Vous êtes sur la page 1sur 331

‫زهر الداب وثمار اللباب‬

‫الحُصري‬
‫من مشاهير كتب الدب‪ ،‬ويضم البضاعة الدبية الشرقية الثانية‪ ،‬بعد البضاعة الشرقية الولى التي اشتمل عليها كتاب العقد الفريد وهو كتاب‬
‫يتصرف الناظر فيه من نثره إلى شعره‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬
‫الحمد لّ الذي اختصّ النسانَ بفضيلةِ البيانِ‪ ،‬وصلّى الّ على محمدٍ خاتمِ النبيين‪ ،‬المرسل بالنور المبين‪ ،‬والكتابِ المستبين‪ ،‬الذي تحدّى ا ْلخَلْقَ‬
‫أن يأتُوا بمثله فعجزوا عنه‪ ،‬وأقرّوا ب َفضْلِه‪ ،‬وعلى آله وسلّم تسليمًا كثيراً‪.‬‬
‫ل بِفَحْواهُ على‬ ‫سُتدِ ّ‬
‫ت فيه قطعةً كاملةً من البلغات؛ في الشعر والخبر‪ ،‬والفصول والفقَر‪ِ ،‬ممّا حَسُنَ لفظُهُ ومعناه‪ ،‬وا ْ‬ ‫وبعد؛ فهذا كتابٌ اختر ُ‬
‫شيّاً‪ ،‬ول ساقطاً سُوقيّاً‪ ،‬بل كان جميع ما فيه‪ ،‬من ألفاظه ومعانيه‪ ،‬كما قال البحتري الخفيف‪:‬‬ ‫َمغْزَاهُ‪ ،‬ولم يكن شارداً حُو ِ‬
‫ك أمْرُ ٌؤ أنّ ُه نِظَـا ُم فَـرِيدِ‬ ‫في نظام من البلغةِ ما شَ‬
‫جّنبْنَ ظُ ْلمَةَ التّـعْـقِـيدِ‬
‫وتَ َ‬ ‫س َت ْعمَلَ الكلمِ اختياراً‬‫ن مُ ْ‬
‫حُزْ َ‬
‫ن به غايةَ المُرادِ البَـعِـيدِ‬ ‫َ‬ ‫وَ َر ِكبْنَ اللفظَ القريب فأدرك‬
‫صفْوَان‪ ،‬ونظائرهما؛ إذ كانت هذه أجملَ لفظاً‪،‬‬ ‫صعَ َة بن صُوحَان‪ ،‬وخالد بن َ‬ ‫صعْ َ‬ ‫ولم أذهب في هذا الختيار إلى مطولت الخبار‪ ،‬كأحاديث َ‬
‫وأسهلَ حفظاً‪.‬‬
‫وهو كتابٌ يتصرَف الناظ ُر فيه من نثره إلى شعرهِ‪ ،‬ومطبوعهِ إلى مصنوعهِ‪ ،‬ومحاورتهِ إلى مفاخرته‪ ،‬و ُمنَاقَلَته إلى مُسَاجَلَته‪ ،‬وخطابه المبهت‬
‫طرِب‪،‬‬‫جدّهِ المعجب إلى هَزْلِهِ المُ ْ‬ ‫سكِت‪ ،‬وتشبيهاته المُصيبة إلى اختراعاته الغريبة‪ ،‬وأوصافه الباهرة إلى أمثاله السائرة‪ ،‬و ِ‬ ‫إلى جوابه المُ ْ‬
‫جزْلِهِ الرائع إلى رقيقه البارع‪.‬‬ ‫وَ‬
‫ت بعضَه‬ ‫ت بعضَه مُسَلْسَلً‪ ،‬وترك ُ‬ ‫ت فيما جمعت عن ترتيب البيوت‪ ،‬وعن إبعاد الشكل عن شكله‪ ،‬وإفراد الشيء من ِمثْلِه؛ فجعل ُ‬ ‫ع ُ‬‫وقد نز ْ‬
‫شكْلَ بنظائره‪،‬‬ ‫ش َيتَي التصنيف؛ وقد يَعزُ المعنى‪ ،‬فأُلحقُ ال ّ‬ ‫ط َرفَي التأليف‪ ،‬واشتمل على حا ِ‬ ‫مُرْسَلً؛ ليحصل مُحَرَر النّ ْقدِ‪ُ ،‬م َقدَر السرْد؛ وقد أخذ بِ َ‬
‫وأعلق الول بآخره‪ ،‬وتبقى منه بقية أفرّقها في سائره؛ ليسَل َم من التطويل الممل‪ ،‬والتقصير المخلّ‪ ،‬وتظهر في التجميع إفادةُ الجتماع؛ وفي‬
‫سهْل أنْفَى للكَلَل‪ ،‬وأ ْبعَ َد من‬ ‫حزْن إلى َ‬ ‫جدّ إلى هَزْل‪ ،‬ومن َ‬ ‫التفريق َلذَاذَة المتاع‪ ،‬فيكمل منه ما يُونِقُ القلوبَ والسماع؛ إذ كان الخروجُ من ِ‬
‫المَلل؛ وقد قال إسماعيل بن القاسم هو أبو العتاهية‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ل من حالٍ إلى حـالِ‬ ‫ل التنق ُ‬
‫إَ‬ ‫ل ُيصْلِحُ النفسَ إذ كانت مُدَابرةً‬
‫وكان السببُ الذي دعاني إلى تأليفه‪ ،‬ونَدبني إلى تصنيفه‪ ،‬ما رأيته من رغبة أبي الفضل العباس بن سليمان ‪ -‬أطال ال ُمدَته‪ ،‬وأدام نعمته! ‪ -‬في‬
‫الدب‪ ،‬وإنفاق عمره في الطلب وماله في الكتب؛ وأنّ اجتهادَه في ذلك حمله على أن ارتحلَ إلى المشرق بسببها‪ ،‬وأغمضَ في طلبها‪ ،‬باذلً في‬
‫ذلك ماله‪ ،‬مستعذبًا فيه تعبَهُ‪ ،‬إلى أن أورد من كلمِ بلغاء عصره‪ ،‬وفصحاء دهره‪ ،‬طرائف طريفة‪ ،‬وغرائب غريبة‪ ،‬وسألني أن أجمعَ له من‬
‫مُخْتارها كتابًا ي ْكتَفي به عن جملتها‪ ،‬وأضيف إلى ذلك من كلم المتقدّمين ما قارَبه وقارَنه‪ ،‬وشابهه وماثله؛ فسارعتُ إلى مراده‪ ،‬وأعنته على‬
‫ت له هذا الكتاب‪ ،‬ليستغني به عن جميع كتبِ الداب‪ ،‬إذ كان موشَحًا من بدائع البديع‪ ،‬وللئ الميكالي‪ ،‬وشهيّ الخوارزمي‪،‬‬ ‫اجتهاده‪ ،‬وألَف ُ‬
‫وغرائب الصاحب‪ ،‬ونفيس قابُوس‪ ،‬وشذور أبي منصور بكل ٍم يمتزجُ بأجزاء النفس لطافةً‪ ،‬وبالهواء رقّة‪ ،‬وبالماء عذوبة‪.‬‬
‫وليس لي في تأليفه من الفتخار‪ ،‬أكث ُر من حُسْن الختيار؛ واختيارُ المرء قطعة من عقله‪ ،‬تدلّ على تخلُفه أو فَضْلِه؛ ول شك ‪ -‬إن شاء ال ‪ -‬في‬
‫ل ِمنْ‬ ‫سرّ‪ ،‬ول جال ِفكْرٌ‪ ،‬في أفض َ‬ ‫استجادة ما استجدت‪ ،‬واستحسانِ ما أَوْرَدت؛ إذ كان معلوماً أنه ما انجذبت نفسٌ‪ ،‬ول اجتمع حِسن‪ ،‬ول مال ِ‬
‫ل من صفاء السبك ونقاء السّلك‪ ،‬وصحة الدّيباجة‪،‬‬ ‫ل ل يُدفع‪ ،‬وأبرزه يَخْتا ُ‬ ‫معنًى لطيفٍ‪ ،‬ظهر في لفظِ شريف؛ فكَسَاه من حسن الموقع‪ ،‬قبو ً‬
‫وكثرة المائية‪ ،‬في أجمل حُلّة‪ ،‬وأجلى حلية الكامل‪:‬‬
‫َأرَجاً‪ ،‬ويؤكل بالضمير ويُشْ َربُ‬ ‫يستنبط الروحَ اللطيف نسيمـهُ‬
‫وقد رغبتُ في التجافي عن المشهور‪ ،‬في جميع المذكور‪ ،‬من السلوب الذي ذهبتُ إليه‪ ،‬والنحو الذي عوّلت عليه؛ لن أوّل ما يقرع الذان‪،‬‬
‫ظتْه العقولُ لكثرة استمراره؛ فوجدت ذلك يتعذّر ول يتيسر‪ ،‬ويمتنع ول يتّسع؛‬ ‫جتْه النفوسُ لطول تكراره‪ ،‬ولفَ َ‬ ‫َأدْعى إلى الستحسان‪ ،‬ممَا مَ ّ‬
‫عمّا أهانه الستعمال‪ ،‬وَأذَاله البتذال‪،‬‬ ‫عرِض إلّ َ‬ ‫ويُوجب ترك ما نَدر إذا اشتهر؛ وهذا يوجب في التصنيف دَخَلً‪ ،‬ويكسب التأليف خَلل؛ فلم أُ ْ‬
‫عذُوبَةِ مورِد‪ ،‬وسهولة َمقْصِد‪،‬‬ ‫حسَن لفظه؛ من بارع عبارة‪ ،‬وناصع استعارة‪ ،‬و ُ‬ ‫ستَ ْ‬‫حفْظِهِ‪ ،‬ما ظهر من مُ ْ‬ ‫والمعنى إذا استدعى القلوبَ إلى ِ‬
‫وحسن تفصِيل‪ ،‬وإصابة تمثيل؛ وتَطابُق َأنْحاء‪ ،‬وتَجَانُس أجزاء‪ ،‬وتمكّن ترتيب‪ ،‬ولطافة تهذيب‪ ،‬مع صحَة طبع وجوده إيضاح‪ ،‬يثقفه تثقيفَ‬
‫خلِقه عَ ْودُه علَى المستعيد‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫القِداح‪ ،‬ويصوره أفضلَ تصوير‪ ،‬ويقدّره أ ْكمَل تقدير؛ فهو مشرق في جوانب السمع‪ ،‬ل يُ ْ‬
‫سنُه إن كُرّرا‬ ‫حْ‬ ‫وَهوَ المضاعفُ ُ‬ ‫شيّعُ بالمسامع إن مَضَى‬ ‫وَهْوَ المُ َ‬
‫ت قد استدركتُ على كثير ممن سبقني إلى مثل ما ج َريْتُ إليه‪ ،‬واقتصرت في هذا الكتاب عليه‪ِ ،‬لمُلَح أَوْرَدتها كنَوَافثِ السحْرِ؛ و ِفقَر‬ ‫وإن كن ُ‬
‫نظمتها كال ِغنَى بعد ال َفقْر‪ ،‬من ألفاظ أهلِ العصر‪ ،‬في محلول النثر‪ ،‬ومعقود الشعر؛ وفيهم من أدركتهُ ب ُعمْري‪ ،‬أو لحقه أَهْلُ دهري؛ ولهم من‬
‫لطائف البتداع‪ ،‬وتوليدات الختراع‪ ،‬أبكار لم تَ ْفتَرِعْها السماع‪ ،‬يَصبو إليها القلبُ والطّرْف‪ ،‬ويَ ْقطُر منها ماءٌ المَلَحة والظّرفِ‪ ،‬وتمتزجُ‬
‫بأجزاء النفس‪ ،‬وتسترجع نافِرَ الُنس‪ ،‬تخلََلتْ تضاعيفَه‪ ،‬ووشّحتْ تأليفه‪ ،‬وطرّزت ديباجه‪ ،‬ورصّعت تاجه‪ ،‬ونَظمت عقوده‪ ،‬ورقمت بُرودَه؛‬
‫ض من الكلم مُونقٍ‪ ،‬ورَ ْونَق من الحكم مشرِق الطويل‪:‬‬ ‫شفّ‪ ،‬في رو ٍ‬ ‫فنوْرُها يَ ِرفّ‪ ،‬ونُورُها ي ِ‬
‫ص َعدُ‬
‫إذا ما استشفّته العيون مُ َ‬ ‫صفا ونَفى عنه ال َقذَى فكأنـهُ‬
‫فهو كما قلت السريع‪:‬‬
‫جرِي مَعَ الرُوح كما تجري‬ ‫يَ ْ‬ ‫بديع نثرٍ رقّ حـتّـى غَـدا‬
‫ديباجةٌ ليسَت منَ الشّـعـر‬ ‫جهِهِ‬‫مِنْ ُمذْهَبِ الوَشْي على وَ ْ‬

‫‪1‬‬
‫تَرُود في رَ ْونَقها النـضْـرِ‬ ‫كزهرةِ الدنيا وقد أقـبـلـت‬
‫ختَال في أردية الـفَـجْـرِ‬ ‫يْ‬ ‫أو كالنسيم الغَضّ غِبّ الْحَـيا‬
‫ولعل في كثير مما تركتُ‪ ،‬ما هو أجودُ من قليل مما أدركت؛ إذ كان اقتصارًا من كلّ على َبعْض‪ ،‬ومن َفيْضٍ على بَرْض‪ ،‬ولكني اجتهدتُ في‬
‫اختيار ما وجدتُ؛ وقد تدخلُ اللفظةُ في شفاعة اللفظات‪ ،‬ويمرُ البيت في خِلَل البيات‪ ،‬وتعرض الحكايةُ في عرض الحكايات‪ ،‬يت ّم بها المعنى‬
‫ض عنه بطَرْفِ‬ ‫ستَجاد‪ ،‬ويبعث عليها فَرْط الضرورة إليها في إصلح خَلَل؛ فمهما تَرَه من ذلك في هذا الختيار‪ ،‬فل تعْرِ ْ‬ ‫المراد‪ ،‬وليست ممّا يُ ْ‬
‫النكار؛ وما أقلّ ذلك في جميع المسالك الجارية في هذا الكتاب‪ ،‬الموسوم بزهر الداب‪ ،‬وثمر اللباب‪ ،‬لكني أردت أنْ أُشارك من يخرج من‬
‫ضيق الغترار‪ ،‬إلى فسحة العتذار الكامل‪:‬‬
‫شعْرِه مفْـتُـون‬‫يَأْتيك وَهْوَ ب ِ‬ ‫ويسيئ بالحسان ظنّاً‪ ،‬ل كمن‬
‫ل المؤيد والمسدّد‪ ،‬وهو حسبنا ونعم الوكيل‪.‬‬ ‫وا ّ‬
‫ن من البيان لَسِحْراً"‪.‬‬ ‫"إ ّ‬
‫عمْرُو بن الهتم؛ فقال‬ ‫ن بن بَدْر و َ‬
‫ل عليهما ‪ -‬قال‪َ :‬و َفدَ إلى رسول الّ صلى ال عليه وسلم ال ّزبْ ِرقَا ُ‬ ‫ل بن عبّاس ‪ -‬رضوان ا ّ‬ ‫روى عن عبد ا ّ‬
‫عمْراً‪.‬‬
‫الزبرقان‪ :‬يا رسولَ ال‪ ،‬أنا سيّد تميم‪ ،‬والمطاعُ فيهم‪ ،‬والمجابٌ منهم‪ ،‬آخذُ لهم بحقّهم‪ ،‬وأمنعهم من الظلم‪ ،‬وهذا يعلم ذلك ‪ -‬يعني َ‬
‫جلْ يا رسولَ الّ؛ إنه مانعٌ لِحَوْزته‪ ،‬مُطَاعٌ في عشيرته‪ ،‬شديد العَارِضة فيهم‪.‬‬ ‫عمْرو‪ :‬أ َ‬ ‫فقال َ‬
‫ضيّق العَطَن زمر‬ ‫فقال الزبرقان‪َ :‬أمَا إنه والّ قد علم أكث َر ِممّا قال‪ ،‬ولكنه حسدني شَرفي! فقال عمرو‪ :‬أما لئن قال ما قال؛ فوالّ ما علمته إلّ َ‬
‫حمَقَ الب‪ ،‬لئيمَ الخالِ‪ ،‬حديثَ ال ِغنَى‪.‬‬ ‫المروءة‪ ،‬أَ ْ‬
‫فرأى الكراهَةَ في وَجْه رسول ال صلى ال عليه وسلم لمّا اختلفَ قولُه‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬رضيتُ فقلتّ أحسنَ ما علمت‪ ،‬وغضبتُ فقلت‬
‫ص َدقْتُ في الثانية!‬
‫أقْبحَ ما علمت‪ ،‬وما كذبت في الُولى‪ ،‬ولقد َ‬
‫ح ْكمَة‪ .‬ويروى لَحُكما‪ ،‬والول أصحّ‪.‬‬ ‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬إن من البيان لسحراً‪ ،‬وإن من الشعر ل ِ‬
‫س لبيانهما؛ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫والذي روى أهل الثبَت‪ ،‬من هذا الحديث أنَه َقدِم رجلن من أهْل المشرق فخطبا؛ فعجب النا ُ‬
‫ن من بعض البيان لسحرا‪.‬‬ ‫ن من البيان لسحْرا‪ ،‬أو إ ّ‬ ‫إّ‬
‫سنَان بن خالد ابن ِمنْقَر ابن عُبيد بن الحارث‪ ،‬والحارث هو‪ :‬مُقَاعس بن عمرو بن كعب‬ ‫سنَان بن سُمي بن ِ‬ ‫عمْرو بن ِ‬ ‫عمْرو بن الهتم هو‪َ :‬‬ ‫وَ‬
‫ابن سعد بن زيد مناة بن تميم‪ .‬وسُمي سِنان الهتم‪ ،‬لن قيس بن عاصم ا ْلمِنقَري سيدَ أهلِ ال َوبَرِ ضربه بقوسه فهتَم فاه‪ .‬هذا قولُ أبي محمد عبد‬
‫الّ بن مسلم ابن قتيبة‪ .‬وقال غيره‪ :‬بل ُهتِ َم فُوه يوم الكُلب الثاني‪ ،‬وهو يومٌ كان لبني تميم على أهل اليمن‪ .‬وكان عمرو يلقب ال ُمكَحّلَ لجماله‪،‬‬
‫ش ْيبَة‪ .‬وكان يقال‪ :‬الخطابة‬ ‫ت بلغةٍ في الجاهلية والسلم‪ .‬وعبد ال بن عمرو بن الهتم هو جدّ خالد ابن صَ ْفوَان وشَبيب بن َ‬ ‫ل بي ِ‬ ‫وبنو الهتم أه ُ‬
‫ل منشَرَة عند الملوك تأخذُ منه ما شاءت‪ .‬وهو القائل الطويل‪:‬‬ ‫عمْرو‪ ،‬وكان شعره حُلَ ً‬ ‫في آل َ‬
‫سرُوقُ‬ ‫لصالح أخلقِ الرجالِ َ‬ ‫ذريني فإن البخلَ يا أمّ مالـكٍ‬
‫ولكنّ أَخلقَ الرجالِ تضـيقُ‬ ‫ت بلد بأهلها‬ ‫لعمْ ُركِ ما ضاق ْ‬
‫حصَين بن بَدْر بن امرئ القيس بن الحارث بن َبهَدَلَ َة بن عوف بن كعب بن سعيد‪ .‬وسمي الزّبرقان لجماله؛ والزبرقان‪ :‬القمر‬ ‫والزبرقان‪ :‬اسمه ُ‬
‫ق عمامتَه‪ ،‬أي يصفَرها في الحرب‪.‬‬ ‫قبل تمامه وقيل‪ :‬لنه كان يُزَب ِر ُ‬
‫وكانوا يسمّون الكلم الغريب السَحر الحلل‪ ،‬ويقولون‪ :‬اللفظ الجميل من إحدى النّفثَاتِ في العُقَد‪.‬‬
‫ل بلد؛ فتقدّم إليه َو ْفدُ أهلِ الحجاز‪ ،‬فأشْرَأب منهم‬ ‫ل عنه‪َ ،‬قدِمَ عليه ُوفُودُ أهلِ ك ّ‬‫ستُخِْلفَ عم ُر بن عبد العزيز‪ ،‬رضي ا ّ‬ ‫وذكر بعضُ الرُواة أنه لما ا ْ‬
‫غلمٌ للكلم‪ ،‬فقال عمر‪ :‬يا غلم‪ ،‬ليتكل ْم مَنْ هو أَسَن منك! فقال الغلم‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إنّما المرءُ بأَصغريه‪ ،‬قلبهِ ولسانِهِ‪ ،‬فإذا َمنَح الُّ عبدَه‬
‫لساناً لفظاً‪ ،‬وقلباً حافظاً‪ ،‬فقد أجاد له الختيار؛ ولو أن المور بالسن لكان هاهنا مَنْ هو أحق بمجلسك منك‪.‬‬
‫فقال عمر‪ :‬صدقت‪ ،‬تكلّم؛ فهذا السحْرُ الحلل! فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬نحن وفد التهنئة ل َو ْفدُ ا ْلمَ ْرزِئة‪ ،‬ولم تُ ْق ِدمْنا إليك رغبةٌ ول رهبة؛ لنا قد‬
‫أمِنا في أيامك ما خِفْنا‪ ،‬وأدركْنا ما طلبنا! فسأل عمر عَنْ سِنّ الغلم‪ ،‬فقيل‪ :‬عشر سنين‪.‬‬
‫وقد روي أن محمد بن كعب القرظي كان حاضراً‪ ،‬فنظر َوجْه عمر قد تهلَل عند ثَناء الغلم عليه؛ فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين؛ ل يغلبَنَ جهلُ القوم‬
‫خدَعهم الثناءُ‪ ،‬وغرهم الشكر‪ ،‬فزلّت أقدامُهم‪ ،‬فهوَوا في النار‪ .‬أعاذك ال أن تكون منهم‪ ،‬وألحقك بسَالِف هذه‬ ‫بك معرفتَك بنفسك؛ فإنّ قوماً َ‬
‫ف عليه‪ ،‬وقال‪ :‬اللهم ل تُخِْلنَا من واعظ! وقد رُوي أنّ عمرَ قال للغلم‪ :‬عِظْني‪ ،‬فقال هذا الكلم‪ ،‬وفيه زيادة يسيرهّ‬ ‫المة؛ فبكى عمر حتى خِي َ‬
‫ونقص‪ .‬وأخذ قولَ عمرّ‪ :‬هذا السحر الحلل أبو تمام فقال يعاتب أبا سعيد محمد بن يوسف الطائي الوافر‪:‬‬
‫عقَالَ‬
‫جعَلْتَ ال َمنْ َع منكَ لها ِ‬
‫َ‬ ‫ت يَدَاها‬ ‫إذا ما الحاج ُة ان َب َعثَ ْ‬
‫وتأنفُ أَنْ أُهـان وأَن أذَال‬ ‫ك تَأبـى‬ ‫فأين قصائدٌ لي في َ‬
‫ولم أرَ قبلها سِحْراً حَـلَل‬ ‫جتَلِيه‬
‫ل ل ُم ْ‬‫هي السّحر الحل ُ‬
‫وكتب أبو الفضل بن العميد إلى بعض إخوانِه جواباً عن كتاب وردَ إليه فأحمده‪:‬‬

