‬ ‫إذا ما رأى يومًا مكارم أعرضت‪......‬تيمم ُكْبَراه ّ‬
‫لقد استطاع المتصعلكون من أمثال عروة و ابن بصير الذي سوف نأتي على ذكره من أن يخلقوا‬
‫بالصعاليك المنتمين إليهم داخل الجزيرة مجتمعا هامشيا ذا أخلق و مبادئ منافية للعراف القبلية‬
‫السائدة ‪ ،‬تقوم على العنف و السلب و المكر و الخداع و الخيانة و الغدر و القتل لتفه السباب و توزيع‬
‫الغنائم و تخصيص الزعيم بالخمس أو الربع ‪ .‬و يدعي دارسو الدب و الشعر الجاهلي أن هؤلء‬
‫المتصعلكين كانوا إلى جانب لصوصيتهم و خشونة أخلقهم كرماء جوادين نبلء ‪ ،‬يحسنون إلى الفقير‬
‫و يجودون على المعسر و يعينون المغلوب على أمره؟؟ و هذا ما نجده فعل متراكما في أشعارهم‪.‬إل أن‬
‫هناك تناقضا بسيطا يقفز عليه هؤلء الدارسون و المحللون‪ .‬فالكريم هو من يجود من ماله الحلل على‬
‫الخرين و ليس من مال غيره‪.‬أما إذا كان هذا المال عن طريق السطو و القتل فأي أخلق تذكر بعد‬
‫هذا؟؟‬
‫يقول الشاعر الصعلوك‪.‬‬
‫يجود علينا الخيرون بمالهم‬
‫و نحن بمال الخيرين نجود‬
‫فالفرق بين الصعلوك و الخّير ظاهر‬
‫إذا جاد الصعلوك جاد بما ليس له أي بما لغيره‪ ،‬إذا فهو ليس خّيرا و ل كريما‬
‫و من أين لمن تشبع باللصوصية و الجرام و قطع الطرق و سبي النساء أن يكون خّيرا كريما جوادا‪.‬؟؟‬
‫تلك من التناقضات التي ل يقبلها إل العقل العربي بفعل الذين يريدونه أن يبقى عقل عربيا متفردا متميزا‬
‫عن العقل النساني الذي ل يقبل بالتناقض بتاتا‬
‫و نجح هؤلء الساهرون على تنظيم مجتمع الصعاليك في وضع قواعد و سلوكيات و فلسفة لمجتمعهم‬
‫الهامشي تناقض أعراف و قواعد المجتمعات النسانية المتحضرة‪.‬تهدف أول هدَم العلئق و الروابط‬
‫القبلية و النسانية التقليدية و تجاوزها إلى خلق روابط الخوة في الصنعة و المذهب و التفكير‪ ،‬ثانيا‬
‫هجرة الوطان و العيش عالة على المجتمع بممارسة النهب و القتل و احتراف الغزو لصالح الغير ثالثا‬
‫‪ .‬هدم المجتمع الذي ينبذهم و ينبذونه و تخريبه و السيطرة على خيراته و نسائه و تقاسمها‬
‫و من بين مبادئ الصعاليك‬
‫ـ الحق في انتزاع أي شيء من مالكه *‬
‫‪ :‬يقول جواد علي في المفصل في تاريخ العرب قيل السلم‪ ،‬الجزء التاسع‪ ،‬صفحة ‪602‬‬
‫والصعاليك حاقدون على مجتمعهم‪ ،‬متمردون عليه‪ ...‬ل يبالون من شيء ولو كان ذلك سلبًا ونهبًا وقتل‬
‫أبناء قبيلتهم وعشيرتهم‪ ،‬لنهم خلعوا منها‪ ...‬وكل ما تقع أعينهم عليه‪ ،‬هو مفيد لهم نافع‪ ،‬ومن حقهم‬
‫بحكم فقرهم انتزاعه من مالكه‪ ،‬وإن كان مالكه فقيرًا معدمًا مثلهم‪... ،‬ويرون الخلص من هذا الذل‬
‫بالحصول على المال بالقنا وبالسيف‪ ،‬فمن استعمل سيفه نال ما يريد‪ ،‬ل يبالي فيمن سيقع السيف عليه‪،‬‬
‫“وإل عّد من "العيال‬
‫سليك‬
‫‪":‬قال "ال ّ‬
‫فل تصلي بصعلـوك َنـؤوم ***** إذا أمسى ُيعد من الـعـيال‬
‫الشعراء الصعاليك‪ ،‬صفحة ‪٢٣٥‬مستشهد من جواد علي‪ ،‬الجزء التاسع‬
‫ـ الحق في سلب الخرين البخلء يأمر من ال *‬
‫ولذلك كان صعاليك العرب ولصوصهم وأرباب الغارة منهم يرون أن ما يحوونه من النعم بالغارة‪ ،‬إنما“‬
‫‪:‬ذلك مال منعت منه الحقوق‪ ،‬فأرسله ال لهم‪ ،‬كما قال عروة الصعاليك‬
‫حـل‬‫ي حيازيم المطّية بالّر ْ‬ ‫لعّل انطلقي في البلد وبغيتي ****وشد ّ‬
‫"سيدفعني يومًا إلى رب هجـمة ***** يدافع عنها بالعقوق وبالبخـل‬
‫الجمان في تشبيهات القرآن‪ ،‬عبد ال بن الحسين بن ناقيا البغدادي ‪ ،‬صفحة ‪٢٦٢‬وما بعدها ؛ جواد‬
‫علي ‪ ،‬المفصل‪ ،‬الجزء التاسع‪ ،‬صفحة ‪603‬‬
‫ـ حق القتل والفتك بالخرين *‬
‫القتل عند الصعلوك كشربة ماء‪ :‬فالحاجة عندهم تبرر الواسطة‪ ،‬وإذا امتنع إنسان على صعلوك وأبى‬
‫تسليم ما عنده إليه‪ ،‬فهو ل يبالي بقتله‪ ،‬فالقتل ليس بشيء في نظره‪ ،‬منظره مألوف ‪ ...‬والصعلوك نفسه‬
‫ل يدري متى يقتل‪ ،‬فل عجب إذا ما رأى القتل وكأنه شربة ماء‬
‫جواد علي ‪ ،‬المفصل‪ ،‬الجزء التاسع‪ ،‬ص ‪.604‬‬
‫فمن وجد شخصًا ومعه مال‪ ،‬ل يجد الصعلوك سببًا أخلقيًا يمنعه من قتله للحصول على ماله ”جواد”‬
‫علي‪ ،‬المفصل‪ ،‬الجزء التاسع‪ ،‬صفحة ‪611/612‬‬
‫أغار قيس بن الحدادية‪ -‬صعلوك مشهور‪ -‬على جموع هوازن‪ ،‬فأصاب سبيا ومال‪ ،‬وقتل يومئذ من بني”‬
‫“قشير‪ :‬أبا زيد وعروة وعامرا ومروحا‪ ،‬وأصاب أبياتا من كلب خلوفا‪ ،‬واستاق أموالهم وسبيا‬
‫الغاني للصفهاني الجزء السادس‪ ،‬صفحة ‪64‬‬
‫ـ القسوة في القتل *‬
‫شْنَفَرى‪ ،‬يصف غارة ملت الرعب في قلب من وقعت عليهم‪ ،‬قام بها في ليلة باردة‪ ،‬عاد منها‬ ‫نجد ال ّ‬
‫‪:‬سالمًا معافى بغنائم‪ ،‬وهو فرح بما تركه من قتل وسلب وألم في نفوس النساء والطفال‪ ،‬فيقول‬
‫ت والّلْيُل َأْلَيُل‬
‫ت كما َأْبَدْأ ُ‬
‫عْد ُ‬
‫ت ِإْلَدًة ***** و ُ‬
‫سوانًا وَأْيتْم ُ‬‫ت ِن ْ‬
‫فَأّيْم ُ‬
‫الشعراء الصعاليك ‪ ،‬صفحة ‪٤٩‬؛ ُمستشَهد من جواد علي‪ ،‬المفصل‪ ،‬الجزء التاسع ص ‪612‬‬
‫سَليك" يخرج مع صعلوكين يريدون الغارة‪ ،‬فساروا حتى أتوا بيتًا متطرفًا‪ ،‬ووجد شيخًا غطى‬ ‫وهذا "ال ّ‬
‫وجهه من البرد‪ ،‬وقد أخذته إغفاءة‪ ،‬ومعه إبله ترعى‪ ،‬فأسرع إليه وضربه بسيفه فقتله‪ ،‬ونهبوا إبله‪،‬‬
‫وعادوا بها مسرعين فرحين‪ ،‬قتله دون أن يشعر بوخزة ضمير‪ ،‬لقتله انسانًا نائمًا طاعنًا في السن‬
‫“‪.‬يرعى إبله‪... ،‬إلى أن قال ‪ :‬والضرورات تبيح المحظورات‬
‫الشعراء الصعاليك ‪ ،‬صفحة ‪172‬؛ ُمستشَهد من جواد علي ‪ ،‬المفصل‪ ،‬الجزء التاسع صفحة ‪613‬‬
‫ـ التمثيل بالقتلى و تقطيع أطرافهم من خلف *‬
‫شْنَفَرى عندما يرمي رجل يقطع رجله ويرمي عينه‬ ‫كان ال ّ‬
‫الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الثامن ص ‪287‬‬
‫“السليك يدخل بخبث ليسرق بيت عازل ويقطع رأس شيخ”‬
‫الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الثامن صفحة ‪219‬‬
‫ـ تقسيم الغنائم و نظام العصابات *‬
‫عروة بن ورد كان يجمع الصعاليك ويكرمهم ويغير بهم ويجعل لصحابه الباقين نصيبه من الغنيمة‬
‫الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الول‪ ،‬صفحة ‪270‬‬
‫أما زعيم الصعاليك في الغزو فله الربع أو الخمس‬
‫‪،‬حاجز بن عوف أحد زعماء الصعاليك كان عمه يأخذ الربع من الغنيمة‬
‫الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الخامس صفحة ‪687‬وما بعدها‬
‫و من عادات الصعالكة تأليف العصابات من الصعالكة الخرين من العرب والغارة بهم على قبائلهم‬
‫الصلية‬
‫خزاعة وجمع صعاليك من العرب يغير عليهم‬ ‫خلع من قومه وهم ُ‬ ‫حداِدية ُ‬ ‫قيس بن ال ُ‬
‫الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء السادس ‪ ،‬صفحة ‪64‬‬
‫ـ اعتماد أخوة الصنف والحرفة بدل أخوة العشيرة والقبيلة *‬
‫يقول جواد علي في المفصل‪ ،‬الجزء التاسع‪ ،‬صفحة ‪620‬‬
‫وهم من عشائر مختلفة‪ ،‬فل ينتسبون إلى نسب واحد‪ ،‬ونسبهم الوحيد الذي يربط بينهم‪ ،‬هو الصعلكة‪،‬‬
‫‪.‬والتمرد على المجتمع والتشرد في البوادي والهضاب والجبال‬
‫ـ تفضيل الموت على البقاء في حالة الفقر و المبايعة عليه *‬
‫ب عقاِرُبهْ‬‫حياِتِه ***** فقيرًا‪ ،‬ومن مْوًلى تِد ّ‬ ‫ن َ‬‫ت خيٌر للَفتى م ْ‬ ‫فَللَمو ُ‬
‫ن مذاهُبْه‬ ‫صعلوك‪ :‬أي َ‬ ‫ن الّرحيل؟ وساِئٍل ***** وَمن يسأُل ال ّ‬ ‫وسائلٍة‪ :‬أي َ‬
‫ن عنه‪ ،‬بالَفعاِل‪ ،‬أقارُبه‬‫ج عريضٌة **** إذا ضَ ّ‬ ‫ن الِفجا َ‬‫َمذاِهُبُه أ ّ‬
‫ديوان عروة بن الورد ‪ ،‬صفحة ‪29‬‬
‫صر؟‬ ‫ك عما يبتغي القوُم ُمح ِ‬ ‫ن المنايا َثْغُر كّل ثنّية ****** فهل ذا َ‬ ‫وأ ّ‬
‫ب المنايا‪ُ ،‬مَغّرر‬‫ي َرداها‪َ ،‬مخوفٍة ******* أخوها‪ ،‬بأسبا ِ‬ ‫غبراَء َمخش ّ‬ ‫وَ‬
‫ديوان عروة بن الورد‪ ،‬صفحة ‪ 77‬؛ جواد علي‪ ،‬المفصل‪ ،‬الجزء التاسع صفحة ‪632‬‬
‫ـ العمل بمبدأ الترويع وإلقاء الرعب في قلوب الناس *‬
‫في الحديث عن تأبط شرا – أحد قادة الصعاليك معنى يفيد أنه يغيرعلى القادم واليب‪ ،‬يسلبه ويأخذ ما‬
‫عنده‪ ،‬ل يبالي بشيء إل بحصوله على غنيمة السلب‪ ،‬وهو إن قابل قافلة‪ ،‬فلم يتمكن منها‪ ،‬يكون قد‬
‫رضي من فعله بما ألقاه من رعب وذعر في قلوب أصحابها‪ ،‬ويكون قد اشتفى بذلك منها‪ .‬فهو رجٍل‬
‫منتقم‪ ،‬يريد أن يفرج عما ولد في قلبه من غَل‪ ،‬بأية طريقة كانت‬
‫جواد علي‪ ،‬المفصل‪ ،‬الجزء التاسع صفحة ‪644‬‬
‫ـ نجاح الغزوات ل يتم إل بسبي النساء *‬
‫سنمها‬ ‫خْثَعم"‪ ،‬أهله خلوف‪ ،‬فرأى فيهم امرأة بضة شابة‪ ،‬فت ّ‬ ‫سَلْيك" في بعض غزواته ببيت من " َ‬ ‫ومّر " ُ‬
‫ومضى‬
‫جواد علي‪ ،‬المفصل‪ ،‬الجزء التاسع صفحة ‪648‬‬
‫نجد عروة يأخذ بعض الصعاليك فنزل بهم ما بينهما بموضع يقال له‪ :‬ماوان‪ .‬ثم قتل رجل وسبى جماله‬
‫وزوجته‬
‫الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الول‪ ،‬صفحة ‪270‬‬
‫حَداِدية أغارعلى جموع َهَواِزن‪ ،‬فأصاب سبيا ومال‪ ،‬وقتل يومئذ من بني قشير‪ :‬أبا زيد‬ ‫قيس بن ال ُ‬
‫وعروة وعامرا ومروحا‪ ،‬وأصاب أبياتا من كلب خلوفا‪ ،‬واستاق أموالهم وسبيا‬
‫الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء السادس ‪ ،‬صفحة ‪64‬‬
‫كما أن من خصائص الصعاليك ما يتصفون به من صفات وحشية همجية تميزهم عن سائر البشرمنها‬
‫ـ سلب الناس من أجل ان يفتدي أهلهم السبي بمال كثير *‬
‫عروة يسلب امرأة وأهلها يفدوها بفداء كبير‬
‫الغاني‪،‬الجزء الول‪ ،‬صفحة ‪269‬‬
‫ـ الغدر والخداع بالدخول بمكر إلى البيوت حيث يقتلوا وينهبوا *‬
‫تأبط شرا " يذهب مع صعاليك الى بلد هذيل ويسأل راعيا لهم ويقول له عن بيت من قبيلة عتير كثير‬
‫المال‪ .‬ويبيتهم صاحب البيت ‪ ،‬ولكن الصعاليك يقتلوا كل سكان البيت ويستقوا الموال‬
‫الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الثامن‪ ،‬صفحة ‪681‬‬
‫ـ بدأ مواجهة العدد الكبر بالفئة الصغرى وعدم الهرب *‬
‫خْثَعم ‪ ،‬فخرج ‪ 40‬رجل من خثعم ومعهم كبير القوم ‪.‬‬ ‫تأبط شرا " يغير مع ستة صعاليك على قبيلة من َ‬
‫‪ .‬ومبدأ الصعاليك عدم الهرب وهم ل يبالون إن ماتوا‪ .‬فقتل الصعاليك منهم عددا وهرب الباقون‬
‫الغاني لبي فرج الصفهاني الجزء الثامن صفحة ‪276/277‬‬

‫‪ 2‬ك ككككك ككككك‬

‫لفظة العرب أول ما أطلقت ‪ ،‬أطلقها الشوريون و البابليون و اليهود و أهل مصر الفرعونية على القبائل‬
‫المترحلة التي تجوب و تقطن الصحاري الممتدة ما بين بادية السماوة و صحراء العربية السعيدة بالشام‬
‫شمال ‪ ،‬و صعيد مصر و سيناء غربا و خليج فارس و بلد عمان و البحرين شرقا ‪،‬و اليمن جنوبا‪.‬و كانوا‬
‫ـ هم وغيرهم من فرس و يونانيين و بيزنطيين ـ يسمون العرب المستقرين القاريين ممن لهم ممالك على‬
‫حدود بلدهم ‪،‬بأسماء ممالكهم ‪.‬فيقولون أهل الح;يرة و النبط و الغساسنة و حمير و مملكة سبأ و حضر‬
‫موت إلخ‪..‬على أن تفيئ العرب إلى بائدة و عاربة و مستعربة و عدنانية و قحطانية تفيئ فج ل علمية له‪.‬‬
‫إنما المراد منه تغليب قريش على سائر الجناس و تغليب بني هاشم عن سائر البطون و القبائل‪.‬أما الواقع‬
‫و التاريخ فيجعلن العرب فئتين ‪ .‬فئة اختلطت بالشعوب و تفتحت على الحضارات فهذبت من عنجهيتها‬
‫البدوية و لينت سلوكها و طباعها‪ ،‬و غيرت من نمط حياتها ‪.‬فكان لها حظها من الحضارة و البنيان و‬
‫الثار الشاهدة عليها من مدن و قصور و منشآت‪ ،‬و من كتابات و أقلم و لهجات‪.‬و فئة تمسكت بحبل‬
‫البداوة و الشظف و الفقر و استمرأت حياة الكسب السهل السريع الرخيص من وراء الرعي و التجار و‬
‫الفروسية و حماية القوافل و قطع الطرق و اللصوصية‪ .‬و كانت تنتظم هذه الفئة الطويلة العريضة ضمن‬
‫قبائل تنتشر على طول الجزيرة و عرضها ‪،‬وازعها المشترك وحدة النساب و لهجة القرآن و تبادل‬
‫المصالح مع قريش أهل مكة‪.‬و هذا التقسيم يوافق تقسيم أهل الخبار حينما يقسمون العرب إلى أهل وبر و‬
‫مدر‪.‬فيقولون أن عرب الوبر هم من كانوا يأوون الخيام المصنوعة من شعر الماعز و هم البدو الرحل ‪،‬أما‬
‫عرب المدر فهم من كانوا يتخذوا البيوت من الطين و الطوب الحمر ‪،‬و المدر هو الطين الجاف‪.‬وأمثال‬
‫هؤلء عرب الحيرة و الغساسنة و حمير و بنو كهلن و كندة الذين أتى عليهم و على ديارهم و معيشتهم‬
‫الولى الزحف السلمي و البربرية البدوية العربية‪.‬هؤلء العرب الذين طغوا في البلد و استعلوا على‬
‫العباد و اكتسحوا البلدان و خربوا الديار ‪ ،‬الذين يسميهم القرآن و أهل الخبار بالعراب البدو هم من‬
‫سنتناول بالدرس في هذا المقال لنقف على خصائصهم التي تميزهم عن سائر الناس و لو أن هذا يعتبر‬
‫مستحيل‪ ،‬و لنقف على معالم شخصيتهم و تفكيرهم و نظرتهم للمور و للكون و العالم و النسان‪.‬‬
‫فالحديث عن العرب و عقليتهم‪ ،‬حديث قديم‪،‬حيث نجد الثوراة قد وصفتهم بأنهم ‪ :‬متنابذون يغزون بعضهم‬
‫بعضًا‪ ،‬مقاتلون يقاتلون غيرهم كما يقاتلون بعضهم بعضًا "يده على الكل‪ ،‬ويد الكل عليه"‪).‬التكوين ‪،‬‬
‫الصحاح ‪ 16‬الية ‪ (12‬يغيرون على القوافل فيسلبونها ويأخذون أصحابها أسرى‪ ،‬يبيعونهم في أسواق‬
‫النخاسة‪ ،‬أو يسترقونهم فيتخذونهم خدمًا ورقيقًا يقومون بما يؤمرون به من أعمال‪ ،‬إلى غير ذلك من‬
‫نعوت وصفات‪.‬‬
‫وقد وصفهم "ديودورس الصقلي" بأنهم يعشقون الحرية‪ ،‬فيلتحفون السماء‪ .‬وقد اختاروا القامة في‬
‫أرضين ل أنهار فيها ول عيون ماء‪ ،‬فل يستطيع العدّو المغامر الذي يريد اليقاع بهم أن يجد له فيها‬
‫مأوى‪.‬و أنهم ل يزرعون حبًا‪ ،‬ول يغرسون شجرًا‪ ،‬ول يشربون خمرًا‪ ،‬ول يبنون بيوتًا‪ .‬ومن يخالف‬
‫العرف عندهم فإنه يقتل‪ .‬وهو يشارك في وصفه هذا رأي "هيرودوتس" الذي أشاد بحب العرب للحرية‬
‫وحفاظهم عليها ومقاومتهم لية قوة تحاول استرقاقهم واستذلهم‪ .‬فالحرية عند العرب هي من أهم الصفات‬
‫التي يتصف بها العرب في نظر الكتبة اليونان واللتين‪.‬‬
‫المفصل في تاريخ العرب قبل السلم الجزء ‪ 1‬ـ ‪(262‬‬
‫أما كسرى فيقول‪ :‬أنه نظر فوجد أن لكل أمة من المم ميزة وصفة‪ ،‬فوجد للروم حظًا في اجتماع اللفة‬
‫وعظم السلطان وكثرة المدائن ووثيق البنيان‪ ،‬وأن لهم دينًا يبين حللهم وحرامهم ويرد سفيههم ويقيم‬
‫جاهلهم‪ ،‬ورأى للهند‪ ،‬نحوًا من ذلك في حكمتها وطّبها مع كثرة أنهار بلدها وثمارها‪ ،‬وعجيب صناعاتها‬
‫ودقيق حسابها وكثرة عددها‪ .‬ووجد للصين كثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب‬
‫وصناعة الحديد‪ ،‬وان لها ملكًا يجمعها‪ ،‬وأن للترك والخزر‪ ،‬على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة‬
‫الريف والثمار والحصون ملوك تضم قواصيهم وتدّبر أمرهم‪ .‬ولم يَر للعرب دينا ول حزمًا ول قوة‪.‬‬
‫همتهم ضعيفة بدليل سكنهم في بوادي قفراء‪ ،‬ورضاؤهم بالعيش البسيط‪ ،‬والقوت الشحيح‪ ،‬يقتلون أولدهم‬
‫من الفاقة ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة‪ .‬أفصل طعامهم لحوم البل التي يعافها كثير من السباع لثقلها‬
‫وسوء طعمها وخوف دائها‪".‬‬
‫ثم يضيف "وإن قَرى أحدهم ضيفًا عّدها مكرمة‪ .‬وإن أطعم أكلة عدها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم‪ ،‬وتفتخر‬
‫بذلك رجالهم"‪.‬‬
‫" ثم إنهم مع قلتهم وفاقتهم وبؤس حالهم‪ ،‬يفتخرون بأنفسهم‪ ،‬ويتطاولون على غيرهم وينزلون أنفسهم فوق‬
‫مراتب الناس‪".‬‬
‫"حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكّا أجمعين"‪"،‬‬
‫" وأبوا النقياد لرجل واحد منهم يسوسهم ويجمعهم‪ .‬إذا عاهدوا فغير وافين‪ .‬سلحهم كلمهم‪ ،‬به يتفننون‪،‬‬
‫ن‪ .‬ل صبر لهم‪ ،‬إذا حاربوا ووجدوا قوة‬ ‫وبكلمهم يتلعبون‪ .‬ليس لهم ميل إلى صنعة أو عمل ول ف ّ‬
‫أمامهم‪ ،‬حاولوا جهدهم التغلب عليها‪ ،‬أما إذا وجدوها قوة منظمة هربوا مشتتين متبعثرين شراذم‪.‬‬
‫يخضعون للغريب ويهابونه ويأخذون برأيه فيهم‪ ،‬ما دام قويًا‪ ،‬ويقبلون بمن ينصبه عليهم‪ ،‬ول يقبلون بحكم‬
‫واحد منهم‪ ،‬إذا أراد أن يفرض سلطانه عليهم‪).‬بلوغ الرب ص ‪ 147‬و ما بعدها(‬
‫وقد ُذكر أن أحد ملوك الهند كتب كتابًا إلى "عمر ين عبد العزيز"‪ ،‬جاء فيه‪:‬‬
‫ل شق من الرض لها ملوك تجمعها ومدائن تضمها وأحكام تدين بها‬ ‫"لم تزل المم كلها من العاجم في ك ّ‬
‫وفلسفة تنتجها وبدائع تفتقها في الدوات والصناعات‪ ،‬مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة‪ ،‬ولعب‬
‫الشطرنج وهي أشرف لعبة‪ ،‬ورّمانة القبّان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل‪ ،‬ومثل فلسفة الروم في‬
‫ذات الخلق والقانون‪ ،‬والصطرلب الذي يعدل به النجوم ويدرك به البعاد ودوران الفلك وعلم‬
‫الكسوف وغير ذلك من الثار المتقنة‪ ،‬ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها‪ ،‬ويقمع ظلمها‬
‫وينهى سفيهها‪ ،‬ول كان لها قط نتيجة في صناعة و ل أثر في فلسفة إل ما كان من الشعر‪ .‬و قد شاركتها‬
‫فيه العجم‪ ،‬وذلك إن للروم أشعارا عجيبة قائمة الوزن و العروض‪ ،‬فما الذي تفتخر به العرب على العجم ؟‬
‫فإنما هي كالذئاب العادية‪ ،‬و الوحوش النافرة‪ ،‬يأكل بعضها بعضا و يغير بعضها على بعض‪ .‬فرجالها‬
‫حَلق السر‪ .‬و نساؤها سبايا مردفات على حقائب البل‪ ،‬فإذا أدركهن الصريخ استنقذن‬ ‫موثوقون في َ‬
‫بالعشي‪ ،‬و قد وطئن كما توطأ الطريق المهيع"‪.‬‬
‫)السيد محمود شكري اللوسي بلوغ الرب ج ‪ 1‬ص ‪.(156‬‬
‫أما ابن خلدون فرأيه معروف في العرب‪ ،‬خلصته أن‪:‬‬
‫لب إذا أخضع مملكة أسرع إليها الخراب‪ ،‬يصعب انقياده لرئيس‪ ،‬ل يجيد‬ ‫" العربي متوحش نّهاب س ّ‬
‫صناعة ول يحسن علمًا ول عنده استعداد للجادة فيهما‪ ،‬سليم الطباع‪ ،‬مستعد للخير شجاع"‪ ).‬أحمد أمين‬
‫في تلخيصه لرأي ابن خلدون في كتابه فجر السلم ‪ (1/41‬وتجد آراء ابن خلدون هذه مدّونة في مقدمته‬
‫الشهيرة لكتابه العام في التًاريخ‪.‬‬
‫ي‪ ،‬ينظر إلى الشياء نظرة‬ ‫ل أو نموذجًا‪ ،‬ماد ّ‬‫و يرى المستشرق "أول ‪;10‬ري" أن‪ " :‬العربي الذي يعد مث ً‬
‫مادية وضيعة‪ ،‬ول يقومها إل بحسب ما تنتج من نفع‪ .‬يتملك الطمع مشاعره‪ ،‬وليس لديه مجال للخيال ول‬
‫للعواطف‪ .‬ل يميل كثيرًا إلى دين‪ ،‬ول يكترث بشيء إل بقدر ما ينتجه من فائدة عملية‪ .‬يمله الشعور‬
‫بكرامته الشخصية حتى ليثور على كل شكل من أشكال السلطة‪ ،‬وحتى ليتوقع منه سيد قبيلته و قائده في‬
‫الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه ولو كان صديقًا حميما له من قبل‪ .‬من‬
‫أحسن أليه كان موضع نقمته‪ ،‬لن الحسان يثير فيه شعورًا بالخضوع وضعف المنزلة وأن عليه واجبًا‬
‫لمن أحسن إليه‪.‬‬
‫و يقول لمانس‪" :‬إن العربي نموذج الديمقراطية"‪ ،‬ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها إلى حد بعيد‪ ،‬وإن ثورته‬
‫على كل سلطة تحاول أن تحدد من حريته ولو كانت في مصلحته هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم‬
‫والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تأريخ العرب‪ ،‬وجهل هذا السر هو الذي قاد الوروبيين في أيامنا هذه‬
‫إلى كثير من الخطاء‪ ،‬وحملهم كثيرًا من الضحايا كان يمكنهم الستغناء عنها‪ ،‬وصعوبة قيادة العرب‬
‫وعدم خضوعهم للسلطة هي التي تحول بينهم وبين سيرهم في سبيل الحضارة الغربية‪ ،‬ويبلغ حب العربي‬
‫لحريته مبلغًا كبيرًا‪ ،‬حتى إذا حاولت ان تحدها أو تنقص من أطرافها هاج كأنه وحش في قفص‪ ،‬وثار‬
‫ثورة جنونية لتحطيم أغلله والعودة إلى حريته‪ .‬ولكن العربي من ناحية أخرى مخلص‪ ،‬مطيع لتقاليد‬
‫قبيلته‪ ،‬كريم يؤدي واجبات الضيافة والمحالفة في الحروب كما يؤدي واجبات الصداقة مخلصًا في أدائها‬
‫بحسب ما رسمه العرف‪ ) .‬المفصل ‪.(1/265‬‬
‫وقد تعرض "أحمد أمين" في الجزء الول من "فجر السلم" للعقلية العربية‪ ،‬وأورد رأي الشعوبيين في‬
‫العرب‪ ،‬ثم رأي "ابن خلدون" فيهم‪ ،‬وتكلم على وصف المستشرق "أوليري" لتلك العقلية‪ ،‬ثم ناقش تلك‬
‫الراء‪ ،‬وأبان رأيه فيها وذلك في الفصل الثالث من هذا الجزء‪ "..،‬ثم استمر يناقش تلك الراء إلى أن قال‪:‬‬
‫فلنقتصر الن على وصف العربي الجاهلي‪) ،‬فجر السلم ‪ (1/43‬فوصفه بهذا الوصف‪:‬‬
‫"العربي عصبي المزاج‪ ،‬سريع الغضب‪ ،‬يهيج للشيء التافه‪ ،‬ثم ل يقف في هياجه عند حد‪ ،‬وهو أشد‬
‫هياجًا إذا جرحت كرامته‪ ،‬أو انتهكت حرمة قبيلته‪ .‬وإذا اهتاج‪ ،‬أسرع إلى السيف‪ ،‬وأحكم إليه‪ ،‬حتى أفنتهم‬
‫الحروب‪ ،‬وحتى صارت الحرب نظامهم المألوف وحياتهم اليومية المعتادة‪.‬‬
‫ثم يضيف‬
‫"خياله محدود وغ;ير متنوع‪ ،‬فقلما يرسم له خياله عيشة خيرًا من عيشته‪ ،‬وحياة خيرًا من حياته يسعى‬
‫وراءها‪ ،‬لذلك لم يعرف "المثل العلى"‪ ،‬لنه وليد الخيال‪ ،‬ولم يضع له في لغته لفظة واحدة دالة عليه‪،‬‬
‫ولم يشر إليه فيما نعرف من قوله‪،‬وقلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنى جديدًا ولكنه‬
‫ع أن يذهب كل مذهب‪".‬‬ ‫في دائرته الضيقة استطا َ‬
‫ل أن يحّدها حّد‪ ،‬ولكن الذي فهموه من الحرية هي الحرية الشخصية‬ ‫"أما ناحيتهم الخلقية‪ ،‬فميل إلى حرية ق ّ‬
‫ل الجتماعية‪ ،‬فهم ل يدينون بالطاعة لرئيس ول حاكم‪ ،‬تأريخهم في الجاهلية ‪ -‬حتى وفي السلم ‪ -‬سلسلة‬
‫حروب داخلية" وعهد عمر بن الخطاب كان عصرهم الذهبي‪ ،‬لنه شغلهم عن حروبهم الداخلية بحروب‬
‫خارجية‪.‬‬
‫"والعربي يحب المساواة‪ ،‬ولكنها مساواة في حدود القبيلة‪ ،‬وهو مع حبه للمساواة كبير العتداد بقبيلته ثم‬
‫بجنسه‪ ،‬يشعر في أعماق نفسه بأنه من دم ممتاز‪ ،‬لم يؤمن بعظمة الفرس والروم مع ما له ولهم من جدب‬
‫وخصب وفقر وغنى وبداوة وحضارة‪ ،‬حتى إذا فتح بلدهم نظر إليهم نظرة السيد إلى المسود"‪).‬نفس‬
‫المصدر ‪(44/‬‬
‫ثم تحدث عن مظهر آخر من مظاهر العقلية العربية‪ ،‬لحظه بعض المستشرقين و وافقهم هو عليه‪ ،‬و‬
‫هوأن ‪:‬‬
‫طبيعة العقل العربي ل تنظر إلى الشياء نظرة عامة شاملة‪ ،‬وليس في استطاعتها ذلك‪ .‬فالعربي لم ينظر‬
‫إلى العالم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني‪،‬بل كان يطوف فيما حوله؛ فإذا رأى منظرا خاصا أعجبه‬
‫تحرك له‪ ،‬و جاس صدره بالبيت أو البيات من الشعر أو الحكمة أو المثل‪" .‬فأما نظرة شاملة وتحليل دقيق‬
‫لسسه وعوارضه فذلك ما ل يتفق والعقل العربي‪ .‬وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشيء الواحد ل يستغرقه‬
‫بفكره‪ ،‬بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه‪ ،‬فهو إذا وقف أمام شجرة‪ ،‬ل ينظر إليها ككل‪ ،‬إنما‬
‫يستوقف نظره شيء خاص فيها‪ ،‬كاستواء ساقها أو جمال أغصانها‪ ،‬و إذا كان أمام بستان‪ ،‬ل يحيطه‬
‫بنظره‪ ،‬ول يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"‪ ،‬إنما يكون كالنحلة‪ ،‬يطير من زهرة إلى زهرة‪،‬‬
‫فيرتشف من كل رشفة"‪ .‬إلى أن قال‪:‬‬
‫"هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف ما ترى في أدب العرب ‪ -‬حتى في العصور‬
‫السلمية ‪ -‬من نقص وما ترى فيه من جمال"‪.‬‬
‫وقد خلص من بحثه‪ ،‬إلى أن هذا النوع من النظر الذي نجده عند العربي‪ ،‬هو طور طبيعي تمر به المم‬
‫جميعًا في أثناء سيرها إلى الكمال‪ .‬فهو؛ و هو يريد الدفاع عن العرب يحكم عليهم بعدم الكمال‪ .‬فكيف لهم‬
‫يهدون الناس و يخرجون ‪;07‬م من الظلمات إلى النور؟‬
‫وتقوم نظرية أحمد أمين في العقلية العربية على أساس أنها حاصل شيئين وخلصة عاملين‪ ،‬أثرا مجتمعين‬
‫في العرب وكّونا فيهما هذه العقلية التي حددها ورسم معالمها في النعوت المذكورة‪ .‬والعاملن في رأيه‬
‫هما‪ :‬البيئة الطبيعية والبيئة الجتماعية‪ .‬وعنى بالبيئة الطبيعية ما يحيط بالشعب طبيعيًا من جبال وأنهار‬
‫وصحراء ونحو ذلك‪ .‬وبالبيئة الجتماعية ما يحيط بالمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة‬
‫ونحو ذلك‪ .‬وهما معًا مجتمعين غير منفصلين‪ ،‬أّثرا في تلك العقلية‪ .‬ولهذا رفض أن تكون تلك العقلية‬
‫طا من أنكر أثر البيئة الطبيعية في‬ ‫حاصل البيئة الطبيعية وحدها‪ ،‬أو حاصل البيئة الجتماعية وحدها‪ .‬وخ ّ‬
‫تكوين العقلية ومن هنا انتقد "هيكل" "‪ ،"Heagel‬لنه أنكر ما للبيئة الطبيعية من أثر في تكوين العقلي‬
‫اليوناني‪ .‬وحجة "هيكل" أنه لو كان للبيئة الطبيعية أثر في تكوين العقليات‪ ،‬لبان ذلك في عقلية التراك‬
‫الذين احتلوا أرض اليونان وعاشوا في بلدهم‪ .‬ولكنهم لم يكتسبوا مع ذلك عقلهم ولم تكن لهم قابلياتهم ول‬
‫ثقافتهم‪ .‬و رّد "أحمد أمين" عليه هو أن "ذلك يكون صحيحًا لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد‪،‬‬
‫إذن لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد إقليمه‪ ،‬و ينعدم حيث ينعدم‪ ،‬أما والعقل اليوناني نتيجة‬
‫عاملين‪ ،‬فوجود جزء العلة ل يستلزم وجود المعلول"‪) .‬المفصل ‪(1/270‬‬
‫و عليه فأحمد أمين يأخذ بمقولة النسان ابن بيئته ترصيعا للكلم و تهوينا لوقعه على نفوس من يهمهم‬
‫المر‪.‬إذ‪ ،‬في حين نجده يعرض أكثر الصور قثامة للعقلية العربية‪،‬فإننا نجده يحاول تبريرها بخضوع‬
‫النسان العربي و غيره للظروف البيئية الطبيعية و الجتماعية المحيطة به‪ .‬فتناسى أن النسان هو من‬
‫خر الطبيعة و البيئة في صالحه ‪،‬و ليس النسان هو من كونته الطبيعة و صقلته و فرغته حسب شهوتها‬ ‫سّ‬
‫و قوالبها‪ .‬و تناسى أن النسان هو من صنع المجتمع و وضع له قوانينه و آلياته ‪،‬و هو الذي بالتالي يملك‬
‫بيده و حده أمر تعطيل تلك الليات و هدمها أو تغييرها أو البقاء عليها ‪ ،‬حسب ما تتطلبه ظروفه و‬
‫رغباته و أهواؤه‪.‬‬
‫كما تناسى أحمد أمين كذلك أنه كما تخاف الطبيعة الفراغ فكذلك التاريخ ل يقبل الصدف ‪.‬فإذا كانت العقلية‬
‫العربية هذه هي حالهأ‪ ،‬فإن لذلك علُله و أسباُبه و التي ل تنحصر بالضرورة في العوامل البيئية الطبيعية و‬
‫الجتماعية‪ ،‬دون الخذ بعين العتبار العوامل النفسية التكوينية والعوامل التربوية و الثقافية‪ ،‬ناهيك عن‬
‫العوامل القتصادية و الجيو سياسية العامة‪ .‬و بالطبع بقدر ما تضيق في أي دراسة‪ ،‬خانة السباب و العلل‬
‫المنطقية المؤدية إلى معلول ما‪ ،‬بقدر ما تكثر بؤر الشك و نقط الفراغ فيها‪،‬فل يجد المؤرخ العربي في‬
‫مثل هذه الحال ‪;š8‬غير الصدفة ملجأ تنقذه من ورطته ‪.‬هذا مع العلم أن العالم العربي يرفض مقدما مبدأ‬
‫الصدفة و ينبذه‪.‬‬
‫و لحافظ وهبة في كتاب " جزيرة العرب في القرن العشرين" ملحظات قيمة عن عقلية البدو العرب‬
‫المعاصرين في الجزيرة العربية‪ ،‬جاء فيه‬
‫"أما البدو‪ ،‬فهم القبائل الرحل المتنقلون من جهة إلى أخرى طلبًا للمرعى أو للماء‪ ،‬والطبيعة هي التي‬
‫تجبر البدوي على المحافظة على هذه الحياة‪ ،‬وحياة البدوي حياة شاقة مضنية‪ ،‬ولكنه وهو متمتع بأكبر‬
‫ي حياة مدنية أخرى‪ .‬هذه الحياة الخشنة هي التي جعلت القبائل يتقاتلون في‬ ‫قسط من الحرية يفضلها على أ َ‬
‫سبيل المرعى والماء‪ ،‬وهي التي جعلت سوء الظن يغلب على طباعهم‪ ،‬فالبدوي ينظر إلى غيره نظرة‬
‫العدو الذي يحاول أخذ ما بيده أو حرمانه من المرعى‪".‬‬
‫"إن البدوي في الصحراء ل يهمه إل المطر والمرعى‪ ،‬فأزمته الحقيقية انحباس المطر وقلة المرعى ول‬
‫يبالي بما يصيب العالم في الخارج ما دامت أرضه مخضرة‪ ،‬وبعيره سمينا وغنمه قد اكتنزت لحمًا وقد‬
‫طبقت شحمًا‪".‬‬
‫"أما إذا نما السكان وضاقت بهم الرض أو لم تجد أراضيهم بالمرعى‪ ،‬فليس هناك سبيل إل الزحف‬
‫والقتال‪ ،‬أو الهجرة إن كان هناك سبيل إليها‪ ،‬وكذلك القبيلة التي غلبت على أمرها وحرمت من مراعيها‬
‫وأراضيها ليس أمامها سبيل آخر سوى الهجرة‪.‬‬
‫"لقد كان البدو قبل ثلثين سنة في غارات وحروب مستمرة‪ ،‬كل قبيلة تنتهز الفرص للغارة على جارتها‬
‫لنهب مالها‪ ،‬وتعدد المارات وتشاحن المراء وتخاصمهم مما يشجع البدوي‪.‬‬
‫"وقد جرى العرف أن القبائل تعتبر الرض التي اعتادت رعيها‪ ،‬و المياه التي اعتادت أن تردها ملكًا لها‪،‬‬
‫ل تسمح لغيرها من القبائل الخرى بالدنّو منها إل بإذنها ورضاها‪ ،‬وكثيرا ما تأنس إحدى القبائل من‬
‫نفسها القوة فتهجم بل سابق إنذار على قبيلة أخرى و تنتزع منها مراعيها و مياهها‪".‬‬
‫"إن قبائل العرب ليسوا كلهم سواء في الشر و التعدي على السابلة و القوافل‪ ،‬فبعضها قد اشتهر أمره‬
‫بالكرم و السماحة و الترفع عن الدنايا‪ ،‬كما اشتهر بعضها بالتعدي و سفك الدماء بل سبب سوى الطمع‬
‫فيما في ايدي الناس‪".‬‬
‫ليس للبدوي قيمة حربية تذكر‪ ،‬و لذا كان اعتماد المراء على الحضر‪ ،‬فهم الذين يصمدون للقتال و‬
‫يصبرون على بلئه و بلوائه‪ .‬و كثيرا ما كان البدو شرا على المير المصاحبين له‪ ،‬فإن ذلك المير إذا ما‬
‫بدت الهزيمة كانوا هم البادئين بالنهب و السلب و يحتجون بأنهم هم أولى من العداء المحاربين")وهبة‬
‫ص ‪ 11‬و ما بعدها(‬
‫"و البدوي إذا لم يجد سلطة تردعه أو تضرب على يده يرى من حقه نهب الغادي و الرائح‪ ،‬فالحق عنده‬
‫القوة التي يخضع لها‪ ،‬و يخضع غيره بها‪ .‬على أن لهؤلء قواعد للبادية معتبرة عندهم كقوانين يجب‬
‫احترامها‪ ،‬فالقوافل التي تمر بأرض قبيلة و ليس معها من يحميها من أفراد هذه القبيلة معرضة للنهب‪،‬‬
‫ولذا فقد اعتادت القوافل قديما أن يصحبها عدد غير قليل من القبائل التي ستمر بأرضها و يسمون هذا‬
‫رفيقا‪.‬‬
‫ويضيف"و البدوي يحتقر الحضري مهما أكرمه‪ ،‬كما أن الحضري يحتقر البدوي‪ ،‬فإذا و صف البدوي‬
‫حضيري تصغيرا لشأنه‪.‬‬ ‫الحضري‪ ،‬فإنه في الغالب يقول ُ‬
‫و من عادة البدوي الستفهام عن كل شيء‪ ،‬و انتقاد ما يراه مخالفا لذوقه أو لعادته بكل صراحة‪ ،‬فإذا‬
‫مررت بالبدوي في الصحراء استوقفك و سألك من أين أنت قادم؟ و عمن وراءك من المشايخ و الحكام؟ و‬
‫عن المياه التي مررت بها ؟ وعن أسعار الغذية و القهوة؟ وعمن في البلد من القبائل؟ و عن العلقات‬
‫السياسية بين الحكام بعضهم و بعض‪.‬‬
‫و مع أن البدوي قد اعتاد النهب و السلب‪ ،‬فإنهم كثيرا ما يعفون عن أهل العلم خوفا من غضب ال عليهم‪،‬‬
‫و بعض البدو ل يحلف كاذبا مهما كانت النتيجة‪ .‬و البدوي ينكر إذا وجد مجال للنكار‪ ،‬و يفلت بمهارة من‬
‫الجابة عما يسأل‪ ،‬و لكن إذا وجه له اليمين و كان ل مفر له اعترف بجرمه إذا كان مذنبا‪ ،‬و ل يحلف‬
‫كذبا"‬
‫"وليس أعدل من البدوي في تقسيم الغنيمة حتى قد يتلفون الشيء تحريا للعدل‪ ،‬و يقسمون السجادة بينهم‬
‫كما يقسمون القميص لو السروال‪ ،‬كل هذا إرضاء لضمائرهم دفعا للضلم‪ ،‬إنهم يعرفون الخيام حق‬
‫المعرفة لنها بيوتهم التي يعيشون فيها‪ ،‬و مع ذلك فهم يقسمونها مراعاة للعدل‪ ،‬أما البل و الغنم فأنهم‬
‫يقسمونها إذا أمكن القسمة أو يقومونها بثمن إذا لم يكن هناك سبيل للقسمة"‪.‬‬
‫"و البدو ل يفهمون الحياة حق الفهم كما يفهمها الحضري‪ ،‬ل يفهمون البيوت و هندستها‪ ،‬ول يفهمون فائدة‬
‫البواب والنوافذ الخشبية‪ ،‬حتى أن البدو الذين كانوا في جيش الملك حسين في الثورة العربية كان عملهم‬
‫بعد الستيلء على الطائف نزع خشب النوافذ والبواب‪ ،‬ل لبيعها والنتفاع بثمنها بل لستعمالها وقودَا إما‬
‫للقهوة أو الطبخ أو التدفئة‪ .‬وبدو نجد قد فعلوا مثل ذلك تمامأ‪ ،‬فعندما أسكنت الحكومة بعض القبائل في‬
‫ل‪ ،‬اكتشفت الحكومة أن النوافذ الخشبية والبواب تنقص بالتدريج‪ ،‬وأنها استعملت للطبخ‬ ‫جْرَو ْ‬
‫ثكنة َ‬
‫وتحضير القهوة‪ ،‬فأخرجهم جللة الملك توًا من الثكنة‪ ،‬وأسكن الحضر فيها‪ ،‬والحضر بطبيعت;هم‬
‫يصفمون ما ل يفهمه جهلة البدو عن النوافذ والبواب‪.‬‬
‫"وللبدو مهارة فائقة في اقتفاء الثر‪ ،‬وكثيرًا ما كانت هذه المعرفة سببا في اكتشاف كثير من الجرائم ول‬
‫تكاد تخلو قبيلة من طائفة منهم‪.‬‬
‫"والقبائل العريقة المشهورة من حضر وبادية تحافظ على أنسابها تمام المحافظة وتحرص عليها كل‬
‫الحرص‪ ،‬فل تصاهر إل من يساويها في النسسب‪ ،‬والقبائل المشكوك في نسبها ل يصاهرها أحد من‬
‫القبائل المعروفة‪.‬‬
‫"أما حكام العرب‪ ،‬فيترفعون عن سائر الناس حضرهم وبدوهم‪،‬ل يزوجون بناتهم إل لقرباهم‪ .‬أما هم‬
‫فيتزوجون من يشاءون‪ .‬وطبقات الحكام يترفع بعضها على بعض‪ :‬الشراف يرون أنفسهم أرفع الخلق‬
‫بنسبهم‪ ،‬وآل سعود يرون أنفسهم أرفع من الشراف‪ ،‬وأرفع من سواهم من حكام العرب الخرين"‪ ).‬وهبة‬
‫ص ‪ 13‬و ما بعدها(‬