‫حكَى‬
‫ش ِفيَتْ نفسي بوفوده‪ ،‬ونَشَرتُه ف َ‬‫ل فداك‪ ،‬من كتابك‪ ،‬بل نعمتك التامة‪ ،‬و ُمنّتك العامة؛ فقرَت عيني بوروده‪ ،‬و ُ‬ ‫صلَ ما وص ْلتَني به‪ ،‬جعلني ا ّ‬‫وَ َ‬
‫حكَمك؛ فوجدته قد تحمّل من‬ ‫نسيمَ الرياض غِب المطر‪ ،‬وتنفسَ النوارِ في السّحر‪ ،‬وتََأمَلْتُ م ْف َتتَحه‪ ،‬وما اشتمل عليه من لطائف كَلِمك‪ ،‬وبدائع ِ‬
‫سمُوط ذر خصصتَني‬ ‫عمَرَ قلبي‪ ،‬وغلب ِفكْري‪ ،‬و َبهَر ُلبّي؛ فبقيتُ ل أدري‪ :‬أ ُ‬ ‫جدّاً وه ْزلً‪ ،‬ملَ عيني‪ ،‬و َ‬‫ل منك‪ِ ،‬‬ ‫فنون الب ّر عنك‪ ،‬وضروب ال َفضْ ِ‬
‫ضرّجت حياءً ضمّنته؛ أم نجوماً طلعت‬ ‫بها‪ ،‬أم عقود جوهر منَحْتنِيها؟ كما ل أدري َأ ِبكْراً َزفَ ْفتَها فيه‪ ،‬أم روضةً جهزتها منْه؛ ول أدري أخدوداً ُ‬
‫طوَى عليه نَفْسًا ل ترى الحَظّ إلَ ما ا ْقتَنته منه‪ ،‬ول‬ ‫ل ب َتتَبع ما انْ َ‬
‫جدّك أبلغ وألطف‪ ،‬أم هَزْلك أرفع وأظرف؛ وأنا أ َوكَ ُ‬ ‫عشا ًء أودعته؛ ول أدري أ ِ‬
‫ل بمثْلِهِ‪ِ ،‬ممّا يَصْدر عن َيدِك‪ ،‬ويَ ِر ُد من عندك‪ ،‬وأعْطِيه نظرًا ل يملُه‪ ،‬وطَرْفًا ل‬ ‫َتعُد الفضل إل فيما أخذتْه عنه‪ ،‬وأ َمتّع بتأمّله عينًا ل تَقَرُ إ ّ‬
‫صدْري بقراءته‪ ،‬ولئن‬ ‫جتِه‪ ،‬وأمزج قريحتي برقّته‪ ،‬وأشْرَح َ‬ ‫حتَذِيه‪ ،‬وأمتعِ خلقي برَ ْونَقِه‪ ،‬وأُغذي نفسي ببَهْ َ‬ ‫يطرِف دونه‪ ،‬وأجعله مِثالً أ ْرتَسمه وأ ْ‬
‫حرِ الحلل‪.‬‬ ‫ت به من الس ْ‬ ‫كنت عن تحصيل ما ق ْلتَه عاجزاً‪ ،‬وفي تعديد ما ذكرته متخلفاً؛ لقد عرفت أنه ما سمع ُ‬
‫وقال بعض المحدثين يمدح كاتباً الكامل‪:‬‬

‫‪2‬‬
‫عجْلَنَ في َرفَلنِهِ وَوَجِـيفـ ِه‬ ‫َ‬ ‫وإذا جَرَى قلم له في مُـهْـرَقٍ‬
‫بنَفيِسِ جَوْهَرِ لفظِهِ وشـريفـه‬ ‫ظمَتْ مراشفُه قلئد نُظّـمـت‬ ‫نَ َ‬
‫عن ذهنِ مصقولِ الذكا ِء مَشُوفهِ‬ ‫بِدْعًا من السّحْرِ الحلل تولَـدَتْ‬
‫جعِلَتْ وتحـفةَ قـادم لَلِـيفـهِ‬ ‫ُ‬ ‫َمثَلً لضاربهِ وزادَ مُـسَـافـر‬
‫سهْلً‪ ،‬كأنّما بينه وبين القلوب نَسَب‪ ،‬أو‬ ‫سمْحاً َ‬ ‫صفَ رجل رجلً فقال‪ :‬كان وال َ‬ ‫حفَة قادم قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي‪ ،‬و َ‬ ‫وعلى ذكر قوله وت ْ‬
‫حفَة قادم‪ ،‬وواسِطَةُ عِقْد‪.‬‬
‫بينه وبين الحياةِ س َببٌ‪ ،‬إنما هو عيادة مريض‪ ،‬وتُ ْ‬
‫ت من‬
‫ت من لساني أ ْكثَر ِممّا ملكْ َ‬
‫وأخذ بعضُ بني العباس رجلً طالبياً‪ ،‬فه ّم بعقوبته‪ ،‬فقال الطالبي‪ :‬والَِ لول أَنْ أفسد دينْي بفْساد دنياك لملكْ َ‬
‫جنْدل‪.‬‬‫ن أيسره ل َيثْقُبُ الْخَردَل‪ ،‬ويحط الْ َ‬ ‫سَوْطك‪ ،‬والّ إن كلمي لَفَوْقَ الشعر‪ ،‬ودون السحْر؛ وإ ّ‬
‫وقال علي بن العباس‪ ،‬يَصِفُ حديثَ امرأةٍ الكامل‪:‬‬
‫ن قتلَ المسلم المـتـحـرَزِ‬ ‫لم يَجْ ِ‬ ‫حرُ الحللُ لَـوَ أنـه‬ ‫وحديثها الس ْ‬
‫ث أنّهـا لـم تُـوجِـز‬ ‫ودّ المحدَ ُ‬ ‫إن طال لم يُملَلْ‪ ،‬وإنْ هي أَوْجزَتْ‬
‫للمطمئنّ‪ ،‬وعقلَةُ المسـتـوفِـز‬ ‫شَرَك العقولِ‪ ،‬ونزه ٌة ما ِمثْلُـهـا‬
‫ألَمّ في بيته الخر بقول الطائي الطويل‪:‬‬
‫وليس لها في الحُسْنِ شكْل ول تِرْبُ‬ ‫ب لغيداءَ أصـبـحـتْ‬ ‫كَوَاعِبُ َأتْرا ٍ‬
‫يَروح و َيغْدُو في خَفَارَتهِ الْـحُـب‬ ‫لها منظَر َق ْيدَ النـواظِـر لـم يَزَلْ‬
‫وأول من استثار هذا المعنى امرؤ القيس بن حجر الكندي في قوله الطويل‪:‬‬
‫ب ُمنْجَ ِر ٍد َقيْدِ الوَابدِ هَـ ْيكَـلِ‬ ‫وقد أغتدِي والطيرُ في ُو ُكنَاتها‬
‫وكالت عُلَية بنت المهدي مجزوء الكامل‪:‬‬
‫لِ الغْيدِ الحُ ْل ِو الدّللِ‬ ‫شرَبْ على ذكر الغَزَا‬ ‫اِ ْ‬
‫غلّ؟ ألبابِ الرجالِ‬ ‫يا ُ‬ ‫شرَبْ عليه وقُلْ لـه‬ ‫اِ ْ‬
‫حسَان‪ ،‬وعَِلقَتْ بغلم اسمه رشأ وفيه تقول مجزوء الكامل‪:‬‬ ‫وكانت عَليّةُ لطيف َة المعنى‪ ،‬رقيقَةَ الشعرِ‪ ،‬حسنةَ مجاري الكلم‪ ،‬ولها ألحانٌ ِ‬
‫صَبًا كئيبًا ُم ْتعَـبـا‬ ‫أضحى الفؤا ُد بزينبا‬
‫و َك َتمْت أمراً معجبا‬ ‫ستْرَةً‬
‫جعَلْتُ َزيْنبَ ُ‬ ‫فَ َ‬
‫قولها‪ :‬بزينب تريد برشأ‪.‬‬
‫ل لئن ذكَ ْرتِه لقتلنك! فدخل عليها يوماً‬ ‫فنُميَ المر إلى أخيها الرشيد‪ ،‬فأبعده‪ ،‬وقيل‪ :‬قتَله‪ ،‬وعَِلقَت بعده بغلم اسمه طَلّ‪ ،‬فقال لها الرشيد‪ :‬وا ّ‬
‫ل فما نهى عنه أمير المؤمنين‪ ،‬فضحك‪ ،‬وقال‪ :‬ول كلّ هذا‪ ،‬وهي القائلة الكامل‪:‬‬ ‫غفْلة وهي تقرأ‪ :‬فإن لم يصبها واب ٌ‬ ‫على حين َ‬
‫صبًّا ذاهل‬ ‫حتى ابتُليتُ فص ْرتُ َ‬ ‫ت قبلَـك عـاذل‬ ‫يا عاذِلي‪ ،‬قد كن ُ‬
‫شغْلً شـاغِـل‬ ‫فإذا تحكَم صار ُ‬ ‫الحب أول ما يكـون مَـجَـانة‬
‫يَرْضى القتيلُ ول يُرضّي القاتل‬ ‫أَ ْرضَى َف َيغْضَبُ قاتلي فتعجبـوا‬
‫وهي القائلة الرمل‪:‬‬
‫سمُجْ‬ ‫أنصف المعشوق فيه لَ َ‬ ‫وُضع الحبٌ على ا ْلجَوْرِ‪ ،‬فلو‬
‫لك خير مِنْ كثي ٍر قد مـ ِزجْ‬ ‫صرْفاً خالصـاً‬ ‫وقليلُ الحب ِ‬
‫حسِنُ تأليفَ ا ْلحُجَـجْ‬ ‫عاشق يُ ْ‬ ‫ستَحْسَنُ في َنعْتٍ الهوى‬ ‫ليس يُ ْ‬
‫وكأنها ذهبت في الول إلى قول العباس بن الحناف الطويل‪:‬‬
‫تُروّع بالهِجران فيه وبالـعَـتْـبِ‬ ‫حسَنُ أيام الهـوى يومُـك الـذي‬ ‫وأ ْ‬
‫فأين حلَوَاتُ الرسائل والكُـتْـب؟‬ ‫إذا لم يكن في الحب سخْطٌ ول رضا‬
‫وقد زاد النميري في هذا فقال الخفيف‪:‬‬
‫وشفائي في قيله ْم َبعْـدَ قـالٍ‬ ‫راحتي في مقـالة الـعُـذّال‬
‫ل بِخمسِ خصال‬ ‫حب لصب‪ ،‬إ ّ‬ ‫ل يَطيبُ الهوى ول يحسْنُ ال‬
‫وعِتابِ‪ ،‬وهِجْـرَةٍ‪ ،‬وتـقـال‬ ‫عذْل نصـيحٍ‪،‬‬ ‫بسماع الذَى‪ ،‬و َ‬
‫وقال بعض المحدثين الكامل‪:‬‬
‫فتطا َردِي لي في الوصال قليل‬ ‫لول اطّراد الصيد لم تَـكُ لـذّة‬
‫من لذةٍ حتى يُصِيبَ غـلـيل‬ ‫هذا الشراب أخُو الحياة ومالـهُ‬
‫وقال آخر الطويل‪:‬‬
‫فإنّ الذى ِممّن تُحِـبّ سُـرورُ‬ ‫ب يَصْلى بالذى من حبيبهِ‬ ‫دع الص ّ‬
‫ن ذَرُورُ‬ ‫إذا مـا تـل آثـارهُـ َ‬ ‫عيْنِ ذئبهـا‬ ‫غُبارُ قطِيع الشاء في َ‬
‫وأنشد الصمعي لجميل بن معمر العذري‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫طمَـعُ‬ ‫عواضُ أليأس أو يَ ْرتَاحه ال ّ‬ ‫خيْرَ في الحب وقفاً ل تحـركـهُ‬ ‫ل َ‬
‫ك مـا آتـي ومـا أ َدعُ‬ ‫لكنتُ َأمْلِـ ُ‬ ‫صبْرُها أو عندها جَزَعِي‬ ‫لو كان لي َ‬
‫كادت له شعْبةَ من ُمهْجَتي تـقـعُ‬ ‫سمِها داعٍ لـيحـزنـنْـي‬ ‫إذا دعا با ْ‬
‫وهذا البيت كقول علي بن العباس الرومي‪ :‬الكامل‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫فكفاهُ ُم بالوَجْـدِ والشـوا ِ‬
‫ق‬ ‫ن ملمةَ الـعـشـاقِ‬ ‫ل ت ْكثِرَ ّ‬
‫فإذا تضاعَفَ كان غير مُطَاقِ‬ ‫عفِ‬ ‫إن البل َء يطاقُ غي َر مُضا َ‬
‫كالريح تُغرِي النار بالحراق‬ ‫ل تُطْفئَنّ جَوى بِـلَـوم؛ إنـهُ‬
‫شدَ في شعرٍ رُوِي لبي نواس‪ ،‬ورواه قوم لعنان جارية الناطفي‪ ،‬وهو‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫ت عليّة الخر بيتٌ أ ْن ِ‬ ‫ويشبه بَيْ َ‬
‫لم يَحْلُ إلَ بالعـتـابِ وصـالُ‬ ‫حلو العـتـاب يهـيجُـ ُه الدلل‬
‫مَنْ كان يصرف وجهه التعْـذَالُ‬ ‫لم َيهْوَ قطُ ولم يُسَـ ّم بـعـاشـق‬
‫ما لم يكن غدْر ول اسـتـبـدالُ‬ ‫وجميعُ أسبابِ الـغـرام يسـيرة‬
‫ولها من البدر المنـي ِر مِـثَـالُ‬ ‫تصف القضيبَ على الكثيب َقنَاتُها‬
‫حسناء سار بحسنهـا المـثـالُ‬ ‫ع مَـلَحةٍ‬ ‫ولرُب لبـس ٍة قِـنـا َ‬
‫نُوراً فماءُ شبـابـهـا يَخْـتَـال‬ ‫كَسَتِ الْحَداثةُ ظَ ْرفَها وجمالـهـا‬
‫شمس يمُدّ بـهـا إلـيك هِـلَلُ‬ ‫س فوق بَـنـانِـهـا‬ ‫وكأنها والكأْ ُ‬
‫وتكلّمت بلسانـهـا الْـجـرْيال‬ ‫حتى إذا ما استأنست بحـديثـهـا‬
‫أفعالها وجرى بـهـنّ الْـفَـالُ‬ ‫قلنا لها‪ :‬إن صدّقت أقـوالَـهَـا‬
‫حَضَرَ النصيحُ وغابَتِ الـعـذالُ‬ ‫قولي فليس تَرَاك عينُ نـمـيمة‬
‫سِرّ لـدى أبـوابـه َأقْـفــال‬ ‫وضميرُ ما اشتملتْ عليه ضلوعُنا‬
‫وقد أخذ أبو الطيب المتنبي معنى قيد الوابد‪ ،‬فقال يصف كلباً‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫حتْفُ التّتْفُـلِ‬ ‫وعقلةُ الظبي و َ‬ ‫َنيْلُ المُنى وحكْم نفسِ المُرسِلِ‬
‫ط فِصا َد الكْـحَـلِ‬ ‫عَلّمَ بقرَا َ‬ ‫كأنّه من علمه بالـمَـقْـتـل‬
‫وقال في بني حمدان‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫متواضعينَ على عظيم الشأنِ‬ ‫متصعلكيِنَ عَلَى كَثاف ُة مُلكهم‬

‫َأجَلِ الظليم و ِربْقةِ السّرْحانِ‬ ‫ل كل مُطَـهّـمٍ‬ ‫يتقّلبون ظل َ‬


‫وقال أعرابي يصف فرساً‪ :‬إنه لَدرَك الطالب‪ ،‬و َمنْجَى الهارب‪ ،‬و َقيْد الرهان‪ ،‬وزين الفناء‪.‬‬
‫جهُه َق ْيدُ البصار‪ ،‬وأ َمدُ الفكار‪ ،‬ونهاية العتبار‪.‬‬ ‫وقال بعضُ أهل العصر في وصفِ غلم‪ :‬وَ ْ‬
‫عبّاد‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقال أبو القاسم إسماعيل بن َ‬
‫جدُ‬‫ل فيها الوحشَ والوحْشُ ُه ّ‬ ‫أُعاجِ ُ‬ ‫صيْدِ غُـدْوَةَ أصْـيَدٍ‬ ‫وقد أغتدِي لل َ‬
‫دين به أ ْيدِي الـوحُـوش تُـقـيّد‬ ‫ي مطلقَ الي‬ ‫ن تحتِ َ‬‫فعنّتْ ظَباءٌ خِفْ َ‬
‫ولم ُي ْغنَها إحضَارُهَا حين تجهَـدُ‬ ‫فأدركتها والسيفُ لَـمْـعة بَـارق‬
‫عذَاريَ أ ْر َمدُ‬ ‫ف مشيبي عن ِ‬ ‫وطَرْ ُ‬ ‫عتُها إذ كان شعريَ رائعـاً‬ ‫وقد رُ ْ‬
‫وهذا طِراز الشـيب فـيه يُمـ َددُ‬ ‫وما بََلغَتْ ح ّد الثلثـين مُـدّتـي‬
‫وأبيات ابن الرومي من أجود ما قيل في حسن الحديث‪ ،‬وقد توسع الشعراء في هذا الباب‪ ،‬و َكثُر إحسانهم‪ ،‬كما َكثُر افتنانهم‪ ،‬وسأجري شأْواً في‬
‫ت به‪.‬‬ ‫مختار ما قيل في ذلك‪ ،‬وأعود إلى ما بدأ ُ‬
‫عمَير بن ش َييْمٍ التغلبي‪ ،‬وسمي القُطَامي لقوله‪ :‬الرجز‪:‬‬ ‫قال القُطامي ‪ -‬واسمه ُ‬
‫حطّ القُطا ِميّ القطا القَواربا‬ ‫طهُنّ جانباً فـجـانـبـاً‬ ‫يَحُ ُ‬
‫وقال أبو عبيدة‪ :‬ويقال للصقر قُطامي وقَطامي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ل ُمصْـطـادِ‬ ‫حتى تصيّ ْد َننَا من ك ّ‬ ‫خدْور غماماتٌ ب َرقْنَ لـنـا‬ ‫وفي ال ُ‬
‫ن َيتْ َقيَن ول مكْـنـونُـ ُه بـادِي‬‫مَ ْ‬ ‫يقتُ ْل َننَا بحـديثٍ لـيس يَعـلـمـه‬
‫مواقع الماء من ذي الغُلَة الصَادي‬ ‫ن بـه‬ ‫فهنّ َي ْنبِدن من قول يُصِـبْـ َ‬
‫وقال أبو حيّة النُميري‪ ،‬واسمه الهيثم بن الربيع‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بلى وستُور اللَـهِ ذاتِ الـمـحـارمِ‬ ‫وَخب َركِ الواشُونَ أن لـن أُحـبـكُـم‬
‫على الحيّ جاني ِمثْلِه غيرُ سـالـم‬ ‫وإن دماً‪ ،‬ل ْو تعـلـمـينَ‪ ،‬جـنـيتـه‬
‫ل ابـتـلع الـعـلقـم‬ ‫عزا ًء بكُم إ ّ‬ ‫أصدُ وما الصدُ الذي تـعـلـمـينـهُ‬
‫بنا وبكـم‪ ،‬أف لهـل الـنـمـائم‬ ‫حياءً َوتُـقْـيا أنْ تـشـي َع نـمـيمة‬
‫إليه القنا بالراعـفـات الـلـهـاذِم‬ ‫أما إنه لو كـان غـي ُركِ أرْقـلـتْ‬
‫َكغُرّ الثنـايا واحـات الـمـلغـمِ‬ ‫ولكنه وال مـا طـل مـسـلـمـاً‬
‫ن من كَفّ ناظم‬ ‫سُقُوط حَصَى المرْجا َ‬ ‫إذا هنَ ساقطنَ الحاديثَ للـفـتـى‬
‫دَماً مائراً إل جَوًى فـي الـحـيازم‬ ‫َر َميْن فَأنْ َفذْنَ القـلـوبَ‪ ،‬ول تـرى‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫طيَبُ‬
‫حديث إذا لم تخشَ عيناً كأنهإذا ساقطتْه الشهْدُ أَو هُوَ َأ ْ‬
‫من الـمـوت كـادت سَـكْـرَةُ الـمَـوت تـذهَـــبُ‬ ‫لو أنك تستشفي به بعد س ْكرَةِ‬

‫‪4‬‬
‫إلى هذا ينظر قولُ الخرِ وإن لم يكن منه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جفُوني دائمُ الـعـبَـراتِ‬ ‫و َدمْعُ ُ‬ ‫أقول لصحابي وهُم يعذِلُونـنـي‬
‫جفُوفَ لَهاتي‬ ‫خروجي من الدنيا‪ُ ،‬‬ ‫بذكر ُمنَى نفسي فبلُـوا‪ ،‬إذا دَنـا‬
‫ف نساءً‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وقال سديف مولى بني هاشم يص ُ‬
‫درا يفصل لُؤلـؤاً مـكـنـونـاً‬ ‫ن تخالهـن نَـوَاظـمـاً‬ ‫وإذا نَطقْ َ‬
‫ل بات َمعِـينـا‬ ‫أو أقحوان ال َرمْ ِ‬ ‫وإذا ابتسمْنَ فإنـهـنَ غـمـامة‬
‫و َفضَ ْل َنهُنَ مَحَاجِراً وجُـفُـونـا‬ ‫حدَقِ ال َمهَا‬ ‫وإذا طَ َرفْنَ طرفن عن َ‬
‫َوخُصُورهن لطـافةً ولُـدُونـا‬ ‫وكأنَ أجيادَ الظـبـاء تَـمُـدّهـا‬
‫وَلهُنَ أمرضُ ما رأيتُ عـيونـا‬ ‫ت العيونُ َمحَاجِـراً‬ ‫وأصحّ ما رأ ِ‬
‫َي ْنهَضَ بالعَقَدات مـن َيبْـرِينـا‬ ‫وكأنّهن إذا نَهـضْـنَ لـحـاجةٍ‬
‫وقال الطائي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عذُوبَتِ ِه َيمُ ّر بِـثَـغْـرِهـا‬ ‫جنَى ُ‬ ‫ِل َ‬ ‫ك َمنْطِ َقهَا فـتـعْـلَـمُ أنـهُ‬‫تُعطي َ‬
‫خصْرِها‬ ‫ف قُوَةً من َ‬ ‫أوْهى وأضع َ‬ ‫حبْلَ وصالها ِلمُحـبـهـا‬ ‫وأظُن َ‬
‫ل أنه قََلبَه فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫أخذه أبو القاسم بنُ هانئ‪ ،‬فقال يمدح جعفر بن علي‪ ،‬إ ّ‬
‫من أجل ذا نجد الثغور عذابـا‬ ‫ب ثـنَـائهِ‬ ‫ب الفواهَ طِـي ُ‬ ‫طيّ َ‬
‫قد َ‬
‫بالزاب‪ ،‬أو رفع النجوم قبـابـا‬ ‫ضرَبَ السماءَ سُـرَادِقـاً‬ ‫وكأَنما َ‬
‫والمسك ترباً والرياض جنابـا‬ ‫ت الدّرَ َرضْرَاضًا بها‬ ‫طئْ ُ‬‫أرضاً و ِ‬
‫وقال الطائي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫تصف الفراق ومقلة ينبوعـا‬ ‫بَسَطَتْ إليك بنانةً أُسْـرُوعـا‬
‫ن دُمُوعا‬ ‫من ِرقّة الشكْوَى تكو ُ‬ ‫كادتْ لعرِفان النّوى ألفاظُهـا‬
‫ومن جيد هذا المعنى وقديمه قول النابغهّ الذبياني‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ع َبدَ الله‪ ،‬صَرُورة مُ َتعَـبـدِ‬ ‫َ‬ ‫شمَطَ رَاهبٍ‪،‬‬ ‫ت لَ ْ‬
‫لو أنها عَ َرضَ ْ‬
‫ولخالَهُ رُشداً وإن لـم يَرْشُـدِ‬ ‫لرنَا للهجتها وطِيب حدِيثـهـا‬
‫نَظَرَ السليمِ إلى وجوه العُـ َودِ‬ ‫نَظَرَتْ إليك بحاجةٍ لم تَقْضِهـا‬
‫ومن مشهور الكلم قولُ الخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ض تُطْوى لي و َيدْنُو بَعيدُها‬ ‫أرى الر َ‬ ‫س ْعدَى بأَ ْرضِهـا‬ ‫وكنتُ إذا ما زُ ْرتُ ُ‬
‫إذا ما انقضتْ أحدوثَةٌ لو تُعـيدُهـا‬ ‫مِنَ الْخَفرات البيضِ ود جلـيسُـهـا‬
‫وتُرمى بل جُزم علي حُـقُـودهـا‬ ‫تَحَلَلُ أحْقادي‪ ،‬إذا مـا لـقـيتُـهـا‬
‫وقال بشار‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫قِطَعُ الرّياض ُكسِينَ زَ ْهرَا‬ ‫وكأن َرجْـعَ حـدِيثـهـا‬
‫س َق ْتكَ بالعينين خَـمْـرَا‬ ‫كَ َ‬ ‫حَوْراءُ إنْ نظـرتْ إلـي‬
‫وتكون للحكـمـاء ذكْـرا‬ ‫ي مـعـادَهُ‬
‫تنسي الـغَـ ِو َ‬
‫ق ِمنْكَ فطرَا‬ ‫ب صفا وواف َ‬ ‫وكأنـهـا بـردُ الـشـرا‬
‫ث فيه سحـرَا‬ ‫ت يَنْ ُف ُ‬
‫هَارُو ُ‬ ‫وكأن تحـتَ لِـسـانـهـا‬
‫ه ثِيا َبهَا ذهبـاً وعـطـرا‬ ‫وتخال ما جمعتْ عـلـي‬
‫ل كُثيًر بن عبد الرحمن‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وسمع بشارٌ قو َ‬
‫إذا غَمزُوها بالكف تلينُ‬ ‫خيْ ُزرَانَةٍ‬ ‫َألَ إنما ليلَى عَصَا َ‬
‫ل قال‬
‫جنَها مع ذكر العصا‪ ،‬ه ّ‬
‫فقال‪ :‬قاتل ال أبا صخْر! يزعم أنها عَصًا ويعتذر بأنها خيزُرانَة‪ ،‬ولو قال‪ :‬عصا مخّ‪ ،‬أو عصا ُزبْد؛ لكان قد هَ ّ‬
‫كما قلت‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫كأن حديثها َثمَرُ الْجنـانِ‬ ‫ودَعْجَاء المَحاجر من َم َعدً‬
‫خيْزُرَانِ‬ ‫عظَامها من َ‬ ‫كأنّ ِ‬ ‫إذا قامت لحاجتها تثـنـتْ‬
‫وبعد قول كثيّر‪ :‬أل إنما ليلى عصا خيزرانة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عليك شجًى في الصدْ ِر حين تبينُ‬ ‫َتمَتعْ بها ما ساعَ َفتْـكَ‪ ،‬ول يَكُـن‬
‫لخ َر من خُلنـهـا سَـتَـلِـينُ‬ ‫وإنْ هي أعطتك اللّيان فـإنـهـا‬
‫ن يمـينُ‬ ‫فليس لمخضُوبِ البنـا ِ‬ ‫ي عهدَها‬ ‫ت ل ينْقُضُ النأ ُ‬ ‫وإن حلَفَ ْ‬
‫وقال البحتري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تعجبَ رَائي الدُرّ حُسْنًا ولقِطُهْ‬ ‫ولمّا التَ َقيْنا واللّوى مَوْعد لـنـا‬
‫ومن لؤلؤ عند الحديث تُساقطُهْ‬ ‫فمن لؤلؤ تجنيه عندَ ابتسامـهـا‬
‫وقال المتنبي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بغير وَلي كان نائِلُها ال َوسْـمـي‬ ‫أ ُم ْنعِمَةٌ بالعَ ْودَةِ الظبـيةُ الـتـي‬