‫أما القرآن فقد وصف العرب بالغلظة والجفاء وبعدم الدراك وبالنفاق وبالتظاهر في اللسان بما يخالف ما‬
‫في الجنان‪:‬‬
‫ن في قلوبكم‪ ،‬وإن تطيعوا ال‬‫قالت العراب‪ :‬آمنا‪ ،‬قل‪ ،‬لم تؤمنوا‪ ،‬ولكن قولوا‪ :‬أسلمنا‪ ،‬ولما يدخل اليما ُ‬
‫ورسوله‪ ،‬ل يلتكم من أعمالكم شيئًا‪ ،‬إن ال غفور رحيم)الحجرات ‪(14‬‬
‫وممن حولكم من العراب منافقون ومن أهل المدينة َمَرُدوا على النفاق‪ ،‬ل تعلمهم‪ ،‬نحن نعلمهم‪ ،‬سنعذبهم‬
‫مرتين‪ ،‬ثم يرّدون إلى عذاب عظيم) التوبة ‪.(101‬‬
‫فالعرابي "البدوي"حسب القرآن إنسان ل يعتمد عليه‪ ،‬مسلم ومع ذلك يتربص بالمسلمين الدوائر‪ ،‬فإذا‬
‫خذل المسلمون في معركة‪ ،‬أو شعر بضعف موقفهم خذلهم وانقلب عليهم‪ ،‬أو اشترط شروطًا ثقيلة عليهم‪،‬‬
‫بحيث يجد فيها مخرجًا له ليخلص نفسه من الوضع الحرج الذي أصاب المسلمين‪.‬‬
‫فل يكلف نفسه‪ ،‬ول يخشى من مصير سيئ ينتظره إن غلب المسلمون‪.‬‬
‫ل يعلموا حدود ما أنزل ال على رسوله‪ ،‬و ال عليم حكيم‪ .‬ومن‬ ‫العراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر أ ّ‬
‫العراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء وال سميع عليم)التوبة ‪(98‬‬
‫سلْم في الغالب عن عقيدة وعن فهم‪ ،‬إنما أسلم لن رئيسه قد أسلم ‪.‬فسّيد القبيلة إذا آمن‬ ‫والعرابي لم ُي ِ‬
‫وأسلم‪ ،‬أسلمت قبيلته معه‪ .‬وقد دخلت قبائل برمتها في اِلنصرانية لدخول سّيدها فيها‪ .‬وقد وردت في سورة‬
‫الحجرات هذه اليات في وصف بعض العراب‪:‬‬
‫(قالت العراب آمنا‪ ،‬قل‪ :‬لم تؤمنوا‪ ،‬ولكن قولوا‪ :‬أسلمنا‪ ،‬ولما يدخل اليمان في قلوبكم‪ .‬وإن تطيعوا ال‬
‫ورسوله ل يلتكم من أعمالكم في شيئًا‪ .‬إن ال غفور رحيم‪ .‬إنما المؤمنون‪ ،‬الذين آمنوا بال ورسوله ثم لم‬
‫يرتابوا وجاهدوا بأم;والهم وأنفسهم في سبيل ال‪ ،‬أولئك هم الصادقون‪ .‬قل أتعّلمون ال بدينكم ؛ وال يعلم‬
‫ي إسلمكم‪،‬‬ ‫ما في السموات وما في الرض‪ .‬وال بكل شيء عليم‪ .‬يمّنون عليك أن أسلموا‪ .‬قل ل تمّنوا عل ّ‬
‫ن هداكم لليمان إن كنتم صادقين)الحجرات ‪ 14‬و ما بعدها(‬ ‫بل ال يمن عليكم‪ ،‬أ ْ‬
‫وقد استثنى القرآن بعض العراب مما وصمهم به من الكفر والنفاق والتربص وانتهاز الفرص فنزل‬
‫الوحي فيهم‪:‬‬
‫)ومن العراب من يؤمن بال واليوم الخر‪ ،‬ويتخذ ما ينفق قربات عند ال وصلوات الرسول‪ ،‬أل إنها‬
‫قربة لهم‪ ،‬سيدخلهم ال في رحمته‪ ،‬إن ال غفور رحيم)‪.‬التوبة ‪ 99‬ـ المصتف ‪ 1/280‬و ما بعدها(‬
‫وذكر أن الرسول وصفه "سراقة" وهو من أعراب "بني مدلج" بقوله‪:‬‬
‫"وان كان أعرابيا بّوال على عقبيه"‪).‬الغاخر‪ ، 64/‬بلوف الرب ‪(3/425‬‬
‫عَيْيَنة بن حصن" قائد "غطفان" يوم الحزاب ب "الحمق المطاع"‪.‬‬ ‫وأنه نعت " ُ‬
‫"وكان دخل على النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بغير إذن‪ ،‬فلما قال له أين الذن؟ قال ما استأذنت على‬
‫مضربي قبلك‪ .‬وقال‪ :‬ما هذه الحميراء معك يا محمد؟ فقال‪ :‬هي عائشة بنت أبي يكر‪ .‬فقال‪ :‬طلقها وأنزل‬
‫لك عن أم البنين‪.‬و هناك أمور كثيرة تذكر في جفائه‪ .‬أسلم ثم ارتد وآمن بطليحة حين تنبأ وأخذ أسيرًا فأتي‬
‫ن عليه ولم يزل مظهرًا للسلم على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته‬ ‫به أبا بكر‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬أسيرا فم ّ‬
‫حتى مات"‪.‬‬
‫والبدوي الذي تمكن "ابن سعود" أو غيره من الحكام من ضبطه بعض الضبط ومن الحد من غاراته على‬
‫الحضر أو على البدو ألخرين‪ ،‬هو البدوي نفسه الذي عاش قبل الميلد وفي عهد إسماعيل‪ ،‬والذي قالت‬
‫في حقه التوراة‪" :‬يده على الكل و يد الكل عليه"‪ .‬و هو سيبقى كذلك ما دام بدويا ترتبط حياته بالصحراء‪،‬‬
‫ينتهز الفرص كلما وجد وهنا في الحكومات وقوة في نفسه على أخذ ما يجده عند الخرين‪ ،‬وهو إن هدأ و‬
‫سكن‪ ،‬فلنه يجد نفسه ضعيفا تجاه سلطة الحكومة‪ ،‬ليس في استطاعته مقاومتها لضعف سلحه‪ ،‬فإذا شعر‬
‫بقوته لم يخش عندئذ أحدا ‪.‬المصنف ‪1/283‬‬

‫من الثوراة إلى القرآن مرورا بالملوك و الرؤساء و المفكرين و المؤرخين القدماء منهم و المعاصرين ‪،‬‬
‫العرب و غير العرب ؛ نجد أن النظرة إلى النسان العربي تكاد تكون نظرة واحدة موحدة‪،‬ل تختلف‬
‫باختلف الشخاص و ل الزمان ‪.‬فرضتها خصائص ثابتة في هذا النسان ل تتغير‪ ،‬إذا افتقد واحدة منها‬
‫افتقد خصوصيته و هويته العربية‪.‬‬
‫و من بين هذه الخصائص التي ترتكز عليها الشخصية العربية الكبر و الفخر بالباء و الجداد و الحساب‬
‫عَبّية قريش ‪ .‬و العبية هي الكبر و الفخر و‬‫و النساب‪.‬فقد عرفت قريش بالكبر و نعتت به حتى قيل‪" :‬هذه ُ‬
‫ل بالحرة‪،‬‬
‫منها عبية الجاهلية فقد ُروي أن الرسول أمر معاوية بإنزال "وائل بن حجر" الحضرمي منز ً‬
‫ي نعلك‪ ،‬قال‪ :‬ل‪ ،‬إني لم‬‫فمشى معه ووائل راكب وكان النهار حارًا شديد الحرارة‪ .‬فقال له معاوية‪ :‬ألق ال ّ‬
‫أكن للبسها وقد لبستها‪ .‬قال فاردفني‪ ،‬قال‪ :‬لست من أرداف الملوك‪ :.‬قال‪ :‬إن الرمضاء قد أحرقت قدمي‪،‬‬
‫قال‪ :‬ل يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك‪ .‬ولكن إن شئت قصرت عليك ناقتي فسرت في ظلها‪ .‬فأتى‬
‫عَبّية الجاهلية‪) .‬وفد حضرموت ـ طبقات ابن سعد ‪(1/349‬‬ ‫معاوية النبي‪ ،‬فأنبأه‪ .‬فقال‪" :‬إن فيه َلُعَبّية من ُ‬
‫و قد حاول السلم محاربة هذه العبية فذّمها و نهى عنها و لكنه من جهة أخرى كرسها بفتوحاته‬
‫عَبّية الجاهلية‪،‬‬
‫وغنائمه و تفضيله لعنصر قريش على سائر البشر‪.‬فقد ورد في الحديث‪ :‬أن ال وضع عنكم ُ‬
‫ظمها بآبائها‪ ،‬يعني الِكَبر"‪ ) .‬عبب ‪ ،‬تاج العروس ‪(1/574‬‬ ‫وتع ّ‬
‫كما يشكل الجهل المطبق ركيزة هامة في بناء شخصية النسان العربي و نخوته و فخره ‪ ،‬فالعربي تجده‬
‫ي بالسم‪ ،‬ل يعرف عن النصرانية في‬ ‫وثنيا ولكنه ل يفهم شيئًا من أمور الوثنية‪ ،‬و نصرانيا‪ ،‬لكنه نصران ّ‬
‫الغالب شيئًا‪ ،‬و مسلما ولكنه ل يعرف عن السلم إل السم ‪ ،‬ثم يفتخر بذلك الجهل و كأنه مزية ُيّتصف‬
‫ي رمي به العراب في بعضه‬ ‫بها‪ .‬ونجد في كتب آهل الخبار والدب قصصًا كثيرا بمثل هذا الجهل الذ ُ‬
‫حق وفي بعضه موضوع على سبيل التنكيت و التسلية‬
‫كما أن النسان العربي حقود‪ ،‬ل يرى أن يغفر ذنب من أساء إليه‪ .‬بل يظل في نفسه حاقدًا عليه حتى يأخذ‬
‫بثأره منه‪" .‬قيل لعرابي‪ :‬أيسرك أن تدخل الجنة ول تسيء إلى من أساء إليك ؟ فقال‪ :‬بل يسرني أن أدرك‬
‫الثأر وأدخل النار‪)".‬نهاية الرب ‪(6/96‬‬
‫و العربي إنسان عنصري يميز الناس حسب أعراقهم و ألوانهم و حسب تحضرهم و بداوتهم ‪.‬فهذا‬
‫الرسول الكرم كان يميز بين العراب و بين البادية‪ ،‬وهم الذين كانوا ينزلون أطراف القارة "القارية"‬
‫وحولهم‪ .‬فلما أهدت "أم سنبلة" السلمية لبنًا إلى بيت رسول ال‪ ،‬أبت عائشة قبوله‪ ،‬لن الرسول قد نهى‬
‫أهله عن قبول هدية أعرابي‪ .‬وبينما كانت أم سنبلة في بيته‪ ،‬دخل رسول ال‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا ؟ قالت عائشة‪:‬‬
‫يا رسول ال‪ ،‬هذه أم سنبلة أهدت لنا لبنًا‪ ،‬وكنت نهيتنا أن نقبل من أحد من العراب شيئًا‪ .‬فقال رسول ال‪:‬‬
‫خذوها‪ ،‬فان أسلموا ليسوا بأعراب‪ ،‬هم أهل باديتنا‪).‬ابن سعد ‪(8/615‬‬
‫ويفيد هذا الخبر ‪ ،‬أن الرسول يميز بين العرب البادية المقيمين حول "القارية" أهل الحاضرة‪ ،‬الذين هم‬
‫على اتصال دائم بالحضر‪ ،‬وبين العراب‪ .‬وهم البادون البعيدون عن أهل الحواضر‪ .‬فنهى عن قبول هدية‬
‫منهم‪ .‬وذلك بسبب جفائهم على ما يظهر ولنهم ل يهدون شيئًا إل طمعوا في رَد ما هو أكثر منه‪ .‬لغلظ‬
‫معاشهم وضيق تفكيرهم‪ .‬وآية ذلك ما ورد عنهم في القرآن ‪.‬‬
‫"ومّمن حولكم من العراب منافقون ومن أهل المدينة َمَرُدوا على النفاق‪ ،‬ل تعلمهم‪ ،‬نحن نعلمهم‪،‬‬
‫سنعذبهم مرتين‪ ،‬ثم يرّدون إلى عذاب عظيم") التوبة ‪(101‬‬
‫ل يعلموا حدود ما أنزل ال على رسوله‪ ،‬و ال عليم حكيم‪" .‬ومن‬ ‫"العراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر أ ّ‬
‫العراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء وال سميع عليم" )التوبة ‪(98‬‬
‫و من خصوصيات العرب المّنة ‪ ،،‬إذا فعلوا معروفًا بقوا يتحدثون عنه‪ ،‬ويمنون بصنعه فهم خشنون إذا‬
‫تكّلموا رفعوا أصواتهم‪ .‬وقد ّوبخهم القرآن وأّنبهم لفعلهم هذا‪ .‬فجاء فيه‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل ترفعوا‬
‫ل كجهر بعضكم لبعض‪ ،‬أن تحبط أعمالكم وأنتم ل‬ ‫ي ول تجهروا له بالقو ِ‬ ‫أصواتكم فوق صوت النب ّ‬
‫ل قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر‬ ‫ل أولئك الذين امتحن ا ُ‬
‫لا ِ‬‫تشعرون‪ .‬إن الذين يغضون أصواتهم عند رسو ِ‬
‫عظيم‪)".‬الحجرات ‪ 2‬و ما بعدها "يا أيها الذين صدقوا ال ورسوله ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول‬
‫ال تتجهموه بالكلم وتغلظون له في الخطاب‪)".‬لقمان ‪.(19‬و يقول الطبري" و كان من خشونتهم و‬
‫أعرابيتهم أن أحدهم إذا جاء الرسول فوجده في حجرته نادى‪ :‬يا محمد يا محمد!‪ .‬وذكر أن وفدًا من "تميم"‬
‫وفد على رسول ال‪ ،‬فوجده في حجرته‪ ،‬ونادى مناديه‪ .:‬اخرج إلينا يا محمد! فإن مدحنا زين وذّمنا شين‪.‬‬
‫أو‪ :‬يا محمد ! إن مدحي زين وإن شتمي شين‪ .‬فأنزل ال‪" :‬إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم ل‬
‫يعقلون‪ .‬ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم‪ .‬وال غفور رحيم‪) ".‬تفسير الطبري ‪(26/84‬‬
‫و يعرف العربي بماديته المفرطة و جشعه الكبير وطمعه الفظيع‪ .‬فهو يحارب معك‪ ،‬ثم ينقلب عليك‬
‫ويصير مع خصمك‪ ،‬إذا وجد في الجانب الثاني أنه مستعد لعطائه أكثر مما أعطيته‪.‬‬
‫فقد حاربوا مع الرسول ثم صاروا عليه و انتهبوا عسكره‪ ،‬و جاؤوا إليه فعرضوا عليه السلم‪ ،‬فلما أرادوا‬
‫العودة إلى بلدهم وهم مسلمون‪ ،‬وجدوا رعاًء للرسول‪ ،‬فانتهبوه وقتلوا حماته مع علمهم بأنه له‪ ،‬وأن‬
‫انتهاب مال المسلم حرام‪ ،‬فكيف بهم وهم ينتهبون مال رسول ال‪ .‬وقد ندد القرآن الكريم بطمعهم في الية‪:‬‬
‫ي‪،‬‬‫ـ قالت العراب آمنا‪ ،‬قل لم تؤمنوا‪ ،‬ولكن قولوا أسلمنا ـ‪ .‬فهؤلء قوم من بوادي العرب قدموا على النب ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬المدينة‪ ،‬طمعًا في الصدقات‪ ،‬ل رغبة في السلم‪ ،‬فسماهم ال تعالى العراب‪ ..‬و‬
‫مثلهم الذين ذكرهم ال في سورة التوبة‪ ،‬فقال‪" :‬العراب أشد كفرًا ونفاقًا"‪).‬عرب ـ اللسان ‪(1/586‬‬
‫وذكر عن "قتادة" قوله‪" :‬قالت العراب آمّنا‪ ،‬قل‪ :‬لم تؤمنوا‪ ،‬ولعمري ما عمت هذه الية العراب‪ .‬إ ّ‬
‫ن‬
‫ن يؤمن بال واليوم الخر‪ ،‬ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء العراب امتنوا بإسلمهم‬ ‫من العراب َم ْ‬
‫ي ال‪ ،‬صل ال عليه وسلم‪ ،‬فقالوا‪ :‬أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلن وبنو فلن‪ .‬فقال ال تعالى‪:‬‬ ‫على نب ّ‬
‫ل تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا"‪" .‬وقال أخرون‪ :‬قيل لهم ذلك لنهم مّنوا على رسول ال‪ ،‬صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬بإسلمهم‪ .‬فقال ال لنبّيه‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قل لهم لم تؤمنوا ولكن استسلمتم خوف السباء‬
‫والقتل‪ )".‬تفسير الطبري ‪(26/90‬‬
‫و يتصف العربي بالهوجائية فهو ل يعرف شيئا سوى القوة و ل يخضع لشيء إل لسلطانها‪.‬كما يعرف‬
‫بالتفاخر بنفسه و التباهي بشجاعته‪ ،‬إل أنه ل يصبر على طول القتال وجديته‪ ،‬ول يتحمل الوقوف طويل‬
‫في ساحة المعركة‪ ،‬لسيما إذا شعر أن القتال غبر متوازن‪ ،‬وان أسلحة خصمه أمضى و أقوى في القتال‬
‫من أسلحته‪ ،‬فيولي عندئذ الدبار‪ ،‬و ل يرى في هروبه هذا من المعركة شيئًا ول عيبًا‪.‬‬
‫وفي تأريخ معارك الجاهلية ولسيما في معاركهم مع العاجم ومع القوات النظامية العربية أمثلة عديدة‬
‫من هذا القبيل‪ .‬ففي الحروب التي وقعت بين المسلمين والفرس أو الروم‪ ،‬خذلت بعض القبائل المسلمين‪،‬‬
‫وتركتهم لما رأت جد القتال وأن ل فائدة مادية ستحصل عليها منه‪" .‬وقد كان انضم إلى المسلمين حين‬
‫ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام‪ ،‬فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى‪ ،‬و‬
‫خذلوا المسلمين"‪).‬الطبري ‪(3/5719‬‬
‫لقد فروا لنهم وجدوا أن القتال قد طال وأنه ِقتال جّد‪ ،‬و هم ل قبل لهم بالقتال الطويل الشديد الجّد‪.‬‬
‫فاختاروا الهروب دون إن يفكروا‪ ،‬في عقدهم الذي عقدوه مع إخوانهم في الجنس على القتال معهم‬
‫والستمرار فيه حتى النهاية‪ ،‬فإما نصر وإما هزيمة وموت وهلك‪.‬‬
‫ولكن طبيعة العراب ل تقيم وزنًا ول تعطي أهمية للعقود في مثل هذه المواقف‪ .‬إن رأت هواها في‬
‫القتال قد تغّير وتحّول‪ ،‬وأن المل في كسب مغنم قد تضاءل‪ ،‬انسحبت منه بعذر قد يكون تافهًا وبغير عذر‬
‫أيضًا‪ .‬وقد ل تنسحب‪ ،‬وإنما تبدل الجبهة‪ ،‬بأن تذهب إلى الجانب الخر فتحارب معه‪ ،‬وتقاتل عندئذ من‬
‫كانت تقاتل معه‪ .‬لنها وجدت أن الربح من هذا الجانب مضمون‪ ،‬وأن ما ستناله منه من فائدة أكثر‪ .‬وذاك‬
‫بعد مفاوضات سرية تجرى بالطبع‪ .‬وهذا ما أزعج الروم والفرس‪ ،‬وجعلهم ل يطمئنون إلى قتال العرب‬
‫معهم وفي صفوفهم‪ ،.‬فرموهم بالغدر‪ .‬فكانوا إذا كلفوهم بالحرب معهم عهدوا إليهم القيام فيها بأعمال‬
‫حربية ثانوية‪ ،‬أو النفراد بحرب العراب العداء الذين هم من أنصار الجانب الخر‪ .‬فقد حدث مرارًا أن‬
‫هرب العراب من ساحة القتال حين سعرت نار الحرب‪ ،‬وارتفع لهيبها‪ ،‬فأحدث هروبهم هذا ارتباكًا في‬
‫جانب من كان يقاتلون معه أدى إلى هزيمته هزيمة منكرة‪ ،‬لما أحدثه فرارهم هذا من فجوة في صفوف‬
‫المقاتلين‪ .‬وقد أشارت إلى هذه الحوادث مؤلفات الكتاب اليونان و اللتين‪ ).‬المصنف ‪.(4/295‬‬
‫ل ل يليق صدوره من إنسان‬ ‫والعربي صارم عبوس‪ ،‬إذا ضحك ضحك بقدر‪ .‬يكره الدعابة‪ ،‬ويرى فيها تبذ ّ‬
‫كريم‪ .‬بقي هذا شأنه حتى في السلم‪ .‬فلما وصف "أبو عبد ال المصعب بن عمد ال بن المصعب‬
‫الزبيري" "عبد ال بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر‪-‬الصديق" قال عنه‪" :‬كان امرؤًا صالحًا‪ ،‬وقد‬
‫عّد "الدعابة" من الشوائب التي تنقص المروءة‪ ،‬وتؤثر في‬ ‫كانت فيه دعابة"‪ .‬حتى أن من العلماء من َ‬
‫صاحبها‪ ،‬وتطعن فيه‪ ،‬فل تجعله أهل لن يؤخذ عنه الحديث‪ .‬أي جعلوه شخصا غير موثوق به‪).‬نسب‬
‫قريش ‪(278‬‬

‫ويعرف العربي بالفردانية و التطرف ‪ ،‬إلى درجة تجعله يقيس كل شيء بمقياس الفائدة التي يحصل عليها‬
‫من ذلك الشيء‪.‬و عرف في الوقت نفسه بخوفه من المعان في القسوة‪ ،‬ومن المعان في القتل‪ ،‬لما يدركه‬
‫من رد الفعل الذي سيحدث عند أعدائه ضده إذا تمكنوا منه‪ ،‬ومن نتائج الخذ بالثأر‪ .‬كما عرف عن العربي‬
‫ميله إلى المبالغة‪ .‬المبالغة في كلمه‪ .‬والمبالغة في إعطائه إذا أعطى‪ ،‬والمبالغة في مدح نفسه‪ ،‬والتباهي‬
‫بشجاعته و بكرمه و بشدة صبره إلى غير ذلك‪ ،‬مع وجود تناقض فيه بالنسبة إلى دعاويه هذه‪ .‬والعربي‬
‫يحب المديح كثيرًا‪ ،‬وهو على حّد قولهم‪ .‬إذا أعطى‪ ،‬صور ذلك غاية الجود‪ ،‬وبالغ فيه‪ ،‬ويظل يذكره في‬
‫كل وقت ويحب إن يطرى عليه‪) .‬المصنف ‪(298‬‬

‫ويفضل العربي فقر البادية وغلظ معاشها وشحها‪ ،‬ويحن إليها‪ ،‬ول يصبر عن فراقها‬
‫‪ .‬قال الجاحظ‪" :‬وترى العراب تحن إلى البلد الجدب‪ ،‬والمحل القفر‪ ،‬والحجر الصلد‪ ،‬وتستوخم الريف"‪.‬‬
‫)رسالة في الحنين إلى الوطان ـ من رسائل الجاحظ ‪ 2/388‬تحقبقعبد السلم هارون(‬
‫"واعتل أعرابي في أرض غربة‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما تشتهي? فقال‪ :‬حسل فلة‪ ،‬و حسو قلت"‪) .‬نفس المصدر‬
‫‪(390‬‬
‫ويروى إن "ميسون بنت بحدل" الكلبية‪ ،‬زوجة معاوية‪ ،‬كانت تحن إلى وطنها‪ ،‬وقد سمعها زوجها وهي‬
‫تنشد أبياتًا في شوق وحنين إلى البادية‪ ،‬فخيمتها التي تلعب الرياح بها‪ ،‬خير عندها وأحب لها من العيش‬
‫في قصر منيف‪ ،‬ورجل من بني عمها نحيف أحب إليها من "علج عليف"‪ ،‬أي حضري سمين من كثرة‬
‫الكل‪).‬بلوغ الرب ‪ 3/426‬و ما بعدها(‬
‫‪.‬‬
‫و الحضري من العرب يسخر من البدوي ويضحك عليه لحنينه إلى باديته‪ .‬ولما استظرف "الوليد بن عبد‬
‫الملك" أعرابيًا واستملحه‪ ،‬فأبقاه عنده وسأله عن سبب حنينه إلى وطنه أجابه جوابًا خشنًا‪ ،‬مثل جفاء‬
‫العراب وصلفهم‪ .‬فقال الوليد‪ ،‬وهو يضحك‪ :‬أعرابي مجنون‪).‬بلوغ الرب ‪ (3/433‬ولم يتأثر منه‪ ،‬لنه‬
‫أعرابي‪ ،‬والعرابي في حكم المجانين‪ .‬وقد سقط حكم القلم عنه‬
‫هذه إذا هي حياة العرب حياة تكاد تكون حياة واحدة ل تغير فيها ول تبدل‪ ،‬فهي على وتيرة واحدة‪ ،‬على‬
‫تعدد القبائل‪ ،‬وابتعاد مواضع بعضها عن بعض‪ .‬ذلك لن الظروف المخيمة عليهم‪ ،‬ظروف واحدة ل‬
‫اختلف فيها ول تبدل‪ .‬إل ما كان منها بالنسبة إلى عرب الضواحي والحواضر و الحدود‪ ،‬فان ظروفهم‬
‫تختلف عن هؤلء‪ ،‬ومجال تفكيرهم أوسع من مجال تفكير أعراب نجد و ما والها من أرض الجزيرة‬
‫جنوبا‪.‬و ذاك بسبب نوع المعيشة المتغير‪ ،‬المتصل بالرض‪ ،‬وقربهم من الحضر‪.‬‬
‫ي عنها في الكتب‪ ،‬وجدنا‬ ‫يقول جود علي ‪:‬ولو درسنا حياة القبائل في الجاهلية وجمعنا دراستنا من المرو ّ‬
‫أن بين الماضي البعيد وبين الحاضر شبهًا في نمط الحياة‪ ،‬وان ما ذكرته عن قبائل الجاهلية يكاد ينطبق‬
‫على حياة قبائل البادية في وقتنا هذا‪ ،‬ذلك لن الظروف والمؤثرات بالنسبة إلى حياة العراب الممعنين في‬
‫البادية ل تزال كما كانت عليه‪ .‬ولكنها سوف لن تبقى على ما هي عليه و إلى أبد البدين بالطبع‪ ،‬لن التقدم‬
‫الحضاري والكتشافات المادية‪ ،‬قد آخذت تغزو العراب وتضيق الخناق عليهم‪ ،‬لتغير من حالهم‪ .‬فبعد أن‬
‫كان البدو قوم غزو‪ ،‬أكرهتهم الحكومات القوية على البتعاد عن الغزو ونبذه‪ ،‬حتى اضطروا إلى توديعه‬
‫إن البد أو كادوا وصاروا مغزّوين‪ ،‬تغزوهم الحضارة الحديثة واللّيات بما ل قبل لهم بمقاومته‪ ،‬لتفوق‬
‫الغزو الجديد عليهم‪ .‬وهم سيكونون ول شك بمرور الوقت على شاكلة النصف الخر من العرب‪ .‬أي‬
‫إخوانهم الحضر‪ .‬يوائمون أنفسهم مع التطور الجديد‪ .‬وسوف يبدل هذا من حياتهم ول شك‪ ،‬ومن أهم ما‬
‫سيفعله فيهم‪ ،‬تحويل حياتهم من حياة غير مرتبطة بالرض‪ ،‬إلى حياة ترتبط بها ارتباطا وثيقًا‪ ،‬فتتحول‬
‫البداوة عندئذ إلى حضارة‪ ،‬وسيشعر العرابي عندئذ انه مواطن له ارض ووطن وقوم هم إخوة له‬
‫يشعرون بشعوره‪ .‬وأن من يعزل نفسه عن العالم‪ ،‬فلن يعزل بذلك إل نفسه‪ ،‬ولن يضر إل بصالحه‪ .‬وان‬
‫النسان بغير عمل ول إنتاج‪ ،‬إنسان تافه ل قيمة له‪ .‬وأن العنتريات و الُعَبّية الجاهلية من جملة مؤخرات‬
‫الحياة في كل الزمنة والوقات" المفصل ‪(4/302‬‬

‫‪ 3‬ك ككككك كككككككك ك ككككككك كككككك‬

‫ل في جزيرة العرب‪،‬حيث الطبيعة تحتضن الفراغ‬ ‫الطبيعة تخاف الفراغ و التاريخ ل يقبل الصدف‪،‬إ ّ‬
‫السطوري ‪ ،‬و التاريخ يستلقي على سرير القدر‪...‬مكة ‪،‬حسب خرافات العرب‪ ،‬لم يبنها بشر‪...‬إنما ال‬
‫‪،‬منذ البدء أوجد مكة على صورة لها في السماء"حيث البيت المعمور يدخله كل يوم و ليلة سبعون ألف‬
‫ملك " )الزرقي ‪ ،‬أخبار مكة ‪، (1/34‬قال مجاهد ‪:‬لقد خلق ال موضع البيت قبل أن يخلق شيئا من‬
‫الرض بألفي سنة "و قال كعب الحبار "كانت الكعبة غثاء على الماء قبل أن يخلق ال السماوات و‬
‫الرض بأربعين سنة" و عن ابن عباس قال"لّما كان العرش على الماء‪...‬بعث ال ريحا‪...‬و دحا الرض‬
‫فمادت ثم مادت‪...‬فكانت مكة أم القرى"‪)..‬الزرقي‪ ،‬أخبار مكة‪1/32 ،‬ـ ‪35‬؛‪78‬ـ ‪.(79‬و العجب العجاب‪،‬‬
‫أن عمران ال الذي شيده بيديه المقدستين تهّدم و اندثر‪...‬و إبراهيم هو من أعاد بناء الكعبة‪ .‬هو وابنه‬
‫إسماعيل‪...‬و عندما وصل إلى المنطقة المباركة لم يجدا للعمران اللهي أي أثر‪...‬لم يجدا منزل و ل حجرا‬
‫و ل طريقا معبدة و ل أي شاهد على عمران الواحد القهار‪...‬فهل هذا مما يعقل؟؟‪ ...‬هل يعقل أن يصمد‬
‫العمران البشري الذي شّيده إبراهيم في حين عمران العلي القدير اندثر؟؟ الطبيعة ل تقبل الفراغ ‪ ،‬و‬
‫التاريخ ل يقوم بالصدف‪ ،‬و ال ل يبني العشاش لبني البشر‪.‬مكة لم يبنها بشر‪..‬و القرآن لم يكتبه بشر‪..‬و‬
‫ل دولة المسلمين أنشأها البشر‪...‬إنما كل شيء في عرف العرب يتم بالصدفة و العناية الربانية و هذا ما‬
‫تأباه العقول و ليس له في اللباب مقر‪ ...‬أما العوامل الخارجة عن الجزيرة فلها اليد العليا في كل ما جرى‬
‫و يجري في بلد العرب و يعزوه المشدوهون و المبهورون إلى ال و الصدفة و القدر‪.‬‬
‫لقد كان هناك تنافس قوي و صراع مرير بين كل من الفرس و مواليهم من عرب ما بين النهرين من جهة‪،‬‬
‫و الروم و مواليهم من عرب الشام‪،‬من جهة ثانية‪،‬والحبشة وأتباعهم من أهالي اليمن من جهة ثالثة؛من‬
‫أجل السيطرة على القاليم الصحراوية وسط الجزيرة العربية )نجد و تهامة و الحجاز(‪ ،‬و تحديد‬
‫مصيرها‪ .‬ما حذا بالمنطقة؛و في ظل الحفاظ على مصالح كل جهة فيها‪ ،‬و حتى ل تتضرر الطرق‬
‫التجارية المارة منها؛لتصبح منطقة عازلة منزوعة السلح‪ .‬و الملحظ أن المبراطور فيليب العربي الذي‬
‫جه أنظار الرومان إلى الطريق المخترقة للصحراء‪،‬‬ ‫حكم روما ما بين ‪ 204‬و ‪ 249‬للميلد كان أول من و ّ‬
‫و أن التجار الرومان بدأوا في استعمالها منذ عهده‪ .‬و ذلك‪ ،‬لصعوبة المسالك البحرية في البحر الحمر و‬
‫سيطرة الساسان على الخليج الفارسي‪ .‬و الملحظ أيضا‪ ،‬أن هذه التجارة كانت تكبر و تزدهر في فترات‬
‫السلم ‪،‬وأن أطول مدة سلم بين الفرس و الرومان كانت ما بين ‪ 384‬و ‪502‬م‪.‬حيث شهدت هذه الطريق‬
‫أزهى و أطول فترات ازدهارها‪ .‬فل الصدفة و ل ال و ل وعورة الصحراء أو اشتغال المبراطوريتين‬
‫بالحروب فيما بينهما ‪،‬كانت هي العوامل التي نأت بهذه المنطقة عن الحروب‪ ،‬و حالت دون استعمارها‬
‫من طرف إحدى المبراطوريتين‪...‬إنما هي المصالح العليا التي اقتضت عزل صحراء العرب و تسخير‬
‫أهلها في عمليات الربط و التواصل بين المبراطوريتين والسخرة و حماية الحدود و التخوم‪.‬‬
‫و كان الرومان أكثر الطراف اهتماما بجزيرة العرب‪.‬فالمبراطورية الحبشية كانت تهيمن على بحر‬
‫الحبشة الممتد من القرن الفريقي إلى الهند ‪ ،‬بجزره و سواحله‪ .‬و تحتكر تجارتها البرية صحراء صعيد‬
‫مصر التي تربط الحبشة )أكسوم( ‪ ،‬بالبحر البيض المتوسط‪..‬أما فارس فتلك كانت جارة لممالك الهند و‬
‫الصين ‪ ،‬و تسيطر على بحر عمان و الخليج الفارسي‪..‬أما البحر العربي ) الحمر( فكانت فيه الملحة‬
‫شبه مستحيلة بالنسبة للسطول الروماني ‪ ،‬و بالخصوص في مناطقه الوسطى‪ .‬لذا كان الرومان يراهنون‬
‫أكثر من غيرهم على الطريق التي تمر بيثرب و مكة ‪ ،‬و تصل بلد الشام بنجران التي كانت مستعمرة من‬
‫طرف الحباش‪ ،‬من جهة‪،‬و ممالك اليمن السعيد و خليج عدن ‪،‬من أخرى‪ .‬فبتواطؤ من الحباش‬
‫النصارى‪ ،‬و مساهمة من ممالك حمير و حضر موت و مشاركة عرب الشام و تخوم الرومان أسست‬
‫الرومان أسطول تجاريا هاما تمّوله القسطنطينية و يسهم فيه اليمنيون و الحباش‪ ،‬و يسهر على أمنه‬
‫عرب الشام ومرتزقة البدو المنتشرون في البادية على شكل تجمعات قبلية و عصابات و عشائر‪ ،‬تترحل‬
‫طلبا للكل و الماء‪ .‬فأثارت الحركة الطارئة الجديدة على ساحل الصحراء انتباه العراب المترحلين و‬
‫القبائل الممحلة بالمنطقة ‪ ،‬بالضافة إلى مجاميع الخلعاء والصعاليك المنتشرين في أصقاع الصحراء‪ ،‬ما‬
‫جعلهم يرابضون على طول الممرات و المفاوز التي تقطعها هذه القوافل‪ ،‬يتربصون بها ليغيروا عليها أو‬
‫ليرتزقوا منها‪.‬فنشأت بذلك حركة القرصنة الصحراوية التي أدت إلى عقد أول اتفاق في التاريخ بين شيوخ‬
‫و أعيان القبائل العربية و فيليب العربي إمبراطور الرومان‪.‬والتي سيستغلها محمد فيما بعد ‪،‬في عملية‬
‫إنشاء دولته الكبرى‪.‬‬
‫في هذه الثناء كانت بين تلل و أودية الحجاز الفاصلة بين الشام و نجران تتلل عين ماء تجدب إليها‬
‫ب على الرمال القاحلة‪.‬كانت العين تقبع في‬ ‫الراحل و المسافر‪ ،‬فيقصدها الطائر في الجواء الحارة‪ ،‬و الّدا ّ‬
‫قرطاس من الخرافات و الساطير‪...‬فهي بئر زمزم التي يقال حفرها إسماعيل‪ ،‬جوار كومة الحجار‬
‫المكدسة في شكل بيت مكعب يقال‪ ،‬بناه إبراهيم‪ ،‬و سمي ببيت ال الحرام‪...‬و نحن نعلم‪ ،‬إنما المدن تنشأ‬
‫على ضفاف النهار و مصابها‪،‬و على سواحل البحار و على مفترقات الطرق‪..‬و زمزم ماء على ملتقى‬
‫طريقين ‪،‬طريق تربط الشام بنجران و أخرى تربط يثرب بساحل بحر العرب)الحمر(‪..‬فل ال و ل‬
‫إبراهيم‪ ،‬لي أحد منهما اليد في إنشاء مكة‪..‬إنما هي الحاجة الموضوعية و الضرورة الملحة ما حذا‬
‫بمحترفي و مستكشفي هذه الطريق إلى إحداث هذا المكان‪ ،‬الذي هو عبارة عن منتجع ضيق بين جبال ‪ ،‬به‬
‫بئر و ظلل و يتوسطه خان بدائي يضع فيه الزوار و خصوصا أصحاب القوافل رحلهم‪،‬و ينتجعون‬
‫الظلل حوله‪ .‬فنسجوا حوله مع اليام هالة من الساطير و المخاريق‪ ،‬و أحاطوه بالقدسية و الجلل‬
‫ليوقعوا الهيبة منه في نفوس السذج من العرب الممتنعين في الجبال و المنتشرين على الطرقات‪.‬و جعلوا‬
‫له حراسا و نساكا يأخذون أجورهم ‪.‬أما إبراهيم أبو النبياء و رمز العقوق و الصعلكة فتلك شخصية‪ ،‬تبقى‬
‫أسطورية من وحي خيال التوراة إلى إشعار آخر‪..‬ذلك أن الدراسات العلمية و البحاث الركيولوجية‬
‫العديدة التي أجريت في بلد ما بين النهرين و فلسطين أثبتت جميعها عدم تاريخانية إبراهيم‪ ،‬الشخصية‬
‫النجيلية الذي جعله سفر التكوين الجد الكبر لبني إسرائيل و العرب و أب الموحدين )أنظر‪ :‬أبراهام ‪،‬‬
‫موسوعة ويكيبيديا ‪ ،‬فرنسية(‪.‬كما أن زمزم و كعبته ‪ ،‬من جهة أخرى لم يكونا في واد غير ذي زرع كما‬
‫يدعي القرآن‪ .‬إنما الوادي كان معشوشبا خصبا ظليل‪ ،‬و أنه لم يصبح غير ذي زرع إل بعد ظهور‬
‫السلم‪ .‬فلدينا من الخبار ما يفيد أنه " قد كان حول الحرم شجر ذو شوك نبت من قديم و كّون غوطة‪،‬‬
‫فقطعها عبد مناف بن قصي‪ ،‬و هو أول من بنى دارا بمكة‪ ،‬و لم تبن دار قبلها‪،‬بل كان بها مضارب للعرب‬
‫من الشعر السود‪).‬نزهة الجليس‪.(1/24 ،‬و عند غربلته لروايات الخباريين المتقدمة عن سعة الحرم و‬
‫زمان بناء الدور بمكة استنتج جواد علي أن باطن مكة‪ ،‬و هو الوادي الذي فيه البيت‪ ،‬كان حرما آمنا‪ ،‬ل‬
‫بيوت فيه‪ ،‬أو أن بيوته كانت قليلة حصرت بسدنة البيت و ممن كانت له علقة بخدمته‪.‬لذلك نبت فيه‬
‫الشجر حتى غطى سطح الوادي‪ ،‬من السيول التي كانت تسيل إليه من الجبال‪.‬و لم يكن في وسع أحد‬
‫التطاول على ذلك الشجر‪ ،‬لنه شجر حرم آمن‪.‬و بقي هذا شأنه يغطي الوادي و يكسو وجهه بغوطة حتى‬
‫جاء قصي‪.‬فتجاسر عليه بقطعه‪..‬و خاف الناس من فعله ‪ ،‬خشية غضب رب البيت‪ ،‬و نزول الذى بهم إن‬
‫قطعوه‪ .‬فلما وجدوا أن ال لم يغضب عليهم‪ ،‬و أنه لم ينزل بهم سوءا‪،‬اقتفوا أثره‪ ،‬فقطعوا الشجر‪ ،‬و‬
‫استحوذوا على الرض الحرام)المصنف ‪.(4/53‬و سيبقى هذا الغطاء النباتي منتشرا بالرض الحرام حتى‬
‫مجيء السلم و نزول القرآن‪.‬إذ " يتبين من خطبة الرسول عام الفتح و يوم دخوله البيت الحرام و قوله ‪:‬‬
‫ل يخلى خل مكة و يعضد شجرها ‪..‬أن حرم مكة كان ل يزال ذا شجر‪ .‬و لم يكن قد قطع تماما منه في أيام‬
‫الرسول‪)..‬نفس المصدر أعله(‬
‫كان الوادي إذا ‪،‬عبارة عن واحة ظليلة كثيفة الشجر الذي في ظلله ينصب التجار و المنتجعون خيامهم‬
‫بعد أن يستودعوا خان زمزم أمتعتهم‪.‬وتحيط بالوادي جبال و تلل و أودية من كل جانب ُتؤوي أطيافا من‬
‫البشر في غالبيتهم من البدو و الحابيش و الخلعاء و المطرودين من بلدان منشئهم‪".‬هؤلء يسميهم القرآن‬
‫بالراذل و الذلة و الرذلين‪ ،‬وفيهم الفقير و اليتيم و المسكين و ابن السبيل و المحتاج‪ ،‬أما كتب السير و‬
‫الخبار فتنعتهم بالصعاليك و الخلعاء و الطرداء و الخلطاء و لصوص البادية و ذؤبان العرب و الشياطين‬
‫و الفتاك و غير ذلك )تاريخ الواقدي ‪ 457،‬؛ تاريخ الطبري‪ 1/1438 ،‬؛ الغاني ‪ 8/65‬؛ النهاية لبن‬
‫الثير ‪ 2/52‬ـ ‪ 63‬؛أسد الغابة في أسماء الصحابة‪.(5/178،‬فأهل الخبار كلهم يجمعون على أن سكان‬
‫الوادي إنما نزحوا إليه من" مختلف أنحاء الجزيرة المسماة عربية و من الهلل الخصيب و من اليمن و‬
‫بلد فارس و الروم و من مصر و الحبشة و السودان و من فينيقيا و فلسطين و بلد الشام‪،‬واختلطهم هذا‬
‫أدى إلى زرادشتيون مجوس كما كان في لغاتهم الحميرية و المسند و الثمودية و اللحيانية و الديدانية و‬
‫النبطية و الحبشية و الرومية و اليونانية و العبرانية و الرامية و العربية " )تاريخ اليعقوبي‬
‫‪.(1/254‬هؤلء النازحون إلى أصقاع الصحراء القاصدون لهذا الوادي عاش معظمهم عشائر و أفرادا‪،‬‬
‫فسكنوا على طرق القوافل التجارية بحثا عن لقمة العيش‪،‬إما بواسطة عمل ينالون أجره و إما بواسطة‬
‫النهب و السلب و الغزو‪.‬و جلهم عاش حوالي الكعبة و بالقرب منها‪ ،‬أو على الطريق الممتد بين مكة و‬
‫المدينة و وادي القرى و تيماء مرورا بالبتراء حتى بلد الشام‪ .‬هكذا أنشأت هذه الوفود التجمعات الهائلة و‬
‫انتشرت من حوالي خان زمزم مستفيدة من مكانته الخرافية و موقعه التجاري‪.‬‬
‫أما عن تاريخ مكة في السير وعند أهل الخبار‪،‬فإن الناس قد عادوا إليها بعد الطوفان‪ ،‬فقامت فيها قبائل‬
‫عديدة‪ ،‬و كان أول من اشتهر منهم ‪ ،‬بعلم المؤرخين المسلمين‪ ،‬قبائل يمنية أفسدت الرض و ما‬
‫عليها‪،‬عرف منها قبيلتا ‪ :‬جرهم و قطورا‪ .‬هاتان جاءتا في الوقت الذي جاء فيه إبراهيم )العاق( و ابنه‬
‫إسماعيل )اللقيط( من بلد الكلدانيين‪.‬و نكح إسماعيل في جرهم‪ ...‬و لما توفي إسماعيل تولى أمر البيت‬
‫بنوه ابتداء بنابت أكبرهم ثم مضاض بن عمرو الجرهمي خال أولد إسماعيل‪،‬ثم تنافست جرهم و قطورا‬
‫في الملك‪،‬و تداعوا إلى الحرب ‪،‬فانهزمت قطورا؟؟‪ ،‬ثم تداعوا إلى السلم‪ .‬ثم أن جرهم بغت في مكة‬
‫فاستحلوا حراما‪ ،‬و ظلموا من دخلها و أكلوا مال الكعبة ‪.‬في هذه الثناء جاء العماليق من سيناء هربا من‬
‫وجه موسى الذي حاربهم و طردهم إلى نواحي مكة‪.‬فسكنوا مع جرهم الذين ملكوا و استبدوا‪.‬ثم هجرت‬
‫خزاعة قبيلة أخرى من اليمن و فرع من الزد عقب خراب سد مأرب‪ ،‬و وقع بين خزاعة من جهة و‬
‫جرهم و العماليق من جهة ثانية معارك فكان النصر لخزاعة التي وليت البيت ثلثمائة سنة‪ ،‬يتوارثون ذلك‬
‫كابرا عن كابر حتى آخرهم حليل بن حبشية )معجم البلدان ‪ 185 /5 ،‬ـ ‪ (187‬الذي تزوج قصي بن كلب‬
‫بنته حبى بنت حليل‬
‫هذه هي الوضاع المزرية المخيفة التي كانت ترقبها القسطنطينية بعين من الريبة و الحذر و التريث‪.‬هذه‬
‫هي الوضاع المقلقة التي كانت تقض مضجع الروم‪ ،‬و تجعلهم غير آمنين على مستقبلهم السياسي و‬
‫مستقبل أوطانهم‪.‬فطالما أن المنطقة غير آمنة‪،‬ل برا و ل بحرا‪،‬فإن هذا يشكل خطرا حقيقيا يهدد بيزنطة‬
‫في الصميم ‪ ،‬خصوصا و أنها تعيش على إيقاع حروب ل تنهي في الغرب حيث ظهرت أقوام منافسة مثل‬
‫برابرة الجرمان و الوندال و ظهور الفرانك في بلد الغال بالضافة إلى المعارك التي ل تنتهي على حدود‬
‫الساسان‪.‬و ل يغيب عن الذهان ما كانت تشهده بيزنطة داخليا ‪ ،‬مع ظهور اليعقوبية و النسطورية و الفرق‬
‫الدينية المختلفة و اشتغال البلد و العباد بالهرطقة ‪ ،‬من تمزق اجتماعي و انقسام في الصفوف‪.‬لم تستطع‬
‫القسطنطينية فتح جبهة أخرى للحرب ‪ ،‬و كانت رغبتها ملحة في السيطرة على أوضاع خان زمزم و‬
‫تأطير هذه الحركة الناشئة الخطيرة و المنفلتة عن أي سيطرة و الخارجة عن كل العراف و القواعد‪..‬في‬
‫هذا الطار كلفت القسطنطينية عملءها من الغساسنة بالتدخل الحاسم الذي من شأنه التحكم في الوضاع‬
‫داخل الصحراء و استتباب المن ‪ ،‬و ضمان حسن سير الطرق و المدادات التجارية على المد البعيد‪ ،‬و‬
‫يمّكن‪،‬بالتالي ‪ ،‬من التقرير في مصير المنطقة و السيطرة عليه‪.‬و كانت دولة الغساسنة في هذه الثناء دولة‬
‫قوية الشوكة شبه مستقلة‪،‬و كانت تبسط نفوذها على المنطقة الممتدة من صحراء سوريا شمال‪ ،‬إلى حدود‬
‫يثرب جنوبا‪ .‬و كانت تتخذ مدينة جباليا بالجولن عاصمة ‪ ..‬كما كانت غسان تتربع على عرش تجارة‬
‫الشرق الوسط‪ ،‬و يشهد على ذلك ما خلفته غسان من عمران و آثار و وثائق تشهد لها على مكانتها‬
‫التجارية‪ ،‬عكس مكة و أهلها الذين ل نتوفر على أي دليل مادي يدل على أنهم كانوا يحتكرون التجارة‬
‫العالمية قرنين من الزمن اللهم ما نستقيه من أخبارهم و سيرهم‪.‬‬
‫و لعلمهم بالمنطقة و وعورتها‪ ،‬و خان زمزم و قدسيته لدى السذج‪ ،‬و بالبدو و همجيتهم ‪ ،‬فقد آثرت غسان‬
‫عدم التدخل المباشر و المغامرة بالمال و الرجال‪،‬فانتدبت للمأمورية سرية على رأسها مرتزق من‬
‫ضواحي تبوك يعرف بانتمائه من جهة أمه إلى إحدى قبائل البدو في الحجاز‪ ،‬يلقبونه هناك بالقرشي و‬
‫اسمه زيد بن كلب الذي يدعوه أهل الخبار قصيا‪.‬فقد سأل عبد الملك بن مروان محمدا بن جبير ‪ ،‬متى‬
‫سميت قريش قريشا ؟قال‪:‬حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها‪ ،‬فذلك التجمع التقرش‪.‬فقال عبد الملك بن‬
‫مروان‪ :‬ما سمعت هذا ‪ ،‬و لكن سمعت أن قصيا كان يقال له القرشي‪.‬و لم تسم قريش قبله‪).‬الطبري‬
‫‪ 2/264‬و ما بعدها ؛ المفصل ‪.(4/25‬لم تكن بعثة فصي اعتباطية و ل ارتجالية‪ ،‬إنما جاءت نتيجة دراسة‬
‫متأنية للوضع و تهيئ ما يليق به من خطة بليغة‪ ،‬ثم اختيار الشخص المناسب و الوفت المناسب‪.‬و كانت‬
‫الخطوة الولى أحسم خطوة لما نسبوا قصي إلى كعب بن لؤي‪.‬فقالوا هو قصي أو زيد بن كلب بن مرة‬
‫ين كعب بن لؤي)ابن الثير‪،‬الكامل ‪ ، 2/8‬ابن سعد ‪ ،(1/68‬و قالوا هو قصي بن كلب بن مرة بن كعب‬
‫بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار‬
‫بن معد بن عدنان)الطبري‪ ، 2/661،‬تاريخ السلم للذهبي ‪،1/18‬أبو الفدا‪،‬المختصر ‪.(1/112‬و كعب بن‬
‫لؤي هو أهم شخصية في هذه السلسلة لدى مبرمجي الخطة لما سمعوا من محاولته المبكرة توحيد أشتات‬
‫الذين يسمون قريش المفسدين في البلد و تأطيرهم و السيطرة عليهم‪.‬يذكر أهل الخبار أن مكة لم تكن‬
‫ذات منازل‪ ،‬و كانت قريش بعد جرهم و العمالقة ينتجعون جبالها و أوديتها و ل يخرجون من حرمها‬
‫انتسابا إلى الكعبة لستيلئهم عليها و تخصصا بالحرم لحلولهم فيه‪،‬و لّما كان كعب بن لؤي بن غالب جمع‬
‫قريشا و صار يخطب فيها كل جمعة‪ ،‬وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية "عروبة" فسماه كعب‬
‫الجمعة‪.‬و بذلك ألف بين قريش حتى جاء قصي ففعل ما فعل )الحكام السلطانية ‪.. ( 162‬فجرهم و‬
‫العمالقة‪ ،‬إذا‪ ،‬و بنو خزاعة و كنانة بعدهم‪ ،‬و جميع من تجّمع حول مكة لم يكونوا يسكنون البطاح‬
‫المعشوشبة جوار البيت‪..‬إنما كانوا ينتجعون الجبال المجاورة و الطم‪ ،‬و ينتشرون على جنبات الطرقات‬
‫و السبل المؤدية إلى مكة‪ ،‬قصد تسّول القروش‪.‬فكانوا كلما مرت بهم قافلة أو أفراد أو جماعات‪ ،‬ينادون‬
‫عليهم ‪ :‬من فضلك يا قاصدا البيت قرشا‪..‬هاي ‪ ،‬قرشا من فضلك‪ ..‬و كانوا يحبون القروش حّبا جما‪ ،‬و‬
‫يجمعون المال لّما لّما‪..‬فتراهم يلحفون في الطلب‪ ،‬و طالما تبعوا الزوار لمسافات طوال‪ ،‬و هم ينادون ‪:‬‬
‫قرشا من فضلك!‪ ..‬قرشا من فضلك!‪...‬حتى أضحوا يصرونه استقلل من قيمته فيقولون‪ :‬أي!!! ولو‬
‫قريشا‪،‬حفظتك اللت!!‪...‬قريشا من فضلك!!‪...‬فمنذ أن يدخل المسافر أرض الحجاز‪،‬سواء من شمالها أو‬
‫من جنوبها‪،‬ل تكف أذناه عن سماع قريش من فضلك قريش من فضلك‪.‬فما كان من التجار و محترفي هذه‬
‫الطريق يوميا إل أن أطلقوا على هؤلء القوم لقب محبي القريش ‪،‬على وزن محبي الحكمة؛ أو أحباب‬
‫القريش‪ .‬ثم رخموها مع مرور الوقت حتى أبقوا على قريش‪ .‬و كان يعرف عن هؤلء الناس حبهم الشره‬
‫للمال‪،‬و أنهم يجمعونه و ل يصرفونه في أي شيء‪.‬فقد ورد في مذكرات سترابون الجغرافي التي يصف‬
‫فيها رحلة إيلوس جالوس في عهد المبراطور سيزار أوغست أن هذا الخير قال لجالوس‪:‬أريد منك أن‬
‫تستخبر لي أمور هؤلء العرب الذين سمعت عن غناهم المفرط و الذين يستبدلون عطورهم و أحجارهم‬
‫الكريمة بكل ذهب و فضة المم الخرى ‪ ،‬دون أن يصرفوا منها على أنفسهم شيئا‪ )...‬سترابون‬
‫الجغرافي ‪،‬أول رحلة اسكشافية ‪ ،‬معطيات جغرافية‪ ،‬العربية بدون نبي ـ موقع إسلم وثائق ‪ ،‬فرنسي(‬
‫‪.‬فهم كانوا إنما يعيشون على الصدقات و يلبسون من الصدقات و إذا جاد عليهم أحد بقريش أضافوه إلى ما‬
‫معهم من القريشات و احتفظوا به‪...‬حتى أصبحوا يربون قريشاتهم و يقرضونها لولئك الذين كانوا بها‬
‫عليهم يتصدقون‪ ،‬أو يضاربونهم في تجاراتهم و يساهمون في قوافل شركة مكة التي سوف ينشئها قصي ‪،‬‬
‫كما سنأتي على ذكره في مكانه‪..‬فلقد قيل سميت قريش من القرش و هو الكسب و التجارة‪ ،‬و حكاه ابن‬
‫هشام رحمه ال‪ .‬وقال الجوهري‪ :‬القرش الكسب و قيل قرش قرش‪) ..‬ابن كثير ‪ ،‬البداية و النهاية‬
‫‪(2/187‬وقال ابن سيده"قرش ِقرشا أي جمع و ضّم من هنا و هنا)عن لسان العرب ‪،6/334‬مادة"قريش"(‬
‫‪،‬أما البيهقي فيقول في هذه المسألة ‪ ،‬قال معاوية لبن عباس‪ :‬فلم سميت قريش قريشا"‪ .‬قال لدابة تكون‬
‫في البحر‪ ،‬أعظم دوابه‪ ،‬يقال لها القرش‪.‬ل تمر بشيء من الغث و السمين إل أكلته‪.‬و أنشده شعر الجمحي‬
‫إذ يقول‪:‬‬
‫و قريش التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا‬
‫تترك لدي الجناحين ريشا‬ ‫تأكل الغث و السمين و ل‬
‫يأكلون البلد أكل كميشا‬ ‫هكذا هي في البلد قريش‬
‫يكثر القتل فيهم و الخموشا‬ ‫و لهم آخر الزمان نبي‬
‫)ابن كثير ‪ ،‬البداية و النهاية ‪(2/187‬‬
‫إذا فكلمة قريش لم تكن اسما علما لمجموعة اثنية معينة أو لقبيلة أو عشيرة ‪،‬بل كانت صفة يلقب بها‬
‫الجياع الصياع المتربصون بالمارة على طرقات الحجاز لتسول القريشات‪.‬و فيه قول ابن الكلبي ‪:‬إنما‬
‫قريش جّماع النسب ‪ ،‬ليس بأب و ل بأم و ل حاضن و ل حاضنة )ابن سعد ‪ 1/66‬ـ ‪ ،69‬نهاية الرب‬
‫‪ .(16/20‬و كان قصي كما سبق ذكره يلقب في صغره عند أخواله بالقرشي‪ .‬يقرن أهل الخبار بين‬
‫قصي و اسم قريش حبث يقولون أنه هو من جمع أشتات القبائل و العشائر و العصابات التي آوى إليها و‬
‫سماها قريشا‪.‬فإذا صح هذا الخبر فإنه ليس يعني أن الكلمة لم تكن موجودة من قبل‪ ،‬و إنما يعني أن قصيا‬
‫هو أول من أعطاها صبغة الرسمية و الشرعية فأصبحت اسما علما عوض صفة كاريكاتورية لبدو خان‬
‫زمزم‪.‬أما التسمية فيظهر أنها غسانية ‪ ،‬أطلقها أهل الشام على سكنة الحجاز استهزاء منهم و استخفافا‬
‫بهم‪.‬و أهل غسان جيران يثرب من الشمال‪ ،‬فهم أعلم الناس بأحوال جيرانهم‪ ،‬لدى كانوا يلقبونهم بأحب‬
‫شيء إلى قلوبهم و هو القرش‪.‬‬
‫كما أن قريشا كما فصل فيه ابن الكلبي ) و لذلك ينقمون عليه( ليسوا قبيلة و ل عشيرة و ل عائلة و ل‬
‫أسرة ‪،‬بل هم فروع أنساب عديدة و صعاليك و أشتات قبائل و خلعاء مجرمون كما سبق ذكره ‪ ،‬كانوا‬
‫مشتتين حول خان زمزم )مكة المكرمة(‪ ،‬يتربصون بالمارة ‪ ،‬ينهبون و يسرقون و أكثرهم يتسولون ‪ ،‬و‬
‫منهم مرتزقة عديدون يحاربون مقابل الجر و تسميهم السير و الخبار بذؤبان العرب و الشداد‪ .‬يعرفون‬
‫باللصوصية والبخل و الشح و حب القرش و تكديس الذهب و الفضة‪.‬فالخطة اقتضت أن ينتسب قصي إلى‬
‫بيت أو كهف من كهوف هؤلء المرتزقة لتأطيرهم و التأثير المباشر فيهم و تكوين قوة ضاربة بهم ‪.‬فكان‬
‫كعب بن لؤي أنسب نسب ‪ ،‬و كان زهرة أنسب كهف ‪،‬استقبلوه مستبشرين‪ ،‬و استلحقوه بنسبهم‪.‬و كانت‬
‫العرب تأخذ بمبدأ الستلحاق في أنسابهم‪.‬فلما جمع قصي قريشا و كان أدهى من رئي من العرب قال لهم‪:‬‬
‫هل لكم أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول البيت؟؟؟فوال ل يستحل العرب قتالكم و ل يستطيعون‬
‫إخراجكم منه‪.‬و تسكنونه فتسودوا العرب أبدا‪.‬فقالوا‪:‬أنت سيدنا و رأينا تبع لرأيك ‪ ،‬فجمعهم ‪ ،‬ثم أصبح في‬
‫الحرم حول الكعبة )قريش من القبيلة إلى الدولة‪ (38،‬هكذا بايع صعالكة الجبال قصيا البيعة الولى ‪،‬فتمكن‬
‫قصي من وضع أول رجل له في مكة ‪ ،‬و هو آنذاك ابن العشرين حجة و نيف‪.‬فقد ورد في معجم البلدان أن‬
‫قصيا أول من أصاب الملك من ولد إسماعيل‪ ،‬و ذلك أيام المنذر بن النعمان على الحيرة و الملك بهرام‬
‫جور في الفرس )‪(5/178‬و بهرام جور هو بهرام الخامس الذي تولى الحكم إثر حرب أهلية دامت طوال‬
‫سّرّية‬‫سريته ال ّ‬
‫سنة ‪،420‬تولى الحكم في آخرها بعدما قتل جميع أفراد عائلته‪.‬في هذه السنة انتقل قصي ب َ‬
‫إلى مكة‪ .‬و قد ولد قصي سنة ‪ 400‬و عاش ثمانين سنة ‪ ،‬و عبد مناف ثالث أبنائه ولد سنة ‪430‬م)موسوعة‬
‫ويكيبيديا ـ قصي بن كلب ـ فرنسية(‪.‬هكذا أصبح قصي بصعاليكه ينزلون على مكة فيثيرون فيها الفوضى‬
‫و يحدثون القلقل و المشاكل ‪ ،‬و يستهزئون بأهلها شيبا و شبابا و ينكلون بأسيادها‪ .‬فأصبحت أخباره‬
‫تتناقلها جميع اللسن‪.‬ذاك الشاب الزعر فارع الطول ‪،‬عريض المنكبين‪.‬قال علي بن برهان الدين الحلبي‬
‫في وصفه "رجل جليدا حازما بارعا" ‪،‬ذاك النبيل البيض البشرة القادم من عالم ما وراء الشمس ‪ ،‬تّيم‬
‫بمشاكساته و صبيانياته و جماله و صعلكته قلوب نساء قريش و بناتها‪ .‬فاستمال إليه سيدتهن حبى بنت‬
‫حليل سيد خزاعة‪ ،‬فتوّدد إلى أبيها الذي عرف نسبه)صعلكته( ما أفضى به إلى الذعان إلى مصاهرته‪.‬و‬
‫به تّم لقصي وضع ثاني أقدامه في مكة‪ .‬و يروي المام محمد يوسف الصالحي الشامي في موسوعته سبل‬
‫الهدى و الرشاد في سيرة خير العباد ‪،‬فيما يرويه عن مسألة مال قصي فيقول رحمه ال"و كان أول مال‬
‫أصابه )قصي( مال رجل قدم مكة بأدم )جلود( كثير ‪ ،‬فباعه و حضرته الوفاة و ل وارث له فوهبه لقصي‬
‫و دفعه له‪ 1/321...‬ـ ‪.(325‬‬
‫هذه هي الصدف و إل فل!!!و هذا هو تاريخ العرب الجميل‪.‬فالتاريخ عند العرب عاقل مبدع فنان ‪،‬يحدد‬
‫أهدافه و يخلق شخصياته ثم يحدث الظروف الملئمة فيقول لها كن فتكون‪ .‬أما الشخصيات في التاريخ‬
‫العربي فهي كراكيز جامدة يسيرها التاريخ بواسطة خيوط الصدف و القدار‪.‬فبالصدفة تربى قصي بالشام‬
‫وعاد منها صدفة‪.‬و بالصدفة العربية وجد قصي نفسه ابن كلب بن مرة بن كعب بن لؤي و بالصدفة‬
‫العربية و العناية اللهية سيجد قصي نفسه تزوج بنت سيد خزاعة ثم أجل أهلها عن مكة و نفاهم منها‪ ،‬و‬
‫بالصدفة التي ل صدفة بعدها و ل قبلها سيجد قصي نفسه أول ملوك الحجاز‪...‬و نحن استهللنا هذا القول‬
‫بأن التاريخ ل يقوم بالصدف‪ .‬و أنه ل يمتطي المجد من لم يركب الخطرا ‪،‬و ل ينال العل من قدم‬
‫الحذرا)المتنبي(‪ .‬و أن قصيا لم يجد الملك على طبق من ذهب‪..‬إنما لكل شيء ثمنه و لكل حادث علته و‬
‫لكل سبب مسببه ‪ ،‬ما سنقف عليه سببا سببا و علة علة بغية الوقوف على أحقية قصي بلقب الصعلوك‬
‫الكبر‪.‬‬