‫‪5‬‬
‫ج ِد من باردِ الظلْم‬
‫تَ َرشَفْتُ حَرَ الوَ ْ‬ ‫سحْرَة فكـأنـنـي‬
‫ت فَاهَا ُ‬
‫تَرشفْ ُ‬
‫سمُها الدُ َريُ في النثر والنظمِ‬‫و َمبْ ِ‬ ‫فتاة تسَاوَى عِ ْقدُها وكـلمُـهـا‬
‫عاد الحديثُ الول ‪ -‬قال أبو القاسم عبدُ الرحمن بن إسحاقَ الزجاجي‪ :‬حدّثنا يوسف بن يعقوب قال‪ :‬أخبرني جدَي قراءة عليه‪ ،‬عن أبي داود‪،‬‬
‫حكْماً‪ ،‬وإن من البيان‬
‫ن من الشعر َل ُ‬ ‫عن محمد بن عبيد ال‪ ،‬عن أبي إسحاق‪ ،‬عن البَرَاء يرفعه إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪" :‬إ َ‬
‫سحْراً" قال أبو القاسم‪ :‬هكذا روينا الخبر‪ ،‬وراجعت فيه الشيخ‪ ،‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬هو‪" :‬إن من الشعر لحُكماً" ‪ -‬بضم الحاء وتسكين الكاف‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫لِ‬
‫حكْم للمحْكوم عليه؛ إصَابةً للمعنى‪ ،‬وقصداً للصواب‪ ،‬وفي هذا يقول‬ ‫ل فيه كلزوم ال ُ‬
‫ووجهُه عندي إذا روي هكذا‪ :‬إن من الشعر ما يلزم المقو َ‬
‫أبو تمام‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بُغاةُ العُلى من أينَ تُؤْتى المكارمُ‬ ‫سنّها الشع ُر ما دَرَى‬
‫ولَوْل سبيل َ‬

‫ويُ ْرضَى بما يَ ْقضِي به وهو ظالم‬ ‫يُرَى حكم ًة ما فيه وهو فكـاهة‬
‫انتهى كلم أبي القاسم‪.‬‬
‫وقد وجدنا في الشعر أبياتًا يُجْرَى على رسمها‪ ،‬و ُيمْضَى على حكمها؛ فقد كان بنو َأنْف الناقة إذا َذكَر أح ٌد عند أحد منهم أنف الناقة ‪ -‬فضلً عن‬
‫أن ينسبهم إليه ‪ -‬اشتدّ غضبُهم عليه؛ فما هو إلّ أن قال الحطيئة يمدحهم‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫سبُـون أبـا‬ ‫والَطْيبين إذا ما يُنْ َ‬ ‫حصًى‬ ‫سِيري ُأمَامَ فإنّ الكثرينَ َ‬
‫شَدوا ال ِعنَاج وشدّوا فَ ْوقَه الكَرَبا‬ ‫عقْداً لجـارهِـمُ‬ ‫قو ُم إذا عَقدوا َ‬
‫ومن يُسَوي بَِأنْف الناقةِ الذنبَـا‬ ‫ف والذْنابُ غيرهُمُ‬ ‫قوم همُ الن ُ‬
‫ل به‪.‬‬ ‫فصار أحدُهم إذا سئل عن انتسابه لم َيبْدأ إ ّ‬
‫وأنفُ الناقة‪ :‬هو جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن زيد مناة بن تميم‪.‬‬
‫ل بن كعب جدّهم إنما سمّي العجلن لتعجيله ال ِقرَى للضيّفَان؛ وذلك‬ ‫وكان بنو العَجْلَن يَفْخَرون بهذا السم‪ ،‬ويتشرّفون بهذا الوَسْم‪ ،‬إذ كان عبدُ ا ّ‬
‫عبْداً له‪ ،‬وقال له‪ :‬اعْجَل عليهم‪ ،‬ففعل العبدُ‪ ،‬فأعتقه لعجلته‪ ،‬فقال القوم‪ :‬ما ينْبغي أن يسمَى إلّ‬ ‫أن حيًا من طيء نزلوا به‪ ،‬فبعث إليهم بقرَاهم َ‬
‫العجلن؛ فسمّي بذلك‪ ،‬فكان شرفاً لهم‪ ،‬حتى قال النجاشي‪ ،‬واسمه قيس بن عمرو بن حرن بن الحارث بن كعب يهجوهم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫َهجِين ورهْطُ الواهِن المـتـذلّـل‬ ‫أولئكَ أخوالُ اللَـعِـينِ وأسـرةُ ال‬
‫خذِ القَعبَ واحلب أيها العبد واعْجلِ‬ ‫ُ‬ ‫وما سُمي العجْـلن إلَ لـقـولـهِ‬
‫فصار الرجل منهم إذا سئل عن نسبه قال‪ :‬كعبي‪ ،‬ويكنى عن العجلن‪.‬‬
‫ل عنه‪ ،‬وقالوا‪ :‬هَجَانا‪ ،‬قال‪ :‬وما قال‬ ‫وزعمت الرواة أنّ بني العجلن استعدَوْا على النجاشي ‪ -‬لما قال هذا الشعر ‪ -‬عُمر بن الخطاب‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫فيكم؟ فأنشدوه قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فعادَى بني ال َعجْلَن رهط ابنِ م ْقبِلِ‬ ‫إذا اللَـهُ عـادىَ أهـلَ لـؤم و ِرقّةٍ‬
‫ن ال ل ُيعَادي مسلماً‪ ،‬قالوا‪ :‬فقد قال‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫فقال‪ :‬إ ّ‬
‫خ ْردَلِ‬‫حبّة َ‬ ‫ول يَظِْلمُون الناس َ‬ ‫قُبـيلة ل َيغْـدِرون بِــذِمّةٍ‬
‫فقال‪ :‬وددت أن آل الخطاب كانوا كذلك! قالوا‪ :‬فقد قال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ف بن كعب بن نهشلِ‬ ‫ل من عَ ْو ِ‬ ‫وتأك ُ‬ ‫َتعَافُ الكِلَبُ الضا ِريَات لحو َمهُـمْ‬
‫فقال‪ :‬كفى ضَياعًا مَن تأكل الكلبُ لحمه! قالوا‪ :‬فقد قال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل َمنْهَل‬‫صدَر الوُرَادُ عَن ك ّ‬ ‫إذا َ‬ ‫ول يَ ِردُون الماءَ إلَ عـشـيةً‬
‫فقال‪ :‬ذلك أصفى للماء‪ ،‬وأقل للزّحام! قالوا‪ :‬فقد قال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جلِ‬‫خذِ ال َقعْبَ واحْلُب أيها العبدُ واعْ َ‬ ‫ُ‬ ‫وما سُميَ العَجْـلنَ إلّ لـقـولـه‬
‫ل عنه‪ ،‬أعلَم بما في هذا الشعر‪ ،‬ولكنه دَرَأَ الحدودَ بالشبهات‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬سيّد القوم خَا ِدمُهم! وكان عمر‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫صعْصَعة من القوم‪ ،‬أحدُ جمرات العرب وأشرف بيوت قيس بن عيلن بن مضر‪ .‬وجمرات العرب ثلثة؛ وإنما‬ ‫وهؤلء بنو نمير بن عامر بن َ‬
‫سمّوا بذلك؛ لْنهم ُمتَوافرون في أنفسهم‪ ،‬لم ُيدْخِلوا معهم غيرهم؛ والتجمير في كلم العرب‪ :‬التجميع‪ ،‬وهم‪ :‬بنو نمير بن عامر‪ ،‬وبنو الحارث‬ ‫ُ‬
‫بن كعب‪ ،‬وبنو ضبة بن أد‪ .‬فطفئت جمرتان‪ ،‬وهما بنو ضبة؛ لنها حالفت الرباب‪ ،‬وبنو الحارث؛ لنها حالفت مَذْحِج‪ ،‬وبقيت نمير لم تحالف؛‬
‫سبِه‪ ،‬وافتخارًا بمنصبه‪ ،‬حتى قال جرير بن‬ ‫فهي على َكثْرتها و َم َنعَتِها‪ .‬وكان الرجل منهم إذا قيل له‪ :‬ممَن أ ْنتَ؟ قال‪ :‬نميري كما ترى! إدللً بنَ َ‬
‫عطية بن ا ْلخَطَفي لعُبيْد بن حُصيْن الراعي أحد بني نمير بن عامر‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ت ول كِلَبـا‬ ‫فل َكعْبًا بََلغْ َ‬ ‫ك من ُن َميْرٍ‬ ‫ف إ ّن َ‬
‫فغُضّ الطّرْ َ‬
‫كعب وكلب‪ :‬ابنا ربيعة بن عامر بن صعصعة؛ فصار الرجل منهم إذا قيل له‪ :‬ممن أنت؟ يقول‪ :‬عامري‪ ،‬ويكنى عن نمير‪.‬‬
‫حدّوا النظر إليها‪ ،‬فقال منهم قائل‪ :‬والّ إنها لَ َرشْحَاء‪ ،‬فقالت‪ :‬يا بني نمير‪ ،‬والّ ما امتثلتم فيَ واحد ًة من‬ ‫ومرَت امرأة بقوم من بني نمير‪ ،‬فأ َ‬
‫ن َيغُضّوا مِنْ َأبْصَارَهِمْ" ول قول الشاعر‪:‬‬ ‫اثنتين‪ ،‬ل قول الّ عز وجلّ‪" :‬قُلْ لِ ْلمُؤمني َ‬
‫ك من نُمير‬ ‫ف إ ّن َ‬‫طرْ َ‬ ‫َفغُضَ ال َ‬
‫ض من لجامها‪ ،‬فقال‪ :‬إنها مكتوبة‪،‬‬ ‫ت بغلة شريك‪ ،‬فقال له يزيد‪ :‬غُ ّ‬ ‫وسايَرَ شريك بن عبد ال النميري يزيدَ بن عُمر بن هبَيرة الفَزاري‪َ ،‬فبَرَ َز ْ‬
‫ض من لجامها بقول جرير‪:‬‬ ‫أصلح ال المير! فضحك‪ ،‬وقال‪ :‬ما ذهبت حيث أردت‪ ،‬وإنما عرّض بقوله‪ :‬غُ َ‬
‫فغُضّ الطّرْف إنك من نمير‬
‫َفعَرَض له شريكٌ بقول ابن دَارَة‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫سيَارِ‬
‫صكَ واكْ ُت ْبهَا بأَ ْ‬ ‫على قَلُو ِ‬ ‫ت بِـهِ‬ ‫ن فَزَا ِريّاً خَ ْلوْ َ‬‫ل تَأمَن َ‬
‫ن البل‪ ،‬ولذلك قال الفرزدق ليزيد بن عبد الملك َلمَا ولي عمر بن هبيرة العراق‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫ن بإ ْتيَا ِ‬
‫وبنو فزارة يُ ْرمَوْ َ‬

‫‪6‬‬
‫ستَ بالطّبعِ الحريصِ‬ ‫أمينٌ لَ ْ‬ ‫ت مَـرءٌ‬ ‫أمي َر المؤمنين لنْ َ‬
‫فَزَارياً أحذَ َيدِ القَـمِـيصِ‬ ‫أَوَّليْتَ الـعـراقَ ورَافِـ َديْهِ‬
‫ي قَلُوص‬
‫ليأمَنَه على وَ ِركَ ْ‬ ‫ك َقبَْلهَا رَاعِي مخَاض‬ ‫ولم ي ُ‬
‫وعَلّم قومَهُ َأكْلَ الخبـيصِ‬ ‫تَ َف ْيهَقَ بالعراق أبو المثنّـى‬
‫الرافدان‪ :‬دجلة والفرات‪.‬‬
‫ش ْعرِه‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫وقال بعض النميريين يجيبُ جريراً عن ِ‬
‫تزل في الحرب تلتهب التهابا‬ ‫نميرٌ جمرةُ العرب التي لـم‬
‫خسْفِ بـابـا‬ ‫فتحت عليهمُ لِلْ َ‬ ‫ب بهـا كُـلـيبـاً‬ ‫س ّ‬‫وإني إذ أ ُ‬
‫سمَعْ لشاعرهم جَوَابـا‬ ‫ولم يَ ْ‬ ‫ولول أن يقال هَجَا نـمـيراً‬
‫وكيف يُشَاتِمُ الناسُ الكِـلبـا‬ ‫رغبْنا عن هجاء بني كلـيبٍ‬
‫فما نفع نميراً‪ ،‬ول ضرّ جريراً‪ ،‬بل كان كما قال الفرزدق‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫أم بُلْتَ حيث تَنَاطَح البَحْرَانِ‬ ‫ما ض ّر تَغلِبَ وائل أَ َهجَ ْو َتهَا‬
‫وقال أبو جعفر محمد بن منذر مولى بني صبير بن يربوع في هجائه لثقيف‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫كما وضع الهجا ُء بني نميرِ‬ ‫ضعَةً ِهجَائي‬ ‫وسوف يزيدكم َ‬
‫وسمع الراعي منشداً ينشد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بقافيةٍ أَنفاذُهَا تَ ْقطُـر الـدّمـا‬ ‫عوَى من غير شيء َر َم ْيتُهُ‬ ‫وَعاوٍ َ‬
‫صمَمـا‬ ‫قَرَى ِه ْندُوَانيّ إذا هزّ َ‬ ‫خَرُوج بَأفْواهِ الرّوَاةِ كـأنـهـا‬
‫ل من يلومني أن يغلبني مثل هذا! وقد بنى الشعرُ لقوم بيوتاً شريفة‪ ،‬وهدم لخرين أ ْبنِية‬ ‫فارتاع له‪ ،‬وقال‪ :‬لمن هذا؟ قيل‪ :‬لجرير‪ ،‬قال‪ :‬لعن ا ّ‬
‫منيفة‪:‬‬
‫غرَر في أوج ٍه ومَـوَاسِـمُ‬ ‫له ُ‬ ‫سرِي فتغتدي‬ ‫وما هو إلّ القول يَ ْ‬
‫عمْرو بن العلء ورجل يقول‪ :‬إنما الشعر كالمِيسَم‪ .‬فقال‪ :‬وكيف يكون ذلك كذلك؟ والميسم‬ ‫قال أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي‪ :‬سمعت أبا َ‬
‫شعْ ُر َيبْقَى على البناء بعد الباء‪ ،‬ما بقيت الرض والسماء! وإلى هذا نحا الطائي في قوله‪:‬‬ ‫يذهب بذهاب الجلد و َيدْرُس مع طولِ العهد‪ ،‬وال َ‬
‫الطويل‪:‬‬
‫هو الـوَسْـ ُم ل مـا كـان فـي الـــشّـــعْـــر والـــجِـــلْـــدِ‬ ‫وأنــي رأيتُ الـــوَسْـــ َم فـــي خُـــلُـــق الـــفـــتـــى‬
‫وقال عمر‪ ،‬رحمة ال عليه‪ :‬تعلّموا الشعر؛ فإن فيه محاسِنً تُبتغى‪ ،‬ومساوئ تُتقى‪.‬‬
‫وقال أبو تمام‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ب فَـرِيدا‬ ‫مثلَ النظام إذا أصـا َ‬ ‫إنّ القوافِيَ والمساعيَ لم تَـ َزلْ‬
‫في الشعر كان قلئداً وعقـودا‬ ‫هِيَ جوهر نثر فإنْ ألـفْـتَـهُ‬
‫يدعونَ هذا سُـؤدداً مـجْـدُودا‬ ‫من أجل ذلكَ كانت العرب الُلى‬
‫جعِلَت لها مِ َررُ القصيدِ قـيودا‬ ‫ُ‬ ‫ل إذا‬ ‫وتنِ ُد عنـدهُـمُ الـعُـلَ إ ّ‬
‫وقال علي بن الرومي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تُبـقّـيْهِ أرواحٌ لـه عَـطِــراتُ‬ ‫أرى الشعر يحيي الناسَ والمجدَ بالذي‬
‫وما الناسُ إلَ أَعْـظُـ ٌم نَـخِـرَاتُ‬ ‫ل معـاهـدٌ‬ ‫وما المجدُ لول الشعْرُ إ َ‬
‫بعض ما قاله الرسول الكريم‬
‫جرِ‪ ،‬العظيم القَدر‪ ،‬الذي هو‬ ‫رجعت إلى ما قطعت‪ ،‬مِما هو أحق وأولى‪ ،‬وأَجلُ وأَعلى‪ ،‬وهو كلم رسول ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الكريم النْ ْ‬
‫النهايةُ في البيان‪ ،‬والغاية في البرهان‪،‬‬
‫المشتمل على جَوامع الكلم‪ ،‬وبدائع الحِكم‪ ،‬وقد قال رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪" :‬أنا َأ ْفصَح العرب‪َ ،‬ب ْيدَ أنّي من قريش‪ ،‬واستُرضعت‬
‫ض كلمه بأَوْلى من بعض بالختيار‪ ،‬ول أَحق بالتقديم واليثار؛ ولكني أُورد ما تيسر منه في أول هذا‬ ‫في سعد بن بكر!" وليس بع ُ‬
‫الكتاب استفتاحاً‪ ،‬و َت َيمُناً بذلك واستنجاحاً‪.‬‬
‫وهذه شذو ٌر من قوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الصريح الفصيح‪ ،‬العزيز الوَجيز‪ ،‬المتضمن بقليل من المباني كثيرَ المعاني‪ :‬قوله للنصار‪:‬‬
‫"إنكم لَتقلّون عند الطمع‪ ،‬و َت ْكثُرون عند الفَزَع"‪.‬‬
‫وقوله عليه الصلة والسلم‪" :‬المسلمون تتكافُأ دماؤهم‪ ،‬ويَسْعى بذمتهم أدْناهم‪ ،‬وهم يَد على مَن سِوَاهم"‪ .‬الناس كإبل مائ ٌة ل تج ُد فيها‬
‫س معادن‪ ،‬خيارُهم في الجاهلية‬ ‫ص ْيدِ في جَوْفِ الفرَا" ‪ -‬قاله لبي سُفْيان صخر بن حرب‪" .-‬النا ُ‬ ‫خضْرَاء ال ّدمَنِ"‪" .‬كل ال َ‬ ‫راحلة"‪" .‬إياكم و َ‬
‫خيارُهم في السلم إذا َف َقهُوا"‪" .‬المؤمن للمُؤْمن كالبنيان يَش ُد بعضُه بعضاً"‪" .‬أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتُم"‪" .‬المتشبع بما لم‬
‫ط كلبس ثوبَيْ زورٍ"‪" .‬المرأة كالضلع إن رُمتَ قوامها كسَرْتها‪ ،‬وإن دَاري َتهَا استمتعت بها"‪" .‬اليدُ العليا خير من اليد السفلى"‪" .‬مَطل‬ ‫ُيعْ َ‬
‫ش ْعبَةٌ من اليمان‪ ،‬مثلُ أبي بكر كالقَطْر‪ ،‬أينما وق َع َنفَع"‪" .‬ل تجعلوني في أَعْجَاز كتبكم كقَدح‬ ‫ل مع الجماعة"‪" .‬الحياءُ ُ‬ ‫الغنيَ ظُلم"‪" .‬يد ا ّ‬
‫صدَقة والمرض والمصيبة والفاقة"‪" .‬جنة الرجل دارُه"‪" .‬الناس نيام فإذا ماتوا انتبهُوا"‪.‬‬ ‫الراكب"‪" .‬أربعة من كنوز الجنة‪ :‬كتمان ال ّ‬
‫ل ُميَسرٌ لما خُلِقَ له"‪.‬‬ ‫سعُوهم بأخلقكم"‪" .‬ما قلّ وكفى خي ٌر ِممّا كثر وألهى"‪ ".‬ك ّ‬ ‫سعُوا الناسَ بأموالكم‪ ،‬فَ َ‬ ‫"كفى بالسلمة داءً"‪" .‬إنكم لن تَ َ‬
‫حنْثٌ أو َم ْندَمة"‪َ " .‬دعْ ما يَريبك إلى ما ل يريبك"‪ُ" .‬انْصُرْ أَخاكَ ظالماً كان أو مظلوماً"‪" .‬احترسوا من الناس بِسُوءِ الظّنّ"‪.‬‬ ‫"اليمين ِ‬
‫"الند ُم تَوْبة"‪" .‬انتِظارُ الفرج عبادة"‪" .‬نعم صَ ْومَعة الرجل بيتُهُ"‪" .‬المستشير مُعان والمستشار مؤتمن"‪" .‬المر ُء كثير بأخيه"‪" .‬إنّ للقلوب‬
‫ل مَنْ في الدنيا ضيف‪ ،‬وما في يديه عاريةٌ‪،‬‬ ‫جنّةُ الغايةُ"‪" .‬ك ّ‬ ‫صَدأ كصدإ الحديد وجِلؤُها الستغفار"‪" .‬اليوم الرهان وغَداً السباق‪ ،‬وا ْل َ‬
‫والضيف مُرْتحِل‪ ،‬والعاريّة مؤدَاة"‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ومن جوامع كَِلمِه‪ ،‬عليه الصلة والسلم‪ ،‬ما رواه أهلُ الصحيح عن علَقمة بن وقّاص الليثي عن عمر بن الخطاب‪ ،‬رضي الّ عنه قال‪:‬‬
‫ئ ما نَوَى‪ ،‬فمن كانت ِهجْ َرتُه إلى الّ ورسوله‬ ‫سمعتُ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يقول‪" :‬إنما العمال بالنيّات وإنما لكل امر ً‬
‫ج َرتُه إلى الِّ ورسوله‪ ،‬ومن كانَت هِجرتُه إلى دُنْيا يُصِيبها أو امرأة يتزوجها‪ ،‬فهجْ َرتُهُ إلى ما هاجر إليه"‪.‬‬ ‫فهِ ْ‬
‫قال أبو القاسم حمزة بن محمد الكناني‪ :‬سمعتُ أهلَ العلم يقولون‪ :‬هذا الحديث ثُلُثُ السلمِ‪ ،‬والثلث الثاني ما رواه النعمان بن بشير أنّ‬
‫ل بيّن‪ ،‬والحرام بيّن‪ ،‬وبينهما أمورٌ مشتبهات‪ ،‬فمن تركها كان أ ْوفَى لدينه وعِرْضِه‪ ،‬ومن‬ ‫رسول الّ صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬الحلَ ُ‬
‫ل مَحارمه"‪.‬‬‫حمًى‪ ،‬أل وإنّ حمى ا ّ‬ ‫واقعها كان كالراتع حول الحمَى‪ ،‬أَل وإنَ لكل ملك ِ‬
‫لمِ المرْء‬
‫حسْنِ إسْ َ‬‫قال‪ :‬والثلث الثالث ما رواه مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين أن رسولَ الّ صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬مِنْ ُ‬
‫ل َي ْعنِيه"‪.‬‬
‫تَ ْركُهُ ما َ‬
‫ب عليه‪ ،‬و َندَب حسان بن ثابت إليه‪ ،‬وقال‪" :‬إن ال ليؤيّده بروحِ ال ُقدُس ما نافَحَ عن‬ ‫وقد سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الشعْرَ وأثا َ‬
‫نبيّه"‪.‬‬
‫ث بن عبد المطلب إلى النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬شَقّ‬ ‫ن بنِ الحار ِ‬
‫ولما انتهى شعرُ أبي سفيا َ‬