‫بعد انتسابه إلى آل كعب بن لؤي و سطوته على مال العرابي تاجر الدم و زواجه من حبى بنت حليل‬
‫‪،‬استطاع قصي غرز كل أقدامه في رمال مكة و مّد جذوره فيها‪...‬هنا تدخل ابن هشام راويا"أنه لما استقر‬
‫أمره و كثر ماله ‪ ،‬هلك حليل بن حبشية‪ ،‬فرأى قصي أنه أولى بالكعبة ‪ ،‬و بأمر مكة من خزاعة‪ ،‬فكّلم‬
‫قريش و بني كنانة ‪ ،‬و دعاهم إلى إخراج خزاعة من مكة ‪ .‬و بخدعة استطاع أن يشتري من أبي غبشان‬
‫ق من الخمر و قعود‪ ،‬في ليلة سامرة ‪ .‬قال الحافظ ابن‬ ‫الخزاعي‪..‬و كان شيخا خرفا‪..‬مفاتيح الكعبة مقابل ز ّ‬
‫ق من الخمر و قعود ‪ ،‬فكان يقال أخسر من صفقة ابن غبشان"‪..‬و‬ ‫كثير"فاشترى قصي ولية البيت منه بز ّ‬
‫يزيد ابن هشام بقوله‪":‬فكان قصي بن لؤي أول من أصاب ملكا من فريش و أطاع له به قومه‪ ،‬فكانت إليه‬
‫الحجابة و السقاية و الرفادة و الندوة فحاز شرف مكة كلها")ابن هشام ‪ ،1/109‬ابن كثير‪ ،‬البداية و النهاية‬
‫‪ .(2/194‬و يؤكد الزرقي أنه"أول من أصاب ملكا من بني كنانة و أطاع به قومه ‪ ،‬فكانت إليه الحجابة و‬
‫الرفادة و السقاية و الندوة و اللواء و القيادة")‪" ،(1/108‬فكان بهذا أول من أعّز قريشا و ظهر به‬
‫فخرها‪،‬و مجدها و سناها و تقّرشها‪ .‬فجمعها و أسكنها مكة و كانت قبائل متفرقة الديار ‪ ،‬قليلة العّز‪ ،‬ذليلة‬
‫البقاع حتى جمع ال ألفتها و أكرم دارها و أعّز مثواها")اليعقوبي ‪"(1/240‬ثم كان أمره في قومه كالدين‬
‫المّتبع في حياته و بعد مماته" فنظم بطون قريش ‪ ،‬و دّبر لهم منازل في مكة و ضواحيها ‪ ،‬فأسكن بغضهم‬
‫في ظواهر مكة فسموا قريش الظواهر‪ ،‬و كانوا في الغالب فقراء معدمين‪.‬و أسكن بعضهم الخر في بطاح‬
‫عرف‬ ‫عرف القسم الول بتبديه و فقره و غزواته‪.‬و ُ‬ ‫مكة و سموا قريش البطاح‪ ،‬و كانوا أغنياء ميسورين‪ُ .‬‬
‫القسم الثاني باستقراره و غناه و اهتمامه البالغ بالتجارة")الحلبية ‪ ،1/13‬الشريف ‪ ،‬مكة و المدينة ‪ (122‬و‬
‫القسمان يضمان اثنتي عشرة قبيلة لم تنصهر بعضها ببعض تمام النصهار ‪ ،‬و لم تؤلف جماعة واحدة‬
‫ذات مصير واحد مشترك‪،‬بل بقيت تجمعا)الستاذ لمنس ‪ ،‬مكة‪(148 ،‬و في موطن آخر من حلبيتة‬
‫يضيف ابن سعد" و كان قصي أول من بنى المساكن في مكة و نقض الخيام و حّولها إلى بيوت ذات أعمدة‬
‫و ذات أبواب‪.‬و هو الذي أمر قريشا أن يبنوا بيوتهم داخل الحرم و حول البيت ‪ ،‬و قال لهم إن فعلتم ذلك‬
‫ظم شؤون المدينة و‬ ‫هابتكم العرب)أي البدو( و لم تستحل قتالكم" )الحلبية ‪ .(1/19‬فثّبت الحكم في عقبه و ن ّ‬
‫سم الوظائف على أولده ‪ ،‬و أوجد لمكة مكانة تجارية واسعة ‪ ،‬و خلق لها نوعا من الدارة ‪.‬فاجتمعت إليه‬ ‫قّ‬
‫الرفادة و هي إطعام الحج و الزائر و تأمين إقامته‪ ،‬فكان أول من فرض قرى الحجاج و زوار البيت تأليفا‬
‫للقلوب و إشهارا لمكة الجديدة و تلميعا لصورة قريش أمام القبائل الذين يكرهونهم و يتبرمون من خلعتهم‬
‫و عنجهيتهم و تحّللهم من جميع العراف و القوانين‪.‬فكانت تلك أول خطوة تعتمدها قريش للتقرب من‬
‫العراب و غيرهم‪ ،‬بعد سيطرتهم غير الشرعية على مقاليد الحكم في خان زمزم‪.‬و تكون الرفادة خراجا‬
‫تخرجه قريش كل موسم من أموالها إلى قصي ليصنع به طعاما للحاج يأكله الفقراء)المصنف ‪(4/59‬و‬
‫يوضح جواد علي أمر الرفادة فبقول" و قد كان قصي قال لقومه‪:‬إنكم جيران ال و أهل بيته‪ ،‬و إن الحاج‬
‫ضيف ال و زوار بيته‪ ،‬و هم أحق الضيف بالكرامة‪ ،‬فاجعلوا لهم شرابا و طعاما أيام الحج حتى بصدروا‬
‫عنكم" )رواه الطبري ‪،2/259‬و ابن الثير ‪ ،2/10‬و ورد في اللسان ‪ ، 2/1814‬و تاج العروس ‪2/355‬‬
‫و عند الزرقي ‪ 1/61‬ـ المصنف ‪(4/59‬‬
‫كما اجتمعت إليه الحجابة و هي الوصاية على مفاتيح البيت و الشراف على خزائنه و تسيير سدنته و‬
‫حّراسه‪.‬قالت باتريشيا كراون"لكن مكةهي المدينة التي يقيم فيها الناس بصفة دائمة و التي يوجد فيها البيت‬
‫الحرام المزود بالحّراس‪)".‬تجارة قريش ‪.(174‬فالخان إذا ‪ ،‬كان يؤّمن فيه على التجارات و الموال التي‬
‫توضع داخله و التي غالبا ما تكون عطورا و ذهبا و فضة و أحجارا كريمة‪ .‬فالتجارة إنما تتطلب الوثائق‬
‫كالعقود و الفواتير و المكاتبات و السجلت و تتطلب التفاقيات و المعاهدات و السفارات لدى البلدان‪،‬‬
‫كما أن التجارة ُتحدث العمران و التشييد و البناء فتؤثر على المظاهر الجتماعية و الثقافية‪.‬كل هذه‬
‫الشواهد تنعدم بالنسبة للتجارة المكية ‪،‬حتى ل تكاد تجد أي أثر ملموس يدل عليها ‪ ،‬ما يدفع إلى التساؤل‬
‫الجدي حول ماهية و حقيقة هذه التجارة المهولة التي تشير إليها المصادر العربية و نوعيتها‪ .‬و تكفي‬
‫الشارة هنا إلى أن الملحة البحرية الرومانية قد بدأت خلل هذا القرن في الزدهار و أن السفن‬
‫البيزنطية أصبحت تنتشر في كل المحيطات و البحار بما فيها البحر الحمر‪ ،‬فتقول باتريشيا في هذا‬
‫المضمار"إن القمح كان يشحن بالسفن و ينقل من السكندرية لروما عبر مسافة تبلغ ‪ 1250‬ميل في عصر‬
‫ديقلديانوس بسعر أقل من سعر نقله برا لمسافة تبلغ خمسين ميل‪.‬و تبلغ المسافة بين نجران و غزة ‪1250‬‬
‫ميل دون العروج على مكة"‪ ،‬ثم تضيف باتريشيا قائلة‪"،‬لنا أن نتساءل عن أنواع البضائع التي قام أهل‬
‫مكة بالتجارة فيها؟؟ل بد أنها كانت نادرة جدا تثير الطمع فيها‪ ،‬و بطبيعة الحال خفيفة الحمل و غالية‬
‫الثمن")‪ 19‬قائمة جيروم فرانكان عن المسافات التي تقطعها الرحلة بالميال واليام ـ تجارة قريش ‪،‬‬
‫‪.(19‬على كل و مهما تكن حقيقة هذه التجارة و نوعيتها ‪ ،‬فإن الحجابة تعني السهر على حراسة هذه‬
‫التجارة و تأمين طرقها و تيسير سبلها و إضفاء الشرعية القانونية عليها‪ .‬و لهذا الغرض فرض قصي‬
‫الضرائب و العشور على القوافل المارة بمكة مقابل تأمينهم و تأمين تجاراتهم و توفير السقاية و الرفادة‬
‫شر على من دخل مكة من غير قريش و بنى‬ ‫لهم ‪.‬حدثنا المسعودي عنه ‪ ،‬قال‪:‬و استقام أمر قصي و ع ّ‬
‫الكعبة و رّتب قريشا على منازلها في النسب بمكة )مروج الذهب و معادن الجوهر ‪.(2/58‬ثمّ بدأ في عقد‬
‫اليلفات و التي هي عبارة عن معاهدات مع شيوخ القبائل تعمل بموجبها قبائلهم على تأمين قوافل قريش‬
‫و ضمان حرية تنقلهم مقابل نصيب تأخذه القبائل من أرباح التجارة‪،‬إلى جانب العطايا و الهدايا و‬
‫الرشوات ‪.‬كما تسمح لفراد القبائل بالمساهمة في التجارة التي تحملها قوافل قريش سواء بالسلع أ و في‬
‫رؤوس الموال و استخلص أرباحهم كل حسب مساهمته ‪.‬و به يكون قصي قد أسس نواة أول شركة‬
‫تجارية مساهمة يسهم فيها كل سكان قريش و القبائل المنضوية تحت لواء اليلف ‪ ،‬بالقليل و الكثير‬
‫فتأتيهم أرباحهم حسب أسهمهم ‪ ،‬و سميت هذه العملية التجارية بالمضاربة‪".‬فصارت قريش بأجمعها بعده‬
‫تجارا خلطاء ‪ ،‬و قد أخذت عنه مآثر التجارة حتى أصبحت مكة في أيام حكمهم)قريش( ملتقى القوافل من‬
‫جميع أنحاء العالم المعروف لديهم‪.‬و سافر أبناء قصي و أحفاده)في حياته( و تاجروا مع البلدان المجاورة‬
‫و أخذوا منها العهود‪.‬فأخذ هاشم بن عبد مناف بن قصي عهدا من ملوك الروم و الغساسنة و أخذ شمس بن‬
‫عبد مناف عهدا من نجاشي الحبشة و أخذ عبد المطلب بن هاشم عهدا من ملوك حمير و اليمن‪ ،‬و أخذ‬
‫نوفل بن عبد مناف بن قصي عهدا من أكاسرة الفرس) أبو موسى الحريري‪ ،‬نبي الرحمة ‪.(74‬وفي‬
‫معرض حديثهما عن اليلف يقول القالي في ذيل المالي و النوادر)‪ (199‬و الثعالبي في ثمار القلوب)‬
‫ب لي‬‫ت أن تكت َ‬‫‪ 1/8‬و ما بعدها(‪:‬قال )هاشم( له )قيصر الروم(‪ :‬أيها الملك‪:‬إن قومي تجار العرب‪ ،‬فإن رأي َ‬
‫كتابا يؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز و ثيابه‪ ،‬فتباع عندكم‪ ،‬فهو أرخص‬
‫عليكم‪.‬فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم‪.‬فأقبل هشام بذلك الكتاب‪ ،‬فجعل كلما مّر بحي من العرب بطريقه‬
‫إلى مكة‪،‬عقد معهم عقدا على أن تقدم قريش إليهم ما يرضيهم من بضائع و هدايا تؤلف بينهم و بين‬
‫قريش ‪ ،‬فكان اليلف"انتهى‪.‬و يضيف الثعالبي قائل"‪ .‬وكان يأخذ اليلف )و يعني به العهد هنا( من‬
‫رؤساء القبائل و سادات العشائر لخصلتين‪ :‬إحداهما أن ذؤبان العرب وصعاليك العراب وأصحاب‬
‫الغارات وطلب الطوائل كانوا ل يؤّمنون على أهل الحرم ول غيرهم‪ ،‬والخصلة الخرى أن أناسًا من‬
‫العرب كانوا ل يرون للحرم حرمة‪ ،‬ول للشهر الحرام قدرًا‪ ،‬كبني طيء و خثعم و قضاعة‪ ،‬وسائر العرب‬
‫يحجون البيت و يدينون بالحرمة له ‪.‬ومعنى اليلف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من‬
‫ل مع إبله ليكفيهم مؤنة السفار‪ ،‬ويكفي قريشًا مؤنة‬
‫الربح‪ ،‬ويحمل لهم متاعًا مع متاعه‪ ،‬ويسوق إليهم إب ً‬
‫العداء‪ ،‬فكان ذلك صلحًا للفريقين‪ ،‬إذ كان المقيم رابحًا‪ ،‬والمسافر محفوظًا‪ ،‬فأخصبت قريش‪)،‬ثمار‬
‫القلوب ‪ 115‬و ما بعدها(‪ .‬وعليه فاليلف إذا عقد أمان تبرمه قريش مع زعماء القبائل تؤلفهم بمقتضاه‬
‫بالمال و الرباح مقابل عدم التعرض لقوافلهم و العمل على تأمينها على أراضيهم‪...‬‬
‫ل فرضه هاشم على القبائل لحماية مكة من الصعاليك ومن‬ ‫‪.‬إل أن الجاحظ يفسر اليلف على أنه جع ٌ‬
‫سره قوم بغير ذلك‪ .‬قالوا‪ :‬إن هاشما جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها‬ ‫المتطاولين‪ ،‬إْذ قال‪" :‬وقد ف ّ‬
‫إليه ليحمي بها أصل مكة‪ .‬فإن ذؤبان العرب وصعاليك الحياء وأصحاب الطوائل‪ ،‬كانوا ل يؤمَنون على‬
‫الحرم‪ ،‬لسيما وناس من العرب كانوا ل يرون للحرم حرمة ول للشهر الحرام قدرًا‪ .‬مثل طيء و خثعم و‬
‫قضاعة وبعض بلحارث بن كعب")رسائل الجاحظ‪ ،70،‬السندوبي(‬
‫وإذا صحت هذه الرواية فإنها تعني بالواضح أن وظيفة قريش كانت تنحصر في التحكم في صعاليك‬
‫الحياء و ذؤبان العرب و أصحاب الطوائل‪ ،‬و أن قريشا هم الذين كانوا يسلطون الذؤبان و الصعاليك و‬
‫الخلعاء على القبائل و على تجارات تلك القبائل ‪.‬و أنهم الوحيدون الذين يستطيعون كف أيديهم عنهم ‪،‬‬
‫مقابل خراج تدفعه تلك القبائل لقريش لتصرفه في تأليف أولئك الصعاليك و المحرومين و أبناء السبيل و‬
‫إجارتهم و تقديم كل التسهيلت لهم‪ ،‬و من تم تجييشهم لصالح تأمين التجارات التي تمر بطرق الحجاز‪.‬و‬
‫تفسير الجاحظ هذا أكثر منطقية و ملئمة للوضاع التي أمامنا‪ .‬فقصي إنما تحّكم في الصعاليك الذين كانوا‬
‫يقطعون الطرق التجارية و لم يخلق لقريش تجارة خاصة بها‪.‬بل كان الصعاليك هم العملة التي بدأ قريش‬
‫يسوقون لها‪ ،‬و تأمين الطرق هي الوظيفة التي أناطها قصي بهم‪ .‬فأصبحت قريش بهذه السياسة تهيمن‬
‫على طرق الحجاز بأسرها من خلل أولئك الصعاليك‪ ،‬و تفرض على السلع المارة منها و القبائل‬
‫المجاورة لها الخراج و العشور مقابل تأمين الرواح و المتاع‪.‬و هذا هو الدور المطلوب القيام به من‬
‫قصي‪...‬كما يساهم هذا التفسير الموضوعي من جهة أخرى في إزاحة بعض شكوك باتريشيا كراون‬
‫الشرعية حول تجارة قريش وأنواعها و حجومها‪ .‬فقريش و مكة فعل‪،‬ل يتوفران على شواهد إثبات تثبت‬
‫أنهما كانا يسيطران على التجارة العالمية ذات يوم‪ .‬كما أن القالي و الثعالبي يقولن على لسان هاشم أن‬
‫تجارة قريش مع الروم كانت تقتصر على المتاجرة في الدم و هي الجلود الخالصة الغير مدبوغة و ثياب‬
‫الحجاز ‪ ،‬و هاتان البضاعتان ل تصلحان لتشكيل تجارة من الحجم الذي تتحدث عنه المصادر‪.‬لكن إذا قبلنا‬
‫بتفسير الجاحظ مع الخذ بعين العتبار تحفظات باتريشيا جاز لنا أن نقول بأن تجارة قريش كانت هي‬
‫تجييش المرتزقة و المحرومين و الصعاليك‪ .‬و العمل على تسخيرهم في تأمين تجارة حلفاء قريش و كل‬
‫من يؤدي حق قريش ‪.‬و بيع خدماتهم لكل من يؤدي عليها‪.‬و تلك لعمري كانت هي تجارة قريش الحقيقية‪.‬‬
‫أما ما عدا ذلك فكل تجارة أمنتها قريش و أخذت خراجها تنسبها إليها و تسميها تجارة قريش فتصير لتلك‬
‫التجارة صفة القانونية و الشرعية على طول الطرق التي تؤّمنها قريش‪.‬‬
‫‪.‬وهذا النوع من التجارة الذي نفترض أن قريشا كانت تمارسه ل يتطلب مع كل السف الوثائق التقليدية‬
‫التي يبحث عنها المؤرخون‪ ،‬و ل الشواهد و ل العهود و ل التفاقيات ‪.‬كما أنه ليس تجارة خلق و إبداع و‬
‫ضر و‬ ‫تبادل و تلقح و انفتاح من شأنها أن تغني الذوق في مكة و ترتقي بالنسان فيها إلى مصاف التح ّ‬
‫الرقي‪ ،‬إنما هي كانت تجارة سطو و نهب و تخريب وهدم ‪،‬تجارة يمكن تصنيفها من قبيل ما ل تبقي و ل‬
‫تذر‪،‬لهذا ل تملك مكة اليوم دلئل ملموسة على أنها كانت تتربع على عرش التجارة لقرنين من الزمن‪.‬‬
‫كما أن لقريش أنشطة تجارية أخرى و من نوع آخر‪.‬فلقد كانت تقرض الموال بالربا و تجري‬
‫المرابحات ‪ ،‬و كانت تجمع أموالها و أموال التجار و الحجاج في الكعبة و تضع عليها الكتبة و الحراس‪،‬‬
‫حتى الصنام إنما اسُتجلبوا لُيساهموا في تأمين خان زمزم‪ ،‬حيث ُتجمع الموال و تخزن الفضة و‬
‫الذهب‪.‬و مما يزيد من تأكيد هذا الطرح ما أتى على لسان الجاحظ في قوله وهو يفسر اليلف على أنه‬
‫ل فرضه هاشم على القبائل لحماية مكة‪،‬فيقول‪ :‬إن هاشما جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها‬ ‫جع ٌ‬
‫إليه ليحمي بها أصل مكة‪.‬فما علقة رؤساء القبائل بمكة حتى يؤدوا الخراج لُتحمى به مكة و‬
‫أصولها‪.‬الجواب التقليدي يقول بأن السبب هو تواجد أصنام تلك القبائل بالكعبة و قداسة مكة و ما إلى ذلك‬
‫من التفاسير المستهلكة‪.‬و لكن إذا افترضنا أن أموال تلك القبائل كانت هي الخرى تخزن في الكعبة‪،‬‬
‫ستصبح مسألة حماية القبائل لمكة و الكعبة مسألة منطقية و مقبولة عقليا‪.‬فالقبائل كما نعرفها تترحل يوميا‬
‫إما للرعي أو للغزو‪.‬و في كلتي الحالتين يجب على رجالها التخلص مما يزيد على حاجتهم من المال و‬
‫المتاع و العتاد‪.‬و لّما كان السبي بينهم كثيرا و النهب‪ ،‬فإنهم يلجأون إلى خزن أموالهم في الماكن المنة‬
‫البعيدة عن العيون‪.‬و الكعبة حرم آمن بالقوة و العراف و الصنام و هالة القداسة المحيطة به‪.‬فليس هناك‬
‫مكان على الرض أأمن منه و أكثر منه مناعة و حرمة لذلك أراهم كان يحتفظون بذهبهم و فضتهم‬
‫بالكعبة مقابل أجر يؤدونه لقريش‪،‬وقد يضاربون بها قريشا في تجاراتهم‪.‬و عليه فإن مناعة و قداسة الكعبة‬
‫قد استمدتها من هذه الوظيفة الخطيرة التي كانت تقوم بها وظيفة خزن الموال و ترويجها‪..‬‬
‫ومما تجدر الشارة إليه هنا هو أن هاشما بن عبد مناف‪ ،‬هذا الذي تكثر من ذكره السير و الخبار في‬
‫شأن اليلف‪ ،‬لم يعش بعد موت جده قصي بن كلب إل ‪ 19‬عاما‪ ،‬و أنه قد توفى سنة ‪ 497‬و هذا يعني‬
‫أن هاشما قد عايش جده ردحا من الزمان ما يؤكد أن اليلفات التي عقدها كانت بأمر من قصي وفي‬
‫حياته‪ .‬و أن هاشما إنما كان سفيرا لجده‪.‬و هذا ما سنقف عليه في مكانه‪.‬‬
‫إلى هنا و ل زالت السير و الخبار تتستر على علقة قصي بأهل غسان‪.‬فتصور لنا المر كما لو أنه كانت‬
‫هناك قطيعة بينه و بين غسان في الشمال‪.‬و لكن الواقع يقول أن التصال بين قصي و الغساسنة لم ينقطع‬
‫طوال هذه المدة‪.‬بل لقد كانت التقارير ُترفع يوميا إلى غسان و المراسلت تتم أول بأول‪:‬فكان الغساسنة‬
‫يتتبعون ما يجري يوميا بمكة و يعّدون له العدد و يهيئون المدادات‪.‬فلول تموين الغساسنة و تمويلهم ما‬
‫كان لمشاريع قصي أن ترى النور أو تتحقق‪.‬‬
‫ت قصي إلى البيت الذي اشترى مفاتيحه بزق‬ ‫ففي إطار تعزيز سلطته السياسة الفتية و تثبيتها التف ّ‬
‫خمر‪،‬ابتغاء السيطرة على الوظيفة الدينية التي كانت بيد بني صوفة‪.‬فكان اعتناؤة البليغ بشعيرة الحج و‬
‫هيمنته عليها يدخل في باب استغلل الدين في تدعيم و نشر التماسك بين قبائل العرب‪ ،‬باعتبار أن الحج‬
‫هو الشعيرة الوحيد التي ُتجمع عليها جميع قبائل العرب و تتوحد فيها دياناتهم‪ ،‬بخلف الصنام التي ترمز‬
‫إلى التعددية و استقللية القبائل و تحررها‪..‬كما كان اعتناؤه بشعيرة الحج يدخل ‪،‬من جهة أخرى‪ ،‬في باب‬
‫توظيف الجانب الديني الروحي و السحري في فرض سلطته الفردية و تكريسها‪ .‬و لجل بلوغ هذا المرام‬
‫النبيل قام قصي بن كلب بأول انقلب عسكري في تاريخ العرب‪.‬جمع له أول صعاليكه من الشعاب و‬
‫الودية و الجبال و اعترض بهم بني صوفة و غلبهم على ما بأيديهم من أمور الحج‪.‬يقول جواد‬
‫علي"وترجع بعض الروايات نزاع خزاعة مع قصي إلى عامل آخر غير ولية البيت‪ ،‬فتذكر إن خزاعة‬
‫ل" أوصى بذلك قصيًا‪ ،‬وبقيت على‬ ‫كانت قد سلمت لقصي بحقه في ولية البيت‪ ،‬وأنها زعمت أن "حلي ً‬
‫ولئها له‪ ،‬إلى إن اختلف "قصي" مع "صوفة"‪ .‬وكانت "صوفة" وهي من "جرهم" تتولى أمر الجازة‬
‫عَرَفة‪ .‬فتجيزهم إذا نفروا من "منى" تولت ذلك من عهد جرهم وخزاعة‪ .‬فلما كان قصي‪ ،‬أتاهم‬ ‫بالناس من َ‬
‫مع قومه من قريش وكنانة و قضاعة عند العقبة‪ ،‬فقالوا‪ :‬نحن أولى بهذا منكم‪ ،‬فناكروه‪ ،‬فناكرهم‪ ،‬فقاتلوه‪،‬‬
‫ل شديدًا‪ ،‬ثم انهزمت صوفة‪ ،‬وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك‪ ،‬وحال بينهم‬ ‫فاقتتل الناس قتا ً‬
‫وبينه‪ ،‬فانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي بن كلب‪ ،‬وعرفوا انه سيمنعهم كما منع صوفة‪،‬‬
‫فوقع من ثم ما وقع على نحو ما مّر")المصنف ‪(4/43‬‬
‫والذي وقع حقيقة هو أن قصيا أبرق إلى عملئه الغساسنة و أعلمهم أن اللحظة الحرجة في الخطة قد‬
‫حانت‪ ،‬وأن الدقيقة الصفر قد وصلت‪ ،‬فاستنفروا كتيبة من المرتزقة المدججين بالعدة و العتاد و المدربين‬
‫أحسن التدريب تحت قيادة المدعو رزاح بن ربيعة أخي قصي‪ ،‬و بعثوا بها على الفور‪.‬أما بنو خزاعة و‬
‫بنو بكر لما استفاقوا من خداع قصي لهم ‪ ،‬و ذلك على هول ما أصاب بني صوفة‪،‬انحازوا عن قصي و‬
‫حاولوا لّم صفوفهم و استنفار أنصارهم‪ ،‬و لكن يعد أن فات الوان‪.‬فلقد كانوا في ثقتهم العمياء بقصي أغفل‬
‫من ابن غبشان‪.‬فما أن صحوا من غفلتهم حتى وصل الدعم و المدد و العدة و الرجال لقصي ‪،‬فخاضوا‬
‫حربا غير متكافئة لم يكونوا في مستواها و ما كانوا لها مستعدين‪.‬فكانت الهزيمة النكراء حليفهم و التنكيل‬
‫و التهجير مصيرهم‬
‫‪.‬يقول المام محمد بن يوسف الصالحي على لسان الرشاطي في موسوعته ‪:‬فبادر قصي و استصرخ أخاه‬
‫رزاح بن ربيعة فحضر هو و إخوته ‪...‬فخرجت خزاعة و بنو بكر فالتقوا و اقتتلوا اقتتال شديدا‪.‬ثم إنهم‬
‫تداعوا إلى الصلح و أن يحّكموا رجل من العرب ‪ ،‬فحّكموا يعمر بن عوف بن كعب‪ ،‬المعروف‬
‫بالشداخ‪.‬فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالكعبة و أمر مكة من خزاعة‪.‬و أن كل دم أصابته قريش من خزاعة‬
‫موضوع يشدخ تحت قدميه‪ .‬و أن ما أصابته خزاعة و بنو بكر من قريش و كنانة ففيه الّدية‪.‬فوّدوا‬
‫خمسمائة و عشرين دية و ثلثين جريحا و أن تخلي بين قصي و بين البيت )سبل الهدى و الرشاد‬
‫‪1/325‬ـ ‪ ، 332‬قريش بين القبيلة و الدولة ‪32‬ـ ‪.(40‬‬
‫هكذا فرض قصي نفسه ملكا على مكة و رئيسا و زعيما ‪،‬فاقتطعها أرباعا على أنصاره" يذكر الخباريون‬
‫ك مجّمعا‪،‬‬ ‫ي لذل ُ‬‫سم ّ‬
‫أن" قصيًا بعد أن تمت له الغلبة‪ ،‬جمع قومه من الشعاب والودية والجبال إلى مكة‪ ،‬ف ُ‬
‫وانه حكم منذ ذلك الحين فيهم‪ ،‬وملك عليهم‪ .‬فكان قصي أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكًا‪ ،‬وأطاعه قومه‬
‫به‪ ،‬وأنه قسم مكة أرباعًا بين قومه‪ ،‬فبنوا المساكن‪ ،‬وأن قريشًا هابت قطع شجر الحرم في منازلهم‪،‬‬
‫فقطعها قصي بيده‪ ،‬وأعانوه‪ )"...‬الطبري ‪2/257‬وما بعدها‪ ،‬ابن الثير ‪ ،‬الكامل ‪ 2/13‬و ما بعدها‪ ،‬ابن‬
‫هشام ‪ ،‬السيرة ‪ 2/124‬و ما بعدها ـ المصنف ‪..(4/45‬ثم أمر بالكعبة فهدمها و جّدد بناءها بما يناسب‬
‫أهداف الحكم الجديد و التوسع التجاري المرتقب‪،‬فتتفق جميع الموارد السلمية من سير و أخبار على" أن‬
‫قصيا هو أول من بنى الكعبة بعد بناء تبع لها‪ ،‬و كان سمكها قصيرا فنقضه و رفعها‪ .‬و إذا صحت‬
‫الرواية‪ ،‬يكون قصي من بناة الكعبة و من مجدديها‪ "..‬و ُذكر أنه أول من جّدد الكعبة من قريش‪ ،‬و أنه‬
‫سّقفها بخشب الّدوم و جريد النخل‪.‬و قد أشير إلى هذا البناء في شعر ينسب إلى العشى‪..‬و هذه الرواية‬
‫تناقض بالطبع ما يرويه الخباريون من أن الكعبة لم تكن مسقفة ‪ ،‬و أنها سقفت لول مرة عندما جدد‬
‫بناؤها في أيام شباب رسول ال و هو يومئذ ابن خمس و ثلثين سنة") الحكام السلطانية ‪ ، 160‬الطبري‬
‫‪(2/283‬و يضيف جواد علي"و في رواية أن قصيا أول من أظهر الحجر السود و كانت إياد دفنته في‬
‫جبال مكة)الطبري ‪2/283‬ـ المصنف ‪53 /4‬ـ ‪(54‬‬
‫هكذا تمكن قصي من خان زمزم‪ ،‬قلب الصحراء‪ ،‬أم القرى ‪ ،‬كهف القطاع و قبلة الصعاليك و الخلعاء و‬
‫طلب الطوائل‪.‬فابتنى لنفسه دارا قرب الكعبة و بدأ يصرف منها أمور دولته الصغيرة‪ ،‬فسماها دار‬
‫الندوة‪".‬فكانت قريش ل تعقد أمرا إل في داره‪ ،‬كما ل تنكح امرأة و ل رجل إل في داره‪ ،‬و ل يتشاورون‬
‫في أمر ينزل بهم إل في داره‪ ،‬و ل يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إل في داره‪ ،‬و يعقدها لهم بعض‬
‫ولده‪ ،‬و ل تّدّرع جارية إذا بلغت إن تّدّرع من قريش إل في داره ‪،‬يشقّ عليها درعها ثم تدرعه ثم ُينطلق‬
‫بها إلى أهلها ‪ .‬فكان أمره في قومه من قريش في حياته و بعد موته كالدين المتبع ل يعمل بغيره تيمنا‬
‫بأمره و معرفة بفضله و شرفه‪.‬و اتخذ قصي لنفسه دار الندوة و جعل بابها إلى مسجد الكعبة ‪ ،‬ففيها كانت‬
‫قريش تقضي أمورها ") الطبري ‪ 2/257‬و ما بعدها‪،‬الكامل ‪ 2/13‬و ما بعدها ـ المفصل ‪ (45‬؛ وفيها‬
‫كانت تحسب رعاياها و تتتبع أخبارهم فردا فردا من مهودهم إلى لحودهم‪ ،‬فكانت دار الندوة أول مركز‬
‫مخابرات في دولة مكة الناشئة‪ .‬و أظن أن الفكرة اصطحبها معه قصي من كنائس الشام‪ .‬و دار الندوة هي‬
‫من جهة ثانية دار مشورة في أمور السلم و الحرب ‪،‬عرفت على أنها" مجلس المدينة التي عرف رؤساؤها‬
‫كيف يحصلون على الثروة و كيف يستعيضون عن فقر أرضهم بتجارة تدّر عليهم أرباحا عظيمة‪ ،‬و‬
‫بخدمة يقدمونها إلى عابدي الصنام جاءت إليهم بأموال وافرة من الحجيج‪.‬في هذه الدار يجتمع الرؤساء و‬
‫أعيان البلد للتشاور في المور و البت فيها ‪..‬و في هذه الدار أيضا تجري عقود الزواج و تعقد‬
‫المعاملت‪.‬فهي دار مشورة و دار حكومة في آن واحد‪ ،‬يديرها المل العلى و هم مثل أعضاء مجلس‬
‫شيو خ أثينا الذين يجتمعون في المجلس‪).‬الحكام السلطانية ‪ ،162‬نزهة الجليس ‪(1/24‬و الذين يمثلون‬
‫زعماء السر و رؤساء الحياء و أصحاب الرأي و المشورة )واط ص ‪،9‬أوليري ص ‪".(183‬و في‬
‫رواية أنه كان ل يدخلها إل ابن الربعين أو ما زاد")الشتقاق ‪(97‬‬
‫و لم يبق لقصي لن يكون دولة على النمط الحديث إل إنشاء القوة العسكرية ‪ ،‬و نحن نعلم أن قصي لم‬
‫يستول على الحكم إل بالقوة و السلح و أن جيشه كان يتكون من فرسان العرب ‪،‬الصعاليك و الخلعاء إلى‬
‫جانب فرسان الغساسنة المدججين بالسلح و العتاد‪.‬لهذا فرض قصي على أنصاره و أتباعه من المستفيدين‬
‫خراجا تخرجه قريش مرتين في السنة من أموالها يطعم منه الحاج و المعتمر و يصرف ما تبقى منه على‬
‫الصعاليك و الجياع و المجرمين المستجيرين بالكعبة و الخلعاء و الخلطاء و الحابيش الذين سيشكلون‬
‫النواة الولى لقوة نظامية في مكة‪.‬قال أبو عبيدة‪ :‬و لما ولي قصي أمر مكة قال ‪ :‬يا معشر قريش إنكم‬
‫جيران ال و جيران بيته و أهل حرمه‪ .‬و أن الحجاج زوار بيت ال ‪ ،‬فهم أضياف ال و أحق الضياف‬
‫بالكرامة‪.‬فترافدوا و اجعلوا لهم طعاما و شرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم ‪ ،‬و لو كان مالي يسع ذلك‬
‫قمت به‪.‬ففرض عليهم خراجا تخرجه قريش مرتين من أموالها‪ ،‬فتدفعه إليه ‪ ،‬فيصنع به طعاما و شرابا و‬
‫لبنا و غير ذلك للحاج بمكة و عرفة)قريش من القبيلة إلى المدينة ‪ 32/40‬سبل الهدى و الرشاد‬
‫‪(321/325‬‬
‫تلكم كانت قراءتنا لشخصية قصي أول حاكم و زعيم في قريش‪.‬قراءة توخينا فيها البراءة و الصدق و عدم‬
‫المحاباة‪.‬فقصي لدينا مرتزق بعثه الغساسنة تحت طلب قيصر بيزنطة ‪ ،‬ليقيم بتهامة و الحجاز حكما تابعا‬
‫لهم يؤمن تجارتهم البرية و البحرية و يحمي حدودهم و تخومهم‪.‬فآزروه على ذلك و أمدوه بالموال و‬
‫العدة و العتاد و الرجال الشداء‪.‬يقول رزاح أخو قصي و هو يصف حملته على مكة لمؤازرة قصي‪:‬‬
‫ولما أتى من قصي رسول * فقال الرسول أجيبوا الخليل‬
‫نهضنا إليه نقود الجياد * ونطرح عنا الملول الثقيل‬
‫جمعنا من السر من اشمذين * ومن كل حي جمعنا قبيل‬
‫فلما انتهينا إلى مكة * أبحنا الرجال قبيل قبيل‬
‫نعاورهم ثم حد السيوف * وفي كل أوب خلسنا العقول‬
‫نخّبزهم بصلب النسور * خبز القوي العزيز الذليل‬
‫قتلنا خزاعة في دارها * وَبكرا قتلنا وجيل فجيل‬
‫نفيناهم من بلد المليك * كما ل يحلون أرضا سهول‬
‫فأصبح سيبهم في الحديد * ومن كل حي شفينا الغليل‬
‫)خبر قصي بن كلب و ارتجاعه ولية البيت‪..‬البداية و النهاية ـ الجزء الثاني(‬
‫فهذا الشعر يبين لنا إلى أي مدى كان يعمر الشداخ حكيما في قضائه بين قصي و خزاعة‪.‬فما كان حكمه‬
‫لصالح قصي ‪ ،‬و هو المتطاول على الحكم و المسيطر على حقوق الغير ‪ ،‬بالحكم العتباطي الغير العادل‪،‬‬
‫بقدر ما كان حكما متعقل رزينا يبغي الخير لخزاعة التي كادت تفنى عن آخرها‪.‬فحكم الشداخ دليل على أن‬
‫الفريقين لم يكونا متكافئين و على أن جنود قصي كانوا منظمين و مسلحين بما ل قبل للشداخ و ل لخزاعة‬
‫به‪.‬و أن خزاعة كانت أمام جيش قصي ضئيلة الحجم هزيلة القوة منعدمة العتاد ‪.‬فل سلح تملكه و ل‬
‫جيشا منظما تقوده و ل فرسان تفخر بهم ‪ .‬و مع ذلك فقد استطاعت خزاعة أن تقتل من هذا الجيش العتيد‬
‫المعتدي خمسمائة و عشرين فارسا وتجرح منهم ثلثين ‪ .‬فقدمت فديتهم حقنا للدماء و نزول عند حكم‬
‫الشداخ‪.‬فآل حكم مكة إلى قصي الذي كّلف أبناءه في حياته بوظائف الزعامة من رفادة و حجابة و سقاية و‬
‫لواء و ندوة‪.‬فبعثهم سفراء إلى القبائل لبعقدوا اتفاقيات اليلف التي ستؤمن الطرق التجارية باسم قريش و‬
‫لصالح قريش‪ .‬فكان قصي أول حاكم عسكري و ديكتاتور عربي يصعد سدة الحكم في مكة بواسطة تمرد‬
‫شعبي و انقلب عسكري مؤلف من المرتزقة و الجياع و اللصوص و الصعاليك ‪ ،‬و يقيم بهم نواة مشروع‬
‫لمبراطورية إثنية دينية في تلك المنطقة الصحراوية‪ ،‬القليلة السكان‪ ،‬والمنعزلة عن العالم‪.‬‬
‫و أظن أن قراءتنا هذه أعدل في حق الرجل و حق مآثره و محاسنه‪ .‬فأهل السير و الخبار إنما يصفون‬
‫الرجل بالصعلوك العاق الذي تنكر لجميل من رّبوه و آووه‪ ،‬فنبذهم و خلع نفسه منهم ‪ ،‬تماما كما فعل‬
‫موسى مع فرعون ‪.،‬فقصي حسب السير و عند أهل الخبار ناكر جميل متمرد شرير آوى إلى الخلعاء و‬
‫المطرودين و أصحاب الطوائل في جبال تهامة‪ ،‬فتزعم فيهم و نشرهم في طرقات الحجاز من الطائف إلى‬
‫يثرب للسيطرة عليها ‪،‬ثم سلطهم على خزاعة الذين صاهروه و آثروه على أنفسهم‪ ،‬فأفنوهم عن بكرة‬
‫أبيهم‪ ،‬واحتلوا مكانهم‪ .‬و استحلوا حرم البيت فتجاسروا على بيئته و شجره ‪ ،‬فخبروا بيئته و قطعوا شجره‬
‫و أقاموا فيه لهم الغرف و المنازل‪ ،‬و نكحوا فيه قرب الكعبة بعدما كان محرما عليهم‪.‬فقصي إذا ثائر‬
‫متمرد في بلد غير بلده‪ ،‬قلب الوضاع بمكة و أقام نظام البروليتاريا والعبيد والجياع و اللصوص‪.‬‬
‫و قبل أن نطوي ورقة فصي أرى أنه من اللزم الدلء بملحظتين مفصليتين في هذا الموضوع‪.‬أما‬
‫أولهما فتتعلق باسم قصي الذي ل يرد في المصادر العربية إل مرة واحدة في التاريخ‪.‬فل قصي تجده قيل‬
‫قصي بن كلب و ل قصي بعده‪..‬أما جواد علي فروي في هذا الصدد أن هذا السم لم يرد في نصوص‬
‫المسند)بمعنى أنه ليس يمنيا( و إنما ورد في النصوص النبطية‪ .‬و هذا السم هو اسم صنم في الصل بدليل‬
‫ورود اسم عبد قصي‪.‬ثم يستطرد مضيفا"و يلحظ أن السم الذي زعم الخباريون أنه اسم قصي الصلي‬
‫الذي سمي به يوم ولد بمكة و هو زيد فقد نص أهل الخبار على أن زيدا هو صنم من أصنام‬
‫العرب)الشتقاق ‪ 13‬ـ المصنف ‪.(4/57‬و ثاني الملحظات هي سكوت أهل الخبار عن ديانة المدعو‬
‫قصي‪.‬و إنما اكتفوا بذكر دفنه في الحجون مدفن الحنفاء من آل قريش حيث قبر عبد المطلب جد النبي ‪.‬إل‬
‫أن هناك أمرين يفرضان الشك في أمر حنفية قصي أولهما أن قصيا تزوج مرة واحدة في حياته ‪ ،‬و كانت‬
‫زوجته الوحيدة و أم أولده هي حبى بنت حليل‪ ،‬بعكس الحنفاء الذين يعتمدون نظام التعدد في الزواج سيرا‬
‫على هدي أبيهم الكبر الصعلوك العظم إبراهيم السطورة عليه السلم‪.‬و ثانيهما أن قصيا قد أوصى‬
‫لبنه البكر عبد الدار بن قصي قبل وفاته بكل مقاليد الزعامة و الحكم ‪ ،‬بعدما كانت وظائفها موزعة على‬
‫أبنائه و أحفاده‪.‬و هذا كذلك ليس دأب الحناف الذين يوزعون الرث على أصحاب الحقوق‪ .‬و إنما ذاك‬
‫دأب النصارى و أتباع المسيح‪..‬‬

‫‪ 4‬ك ككككك كككككككك ك ككك ككككك‬

‫توفي قصي أول من أقام ملكا بمكة أطاع له به قومه‪.‬‬


‫توفي قصي الغساني أو زيد القرشي‬
‫فتوفي ال‬
‫فأيهما تختار‬
‫فقصي إله و زيد صنم‪.‬‬
‫توفي الله‬
‫و الملك تبخر‬
‫فقصي رأى حلما من ورق‬
‫ما لبث أن عرج في الفاق‬
‫و احترق‬
‫توفي قصي لكن بعد أن وصى لبكره بجميع السلطات التي أوحي إليه بها‪ ،‬بعد أن كان قد وزعها في بنيه‪،‬‬
‫ص كل منهم بمهمة من مهام تسيير شؤون مكة‪.‬‬ ‫وخ ّ‬
‫توفي قصي المرتزق الذي كان في إطار مهمته تأمين تجارة الروم الشرقية عبر الطريق الصحراوي‬
‫المخترق لجبال الحجاز‪ ،‬و لهذا الغرض ُبعث به من بني عذرة إلى مكة أكبر موقع بالجزيرة تلتقي عنده‬
‫الطرق الصحراوية و تتقاطع فيه‪ .‬فلما وضع يده على مكة‪ ،‬سار يتتبع الطرق التي تتفرع عنها شمال و‬
‫جنوبا‪،‬شرقا و غربا‪.‬فعمل ‪،‬هو وأبناؤه‪ ،‬على التوّدد إلى الصعاليك و الخلعاء الذين يعبثون بأمنها و يسطون‬
‫على سابلتها‪.‬فكانوا يستدعونهم إلى مكة و يستضيفونهم فيها و يحمونهم بحماها و يقتطعون لهم الراضي‬
‫فيها‪ ،‬و يسكنونهم البطاح حول بيت مال العرب ‪ .‬فأضحت مكة العارية المفتوحة على كل الجهات‪ ،‬بهذه‬
‫السياسة الحكيمة‪ ،‬في غنى عن بناء السوار و اتخاذ الطام لحماية نفسها من الغارات‪.‬إذ غدت ‪ ،‬بهذه‬
‫الطريقة‪ ،‬تحمي نفسها بواسطة أولئك الذين يفترض فيهم أن يغيروا عليها‪.‬و تلك لعمري ‪،‬أخبث وسيلة‬
‫للدفاع عن النفس‪.‬أن تتخذ عدوك ذرعا لك تتقي به دونه‪ ،‬و تدود بواسطته عن نفسك و حوزتك ‪ .‬فتلك أقل‬
‫ما يقال عنها أنها من أكبر علمات مكر قريش و دهاء قصي‪...‬و حماية مكة في الحقيقة ل تتطلب بناء‬
‫السوار و البراج ‪ ،‬لن سلسل الجبال المحيطة بها تشكل حاجزا طبيعيا منيعا ‪،‬يحيط بها من كل الجهات‬
‫‪،‬إل من أربعة منافذ تخترقها الطريقان المارتان بمكة و المتقاطعتان وسطها‪.‬لذا كان أمن مكة ينحصر في‬
‫التحكم في تلك المنافذ الموصلة إليها ‪ ،‬و التي لم تكن أبوابا يمكن التحكم في فتحها و إغلقها و إنما هي‬
‫طرق معاش أهل مكة التي ل زراعة فيها و ل صناعة غير التمعش على ما يتبرك به الحاج و يتبرع به‬
‫التاجر و تأتيهم به تلك الطرق‪ .‬لذا فإن أمن مكة كان يقتضي من القائمين عليه‪ ،‬تأمين كل شبر من الطرق‬
‫ضع اليد على الصعاليك الذين يهددون أمن تلك الطرق و احتواؤهم‬ ‫الموصلة إليها و المتفرعة عنها‪ .‬و و ْ‬
‫إنما يعني تسخيرهم أنفسهم في تحقيق ذلك المن و حراسة تلك الطرق و ضمان السير فيها‪ ،‬لمن تختاره‬
‫قريش‪ ،‬فردا كان أو جماعة ‪ ،‬حاجا كان أو تاجرا‪..‬فل صغيرة و ل كبيرة تحدث على الطريق و ل دابة و‬
‫ل طير يسير عليها إل و يصل خبره إلى قريش ‪ ،‬و يسجل عندها‪ .‬و هذه هي نفس السياسة التي سوف‬
‫ينتهجها العرب في توسعهم و استعمارهم للمالك و القطار من حولهم‪.‬ففي إطار احتللهم للبلدان ‪ ،‬كان‬
‫العرب يبدءون بالستيلء على المسالك و المفاوز و الفجاج ‪ ،‬فيفرضون الحصار على الهالي‪ ،‬ثم‬
‫يستقطبون صعاليكهم و مجرميهم و قطاعهم ‪ ،‬و بعد أن يؤطروهم بدينهم السلمي و يعّمدوهم في بحر‬
‫إجرامهم ‪ ،‬يشّرعون لهم الغارة على أقوامهم و سبي أهاليهم و قتلهم و التيان بالغنائم للعرب‪.‬فالعرب لم‬
‫يحموا يوما أنفسهم بأيديهم و لم ينشروا يوما دينا بسواعدهم‪.‬إنما كانوا يفعلون ذلك بمكرهم و نفاقهم و‬
‫بهتهم‪.‬حتى مكة مصدر عيشهم و حصن عزتهم و فخرهم و الكعبة بيت مالهم لما استقصدهما أبرهة بفيلته‬
‫قالوا له إنما للبيت رب يحميه‪.‬ثم يّدعون أن ال في عله تدخل و أرسل من ثكنته السماوية الفانتوم ترمي‬
‫الفيلة بالصواريخ‪ .‬ثم من بعد هذا تراهم في كتابهم يعيبون على اليهود أبناء أعمامهم قولهم لموسى‬
‫الصعلوك أذهب أنت و ربك فقاتل إنا هاهنا قاعدون‪.‬‬
‫توفي قصي الذي نكر جميل بني خزاعة إذ آثروه على أنفسهم و أصهروه إليهم و أنكحوه أشرف بيوتاتهم‪،‬‬
‫و رضوا به عليهم شيخا و زعيما‪.‬فأخرجهم من مكة شر إخراج و أجلهم عنها و نفاهم في الرض‬
‫جميعا‪ ،‬بعد أن سلب متاعهم و رّمل نساءهم و قتل كبارهم و سبى صغارهم‪.‬و جاء من بعدهم بصعاليكه‬
‫ليقتطع لهم الحرم رباعا ‪ ،‬فأصبحوا هم حماته الحقيقيون بدل الصنام و الرواح و اللهة الوهميين‪.‬و‬
‫أصبحت لهم العزة و المناعة التي وعدهم بها ‪ ،‬فأصبحوا يغيرون و ل يغار عليهم يسبون و ل ُيسبون‪ ،‬و‬
‫يجيرون كل من آوى إليهم من ذوي السوابق و طلب الطوائل و المجرمين و اللصوص و قطاع الطرق و‬
‫الذؤبان و الشياطين‪.‬فغدت قبائل العرب جميعها تهاب قريش‪ ،‬و أضحت الطرق التي تسري في الجزيرة‬
‫العربية كلها في ملكية قريش و حوزتها و تحت تصرفها‪.‬و أصبح صعاليك المس ل يهددون أمن الطرق‬
‫بل يعملون على تيسير الحركة فيها‪ ،‬و تأمينها من الغرباء و الخلطاء و منتهزي الفرص و الصعاليك الجدد‬
‫الذين ما فتئت قبائل العرب تفّرخهم بازدياد‪ .‬فكانوا يغيرون على الفراد إل الحاج الساذج و المعتمر‬
‫الغبي‪ ،‬و على القوافل التجارية عدا قوافل قريش‪.‬هكذا غدا كل قرشي ‪ ،‬في عين العرب‪ ،‬صعلوكا ‪ ،‬و كل‬
‫صعلوك أينما كان قرشيا ‪ ،‬و أصبحت الرض كلها للصعاليك يفعلون فيها ما يشاءون مقابل حماية مال و‬
‫قوافل قريش‪.‬‬
‫هكذا قام قصي بمأموريته أحسن قيام وبأقل التكاليف و في أقل وقت ممكن‪.‬فبعث بحفيده هاشم سفيرا إلى‬
‫الروم ليبلغهم بنجاح المهمة و يطمئنهم على حسن سير المور‪.‬و في طريقه إليهم أخذ لهم اليلف من‬
‫القبائل التي سيطرت عليها قريش مقابل خراج يدفع لتلك القبائل و حمل بضائعها‪.‬فكان هاشم صاحب‬
‫اليلف و العقود و الحبال المشرف على التجارة الداخلية و الخارجية‪ ،‬ما أعطاه مكانة بين جميع أفراد آل‬
‫قصي‪.‬و كان إلى ذلك محبا للصعاليك منادما لهم يصحبونه في حّله و ترحاله و كان مشجعا لسياسة‬
‫احتوائهم‪ .‬فلما توفي قضي و أوصى بمقاليد الزعامة لعبد الدار ‪،‬تجرد هاشم من كل سلطاته‪ .‬و تفرغ‬
‫لتجارته مستفيدا مما بين يديه من الحبال و اليلف‪ .‬و الظاهر أن عبد الدار الذي لم يكن كما تشير إليه‬
‫السير و أهل الخبار ضعيف الرادة ‪ ،‬الفقير بين إخوته ‪ ،‬و الذي لم يستفد من فترة حكم أبيه‪ ،‬و أن إخوته‬
‫كانوا أحسن منه حال و أكثر مال لذا أوصى إليه قصي بكل الوظائف‪ ،‬كان له رأي في أمر تسيير مكة‬
‫غير ما نهجه أبوه‪.‬فعبد الدار كان تلميذ أبيه في السياسة و تدبير شؤون الحكم‪ ،‬و كان ساعده اليمن في‬
‫تسيير أمور مكة من حجابة و رفادة و دار الندوة و نظام المدينة و أمن السابلة‪ .‬فالظاهر أن موقعه القريب‬
‫من الحكم خول له الطلع أكثر من إخوته على خفايا المور و بواطن الشياء ما كّون لدبه اعتقادا و‬
‫قناعات ل تتوافق بالساس مع سياسة أبيه و خصوصا في مسألة احتواء الصعاليك‪.‬ففي حين نجد قصي‬
‫ينطلق من الرضية المتاحة و المواد المتيسرة‪،‬كان عبد الدار يتشوف إلى تخطي فكرة اعتماد الصعاليك‬
‫في أمر تأمين مكة إلى إنشاء قوات نظامية تكون مهمتها الدود عن مكة و حماية مصالحها و توفير‬
‫ط من قدرهم و أهمل جانبهم؛و هم على ما هم عليه‬ ‫أمنها‪.‬فكان أن استغنى عن الصعاليك و ترّفع عنهم و أح ّ‬
‫من الخطورة و الهمية؛فهم جند قصي و فاتحوا مكة لمتسولي الظواهر و متسكعي المنتجعات و متسولي‬
‫القروش‪.‬‬
‫حدث هذا في الوقت الذي أصبحت فيه مكة ورشا كبيرا للتشييد و البناء‪ ،‬فكانت المنازل و الدور و الحياء‬
‫تقام في كل مكان‪ ،‬و السلع و البضائع و الدوات تستقدم من كل حدب و صوب ‪ .‬فحدث أن تعاظمت‬
‫التجارة الداخلية و اتسعت السواق‪ ،‬و ازداد العملة و الصنعة و البناءون‪ ،‬و ارتفعت المنازل و القصور‪،‬‬
‫و كبرت ثروات التجار و تزايدت أعداد الغنياء ‪ ،‬و نمت رؤوس أموالهم‪ ،‬و كبرت بهم أرباح شركة‬
‫هاشم العابرة للقارات ‪ ،‬الذي بقيت بين يديه اليلفات و الحبال و العهود‪ ،‬فالتجأ إليه كل ذي رأس مال‬
‫يسهم به في تجاراته الرابحة و المضمونة بحبل وصاله للصعاليك‪ .‬و حدث أن كبرت الثروات و كثر‬
‫السادات و تعددت أسماؤهم و تجاراتهم و سهومهم ‪ ،‬و شمخت منازلهم و توسعت عماراتهم فأصبح لديهم‬
‫الخدم و الحشم و العبيد و الموالي و المأجورون‪،‬فاتخذوا منهم حراسا لمنازلهم و مضاربهم و نواطير‬
‫لحيائهم ‪ .‬و راحوا يطالبون دار الندوة بضرورة توفير المن لموالهم التي يستودعونها بيت مال‬
‫الكعبة‪.‬فالغرباء و الخلطاء و عابرو السب لتزايدت أعدادهم‪ ،‬و الصعاليك ل يؤمن جانبهم‪.‬هذا ما دفع بعبد‬
‫الدار‪ ،‬و هو الخبير بشؤون تسيير أمور المدينة و المسئول عن أمن البيت و الموال إلى اتخاذ قراره‬
‫الحاسم بإنشاء جهاز أمني توكل إليه مهمة حراسة البيت و أمن المدينة‪.‬يقول حسين مروة "فإن إقامة‬
‫شرطة لحراسة البيت كان يعني أمرا غير ما يتبادر إلى الذهان من رعاية قداستها فحسب‪ ،‬بل هو حماية‬
‫أموال القرشيين الذين استغلوا هذه القداسة ليودعوا الكعبة خزائن أموالهم‪ ،‬أما إقامة شرطة لحماية منازلهم‬
‫فكان يعني حمايتها من غضبة الفئات الناقمة في المدينة أي في مكة و لنقمة الحجاج الفقراء‪).‬النزعة‬
‫المادية في الفلسفة العربية ‪.(1/231‬فكلف عبد الدار في هذا الطار أخاه عبد مناف بن قصي باتخاذ‬
‫القرارات اللزمة لهذا الغرض‪..‬فأخذ المهمة عبد مناف بكل حزم و استدعى إليه عمرو بن هلل بن معيط‬
‫الكناني و تدارسا المر مليا فانتهيا إلى تأسيس قوات نظامية سموها بالحابيش‪،‬يقول في شأنها الستاذ‬
‫لمانس أنها قوات عسكرية ألفت من العبيد و السود المستوردين من إفريقية و من عرب مرتزقة كونتها‬
‫مكة للدفاع عن نفسها‪ .‬و هذا التفسير ل يروق بطبيعة الحال لهل السير و الخبار القدماء منهم و‬
‫المحدثون‪.‬ذلك أن مشكل السير عندنا أنها ل تؤرخ شأنها شأن كل السير لناس أخيار ‪ ،‬إنما هي تؤرخ‬
‫لعتاة الشرار‪.‬فيجد أهل الخبار أنفسهم أمام مأزق تقديم الشّرير خّيرا و الخّير شّريرا‪ ،‬و مأزق آخر أعظم‬
‫منه و أخطر ‪ ،‬مأزق تفصيل التاريخ على مقاس القرآن‪.‬فعوض أن يفسروا النصوص على ضوء أحداث‬
‫خرون‬ ‫التاريخ الواقعية تجدهم يجهدون أنفسهم في تطويع الحداث حتى تتناسب مع نصوص القرآن‪.‬فيب ّ‬
‫الواقع ليحولوه خيال و يحوكون المخاريق ليفرضوها واقعا‪.‬فقريش ‪ ،‬كما مر بنا ‪ ،‬تعني مرة التجمع و مرة‬
‫تعني دابة في البحر و في ثالثة رأيناها تعني الكسب و التجارة و ادخار الموال ‪.‬و كذلك الحال عندما‬
‫تسأل أهل الخبار و السير عن الحابيش‪ ،‬فإنك ل تظفر منهم بجواب يشفي لك الغليل‪.‬و لكنهم ل يقبلون‬
‫منك أن يكون الحابيش عبيدا سودا من أفريقية كان أهل مكة يوكلون إليهم حمايتهم و حماية أراضيهم و‬
‫ممتلكاتهم و بالتالي العيش تحت رحمتهم‪.‬إذ مكة حسب رأيهم ل تعيش إل تحت رحمة رب العالمين‪.‬فتورد‬
‫السير و الخبار في هذا الباب أن من أهل مكة جماعة عرفت بالحابيش ‪ ،‬و أنهم من حلفاء قريش ‪ ،‬و هم‬
‫بنو المصطلق و الحياء بن سعد بن عمرو‪ ،‬و بنو الهون ابن خزيمة‪ ،‬اجتمعوا بذنب حبشي و هو جبل أسفل‬
‫مكة‪.‬فتحالفوا بال إنا ليد على غيرنا ما سجا ليل و أوضح نهار‪ ،‬و ما أرسى حبشي مكانه‪.‬و قيل إنما سموا‬
‫بذلك لجتماعهم ‪ ،‬و التحابش ‪:‬هو التجمع في كلم العرب )العمدة ‪ ،2/194‬اللسان ‪ ،6/278‬حبش(‪.‬و ذكر‬
‫أنهم اجتمعوا عند حبشي فحالفوا قريشا‪ .‬و قيل أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في الحرب التي‬
‫نشبت بينهم و بين قريش قبل السلم‪ .‬فقال إبليس لقريش إني جار لكم من بني ليث فواقعوا دما‪ ،‬سموا‬
‫بذلك لسودادهم‪،‬قال‪:‬‬
‫ليث و ِديل و كعب التي ظأرت‬
‫جمع الحابيش لّما احمرت الحدق‬
‫فلما سميت تلك الحياء بالحابيش من ِقَبل تجّمعها صار التحبيش في الكلم كالتجميع )اللسان ‪(6/678‬‬
‫من خلل هذه القراءة لمعنى الحابيش يتبين للمرء مدى الجهد العظيم الذي يبذله أهل الخبار للتستر و‬
‫التضليل على معنى الحابيش ‪.‬فهم تارة عرب تجمعوا حول جبل حبشي فتسموا به و تحالفوا مع قريش ‪.‬و‬
‫هم تارة أخرى أحياء بدون هوية من القارة تحالفوا ضد قريش مع شياطين )صعاليك( بني ليث‪.‬و حتى‬
‫تصبح السطورة واقعا و الخرافة حقيقة فترى بأم عينيك الديك حمارا‪،‬فإنهم أرجعوا سوادهم إلى أنهم‬
‫عادوا قريشا وتحالفوا ضدها و واقعوا دما فسموا بالحابيش‪.‬فهم إذا ليسوا سودا عبيدا لنهم استقدموا من‬
‫إفريقية إنما حصل لهم السواد و العبودية نتيجة تحالفهم ضد قريش‬
‫و عندما أراد الدكتور جواد علي تبرير تذبذب أهل الخبار في شأن الحابيش و الرد على مقولة لمانس‬
‫قال بأن تسمية بني الحارث بن عبد مناة من كنانة و من أيدها من بني المصطلق و بني الهون بالحابيش‬
‫قد تكون وردت إليهم من أجل خضوعهم لحكم الحبش‪ ،‬و ذلك بزمن طويل‪.‬ذلك أن ذاك الساحل من‬
‫الجزيرة العربية الذي ذكر بطليموس أن الحبشة كانت تحتله ‪ ،‬إنما هو حسب رأي جواد علي ساحل تهامة‬
‫و منازل كنانة‪.‬و يضيف بأن الحبش قد بقوا فيه طويل و اختلطوا بسكانه‪ ،‬فيجوز أن تكون لفظة الحابيش‬
‫قد لحقت بعض كنانة من خضوعهم للحبش حتى صارت اللفظة لقبا لهم‪ ،‬أو علما لكنانة و من حالفها‪ .‬و‬
‫يجوز أن تكون قد لحقتهم و لحقت الخرين معهم لتميزهم عن بقية كنانة و من انضم إليهم ممن سكن‬
‫خارج تهامة‪ .‬أو لتزّوج قسم منهم من نساء حبشيات حتى ظهرت السمرة على سحنهم‪..‬و يستطرد قائل‪:‬‬
‫فليس من اللزم إذا أن يكون الحابيش كلهم من حبش إفريقية‪ ،‬بل كانوا عربا و قوما من العبيد و المرتزقة‬
‫ممن امتلكهم أهل مكة )المصنف ‪ 4/32‬ـ ‪. (33‬هكذا لف جواد كل هذا اللف ليصل في الخير إلى أن‬
‫الحابيش عبيد و مرتزقة كما قال لمانس ‪ ،‬و أضاف إليهم قبائل عربية كانت قريش تستعبدهم و تستغلهم‬
‫في أبشع العمال ‪ ،‬و هم قبائل كنانة و بني خزاعة المنهزمتين و اللتين أصبحتا عنوان كل شر مستطير‬
‫لدى أصحاب السير و أهل الخبار‪.‬‬
‫و كما اختلفوا في أمر تسميتهم و أصلهم ‪ ،‬فقد اختلفوا في أسباب تجمعهم و تحالفهم‪.‬فقد أورد محمد بن‬
‫حبيب أن عبد مناف و عمرو بن هلل بن معيط الكناني عقدا حلف الحابيش) المحبر ‪ (246‬إل أن‬
‫اليعقوبي في إطار وصفه للحابيش يذكر ‪ :‬أنه لّما كبر عبد مناف بن قصي جاءته خزاعة و بنو الحارث‬
‫بن عبد مناة بن كنانة يسألونه الحلف ليعزوا به‪.‬فعقد بينهم الحلف الذي يقال له حلف الحابيش ) تاريخ‬
‫اليعقوبي ‪.(1/212‬فبمقتضى الرواية الولى نجد أن عبد مناف ممثل قريش قد اجتمع بعمرو قائد الحابيش‬
‫فتعاقدا على التحالف بين قريش و جماعة الحابيش‪.‬بينما الرواية الثانية تفيد بأن الحابيش جماعة منفلتة‬
‫عن السلطة اجتمعوا فيما بينهم و كونوا حلفهم ثم عرضوه على قريش لينال منهم المصداقية ويحظى‬
‫عندهم بالقبول ‪ ،‬فيضفوا عليه صبغة الشرعية و القانونية‪.‬و هذا ما ل يقبله عقل و ل يوافق نظام مكة و‬
‫قريش‪.‬‬
‫إل أن هذه السير تتفق في شيء و هو كون هؤلء الحابيش قوات عسكرية عملت لصالح قريش في العديد‬
‫من الملحم و الوقائع‪.‬فقد ورد في المحبر عن محمد بن حبيب أن المطلب بن عبد مناف بن قصي قاد بني‬
‫عبد مناف و أحلفها من الحابيش ـ و هم من ذكرت ـ يوم ذات نكيف‪ ،‬لحرب بني ليث بن بكر بن عبد‬
‫مناة بن كنانة‪) .‬المحبر ‪ .(246‬و ذكر الطبري أنهم قد ساهموا في الدفاع عن مكة عام الفتح‪ ،‬و كانوا قد‬
‫تجمعوا مع بني بكر و بني الحارث بن عبد مناة و من كان من الحابيش أسفل مكة‪،‬كما أمرتهم قريش‬
‫بذلك‪ ،‬فأمر رسول ال خالد بن الوليد أن يسير عليهم‪ ،‬فقاتلهم حتى هزموا‪ ،‬و لم يكن بمكة قتال غير ذلك‬
‫)الطبري ‪،3/56‬فتح مكة(‪ .‬و مع ذلك نجد جواد علي الذي ل يستبعد أن يكون الحابيش من الساحل‬
‫الفريقي المقابل لجزيرة العرب جاؤوا إليها بالفتوح و بالنخاسة و أقاموا في تهامة إلى مكة‪ ،‬و عاشوا‬
‫عيشة أعرابية متبدية و تخلقوا بأخلق عربية حتى صاروا أعرابا‪ ..‬نجده يتلكأ في مسألة العتراف‬
‫للحابيش بهذا الدور المتفق عليه بين سائر أهل الخبار فيقول بأنهم ‪ ،‬أي الحابيش‪ ،‬و إن ساهموا في تلك‬
‫الحروب إل أنهم لم يلعبوا دورا خطيرا فيها‪.‬لماذا؟ هل لم يكونوا مدربين بما فيه الكفاية؟ هل كانت تنقصهم‬
‫الكفاءات القتالية؟ هل كانت تعوزهم المهارات و الدوات القتالية؟؟ أم أنهم كانوا جبناء رعديدون كلما‬
‫استعرت وهيج الحروب ولوا الدبار كما العرب يفعلون؟؟ فيتدخل جواد علي مجيبا ل ليس هذا و ل ذاك ‪،‬‬
‫إنما "لم يكن الحباش وحدهم قد ساعدوا أهل مكة في حروبهم مع غيرهم فقد ساعدهم أيضا طوائف‬
‫العراب ‪ ،‬أي البدو الفقراء الذين كانوا يقاتلون و يؤدون مختلف الخدمات في سبيل الحصول على خبز‬
‫يعيشون عليه )المصنف ‪ 4/35‬ـ ‪.(36‬فلله درك يا جواد! و ل درك يا سير! لم يرضكم أن يكون العبيد‬
‫الحباش قوام قوات قريش و فضلتم أن يكون قوامها الجياع و المعدمون؟؟!فكيف ستكون حال قوات تقاتل‬
‫ي عصبية ستؤلف بين أفراد هذه القوات؟ و كيف سيكون حال‬ ‫ي لحمة و أ ّ‬‫ي ولء و أ ّ‬
‫على ملئ بطونها؟؟ أ ّ‬
‫أمة قوامها الجياع و المحرومون؟؟؟‬
‫أما الرأي عندنا فهو كما أوردناه و هو أن قريشا كانت في حاجة ماسة إلى قوات تسهر على حفظ المن و‬
‫تحرس بيت المال و تحمي التخوم و الطرقات‪.‬فاقتضت سياسة عبد الدار إنشاء قوات مسلحة لهذا‬
‫الغرض‪.‬فأوكل المهمة لعبد مناف الذي أسس جهازا عسكريا تحت رئاسة القائد عمرو بن هلل بن معيط‬
‫بن كنانة‪ .‬و قسمه إلى ثلثة ألوية ‪ ،‬لواء مختص بحراسة الكعبة بيت المال‪ ،‬قوامه عبيد أحباش غلظ شداد‬
‫ل يعصون دار الندوة ما أمرتهم و يفعلون ما يؤمرون ‪ ،‬ل يدينون بولء لحد غير ولئهم لبني عبد الدار‬
‫أصحاب الحجابة قبل و بعد السلم‪ .‬و لواء ثان أوكلت إليه مأمورية حراسة أحياء مكة و تنظيم طرقاتها و‬
‫تأمين سابلتها و حماية أسواقها‪ .‬أما اللواء الثالث فذاك أكبر لواء يمكن أن نطلق عليه اسم القوات المسلحة‬
‫التي ستأخذ على عاتقها مسؤولية أمن الطرق و التخوم و الدفاع عن المصالح العليا لقريش‪.‬‬
‫إل أن هناك بين خبايا و سراديب السير شيئا ما يتستر‪ ،‬فهذه رواية شاذة شاردة تلقي بظللها و تفرض‬
‫نفسها على كل قارئ بحاث‪،‬و لئن صحت هذه الرواية فستكون قد حكمت على كل هذه الفكار و الراء‬
‫بعدم الصواب‪،‬فقد أكد ابن سعد في طيات طبقاته أن" المر الثابت أن هاشما كان يفد على ملك أو‬
‫إمبراطور الروم فيكرمه و يحبوه‪ ،‬بل بلغ تقديره إياه أنه كتب إلى النجاشي أن يدخل قريشا في أرضه‬
‫)الطبقات الكبرىً ‪ ، 57‬قريش بين القبيلة و الدولة ‪ .(52‬و يخرج في رواية أخرى عن محمد بن السلمي‬
‫أن "هاشما كان رجل شهما شريفا ‪ ،‬وهو الذي أخذ الحلف لقريش من قيصر لن تختلف آمنة‪ ،‬و أما من‬
‫على الطريق فألفهم على أن تحمل قريش بضائعهم و ل كراء على أهل الطريق‪.‬فكتب له القيصر كتابا و‬
‫كتب إلى النجاشي أن يدخل قريشا أرضه )الطبقات الجزء الثاني( أما لو صحت هذه الرواية فإن إدخال‬
‫النجاشي قريشا أرضه تعني أن تخضع قريش لحكم الحبشة‪.‬و ل يتم الخضوع لحكم إل بتواجد قوات‬
‫تمثله‪.‬و عليه فإن الحابيش قد تكون مظهرا من مظاهر تواجد تلك القوة و الخضوع لذلك السلطان‪.‬و هذا‬
‫ما تأباه السير و تحول دونه الخبار‪.‬و الثابت أكثر أن الحابيش كانوا قوة منظمة ثابتة مستقرة تستنفر‬
‫وقت الحاجة إليها‪ .‬فكان لها قواد معروفون دأبت السير على تسميتهم بسادة الحابيش نذكر منهم ابن‬
‫الدغنة و هو ربيعة بن رفيع بن حيان بن ثعلبة السليمي الذي أجار أبا بكر و شهد معركة حنين)تاج‬
‫العروس ‪،9/200‬دغن(‪،‬و الحليس بن يزيد‪ ،‬يذكره محمد بن حبيب و يذكر أنه من بني الحارث بن عبد‬
‫مناة بن كنانة ‪ ،‬و أنه كان من رؤساء حرب الفجار)المحبر ‪ 169‬و ما بعدها( و منهم حليس بن علقمة‬
‫الحارثي سيد الحابيش و رئيسهم يوم أحد و هو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة )تاج العروس ن‬
‫‪ ، 4/130‬حلس( و نذكر كذلك الحليس بن زابان الذي ذكر الطبري أن الرسول لما رآه قال إن هذا من قوم‬
‫يتألهون )الطبري ‪ .(2/527‬و الثابت كذلك أنهم كانوا ينزلون البطاح و يسكنون الحرم مع ساكنيه و‬
‫يتسوقون أسواقهم ‪ ،‬و يعيشون معيشتهم و يدينون بدياناتهم و ما ذلك إل اعتراف ضمني بأحقيتهم و جزاء‬
‫على حسن فعالهم ‪،‬إذ أنزلهم عبد مناف البطاح و اختط لقبائلهم و مجموعاتهم الرباع فأقاموا عليها لهم‬
‫المنازل و المصانع و المتاجر‪.‬فقد أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال ‪:‬لما هلك قصي ين‬
‫كلب قام عبد مناف بن قصي على أمر قصي بعده‪ .‬و أمر قريش إليه و اختط بمكة رباعا بعد الذي كان‬
‫قصي قطع لقومه )الطبقات ج ‪. (2‬فإذا كان قوم قصي قد قطعت لهم أحياؤهم و مساكنهم فلمن سيخط عبد‬
‫مناف الرباع الن؟؟؟هكذا نزلت بنو الهون و الحياء و بنو المصطلق و خزاعة‪ ،‬البطاح ‪ .‬و أصبحوا‬
‫عنصرا مكونا للنسيج الجتماعي لقريش‪ .‬أخرج ابن حبيب أن الحابيش الذين ذكرت أسماؤهم كانوا‬
‫يحضرون مع من يحضر من طوائف العرب مثل قريش و هوازن و غطفان و أسلم سوق عكاظ فيبيعون‬
‫و يشترون كما أنهم كانوا مثل قريش يقدسون أسافا و نائلة")المحبر ‪ 317‬ـ ‪.(318‬و يظهر أخيرا من‬
‫الروايتين لخيرتين أن الحابيش كان منهم المتألهون و الوثنيون‪.‬‬
‫تلكم هي السياسة التي لم ترق للصعاليك و لم توافق أهواء الذين يأنفون من النضباط للقوانين و القواعد و‬
‫يرفضون الوامر و النواهي‪.‬و التي من جهة أخرى قضت على المستقبل السياسي لبني عبد الدار كما‬
‫سنرى لحقا‪.‬تلكم هي السياسة التي اصطدمت برغبات الصعاليك الرعناء لّما استهدفت التضييق عليهم‬
‫داخل مكة و سلب مجالهم الحيوي خارجها‪ .‬فكان أن تكتل هؤلء الصعاليك و انتفضوا و تظاهروا و‬
‫ظهرت عليهم كل علمات السخط و الثورة ما استدعى بني عبد مناف بقيادة هاشم إلى اغتنام الفرصة و‬
‫تأطير الحركة و تزعم الثورة و مطالبة بني عبد الدار بالتنازل عن الزعامة و هو ما سنفصل فيه القول في‬
‫الجزء الثاني من هذا المقال‬