‫صفَة الحرب‪،‬‬ ‫حسِنُ ِ‬ ‫شدَه فقال‪ :‬أنتَ شاعرٌ كريم‪ ،‬ثم دعا كعبَ بن مالك فاستنشده فأنشده‪ ،‬فقال‪ :‬أنت تُ ْ‬ ‫عليه فدعا عبدَ ال بن رَوَاحة فاستنشدهُ فَأنْ َ‬
‫ل في معد؛ ولو أن‬ ‫ثم دعا بحسّان بن ثابت فقال‪ :‬أجِبْ عني‪ ،‬فَأخْرج لسانه فضرب به أ ْرنَبته؛ ثم قال‪ :‬والذي بعثك بالحق ما ُأحِب أن لي به مِقْ َو ً‬
‫لسانًا فَرى الشعَر لفرَاه‪ .‬ثم سأل رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أن يَمسَ من أبي سفيان‪ ،‬فقال‪ :‬وكيف‪ ،‬وبيني وبينه الرّحِم التي قد علمت؟‬
‫جبَير بن‬
‫شعْر ُة من العجين! فقال‪ :‬اذهبْ إلى أبي بكر‪ ،‬وكان أعلمَ الناس بأَنساب قريش‪ ،‬وسائر العرب‪ ،‬وعنه أخذ ُ‬ ‫سلّ ال ّ‬ ‫فقال‪ :‬أَسُلّك منه كما تُ َ‬
‫مُطعْمِ علم النسب‪ ،‬فمضى حسانُ إليه فذكر له معايبَهُ‪ ،‬فقال حسّان بن ثابت‪ :‬الطويل‪،‬‬
‫بنو بنت مخزوم ووَاِلدُك العـبـد‬ ‫ج ِد مِـنْ آل هـاشـم‬ ‫سنَامَ الَم ْ‬
‫وإنّ َ‬
‫عجَائِزَك المَجْـدُ‬ ‫كرامٌ‪ ،‬ولم َيقْربْ َ‬ ‫ومَن وَلدَتْ أبناء زُهْرَ َة مـنـهُـمُ‬
‫وَلكِـنْ لَـئيمٌ ل يقـوم لـه زنـدٌ‬ ‫ت َكعَبّـاسٍ ول كـابْـنِ ُأمّـه‬ ‫س َ‬‫ولَ ْ‬
‫سمْرا ُء مغمو ٌز إذا بلغَ الجَـهْـدُ‬ ‫وَ‬ ‫وإن امرًأ كـانـت سُـمَـيّةُ أمّـه‬
‫كما نِيطَ خَ ْلفَ الراكب القدَحُ ال َف ْردُ‬ ‫وأنت زني ٌم نِيط فـي آل هـاشـم‬
‫ب عنه ابنُ أبي قُحافة يعني ببني بنت مخزوم عبدَ ال وأبا طالبٍ والزبي َر بني عبد المطلب بن‬ ‫فلما بلغ هذا الشعر أبا سفيان قال‪ :‬هذا كلمٌ لم َيغِ ْ‬
‫هاشم بن عبد مناف‪ ،‬أ ُمهُمْ فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم‪ ،‬وأخواتهم بَرّة وأميمة والبيضاء‪ ،‬وهي أم حكيم‪ ،‬والبيضاء جدَة‬
‫عثمان بن عفان أم أمه‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ومن ولدت أبناء زهرة منهم كرام يعني أميمة وصفية أم الزبير بن العوام‪ ،‬أمُها هَالَ ُة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ولستَ كعباس ول كابْنِ أمه أمّ العباس‪ :‬نتيلة امرأة من ال ّنمِر ابن قاسط‪ ،‬وأخوه لمه ضِرَار بن عبد المطلب‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬وإن امرأ كانت سمية أمه سمية أم أبي سفيان‪ ،‬وسمراء‪ .‬أم أبيه‪ ،‬وليس هذا موضع إطناب في رفع النساب‪.‬‬
‫عتَبَ على بعض ولد الحارث فقال له مُعرَضًا بما قال حسان‪ :‬السريع‪،‬‬ ‫وكان عبدُ العلى بن عبد الرحمن الموي َ‬
‫مفتخِراً بال َقدَح الـفَـردِ‬ ‫إخالُ بالعـمّ وبـالـجَـدّ‬
‫فإنها َأدْعَى إلى المَـجْـدِ‬ ‫الهَج بحسّان وأشـعـارهِ‬
‫ولم تقيموا سُورةَ الحمـدِ‬ ‫ل ْزدِ لم تؤمنوا‬ ‫لول سيوفُ ا َ‬
‫فتوعّدوه‪ ،‬فخافهم‪ ،‬فقال‪ :‬الطويل‬
‫وإن كان ثوبي حَشْ ُو ثنْييهِ مُجرُم‬ ‫عفْواً عفا ال عنكُـم‬ ‫بني هاشم‪َ ،‬‬
‫جمْعٌ وما ضمّ ا ْلحَطِيمُ وزم َزمُ‬ ‫وَ‬ ‫حرَمُ الرحمن والبيتُ والصّفا‬ ‫لكمْ َ‬
‫فأحل ُمكُمْ منها أجلُ وأعـظـمُ‬ ‫فإن قلتُ ُم بادَهْتنـا بـعـظـيمة‬
‫ح َنيْنٍ‪ ،‬وكان ممسكًا َبغْلَته حين فرّ الناس‪ ،‬وهو أحد الذين ثبتوا‪ ،‬وهم‬ ‫وأسلم أبو سفيان ‪ -‬رحمه الّ! ‪ -‬وشهد مع النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يوم ُ‬
‫‪ -‬على ما ذكره أبو محمدٍ عب ُد الملك بنُ هشام ‪ -‬أبو بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعلي‪ ،‬والعباس‪ ،‬وأبو سفيان ابن الحارث‪ ،‬وابنه الفضلَ‪ ،‬وربيعة بن الحارث‪،‬‬
‫وأُسامة بن زيد‪ ،‬وأيمنُ ابنُ أم أيمن بن عبيدة قتل يومئذ‪ ،‬وبعضُ الناس يعدُ فيهم ُقثَمَ بن العباس‪ ،‬ول َي ُعدّ أبا سفيان‪ ،‬وكان أبو سفيان من أشعر‬
‫قريش‪ ،‬وهو القائل‪ :‬الوافر‪،‬‬
‫بَأنّا نَحْنُ أَج َودُهُمْ حصَانَـا‬ ‫لَقَد ْعَلمَتْ قرَيش غيْ َر َفخْرٍ‬
‫سنَانَا‬‫وَأمْضاهم إذا طعنوا ِ‬ ‫وََأ ْكثَرُهُ ْم دُرُوعاً سا ِبغَـات‬
‫وَأبْ َينُهم إذا نطقُوا لسـانـا‬ ‫وَأدفعهم عن الضرّاء عنهم‬
‫ويروى أن ابن سيرين قال‪ :‬بينما رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬في سَفرِه قد شنق ناقته بزمامها حتى وضعت رَأسها عند مقدمة الرَحل إذ‬
‫ك ‪ :‬أحد بنا! فقال كَعب‪ :‬الوافر‪،‬‬ ‫قال‪ :‬يا كعبُ ابن مال ٍ‬
‫خ ْيبَرَ ثم أجممنا السّيوفا‬ ‫َو َ‬ ‫قَضيْنا مِن تِهَامَةَ كلّ حَقّ‬
‫قواط ُعهُن‪ :‬دَوْساً أَو ثَقيفَا‬ ‫نخيّرُهَا وَلو نَطَقَت لقالَت‬
‫ن دوْساً أسلمت فَرَقًا من كلمة كعب هذه‪ ،‬وقالوا‪ :‬اذهبوا فخذوا‬ ‫فقال عليه السلم‪" :‬والذي نفسي بيده لهي أشدّ عليهم من رَشق النبْل!" ويقال‪ :‬إ َ‬
‫لنفسكم المان من قبل أن ينزل بكم ما نزل بغيركم!‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫وقتَلَ النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬النضر بن الحارث‪ ،‬وكان ممن أُسِ َر يوم بدر‪ ،‬وكان شديد العداوة لً ولرسوله‪ ،‬و َقتَله علي بن أبي طالب‪،‬‬
‫شدَتهُ‪ :‬الكامل‬ ‫رضي ال عنه‪ ،‬صَبراً‪ ،‬فعرضت للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أختُه قتيلة بنت الحارث ‪ -‬وفي بعض الروايات أن قتيلة َأ َتتْهُ فأنْ َ‬
‫ت م َوفّـقُ‬ ‫صبْحِ غادِيةٍ وََأنْ َ‬ ‫مِن ُ‬ ‫ل مَـظـنةٌ‬ ‫يا راكِبـاً إن الثَـيْ َ‬
‫ب ُتعْنِق‬ ‫ما إن تزالُ بها النَجَائ ُ‬ ‫أَبلِغ نجها مَيتـًا بِـأَن تَـحـيّة‬
‫خنُـق‬‫خرَى تَ ْ‬ ‫جادت بواكِفِها وَأُ ْ‬ ‫عبْرَةً مـسـفـوحةً‬ ‫منَي إليه و َ‬
‫ت ل يَنطِـقُ‬ ‫إن كان يسمع ميّ ٌ‬ ‫هل يسمعنّي النَضرُ إنْ ناديتـه‬
‫لَِ أرحامٌ هنـاك تَـشَـقّـق‬ ‫ف بني أبيه َتنُوشُـه‬ ‫ظلتْ سيُو ُ‬
‫ن موثق‬ ‫رَسْفَ المقيّد وَهْوَ عَا ٍ‬ ‫قَسْرًا يُقادُ إلى المنيّة ُمتْعَـبـاً‬
‫ل ُمعْرِقُ‬ ‫في قومِها والفَحْلُ فح ٌ‬ ‫صنْو كـريمة‬ ‫أمحمد‪ ،‬ها َأنْتَ ِ‬
‫حنَقُ‬ ‫من الفتى وهو ال َمغِيظُ المُ ْ‬ ‫ما كانَ ضَرّك لو َمنَنتَ وربّما‬
‫عتْق ُيعْـتَـقُ‬ ‫وأحقهم إن كان ِ‬ ‫ت َقرَابَةً‬ ‫ب مَن َقتَلْ َ‬ ‫فالنضرُ أقر ُ‬
‫بأع ّز ما يُغلى به مَنْ ُينْـفِـقُ‬ ‫ل فِديِةِ فَـلْـيُفْـ َديَن‬
‫أو كنت قاب َ‬
‫فذُكر أنّ رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬رق لها ودمعت عيناه‪ ،‬وقال لبي بكر‪" :‬لو كنتُ سمعتُ شعرَها ما قتلته"‪.‬‬
‫والنضر هذا هو النضر بن الحارث بن عَلقمة بن كَلَدة بن عبد مناف بن عبد الدار‪.‬‬
‫قال الزبير بن بكار‪ :‬وسمعت بعضَ أهلِ العلم يغمز في أبيات قتيلة بنت الحارث ويقول‪ :‬إنّها مصنوعة‪.‬‬
‫بعض ما قاله أبو بكر الصديق‬
‫طبْتَ‬‫سجّى بثَوْبٍ‪ ،‬فكشَف عنه الثوبَ وقال‪ :‬بأبي َأنْتَ وأمي! ِ‬ ‫ودخل أبو بكر الصديق رضوان ال عليه‪ ،‬على النبي عليه الصلة والسلم وهو مُ َ‬
‫صصْت حتى صرت‬ ‫حيًّا وميّتا‪ ،‬وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموتِ أح ٍد من النبياء من النبوّة‪ ،‬فعظمْتَ عن الصفة‪ ،‬وجَلْلَت عن البكاء‪ ،‬وخَ َ‬ ‫َ‬
‫جدْنا لموتك بالنفوس‪ ،‬ولول أنك نهيت عن البُكاء لنْ َف ْدنَا عليك ماءَ‬ ‫ن موتك كان اختياراً منك ل ُ‬ ‫مَسْلَة‪ ،‬وعَممْتَ حتى صِرْنا فيك سَواء‪ .‬ولول أ َ‬
‫ن ول َيبْرَحان‪ .‬اللهم فأَبلغه عنّا السلم‪ ،‬اذكُ ْرنَا يا محمد عند ربّك‪ ،‬ولنكن من بالك‪،‬‬ ‫الشؤون‪ .‬فأمّا ما ل نستطيع نفيَه عنّا فكمد وإدْناف يتحالفَا ِ‬
‫ت من السكينة لم نُقمْ لما خَلفْتَ من الوحشة‪ ،‬الله ّم أبلغ نبيّك عنّا وأحفظه فينا‪ ،‬ثم خرج‪.‬‬ ‫فلول ما خلّفْ َ‬
‫ل عنه‪ :‬لول أن موتك كان اختيارًا منك إ ّنمَا يريد قولَ النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬لم يُ ْقبَض نبيّ حتى يَرى مقعده من الجنة ثم‬ ‫قوله رضي ا ّ‬
‫خيّر‪ ،‬فقلت‪ :‬ل يختارنا إذَن‪ ،‬وقلت‪:‬‬ ‫خيّر" قالت عائشة رضي الّ عنها‪ :‬فسمعتُهُ وقد شخص بصرُه وهو يقول‪" :‬في الرفيق العلى" فعلمت أنه ُ‬ ‫يُ َ‬
‫هو الذي كان يحدثنا‪ .‬وهو صحيح‪.‬‬
‫وكان أبو بكر‪ ،‬لمّا تُوفِي رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬في أرضه بالسنح‪ ،‬فتواترت إليه الرسلُ‪ ،‬فأتى وقد ذُهِلَ الناس‪ ،‬فكانوا كالخرس‪،‬‬
‫ل بعد التغير‪ ،،‬وخَلَطَ آخرون فلثُوا‪ ،‬الكلم بغير‬ ‫صمَت آخرون فما تكلّموا إ َ‬ ‫وتفرقت أحوالهم‪ ،‬واضطربت أمورُهم‪ ،‬فكذّب بعضهم بموته‪ ،‬و َ‬
‫َبيَان‪ ،‬وحقّ لهم ذلك للرزيّة العظمى‪ ،‬والمصيبة الكبرى‪ ،‬التي هي بيضة العُقْر‪ ،‬ويتيمةُ الدهر‪ ،‬ومدى المصائب‪ ،‬ومنتهى النوائب‪ ،‬فكل مصيبةٍ‬
‫بعدها جَلَل عندها‪ ،‬ولذلك قال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ِ" :‬ل ُتعَزّ المسلمين في مصائبهم المصيبةُ بي"‪.‬‬
‫ل عنه‪ ،‬ممن كذّب بموته‪ ،‬وقال‪ :‬ما مات‪ ،‬وليرجعنّه الّ‪ ،‬فليقطعنّ َأيْدِيَ المنافقين وأرجلَهم‪ ،‬يتمنّون لرسول‬ ‫وكان عمر بن الخطاب‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫ع َد موسى‪ ،‬وهو يأتيكم‪.‬‬ ‫الّ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الموتَ؛ وإنما واعده ربّه كما وا َ‬
‫ل عنه‪ ،‬فكان ممن ُأخْرِس‪ ،‬فجعل ل يكلّم أحداً‪ ،‬فيُؤخَذ بيده ويُجَا ُء به فينقاد‪.‬‬ ‫وأما عثمان‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫ل عنه‪ ،‬فُلبِطَ بالرْضِ‪ ،‬فقعد ولم يَبرَح البيت حتى دخل أبو بكر‪ ،‬وهو في ذلك جَلْد العقل والمقالة‪ ،‬فأكبّ عليه‪ ،‬وكشف عن‬ ‫وأمّا علي‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫سكَراتهم‪ ،‬قام‬‫غمَراتهم‪ ،‬وعظيم َ‬ ‫وَجْهه ومسَحه‪ ،‬وقبّل جبينه‪ ،‬وبكى بكا ًء شديداً‪ ،‬وقال الكلمَ الذي قدّمته‪ .‬ولمّا خرج إلى الناس وهم في شديد َ‬
‫ن سيدنا محمداً عبده‬ ‫حدَهُ ل شريكَ له‪ ،‬وأشهدُ أ ّ‬ ‫جلُها الصلةُ على النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال فيها‪ :‬أشهدُ أنْ ل إلهَ إلّ الّ َو ْ‬ ‫فخطب خطبة ُ‬
‫ق المبين‪ .‬في كلم‬ ‫ورسوله‪ ،‬وأشهد أن الكتاب كما نزل وأن الدينَ كما شرع‪ ،‬وأنّ الحديث كما حدث‪ ،‬وأن القول كما قال‪ ،‬وأن الّ هو الح ّ‬
‫ق ل يموت‪ ،‬وإن ال قد تقدّم إليكما في أمره‪،‬‬ ‫ن محمدًا قد مات‪ ،‬ومن كان يعبدُ الّ فإن ال ح ّ‬ ‫ن كان يعبد محمداً فإ ّ‬ ‫طويل‪ ،‬ثم قال‪ :‬أيها الناسُ؛ مَ ْ‬
‫جزَعاً‪ ،‬وإن الّ قد اختار لنبيهِ ما عنده على ما عندكم‪ ،‬وقبضه إلى ثوابه‪ ،‬وخلّف فيكم كتابه‪ ،‬وسن َة نبيّه‪ ،‬فمن أخذ بهما عَرفَ‪ ،‬ومن‬ ‫فل تَدَعُوه َ‬
‫ت نبيّكمْ‪ ،‬ويَ ْف ِتنَنكُ ْم عن دينكُم؛ فعاجلوه بالذي تعجزونه‪،‬‬ ‫ن بمَو ِ‬ ‫شغَلنّكمُ الشيطا ُ‬
‫فرّق بينهما أنكر؛ "يا أَيهَا اّلذِين آ َمنُوا كُونوا قَوَامِينَ با ْلقِسْطِ"‪ ،‬ول يَ ْ‬
‫ول تستنظروه فيلحق بكم‪.‬‬
‫فلمّا فرغ من خطبته قال‪ :‬يا عمر‪ ،‬بلغني أنك تقول ما مات نبيّ الّ‪ ،‬أَما علمت أنه قال في يوم كذا وكذا‪ ،‬وفي يوم كذا وكذا‪ :‬قال ال تبارك‬
‫ل َقبْل؛ لما نزل بنا‪ ،‬أشهد أنّ الكتابَ كما نزل‪ ،‬وأن الحديثَ‬ ‫ك ميّت وإنّه ْم مَيتُونَ"؟‪ .‬فقال عمر‪ :‬وال لكأني لم أسمعْ بها في كتاب ا ّ‬ ‫وتعالى‪" :‬إ ّن َ‬
‫ي ل يموت‪ ،‬وإنّا ل وإنّا إليه راجعون! ثم جلس إلى جنب أبي بكر رحمه الّ‪.‬‬ ‫كما حدّث‪ ،‬وأنّ ال ح ٌ‬
‫قالت عائشة‪ ،‬رضوان ال عليها‪ :‬لما ُقبِض رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬نجم النفاق‪ ،‬وارتدّت العرب‪ ،‬وكان المسلمون كالغنم الشا ِردَة‪ ،‬في‬
‫ت إذا نظرتُ إلى عمر‬ ‫ل ذهب بحظّه ورشده‪ ،‬وغنائه‪ ،‬وكن ُ‬ ‫الليلة الماطرة‪ ،‬فحمل أبي ما لو حملته الجبال لهَاضها‪ ،‬فوال إن اختلفوا في معظم إ ّ‬
‫عدّ للمور أقرانها‪.‬‬ ‫حدِهِ‪ ،‬قد أ َ‬
‫علمتُ أنه إنما خِلقَ للسلم‪ ،‬فكان والّ أحوذيًّا نسيجَ وَ ْ‬
‫وحدث أبو بكر بن دريد عن عبد الول بن يزيد قال‪ :‬حدّثني رجل في مجلس يزيد بن هارون بالبصرة قال‪ :‬لما تُوفي رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬دُفِن ورجع المهاجرون والنصار إلى رحالهم‪ ،‬ورجعت فاطمة إلى بيتها؛ فاجتمع إليها نساؤها‪ ،‬فقالت‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫شمسُ النهار‪ ،‬وَأظْلَم العصرانِ‬ ‫اغبرّ آفاقُ السمـاءِ‪ ،‬وكُـوّرَتْ‬
‫أسفًا عليه كثيرةُ الرجَـفَـان‬ ‫ض من بعد النبي كـئيبةٌ‬ ‫فالر ُ‬
‫وليبكه مُضَـ ٌر وكـل َيمَـانِ‬ ‫غ ْربُـهـا‬ ‫شرْقُ البلد و َ‬ ‫فَل َيبْكِهِ َ‬
‫ستَار والَركـانِ‬ ‫والبيتُ ذو ال ْ‬ ‫وليبكه الطور المعظـم جَـوُهُ‬
‫صلَى عليك منزّلُ الفُـرقـان‬ ‫يا خاتم الرسل المبارك ضوءُهُ‬