‫‪ 5‬ك ككككك كككككككك ك ككككك كك ككك ككككك‬

‫الثابت إذن من كل ما أوردناه سابقا‪ ،‬أن مكة حسب الروايات و الخبار كانت عشية وفاة قصي تعيش تحت‬
‫رحمة قوتين عسكريتين تتحكمان في مصيرها ‪ ،‬أما إحداهما فقوة شبه منظمة أو نظامية سميت على‬
‫استحياء بالحابيش‪ ،‬وأما الثانية فهي قوة عسكرية منفلتة عن التنظيم و القوانين ‪،‬مشكلة من عصابات و‬
‫مرتزقة تنتشر في كل مكان من شبه جزيرة العرب و مركزها مكة و تسمى بالصعاليك‪ .‬و الثابت في شأن‬
‫الحابيش أنهم حسب السير و أهل الخبار قوة عسكرية قوامها الحباش و بعض القبائل العربية المهجنة‬
‫نتيجة التواجد الحبشي القديم بتهامة‪ ،‬و الذي يعود إلى القرن الثالث الميلدي‪.‬و أن عبد الدار إما أن يكون‬
‫قد قبل الخضوع لهذه القوات و سيطرتها على الحجاز بل قيد و ل شرط و بدون مناقشة و ل مقاومة‪ ،‬و‬
‫ذلك امتثال لوامر قيصر الروم الذي طلب إلى النجاشي أن يدخل قريشا أرضه ‪ ،‬إذا أخذنا بعين العتبار‬
‫رواية ابن سعد الواردة أعله)الطبقات ـذكر هاشم بن عبد مناف ج ‪ ،(2‬و إما أن عبد الدار و أخاه عبد‬
‫مناف أنشآ هذه القوات نتيجة تردي الوضاع المنية و حاجة مكة الماسة إلى المن و المان في ظل‬
‫تنامي تواجد و تعاظم قوة الصعاليك غير المرغوب فيها‪ .‬و الثابت تاريخيا أن قريشا لما أصبح لها الملك و‬
‫تحرشت بالمم احترمت الحبشة و وقرت جانبها ‪،‬لما لها من فضل في استقبال المهاجرين الولين حسب‬
‫السير و الخبار‪ .‬و بالرغم من ذلك فقد هاجم عمر بن الخطاب ميناء أدوليس و كانت الهزيمة من نصيب‬
‫قريش‪ .‬إل أن الملحظ هو أن قريشا لم تثأر للهزيمة و لم ُتعد الكرة مرة ثانية و لم تفعل بالحبشة ما فعلته‬
‫بسائر بلدان أفريقية التي دخلت إليها ‪ ،‬مما يعزز النطباع على أنه كانت هناك بين الثنين ‪،‬في الماضي‬
‫الذي نتحدث عنه‪ ،‬علقات خاصة متميزة‪ ،‬أقل ما يقال عنها أن السير و الخبار قد نجحت نجاحا في‬
‫التستر عليها و تمويهها‪.‬‬
‫و الثابت كذلك من ثنايا هذه السير أن هذه القوات كانت نذير شؤم على بني عبد الدار الذين رغم بقاء‬
‫وظائف الزعامة فيهم بالتعاقب لغاية مجيء السلم و بعده‪ ،‬فإن ذكرهم سيتوارى في الخبار و تطردهم‬
‫السير من سجلت الشرفاء و الخيار‪ .‬فعبد الدار السياسي المحنك‪،‬برفضه احتواء الصعاليك و محاولته‬
‫التخلص من نفوذهم و تبنيه فكرة التوفر على قوات نظامية في البلد ‪ ،‬يكون قد تنكر لفضل أولئك‬
‫المرتزقة على مكة و على أمن طرقها و مسالكها‪ ،‬و نقض ما بينهم و بين قريش ‪ ،‬في شخص هاشم‪ ،‬من‬
‫العهود و اليمان و اليلف‪.‬فاليلف‪ ،‬كما مر بنا ذكره‪ ،‬تورد الخبار أنه تأليف للقبائل مقابل حق المرور‬
‫في أراضيها‪ ،‬و يكون بجعل تعطى للقبيلة و أرباح و هدايا تقدم لها‪.‬إل أن نفس الخبار تفيد من جهة أخرى‬
‫أن هذا الضرب من العهود كان معروفا في الجزيرة ساري المفعول فيها‪".‬فكل قبيلة كانت تستقضي جعل‬
‫من كل من يمر بحماها و أرضها‪.‬حتى كسرى نفسه عندما كان يبعث بتجارة داخل الجزيرة كان يدفع جعل‬
‫لكل قبيلة تمر هذه التجارة بأرضها‪ ،‬برغم أنها كانت محروسة ب"أساورة" كسرى ‪،‬أي جنوده الشداء‪ .‬و‬
‫عندما كان يتقاعس كسرى لسبب أو لخر عن دفع الجعالة لي قبيلة تمّر بها قافلة‪ ،‬كانت القبيلة تعتدي‬
‫عليها‪ .‬و قد حدث أن قافلة لكسرى مرت بأرض قبيلة تميم لم تدفع الجعالة المعهودة‪ ،‬قام بنو تميم بنهبها ‪،‬‬
‫و أسر جنودها‪.‬بل إنهم أسروا هوذة بن علي و كان ملكا على قبيلة بني حنيفة‪ ،‬و لم يفكوا أسره إل بعد أن‬
‫دفع دية مضاعفة")محمد أحمد جاد المولى بك و آخرون ـ أيام العرب في الجاهلية ـ ص ‪ .(2‬أما الجديد في‬
‫إيلف هاشم بن عبد مناف فهو تأليف الخلعاء و الصعاليك المنتشرين على طرق القوافل‪ ،‬و ذلك بإيوائهم‬
‫في مكة و حمايتهم و فرض حق معلوم لهم في أموال أهل قريش و حلفائهم ‪ ,‬و إشراكهم و استعمالهم في‬
‫التجارة‪ ،‬مقابل تأمين الطرق من القطاع و المنافسين و الدود عن حمى الديار‪.‬‬
‫فمبدأ اليلف و المان الذي تفرط الخبار في الكلم عنه و تستفيض‪ ،‬إنما قصد به احتواء الصعاليك و‬
‫التحكم فيهم‪ ،‬و تأطير عصاباتهم المنفلتة عن الحراسة و القانون‪ ،‬و تسخيرها في سبيل مصالح قريش‪ .‬ففي‬
‫حين كانت القبائل العربية أجمعها تخلع مجرميها و تتبرأ منهم كتابة و في السواق‪ ،‬فإن قريش كانت‬
‫تؤويهم و تحميهم و تجيرهم و تمنحهم الحصانة أينما مروا يكونون آمنين‪ .‬و في هذا الباب يعلق العلمة‬
‫جود علي قائل ‪ :‬بل نجد أهل مكة يجيرون كل غريب حتى إذا كان صعلوكا أو خليعا أو مستهترا بالعرف‬
‫و الخلق أو قاتل غادرا أمل في الستفادة منهم و في عدم التحرش برجالهم إن خرجوا متاجرين يحملون‬
‫أموالهم لبيعها في السواق البعيدة و لستخدامهم في حمايتهم ممن قد يتحرش بهم من العداء العراب‪ ،‬و‬
‫نجد في كتب الخبار أسماء عدد من أمثال هؤلء كانوا قد لجأوا إلى مكة و أقاموا بها و استقروا و عاشوا‬
‫بها مجاورين لسادتها آمنين على حياتهم لنهم في جوار سيد من قريش)المصنف ‪ .(7/289‬فيتبين لنا من‬
‫خلل تعليقه هذا أن أعداء قريش الحقيقيين هم العراب البدو أي القبائل العربية المنتشرة في الصحراء‬
‫الذين يتحرشون برجالهم و الذين تفترض الروايات أن اليلفات عقدت معهم! فإذا كان الحال كذلك ‪،‬فما‬
‫حاجة قريش بإيواء الصعاليك إذا؟ و التودد إليهم؟‪.‬كما يفيد التعليق بأن هذه الفئة كانت تشكل جزءا هاما‬
‫من النسيج الجتماعي لمكة‪،‬لن عددا منهم أقاموا بها و استقروا و عاشوا بها فأصبحوا بذلك جزءا ل‬
‫يتجزأ من ساكنتها‪.‬كما أن أولئك البدو العراب الذين يصفهم التعليق بأعداء قريش هم في نفس الوقت‬
‫أعداء دول الشمال من غساسنة ومناذرة و روم و ساسان‪ ،‬أو قل بالحرى‪ ،‬هم أعداء الروم قبل أن يكونوا‬
‫أعداء لغيرهم‪.‬فمن يا ترى سيكون بحاجة إلى إيلف هؤلء القبائل من أجل تأمين تجارته؟ أ قريش أم‬
‫الروم؟؟ثم من جهة أخرى ما هي هذه التجارة المكية التي تستحق كل هذه العهود و الحبال و العصم التي‬
‫سميت إيلفا؟؟تلك أسئلة من ضمن جملة من السئلة المشروعة التي سوف نتناولها على طول هذا البحث‬
‫الذي نتوخى منها استقراء الظروف الموضوعية لنشأة ما يسمى بالسلم‪.‬لكن قبل ذلك دعونا نقف و لو‬
‫وقفة موجزة على هندسة القبيلة العربية الجتماعية‪ ،‬عموما؛ لنتبين ملمحها العامة و نستوضح هيكلتها‬
‫الساسية فمن خلل الغربلة الدقيقة للخبار يتبين أنها تتفق جميعها على تقديم القبيلة العربية على أنها‬
‫وحدة اجتماعية تجمعها أهداف اقتصادية و سياسية أكثر منها عرقية أو دموية‪ ،‬و يرتبط أفرادها بعلقات‬
‫تنظمها العراف العربية السائدة‪.‬و تنقسم في بنيتها إلى طبقتين رئيسيتين‪ :‬طبقة الفقراء و هم أغلب أفرادها‬
‫كانوا يعيشون عيشة الكفاف قانعين به أحيانا و ساخطين عليه أحيانا)عبد الجواد الطيب ـهذيل في جاهليتها‬
‫و إسلمها ـ ص ‪ ،(119‬و طبقة الغنياء الذين يمتلكون قطعان البل و الشياه وعلى درجة كبيرة من الغنى‬
‫و اليسار‪.‬و من بينهم فئة يسمون "السادة" يمتازون بتحمل المسؤوليات في إصلح ذوات البين بين أفراد و‬
‫عشائر و بطون و أفخاذ القبيلة ذاتها ‪،‬أو بين قبيلة و أخرى‪ ،‬و قد يتحملون التزامات مادية مثل دفع ديات‬
‫القتلى‪ .‬و بجانب هاتين الطبقتين كانت توجد فئة تسمى بالموالي‪ ،‬و تسميهم قواميس اللغة"الزعانف" و‬
‫يطلق على الواحد "الزنيم" و"التنواط" و هو الذي يناط بالقوم أو يلصق بهم و ليس منهم ) اللغوي عيسى‬
‫بن إبراهيم الحميري‪ ،‬نظام الغريب في اللغة ص ‪ (87‬و هم في غالبيتهم عرب التجأوا إلى قبائل غير‬
‫ن عليهم بفك السر‬ ‫قبائلهم الصلية كي تسبغ عليهم حمايتها‪ ،‬أو من أسرى غزوات القبائل فيما بينها‪ُ ،‬م ّ‬
‫ن عليهم سادتهم‬ ‫فتحولوا إلى موالي‪.‬و قد يكونون من العاجم الرقاء‪ ،‬افتدوا أنفسهم من ناتج أعمالهم أو م ّ‬
‫بالعتق نظير خدمات أدوها لمن يملكهم أو للقبيلة كلها‪ ،‬كإظهار شجاعة في إحدى الغزوات أو مهارة في‬
‫أحد العمال‪ .‬و هم أقل مرتبة من أبناء القبيلة الخلص الصرحاء و لو وجد بينهم نوع من التوارث‪.‬و في‬
‫مقابل الموالي تأتي فئة الخلعاء ثم العبيد الذين هم دون الخلعاء ‪ .‬و يتكون العبيد أو الرقيق من أسرى‬
‫الغارات و الحروب أو بالجلب من الخارج كالحبشة أو بالشراء من سوق النخاسة‪ ،‬و كانوا يقومون بأشق‬
‫العمال و أحقرها‪ .‬فكانوا بذلك "في هذه الفترة يشكلون قوة منتجة ل استهلكية فقط‪...‬إلى جانب كونهم‬
‫كانوا يشكلون حينئذ إحدى السلع الشائعة و الرابحة")حسين مروة ـ النزعات المادية في الفلسفة العربية‬
‫السلمية ـ ‪.(1/200‬فعبد ال ابن جدعان كان من كبار النخاسين‪..‬و كان ل يتورع من تشغيل الماء في‬
‫الزنا و يحصل على أجورهن من ذلك كما أنه كان يبيع أولدهن من الزنا )برهان الدين دلو‪ ،‬جزيرة‬
‫العرب قبل السلم ‪..(1/168،‬أما الخلعاء فهم الشخاص الذين تلفظهم قبائلهم و تتبرأ منهم و من فعالهم‪.‬‬
‫و قد يتم ذلك كتابة أو بموجب إعلن يذاع عادة في السواق العامة‪ ،‬و هم في أغلبهم" شبان فقراء أمثال‬
‫عروة بن الورد و تأبط شرا و السليك بن السلكة و الشنفرى‪.‬و يسمون أيضا ذؤبان العرب جمع ذئب‪ ،‬لنهم‬
‫كانوا مشهورين بسرعة العدو‪ ،‬و لكن مع فقرهم كانوا نبلء و من نبلهم أنهم كانوا ل يهجمون إل على‬
‫الشحاء البخلء من الغنياء‪ .‬و كانوا يسمون بالعدائين لنهم كانوا مشهورين بسرعة العدو في السلب و‬
‫النهب )أحمد أمين ـ الصعلكة و الفتوة في السلم ص ‪ .(88‬و يجمع أهل الخبار على أن الصعلكة كانت‬
‫نتاجا طبيعيا للتراكمات المختلة في مجتمع شبه الجزيرة و َترّكز الثروة في أيدي طبقة محدودة من الناس ‪،‬‬
‫و في هذا الطرح يؤيدهم أحمد أمين إذ يبين في نفس الصفحة من نفس المصدر أعله ‪ ،‬أن " الحالة‬
‫الجتماعية في جزيرة العرب قد أنتجت هذه الصعلكة لن أكثرهم فقراء ل يجدون ما يأكلون‪ ،‬و إذا‬
‫حصلوا على شيء من تجارة أو نحوها ‪ ،‬فشيخ القبيلة هو الذي يأخذ من الغنيمة حصة السد و هم ل‬
‫يأكلون إل الفتات‪..".‬انتهى ‪"..‬فكانت النتيجة الطبيعية لهذا كله أن فّر الصعاليك من مجتمعهم النظامي‬
‫ليقيموا بأنفسهم مجتمعا فوضويا شريعته القوة و وسيلته الغزو و الغارة و هدفه النهب و السلب )د ‪.‬‬
‫يوسف خليف ـ الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ـ ص ‪.(55‬فعلى سبيل المثال ‪ ،‬في قبيلة هذيل "‬
‫فأغلب الفراد في هذه القبيلة كانوا من الدهماء يعيشون عيشة الكفاف قانعين أحيانا سخاطين عليه أحيانا‬
‫أخرى و بعضهم أو كثير منهم‪ ،‬كان يعد من الصعاليك و الذؤبان مثل "العلم" و "صخر الغى" و "أبي‬
‫جندب" و غيرهم ‪ .‬و مع ذلك كان الخلعاء من هذيل أقل من غيرهم ") هذيل في جاهليتها و إسلمها ـ‬
‫د‪.‬عبد الجواد الطيب ص ‪.(119‬و من خلل كل هذه القراءات نتلمس مبلغ ما يكنه أهل السير و‬
‫الخباريون من تعاطف اتجاه هذه الطبقة من المجرمين القحاح و من تنويه بفعالهم و تبرير لنذالتهم و‬
‫خستهم‪ ،‬فهم يعني " الصعاليك أو الخلعاء أو الذؤبان امتازوا على فئة الموالي و طبقة العبيد بالشهامة ) و‬
‫ما معنى الشهامة غير حمل السلح ؟؟( و المروءة )يا سلم و هل من مروءة في الغدر و القتل و السلب و‬
‫السبي و النهب؟؟ هذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول المعايير الخلقية التي يقيس عليها هؤلء الخباريون‬
‫أحكامهم الخلقية ؟؟؟(‪.‬إذ أنهم ما كانوا يستأثرون لنفسهم يما كانوا ينهبونه من الغنياء البخلء) و ما‬
‫هي المقاييس التي كانوا يتخذونها في الحكم عليهم بالبخل من غيره؟؟(‪.‬بل كانوا يعطونه طواعية و‬
‫اختيارا) لنهم لم يشقوا فيه و لم يتعبوا عليه بل كان رزقا ساقه ال إليهم ( للفقراء و المعدمين الذين حكم‬
‫عليهم المجتمع القبلي بالعوز و الفاقة و الحرمان)سؤال يطرح نفسه بإلحاح هنا هو إذا ما كان المجتمع‬
‫القبلي يشكومن كل هذه السلبيات و النقائص فلماذا بقي صامدا لحد الن؟؟؟؟(‪.‬و يتوج منذر الجابوري‬
‫تهليله بالصعاليك معلنا أنهم امتازوا بنظرات إنسانية متقدمة إذ كانوا يعمدون إلى تلك المآتي لغاثة‬
‫المعوزين )أيام العرب و أثرها في الشعر الجاهلي ‪ ،‬منذر الجابوري‪،‬ص ‪(16‬‬
‫نلك هي البنية الرئيسية و الهندسة الجتماعية للقبيلة العربية عموما و لقريش خصوصا‪ ،‬كما ترسمها لنا‬
‫السير و الخبار‪ .‬و يتبين من خللها أن المادة الرئيسية التي تتشكل منها التركيبة الجتماعية للقبائل‬
‫العربية هي طبقة الفقراء الطويلة العريضة المتذمرة و الساخطة ‪ ،‬و التي تمتد لتشمل العبيد و الموالي و‬
‫الصعاليك و الخلعاء و الطرداء و المحرومين و أبناء السبيل‪.‬و هؤلء للتذكير هم الذين جمعهم قصي أول‬
‫أمره ‪ ،‬و أجهز بهم على بني خزاعة و كنانة و بكر ‪ ،‬ثم أدخلهم الحرم و اقتطع لهم الرباع و أسكنهم‬
‫البطح و سّماهم قريشا و وعدهم بالسيادة على كل العرب‪ .‬و ها هو ذا عبد الدار يتجاسر عليهم و‬
‫يتجاوزهم و يستن القواعد و القوانين ليضيق عليهم و يحد من نفوذهم و ينال من مكانتهم السياسية و‬
‫الجتماعية في البنية المختلة التي تعرضها علينا السير و الخبار‪.‬‬
‫أما هاشم بن عبد مناف فيقدمه لنا ابن الكلبي على أنه هو صاحب اليلف و منظمه و الساهر على تنفيذ‬
‫بنوده‪ .‬و هو السفير بين قصي و أهل الشام الذين كانت تعنيهم الوضاع المنية بالحجاز إما لسبب التجار‬
‫أو لحماية الحدود‪ .‬فهاشم كان هو المتعهد لهم بالمن و الضامن عندهم للمان‪ .‬إذ ل يعقل أن تكون تجارة‬
‫البخور و الجلود و السمن و الزبيب و الحمير الحجازية بحاجة إلى أمان من قيصر الروم أي إلى معاهدة‬
‫على أعلى مستوى حسب مصطلحاتنا المعاصرة تسمح لها بأن تدخل أسواق الروم ‪ .‬أما إذا كانت هناك‬
‫فعل من تجارة فعلية بين بيزنطة و مكة‪ ،‬فإن التجار الروم هم الولى بأخذ المان في هذه الحال و‬
‫تجارتهم أولى بالتأمين و الحراسة‪.‬لنهم مقدمون على أرض تحكمها قواعد الغدر و السطو و شريعة‬
‫الخلء‪ ،‬أسيادها الذؤبان و رجالها العداءون‪..‬و الروم من جهة أخرى ليسوا في حاجة اقتصادية لتجارة‬
‫مكة إذ ليس لقريش من مواد حيوية تحتاجها الروم الشرقية في حياتها اليومية أو حركتها القتصادية‪.‬و لكن‬
‫بالعكس ‪ ،‬فأهل مكة و ورش مكة هم من يحتاج منتجات بيزنطة المختلفة و المتنوعة و رؤوس الموال‬
‫الرومية‪.‬فإذا كان هناك من شيء اسمه المان فالحرى أن يكون قد أعطي للروم و أهل الشام و ليس‬
‫العكس كما توحي لنا به السير‪ .‬و أمان )معاهدة يعني( بهذا الحجم المهول و بهذه الهمية الخطيرة‪ ،‬كما‬
‫يصور الخباريون‪ ،‬لو أن البيزنطيين أخذوه من أي جهة أو أعطوه إليها لكانوا كتبوه و أشهروه و ذكروه‬
‫في مقالتهم و أخبارهم ‪ ،‬و الحال أن هذا المان ل تجد له أثرا في كتابات الغريق و الرومان التي على‬
‫العكس‪ ،‬تحدثت بإسهاب عن عرب اليمن السعيد الذين قاموا بمّدهم بالطيوب في العصور السالفة‪ ،‬وقدمت‬
‫لنا وصفا عن مدنهم و قبائلهم و نظمهم السياسية و قوافلهم التجارية‪ .‬كما كتبوا عن الحبشة و أدوليس في‬
‫القرن السادس‪،‬لما كانت الوضاع السياسية و القتصادية في الجزيرة العربية تجذب انتباههم‪ ،‬و مع ذلك‬
‫لم يرد أي ذكر لقريش و ل لنشاطها التجاري الخطير و ل لمان قيصر لهاشم ل عند الغريق و اللتين و‬
‫ل عند السوريين و الراميين و القباط و كل الكتابات التي تم تأليفها خارج بلد العرب قبل الفتوحات‪.‬‬
‫فهاشم هو من أعطى المان لهل الشام‪ ،‬لنه بكل بساطة هو المتحكم في قراصنة الصحراء و قطاع‬
‫الطرق و النائب عنهم و المتحدث باسمهم ‪ ،‬بموجب اليلفات التي عقدها معهم‪.‬فلو أن هذه العهود أبرمت‬
‫مع شيوخ القبائل البدوية العدوة كما يوحي تعليق العلمة جواد علي ‪ ،‬فإن سؤال هنا يطرح نفسه ‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫ما موقع الغساسنة من اليلف؟ فالسير تخطت الغساسنة و أخرجتهم من مسرح الخبار‪ ،‬و حصرت‬
‫اليلف في قريش و القبائل العدوة‪ ،‬أما الغساسنة الدولة التجارية التي تملك أرض الشام متجر قريش و‬
‫تمتد حدودها الجنوبية لغاية يثرب فغيبت ذكرها السير و مسحت اسمها الخبار حتى لتكاد ل تجد للغساسنة‬
‫ذكرا منذ قصي إلى غاية خيانات الفتوحات التي سنتحدث عنها بإسهاب في حينها و كأن ما يحدث بين‬
‫الروم و أهل قريش ل يهم بني غسان !!! و الواقع أن الغساسنة قوم تجار و صناع و مزارعون مهرة‬
‫تشهد لهم الثار و كتابات الغريق و الرومان و معاملتهم التجارية مع القوام في مصر و بيزنطة و‬
‫أرض ما بين النهرين‪ .‬و الدهى و المر أنهم كانوا يتاجرون فيما يتاجرون في الزبيب و الجلود المدبوغة‬
‫و العطور و البخور ‪ ،‬نفس البضائع التي تدعي قريش المتاجرة فيها!!! فأ ليس من غير المعقول أل‬
‫يتخوف الغساسنة من أي توسع تجاري لغيرهم على حسابهم؟؟؟ فالمصادر السلمية ل تحدثنا عن أي رد‬
‫فعل للغساسنة اتجاه الجتياح التجاري المكي المزعوم لرضهم و التضييق على تجارتهم‪ .‬كما أن كتب‬
‫الغريق و اللتين ل تحدثنا عن أي مضايقة أو منافسة خضعت لها تجارة بني غسان‪.‬فما موقع الغساسنة‬
‫من اليلف و المان؟و إذا ما افترضنا أن هذه المعاهدات إنما تمت مع الغساسنة بين قريش وملوك الشام‬
‫وليس قياصرة الروم‪ ،‬باعتبار أنه ل يوجد لدينا أي دليل مادي يؤكد لنا أن العرب و خصوصا قريشا و‬
‫بالخص هاشما بن عبد مناف قد وصلوا إلى أنقرة أو القسطنطينية‪ ،‬فيبقى السؤال المشكلة هو هل يعقل أن‬
‫تبرم غسان معاهدات لستيراد نفس المنتوجات التي تنتجها داخليا بوفرة و تسهر على تصديرها لكل‬
‫البلدان؟؟ و إذا ما حصل و عقد مثل هذا المان أ لن يكون له تأثير سلبي على الحركية القتصادية الداخلية‬
‫في غسان خصوصا و أن السير تخبرنا عن أمواج متلطمة من قوافل الزبيب و السمن و الطيوب التي‬
‫تتدفق على الشام من مكة‪...‬؟‬
‫لندع أمر التجارة قليل ‪ ،‬و التساؤلت المشروعة المنبثقة عنها فإننا سنفرد لذلك بابا خاصا به‪ .‬و لنعد الن‬
‫لهاشم و بني عبد الدار لنقول بأن إيلفات هاشم قد تمت كلها في حياة قصي‪.‬ذلك أن هاشما الذي يرجح‬
‫النسابون و الخباريون أنه عاش ما بين عشرين و خمس و عشرين سنة )البلذري ـ أنساب ـ ‪ (1/63‬تثبت‬
‫الخبار أنه توفي بعد جده قصي بسبع عشرة سنة‪ ،‬و بالضبط سنة سبع و تسعين و أربعمائة للميلد‪.‬فإذا‬
‫حذفنا سبع عشرة سنة من خمسة و عشرين التي يرجح أن هاشما عاشها فستبقى لدينا ثمان سنوات‪ .‬فهل‬
‫يعقل أن يكون قصي قد أرسل لقيصر الروم طفل سفيرا عمره ثمان سنين ليعقد معه معاهدات المان؟ثم‬
‫قصة زواجه من سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجية التي أخرجها ابن سعد في طبقاته هل حدثت في هذا‬
‫العهد هي الخرى؟ و هل يعقل أن ينجز فتى توفي في ريعان شبابه كل تلك المآثر و العمال التي تنسبها‬
‫السير إلى هاشم؟؟‪.‬و من جهة أخرى نجد السير تؤكد على أن عبد المطلب بن هاشم قد عاش مائة و ثمان‬
‫سنين ‪ ،‬و أنه توفي لما بلغ الرسول ثمانية أعوام‪.‬فإذا كانت السير تتفق على أن الرسول قد ازداد عام الفيل‬
‫الموافق لسنة ‪570‬م‪ ،‬فإن عبد المطلب سيكون قد توفي سنة ‪578‬م ‪ .‬و عليه فإذا حذفنا من تاريخ وفاته‬
‫هذا ‪ ،‬تلك المائة و الثمانية سنين التي عاشها فإننا سنحصل على تاريخ ميلده الذي ل تسعفنا به السير و‬
‫الذي سيكون هو سنة ‪470‬م‪.‬و عليه فسيكون الفارق بين تاريخ ازدياد عبد المطلب البن و تاريخ وفاة‬
‫هاشم الب هو ‪ 29‬سنة‪ ،‬بينما السير تقول أن هاشما لم يعش إل خمسا و عشرين سنة على أبعد تقدير‪.‬فهل‬
‫هذا يعني أن عبد المطلب قد ازداد قبل أبيه بأربعة سنين؟؟؟؟‪ .‬لقد عاش هاشم أكثر من خمس و عشرين‬
‫سنة أبرم التفاقات في عهد أبيه و بمجرد وفاة قصي و وصايته بمقاليد الزعامة لعبد الدار و إقدام عبد‬
‫الدار على مسألة الحابيش ثار هاشم و إخوته بنو عبد مناف في وجه عبد الدار و " أجمعوا على أن‬
‫يأخذوا ما بأيديهم من الحجابة و اللواء و الرفادة و السقاية و الندوة و رأوا أنهم أحق به منهم لشرفهم عليهم‬
‫و فضلهم في قومهم )طبقات ابن سعد الجزء الثاني ذكر هاشم بن عبد مناف( فكان حلف المطيبين مع‬
‫هاشم و لعقة الدم مع عبد الدار ‪.‬و لما كادت الحرب أن تنشب "تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد‬
‫مناف الرفادة و السقاية )نفس المصدر السابق و نفس الصفحة(‪ .‬فالظاهر مما أخرجه ابن سعد عن ابن‬
‫الكلبي و عن عبد ال بن نوفل بن الحارث و غيرهما أن هاشما كان يطمع في الرفادة و السقاية أكثر من‬
‫أي وظيفة أخرى من وظائف الزعامة‪ .‬و السبب في ذلك هو اتصالها المباشر باليلف مع الصعاليك‪.‬تقول‬
‫السير بأن الرفادة هي إطعام الحاج و المعتمر لغاية رحيله عن مكة‪ .‬و نحن نسأل أي حاج هذا الذي يحتاج‬
‫إلى كل هذا الطعام الذي يهيأ بمكة حسب الخبار؟؟فالحاج يفترض فيه أنه قادم إلى مكة قصد التبرك و‬
‫التصدق و الستبضاع من أسواق مكة‪ ،‬و كل هذه المور تتطلب من الحاج أن يكون معه مال لينفق منه‬
‫على نفسه و على سفره‪.‬كما أننا من جهة أخرى نعلم أن أهل قريشا كانوا يفرضون على الزائر حقا يدعونه‬
‫حق قريش و من جملة ما كانوا يأخذونه من الغريب القادم إليهم ثيابه أو بعض بذنته التي ينحر)الشتقاق‬
‫‪ 172‬ـ المصنف ‪ (2/21‬فمن هم الحجاج الذين كانت تطعمهم مكة على حسابها إذن؟؟؟ ثم من جهة أخرى‬
‫إذا كان أهل مكة ينفقون على الحجاج سنويا كل هذه الموال التي تجمع باسم الرفادة لنهم معدمون و‬
‫فقراء محرومون فما الجدوى إذا من موسم الحج و ما الجدوى من مثل هؤلء الزوار و ما الجدوى من‬
‫السكن بمكة إذا؟؟؟ ثم من جهة أخرى مع من كان يتاجر هؤلء المكيون أيام موسم الحج؟ و بمن كانت‬
‫تعمر أسواق عكاظ و مجنة و ذي المجاز؟؟؟‪.‬فمن جهة تعلمك السير أن السواق تزدهر في موسم الحج و‬
‫من جهة أخرى تقدم لك أفواج الفقراء و المعدمين متجهة لتأكل السخينة في مكة‪.‬و ذاك ديدن المصادر‬
‫العربية في كل وقت و حين ‪ .‬أما الحجاج ‪ ،‬فكما هو حالهم اليوم كانوا يحملون أموالهم و زادهم و أقواتهم‬
‫التي يتصدقون منها على متسولي القروش ناكري الجميل‪ .‬و ما كانوا أبدا بحاجة لسخينة و ل عصيد‬
‫قريش‪.‬إنما الرفادة كانت حقا معلوما للصعاليك و الخلعاء في أموال قريش‬

‫‪ 6‬ك ككككك كككككككك ك ككككك كككككك ك ‪1‬‬

‫سيطرت مكة على التجارة العالمية‬


‫تربعت مكة على عرش التجارة العالمية‬
‫ل يمكن تصور مدى ما بعتري كاتبنا العربي و باحثنا السلمي من الفخر و العزة بالنفس و هو يخط هذه‬
‫الجملة المبهمة التي أضحت بفضل التاريخ الثانوي و الروايات الكلسيكية من أبده المسلمات التي ل يرقى‬
‫إليها شك و ل يلفها غموض‬
‫سيطرت مكة على التجارة العالمية‪.‬‬
‫كلمتان خفيفتان على اللسان‪ ،‬عسيرتان على الهضم‪ ،‬ثقيلتان على الفهم ‪ .‬ل يستطيع العقل العادي‪ ،‬مع كل‬
‫السف لكل رواتنا و إخباريينا الموقرين‪ ،‬أن يستوعبهما بهذه السهولة‪ .‬فالتجارة ليست شعرا و ل نثرا و ل‬
‫كلما في السحر أو الماورائيات‪ .‬إنما التجارة نشاط بشري ملموس و إنتاج حضاري مادي تنعكس آثاره‬
‫على الفرد و المجتمع‪ .‬فأينما ازدهرت التجارة ارتفع التخلف و انقشع الكسل و الخمول و حل البناء و‬
‫التشييد و انتشر المن و المان و شمخ العمران‪.‬‬
‫سيطرت مكة على التجارة العالمية‬
‫فرية لم تستطع أعتا المدن و أكثرها قدما و تجدرا في التاريخ أن تدعيها‬
‫فل روما ادعت يوما أنها فعلت ما فعلته مكة‪ .‬و ل السكندرية تجرأت على القول بما قالته مكة ‪ ،‬و ل‬
‫دمشق و ل أثينا بلغت بهما الوقاحة مقدار ما بلغته مكة‪.‬‬
‫قد يقبل أهل اليمن أن تسلبهم قريش تاريخهم و تتبنى حضارتهم ‪.‬و قد يقبل أهل العراق و الشام أن تكون‬
‫قريش سيدتهم و أميرتهم‪.‬لكن الحبشة لو ُتبعث اليوم حية ‪ ،‬و تسمع بمثل هذا الفتراء‪،‬ما أظنها إل ستنتفض‬
‫مذهولة و تحتج رافضة أن تسلبها مكة الحقيرة مكانتها التجارية التي احتلتها في القرن السادس‪ ،‬خصوصا‬
‫و أن كل المصادر تقف بجانبها و تعزز موقفها بما فيها مصادر أهل قريش نفسها‪ .‬فالمرء يحار لسماعه‬
‫أن قبيلة مغمورة مثل قريش تسكن قرية صغيرة مثل مكة في صحراء خالية متخلفة مثل صحراء العرب‬
‫استطاعت يوما من اليام أن تقصي الثيوبيين عن البحر‪ ،‬و تنتزع منهم و من العالم البيزنطي المترامي‬
‫الطراف السبق التجاري الذي كانوا يحضون به‪.‬فالكل يعرف أهمية إثيوبيا في القرن السادس الميلدي و‬
‫التاريخ يشهد لها بالسيادة الكاملة على البحر الحمر بعد سقوط البطالمة و السيطرة على المحيط الهندي‬
‫من سواحل شرق إفريقيا إلى الهند و سيلن ‪ .‬و ما حروبهم مع الفرس و استيلؤهم على ممالك اليمن إل‬
‫جزء من هذا النفوذ العظيم الذي كانت تحظى به إثيوبيا ‪.‬فأي تجارة هذه التي احتكرتها أو سيطرت عليها‬
‫قريش؟‬
‫إن مجرد ذكر كلمة التجارة يفجر في عقل المتتبع للخبار عدة أسئلة موضوعية ل تستطيع الروايات أن‬
‫تسعفه بأي إجابة عنها ‪.‬فالتجارة تتطلب الطرق المعبدة و تتطلب المواصلت و رؤوس الموال و توفر‬
‫السواق المنظمة و سن القوانين التجارية و تنظيم المعاملت ‪،‬كما تقتضي التجارة العهود و المواثيق و‬
‫المكاتبات و المحاسبات و السجلت‪ ،‬هذا إن كانت تجارة عادية ‪ .‬أما والحال أننا نتحدث عن تجارة على‬
‫الصعيد العالمي فإن هذه ستقتضي من القائمين عليها توفير أساطيل عسكرية تسهر على حمايتها و تأمين‬
‫طرقها البرية و البحرية‪.‬فل يعقل أن تكون هناك تجارة عالمية و ل تكون بجانبها قوة عسكرية تضمن‬
‫حركيتها و تؤمن نشاطها!!‪.‬كما تتطلب التجارة كذلك سك النقود و إنشاء المصارف و جباية الضرائب و‬
‫المكوس‪ .‬و كل هذه المتطلبات شروط مادية يفترض أن تكون لها آثار تشهد عليها و توثق لها‪.‬فما هي‬
‫الشواهد و الثار الباقية التي تدل على تجارة مكة؟؟ أين هي الطرق التي بلطتها مكة ؟أين هي آثار‬
‫مواصلت أهل مكة و بقايا نقودهم ‪ ،‬أين هي مكاتباتهم و معاهداتهم ‪ ،‬أين هي قوانينهم التجارية؟ ففي حين‬
‫نجد في اليمن أثارا للطرق المبلطة و النقود المسكوكة و النقوش المدونة و التي تدل على النشطة‬
‫التجارية و غيرها و تحمل السماء و التواريخ و المعاملت ‪ ،‬و في حين نجد كتابات اللتين و الغريق‬
‫و السريان و القباط و الشوريين تتحدث عن اليمن السعيد وعن غناه و ثرواته‪ ،‬وعن أهل الحبشة و‬
‫مدنهم و موانئهم و تجارتهم ‪.‬فإننا بالمقابل ل نجد أي شيء يذكر في تلك المصادر عن قريش و ل عن‬
‫هاشم وإيلفه و ل عن تجارة مكة‪ .‬اللهم هذا الكم التلطم من الخبار المتناقضة و المتراكبة الوارد في‬
‫أسفارنا المقدسة ‪ ..‬فمتى كانت قريش تتاجر إذا؟؟ و في ماذا كانت تتاجر؟ و مع من كانت تتبادل تجارتها؟‬
‫و أين هي طرقها التجارية؟ و ماذا عن نقودها و معاهداتها و قوانينها التجارية ؟ هل هناك من لقى أو آثار‬
‫تدل عليها؟؟ و مما يؤسف له أنك ل تجد أي إجابة شافية مقنعة على أي سؤال من هذه السئلة‪ ،‬ل لدى‬
‫الرواة و أهل الخبار و ل حتى لدى المستشرقين الكبار‪ ،‬الذين في جلهم انساقوا وراء بريق الرواية و‬
‫سحر البلغة‪ ،‬فاكتفوا مشقة التدقيق و التمحيص‪ ،‬و البحث و التنقيب و البرهنة و النقد النزيه‪ ،‬و غدوا مثل‬
‫رواتنا مطبلين مهللين لنظرية تربع مكة على عرش التجارة العالمية‪.‬‬
‫هذه المقولة ـ النظرية يتخذها الرواة و أهل الخبار بديهية و مسلمة ‪ ،‬فيجعلونها مقدمتهم الكبرى التي‬
‫ينطلقون منها ليستدلوا على أن أهل مكة كانوا تجارا مهرة حاذقين و أن مكة كانت تتوسط الطريق‬
‫التجارية التي تربط الهند ببيزنطة ‪ ،‬وأنها استطاعت في القرن السادس للميلد بعبقريتها و حنكتها أن ترث‬
‫الطرق التجارية التي تمر بها بعد أن اختلت الدول في اليمن و خارت عظمة بيزنطة و الساسان نتيجة‬
‫الحروب بينهما و القتتال‪ .‬و هكذا ينتهوا بك في الخير إلى أن مكة قد تربعت على عرش التجارة‬
‫العالمية‪..‬نعم‪ ..‬و في هذا المقام ‪ ،‬و قي إطار تقديمه لتجارة مكة‪ ،‬يعلق العلمة جواد علي قائل في هذا‬
‫الصدد‪":‬فمورد الكسب الول عند العرب هو الغزو على رأي أهل الخبار‪ ،‬و قد ترفعت قريش عنه‪ ،‬و‬
‫صرفت نفسها إلى التجارة‪)" .‬المصنف ‪. (7/286‬و يضيف في نفس التعليق أن الجاحظ قد نسب سبب‬
‫تركهم الغزو إلى "كونهم أهل حمس ديانيين لذلك تركوا الغزو لما فيه من الغصب و الغشم واستحلل‬
‫الموال و الفروج من العرب" )كتاب البلدان ‪ .(468‬فبواسطة الدين إذا زهد ت قريش في الغزو و ابتعدوا‬
‫عنه و استغفروا لذنوبهم و تابوا منه إلى التجارة‪،‬ثم أفاء ال عليهم بطرق أهل اليمن يرثونها حلل مطيبا ‪،‬‬
‫فأصبحوا ملوك التجارة العالمية‪ .‬هكذا و بكل البساطة يختزل الجاحظ التاريخ و يزدري التجارة و يجعل‬
‫الدين أداة سحرية تحول قريش بين عشية و ضحاها من غزاة مغيرين غاصبين غاشمين إلى تجار أذكياء‬
‫حاذقين كرماء جوادين‪ .‬فعن أي دين يتحدث الجاحظ‪ ،‬كان يتحمس فيه أهل مكة في هذا البان الذي نتحدث‬
‫فيه‪.‬؟؟ و نحن نعلم ما أخرجه اليعقوبي في تاريخه من إجماع أهل الخبار على أن معظم سكان مكة كانوا‬
‫دخلء عليها و نازحين إليها من الخارج‪.‬فهم كما يقول من مختلف نواحي الجزيرة المسماة عربية و من‬
‫الهلل الخصيب و من اليمن و بلد فارس و الروم و من مصر و الحبشة و السودان و من فينيقيا و‬
‫فلسطين و سوريا و بلد ما بين النهرين‪ ،‬لدى يستنتج أن اختلطهم هذا أدى إلى اختلط أديانهم و تنوع‬
‫معتقداتهم و لغاتهم‪ ،‬فكان منهم يهود و نصارى و صابئة مندائيون و زرادشتيون مجوس ‪) ،‬اليعقوبي‬
‫‪ .(1/254‬ففي أي ديانة كان أهل مكة يتحمسون إذا؟‪...‬أما قريش فخلطاء ! نعم !! و هذا ما يؤكده ابن‬
‫الكلبي في قوله‪ :‬إنما قريش جماع النسب ليس بأب و ل بأم و ل حاضن و ل حاضنة )ابن سعد‬
‫‪...1/66،69،71‬نهاية الرب ‪ (1/20‬و يعني أنهم ليسوا من أصل واحد و ل من قبيلة واحدة و أن قريش‬
‫ليس جدا و ل جدة لينتسبوا إليه‪ .‬و إنما هم بإجماع كل أهل الخبار"في غالبيتهم من البدو و الحابيش و‬
‫الخلعاء و المطرودين الذين يسميهم القرآن بالراذل و الذلة و الرذلين‪ ،‬و فيهم الفقير و اليتيم و المسكين‬
‫و ابن السبيل و المحتاج أما كتب السير و الخبار فتنعتهم بالصعاليك و الخلعاء و الطرداء و الخلطاء و‬
‫لصوص البادية و ذؤبان العرب و الشياطين و الفتاك و غير ذلك)الواقدي ‪، 457‬الطبري ‪، 1/1438‬‬
‫الغاني ‪، 8/65‬النهاية لبن الثير ‪ 2/52‬أسد الغابة في أسماء الصحابة ‪ .(5/178‬و كلنا يذكر أن قصي بن‬
‫كلب جمع هذه العينة من البشر و خطب فيهم قائل لهم‪ :‬هل لكم أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول‬
‫البيت؟؟فوال ل يستحل العرب قتالكم و ل يستطيعون إخراجكم منه‪ ،‬و تسكنونه فتسودوا العرب أبدا‪.‬فقالوا‬
‫أنت سيدنا و رأينا تبع لرأيك‪ ،‬فجمعهم ثم أصبح في الحرم حول الكعبة‪).‬السيرة الشامية ‪ 1/321‬ـ ‪ (325‬و‬
‫نذكر أن أول مال أصابه قصي هذا كان حسب السيرة الشامية مال رجل قدم مكة بأدم )جلود( كثير ‪،‬‬
‫فباعه و حضرته الوفاة و ل وارث له فوهبه لقصي و دفعه له إل أن ابن حبيب يصحح هذا الرواية‬
‫مصرحا بكل الشجاعة أنه " قام قصي بقتل أحد النبلء الحباش و نهب ثروته و كان قادها لمكة من أجل‬
‫التجارة‪).‬المنمق ‪.(108 ،‬هذا هو قصي أبو هاشم صاحب اليلف‪ ،‬و هؤلء هم قريش قوم هاشم‪ ،‬و هذا‬
‫هو مالهم الذي يفتخرون به على العباد‪ ،‬و هذا هو المجتمع القرشي المتصدع الذي يفترض أن القرآن جاء‬
‫لصلح ذات البين بين أغنيائه و فقرائه‪ .‬و المفارقة العجيبة هي أن القرآن فعل يتحدث عن خلقية تجارية‬
‫ويخاطب في شقه المكي قوما تجارا جشعين مستبدين‪ .‬فهل كان القرآن يخاطب قريش هؤلء الذين قدمناهم‬
‫الن‪ ،‬أم أنه كان يخاطب قريشا آخرين؟؟ فهؤلء القريش الذين نعرفهم‪ ،‬أو بالحرى تعرفنا عليهم‬
‫السير‪،‬إنما هم قوم لصوص غزاة مغيرون!! فكيف بالقرآن الذي نزل فيهم يخاطب قوما تجارا؟؟؟؟يقول‬
‫الستاذ سليمان الكتاني في كتابه " محمد شاطئ و سحاب""ولد محمد في مكة يوم كانت مكة تعجن‬
‫الطحين من كل غبار يتطاير من زحف أقدام الحجاج إلى حرم مكة‪ ،‬يوم كانت تتلمس بركة قطيع من‬
‫الصنام المشرورة حول هذه الجدران‪ ،‬يوم كانت تنام صديانة )شديدة العطش( تنتظر رجوع النوق من‬
‫رحلتها إلى الشام و العراق لتأخذ من حليبها المنهوك جرعة ري‪) .‬ص ‪ (31‬فإذا كانت هذه حال مكة‬
‫عشية ولدة النبي فيها سنة ‪570‬م‪.‬فأين هي آثار التجارة التي قامت و ازدهرت فيها منذ هاشم الذي توفي‬
‫سنة ‪497‬م ‪.‬ألم يكن قرنا من الزمان كافيا لتظهر تجارة مكة عن حضورها من خلل التأثير في الوضاع‬
‫و تحسين الحوال؟؟‪ .‬قريش لم يكونوا تجارا و لم يكفوا يوما عن الغزو و السلب و النهب‪ ،‬لن ذاك هو‬
‫أمرقصي الذي صار فيهم دينا‪ ،‬حتى أصبحوا يتحمسون فيه كما ورد عن الجاحظ‪ .‬فالسؤال الذي نبتغي‬
‫الوصول إليه من خلل هذا السياق هو هل يمكن للصوص المحترفين و الناجحين في فنهم أن يتحولوا إلى‬
‫تجار مغمورين يتذللون بالدم والسمال المتهرئة بين القبائل الفقيرة والسواق الكاسدة‪.‬؟؟هل يعقل هذا؟؟‬
‫هل يعقل أن يتخلى اللص عن الرباح السهلة التي يجنبها من وراء صنعته التي ل يتقنها سواه‪ ،‬و‬
‫يغامربالمقابل بما سرق طول حياته في عمليات تجارية غير مضمونة العواقب و ل مأمونة الجانب‪ ،‬و هو‬
‫أعلم بما يحذق بالموال من المصائب و الهوال؟؟؟ ثم من جهة أخرى هل يعقل أن يستقر اللص في مكان‬
‫معلوم حيث يكون عرضة للعيون و الحراس وغرضا سهل المنال لصحاب الثأر والعداء؟؟‪ .‬فخطبة‬
‫قصي السالفة الذكر ل تفيد بالضرورة أن لصوصه قد نزلوا البطح و استقروا فيها و بنوا لنفسهم الدور و‬
‫المنازل‪ .‬فهذه باتريشيا كراون في كتابها تجارة مكة و ظهورالسلم تعتقد إن المان إنما هو أمان لهل‬
‫مكة يرجع فيه الفضل إلى التحالفات التي عقدت مع أفراد قريش‪ ،‬و ليس لسبب القداسة التي افترضت في‬
‫أراضي مكة‪).‬ص ‪.(319‬فهي بذلك تأخذ برواية أن قريشا لم ينزلوا بمكة و أن أهل مكة من خزاعة و بني‬
‫بكر لم يغادروها‪ ،‬بل إنهم رضوا بالعيش تحت كنف و وصاية قريش الذين بقوا في جبالهم يحيطون بمكة‬
‫من كل جانب و يتربصون بأهلها في كل حين‪.‬و هذا أقرب إلى طبيعة اللصوص عن الستقرار الذي من‬
‫شيم التجار‪.‬كما أن اللصوصية ‪،‬ولمن يجهلها‪،‬فإنها كالتجارة فن و علم و صناعة و أدب و نمط من العيش‬
‫يناقض بالتمام و الكمال نمط العيش عند التجار‪.‬و هذا مأزق القرآن الذي يقول أنه نزل على قريش‬
‫المجتمع التجاري الذي بمكة ‪ ،‬بينما القرائن التي بين أيدينا لحد الن تنفي عن مكة الصبغة التجارية‪ ،‬ول‬
‫تثبت أن قريشا كانوا يسكنون و يتجرون في مكة‪ ،‬و تؤكد على أن قريشا كانوا لصوصا أشداء محترفين‪ .‬و‬
‫نحن نضيف أن اللصوص ل يمكنهم أن يكونوا تجارا و ل يمكن لرباح أي تجارة كانت أن تعوضهم عما‬
‫يجنونه من السرقة و السلب و النهب ‪ .‬و لو افترضنا أن هذا حدث‪ ،‬و أن لصوص مكة أجمعوا على‬
‫الثواب و أرادوا التجار تكفيرا عن الذنوب فما هي هذه التجارة التي ستستهوي هذه العينة من البشر؟؟؟ ما‬
‫هو نوع هذه التجارة التي ستتلءم مع طبيعة اللصوص سابقا فيقبلون عليها بكل ترجيب ‪ ،‬و تعوضهم عن‬
‫اللصوصية و إغراءاتها ؟؟ فاللصوص كما نعلم لو يتاجرون فإنهم يتاجرون في الممنوعات و المحرمات‬
‫و المهربات و السلع المغشوشة‪.‬كما أنهم يتاجرون في المخدرات و الخمور‪ .‬و على ذكر الخمور فقد ورد‬
‫عن علماء اللغة أن العرب تسمي بائع الخمر تاجرا‪ ،‬و أن أصل التاجر عندهم الخمار يخصونه من بين‬
‫التجار‪).‬تاج العروس ‪ .(3/66‬كما يتاجر اللصوص في الذمم و الرقاب و الزور و في النخاسة و القوادة ‪.‬‬
‫و لنا في تجار قريش المرموقين أمثال عبد ال بن جذعان و العباس الخمار عم النبي مادة دسمة للدرس و‬
‫التمحيص في مقتبل فقرات هذا البحث الميمون‪.‬‬
‫هذه هي طبيعة البشر الذين يفترض أنهم أصبحوا ملوكا للتجارة العالمية‪ ..‬و هذه هي خاصيات المجتمع‬
‫الذي يفترض أنه تربع على عرش التجارة العالمية‪ ..‬و الن علينا أن نتعرف على هذه التجارة المزعومة ‪،‬‬
‫أشكالها و أنواعها ‪ ،‬بضائعها و أماكن إنتاجها‪ ،‬طرق نقلها و أسواق تصريفها‪ .‬و علينا أن نتتبع تلك‬
‫الطرق التجارية التي تزعم مكة أنها تتوسطها و أنها و رثتها عن ممالك اليمن السعيد‪ ،‬لنحصيها و نحدد‬
‫مساراتها واتجاهاتها و أعمارها‪ ..‬و علينا كذلك أن نستقصي تلك الحروب المزعومة التي كانت بين الروم‬
‫و الساسان من جهة و بين هؤلء و الحباش من جهة أخرى لنقف على مدى تأثيرهم على التجارة العالمية‬
‫و على الدور المزعوم الذي لعبوه في إنشاء تجارة مكة‪ .‬و لكم علي أل أدع صغيرة و ل كبيرة تفيد من‬
‫بعيد أو من قريب في تزيين سمعة تجارة مكة إل أحصيتها لكم و و ضعتها بين أيديكم ‪.‬و إلى ذالك الحين‬
‫ها هو أبو نبي الصعاليك يحييكم ‪.‬‬
‫تشاو‬
‫‪ 7‬ك ككككك كككككككك ك كككك ككككككك ك ككككك‬
‫كككككك‬