‫‪9‬‬
‫سبُون‪ ،‬واغفرْ‬ ‫ل عنه ‪ -‬إذا ُأثْني عليه يقول‪ :‬اللهم أنت أَعَلَمُ بي من نفسي‪ ،‬وأنا أعلم بنفسي منهم‪ ،‬فاجع ْلنِي خيراً مما يحْ َ‬ ‫وكان أبو بكر ‪َ -‬رضِي ا ّ‬
‫خذْني بما يقولون‪.‬‬ ‫ي برحمتك ما ل يعلمون‪ ،‬ول تؤا ِ‬ ‫لَ‬
‫وقال رحمه ال في بعض خطبه‪ :‬إنكم في َمهَل‪ ،‬من ورائه أجل‪ ،‬فبادروا في مهَل آجالكم‪ ،‬قبل أن تنقطع آمالكم‪ ،‬فتردكم إلى سوء أعمالكم‪.‬‬
‫سدُ‬ ‫وذكر أبو بكر الملوكَ فقال‪ :‬إن الملك إذا مَلك زَهّدهُ ال في ماله ورغبه في مالِ غيره‪ ،‬وأَشرب قلبه الشفاق؛ فهو يسخط على الكثير‪ ،‬ويحْ ُ‬
‫سبَهُ فأشدّ حسابه وأقلّ عفوه‪.‬‬ ‫ضحَا ظلُه حا َ‬ ‫ضبَ عمره‪ ،‬و َ‬ ‫جذِلُ الظاهر‪ ،‬حَزِين الباطن‪ ،‬حتى إذا َوجَبتْ نفسُهُ‪ ،‬ونَ َ‬ ‫على القليل‪َ ،‬‬
‫ل من البحرين‪ ،‬فساوى فيه بين الناس‪ ،‬فغضبت النصار‪ ،‬وقالوا له‪ :‬فَضَ ْلنَا! فقال أبو بكر‪ :‬صدقتُم‪ ،‬إن أردتُمْ أن‬ ‫وذكر أنه وصل إلى أبي بكر ما ٌ‬
‫ي أبو بكر المنبر‪ ،‬فحمِدَ‬ ‫أفضلكم صار ما عمل ُتمُوه للدنيا‪ ،‬وإن صبرتم كان ذلك ل عزَ وجل! فقالوا‪ :‬وال ما عملنا إلّ ل تعالى‪ ،‬وانصرفوا؛ َفرَق َ‬
‫ال‪ ،‬وأثنى عليه‪ ،‬وصلّى على النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم؛ ثم قال‪ :‬يا معشر النصار‪ ،‬إن شئتم أن تقولوا‪ :‬إنا آ َويْناكم في ظِلَلِنا‪ ،‬وشاطرناكم في‬
‫حصِيه العدد‪ ،‬وإن طال به المد‪ ،‬فنحن وأنتم كما قال طُفَيل ال َغنَوي‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫أموالنا‪ ،‬ونصرناكم بأنفسنا لقلتم‪ ،‬وإنَ لكم من الفضل ما ل يُ ْ‬
‫بنا َنعْلُنا في الواطئين فـزَلَـتِ‬ ‫جزى ال عنا جعفراً حينَ أزَْلقَتْ‬
‫ن منّا َلمَـلّـتِ‬
‫تُلَقي الذي يَ ْلقَوْ َ‬ ‫أبوا أن يملُونا ولـو أن أمـنـا‬
‫ظلل بيوتٍ أدفأتْ وأظـلّـتِ‬ ‫هُمُ أسكنونَا في ظلل بيوتـهـم‬
‫ن ممّا بعده‪ ،‬وأش ّد ممّا قبله‪ .‬ليست مع العزاء مصيبة‪ ،‬ول مع‬ ‫ل عنه‪ :‬صنائعُ المعروف تقي مصارعَ السوء‪ .‬الموت أهو ُ‬ ‫فِقَر من كلمه رضي ا ّ‬
‫ن عليه‪ :‬ال َبغْي‪ ،‬والنكث‪ ،‬والمكر‪ .‬إن ال قَرَنَ وَعْده بوعيد؛ ليكون العبد راغباً وراهباً‪.‬‬ ‫ن كن فيه ك ّ‬ ‫الجزع فائدة‪ .‬ثلث مَ ْ‬
‫سعْيك‪ ،‬فلقد كنت للدنيا مذلً بإدبارك‬ ‫ل عنه‪ ،‬وقفت عائشة على قبره‪ ،‬فقالت‪ :‬نَضّرَ الَُ وَج َهكَ يا أبتِ‪ ،‬وشكر لك صالحَ َ‬ ‫ولما توفي‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫عنها‪ ،‬وللخرة مُعزّا بإقبالك عليها‪ ،‬ولئن كان أجَلّ الحوادث بعد رسول الّ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬رزؤُك‪ ،‬وأعظم المصائب بعده فقدك‪ ،‬إن‬
‫ن العوض منك‪ ،‬وأنا أستنجز موعودَ الّ تعالى بالصبر فيك‪ ،‬وأستقضيه بالستغفار لك‪ ،‬أما لئن كانوا‬ ‫كتاب الّ َل َي ِعدُ بحسن الصبر عنك حس َ‬
‫جفَتْ جوانبه؛ فعليك سلم ال توديعَ غير قاليةٍ لحياتك‪ ،‬ول زارية على‬ ‫صدْعهُ‪ ،‬ور َ‬ ‫ش ْعبُ ُه وتفاقم َ‬
‫قاموا بأمر الدنيا فلقد قمتَ بأمر الدين لمّا وَهى َ‬
‫القضاء فيك‪.‬‬
‫ق دينَ‬ ‫وقال أبو بكر لبلل لما قُتل أمية بن خلف وقد كان يَسُومُه سوء العذاب بمكة فيخرجه إلى ال ّرمْضاء‪ ،‬فيلقي عليه الصخرة العظيمة ليفار َ‬
‫ل من ذلك‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫السلم فيعصمه ا ّ‬
‫فقد أدركْت‪ ،‬ثأرك يا بـللُ‬ ‫هَنئياً زادك الرحمـنُ خـيراً‬
‫شكَ السَل الطوالُ‬ ‫غداة تنو ُ‬ ‫جدْتَ ول جبـانـاً‬ ‫فل نِكْسا وُ ِ‬
‫تخلِط أنْتَ ما هابَ الرّجال‬ ‫إذا هاب الرّجال ثبتّ حتـى‬
‫ف َمتْ َنيْهِ الصّقَالُ‬‫جَلَ أطرا َ‬ ‫على مضض الكُلُوم بمشرفيّ‬
‫بعض ما قاله عمر بن الخطاب‬
‫ل عنه! ‪ -‬إلى ابنه عبد الّ‪ :‬أمّا بعد‪ ،‬فإنه مَن اتّقى الَ َوقَاهُ‪ ،‬ومن توكّل عليه كَفَاهُ‪ ،‬ومن شكر له زادهُ‪ ،‬ومنْ‬ ‫وكتب عم ُر بن الخطاب ‪ -‬رضي ا ّ‬
‫ج َر لمن ل خشيةَ له‪ ،‬ول جديد لمن ل خلَقَ لهُ‪.‬‬ ‫جعَلِ التقوى عماد قلبك‪ ،‬وجلء بصرك‪ ،‬فإنه ل عمل لمن ل نيّة له‪ ،‬ول أ ْ‬ ‫أقرَضهُ جَزَاهُ؛ فا ْ‬
‫ع َرفَني بك! آمنتَ إذ كفروا‪ ،‬ووفيتَ‬ ‫ي بن حاتم؛ فقال‪ :‬ما أ ْ‬ ‫ي بن حاتم على عمَر‪ ،‬فسلّم وعمرُ مشغول‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬أنا عد ّ‬ ‫ودخل عد ّ‬
‫ت إذ أ ْدبَرُوا! وقال رجل لعمر‪ :‬مَن السيد؟ قال‪ :‬الجواد حين يُسْأَل‪ ،‬الحليم حين يُسْتجهَل‪ ،‬الكريم المجالسةِ‬ ‫غدَرُوا‪ ،‬وعرفتَ إذ أنكروا‪ ،‬وأقبل َ‬ ‫إذ َ‬
‫خلُقِ ِلمَنْ جاوره‪.‬‬ ‫لمن جالَسه‪ ،‬الحسَن الْ ُ‬
‫ل ل ين َفدُ أُوله‪ ،‬وأمل‬ ‫شغْ ٌ‬
‫خصَالٍ‪ :‬فَ ْق ٌر ل يُدْرَك غناه‪ ،‬وهَم ل ينقضي َمدَاه‪ ،‬و ُ‬ ‫ت الدنيا همّ رجل قطُ إلّ لزم قلبَه أربعُ ِ‬ ‫ل عنه‪ :‬ما كان ِ‬ ‫وقال رضي ا ّ‬
‫ل يبلُغ مُنتهاهُ‪.‬‬
‫ل عنه‬ ‫فصول قصار من كلمه رضي ا ّ‬
‫ت به رع ّيتُهُ‪.‬‬ ‫من كتم سرّه كان الْخِيارُ في يده‪ ،‬أشقى الوُلة من شقيَ ْ‬
‫ل من الطمع‪.‬‬‫أعقلُ الناس أعذرُهم للناس‪ .‬ما الخمر صرْفاً بَأذْهَب لعقولِ الرجا ِ‬
‫ف المين‪ ،‬وخيانةَ‬ ‫ضعْ َ‬
‫ك تَلَفا‪ ،‬مُرْ ذوي القرابات أن يتزَاوَرُوا‪ ،‬ول يتجاوَروا‪ .‬قلّما أدْبر شيء فأقبل‪ ،‬أشكو إلى الّ َ‬ ‫ضَ‬‫حبّك كَلَفا‪ ،‬ول ُبغْ ُ‬ ‫ل يكن ُ‬
‫القوي‪ ،‬تكثّرُوا من العيال فإنكم ل تدرون بمن تُرْزَقون‪ .‬لو أن الشكر والصبر َبعِيرانِ ما باليت أيّهما أركب‪ .‬من ل يعرفُ الشرّ كان أجدر أن‬
‫يقع فيه‪.‬‬
‫عمَ َر بن الخطاب‪ ،‬فقال‪ :‬كان عالمًا برعيّته‪ ،‬عادلً في قضيّته‪ ،‬عاريًا من ال ِكبْر‪،‬‬ ‫وقال معاوية بن أبي سفيان لصعصعة بن صُوحَانَ‪ :‬صِفْ لي ُ‬
‫سهْلَ الحِجَاب‪ ،‬مَصُونَ الباب‪ ،‬متحرّيا للصواب‪ ،‬رفيقاً بالضعيف‪ ،‬غير مُحابٍ للقريب‪ ،‬ول جافٍ للغريب‪.‬‬ ‫قبولً للعُذر‪َ ،‬‬
‫ج فلمّا كان بضجنان قال‪ :‬ل إله إلّ الّ العليّ العظيم‪ ،‬ال ُمعْطِي مَن شاء ما شاء‪ ،‬كنتُ في هذا‬ ‫ل عنه‪ ،‬ح َ‬ ‫وروى أن عم َر بن الخطاب‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫الوادي في مِدْرَعة صوف أرْعى إبل الخطّاب‪ ،‬وكان فظًّا يُ ْتعِبني إذا عملت‪ ،‬ويَضربني إذا قصرت‪ ،‬وقد أمسيت الليلة ليس بيني وبين الّ أحد‪،‬‬
‫ثم تمثّل‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫يبقى الله ويُودي المالُ والولدُ‬ ‫ل شيء ِممَاِ ترى َتبْقَى بشاشتُـهُ‬
‫والْخُ ْل َد قد حاولت عادٌ فما خَلدُوا‬ ‫لم تغن عن هُرمُز يوماً خزائنهُ‬
‫ن والنس فيما بينها تَـ ِردُ‬ ‫والج ُ‬ ‫ول سليمان إذْ تجرِي الرياحُ لهُ‬
‫من كل صَ ْوبٍ إليها وافِد يَفـد‬ ‫أين الملوك التي كانت نوافلُهـا‬
‫ل بدَ من وِ ْردِهِ يوماً كما َورَدوا‬ ‫حوضُ هنالك مورو ٌد بل كـدر‬
‫وقال عمر بن الخطاب رضي ال عنه فتح مكة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن قبل ذلـك حـائدِ‬ ‫على كل دي ٍ‬ ‫ألم تر أن الَّ أظـهـر دِينَـهُ‬
‫تدَاعَوْا إلى أم ٍر من الغي فاسدِ‬ ‫وأمكنه من أهل مكة بعـدمـا‬
‫مسوَم ًة بين الزبـير وخـالـد‬ ‫غداةَ أجَالَ الخيلَ في عَرَصاتها‬

‫‪10‬‬
‫وأمْسى عدَاه مِنْ قتيل وشـارِد‬ ‫ع ّز نَصْرُهُ‬ ‫فأمسى رسولُ ال قد َ‬
‫يريد الزبير بن العوام حَوَارِيّ رسولِ الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وخاِلدَ ابن الوليد سيفَ ال تعالى في الرض‪.‬‬
‫ش ْعبَة‪ ،‬قالت عاتِكة بنت زيد بن عمرو ابن نفَيل زوجته ترثيه‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫ولما قتله أبو لُ ُؤلُؤَة غلمُ المغيرةِ بن ُ‬
‫ل تملي على المين النجِـيب‬ ‫عيْنُ جُودي ِبعَبْـرَ ٍة ونَـحِـيبِ‬ ‫َ‬
‫لَم يوم الهـياج والـتـثـويبِ‬ ‫ج َعتْني المنونُ بالفارسِ ا ْلمُـع‬ ‫فَ‬
‫ر وغيثُ المحروم والمحروبِ‬ ‫صمَةُ الناس والمعينُ على الدَه‬ ‫ع ْ‬
‫ن كأسَ شعَـوبِ‬ ‫قد سقته المنُو ُ‬ ‫قل لهْلِ الضراءِ والبُؤس موتوا‬
‫وقالت أيضاً ترثيه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ب مُـنِـيبِ‬
‫بأبيضَ تالٍ لِلْـكِـتـا ِ‬ ‫وفَجـعـنـي فـيْرُوز ل دَرّ درُه‬
‫أخي ثقة في النـائبـات نـجـيبِ‬ ‫رؤوف على الدنى غليظ على العِدَا‬
‫سريع إلى الخيرات غير قَطـوبِ‬ ‫ل فِعـلُـه‬ ‫ل ل يكذب القو َ‬ ‫متى ما يَقُ ْ‬
‫ل بن أبي بكر‪ ،‬فأصابه‬ ‫وعاتكة هذه‪ ،‬هي أخت سعيد بن زيد‪ ،‬أحدِ العشرة الذين شهد لهم النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بالجنّة‪ ،‬وكانت تحت عبد ا ّ‬
‫ل عنه‪ ،‬ف ُقتِل عنها‪ ،‬فتزوجها الزبير ابن العوام ف ُقتِلَ عنها‪ ،‬فكان علي‪ ،‬رضي ال عنه‬ ‫سهْمٌ في غَزوَة الطائف فمات منه‪ ،‬فتزوجها عمر‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫يقول‪ :‬من أحبّ الشهادة الحاضرة فليتزوج بعاتِكة!‬
‫ومن كلم عثمان بن عفان‬
‫ل عنه‪:‬‬
‫رضي ا ّ‬
‫ج منكم إلى إمام قَوّال‪ ،‬قاله‬ ‫ل ال بعد عُسْ ٍر يسراً‪ ،‬وبعد عِي بياناً‪ ،‬وأنتم إلى إمام فعَال‪ ،‬أحو ُ‬ ‫ما يَ َزعُ الَُ بالسُلْطانِ‪ ،‬أكثَ ُر مما يزعُ بالقرآن‪ .‬سيجع ُ‬
‫في أول خلفته وقد صعد المنبر وأُ ْرتِج عليه‪.‬‬
‫ن كان ل َيدْفع عنه نفسه‪،‬‬ ‫ي مَ ْ‬‫سيْلُ ال ُزبَى‪ ،‬وجاوز الحزامُ الط ْب َييْنِ‪ ،‬وطمع ف َ‬ ‫ل عنه‪ ،‬وهو مَحْصُور‪ :‬أمّا بعد‪ ،‬فقد بَلغ ال ّ‬ ‫وكتب إلى علي‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫ولم يعجزك كلئيم‪ ،‬ولم يغْلِبْك كمغَلّب؛ فأَقبِلْ إليّ‪ ،‬معي كنت أو علي‪ ،‬على أيّ أم َريْك أحببت الطويل‪:‬‬
‫وإلّ فَأدْ ِركْني ولَمـا أُمـزّقِ‬ ‫ل فكُنْ أنت آكِلي‬ ‫ت مأكْو ً‬ ‫فإن كن ُ‬
‫ل عنه؛ وحذّاق أحل النظر يدفعون هذا‪،‬‬ ‫وهذا البيت للممزّق العبدي‪ ،‬وبه سمي الممزّق‪ ،‬واسمه شأس‪ ،‬وإنما تمثّل به عثمان‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫ويستشهدون على فساده بأحاديث تُناقِضه ليس هذا موضعها‪.‬‬
‫ل عنه‪ ،‬أتقَى ل أن يَسعى في أمره عليّ‪ ،‬وعليّ أتقى لّ أن يسعى في أم ِر عثمان‪ ،‬وهذا من قوله عليه السلم‪:‬‬ ‫قالوا‪ :‬وكان عثمان‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫أشقَى الناس مَن قتله نبي أو قَتل نبيّاً‪.‬‬
‫ومن كلم عثمان‪ ،‬رضي ال عنه وأكرم نزله‪ ،‬وقد تنكر له الناس‪ :‬أمر هؤلء القوم رعاع عير‪ ،‬تطأطأت لهم تطأطأ الدلء‪ ،‬وتلددت لهم تلدد‬
‫سنَه‪ ،‬وأبلغت الراتع مسعاته‪ ،‬فتفرقوا عليّ فرقًا ثلثاً‪،‬‬ ‫المضطر‪ ،‬رأيتهم ألحف إخواناً‪ ،‬وأوهمني الباطل لهم شيطاناً‪ .‬أجررت المرسون رَ َ‬
‫ت في فتنة ُزيّنَت شي قلبه‪ ،‬فأنا منهم بين ألسُنِ ِلدَاد‪ ،‬وقلوب‬ ‫فصامتٌ صمته أنفذ من صَولِ غيره‪ ،‬وشاهد أعطاني شاهده ومنعني غائبه‪ ،‬ومتها ِف ّ‬
‫شداد‪ ،‬عذيري ال منهم‪ ،‬أل ينهى عالم جاهلً‪ ،‬ول ينذر حليم سفيهاً؟ والّ حسبي وحسبهما يوم ل ينطقون‪ ،‬ول يؤذن لهم فيعتذرون‪.‬‬
‫سئل الحكم بن هشام فقال‪ :‬كان والّ خيار الخيرة‪ ،‬أمير البررة‪ ،‬قتيل الفجرة‪ ،‬منصور النصرة‪ ،‬مخذول الخذلة‪ ،‬مقتول القتلة‪.‬‬
‫ونظيرُ البيت الذي أنشده قولُ صخر الجعد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فإنّ منايا القوم أكْرم من بعضِ‬ ‫ل فكن أنت آكلي‬ ‫فإن كنت مأكو ً‬
‫قال المتوكل‪ :‬أتيت بأسارى‪ ،‬فسمعت امرأة منهم تقول‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫سمُو الليث أخرجه العريفُ‬ ‫َ‬ ‫سمَا إلـينـا‬ ‫أمير المؤمنين َ‬
‫وإن ن ْقتَلْ فقاتِلُنـا شـريفُ‬ ‫ن نَسَْل ْم فعونَ الّ نرجـو‬ ‫فإ ْ‬
‫وقد ذكر بعض أهل العلم أنه ل يُعرف لعثمان شعر‪ ،‬وأنشد له بعضهم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وإنْ عـضـهَـا حَـتـى يضـ ّر بـهـا الـفَـقْــرُ‬ ‫س ُيغْـنـي الـنـفـسَ حـتـى يكُـفّـهـا‬ ‫غنَى النفـ ِ‬ ‫ِ‬
‫ل سيتبعها يُسْرُ‬ ‫ت بباقيةٍ إ ّ‬ ‫صبِرْ لها إن َتتَا َبعَ ْ‬ ‫سرَ ٌة فا ْ‬‫وما عُ ْ‬
‫وقول عثمان‪ ،‬رضي ال عنه فيما روى‪ :‬ولم يغلبك كمغلّب من قول امرئ القيس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ضعيفٍ ولم َيغْلِبك ِمثْل مغَلّبِ‬ ‫فإنكَ لم يَفخَرْ عليك كفاخـر‬
‫وقال أبو تمام وذكر الخمر‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ضعَفاءِ‬‫َقتَلَتْ‪ ،‬كذَلك ُقدْرَةُ ال ّ‬ ‫ت فُرصة‬ ‫وضعيفةٌ فإذا أصابَ ْ‬
‫من كلم عليّ بن أبي طالب‬
‫ل عنه‬
‫رضي ا ّ‬
‫ي منها‬‫ل المَل‪ ،‬ويقولُ في الدنيا بقول الزاهدين‪ ،‬ويعملُ فيها بعمل الراغبين‪ ،‬إنْ أُعط َ‬ ‫ل َتكُن ممن يَ ْرجُو الخرة بغير عمل‪ ،‬ويؤخّر التوبةَ لطو ِ‬
‫لم يشبع‪ ،‬وإن ُمنِح لم يَقنع‪ ،‬يعجز عن شُكرِ ما أوتي‪ ،‬ويبتغي الزيادة فيما بَقِي‪َ ،‬ينْهى ول يَنتهي‪ ،‬ويأمر بما ل يَأْتي‪ ،‬يحبّ الصالحين ول يعمل‬
‫ن لهِيا‪ُ ،‬يعْجَب‬ ‫ظلّ نادماً‪ ،‬وإن صحَ َأمِ َ‬ ‫ت لكثرة ذنوبه‪ ،‬ويقيمُ على ما يكرهُ الموت له‪ ،‬إن سقم َ‬ ‫ض المسيئين وهو منهم؛ يكره المو َ‬ ‫أعمالهم‪ ،‬ويبغِ َ‬
‫ن له‪ ،‬ول َيعْمَل من العمل‬ ‫ط إذا ابتلي‪ ،‬تغِلبُه نفسُهُ على ما يظن‪ ،‬ول يَغلبُهَا على ما يستيقن‪ ،‬ول َيثِقُ من الرزق بما ضمِ َ‬ ‫بنفسه إذا عُوفي‪ ،‬ويَ ْقنَ ُ‬
‫بما فُرِض عليه‪ ،‬إن استغنى بَطِر وفُتن‪ ،‬وإن افتقر َقنِطَ وحَزِن‪ ،‬فهو من الذّنب والنعمة موقَر‪ ،‬يبتغي الزيادة ول يَشكر‪ ،‬ويتكلّف من الناس ما لم‬
‫يُؤْمر‪ ،‬ويضيع من نفسه ما هو أكثر‪ ،‬و ُيبَالغ إذا سأل‪ ،‬ويقصر إذا عمل‪ ،‬يخشى الموتَ‪ ،‬ول يبادِر الفَوْتَ‪ ،‬يستكثر من معصية غيره ما يستقلّ‬
‫أكثره من نفسه؛ ويستكثرُ من طاعته ما يستقلّه من غيره‪ ،‬فهو على الناس طاعِن‪ ،‬ولنفسه مداهن‪ ،‬الَلغْوُ مع الغنياء أحَب إليه من الذكر مع‬
‫الفقراء‪ ،‬يحكم على غيرِه لنفسه‪ ،‬ول يحكمُ عليها لغيره‪ ،‬وهو يُطَاع و َيعْصِي‪ ،‬ويستوفي ول يُوفي‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫سئِلْت عن‬
‫ل عنه‪ ،‬عن مسألة فدخَلَ مبادراً‪ ،‬ثم خرج في حذاء ورداء‪ ،‬وهو يتبسّم‪ ،‬فقيل له‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إنك كنت إذا ُ‬ ‫سئِل‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫وُ‬
‫مسألة كنت فيها كالسّكة المُحْماة! فقال‪ :‬إني كنت حاقنًا ول رَأيَ لحاقن‪ ،‬ثم أنشأ يقول‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫كشفتُ حقا ِئقَها بالـنّـظَـرْ‬ ‫ت تصـ ّديْنَ لـي‬
‫إذا المشكل ُ‬
‫عمْيَاءُ ل تجتليها الذكـر‬ ‫ب َ‬ ‫وإن برقَتْ في مَخِيل الصوا‬
‫وضعت عليها صَحيحَ الفكَرْ‬ ‫مقنعةً بـأُمـور الـغـيوب‬
‫أو كالحسام اليَماني ال ّذكَـرْ‬ ‫لسانًا كَشِ ْقشِـقَةِ الرحـبـيّ‬
‫أمرّ عليها بواهـي الـدرر‬ ‫وقلبًا إذا استنطقته الـعـيون‬

‫أُسائل عن ذَا وذَا ما الخبر‬ ‫ت بإمّعة في الرّجـال‬ ‫ولس ُ‬


‫أبيّن مَعْ ما مضى ما غبرْ‬ ‫ولكنني ذَرِبُ الصغـ َريْنِ‬
‫صدَائي‪ :‬يا ضرار‪ ،‬صِفْ لي علياً‪ ،‬فقال‪ :‬أعْفني يا أمير المؤمنين‪ ،‬قال‪ :‬لتصفنه‪ ،‬فقال‪ :‬أما إذ أذنت فل‬ ‫ل عنه‪ ،‬لضِرار ال ُ‬ ‫وقال معاوية‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫ش من‬ ‫ع ْدلً‪ ،‬يتفجرُ العل ُم من جوانبه‪ ،‬وتنطقُ الحكم ُة من نواحيه‪ ،‬يستَ ْوحِ ُ‬ ‫ل َفصْلً‪ ،‬ويحكمُ َ‬ ‫بدّ من صفته‪ :‬كان وال بعيدَ ال َمدَى‪ ،‬شديدَ القُوَى‪ ،‬يقو ُ‬
‫جبُهُ من اللّباس ما َقصُرَ‪ ،‬ومن‬ ‫الدنيا وزهْرَتها‪ ،‬ويستأنس بالليل وظلمته‪ ،‬كان والّ غزيرَ الدَ ْمعَة‪ ،‬طويل الفكرة‪ ،‬يقلبُ كفّهُ‪ ،‬ويخاطب نفسه‪ُ ،‬يعْ ِ‬
‫ستَ ْنبَ ْأنَاهُ‪ ،‬ونحن ‪ -‬مع تقريبِ ِه إيّانا‪َ ،‬و ُقرْبه منّا ‪ -‬ل نكادُ نكلمه لهيبته‪ ،‬ول َن ْبتَ ِدئُهُ‬ ‫الطعام ما خشُنَ‪ ،‬وكان فِينا كأح ِدنَا‪ ،‬يُجيبُنَا إذا سألناهُ‪ ،‬وي ْن ِبئُنَا إذا أ ْ‬
‫ف من عدلِهِ‪ ،‬وأشهدُ لقد رأيتهُ في بعض مواقفه‪ ،‬وقد‬ ‫لعظمته‪ ،‬يعظمُ أهل الدين‪ ،‬ويحب المساكينَ‪ ،‬ل يطمعُ القويّ في باطله‪ ،‬ول َييْأسُ الضعي ُ‬
‫ل تململَ السليم‪ ،‬ويبكي بُكاء الحزين‪ ،‬ويقول‪ :‬يا دُنيا‪ ،‬إليكِ‬ ‫سدُولَه‪ ،‬وغارت نجومُهُ‪ ،‬وقد َمثَلَ في محرابه‪ ،‬قابضاً على لحيته يَتَم ْلمَ ُ‬ ‫أ ْرخَى الليلُ ُ‬
‫حقِير‪ ،‬وخط ُبكِ يسير؛‬ ‫خطَ ُركِ َ‬‫ضتِ‪ ،‬أمْ إليّ تش ّوفْتِ؟ هيهات! قد باينتكِ ثلثاً‪ ،‬ل رَجعَةَ لي عليك؛ َف ُعمْ ُركِ قصيرٌ‪ ،‬و َ‬ ‫غيْرِي‪ ،‬ألِي َتعَرَ ْ‬ ‫عنّي! غُرّي َ‬ ‫َ‬
‫ت دُموعُهُ لحيتَهُ؛ وقال‪ :‬رَحِمَ الَُ أبا الحسن! فلقد كان كذلك‪ ،‬فكيفَ‬ ‫آ ِه من قلّة الزاد‪ ،‬و ُبعْدِ السفرِ‪َ ،‬ووَحْشَةِ الطريق! فبكى معاوية حتى أخْضََل ْ‬
‫سمِعَ فوَعَى‪ ،‬ودُعِيَ إلى الرشاد‬ ‫لّ عبداً َ‬ ‫حمَ ا ُ‬
‫حدُهَا في حِجْرِها! وقال عليّ‪ ،‬رضوان ال عليه‪ :‬رَ ِ‬ ‫ن ذُبحَ وَا ِ‬ ‫ن مَ ْ‬ ‫ضرَار؟ قال‪ :‬حُزْ ُ‬ ‫حُ ْز ُنكَ عليه يا ِ‬
‫ب َمذْخُوراً‪ ،‬واجتنب محذوراً‪ ،‬ورمى غَرضاً‪،‬‬ ‫ف ذَ ْنبَهُ‪ ،‬وقدّم خالصاً‪ ،‬وعملَ صالحاً‪ ،‬واكتس َ‬ ‫حجْزَة هَادٍ فنجا‪ ،‬وراقبَ َربّه‪ ،‬وخا َ‬ ‫َفدَنا‪ ،‬وأخذ ب ُ‬
‫عدّةَ وفاته‪ ،‬يُظهِ ُر دون ما يكتُمُ‪ ،‬ويكتفي بأقل مما يعلم‪،‬‬ ‫وكابرَ هوَاهُ‪ ،‬وكذَب ُمنَاهُ‪ ،‬وحذرَ أجلً‪ ،‬ودَأب عملً‪ ،‬وجعلَ الصبرَ رغبةَ حياته‪ ،‬والثقَى ُ‬
‫لزمَ الطريقة الغرّاء‪ ،‬والمحجة البيضاء‪ ،‬واغتنمَ المهلَ‪ ،‬وبادرَ الجَلَ‪ ،‬وتزَ َو َد من العَمل‪.‬‬
‫ف عليه‪ ،‬وقالَ‪ :‬رحم ال‬ ‫ل عنه‪ ،‬من صِفَين‪ ،‬فدخلَ أوائلَ الكوفة إذا َقبْرٌ‪ ،‬فقال‪َ :‬قبْ ُر مَنْ هذا؟ فقيل‪ :‬خباب بن الرَتّ‪ ،‬فوق َ‬ ‫ولما رَجع‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫ن عملً‪.‬‬ ‫خبّاباً! أسلمَ رَاغِباً‪ ،‬وهاجرَ طائعاً‪ ،‬وعاشَ مجاهِداً‪ ،‬وا ْبتُلِيَ في جسمه أحوالً‪ ،‬ولن يضيع الَُ أج َر مَنْ أحسَ َ‬ ‫َ‬
‫ومضى فإذا هو بقبور‪ ،‬فوقف عليها‪ ،‬وقال‪ :‬السلمُ عليكم أهلَ الديار المُوحِشة‪ ،‬والمحال المقْ ِفرَةِ‪ ،‬أنتم لنا سَلَف‪ ،‬ونحنُ لكم تُبع‪ ،‬وبكم ‪ -‬عمّا قليل‬
‫عمِلَ للحساب‪ ،‬و َقنِعَ بالكَفَاف‪ .‬ثم التفت‪ ،‬رضي ال عنه‪،‬‬ ‫‪ -‬لحِقُون؛ اللهمَ اغْ ِفرْ لنا ولهم‪ ،‬وتجاو ْز عنَا وعنهم بعَفْ ِوكَ؛ طُوبى لمن ذكرَ ال َمعَاد‪ ،‬و َ‬
‫إلى أصحابه‪ ،‬فقالَ‪ :‬أما إنهم لو تكَلمُوا لقالوا‪ :‬وَجدْنا خيرَ الزادِ الت ْقوَى‪.‬‬
‫غنًى لمن تز َو َد منها‪ ،‬مهْبِط َوحْيِ‬ ‫صدْق لمن صدقها‪ ،‬ودَا ُر نجاةِ لمن فهم عنها‪ ،‬ودارُ ِ‬ ‫ل الدنيا ِبحَضْرَةِ علي‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬فقال‪ :‬دارُ ِ‬ ‫وذَمّ رجُ ٌ‬
‫ت بِبيْنهَا‪ ،‬ونادت بِفِرَاقها‪،‬‬ ‫جرُ أوليائه‪َ ،‬ربِحُوا فيها الرحمة‪ ،‬واكتسبوا فيها الجنة‪ ،‬فمن ذا يذقها‪ ،‬وق ْد آذَن ْ‬ ‫سجِد أنبيائه‪ ،‬و َمتْ َ‬ ‫الَِ‪ ،‬ومُصلَى ملئكته‪ ،‬ومَ ْ‬
‫ت إليك‪،‬‬ ‫س َت َذمَ ْ‬
‫ك الدّنيا؟ أم بماذا أ ْ‬‫وذكّرَتْ بسرورها السرور‪ ،‬وببلئها البلء‪ ،‬ترغيباً وترهيباً‪ ،‬فيأيهَا الذام لها‪ ،‬المعقَل نفسه بغرورها‪ ،‬متى خدٌع ْت َ‬
‫ضجَع أُمهاتك في الثرَى‪ ،‬كم مرضت بكفيك‪ ،‬وكم عللت بيديك‪ ،‬تطلبُ له الشفاء‪ ،‬وتستوصفُ الطباء‪ ،‬غَدا َة ل‬ ‫أ ِبمَصْرًع آبائكَ في البلى؟ أم ِبمَ ْ‬
‫ينفعُه بكاؤك‪ ،‬ول ُيغْنِي دواؤك‪.‬‬
‫ل عنه‪ :‬البشاشة فخ المودة‪ .‬والصبر قبر المغبون‪ .‬والغالبُ بالظلم مغلوب‪ .‬والحجَر المغصوبُ بالدار رهن بخرابها‪ .‬وما‬ ‫فقر من كلمه رضي ا ّ‬
‫ش َهدِ الغلم‪ .‬الناس أعداءُ ما جهلوا‪ .‬بقي ُة عمر المؤمن ل ثَمن لها‪ ،‬يدرك بها ما أفات‬ ‫سلَم‪َ .‬رأْيُ الشيخ خي ٌر من مَ ْ‬ ‫ظف َر مَن ظفرت به اليام‪ .‬فسالِ ْم تَ ْ‬
‫ي بن محمد البستي البسيط‪:‬‬ ‫ويُحْيي ما أمات‪ .‬نقل هذا الكلم بعضُ أهلِ العصر‪ ،‬وهو أبو الفتح عل ّ‬
‫غدَا وهو محبوب من الثمـنِ‬ ‫وإن َ‬ ‫بقيةُ العمر عندي ما لهـا ثـمـن‬
‫ييِ ما أمات و َيمْحُو السوءَ بالحسَنِ‬ ‫يستدرك المرءُ فيها ما أفـات ويح‬
‫الدنيا بالموال‪ ،‬والخرة بالعمال‪ .‬ل تخافَنّ إلّ ذنبك‪ ،‬ول ترجُوَنّ إلّ ربّك‪ .‬وجهُوا آمالكم إلى مَنْ تحبّه قُلوبُكم‪ .‬الناسُ من خَوْف الذلّ في الذلّ‪.‬‬
‫ن من السكوت ما هو أبْلَغُ‬ ‫عدَداً‪ ،‬وأنْجَبُ ولداً ‪ -‬وقد تبيّنت صِحّة ما قال في بنيه وبني المهلب ‪ -‬إ َ‬ ‫ف أ ْنمَى َ‬ ‫خلْفِ جاد بالعطية‪ .‬بقيّةُ السي ِ‬ ‫مَنْ َأيْقَنَ بال ُ‬
‫خيْرُ المالِ ما أغنَاك‪ ،‬وخي ٌر منه ما كَفاك‪ ،‬وخير إخوانك مَنْ واساك‪ ،‬وخي ٌر منه من كفاك‬ ‫ف ل َي ْنبُو‪َ .‬‬ ‫سيْ ٌ‬‫طيّة ل َت ْكبُو‪ ،‬و َ‬ ‫من الجواب‪ .‬الصب ُر مَ ِ‬
‫شرّه‪.‬‬
‫وقال بعضُ أهل العصر ما يشاكِل هذا وهو أبو الحسن محمد بن لَنككٍ البصري‪ :‬مجزوء الخفيف‪:‬‬
‫ث المكارمِ‬ ‫حدِي ِ‬ ‫عَنْ َ‬ ‫عدّيا في زمانـنـا‬ ‫َ‬
‫فهو في جُودِ حاتِمِ‬ ‫مَنْ كفى الناسَ شرّهُ‬
‫أبو الطيب‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫جمَالُ‬
‫حسَان وإ ْ‬ ‫من أ ْكثَرِ الناس إ ْ‬ ‫ن تَ ْركُ القَبـيحِ بـهِ‬ ‫إنّا لَفي َزمَ ٍ‬
‫جعَلِ العفوَ عنه شكراً لل ُقدْرة عليه‪ .‬قيمةُ كلّ امرئ ما يحسن‪.‬‬ ‫إذا قدرت على عدوّك فا ْ‬
‫ف من هذا الكتاب إلّ على هذه الكلمة لوجدناها شافية‪ ،‬كافية‪،‬‬ ‫ذكر أبو عثمان عمر ُو بن بَحْرٍ الجاحظُ هذه الكلمة في كتاب البيان فقال‪ :‬فلو لم نَ ِق ْ‬
‫ومجْزِية ُم ْغنِيةً‪ ،‬بل لوجدناها فاضلة عن الكِفاية‪ ،‬غير مقصّرة عن الغاية‪ ،‬وأفضلُ الكلمِ ما كان قليلُه ُي ْغنِيك عن كثيره‪ ،‬ومعناه ظاهراً في لَ ْفظِه‪،‬‬
‫حسَب ِنيّة صاحبه‪ ،‬و َتقْوَى قائله‪ ،‬فإذا كان المعنى غريفاً‪ ،‬واللفظ بليغاً‪ ،‬وكان‬ ‫ل قد أ ْلبَسه من ثيابِ الجللة‪ ،‬وغشَاه من نُورِ الحكمة‪ ،‬على َ‬ ‫وكأنَ ا ّ‬
‫صنِيعَ ال َغيْثِ في الت ْربَةِ الكريمة‪ ،‬ومتى فصّلَت‬ ‫صنَع في القلوب َ‬ ‫صحيح الطبع‪ ،‬بعيداً من الستكراه‪ ،‬منزّهاً عن الختلل‪ ،‬مَصُوناً عن التكلف؛ َ‬
‫الكلمةُ على هذه الشريطة‪ ،‬ونَ َفذَت من قائلها على هذه الصفة‪ ،‬أصحبها الّ‪ ،‬عزَ وجل‪ ،‬من التوفيق‪ ،‬ومنَحَها من التَأْييد‪ ،‬ما ل يمتنعُ من تعظيمها‬
‫به صدورُ الجبابرة‪ ،‬ول يذهل عن َف ْهمِها معه عقولُ الجهلة‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫خطِ‪ ،‬وأقدر على أن تغيّر ما كرهت‪ ،‬وأعلم بما تقدر‪ ،‬ل ُتغْلَب‬ ‫ومن دُعائه‪ ،‬رضي الّ عنه في حروبه‪ :‬اللهمَ َأنْتَ أَرْضى للرضا‪ ،‬وأسْخَط للسُ ْ‬
‫على باطل‪ ،‬ول تعجز عن حق‪ ،‬وما أنت بغافل عمّا يعمل الظالمون‪.‬‬
‫وقال علي رضي الّ عنه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ضيْنُ تـقـدّمـا‬‫إذا قيل َق ّدمْها حُ َ‬ ‫ِلمَنْ رايةٌ سَوْدا ُء يَخْفق ظِـلُـهـا‬
‫حياضُ المنايا تقطُر الموتَ والدّما‬ ‫فيوردها في الصّف حتى تردّهـا‬
‫لدى الروعِ قوماً ما أعزّ وأكْرَما‬ ‫جزى ال قوماً قاتلوا في لقائهـم‬
‫إذا كان أصواتُ الرجال َت َغ ْمغُمـا‬ ‫وأطيب أخْباراً وأفْـضَـلَ شِـيمةً‬
‫صفّين‪.‬‬
‫ن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي‪ ،‬وكان صاحب را َيتِه يومَ ِ‬ ‫حضين الذي ذكره هو‪ :‬أبو ساسَان الحضينُ ب ُ‬
‫ويروى عنه أنه قال بعد وفاة فاطمة رضي ال عنها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حبُها حتى المماتِ عليلُ‬ ‫وصا ِ‬ ‫ي كثـيرةً‬‫أرى عِلَلَ الدنيا عل ّ‬
‫وإن الذي دُون المماتِ قليل‬ ‫لكل اجتماع من خليلين فُ ْرقَةٌ‬
‫ل يدومَ خَـلـيلُ‬
‫دليل على أ َ‬ ‫ن افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ‬ ‫وإ ْ‬
‫ولما قتَل عمرو بن عبد ُودّ سقط فانكش َفتْ عَوْرَته‪ ،‬فتنحَى عنه وقال‪ :‬الكامل"‬
‫ت فاستمعوا من الكذاب‬‫ن عبد حين شَد أليّةوحل ْف ُ‬ ‫آلى اب ُ‬
‫أسَـدَان يضْـطَــرِبـــان كـــل ضِـــرَابِ‬ ‫ل بِفر ول يملل فالتقى‬ ‫أّ‬

‫ومصمَمٌ في الرَأسِ ليس بنَابِ‬ ‫اليوم يمنعني الفرارَ حفيظتـي‬


‫جذْع بين دَكادكٍ ورَوَابـي‬‫كال ِ‬ ‫أعرضْتُ حين رأيتُه متقطـراً‬
‫كنت المقطّر بَزني أثـوابـي‬ ‫وعففتُ عن أثوابه ولَوَ أننـي‬
‫ت دينَ محمد بصواب‬ ‫صرْ ُ‬‫ونَ َ‬ ‫نَصر الحجَارة من سفاهة رَأيه‬
‫ونبيه يا َمعْـشَـرَ الحـزاب‬ ‫ل دينـهِ‬
‫ل تحسبُنّ اللَـهَ خـاذ َ‬
‫في أبيات غير هذه‪ ،‬وبعضُ الرواة َينْفيها عن علي رضي ال عنه‪.‬‬
‫وعمرو هذا هو‪ :‬ابن عبد وُد بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي‪ ،‬وكان قد جَزَع المذاد‪ ،‬وهو موضع حُفر فيه الخندقُ يومَ الحزاب‪،‬‬
‫وفي ذلك يقول الشاعر‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫س يَ ْليَل‬ ‫جَزَع المذادَ وكان فار َ‬ ‫ل فارسٍ‬ ‫عمرو بن ودّ كان أو َ‬
‫ولما صار مع المسلمين في الْخَندَق دعا إلى البراز‪ ،‬وقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫ل مِنْ مُبارِزْ‬‫ء بجمعهم َه ْ‬ ‫ت مـن الـنـدا‬ ‫ححْ ُ‬
‫ولقد بَ ِ‬
‫ع بموقْفِ البَطَلِ ال ُمنَاجِزْ‬ ‫ت إذ نكلَ الـشـجـا‬ ‫ووق ْف ُ‬
‫متسرَعاً نحو الهَـزاهـز‬ ‫إنـي كـذلـك لــم أزلْ‬
‫عةَ في الفتى خيرُ الغرائزْ‬ ‫إنّ السمـاحة والـشـجـا‬
‫ل يدعوك أحدٌ إلى خلتين إلّ أخذت إحداهما‪ ،‬فقال‪ :‬أجل!‬ ‫فبرز علي بن أبي طالب‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬فقال‪ :‬يا عمرو‪ ،‬إنك عاهدت الّ لقريش أ َ‬
‫قال‪ :‬فإني أدعوك إلى ال وإلى رسوله وإلى السلم‪ .‬قال‪ :‬ل حاجَةَ لي بذلك‪ ،‬قال‪ :‬فإني أدعوك إلى المبارزة‪ ،‬فقال‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬ما ُأحِبّ أن‬
‫حبّ أن أقتلك‪ ،‬فحمِيَ عمرو‪ ،‬فاقتحم عن فرسه وعَ ْرقَبه ثم أقبل إلى علي‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫أ ْقتُلَك! قال علي‪ :‬لكني والَِ أُ ِ‬
‫َم ْتنَيهما رِيحاً صَباً وشَمـالِ‬ ‫ل كغمامتين تكنـفـتْ‬ ‫فتجا َو َ‬
‫ل تَـوَ ُردِ الجـالِ‬‫ُت ْبتَ ُز َقبْـ َ‬ ‫س كُماتِه‬ ‫في موقف كادت نفو ُ‬
‫ن عليًّا قتله‪.‬‬ ‫وعلت بينهما غبرة ستر ْتهُما فلم يرع المسلمين إلّ التكبيرة فعلموا أ ّ‬
‫ولما قُتل عمرو جاءت أخته فقالت‪ :‬مَن قتَله؟ فقيل‪ :‬علي بن أبي طالب‪ ،‬فقالت‪ :‬كٌفء كريم! ثم انصرفت وهي تقول‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫لكنت أبكي علـيه آخـ َر البـدِ‬ ‫لو كان قاتلُ عمرو غيرَ قاتـلـهِ‬
‫وكان يُدْعَى قديمًا َبيْضَةَ ا ْلبَـلَـدِ‬ ‫ب بـهِ‬
‫لكنَ قاتلَـه مـن ل يُعـا ُ‬
‫إلى السماء ُتمِيتُ الناسَ بالحسَـدِ‬ ‫عدَة‬‫من هاشمٍ في ذراها وَهْيَ صَا ِ‬
‫مكار ُم الدّينِ والدُنـيا بـل أمَـدِ‬ ‫ل أن يكونَ لـهـم‬ ‫قومٌ أبى الّ إ ّ‬
‫بكا َء ُمعْوِلَةٍ حَرَى عـلـى وَلَـدِ‬ ‫يا أم كلثوم بَـكَـيهِ ول تَـدَعِـي‬
‫ب و َتذُم؛ فمن َمدَح به جعله أصلً‪ ،‬كما أن البيضة أصلُ الطائِرِ‪ .‬ومن ذم به أراد أنْ‬ ‫ح به العر ُ‬
‫أم كلثوم‪ :‬بنت عمرو بن عبد وُد‪ .‬وبيضة البلد َتمْدَ ُ‬
‫ل أصل له‪ .‬قال الراعي يهجو عديّ بن الرقاع العاملي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫متى تهدّدني بالـعـزّ والـعـدَدِ‬ ‫ل بكـثـرتِـهِ‬ ‫جهْ ً‬
‫يا من تَوَعَدني َ‬
‫كعزة العَيْ ِر يَرْعَى تَلْـعَةَ السَـدِ‬ ‫عرْضِي وعزّته‬ ‫أنت امرؤ نال من ِ‬
‫ت من أحدِ‬ ‫س َ‬‫يا ابن الرّقاع ولكن لَ ْ‬ ‫ت من أح ٍد يهجَى هجوتكُـمُ‬ ‫لو كن َ‬
‫وابنا نزارٍ؛ فأنتُ ْم بيْضَةُ الـبـلـدِ‬ ‫تأبى قُضاع ُة أن تَرْضَى لكُمْ نسبـاً‬
‫طعَنُ في نسبه من قحطان‪ ،‬ويقال‪ :‬هو عاملة بن معاوية بن‬ ‫وقال أبو عبيدة‪ :‬عاملة بن عدي بن الحارث بن مرة بن أد بن زياد ابن يشجب‪ ،‬يُ ْ‬
‫قاسط ابن أهيب؛ فلذلك قال الراعي هذا‪ .‬ويقال‪ :‬إن جندل بن الراعي قالها‪ ،‬وقد قال يحيى بن أبى حفصة الموي في عاملة الطويل‪:‬‬
‫صرَى انحدارُها‬ ‫جدَ بها من نحو بُ ْ‬ ‫أَ‬ ‫ولسنا نُبالي نَ ْأيَ عامـلةَ الـتـي‬

‫‪13‬‬
‫ثياب بدا للمشتـرين عَـوَارُهـا‬ ‫تدا َفعَها الحياءُ حتـى كـأنـهـا‬
‫صغَارُهَا‬
‫بسودِ حصًى خَفَتْ عليه ِ‬ ‫ت قَـذْف حـاذف‬ ‫قذفنا بها َلمّا نأ ْ‬
‫ل عنترة بن شداد العبسي الكامل‪:‬‬
‫ل عنه وعففت عن أثوابه قو َ‬ ‫ويشبه قول علي رضي ا ّ‬
‫إن كنتِ جاهل ًة بما لم َتعْلَمي‬ ‫هلّ سألتِ الخيلَ يا ا ْبنَةَ ماِلكٍ‬