‫يدعي لصوص التجارة أن مكة ورثت تجارة اليمن التي كانت تمر منها قوافلها نحو الشام لما انهارت دول‬
‫اليمن السعيد‪ .‬و هذه المقولة‪ ،‬لوحدها ‪ ،‬تتضمن اعترافا صريحا بالنصب و التربص و التبييت و السطو‬
‫على ما هو للخرين‪.‬فكيف ترث قريش حضارة قوم و أبناؤهم أحياء يبصرون؟ أ لم يكن لليمنيين ورثة‬
‫شرعيون ‪ ،‬حتى ترثهم قريش؟؟؟ إن المتمعن في تاريخ اليمن القديم ‪ ،‬يخرج منه بانطباع يرى فيه اليمن‬
‫جزيرة يحيط بها من الجنوب ‪ ،‬المحيط الهادي الذي يصطلح عليه بالبحر الريثيري‪ ،‬و من الشرق و‬
‫الغرب البحران الحمر و الفارسي و يحيط به من شماله محيط الجوع و الخوف و الجفاف و القحط و‬
‫الرمل و الصخور‪ .‬و يجد أن أهل اليمن قوم متفتحون على البحار الثلثة أكثر من تفتحهم على أهوال‬
‫الصحاري و الفيافي و الرمال‪.‬فقد كان أهل اليمن و الثيوبيون و أهل الهند يتداولون السيادة على شمال‬
‫غرب المحيط الهندي و البحر الحمر‪ ،‬اللذين من خللهما كانوا على صلة وطيدة بالعالمين الشرقي و‬
‫الغربي ‪.‬فاليمنيون اتصلوا بالهنود و الصين و بالروم و الغريق و بأهل فارس حتى من قبل أن تعرفهم‬
‫مكة‪ .‬و هذا ما سنفيض فيه في هذه الحلقة‪.‬فنبدأ بالتساؤل حول ماهية هذه التجارة اليمنية التي استولى عليها‬
‫لصوص مكة؟ لتقودنا المصادر الدبية الثانوية و البحوث السلمية إلى شهرة أهل العربية الجنوبية في‬
‫إنتاج و تصدير الطيوب و التوابل و الذهب و الفضة‪ .‬و أما الذهب و الفضة فتلك منتجات لم تتوفر في‬
‫اليمن إل إثر التدخل الفارسي فيه‪ ،‬و هو ما سنقف عليه فيما بعد‪.‬و أما التوابل فكان أهل اليمن يتوفرون‬
‫على بعض منها عن طريق المقايضة‪.‬و أما الطيوب فتلك منتوجات يمنية اشتهرت بها اليمنمنذ فجر‬
‫التاريخ‪ .‬هذه الشهرة استغلها الخباريون و البحاث المسلمون و كثير من المستشرقين ابتداء من لمينز و‬
‫اتخذوها‪ ،‬إلى جانب قصة اليلف‪ ،‬أساسا لبناء نظرية تربع مكة على عرش التجارة العالمية‪ .‬فيقولون بأن‬
‫لتجارة الطيوب في العصور القديمة أثر كبير على تجارة مكة ذلك أن سبب قيام هذه يرجع في الساس إلى‬
‫انهيار تجارة الطيوب ومن جهة أخرى إلى التدخل الجنبي فيها‪ .‬أما الطيوب المعنية بالذكر فهي كل المواد‬
‫التي تنبعث منها رائحة طيبة عند حرقها كالعطور والمراهم و المواد المعطرة ذات المذاق المستساغ التي‬
‫تستخدم في الطعام و الشراب و المواد التي تجدد الشباب و تطيل العمر نظرا لهميتها الطبية و السحرية ‪،‬‬
‫و كان منها أيضا المواد المضادة للسموم)‪(1‬‬
‫و يعد اللبان الحر و المّر النوعين الساسين في البخور العربي ‪ .‬و أما الول فهو لبانة حمضية زيتية‬
‫يمكن استحلبها‪ .‬و منها عدة أنواع تستخرج من العائلة النباتية التي تسمى بوْرسيراكاي ‪.‬و يتم جنيه عن‬
‫طريق عمل شقوق في اللحاء ‪.‬و تعّد كل من بلد العرب الجنوبية و سقطرة و شرق إفريقيا و الهند هي‬
‫الموطن الصلي ‪.‬و هناك نوعان من هذا القسم من النبات يعّدان من أنواعه الصلية التي تنتج اللبان الذكر‬
‫الصلي الذي كانت له أهمية كبيرة في العالم القديم و هذان النوعان هما‬
‫)‪ B.Carteri (2‬و ‪B.Sacra‬‬
‫و موطنهما الصلي العربية الجنوبية و شرق إفريقيا‪ .‬و لقد رغب المصريون و اليهود و الغريق و‬
‫الرومان و الفرس في هذا النوع بل و طمع فيه الهنود و الصينيون أيضا‪ .‬و كان يتم حرق اللبان في المعابد‬
‫تمجيدا لللهة ‪ ،‬و في الطقوس الجنائزية و في المنازل و الغراض الطبية و تركيب العطور في بعض‬
‫الحايين‪ .‬و أما المر فهو لبان صمغي زيتي يمكن استحلبه‪ .‬منه المسمى كوميفورا و المسمى‬
‫بلسامودندرون‪.‬‬
‫و ينتمي إلى العائلة النباتية التي ينتمي إليها اللبان الذكر‪.‬و شجرة المر الشائعة هي تلك التي تسمى‬
‫كوميفورا‪ ،‬والتي كانت أكثر انتشارا من أشجار اللبان الذكر‪ ،‬والتي وجدت بكثرة في الصومال ‪ ،‬و منه‬
‫أنواع في الهند يستخرج منها الصمغ النباتي بديليوم‬
‫وكانت أول إشارة للمر و اللبان وردت في التاريخ القديم‪ ،‬هي ما ذكر عن قيام المصريين القدامى من‬
‫استيراده من بلد بونت على الجانب الفريقي والمعروفة بإنتاج العاج و البنوس و الزراف و الكواخ‬
‫المقامة من سيقان النباتات الجافة‪(3) .‬‬
‫ثم تسكت المصادر اللتينية و الغريقية عن ذكره‪ ،‬إلى أن تتفق مع المصادر السلمية‪ ،‬و بالخصوص‬
‫الحديثة منها‪ ،‬على الشارات إليه الواردة في التوراة ‪.‬حيث نجد في العهد القديم عدة إشارات إلى الطيوب‬
‫عند ذكر مملكة سبأ‪ ،‬تختار منها المصادر السلمية بضع آيات كأنهن أم التوراة‪ ،‬فتستهلكهن في مسألة‬
‫الستدلل على غنى جنوب العربية و ثرواتها المتنوعة التي فازت باحتكارها مكة في القرن السادس‪ .‬و‬
‫من هذه اليات ما أورده العلمة جواد علي في مصنفه إذ يقول ‪ :‬وفي "المزامير" أن "شبا" ستعطي‬
‫"الذهب" لملك العبرانيين في جملة الشعوب التي ستخضع له‪ ،‬تقدم له الجزية )‪ .(4‬وورد في "أرميا" أن‬
‫"شبا" كانت ترسل "اللبان" إلى إسرائيل )‪ .(5‬وقد ذكروا في سفر "حزقيال" في جملة كبار التجار‪ .‬كانوا‬
‫يتاجرون بأفخر أنواع الطيب وبكل حجر كريم وبالذهب )‪ .(6‬وأشير في "أيوب" إلى قوافل "شبا" التي‬
‫كانت تسير نحو الشمال حتى تبلغ إسرائيل )‪.((7‬‬
‫و يعلق جواد علي بأن في هذه الشارات دللة على الصلت المستمرة التي كانت بين العبرانيين و‬
‫السبئيين‪ ،‬وعلى أن السبئيين كانوا هم الذين يذهبون إلى العبرانيين‪ ،‬يحملون إليهم الذهب و الحجار‬
‫الكريمة والطيب واللبان‪ .‬فتبيع قوافلهم ما عندها في أسواق فلسطين‪ ،‬ثم تعود حاملة ما تحتاج إليه من‬
‫حاصلت بلد الشام ومصر وفلسطين )‪ .(8‬ثم يستطرد قائل ‪ :‬ويظهر من سفر "يوئيل" إن السبئيين كانوا‬
‫يشترون السبي من فلسطين‪ ،‬من "بني يهوذا"‪ ،‬حيث جاء فيه تهديد لهل صور وصيدا بأن رب إسرائيل‬
‫سينتقم منهم جزاء اعتدائهم على السرائيليين ونهبهم ذهبهم وفضتهم‪ .‬وسيجعلهم عبيدًا يباعون في‬
‫السواق إلى السبئيين‪" :‬وأبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا تبيعونهم للسبئيين‪ ،‬لمة بعيدة‪ ،‬لن الرب قد‬
‫تكلم"‪ .‬مما يدل على أنهم كانوا من المشترين للرقيق‪ ،‬ينقلونه إلى بلدهم للستفادة منهم في مختلف نواحي‬
‫الحياة‪ ،‬يتخذون النساء الجميلت زوجات لهم‪ ،‬ويتخذون البشعات والقويات للخدمة‪ ،‬و يعهدون للرجال‬
‫بالعمال المختلفة التي تحتاج إلى ذكاء ومهارة وفن و إتقان‪ ،‬وبأعمال أخرى صناعية وزراعية‪ ،‬وأمثال‬
‫ذلك)‪.(9‬‬
‫و عليه فمن خلل القراءة السريعة لهذه اليات يلحظ القارئ ورود عبارات مثل )شبا" كانت ترسل‬
‫اللبان( و) يحملون إليهم الذهب و الحجار الكريمة والطيب واللبان( أو )كانوا يتاجرون بأفخر أنواع‬
‫الطيب وبكل حجر كريم وبالذهب( و كذلك )إن السبئيين كانوا يشترون السبي من فلسطين( ‪ ،‬مما يفيد أن‬
‫الذهب كان هو المادة الساسية في تجارة و ثروة السبئيين الذين يفترض أنهم من اليمن‪.‬وتتبعه في المرتبة‬
‫الطيوب و اللبان و الحجار الكريمة‪ .‬كما يفيد أن السبئيين كانوا يستوردون في المقابل الرقيق‪ .‬و أول ما‬
‫يتبادر إلى الذهان فهو ما حاجة السبئيين اليمنيين إلى الرقيق و هم الذين يسكنون الحبشة و يستعمرونها؟؟‬
‫كما أن العرب يعرف عنهم استعبادهم بعضهم البعض من خلل سنة الغزو‪ ،‬ما يجعلهم في غنى عن‬
‫استقدام الرقيق من مكان آخر‪.‬و إن حدث و ُوجد عندهم عبيد من غير العرب فهؤلء هم الذين يستغلون في‬
‫النخاسة‪ .‬فما حاجة السبئيين إلى رقيق الشام إذا؟ كما أنه من جهة أخرى لم تذكر المصادر الدبية و ل‬
‫الثرية أي شيء يدل على تجارة سبأ في العبيد ‪ ،‬إنما كانت شهرة السبئيين محصورة في الطيوب بكل‬
‫أنواعها‪ .‬أما الذهب و الفضة فتتفق المصادر السلمية و الكلسيكية من إغريقية و لتينية على أن معادن‬
‫الذهب و الفضة لم تشتهر بها اليمن إل بعد التدخل الفارسي فيها إثر قيام الثيوبيين بغزوها للمرة الثانية‬
‫عام ‪525‬م‪.‬آنذاك عثر الفارسيون على منجم الرضراض الشهير الذي يذكر الهمداني أنه "يوجد في إقليم‬
‫حمدان و أنه كان يقوم بإدارته من أطلق عليهم فرس المنجم ‪ ،‬و هم الذين قدموا إليه في العصر الجاهلي و‬
‫ظلوا موجودين هناك حتى القرن التاسع")‪ .(10‬و في كتابه الصفة نجده يسمي الجيل الثاني من فرس‬
‫المنجم بالبناء ‪،‬فيقول‪:‬‬
‫"وكان يعمل في معدن الرضراض في اليمن عدد من البناء وهم من أصول فارسية" )‪، (11‬و يضيف في‬
‫نفس المصدر " أما الجاليات الجنبية التي شكلت قوة العمل الخرى بجانب الرقيق فتتمثل في البناء‪ ,‬وهم‬
‫أفراد الجالية الفارسية في بلد اليمن‪ ,‬الذين كانوا بالساس يمثلون بقايا الجنود الفرس‪ .‬وهم أرسلوا على‬
‫دفعتين إلى هذه البلد من أجل محاربة الحباش‪.‬و تركز البناء في ما بعد حول معدن الرضراض عاملين‬
‫ومستثمرين‪ ,‬وهو أهم معادن الفضة في اليمن‪ .‬و يؤكد الهمداني أن أهله كانوا كلهم من الفرس‪ .‬ولكثرتهم‬
‫وهيمنتهم على المعدن سموا بفرس المعدن"‪.(12) .‬و في الجوهرتين يشيد بوجود عدة مناجم للذهب في‬
‫اليمن و جودة معدنها )‪ .(13‬أما ما يوردونه من أن الملك سليمان قد عثر على الذهب في منطقة عسير‬
‫فذلك خيال نحن الن في صدد تبديده شيئا فشيئا‪ .‬و عليه فالذهب و الفضة و الحجار الكريمة لم تشتهر بها‬
‫اليمن في العصور القديمة إل في هذه اليات البينات التي يختارها جواد علي و من سار على هديه‪ .‬و مما‬
‫يثير النتباه هو عدم إشارته ل من بعيد و ل من قريب إلى ما ورد في سورة النمل من الية ‪20‬إلى الية‬
‫‪ 44‬من أمر ملكة سبأ و الملك سليمان و قصة الهدهد و القرية و العرش‪ .‬فهذه القصة رغم قصرها و‬
‫اختزالها‪ ،‬فهي تحفل بعدة معطيات في غاية الهمية من ضمنها الطيوب و الموال‪ .‬وبالضافة إليهما فهي‬
‫تفيدنا في تحديد تاريخ شبا الواردة في العهد القديم و ذلك في شخص الملك سليمان الذي نعرف أنه قد حكم‬
‫حوالي ‪ 900‬قبل الميلد‪ .‬كما أن أسطورة الهدهد الواردة فيها تفيد أن قوم سبأ المعنيون بالذكر كانوا‬
‫يعبدون الشمس و كانت تحكمهم امرأة‪ .‬و هذان أمران ل ينطبقان على أهل اليمن‪ .‬إذ لم يثبت في أي تاريخ‬
‫أن عرب الجنوب كانوا يتخذون النساء ملكات و ل حتى في الحبشة‪ ،‬و إنما هم عرب الشمال من نجد في‬
‫تاريخ دولهم ملكات مثل زنوبيا و غيرها‪.‬كما أن جميع المصادر تتفق على أن الشمس لم تكن تعبد في‬
‫العربية الجنوبية ‪ ،‬إنما كان أهل سبأ اليمنيون يعبدون القمر ويسمونه الله مقة‪ .‬كما أنه لم يثبت في قائمة‬
‫ملوك سبأ اليمنيون اسم امرأة إطلقا‪ .‬ثم نضيف أن ما قالته الملكة في القرآن بأن الملوك إذا دخلوا قرية‬
‫أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها ل يفيد أن الملكة تتحدث عن مملكة سبأ العظمى المعروفة بالحروب و‬
‫الملحم و الغزوات و النتصارات‪ ،‬إنما هي تتحدث عن قرية أي دويلة مغمورة صغيرة ل شأن لها‪ .‬و‬
‫عليه فإذا افترضنا صحة ما ورد في العهد القديم و القرآن من أمر سبأ فإننا سنكون أمام معضلة من هم‬
‫هؤلء السبأ الذين يعبدون الشمس و تحكمهم امرأة؟ فل نجد علجا لهذه المشكلة إل بافتراض أن سبأ‬
‫الواردة في العهد القديم و المصادر الشورية و الكلسيكية ثم القرآن‪ ،‬ليست سبأ اليمن إنما هي مستعمرة‬
‫أو دويلة في العربية الشمالية‪ ،‬يكون موقعها الفتراضي قرب مملكة سليمان المفترضة‪ .‬و تنتج الذهب و‬
‫الفضة و تغزو ممالك بني إسرائيل و تسبي أبناءهم و عليها امرأة و تعبد الشمس من دون القمر‪.‬‬
‫و هذا ما ذهب إليه فيلبي و أشار إليه في كتابه ملكة شبا ‪،‬الفقرة ‪ ، 1‬و هذا ما توصل إليه فيما بعد إيرفين‬
‫و أشار إليه في كتاب العرب و الثيوبيين الصفحة ‪ 29‬كما عززه جروم و ناقشه دون الرتباط برأي‬
‫إيرفين في مؤلفه الطيوب )فرانكنسانس ‪ ،‬الفقرة ‪ .(3‬و ما يثبت هذا العتقاد أكثر و يرسخه هو تواجد‬
‫الفضة و الذهب في العربية الشمالية و كذلك الطيوب التي كانت أنواع منها تنمو بهذه المنطقة‪ .‬و يظهر أن‬
‫جواد علي قد تحاشى جميع هذه المناقشات الجادة بعدم إشارته إلى قصة ملكة سبأ و اعتمد بدل عنها ما‬
‫ورد في الكتاب المقدس علما أنه من المؤمنين بتحريفه‪ ،‬و بمصداقية القرآن المطلقة‪.‬‬
‫و لوضع حل لهذا الشكال فقد افترض المؤرخون أن هؤلء السبئيين كانوا يمثلون مستعمرة تجارية‬
‫أصلها من الجنوب و ذلك في ضوء ظهورهم كقوم محاربين في المصادر الشورية و كمغيرين على‬
‫قطيع يعقوب كما ورد في العهد القديم)‪(14‬‬
‫و أنهم ما لبثوا أن توسعوا شمال فأقاموا لهم المستوطنات التجارية على طول الطريق من العربية الجنوبية‬
‫إلى فلسطين‪ .‬و هذا ما ل تدعمه المصادر الثرية التي تشير إلى أعداد هائلة من النقوش السبئية على طول‬
‫أرض اليمن وعرضها و في بعض مناطق العربية الشمالية و مصر و حتى في بعض الجزر القريبة من‬
‫اليونان‪ ،‬و ل تشير إلى أي أثر للسبئيين يذكر في المنطقة الشاسعة الفاصلة بين العربية الشمالية و اليمن‬
‫السعيد‪ .‬و بما أن سبأ هذه التي نتحدث عنها قد وجدت في القرن العاشر قبل الميلد زمن نبي ال سليمان‬
‫فما الداعي إلى افتراض أنهم قد قدموا إلى جوار مملكة سليمان من الجنوب حيث الخصب و الثروات‬
‫الخالية و الزدهار التجاري و قلة البشر و وفرة فرص الكسب و العمل؟‪.‬أما الهجرة إلى الشمال فلم تثبت‬
‫في حق اليمنيين إل بعد مسألة انهيار السد و سقوط مأرب‪،‬و الغزو الروماني والثيوبي ثم الفارسي لها!!‪.‬‬
‫فإذا عكسنا الفرضية هذه و أخذنا بعين العتبار أن طيوب اليمن ل يرجع تاريخ ظهورها إلى أبعد من‬
‫القرن السابع قبل الميلد فإنه يحق لنا أ‪ ،‬نقترض أن قوم سبأ جيران سليمان كانوا يسكنون العربية الشمالية‬
‫في أول أمرهم‪ ،‬و لما اكتظت بهم الرض‪ ،‬و شحت المصادر‪ ،‬و كثرت الحروب من حولهم‪ ،‬و انتهى‬
‫سَكِنِهْم َآَيٌة‬
‫سَبٍإ ِفي َم ْ‬
‫ن ِل َ‬
‫إليهم ما انتهى من خبر جنان اليمن و سواحله و فرص العيش المغرية فيه‪َ )،‬لَقْد َكا َ‬
‫غُفوٌر )‪ ،(15‬فارتحلوا إليه‬ ‫ب َ‬‫شُكُروا َلُه َبْلَدةٌ طَّيَبٌة َوَر ّ‬
‫ق َرّبُكْم َوا ْ‬
‫ن ِرْز ِ‬
‫ل ُكُلوا ِم ْ‬
‫شَما ٍ‬
‫ن َو ِ‬
‫ن َيِمي ٍ‬
‫عْ‬
‫ن َ‬
‫جّنَتا ِ‬
‫َ‬
‫حاملين معهم مهاراتهم و تقنياتهم و سكنوه و استغلوا إمكانياته القتصادية و الزراعية فاكتشفوا بخوره‬
‫الذي اشتهروا به و اشتهرت به اليمن معهم منذئذ‪.‬‬
‫و على أية حال فباب البحث في مسألة سبأ الواردة في العهد القديم و القرآن ل زال لم يوصد بعد و أن‬
‫النقاش فيه ل زال محتدما و لم يحسم فيه لغاية الن‪ .‬و آخر ما ورد في هذا الباب هو ما تتداوله الصحف‬
‫اللكترونية مؤخرا عن قيام أحد الباحثين السعوديين‪ ،‬و يدعى بالدكتور أحمد عويدي العبادي بالعلن في‬
‫إحدى محاضراته في شهر مايوه الخير عن أن سبأ التي وردت في القرآن ليست هي سبأ الجنوب‬
‫المشهورة في اليمن و إنما هي دومة الجندل‪ ،‬مستشهدا بقربها من موقع سيدنا سليمان بعكس ما كانت عليه‬
‫سبأ اليمن البعيدة كثيرا عن موقع الحدث‪ .‬وأكد العبادي أن هذه المملكة القائمة في دومة الجندل كانت‬
‫تتمتع بنظام حكم ديموقراطي قائم على مجلس شورى أو نواب أو مستشارين كما هو حال تسميتهم اليوم‬
‫في الحكومات والدول ‪ ،‬مستشهدا على ذلك بكلمة " المل " التي وردت بالقرآن الكريم على لسان الملكة‬
‫بعد أن جاءها كتاب سيدنا سليمان‪ .‬كما أكد العبادي على أن مملكة دومة الجندل كان دورها بين الممالك‬
‫العربية عامة ‪ ،‬حيث كانت تعد نقطة استقطاب لقبائل شرق جزيرة العرب‪ ،‬وقبائل الرافدين ومركزا‬
‫إستراتيجيا للتجارة العربية المتبادلة بين الشعوب في الممالك العربية وبلد الشام ‪ ،‬حيث كانت تحط بها‬
‫وقتها القوافل وتنطلق منها‪ .‬وتابع العبادي‪ :‬ان الملك العربي جندب الذي انضم إلى حلف مع الراميين كان‬
‫في دومة الجندل‪ ،‬ذاكرا أن هذا الملك أول من أشار إلى العرب في نص من النصوص التاريخية‪(16).‬‬
‫أما بخور الجنوب الذي تدعي مكة الستيلء على طرقه فيبدو أن التجارة فيه ابتدأت مع القرن السابع و‬
‫ليس قبله كما تذهب إليه المصادر السلمية‪ .‬فالمصادر الشورية تذكر الطيوب من بين البضائع التي‬
‫كان يقّدمها حكام العرب ضريبة لملوك آشور في القرنين الثامن و السابع قبل الميلد‪ ،‬فهذا "تغلتبليزر"‬
‫ل ونوقًا ولبانًا وبخورًا من‬
‫ل‪ :‬جما ً‬‫الثالث مثل" يذكر أنه أخذ الجزبة من السبئيين‪،‬أخذها ذهبًا وفضة وإب ً‬
‫جميع النواع‪ ،‬كما ذكر "سرجون" أنه أخذ الجزية من "يثع أمر" ملك سبأ‪ ،‬أخذها ذهبًا وخيل وجما ً‬
‫ل‬
‫ومن مصنوعات الجبال‪ . (17) .‬و قد ذكر البخور في إحدى الوصفات الطبية التي تؤرخ بأواخر العصر‬
‫الشوري في فترة ليست بالطويلة قبل الفتح الفارسي )‪ .(18‬و كثيرا ما ورد المر و لكن ليس في صيغة‬
‫الضرائب التي يدفعها العرب للشوريين و إنما في إطار استعمالته المتنوعة كاستخدام بذوره مع مواد‬
‫أخرى في الدباغة ‪ .‬و يبدو من خلل الهدية التي قدمها توسهارتا الميتاني أن زيت المر الذي عرفه‬
‫الشوريون كان من منتجات العربية الجنوبية‪.‬‬
‫و هذا نفس ما تذهب إليه المصادر الدبية الكلسيكية حيث نجد اللبان و المر يعرفان باسمهميهما الساميين‬
‫في المناطق البعيدة مثل اليونان حوالي القرن السادس ق‪.‬م حيث يرد ذكرهما في أشعار صافو)‪ .(19‬و يرد‬
‫كذلك لدى الشاعر الغريقي بيندال حوالي ‪ 490‬ق‪.‬م و عند ميلنيبيديس حوالي ‪ 450‬ق‪.‬م و لدى المؤرخ‬
‫هيرودوت بطبيعة الحال حوالي عام ‪ 450‬ق‪.‬م )‪(20‬‬

‫و نفس الشيء يذكر بالنسبة للمصادر الثرية التي ل تفيد في أكثر من أن تعزز نفس الطرح‪.‬فقد عثر على‬
‫أختام طينية عربية في بيثيل ‪ ،‬و هو معبد يقع على بعد ‪10‬كبلومترات من القدس‪ .‬و مع كل السف فإنها ل‬
‫تدل بالتأكيد على وجود هذه التجارة في القرن ‪ 9‬ق‪.‬م‪ ،‬و ذلك لوجود من يرى أن هذه الختام وصلت إلى‬
‫بيثيل في العصر الحديث‪ ،‬و أنها من جهة أخرى غير مؤرخة‪(21).‬‬
‫إل أن جيم و بيك أشارا إلى أن العثور على هذين الخاتمين قد تم خارج أسوار المدينة‪ ،‬أو أكثر تحديدا في‬
‫تلك النقاض التي يرجع تاريخها إلى الفترة الممتدة من عصر الحديد إلى العصر البيزنطي‪.‬و علبه فهما‬
‫يؤرخان للختام بالقرن التاسع قبل الميلد على أساس أنه ل بد أن تكون لها ارتباط بتجارة الطيوب‪ ،‬التي‬
‫ترتبط من جانب آخر مع المعبد بيثيل و الذي كان موجودا في الفترة ما بين ‪ 922‬و ‪ ، 722‬و هذا تخمين ل‬
‫يلبث أن يتداعى بمجرد استحضار حقيقة أن اليهود لم يكن لديهم شعائر لستخدام البخور في تلك المرحلة‬
‫و إنما يتفق دارسو العهد القديم على أن الطقوس اليهودية ل يعود تاريخها إلى أبعد من القرن السابع ق‪.‬م ‪.‬‬
‫كما عثر كذلك على قطع خزفية تعود إلى العربية الجنوبية في العقبة و هي عبارة عن بقايا آنية فخارية‬
‫كبيرة مهشمة عليها حرفان من الكتابة الجنوبية أرخها ريكمان بالقرن الثامن قبل الميلد على أساس تاريخ‬
‫علم تاريخ طبقات الرض ‪ ،‬و تّم قبول تاريخ النقش و صنف على أنه نقش معيني )‪ .(22‬ثم قرر ريكمان‬
‫بعد ذلك إرجاع تاريخ النقش إلى القرن السادس قبل الميلد‪ .‬و هناك قطعة أخرى من الفخار يبدو أنها‬
‫أيضا معينية لنفس المؤلف و تؤرخ بالقرن السابع أو السادس للميلد)‪(23‬‬
‫كما عثر على حامل ذي قوائم ثلثة في العراق يؤرخ بدوره إلى القرن السادس أو الرابع قبل الميلد)‪(24‬‬
‫و ينطبق الشيء نفسه على البقايا الخرى التي عثر عليها و التي يرجع ارتباطها بالتجارة بين بلد العرب‬
‫الجنوبية و بين بلد ما بين النهرين و الشام‪.‬و لهذا يمكننا القول بأنه ل يوجد في مصادرنا التاريخية ما‬
‫يثبت وجود تجارة البخور في المنطقة الشاسعة بين جنوب جزيرة العرب و شمالها‪.‬في الجزء المقيل‬
‫سنبحث عن طرق تجارة اليمن التي تدعي المصادر السلمية أنها تمر من مكة و أن قريشا سيطرت‬
‫عليها‪.‬و إلى ذلك الخين ها هو أبو قثم يحييكم‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ـ ‪(J.I.Miller, The Spice trade of the Romain Empire.P2) 1‬‬


‫ـ ‪(Groom , Frankincese, cf.6 ) 2‬‬
‫ـ ‪(Muller, weihrauch, cols 739 K 740) 3‬‬
‫المزامير‪ ،‬المزمور الثاني و السبعون ‪ ،‬الية ‪ 15‬ـ ‪4‬‬
‫أرميا ‪ ،‬الصحاح السادس‪ ،‬الية ‪ 20‬ـ ‪5‬‬
‫حزقيال ‪ ،‬الصحاح السابع و العشرون ‪ ،‬الية ‪ 22‬و ما بعدها ـ ‪6‬‬
‫أيوب ‪ ،‬الصحاح السادس ‪ ،‬اية ‪ 19‬ـ ‪7‬‬
‫المصنف ‪ 7/233‬ـ ‪8‬‬
‫نفس الصفحة من نفس المصدر أعله ـ ‪9‬‬
‫جوهرة العيان ‪ 149/‬ـ ‪10‬‬
‫الهمداني‪ ,‬صفة‪ 240 ,152_151 ,‬ـ ‪11‬‬
‫الهمداني‪ ,‬صفة‪ 146 ,‬ـ ‪12‬‬
‫الهمداني ‪ ،‬الجوهرتين ‪ 139‬ـ ‪13‬‬
‫ـ ‪Rosmarin «Aribi und Arabian /9..14, Strabo , Geography 16/4 :21 14‬‬
‫سورة سبإ الية ‪ 15‬ـ ‪15‬‬
‫ـ ‪)16www.adabialjouf.com/press/810-2010-05-10-05-54-57.html‬‬
‫ـ ‪17Hastings p 842‬‬
‫ـ ‪18Muller, weihrauch, col.742‬‬
‫ـ ‪19Muller.weihrauch.cols 708‬‬
‫ـ ‪cf.G.Liddell & R.Scott, A Greek English lexicon.S.V.Libanos 20‬‬
‫ـ ‪G.w.Beek & A.Jamme, An Inscribd South Arabia Clay Stamp from Bethet) 21‬‬
‫ـ ‪Glueck, Tell el – Kheleifeh Inscriptions /236 22‬‬
‫ـ ‪The other Side of Jordan 128 -132 23‬‬
‫‪cf. T.C. Mitchell ,A South Arabian Tripod Offering Saucer Side to be from – 24‬‬
‫‪Ur p/113‬‬