‫غشَى الوغَى وأعِف عند الم ْغنَمِ‬


‫أْ‬ ‫شهِ َد الوقيعةَ أنـنـي‬ ‫خبِرك مَن َ‬ ‫يُ ْ‬
‫وقال حبيب بن أوس الطائي البسيط‪:‬‬
‫يومَ الكريهة في المَسْلُوبِ ل السََلبِ‬ ‫إن السُ ْودَ أُسودَ الغابِ ِهمّـتُـهـا‬
‫قد علقت بذيل ما أوْردته‪ ،‬وألحقت بطرف ما جردته‪ ،‬من كلم سيد الولين والخرين‪ ،‬ورسول رب العالمين‪ ،‬صلى ال عليه وسلم وعلى آله‬
‫سبْقِ‪ ،‬وهم كما قال‬ ‫الخيار الطيبين الطاهرين‪ ،‬قطع ًة من كلم الخلفاء الراشدين‪ ،‬قدمتها أمام كلّ كلم‪ ،‬لتقدمهم على ا ْلخَلْق‪ ،‬وأخذهم بقصَبِ ال َ‬
‫ب من‬ ‫بعضُ المتكلّمين يصف قوماً من الزهّاد الواعظين‪ ،‬جَلَوْا بكلمهم البصارَ العليلة‪ ،‬وشحذوا بمواعظهم الذهان الكليلة‪ ،‬ونبهوا القلو َ‬
‫غبَاوة الغَفْلَةِ‪ ،‬وداوَوْا من العيّ الفاضح‪ ،‬ونهجُوا لنا الطريقَ الواضح‪ .‬وآثَرْت أن‬ ‫رَق َدتِها‪ ،‬ونَقَلوها عن سوء عادَتها‪ ،‬فش َفوْا من داء القسوة‪ ،‬و َ‬
‫ألحق بعد ذلك جمل ًة من سليم كلم سائر الصحابة والتابعين‪ ،‬رضي ال عنهم أجمعين‪ ،‬وأدرج في دَرج كلمهم وأثناء نثرِهم ونظمهم‪ ،‬ما التفّ‬
‫عليه والتفّت إليه‪ ،‬وتعلّق بأغصانه‪ ،‬وتشبّثَ بأ ْفنَانِهِ‪ ،‬كما تقدّم‪ ،‬وأخرج إلى صفات البلغات‪ ،‬وآخُذ بعد ذلك في نظم عقود الداب‪ ،‬و َرقْ ِم برود‬
‫اللباب‪ :‬البسيط‪،‬‬
‫حُسنًا و َي ْعبُدُهُ القِرْطَاسُ والقلـمُ‬ ‫ت يَ ْف َهمُه‬
‫من كل معنًى يكاد المي ُ‬
‫من كلم الصحابة والتابعين‬
‫قال معاوية بن أبي سفيان رحمه ال‪َ :‬أفْضَلُ ما أُعْطِيَ الرجلُ العَقْلُ والحلمُ‪ ،‬فإذا ذُكّر ذكَر‪ ،‬وإذا أساء استغفر‪ ،‬وإذا وَعَد أنجز‪.‬‬
‫عتْبة فقال‪ :‬إنه لبعيد الغَوْر‪ ،‬ساكن الفور‪ ،‬وإن العُودَ من ِلحَائه‪ ،‬والولد من آبائه‪ ،‬والّ إنه لنبات أصل ل يخلف‪ ،‬ونجل‬ ‫وصف معاويةُ الوليدَ بن ُ‬
‫فَحْل ل يقرف‪.‬‬
‫ومرض معاوي ُة مرضًا شديداً فأرْجَف به مَصقلة بن هُبيرةَ وساعَده قَ ْومٌ على ذلك‪ ،‬ثم تماثل وهم في إرجافهم‪ ،‬فحمل زياد مَصقلة إلى معاوية‬
‫جمَعُ مرَاقًا من العرّاق فيُ ْرجِفُون بأمير المؤمنين‪ ،‬وقد حملتُه إليه ليَرَى رأيه فيه"‪.‬‬ ‫وكتب إليه‪ :‬إنه يَ ْ‬
‫صقَلة‪ ،‬فقال معاوية‪ :‬مجزوء الكامل‬ ‫ن مني فَدَنا منه‪ ،‬فأخذَ ُه بيده فجذَبه فسقط مَ ْ‬ ‫صقَلة وجلس معاويةُ للناس؛ فلمَا دخل عليه قال‪ :‬ادْ ُ‬ ‫فقدم مَ ْ‬
‫ج ْندَلةِ المرَاجِمْ‬ ‫لك ِمثْلَ َ‬ ‫أبقى الحوادثَ من خلـي‬
‫لُ أبل ممتنِعَ الشـكـائمْ‬ ‫صُلبًا إذا خَار الـرجـا‬
‫لك فامتَ َنعْتُ عن المظالمْ‬ ‫قد رامني العداء قـب‬
‫سمَاً ناقعًا لعدائك‪ ،‬كانت‬ ‫ظ ُم من ذلك بطشاً وحِلماً راجحًا وكلً ومرعًى لوليائك‪ ،‬و ُ‬ ‫ل منكَ ما هو أع َ‬ ‫قال مصقلة‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬قد أبقى ا ّ‬
‫الجاهلية فكان أبوك سيّد المشركين‪ ،‬وأصبح الناس مسلمين؛ وأنت أمي ُر المؤمنين‪ ،‬وقام‪.‬‬
‫طمُني‪،‬‬ ‫حِ‬ ‫فوصله معاوية‪ ،‬وأذن له في النصراف إلى الكوفة‪ .‬فقيل له‪ :‬كيف تَرَكتَ معاوية؟ فقال‪ :‬زعمتم أنه لما به‪ ،‬وال لقد غمزني غمزة كاد يَ ْ‬
‫ج ْذبَة كاد يكسر عُضْوًا مني! ودخل الحنفُ بن قيس على معاوية وافداً لهلِ البصرة‪ ،‬ودخل معه النَمر بن قُطْبة‪ ،‬وعلى النمر عباءة‬ ‫وج َذبَني َ‬
‫ن العباءة ل تكلَمك‪،‬‬ ‫قَطَوَانية‪ ،‬وعلى الحنف مِدرَعَةُ صوف وشَملة‪ ،‬فلمَا مثل بين يدي معاوية اقتح َم ْت ُهمَا عينُه؛ فقال النمر‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬إ ّ‬
‫ظمٌ كسير‪ ،‬مع‬ ‫وإنما يكلمك مَنْ فيها! فأومأ إليه فجلس‪ ،‬ثم أقبل على الحنف فقال‪ :‬ثم مَه؟ فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أهلُ البصرة عدد يسير‪ ،‬وعَ ْ‬
‫ل قد أمْلَق‪ ،‬وبلغ منه المُخنق؛ فإنْ رَأى أميرُ المؤمنين أن ينعشَ الفقيرَ‪،‬‬ ‫ل من الذُحول فالمكْثِ ُر فيها قد أطرق‪ ،‬والمُق ّ‬ ‫تتابع من المُحُول‪ ،‬واتصا ٍ‬
‫جبُرَ الكسير‪ ،‬ويسهل العسير‪ ،‬و َيصْفَح عن الذُحول‪ ،‬و ُيدَاوِي المُحول‪ ،‬ويأمر بالعَطَاء؛ ليكشف البَلَء‪ ،‬ويُزِيل اللواء‪ .‬وإنَ السيدَ من يعم ول‬ ‫ويَ ْ‬
‫عمَادًا َيدْفعُ عنها المُلّمات‪،‬‬ ‫ن يدعو الجَ َفلَى‪ ،‬ول يَدْعُو النَ َقرَى‪ ،‬إنْ أحْسِنَ إليه شكر‪ ،‬وإنْ أسِيءَ إليه غَفَرَ‪ ،‬ثم يكون وراء ذلك لرعيته ِ‬ ‫يخص ومَ ْ‬
‫ويكشفُ عنهم المعضلت‪.‬‬
‫فقال له معاوية‪ :‬ها هنا يا أبا بحر ثم تل‪" :‬وََل َتعْ ِر َفنَهُمْ في لَحْنِ اَلقْوْل"‪.‬‬
‫ومن جميل المحاورات ما رواه المدائني‪ ،‬قال‪َ :‬وفَدَ أهل العِراق على معاوية‪ ،‬رحمه الّ‪ ،‬ومعهم زيادٌ‪ ،‬وفيهم الحنف‪ ،‬فقال زياد‪ :‬يا أميرَ‬
‫جبَرُ به المتخلّف‪ ،‬ويكافُأ به‬ ‫سعَة فضلك ما يُ ْ‬ ‫شخَصَتْ إليك أ ْقوَاماً الرغبةُ‪ ،‬وأقعد عنكَ آخرين العُذْرُ‪ ،‬فقد جعلَ ال تعالى في َ‬ ‫المؤمنين‪ ،‬أَ ْ‬
‫ت بينكم الدعوة‪ ،‬لقد جمعتكم ال َرحِم؛ إن ال اختاركم من الناس ليختارَنا‬ ‫الشاخص‪ .‬فقال معاوية‪ :‬مرحباً بكم يا معشر العرب‪ ،‬أما وال لئن فَ ّر َق ْ‬
‫خ َب ِثهَا؛ فصونوا‬‫س َبكُمْ بأن تخيّر لكم بلداً تجتاز عليها المنازل‪ ،‬حتى صفَاكم من الُمم كما تُصَفّى الفض ُة البيضاء من َ‬ ‫منكم‪ ،‬ثم حفظ عليكم نَ َ‬
‫ن منكم أحسَنُ لِ ُقرْبكم منه‪ ،‬والقبيح منكم أقبح لبعدكم عنه‪.‬‬ ‫أخلقكم‪ ،‬ول تُدنسُوا أنسابَكم وأعراضَكم‪ ،‬فإن الحس َ‬
‫فقال الحنف‪ :‬والّ يا أمير المؤمنين‪ ،‬ما َنعْدَم منكم قائلً جزيلً‪ ،‬ورأياً أصيلً‪ ،‬ووعداً جميلً؛ وإن أخاك زيادًا لمتبعٌ آثارَك فينا‪ ،‬فنستمتع الّ‬
‫بالمير والمأمور‪ ،‬فإنكم كما قال زُ َهيْر‪ ،‬فإنه ألقى على المدَاحين فصول القول‪ :‬الطويل‬
‫تَوَا َرثَهُ آبا ُء آبَـائِهِـ ْم قَـبْـلُ‬ ‫خيْرٍ َأتَوْ ُه فَإنّـمَـا‬
‫ك مِنْ َ‬ ‫وما ي ُ‬
‫و ُتغْ ِرسُ إلَ في َمنَا ِبتِهَا النَخْلُ؟‬ ‫خطَيّ إلّ وَشِيجُهُ‬ ‫ل ُي ْنبِتُ الْ َ‬
‫وهَ ْ‬
‫وهذان البيتان لزهير بن أبي سلمى المزني في قصيدة يقول فيها‪:‬‬
‫َوَأنْ ِديًةٌ يَنتا ُبهَا ا ْلقَوْلُ والْفـعْـلُ‬ ‫حسَانٌ ُوجُو ُههَـا‬ ‫وفيهِمْ مقامَات ِ‬
‫سمَاحَةُ وا ْلبَـذْلُ‬ ‫وعندَ المُقلَينَ ال ّ‬ ‫ن َي ْعتَرِيهِم‬ ‫ق مَ ْ‬ ‫عَلَى ُم ْكثِريهِمْ رزْ ُ‬
‫فلم يفعلوا ولم يُلِيمُوا ولم يَ ْألُـوا‬ ‫ي ُيدْ ِركُوهُم‬ ‫سعَى َب ْعدَهُ ْم قَوْم ِلكَ ْ‬ ‫َ‬
‫عجِبْ بقوله‪ :‬ولم يألوا؛ لنه لما ذكر السعي بعدهم‪ ،‬والتخلّف عن بلوغ مساعيهم‪ ،‬جاز أن يتوهّم السامع أن ذلك‬ ‫قال بعضُ أهل العلم بالمعاني‪ :‬أ ْ‬
‫لتقصير الطالبين في طلبهم؛ فأخبر أنهم لم يألوا‪ ،‬وأنهم كانوا غيرَ مقصرين وأنهم ‪ -‬مع الجتهاد ‪ -‬في المتأخرين؛ ثم لم يَرْضَ بأن يجعل مجدَهُم‬
‫ض أن يكون في الباء حتى جعله موروثاً عن آبائهم‪،‬‬ ‫طارفًا فيهم‪ ،‬ول جديدًا لديهم‪ ،‬حتى جعله إرْثاً عن الباء‪ ،‬يتوا َرثَهُ سائ ُر البناء‪ ،‬ثم لم يَرْ َ‬

‫‪14‬‬
‫وهذا لو تكلفه متكلّف فتي المنثور دون الموزون لما كان له هذا القتدار مع هذا الختصار‪.‬‬
‫ش معجبةً بشعر زُ َهيْر‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنَا قد سمعْنا كلمَ الخطباء والبلغاء‪ ،‬وكل َم ابن أبي سلمى‪ ،‬فما سمعْنا مثلَ‬ ‫وكانت قري ٌ‬
‫كلمه من أحد؛ فجعلوا ابنَ أبي سُ ْلمَى نهايةً في التجويد‪ ،‬كما ترى‪.‬‬
‫و ُذكِرَ أن عم َر بن الخطاب‪ ،‬رضي ال عنه قال‪ :‬إن من أشعر شعرائكم زُهَيراً‪ ،‬كان ل يُعاظل بين الكلم‪ ،‬ول يتبع حُوشيهُ‪ ،‬ول يمدح الرجلَ إل‬
‫بما يكون في الرجال‪.‬‬
‫وأخذ معنى قولِ زُهَير‪:‬‬
‫سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم‬
‫ح بن إسماعيل الثّقَفي‪ ،‬فقال لبي العباس عبد ال بن محمد بن علي السفاح‪ :‬المسرح‬ ‫طُ َريْ ُ‬
‫ج ِهدُوا‬‫يَ ْألُوا فما قَارَبوا و َقدْ َ‬ ‫س ما بلغْتَ ولَم‬ ‫َقدْ طَلبَ النا ُ‬
‫خ َمدُوا‬‫لحَ له ْم ِمنْكَ بارقٌ َ‬ ‫فهم مُلوك ما لم يَرَ ْوكَ‪ ،‬فإن‬
‫جنَة الصَ ِردُ‬ ‫قُ ْر ِقفَ تحت الد ُ‬ ‫عدَ ٌة لديكَ كـمـا‬ ‫تعروهُمُ رِ ْ‬
‫ل كَسَاكَهُ الصّمـدُ‬ ‫لً‬‫لكن ج َ‬ ‫ل خوفَ ظُلم ول قِلَى خُلُق‬
‫يفقدْ من العالمين مفتـقـدُ‬ ‫ما يُبقك الَُ للنـام فَـمـا‬
‫وقال معاوية رحمه الّ‪ :‬المروءةُ‪ :‬احتمال الجريرة‪ ،.‬وإصلحُ أمر العشيرة؛ والنبلُ‪ :‬الحلم عند الغضب‪ ،‬والعفوُ عند المقدرة‪.‬‬
‫ل مَنْ ظَلَم مَنْ هُو دُونَهُ‪ .‬أولى الناس بالعَفْوِ‬ ‫ج ْنبِه حق ُمضَيع‪ .‬أ ْنقَصُ الناسِ عَقْ ً‬ ‫ت تبذيراً قطُ إلّ وإلى َ‬ ‫فِقَر من كلمه رضي ال عنه‪ :‬ما رأي ُ‬
‫أقدرُهم على العقوبة‪ .‬التسلُط على المماليك مِنْ لُ ْؤمِ المقدرة وسوء المملكة‪.‬‬
‫حسُنَ أ َدبُ رجل إلّ ساء أدبُ غِلْمانه‪.‬‬ ‫وقال يحيى بن خالد‪ :‬ما َ‬
‫ن أمْلِك‪ ،‬وما غضبِي على مَنْ ل َأمْلِك؟‬ ‫ضبِي على مَ ْ‬ ‫غ َ‬‫ح ما في يدك أسْلَم من طلب ما في أيدي الناس‪َ .‬‬ ‫وقال معاوية‪ :‬صل ُ‬
‫ي معاويةُ رحمه ال واستُخْلِف يزيدُ ابنه اجتمع الناسُ على بابه‪ ،‬ولم يقدروا على الجمع بين تهنئة وتعزية‪ ،‬حنى أتى عبدُ ال بن همام‬ ‫ولما تُ ُوفّ َ‬
‫جرَك ال على الرزية‪ ،‬وبارك لك في العطية‪ ،‬وأعانك على الرعيّة‪ ،‬فقد رُزئتَ عظيماً‪ ،‬وُأعْطِيتَ‬ ‫السّلولي‪ ،‬فدخل عليه فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬آ َ‬
‫حتَ خِلفة ال؛ ففارقتَ جليلً‪ ،‬وَوُ ِهبْتَ جزيلً؛ إذْ‬ ‫شكُرِ الّ على ما أُعطيت‪ ،‬واصبرْ له على ما رُزِيت؛ فقد فقدتَ خليفة ال‪ ،‬و ُمنِ ْ‬ ‫جسيماً‪ ،‬فا ْ‬
‫ل ذَ ْنبَه؛ وولَيت الرياسة‪ ،‬فأُعطيت السياسة؛ فأوردك الّ موا ِردَ السرور‪ ،‬ووفقك لصالح المور‪ ،‬وأنشده‪ :‬البسيط‬ ‫قضى مُعاوِيةُ نَحْبه‪ ،‬فغفر ا ّ‬
‫حبَاء الذِي بالمُ ْلكِ أصْفاكا‬ ‫شكُرْ ِ‬‫وا ْ‬ ‫صبْرْ‪ ،‬يَزيدُ‪ ،‬فقد فارقْتَ ذا ثـقة‬ ‫ا ِ‬
‫كما رُزِئتَ ول عُ ْقبَى كعُقْباكـا‬ ‫ل رُ ْزءَ أَصبَح في القوام َنعْلَمه‬
‫فَأنْتَ ترْعا ُهمُ واللّـ ُه يَرْعـاكـا‬ ‫حتَ واليَ أمرِ الناسِ كلهـم‬ ‫أصْب ْ‬
‫إذا نُعيتَ ول نسم ْع ب َمنْـعَـاكـا‬ ‫وفي معاويةَ الباقِي لنا خَـلـفٌ‬
‫ي بعد أبيه شهوراً‪ ،‬ثم انخلع عن المر‪ ،‬فقال لقائل‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫يريد أبا ليلى معاوية بن يزيد‪ ،‬ووَل َ‬
‫ك بعد أبي ليلى لمن غلبا‬ ‫والمل ُ‬
‫ن فتَحَ الباب في الجمع بين تهنئة وتعزية عبدُ ال بن همام‪ ،‬فَوَلجه الناس‪ ،‬ومن جيّد ما قيل في ذلك قصيدةُ أبي تمام الطائي يمدح الواثقَ‬ ‫وأول مَ ْ‬
‫ويرثي المعتصم‪ ،‬يقول فيها‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫قدَرٌ فما زالتِ هِضابُ شمـامِ‬ ‫ت ُقدْسَ أزالها‬ ‫حتْ هضبا ُ‬ ‫إن أَصْب َ‬
‫َدفَعَ اللهُ لنا عن الـصّـمـام‬ ‫أو يُفْتقدْ ذو النون في ال َهيْجَا فقد‬
‫سمَى غَـاربٍ وسـنـام‬ ‫رُحْنا بأ ْ‬ ‫أو كنت منا غاربا غدوا فـقـد‬
‫وال َقسْمُ ليس كسائرِ القـسـام‬ ‫تلك الرزيّة ل رزية مثـلـهـا‬
‫وهذا المعنى كثير‪.‬‬
‫وكان معاوية‪ ،‬رحمه ال‪ ،‬قد تركَ قولَ الشعرِ في آخر عمره‪ ،‬فنظر يوماً إلى جاريةٍ في داره ذات خَلْق رائع‪ ،‬فدعاها فوجدها بِكراً فافترعها‪،‬‬
‫وأنشأ يقول‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وفيّ عَلَى تحمّليَ اعتراضُ‬ ‫سئمت غوايتي فَأرَحْتُ حِلمي‬
‫ذواتُ الذَلّ والْحَدق المِراضُ‬ ‫عتْـنـي‬
‫على أني أجيب إذا دَ َ‬
‫فِقرُ لجماعة الصحابة والتابعين‬
‫رضي الّ عنهم‬
‫ابن عباس‪ :‬الرخصة من ال صدقة‪ ،‬فل تردُوا صدقته‪ .‬لكل داخل هيبة فابدأُوه بالتحية‪ ،‬ولكل طاعم حشمة فابدأُوه باليمين‪.‬‬
‫ابن مسعود رحمه الّ‪ :‬الدنيا كلها همومٌ‪ ،‬فما كان منها في سرور فهو ربح‪.‬‬
‫عمرو بن العاص‪ :‬مَن كثر إخوانه َكثُر غُرَماؤه‪ .‬وقال‪ :‬أكْ ِرمُوا سفهاءَكم‪ ،‬فإنهم يكفونكم العارَ والنار‪.‬‬
‫شمَة‪ .‬في كل شيء سَرَف إلَ في المعروف‪.‬‬ ‫المغيرة بن شعبة‪ :‬العيشُ في بقاء الْحِ ْ‬
‫ق في دخول ابنته بُورَانَ على المأمون أموالً عظيمة ‪ -‬فقيل له‪ :‬ل خيرَ في السرف‪ .‬قال‪ :‬ل سَرَف في‬ ‫هذا كقول الحسن بن سهل ‪ -‬وقد َأنْفَ َ‬
‫الخير‪َ .‬ف َردّ اللَفْظَ واستوفى المعنى‪.‬‬
‫مُعاذ بن جبل‪ :‬الدَين َهدْم الدَينِ‪.‬‬
‫ي ولي ًة بعُشْر ودَه قبلها‪.‬‬ ‫زياد‪ :‬اِرضَ من أخيك إذا وُلّ َ‬
‫مصعب بن الزبير‪ :‬التوَاضع من مصايد الشرف‪.‬‬
‫ن َد ِمكَ‪.‬‬‫سمِعَ كلماتٍ! وقيل له‪ :‬مَن السيد؟ قال‪ :‬الذي إذا َأ ْقبَل هابوه‪ ،‬وإذا أَدبَر عَابُوه‪ .‬وله‪ :‬سِرُك مِ ْ‬ ‫الحنف بن قيس‪ :‬من لم يصبِرْ على كلمة َ‬