‫‪ 8‬ك ككككك كككككككك ك ككككك كككككك ك ككككك‬


‫ككككككك‬

‫يقول العلمة جواد‬


‫وقد كان العرب الجنوبيون يتاجرون مع بلد الشام‪،‬‬
‫و لم يحدد من هم العرب الجنوبيون الذين يقصد‬
‫فيرسلون إليها قوافلهم مارة بالحجاز إلى أسواق بلد الشام بًالطرق البرية التي ل يزال الناس يسلكونها‬
‫حتى اليوم مع شيء من التحوير والتغيير‪.‬‬
‫إذا فهؤلء الجنوبيون يقصدون الشام عبر الحجاز ‪ ،‬و ليس بالضرورة عبر مكة ‪.‬فهل هذا صحيح؟ هذا ما‬
‫سنتعرف عليه‬
‫ثم يستدل العلمة على نظريته بقوله‬
‫وقد عثر على كتابة دّونها كبيران شكرا فيها الله "عثتر"‪ ،‬لنه نجاهما مع قافلتهما من الحرب التي كانت‬
‫قد وقعت بين "مصر" وبين "مذي"‪ ،‬فوصل معهما سالمين إلى مدينة "قرنو"‪ ،‬أي عاصمة "معين"‪ .‬وقد‬
‫ورد أنهما كانا يتاجران مع "مصر" و "ا اشر"‪ ،‬أي "آشور"‪ ،‬و "عبر نهرن" "عبر نهران" )‪(1‬‬
‫ثم يعلق‬
‫وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه الكتابة تشير الى حرب وقعت فيما بين السنة "‪ "220‬والسنة "‪"205‬‬
‫قبل الميلد‪ .‬أي في عهد "البطالمة"‪ ،‬وأن تلك الحرب كانت بين "الميديين" الذين أشير إليهم ب "مذى"‬
‫وبين "البطالمة" الذين أشير إليهم ب "مصر"‪ ،‬لنهم حكام مصر‪ ،‬أو الحرب التي وقعت فيما بين‬
‫"السلوقين" وبين "البطالمة"‪ ،‬و التي أدت إلى الستيلء على "غزة" سنه "‪ "217‬قبل الميلد‪ .‬وقد كان‬
‫العرب الجنّوبيون يتاجرون مع هذه المدينة التي تعتبر الميناء الذي يؤدي بالتجار إلى موانئ مصر)‪.(2‬‬
‫فنلحظ أن التواريخ التي يثبتها في شهادته هذه تعود كلها إلى القرن الثالث قبل الميلد ‪ ،‬و أنها تصب في‬
‫ما ذهبنا إليه من أن تجارة البخور لم تكن قديمة قدم مملكة سبأ التي يتحدث عنها العهد القديم و القرآن‪ .‬و‬
‫نلحظ أيضا أن النص يتحدث عن منطقة في شمال غرب الجزيرة العربية حيث يربط الدكتور جواد علي‬
‫لمة حدودها‬ ‫و الذاهبون مذهبه من العرب و المستشرقين بين طريق الطيوب و طريق اليلف ‪،‬فيرسم الع ّ‬
‫و أبعادها بقوله‪ :‬وقد كانت "البتراء" أي "سلع" ‪ Sela‬أهم عقدة طرق يمر بها المعينيون والسبئيون‪ .‬ومنها‬
‫يتجه طريق نحو البحر الميت‪ ،‬لمن يريد التجار مع بلد الشام‪ ،‬وطريق آخر ينتهي بغزة‪ ،‬لمن يريد‬
‫التجار مع هذا الميناء المهم‪ ،‬الذي بقي العرب يتاجرون معه إلى أيام الرسول‪ .‬وقد َكان "هاشم بن عبد‬
‫مناف" ممن يتاجر معه‪ ،‬وبه توفي كما تذكر الخبار)‪.(3‬‬
‫لمتنا و حسب جميع المصادر السلمية التي يمثلها أن طريق الطيوب كان نشيطا‬ ‫و هذا ما يؤكد حسب ع ّ‬
‫تمر به قوافل اليمنيين يوميا منذ قيام دولة سبأ في القرن التاسع أو العاشر قبل الميلد إلى سقوطها على يد‬
‫الحميريين اليهود و الساسان المجوس حوالي ‪ 550‬بعد الميلد )‪ ، (4‬ثم استمر بعد ذلك هذا الطريق في‬
‫نشاطه على يد قريش إلى ظهور السلم‪.‬‬
‫و لنه مقتنع بأن دلئله هذه غير وافية فقد أضاف أنه قد أشير في التوراة إلى قوافل سبأ‪ ،‬وهي قوافل كانت‬
‫تسير من العربية الجنوبية مخترقة العربية الغربية إلى فلسطين‪ ،‬فتبيع ما تحمله من سلع هناك‪ .‬وقد كان‬
‫السبئيون يسيطرون على العربية الغربية‪ ،‬حتى بلغت حدود مملكتهم أرض فلسطين‪.‬‬
‫هكذا يضع خطا غليظا تحت الطرق البرية ‪ ،‬ثم يتبعه بالتشطيب النهائي على الطريق البحري قائل‬
‫ولم تشر التوراة إلى وجود قوافل بحرية وسفن للسبئيين في البحر الحمر‪ ،‬تتاجر مع فلسطين ومصر‪،‬‬
‫ولم نعثر على كتابات بًالمسند تشير إليها‪ ،‬لذلك‪ ،‬فليس في استطاعتنا التحدث عن التجارة البحرية للسبئيين‬
‫مع بلد الشام )‪.(5‬‬
‫لمتنا و الذاهبون مذهبه أي فضل‬ ‫هكذا و كما ترون‪ ،‬بجرة بسيطة و بكلمتين خفيفتين على اللسان‪ ،‬ينفي ع ّ‬
‫للبحر على تجارة سبأ و أهل اليمن‪.‬و الحق‪ ،‬أن هذه النظرة المختزلة للتاريخ التي يبسطها المفكرون‬
‫السلميون عن هذه الحقبة من تاريخ السلم هي في الحقيقة انعكاس للشريط النمطي الرتيب الذي‬
‫يصوره كل من بليني المتوفى حوالي ‪89‬م و صاحب كتاب الطواف المتوفى حوالي ‪50‬م و الذي يذهبان‬
‫فيه إلى أن أقدم الصلت بين البحر البيض المتوسط و بين المناطق الواقعة حول المحيط الهندي ترجع‬
‫إلى طريق الطيوب البري التي نمت تجارتها في اليمن منذ اللف الثالثة قبل الميلد )‪ .(6‬و التي تقوت منذ‬
‫القرن التاسع قبل الميلد بفضل زيارة ملكة سبأ لسليمان ‪.‬ثم سيطر عرب الجنوب على الطريق البحري‬
‫الرابط بين بابل و الهند )‪ (7‬بعد غزو الفرس الخمينيين للعراق من ‪ 559‬إلى ‪ 331‬ق‪.‬م )‪ .(8‬ثم قاموا بمد‬
‫مصر بالتوابل الهندية و المصنوعات و الحجار الكريمة حول هذا التاريخ)‪ .(9‬أما الشوريون فقد‬
‫تركزت سياستهم اتجاه العربية حول تأمين طريق تجارة الطيوب)‪ (10‬و هكذا أصبحوا) العرب‬
‫الجنوبيون( يمدون زبناءهم بكل بضائع الهند و الشرق القصى و أفريقية الستوائية من بلد الحبشة إلى‬
‫مدغشقر)‪.(11‬فنلحظ أن بليني و صاحب كتاب الطواف يصفان أهل اليمن لحد الن بأنهم قوم بحريون‬
‫يجوبون منطقة البحر الريثيري كما يفعل الفينيقيون سادة البحر البيض‪ .‬و استمر هذا النشاط على وثيرته‬
‫إلى أن اضمحلت الوضاع في العربية الجنوبية فتسلم أهل مكة المهمة و استمروا في تلبية طلبات الرومان‬
‫و الغريق الهائلة من البضائع الفاخرة )‪.(12‬و استخدم أهل مكة الطريق البري الذي كان تحت سيطرتهم‬
‫أصل بواسطة الغزو‪،‬كما تمكنوا من فرض سيطرتهم على بقية أنحاء الجزيرة العربية)‪ (13‬ثم قاموا‬
‫باستيراد البضائع نفسها و المتمثلة في اللبان العربي و العاج من شرق أفريقيا و الذهب و التوابل الهندية و‬
‫الحرير الصيني و البضائع الخرى المماثلة‪ ،‬مما يفيد أن هذه التجارة ظلت مزدهرة حتى وضع الفتح‬
‫العربي لبلدان الشرق الوسط حّدا لها بعد أن عاشت ما بين ‪ 1500‬و ‪ 2500‬عاما‪.‬‬
‫وبناء على هذا السيناريو النمطي يشدد أهل الخبار و البحاث المسلمون على "أن تجارة أهل الجنوب‬
‫كانت تحمل برا و أن حكومة سبأ كانت قد سارت على سياسة التوسع التجاري‪ ،‬وهذا التوسع يقتضي‬
‫السيطرة على الطرق‪ ،‬فبذلت جهدها لبسط سلطانها على الطرق والمسالك وجعلها تحت نفوذها وحكمها‪.‬‬
‫وبعد استيلئها على بقية الحكومات العربية الجنوبية الخرى وضعت الطرق الجنوبية المؤدية إلى أرض‬
‫اللبان والمواد الخرى التي اشتهرت بها العربية الجنوبية‪ ،‬والى الموانئ والمرافئ التي تتاجر مع إفريقية‬
‫والهند وتستورد منها السلع النفيسة الثمينة تحت نفوذها وحكمها"‪" .‬واتجهت نحو السيطرة على الطرق‬
‫البرية المؤدية إلى بلد الشام‪ .‬ولهذه الطرق أهمية كبيرة بالنسبة إلى اليمن والعربية الجنوبية‪ .‬وهى طرق‬
‫موازية للطريق البحرية الممتدة في البحر الحمر‪ ،‬ولها شأن خطير في التجارة العالمية")‪.(14‬‬
‫)و هذا ما سنحاول إثبات عكسه ‪ .‬أما عن تاريخ ظهور تجارة الطيوب فقد أفضنا فيه ‪ ،‬و رأينا أن هذه‬
‫التجارة ل تعود إلى أبعد من القرن السادس أو السابع قبل الميلد‪ .‬و أما تجارة أهل اليمن إنما كانت‬
‫تنحصر في الطيوب اليمنية المشهورة ‪ ،‬و أما الذهب و الفضة فرأينا أنهما منتجان لم يعرفهما اليمن إل إثر‬
‫التدخل الفارسي المتأخر حوالي ‪ 525‬للميلد‪ .‬و أما الطريق البري الذي يدور حوله الشكال فلما وصله‬
‫الدكتور جواد علي قام فأفرد له بابا سماه بطرق الجاهليين‪ ،‬و أخذ القارئ فيه في نزهة شاقة في كل ما‬
‫أوردته المصادر السلمية من مسالك و طرق و مفاوز تنتشر على طول الجزيرة و عرضها ‪ ،‬و جعل‬
‫يقفز به من مجموعة طرقية إلى مجموعة‪ ،‬و من أحداث إلى معالم‪ ،‬و من أسماء الماكن إلى أسماء‬
‫الرجال؛ في رحلة عقيمة ل تعرف من أين بدأت و ل أين انتهت‪ .‬و الظاهر أنه كما تعّمد عدم الشارة إلى‬
‫ملكة سبأ و قصتها في القرآن فقد تعّمد الن القتصار على المصادر السلمية لتحديد الطريق الذي كانت‬
‫تمر منه قوافل سبأ و لم يشر ل من بعيد و ل من قريب إلى الشارات الهامة الواردة في المصادر‬
‫الكلسيكية‪ .‬و المتمعن في الخريطة التي قدمها لنا جواد اعتمادا في الساس على كتابي الممالك و المسالك‬
‫و تاج العروس يجد أن هناك ثلثة محاور رئيسية تبتدئ منها جل الطرق و تنتهي إليها و هي محور‬
‫المدينة و الطائف و نجران و من هذه النقط الثلث تتفرع الطرق الصاعدة و الهابطة من الشام و اليمن و‬
‫تتصل عندها بالطرق الواردة من العراق و عمان‪ .‬أما مكة بيت القصيد فيعّرج إليها في كل الحيان من‬
‫الطائف عبر عكاظ أو نخلة و يعرج إليها من المدينة عبر معدن القرشي‪ ،‬وهو "معدن النقرة"‪ .‬وعنده‬
‫تفترق الطريق‪ ،‬فمن أراد مكة نزل "المغيثة"‪ ،‬ومن أراد "المدينة" أخذ نحو العسيلة فهبطها‪ .(15).‬و ل‬
‫تجد طريقا تبتدئ من مكة إلى الشام إل عبر المدينة و ل تجد مسلكا نحو نجران إل عبر الطائف ‪ ،‬أما‬
‫المسلك الرئيسي الطبيعي بين اليمن و الشام فإنه يمر بصعدة فنجران فالطائف و نخلة ثم رأسا إلى المدينة‪،‬‬
‫أما من أراد زيارة مكة فعليه أن يعرج من نخلة أو عكاظ إليها ) أنظر الخريطة أدناه(‪ .‬و عليه فخريطة‬
‫الدكتور علي ل توحي لنا بوجود مكة على أي مفترق للطرق‪ .‬تصوروا أن القادم من مصر إلى مكة يجب‬
‫عليه أن يبدأ بشرف البعل‪ ،‬ثم إلى "الصل"‪ ،‬ثم إلى "النبك" )موضع بين ضجوة و مضيق جبة من منازل‬
‫حاج مصر‪ ،(16) ،‬ثم إلى "ظبة"‪ ،‬ثم إلى "عونيد"‪ ،‬ثم إلى "الوجه"‪ ،‬ثم إلى "منخوس"‪ ،‬ثم إلى "الجرة"‪،‬‬
‫ثم‪ .‬إلى "الحساء" ثم إلى "ينبع"‪ ،‬ثم إلى "مسئولن"‪ ،‬ثم إلى "الجار)تاج العروس ‪) 3/112‬جار (( ثم الى‬
‫المدينة )‪ . (17‬فهو بذلك يحاذي الساحل إلى أن يصل إلى ميناء الجار فيعّرج منه لمسيرة ثلثة أيام ليصل‬
‫إلى المدينة ‪،‬حيث يتمكن آنذاك من العروج نحو مكة‪ .‬و على كل حال فمحمد بن أحمد المقديسي الذي‬
‫يعتبر من المصادر السلمية الموثوق بها في مسألة الطرق و المسالك و الذي لم يشر إليه هو الخر‬
‫الدكتور جواد علي في هذا المقام‪ ،‬يلحظ في نص حساس جدا‪ ،‬ورد له في كتابه "وصف بلد المسلمين"‪،‬‬
‫بأن مكة كانت مدينة داخلية ‪ .‬فيقارن بينها و بين شبوة عاصمة حضر موت قائل‪:‬و كان لشبوة أهمية‬
‫تناظر أهمية مكة قبل السلم‪ ،‬فهي تقع في الداخل في منطقة قاحلة و لها مركز للعبادة‪ ،‬علوة على كونها‬
‫مركزا للتجارة‪ ،‬ثم يضيف‪ ،‬و كان حظ حكام شبوة جيدا حيث تمكنوا من السيطرة على مناطق إنتاج‬
‫البخور في بلد العرب‪ ،‬و كان لهم حق اختيار المكان الذي يتم فيه تجميع البخور و هو شيء لم يكن له‬
‫نظير في المنطقة أو أثناء سيطرة مكة‪. (18).‬و النص كما ترى رغم صغره و شموليته فهو زاخر‬
‫بالرشادات و المعطيات التي ل غنى للمرء عنها لتكوين صورة دقيقة عن طريق الطيوب؛ مثل‪ ،‬أن مكة‬
‫لم تكن مجمعا للبخور و ل البضائع مثل شبوة‪ ،‬التي كانت على العكس مستودعا ضخما يسيطر على كل‬
‫إنتاج البخور و يحتكره‪ .‬و ذلك راجع إلى كون مكة لم تكن سوقا تجارية قبل فرض الحج على المسلمين‬
‫كما أنها لم ترد في أية قائمة من قوائم السواق حتى التي قدمها لنا جواد علي نفسه إل من باب المجاملة؛ و‬
‫هذا ما سنتطرق إليه في حينه‪ .‬ثم أن شبوة كانت سوقا لتسويق البخور في كل الجهات مثلها في ذلك مثل ما‬
‫تدعيه مكة‪ .‬ثم إن شبوة مثل مكة كانت تعد مركزا دينيا هاما و حجا للعبادة‪ .‬بالضافة إلى أنها مثل مكة تقع‬
‫في منطقة متطرفة نائية عن الطرق الرئيسية ‪ ،‬و جرداء قاحلة‪ .‬و هذا ما تدعمه المصادر الدبية‬
‫الكلسيكية اللتينية و الغريقية التي أهملها الدكتور علي في مسألة الطريق البري للطيوب السبئية‪ .‬إذ‬
‫يوضح كل من موللر ‪ Muller‬و جروم ‪ Groom‬أن طريق البخور كان يبعد عن مكة بمسافة ألف ميل)‬
‫‪ (19‬و عليه فالذهاب من جنوب العربية إلى سوريا يعد خروجا و ابتعادا عن الطريق الطبيعي‪ .‬و القوافل‬
‫التي تسافر عبره تتوقف خمسا و ستين مرة في خلل رحلتها و لم تكن مرغمة على التوقف في مكة بسبب‬
‫توسط موقعها‪ ،‬و إضافة إلى ما تقدم ففي رحلة تستغرق حوالي شهرين فإن فكرة السترخاء في منتصف‬
‫الطريق تعد فكرة غير صائبة )‪ (20‬و يضيف "بوييي ‪ " Buillet‬أن مكة كانت بعيدة عن الطرق‬
‫المطروقة و تقع في مناطق جرداء قاحلة ‪ ،‬فهي إذا ل تصلح منتجعا للتجار خصوصا و أن الطائف توجد‬
‫على مقربة منها و هي الكثر أهلية باستقطاب التجار لكثرة ظللها ووفرة مياهها و كثرة أسوقها‪ .‬فمجنة و‬
‫عكاظ و ذي المجاز أسواق عامرة بالطائف يقصدها التجار و الشعراء و المستكشفون و السياح من كل‬
‫حدب و صوب‪ .‬حتى الفرس كانوا يقصدونها للتجارة‪ ،‬ما دفع بأهل قريش إلى المساهمة في تجارتها‬
‫العامرة بالقروض على شكل ربا و شراء المتاجر و الضياع و إقراض الموال لمنتجي العنب‪.‬‬
‫و من خلل كل ما سبق يتضح لنا‪ ،‬أن هناك طريقا ما؛ أو طرقا ما برية؛ تربط أو ربطت في مرحلة ما من‬
‫التاريخ ‪،‬ما بين اليمن و الشام‪ .‬و يبقى علينا أن نتبينها وسط هذا الزحام من المسالك و المفاوز و التي‬
‫تنتشر طول وعرضا في فضاء المصادر السلمية و غيرها‪.‬‬
‫فبالرجوع إلى المصادر الدبية الكلسيكية فإننا لم نسمع شيئا عن الطريق البري حتى العصر‬
‫الهللينستي‪،‬حيث أخبرنا المؤرخ هيرو نيموس الكاردي )‪ ( Hieronymo of Cardia‬في الفترة)‪ 272‬ـ‬
‫‪ 323‬ق‪.‬م(‪ ،‬و الذي وردت كتاباته عند ديودوروس الصقلي )‪ (Diodurus Siculus‬بأن عددا كبيرا من‬
‫النباط اعتاد أن يحمل اللبان و المر و أغلى أنواع التوابل إلى البحر البيض المتوسط‪ ،‬و كانوا يقومون‬
‫بجلبها من القوافل التي تأتي من المنطقة التي يسمونها بالعربية السعيدة‪ ،(21).‬و بالرغم من أن النص ل‬
‫يقدم لنا تاريخا محددا‪،‬إل أنه يؤكد أن البضائع كانت تصل برا إلى النباط ‪،‬ما يعني أنهم كانوا يتسلمونها‬
‫عند نهاية البحر الحمر ثم يقومون بنقلها إلى البحر البيض المتوسط‪.‬و قدم لنا إيراثوثينيس )‬
‫‪) (Erathothenes‬ما بين ‪ 275‬و ‪ 194‬ق‪.‬م( تفصيل أكثر عنها ورد عند الجغرافي لسترابون‪ ،‬فذكر أن‬
‫اللبان و المر و الطيوب العربية الخرى التي كانت ترد من حضر موت و قتبان ‪ ،‬كان يتم تبادلها مع‬
‫التجار الذين كانت تستغرق رحلتهم سبعين يوما من عيلنة )‪) (Ailana‬أيله ـ ‪ (Ayla‬إلى معين ‪ ،‬حيث‬
‫يحملها الجابيون )‪ (Gabaioi‬و كل من يريد من التجار الموجودين إلى حضر موت في أربعين يوما )‬
‫‪ .(22‬كذلك أشار أرتيميدوروس )‪ (Artimidorus‬حوالي ‪ 100‬ق‪.‬م إلى الطريق البري الذي ورد ِذكره‬
‫لدى إسترابون عند حديثه عن حياة الدعة و الكسل التي يعيشها السبئيون الجنوبيون حيث قال‪ :‬إن هؤلء‬
‫القوم الذين يعيشون على مقربة من بعضهم البعض ‪ ،‬يصل إليهم بطريقة متواصلة أحمال الطيوب ليقوموا‬
‫بتوصيلها إلى جيرانهم في المناطق البعيدة مثل سوريا و بلد ما بين النهرين‪.‬و خلل قيامهم بهذا العمل‬
‫كانوا يتأثرون بسبب استنشاقهم الروائح العطرية‪ ،‬لدرجة أنهم يضطرون لستنشاق مواد أخرى مختلفة‬
‫لكي يظلوا مستيقظين)‪(23‬‬
‫و قدم لنا الحكيم جوبا الثاني ملك موريتانيا البربرية الذي عاش ما بين ‪ 52‬ق‪.‬م و سنة ‪ 23‬للميلد‪،‬‬
‫تفصيلت أكبر عن هذا الطريق البري اقتبسها عنه بليني )‪.(Pliny‬و وفقا لما ذكره فإنه كان يتم إرسال كل‬
‫اللبان إلى سوبوتا )‪ ،(Sobota‬و هي شبوة عاصمة حضر موت التي جعل منها ملكها محطة الشحن‬
‫الرئيسية التي تشحن منها الجمال و التي تتجه منها بعد ذلك إلى الطريق العلوي‪.‬و من شبوة تتجه إلى‬
‫جيبانيتي )‪ (Gebbanetae‬و عاصمتها ثومنا )‪ (Thomna‬و يعرف موقعها في النصوص الثرية باسم‬
‫تمن ‪ Tmn‬و هي عاصمة قتبان )‪.(24‬و منها تتجه الرحلة إلى غزة‪ ،‬و قد قسمت إلى خمس و ستين‬
‫مرحلة زودت كل منها بمحطات للجمال‪ .‬و يتم دفع الضرائب عنها لملوك حضر موت في شبوة و لملوك‬
‫قتبان في ثومنا‪ ،‬بعد استقطاع ما لرجال الدين و السكرتاريين و الحراس و الخدم من تلك الضرائب‪ .‬و‬
‫بلغت نفقات حمولة الجمل الواحد ‪ 677‬دينارا قبل أن يتم دفع الضرائب عنها للرومان)‪ .(25‬ثم عاد بليني‬
‫و تحدث مرة أخرى عن الطريق البري عند حديثه عن المدن الداخلية التي يقوم العرب الجنوبيون‬
‫بإحضار طيوبهم منها لتصديرها‪ .‬كما يعرف أن اللبان كان يصدر عن طريق الراضي المعينية من خلل‬
‫ممر واحد ضيق‪.(26) .‬و يخبرنا صاحب كتاب الطواف أيضا بأن جميع إنتاج البلد ) حضر موت( من‬
‫اللبان و المر كان يصل إلى ذلك المكان)شبوة( بواسطة الجمال ‪ ،‬ليتم تخزينه لتصديره‪ ،‬أغلب الظن‪،‬‬
‫بطريق البر)‪ ، (27‬و هذه هي كل المعلومات التي تسعفنا بها المصادر الدبية الكلسيكية فيما يتعلق‬
‫بالطريق البري و التي نرى مدى تطابقها مع ما أشار إليه المقديسي و تجّنبه بصورة ملفتة الدكتور جواد‬
‫علي‪.‬‬
‫و عليه فالملحظ من خلل قراءة أولية لهذه المعلومات أنها تتحدث في بادئ المر عن البضائع العربية‬
‫فتحددها أساسا في اللبان الحضرمي‪.‬فل التوابل الهندية و ل الحرير الصيني أو عاج أفريقيا الشرقية و ل‬
‫الذهب و ل الفضة أو العبيد كانت تحمله القوافل المتوجهة لسوريا عبر الطريق البري‪ .‬و الملحظة الثانية‬
‫هي أن هذه النصوص هي النصوص الوحيدة التي ذكرت هذا الطريق البري و أنه لم يعد أي ذكر له بعد‬
‫بليني و صاحب الطواف ‪ ،‬لنستنتج أن هذا الطريق كان محدودا سواء من حيث البضائع التي كانت ُتحَمل‬
‫عليه أو من حيث الفترة الزمنية التي استخدم فيها‪ .‬و إذا ما تعمقنا أكثر في هذه النصوص فإننا نجد أن‬
‫إيراثوثينيس يحدد البضائع المحمولة بّرا عبر هذا الطريق بتلك التي تأتي من حضر موت و قتبان ‪ ،‬و‬
‫يؤيده جوبا ‪ ،‬أما صاحب كتاب الطواف فيذكر حضر موت فقط‪ ،‬و ربما لقيامها بالستيلء على أراضي‬
‫قتبان في هذه الفترة )‪ .(28‬و بالرغم من ذلك فقد ورد اسم السبئيين لدى أريميدورورس عند حديثه عن‬
‫رجال القوافل الكسالى و في قائمة بليني عن المدن التي كانت الطيوب تصّدر منها‪.‬و قد ذكر كل من‬
‫هيرونيموس و إيراثوثينيس أن هذه البضائع تضم اللبان و المر و بعض الطيوب‪ ،‬أما كل من بليني و‬
‫صاحب كتاب الطواف فلم يذكرا سوى المر فقط‪ .‬كذلك أكد لنا كل منهما أن الطريق عبر شبوة كان قد‬
‫سيطر عليه تماما ملوك حضرموت مما يؤكد أن الطريق البري كان دائما مرتبطا بحضرموت سواء‬
‫بمفردها أو مع قتبان و لم يكن مرتبطا أبدا بالسبئيين أسلف قريش في التجارة‪ .‬و هذا ما يؤكده الواقع و‬
‫يلفى قبول واسعا لدى الكثير من الباحثين لكون حضرموت كانت هي المصدر الرئيسي لنتاج اللبان أو‬
‫بمعنى آخر كانت مصدرا لجود أنواعه في ظفار)‪. (29‬من أجل ذلك و في إطار تنافسهم المرير مع‬
‫السبئيين قرر ملوك حضرموت حمل اللبان عبر الطريق البري و جباية ضرائبه في شبوة ثم ظفار فيما‬
‫بعد ‪.‬و ذلك بعد اتفاقهم طبعا مع القبائل التي ستمر منها طيوبهم ‪ .‬يقول صاحب معجم البلدان‪ :‬و كانوا‬
‫يقومون بجمع المحصول و حمله إلى ظفار حيث يحصل الحاكم على نصيبه فيه‪ ،‬و لم يكن باستطاعتهم‬
‫حمله إلى أي مكان آخر تحت أي ظرف من الظروف ‪ ،‬و إذا سمع عن قيام أي فرد بحمله إلى مدينة‬
‫أخرى‪ ،‬قتله‪. (30) .‬و يبدو أن هذا اللبان الحضرمي وحده هو الذي كان يحمل برا في عصر بليني و‬
‫صاحب الطواف‪ .‬و إذا علمنا أن السبئيين كانوا يسيطرون على أكثرية الموانئ و أكبرها مثل موزا و ميناء‬
‫عدن المعيني فإننا سنفهم أن ملوك حضرموت قد اختاروا الطريق البري في إطار محاربتهم السياسية و‬
‫القتصادية مع سبأ‪.‬خصوصا و أن ميناء قنا الحضرمي كان يوجد في منطقة متوسطة بين عدن غربا و‬
‫مضيق هرمز الذي يسيطر عليه الفرس و الهنود و أهل جرها‪.‬لدى يمكن القول بأن ملوك حضرموت قد‬
‫وجدوا متنفسا في الطريق البري ‪ ،‬و طريقة لجباية الضرائب و المكوس في تلك اللحظة التي استفردوا‬
‫فيها بسوق النتاج‪ .‬فكان هذا الطريق في صالح الملوك أكثر منه في صالح التجار الذين كما سلف ذكره‬
‫كانوا ينفقون ‪ 677‬دينارا عن حمولة كل جمل‪ .‬و بالرغم من وعورة المسالك البحرية و وجود القراصنة‬
‫الذي ثبت لدى كل من بليني في الوثيقة )‪ (N.H 2/101‬و كتاب الطواف قي الفقرة ‪، 20‬فإن هاتين‬
‫الوثيقتين تثبتان أن وجود القراصنة لم يمنع التجار من البحار‪ ،‬و لهذا أخذ التجار حذرهم و سلحوا‬
‫مراكبهم بالسهام التي وصفها بليني في الوثيقة أعله‪ .‬كما أن الرحلة من ميناء قنا إلى ميناء برنيس )‪(31‬‬
‫كانت ل تستغرق إل ثلثين يوما )‪.(32‬بينما تستغرق الرحلة البرية ما بين ‪ 65‬و ‪ 70‬يوما أو طبقا لترجمة‬
‫أخرى ما بين ‪ 120‬و ‪ 130‬يوما من شبوة إلى سوريا)‪.(33‬إل ان السبئيين و بحكم حذقهم و بحثهم الدؤوب‬
‫من أحل تطوير حباتهم اليومية وبحكم تعاملهم مع البحر و أهواله استطاعوا أن يكتشفوا مصدرا آخر‬
‫منافسا لنتاج اللبان‪.‬فبذكر أجاتارخيديس عام ‪ 130‬ق‪.‬م أنهم تمكنوا من صناعة طوافات و قوارب جلدية‬
‫لحمل بضائعهم)‪ ، (34‬ثم جاء أرتيميدورورس عام ‪ 100‬و ذكر لنا أنهم استخدموها للنتقال من إثيوبيا‬
‫إلى العربية ‪ ،‬و في هذه المنطقة عثر على اللبان و المر بكميات كبيرة كما سبق أن اكتشف قدماء‬
‫المصريين ذلك‪ .‬كما أن أرتيميدوروس يعرف أن السبئيين كانوا يتاجرون في الطيوب المحلية و المستوردة‬
‫من إيثيوبيا‪ (35).‬و لم يأت القرن الول الميلدي حتى أصبح اللبان الفريقي له نفس أهمية الصناف‬
‫العربية بينما احتل المر الفريقي المرتبة الولى)‪ . (36‬و في القرن السادس للميلد أصبح اللبان الفريقي‬
‫النوع الوحيد الذي وجد التاجر كوزماس )‪ (Cosmas‬أنه جدير بالذكر و ل يزال هذا النوع هو المسيطر‬
‫على السواق لحد الن)‪ (.37‬هكذا قضت سبأ على كل طموحات الحضارمة في احتكار تجارة الطيوب‪ ،‬و‬
‫بدأ السبئيون‪ ،‬الذين أصبح منهم الملوك في الحبشة و الصومال و غيرها‪ ،‬يبحرون عبر البحر الحمر من‬
‫جزيرة إلى جزيرة‪ ،‬و من ساحل إلى آخر بطوافاتهم‪ ،‬إلى أن يصلوا إلى ميناء ليوكي كومي في شمال‬
‫البحر الحمر الذي يعد ميناء للنباط و سوقا لهم‪ ،‬حيث تخرج قوافل الجمال من البتراء و إليها بأمان كامل‬
‫و سهولة‪ .‬و في ذلك التاريخ نفسه أصبح ميناء ميوس هيرموس على الجانب المصري من البحر الحمر‬
‫يمثل طريقا آخر للنقل البحري‪.‬و من هذين الميناءين فقط كان يتم نقل البضائع برا إلى السكندرية و رينو‬
‫كولورا أو إلى أي مكان آخر)‪ .(38‬و يبدو أن البخور الحضرمي في ظل هذه المنافسة الشرسة قد استغنى‬
‫هو الخر عن الطريق البري لكثرة تكاليفه و طوله و أصبح هو الخر يشحن من قنا و ظفار‪ ،‬فيحمله‬
‫الجرهائيون بطوافاتهم ليوزعوه بدورهم عن طريق البحر إلى حد ما في الخليج الفارسي‪ ،‬و من المحتمل‬
‫جرها الطوافات الجلدية التي سماها جواد‬ ‫أنهم كانوا يجمعونه برا و لكنهم كانوا يستخدمون عند عودتهم ل ُ‬
‫علي بالرماث للوصول إلى بابل‪ ،‬ثم يبحرون في الفرات)‪ .(39‬و على أي ‪ ،‬فإن ما ينبغي الوقوف عليه‬
‫هو أنه لم تعد هناك أية إشارات إلى الطريق البري في المصادر الكلسيكية بعد جوبا التي وردت عند‬
‫بليني و صاحب كتاب الطواف الذي يرى البعض أنه يعود لعام ‪ 50‬للميلد‪ ،‬أو إلى أوائل القرن الثاني‬
‫الميلدي‪ ،‬و يرجعه آخرون إلى نهاية القرن الثالث الميلدي؛ و أن ملوك حضر موت الذين كانوا يرغمون‬
‫التجار على استخدام الطريق البري كانوا قد فقدوا استقللهم لصالح سبأ)‪(40‬‬
‫أما الطريق البحري فقد استمر بعد ذلك و تقوى بفضل القناة التي تريط بين البحر الحمر و النيل التي‬
‫حفرها المبراطور تراجان)‪ 98‬ـ ‪117‬م( عند كليزما )‪ ) (Clysma‬القلزم ‪ (Culsum‬السويس حاليا ‪،‬‬
‫كما قام بتمهيد الطريق إلى أيلة و البتراء و بصرى و دمشق‪ .‬و ل شك أن هذين الميناءين قد أثرا على‬
‫ميناءي برنيس و ليوكي كومي فأصبحا هما المركزين الهم للسفن في البحر الحمر حسب المصادر‬
‫السلمية‪.‬و حل ميناء عدن محل موزا في اليمن‪ ،‬و بقيت الحال كما هو عليه إلى أن خّرب العربية السعيدة‬
‫قيصر أغسطس في حملته الثانية كما ورد عند صاحب الطواف‪ .‬و لكنها ما لبثت أن استعادت أهميتها في‬
‫القرن الرابع الميلدي)‪(41‬‬
‫و الظاهر أنه ما لبث أن جاء القرن الثالث للميلد و انتشرت المسيحية في الشرق الوسط حتى انحسرت‬
‫تجارة البخور لتصالها بالطقوس الوثنية التي حلت على أنقاضها المسيحية‪ .‬و رغم استهلك البخور في‬
‫بعض الطقوس الجنائزية و الدينية المسيحية إل أن القبال عليه قد تراجع بشكل مهول ‪ ،‬إذ لم يعد هو‬
‫ل القبال عليه و تراجعت بالتالي أسواقه‪ .‬و إذا أضفنا إلى‬ ‫الهواية المفضلة لدى الطبقة الرستقراطية فق ّ‬
‫الحسبان توفر أهل الشام على إنتاجهم للعطور و تطّور صناعاتها لديهم ‪ ،‬فإنه يمكننا القول بأن تجارة‬
‫اليمن أصبحت تنقل جميعها بحرا منذ القرن الول للميلد ‪ ،‬و أن الطيوب الحضرمية تبعتها على الطريق‬
‫نفسه بعد فترة قصيرة‪ ،‬ثم بدأ انهيار سوق التجارة في اليونان و الرومان منذ القرن الثالث الميلدي‪ .‬ذلك‬
‫النهيار الذي لم يتراجع أبدا ‪ .‬و عندما بدأ نجم تجارة مكة المزور في الظهور لم يكن هناك طريق بري‬
‫لترثه قريش كما لم تكن هناك سوق رومانية و ل بيزنطية ليستفيدوا منها‪.‬‬
‫هذه النتيجة ل يمكن اعتبارها كارثية بالنسبة لتجارة مكة فحسب‪ ،‬باعتبار أن تجارة البخور تعتبر محور‬
‫تجارة أهل اليمن التي تدعي المصادر أن قريشا و رثتها ‪ .‬فتجارة مكة ليست في واقع المر إل ورقة في‬
‫اللعبة التاربخية السلمية‪ .‬يل إن هذه النتيجة في الحقيقة طامة كبرى على القرآن الذي يفترض أنه نزل‬
‫في بيئة تجارية و تكلم بلسان تجاري و استعمل منطقا تجاريا في أكثر آياته‪.‬فلقد حفل القرآن بذكر التجارة‬
‫و شروطها و عقودها و أخلقها في أكثر من ‪ 125‬آية ‪ ".‬منها ‪ 85‬آية في المال و ‪ 6‬في البيع و الشراء و‬
‫‪ 7‬في الربا و مثلها في التجارة و ‪ 13‬آية في القروض و ‪ 4‬في القسطاط‪ .(42).‬فلنا أن نتساءل عمن هم‬
‫هؤلء التجار الذين خاطبهم القرآن؟ و إذا ثبت أن مكة لم تكن سوقا تجارية و ل كانت تسودها الجواء‬
‫التجارية‪ ،‬ففي أية بيئة تجارية نزل القرآن إذا؟ ‪..‬و لنا أن نلحظ شيئا آخر قبل حتم هذا الفصل و هو أن‬
‫تجارة البخور كانت تجارة عالمية تؤدى عليها الضرائب و العشار في السواق و لدى الحكام و الدول‪،‬‬
‫لذلك يمكن القول بأنها كانت تجارة قانونية‪ .‬و هذه التجارة القانونية تبين لنا الن بالدليل و الحجة على أنه‬
‫لم يكن لقريش فيها أي نصيب يذكر‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪Paléographie des inscriptions Sud – Arabes. J. Pirenne - 1‬‬
‫المصنف ‪ 7/236‬ـ ‪2‬‬
‫نفس الصفحة من نفس المصدر ‪3 -‬‬
‫مملكة سبأ ـ ويكيبيديا ـ عربية ـ ‪4‬‬
‫المصنف ‪ 7/241‬ـ ‪5‬‬
‫‪ C.Rathjens PP 115 ,122‬ـ ‪6‬‬
‫‪7 - H.Van wissmann . Ancient trade Routes in South Arabia P 3525‬‬
‫‪8 - J. Rennedy . The Early Commercze of Babylon with India P 271‬‬
‫‪9 - W.H. Schott, tr. The Periplus of the Erythrean Sea P 326‬‬
‫‪10 - ( Rathjens , Wethandlstrassen , P 122j. Rendnedy. The Early‬‬
‫‪11 - Commerce of Babylon with India P271‬‬
‫‪12 - Schoff, Periplus P 6 _ Donner , Mecca Food Supplies ,P 250‬‬
‫‪13 - Watt , Muhammad at Mecca , P 3‬‬
‫المصنف ‪ 7/240‬ـ ‪14‬‬
‫تاج العروس ‪ ). 3/582‬نقر( ـ ‪15‬‬
‫تاج العروس ‪) 7/186‬نبك( ـ ‪16‬‬
‫قدامة ‪ 191‬ـ ‪17‬‬
‫وصف بلد المسلمين ص ‪ ، 85‬عدن ص ‪ 95‬ـ ‪18‬‬
‫‪19 - w.w. Muller , Weihrauch, col 723 ; N. Groom , Frankincense & Myrrh P‬‬
‫‪193‬‬
‫‪20 - Buillet , Camel and the wheel , P 105‬‬
‫‪21 - Diodurus Siculus , Bibliotheca Historica 16/94 :5‬‬
‫‪22 - Strabo , Geography , 15/ 104 : 14‬‬
‫‪23 - Frankincense P 292‬‬
‫‪24 - E12. S.v. Kataban. Beeston‬‬
‫‪25 - Agatharchides ,101 ,Photius Bibliotheque T 7‬‬
‫‪26 - Pliny. Natural History. 12/63‬‬
‫‪27 - PeriplusP 27‬‬
‫سقطت قتبان(‪28 - W.F. Allbright. The Chronologie of Ancient South Arabia PP9‬‬
‫و ‪ ،Muller, Weihrauch, col726،‬حوالي عام ‪50‬ق‪.‬م و يرى موللر أنها سقطت حوالي ‪ 25‬ميلدية‬
‫‪ j.Pirennes , Le Royaume Sud-Arabe de‬اقترح بييرين تاريخا متأخرا و هو عام ‪250‬م‬
‫و نستطيع القول بتأكيد أنه قد توقف ذكر قتبان في النقوش في ‪Qataban et Sabatanian. A.D 250‬‬
‫) ‪ E12 , s,v. kataban‬القرن الرابع للميلد‬
29 - Van Beek.Frakincense & MMyrrh P72, i
30 ‫ مادة ظفار ـ‬،3/588 ‫البلدان‬، ‫ياقوت الحموي‬
‫ و قد أصبح ميناء‬31 ‫ميناء صغير بجنوب محافظة البحر الحمر بمصر سمي على اسم بطليموس الثاني ـ‬
‫م‬.‫ ق‬275 ‫تجاريا هاما حوالي‬
32 - Pliny N.H 4/104
33 - cf. Beeston , Some Observations pp.8f
34 - Agatharchides 101
35 - Artemidoros in StraboK Geography 16/4 :19
36 - ‫من كتاب الطواف تمت ترجمتها لدى جروم‬12 ‫ ـ‬7 ‫ الفقرات‬Frankincense ? pp 138 ff
37 - Cosmas indicopleustes, Topographie chretienne, 2/64
38 - Strabo ; Geography16/4 :23
39 - Aristobulus in Strabo 15/13 :3
40 - E12, sv Hadramawt ; w.w. Muller ,pp 231/249
41 _ Periplus , ed. H . Frisk 26
42 ‫ ـ‬20 ‫ ـ المال و الحلل ـ ص‬18 ‫الحاشية‬

Vous aimerez peut-être aussi