‫‪15‬‬
‫عدَت هفواته‪.‬‬ ‫سرّع إلى الناس بما َيكْرَهون قالوا فيه ما ل َيعْلَمون‪ .‬وله‪ :‬الكامل مَنْ ُ‬ ‫وله‪ :‬مَنْ تَ َ‬
‫وقال يزيد بن محمد المهلبي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫كَفَى المرء ُنبْلً أن ُت َعدّ َمعَايبُهْ‬ ‫سجَاياه كلُها‬ ‫من ذا الذي تُرضَى َ‬
‫ن كلّفك إجللَه‪ ،‬ومنعك مَالَه‪.‬‬ ‫حيُونَ من طول ما ل تستحيون؟ ابنُ آدمَ راحِل إلى الخرة كل يوم مرحلة‪ .‬ما َأنْصَفَك مَ ْ‬ ‫س َت ْ‬
‫الحسن البصري‪ :‬ألَ تَ ْ‬
‫بدن ل يشتكي مثل مَال لَ يزكى‪ .‬إن امرأ ليس بينه وبين آدَمَ أبٌ حي ل ُمعْرِق في الموتى‪.‬‬
‫قال الطائيّ‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إلى آدم أو هل ُتعَ ُد ابنَ سالمِ؟‬ ‫تأمَلْ رويداً هل َتعُدّنّ سالمـاً‬
‫وقال أبو نواس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وذو نسبٍ في الهالكين عريقِ‬ ‫وما الناسُ إلَ هالكٌ وتبنُ هالكٍ‬
‫له عن عدوّ في ثيابِ صديقِ‬ ‫إذا ا ْمتَحَنَ الدنيا لبيب تكشّفَـتْ‬
‫عدَت هذا البيت؛ وهو مأخوذ من قول مُزَاحم العقَيلي‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وكان المأمون يقول‪ :‬لو قيل للدنيا‪ :‬صِفي نفسك ما َ‬
‫سهُمِ أعداءً وهُنّ صـديقُ‬ ‫بَأ ْ‬ ‫ضيْنَ الهوى ثم ار َتمَينَ قلو َبنَا‬ ‫قَ َ‬
‫عمر بن عبد العزيز رحمه الّ‪ :‬ما الجزع مما ل بد منه؟ وما الطمع فيما ل يرجى؟ ل تكن ممن يلعن إبليس في العلنية ويواليه في السر‪.‬‬
‫ستَحْيي من الحقّ إذا عرفتُهُ َألّ أرجعَ إليه‪.‬‬ ‫الشعبي‪ :‬إني ل ْ‬
‫بعض ما قاله أهل البيت‬
‫قطعة من كلم لبني علي بن أبي طالب أهْلِ البيتِ رضي الّ عنهم‪ :‬أهلِ الفضل والحسان‪ ،‬وتلوة القرآن‪ ،‬ونبعة اليمان‪ ،‬وصُوَامِ شهر‬
‫ل نورَ الشمس والبدر‪،‬‬ ‫ح قلئ َد الدُر‪ ،‬و ُيخْجِ ُ‬ ‫حفَظُ على وَجْهِ الدهر‪ ،‬ويَ ْفضَ ُ‬ ‫رمضان ولهم كلم يعرض في حَلْي ال َبيَانِ‪ ،‬و ُينْقَش في فصّ الزمان‪ ،‬ويُ ْ‬
‫حجْر العلم‪:‬‬‫ول َم ل يطأون ذُيولَ البلغة‪ ،‬ويَجرُون فضولَ البراعة‪ ،‬وأبوهم الرسولُ‪ ،‬وُأمّهم البتول‪ ،‬وكلّهم قد غُذي بدَرّ الحُكم‪ ،‬و ُربّيَ في ِ‬
‫الكامل‪:‬‬
‫شرٌ بالَحْ َوذِيةِ مُؤدَمُ‬‫أو مُبْ َ‬ ‫حجَى‬ ‫ما منهُمُ إلَ ُمرَبى بال ِ‬
‫آخر‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫سبِ الصْ َرحِ الوْضَح‬ ‫إلى النّ َ‬ ‫َنمَتْهُ العَرانين مِـنْ هـاشِـمٍ‬
‫و َمغْ ِرسُها في ذُرَى البْطَـحِ‬ ‫إلى َن ْبعَة فرْعُها في السمـاء‬
‫وهم كما قال مسلم بن بلل العبدي ‪ -‬وقد قيل له‪ :‬خطب جعفرُ بن سليمان خطبةً لم يرَ أحسن منها‪ ،‬فل يُدرى أوَجهه أحسن أم خطبته؛ فقال‪:‬‬
‫أولئك قوم بنور الخلفة يُشْرِقون‪ ،‬وبلسان النبوّة ينطقون‪ ،‬وفيهم يقول القائل‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ج ْدتُه منهمْ علـى أمـيالِ‬ ‫َلوَ َ‬ ‫جدٍ َقبَْلهُمْ‬ ‫ف مَ ْ‬
‫جدُ عَ ْر ُ‬‫ن يُو َ‬ ‫لو كا َ‬
‫كَرَمًا يَقيكَ موَاقفَ التّسْـآلِ‬ ‫ن بيوتِهِمْ‬ ‫إن جئ َتهُم أبْصَرْت بي َ‬
‫متوقّد في الشّيبِ والطفـالِ‬ ‫نو ُر النبوّة والمكارم فـيهـمُ‬
‫ن دونه‪ .‬فقال‪ :‬معاوية وابنُه‪ ،‬وسعيد‬ ‫ل سعيد بن المسيب‪ :‬مَنْ أبلغُ الناس؟ فقال‪ :‬رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال السائل‪ :‬إنما أعني مَ ْ‬ ‫سئِ َ‬
‫وُ‬
‫عنَيت من‬ ‫ي وابنه‪ ،‬وعباس وابنه؟ فقال‪ :‬إنما َ‬ ‫ت من عل ّ‬ ‫ن ابنَ الزبير لحسَنُ الكلم‪ ،‬ولكن ليس على كلمه ملح‪ .‬فقال له رجل‪ :‬فأين أن َ‬ ‫وابنه‪ ،‬وإ َ‬
‫حكّامُ السلم‪.‬‬ ‫تقا َربَتْ أشكالُهم‪ ،‬وتدانَتْ أحوالُهم‪ ،‬وكانوا كسهَامِ الجَعبَةِ‪ ،‬وبنو هاشم أعلمُ النامِ‪ ،‬و ُ‬
‫فصل لبي عثمان عمرو بن بَحْرٍ الجاحِظِ‬
‫في ذكر قريش‪ ،‬وبني هاشم‬
‫ف كَ َرمُ قريش وسخاؤها‪ ،‬وكيف عقولها ودهَاؤُها‪ ،‬وكيف رَأُيها وذكاؤها‪ ،‬وكيفَ سياستها وتدبيرُها‪ ،‬وكيف إيجازُها وتحبيرها‪،‬‬ ‫قد علم الناسُ كي َ‬
‫صبْرُها عند اللقاء‪ ،‬وثباتها في اللْواء‪ ،‬وكيف وفاؤُها إذا استحْسِن‬ ‫وكيف رجاحةُ أحلمها إذا خفّ الحليم‪ ،‬وحدّةُ أذهانها إذا كَل الحديد‪ ،‬وكيفَ َ‬
‫صدِ‪ ،‬وكيف إقرارُها بالحق‪ ،‬وصفها عليه‪ ،‬وكيف‬ ‫ث غدٍ وقلّة صدودِها عن جهة القَ ْ‬ ‫ف ذِكرها لحادي ِ‬ ‫حبّ المالَ‪ ،‬وكي َ‬ ‫ال َغدْرُ‪ ،‬وكيفَ جُودُها إذا ُ‬
‫وصفُها له‪ ،‬ودعاؤها إليه‪ ،‬وكيف سماحة أخلقها‪ ،‬وصونُهَا لعراقها‪ ،‬وكيف وصلوا قديمَهم بحديثهم‪ ،‬وطريفَهم بتليدِهم‪ ،‬وكيف أشبه علنيتَهم‬
‫سرّهم‪ ،‬وقولَهم ِفعْلُهم‪ .‬وهل سلمةَ صدرِ أحدهم إلَ على قدر ُب ْعدِ غورِه؟ وهل غفلته إلَ في وزن صدق ظنّه‪ ،‬وهل ظنّه إل كيقين غيره؟ وقال‬
‫عمر‪ :‬إنك ل تنتفع بعقله حتى تنتفع بظنّه‪.‬‬
‫حجَر‪ :‬المنسرح‪:‬‬ ‫قال أوس بن َ‬
‫س ِمعَا‬‫ن َقدْ رَأى وقّد َ‬ ‫ن كأ ْ‬ ‫ال ْلمَعي الذي يَظنّ لك الظّ‬
‫وقال آخر‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫حدّثُ بالغائبِ‬ ‫فصيح يُ َ‬ ‫مليح نجيح أخُو مازنٍ‬
‫وقال بلعاء بن قيس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت مَقَادِرُه‬ ‫ش ْ‬ ‫إذَا طاش ظَن ا ْلمَرء طا َ‬ ‫وََأبْغي صَوَابَ الرًأي أعْـلَـمُ أنـهُ‬
‫بل قد علم الناس كيف جمالُها وقَوامُها‪ ،‬وكيف نماؤُها وبهاؤها‪ ،‬وكيف سَروها ونَجابتُها‪ ،‬وكيف بيانُها وجَهارتها‪ ،‬وكيف تفكيرها وبدَاهتها‪،‬‬
‫ح وبنو هاشم سرّها ولبها‪ ،‬وموضع غاية الدين والدنيا منها‪ ،‬وبنو هاشم مِلح الرض‪ ،‬وزينة الدنيا‪،‬‬ ‫فالعرَب كال َبدَن وقريشٌ روحها‪ ،‬وقريش رو ٌ‬
‫عنْصُرِ شريف‪ ،‬والطينة البيضاء‪ ،‬والمغْرسُ المبارك‪،‬‬ ‫وحلى العالم‪ ،‬والسنام الضخم‪ ،‬والكاهل العظم‪ ،‬ولُبابُ كل جوهر كريم‪ ،‬وسِرُ كل ُ‬
‫والنّصاب الوثيق‪ ،‬و َمعْدن الفهْم‪ ،‬وينبوع العلْم‪ ،‬وثهْلن ذو الهضاب في الْحِلم‪ ،‬والسيفُ ا ْلحُسام في العَزْم‪ ،‬مع الناة والْحزْم‪ ،‬والصفح عن‬
‫خفَى‬
‫الجرم‪ ،‬والقصد عند المعرفة‪ ،‬والعفو بعد المقدرة‪ ،‬وهم النْفُ المقدّم‪ ،‬والسّنام الكرم‪ ،‬وكالماء الذي ل ينجسه شيء‪ ،‬وكالشمس التي ل تَ ْ‬
‫حيْرَان‪ ،‬والبارد للظمآن‪ ،‬ومنهم الثّقلن‪ ،‬والشهيدان‪ ،‬والطيبان‪ ،‬والسبطان‪ ،‬وأسد ال‪ ،‬وذو‬ ‫بكل مكان‪ ،‬وكالذّهب ل ُيعْرَفُ بالنقصان‪ ،‬وكالنجم لل ً‬
‫سيّد الوادي‪ ،‬وساقي الحَجِيج‪ ،‬وحَلِيم البطحَاء‪ ،‬والبَحْر‪ ،‬والحبر‪ ،‬والنصار أنصارهم‪ ،‬والمهاجرون مَنْ هاجر إليهم أو‬ ‫حيْن‪ ،‬وذو قَ ْر َنيْها‪ ،‬و َ‬ ‫الْجَنا َ‬
‫ش ِهدَ لهم‪ ،‬ول خيرَ إلّ لهم‬ ‫معهم‪ ،‬والصدّيق مَنْ صدقهم‪ ،‬والفاروق من فَرّق بين الحقّ والباطل فيهم‪ ،‬والحواريُ حواريّهم‪ ،‬وذو الشهادتين لن َ‬

‫‪16‬‬
‫أو فيهم أو معهم‪ ،‬أو يُضاف إليهم‪ ،‬وكيف ل يكونُون كذلك ومنهم رسولُ رب العالمين‪ ،‬إمامُ الولين والخرين‪ ،‬ونجيبُ المرسلين‪ ،‬وخاتَ ُم‬
‫النبيين‪ ،‬الذي لم يت ّم لنبي ُنبَوّة إلَ بعد التصديق به‪ ،‬والبشارة بمجيئه‪ ،‬الذي عم برسالته ما بين الخافِقين‪ ،‬وأظهره ال على الدين كلّه ولَو كَرِهَ‬
‫المُشْ ِركُون؟‪.‬‬
‫ب مَسِيرٍ لك في غيرِ طاعة ال! قال‪ :‬أمّا مَسِيري إلى أبيك فليس من ذلك!‬ ‫قال الحسن بن علي‪ ،‬عليهما السلم‪ ،‬لحبيب بن مسلمة الْف ْهرِي‪ :‬رُ ّ‬
‫قال‪ :‬بلى! أطعت فلناً على دنيا يسيرة‪ ،‬ولعمري لئن كان قام بّك في دنياك لقد قعد بك في دينك‪ ،‬فلو أنك إذْ فعلتَ شرّا قَلتَ خيراً كنت كمن قال‬
‫سبُونَ"‪.‬‬
‫علَى قُلو ِبهِمْ ما كانوا يَكْ ِ‬
‫ل بَل رَانَ َ‬‫ب عليهِمْ" ولكنك كما قال‪" :‬كَ َ‬ ‫لّ أن َيتُو َ‬
‫خرَ سَيئاً عسى ا ُ‬ ‫عمَلً صالحاً وآ َ‬ ‫ال عزّ وجلّ‪" :‬خََلطُوا َ‬
‫ل كثيراً فقيل له‪ :‬أ ُتعْطِي شاعرًا َيعْصِي الرّحْمن‪،‬‬ ‫وكان الحسن عليه السلم جواداً‪ ،‬كريماً‪ ،‬ل يردّ سائلً؛ ول يَقْطَع نائلً‪ ،‬وأعْطى شاعراً ما ً‬
‫ن من ابتغاءِ الخيرِ اتقاءَ الشرّ‪.‬‬ ‫عرْضَك‪ ،‬وإ ّ‬ ‫ت به ِ‬ ‫خيْرَ ما بَذلْتَ من مالك ما َو َقيْ َ‬ ‫ويطيع الشيطان‪ ،‬ويقول ال ُب ْهتَانَ؟ فقال‪ :‬إنّ َ‬
‫خفْتُ أن يقولَ‪ :‬لست ابن‬ ‫ل ثوابَه‪ ،‬فليمَ على ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬أتَرَاني ِ‬ ‫ل ذلك عن الحسين‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬وقيل‪ :‬إنّ شاعرًا مدحه فأجْزَ َ‬ ‫وقد روى مث ُ‬
‫خفْتُ أن يقول‪ :‬لست كرسول الّ‪ ،‬صلى ال عليه‬ ‫فاطمة الزهراء بنت رسول ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول ابن علي بن أبي طالب! ولكني ِ‬
‫ل يا ْبنَ‬ ‫ل عنه‪ ،‬ويبقى مُخَلّداً في الكتب‪ ،‬محفوظاً على ألسنة الرُواة‪ .‬فقال الشاعر‪ :‬أنت وا ّ‬ ‫حمَ َ‬
‫صدّقَ‪ ،‬ويُ ْ‬
‫وسلم‪ ،‬ول كعليّ‪ ،‬رضي ال عنه؛ فيُ َ‬
‫رسول ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أعرفُ بالمدح والذ ّم مني‪.‬‬
‫ع ْينَاه‬‫ولما تُوفّي الحسن أدخله َقبْرَه الحسينُ ومحمدُ بن الحنفيّة وعبدُ ال بن عباس رضي ال عنهم‪ ،‬ثم وقف محمدٌ على قبره وقد اغْرَ ْو َرقَتْ َ‬
‫س ٌد تض َمنَه كَ َفنُك‪،‬‬ ‫سدُ‪ ،‬ج َ‬‫ح تض ّمنَه َب َد ُنكَ؛ ولنعم الج َ‬‫عزَتْ حياتك‪ ،‬لقد َهدَتْ وفا ُتكَ‪ ،‬ولَنعْمَ الرُوحُ‪ ،‬رُو ٌ‬ ‫ح َمكَ الُّ أبا محمد! فلئن َ‬ ‫بالدموع‪ ،‬وقال‪ :‬رَ ِ‬
‫جدّك النبيّ المُصْطَفى‪،‬‬ ‫خلَفُ أَهْلِ التقى؟ َ‬ ‫ح ُدكَ‪ ،‬وكيف ل تكون كذلك وأنت سليلُ الهدى‪ ،‬وخا ِمسُ أصحابِ الكِسَاء‪ ،‬و َ‬ ‫ن تضمّنه لَ ْ‬ ‫ولنعْمَ الكَفَنُ‪ ،‬كَفَ ٌ‬
‫جرِ السلم‪ ،‬ورضعت‬ ‫غذَ ْتكَ َأكُفّ الحقّ‪ ،‬وَ ُربّيت في حِ ْ‬ ‫وأبوك عليّ المرتضَى‪ ،‬وُأمُك فاطمةُ الزهراء‪ ،‬وعمّك جعفر الطيار في جنّة المَأْوى‪ ،‬و َ‬
‫شبَابِ أهل الجنة‪ ،‬فعليكَ‬ ‫لنْفُس غيرَ طَيبةٍ لفراقك؛ إنها غيرُ شاكّةٍ أنْ قد خِيرَ لَك‪ ،‬وإنك وأَخاك لَسَيدَا َ‬ ‫طبْتَ حيًّا وميتاً؛ فلئن كانت ا َ‬ ‫ثَدْيَ اليمان‪ ،‬ف ِ‬
‫يا أبا محمد منا السلم‪.‬‬

‫حمََلتْ إلى هذا القبر وَلياً‬ ‫وقام رجلٌ من ولد أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب على َقبْرِهِ‪ ،‬فقال‪ :‬إن أقدامَكم قد َنقَلَت‪ ،‬وإنّ أعناقكم قد َ‬
‫س به سادةُ أهل الجنة من ُأمّته‪،‬‬ ‫ي ال بمقدمه‪ ،‬و ُتفَتحُ أبوابُ السماء لروحه‪ ،‬وتبتهجُ الحورُ العِين بلقائه‪ ،‬ويَأنَ ُ‬ ‫ل ُيبَشَ َر نب ّ‬
‫من أولياء ا ّ‬
‫ب المصيب ُة به‪.‬‬ ‫س ُ‬
‫حتَ َ‬
‫ل عليه‪ ،‬وعنده ت ْ‬ ‫حجَا والدين فَ ْقدُه‪ ،‬رحمة ا ّ‬ ‫ويوحِش أهلَ ال ِ‬
‫ألفاظ لهل العصر في‬
‫ذكر المصيبة بأبناء النبوّة‬
‫قد نُعيَ سليل من سُللة النبوة‪ ،‬وفَ ْرعٌ من شجرة الرسالة‪ ،‬وعُض ٌو من أعضاء الرسول‪ ،‬وجز ٌء من أجزاء الوصِيَ وال َبتُول‪ .‬كتبت وليتني‬
‫صدَاره‪ ،‬ومخبر أنّ شمس الكرم وَاجِبة‪ ،‬والمآثر مودّعة‪ ،‬وبقايا‬ ‫ما كتبت وأنا ناعِي الفضل من أقطاره‪ ،‬وداعي المجدِ إلى شَق ثوبِهِ و ِ‬
‫ت يمينُ الدَهْر‪ ،‬وفُقئت عينُ‬ ‫ن منخذِلٌ واجم‪ ،‬وللتقوى دَ ْمعَان هامٍ وساجم‪ .‬كتابي وقد شلّ ْ‬ ‫ل المامة منقطعة‪ ،‬والدي َ‬ ‫النبوَة مرتفعة‪ ،‬وآما َ‬
‫ج َددَ المصائب‪ ،‬واستعادَ‬ ‫خسِفَ قمر المعالي‪ ،‬وتجدَدَ في بيت الرسالة رُزْء َ‬ ‫سفَت شمسُ المساعي‪ ،‬و ُ‬ ‫صرَ باعُ الفضْل‪ ،‬وكُ ِ‬ ‫المجد‪ ،‬وقَ ُ‬
‫ت َبيْتَ الرسالة‪ ،‬وغضت‬ ‫النوائب؛ كل هذا لف ْق ِد من حَط الكرمُ ب َر ْبعِه‪ ،‬ثم أدرج في بُ ْردِه‪ ،‬وامتزج المج ُد به‪ ،‬فدفِنَ ب َد ْفنِه‪ ،‬إنها لمصيبةٌ عم ْ‬
‫جتَه والمجدُ َي ْندُب َبهْجَته‪ ،‬ومهابط‬ ‫طرْف المامة‪ ،‬وتحيفت جانبَ ال َوحْي المنزَل‪ ،‬وذكَرت بموت النبي المرسل‪ .‬كتبت والده ُر ينعي مه َ‬ ‫َ‬
‫ث قضاء الّ استأثر ب َف ْرعِ‬ ‫الوَحْي والرسالة تُحْني ظهورَها أَسفا‪ ،‬ومآقي المامة والوصية والرسالة ُتذْري دموعَها لهفاً؛ وذلك أن حاد َ‬
‫النبوة‪ ،‬وعنصر الدين والمروءة‪.‬‬
‫عود إلى بعض ما قاله أهل البيت‬
‫س بينَهما بال ّنمَائِم‪ ،‬فكتب إليه محم ُد بنُ الحنفية‪ :‬أمّا بعد‪ ،‬فإن أبي وأباك عليُ بن أبي‬ ‫ووقع بينَ الحسنِ ومحمد بن الحنفية لِحاء‪ ،‬ومشَى النا ُ‬
‫طالب؛ ل تفضُلني فيه ول أفضُلك‪ ،‬وأُمي امرأ ٌة من بني حَنيفة‪ ،‬وُأمّك فاطمةُ الزّهراء بنتُ رسولِ ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلو مُِلئَتْ‬
‫ض بمثل أُمي لكانت أمُك خيراً منها؛ فإذا قرأتَ كتابي هذا فا ْقدَمْ حتى تترضاني‪ ،‬فإنك أحق بالفضل مني‪.‬‬ ‫الر ُ‬
‫وخطب الحسين بنُ عليً‪ ،‬رضوان ال عليهما‪ ،‬غداةَ اليوم الذي استُش ِهدَ فيه‪ ،‬فحمدَ ال تعالى وأثنى عليه؛ ثم قال‪ :‬يا عبادَ الِّ‪ ،‬اتقُوا الََ‪،‬‬
‫حذَر؛ فإنّ الدنيا لو َب ِقيَتْ على أحد أو بقي عليها أحد لكانت النبياءُ أحق بالبقاء‪ ،‬وأوْلى بالرَضاء‪ ،‬وأ ْرضَى‬ ‫وكونوا من الدنيا على َ‬
‫ل تَلْعة‪ ،‬ودا ُر قُلْعة؛ فتزوّدوا فإنّ‬ ‫ضمَحِلٌ‪ ،‬وسرورُها ُمكْ َفهِرٌ‪َ ،‬منْزِ ُ‬ ‫خلَق الدنيا للفناء‪ ،‬فجديدُهَا بالٍ‪ ،‬ونعيمُها مُ ْ‬ ‫ل تعالى َ‬ ‫بالقضاء؛ غيرَ أنّ ا ّ‬
‫خيرَ الزادِ التقوى‪ ،‬واتَقُوا الَ لعلكم تُفْلِحون‪.‬‬
‫ن من أُمور الناس وقريش‪ ،‬فكتب إليه‪ :‬إنّ الحسين بنَ علي أعتْقَ جاريةً له‬ ‫ن بالمدينة يكتبُ إليه بما يكو ُ‬ ‫عيْ ٌ‬
‫وكان لمعاوية بن أبي سفيان َ‬
‫ب معاويةُ إلى الحسين‪ :‬مِنْ أمير المؤمنين معاوية إلى الحسين بن عليّ‪ .‬أمَا بعد‪ ،‬فإنه بلغني أنك تز َوجْتَ جاري َتكَ‪ ،‬وتركْتَ‬ ‫وتزوّجها؛ فكت َ‬
‫ظرْتَ‪ ،‬ول لِوََل ِدكَ انتقَيتَ‪.‬‬ ‫سكَ ن َ‬ ‫صهْر‪ ،‬فل لنَ ْف ِ‬ ‫جبُهُ للولد‪ ،‬وتمجد به في ال ّ‬ ‫ستَنْ ُ‬
‫أكْفاءَك من قريش‪ ،‬ممَنْ ت ْ‬
‫س فَوْقَ رسول‬ ‫ن قُرَيش‪ ،‬فلي َ‬
‫ت أكْفائي مِ ْ‬‫سيْن بن علي‪ :‬أمَا بعد‪ ،‬فقد بلغني كتابُك‪ ،‬و َت ْعيِي ُركَ إياي بأني تز َوجْتُ مولتي‪ ،‬وترك ُ‬ ‫فكتب إليه الحُ َ‬
‫ك يميني‪ ،‬خرجَتْ عن يدي بأمرٍ التمستُ فيه ثوابَ ال تعالى‪ ،‬ثم ارتجعتُها على‬ ‫ال من َتهًى في شرَف‪ ،‬ول غاية في نسب؛ وإنما كانت مِ ْل َ‬
‫سن ِة نبيه‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد رفع الَُ بالسلم الخسيسة‪ ،‬ووضع عنّا به النقيصةَ؛ فل لَ ْومَ على امرئ مسلم إلَ في أمرِ مأثم‪ ،‬وإنما‬
‫اللومُ َلوْمُ الجاهلية‪.‬‬
‫خ َر عليك الحسين! قال‪ :‬ل‪ ،‬ولكنها ألسن ُة بني هاشم الحِداد التي تَ ْفلِقُ الصَخْرَ‪،‬‬ ‫شدَ ما فَ َ‬‫فلمّا قرأ معاوية كتابَهُ َنبَذهُ إلى يزيد فقرأه‪ ،‬وقال‪ :‬لَ َ‬
‫و َتغْرِفُ من البحر! والحسين ‪ -‬رضي الّ عنه! ‪ -‬هو القائل‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫س َكيْنَةُ وَالرّبابُ‬
‫حلّ بها ُ‬‫تَ ُ‬ ‫ك إنّني لُحِب دَاراً‬ ‫َل ْعمْ ُر َ‬
‫عتَابُ‬
‫عنْدِي ِ‬ ‫وليس للئمٍ ِ‬ ‫ُأحِبهما وَأبْذُل كل مَالـي‬

‫‪17‬‬
‫سكينة‪ :‬ابنته‪ ،‬والرباب‪ :‬أمُها‪ ،‬وهي بنت امرئ القيس بن الجرول الكلبية‪.‬‬
‫ل بن أبي ربيعة المخزومي كذبًا عليها‪:‬‬ ‫وفي سُكينة يقول عمر بن عبد ا ّ‬
‫جرِي على الخ َديْنِ والْجِلْبابِ‬ ‫تْ‬ ‫ع ذَوَارِفٌ‬ ‫س َك ْينَةُ والدمـو ُ‬ ‫قالت ُ‬
‫صّيدِي وطِلبـي‬ ‫فيما أطال تَ َ‬ ‫ليتَ ال ُمغِيرِيَ الذي لَمْ أجْـزه‬
‫إذ ل نُلَمُ علَى هوًى وتصابي‬ ‫كانت تردُ لنا ا ْل ُمنَـى أيّامـنـا‬
‫يُرْمى الحشا بنوا ِفذِ النّشـابِ‬ ‫ت َفبِتُ كأنـمـا‬ ‫ت مَا قال ْ‬ ‫خُب ْر ُ‬
‫ظمَأ َو َف ْقدِ شَـرَابِ‬
‫ِمنّي عَلى َ‬ ‫س َكيْنَ‪ ،‬مَا ماءُ الفُرَاتِ وَطِيبُهُ‬ ‫أَ ُ‬
‫ترعى النساءُ أمانةَ الـغُـيّاب‬ ‫بألذَ منكِ‪ ،‬وإن نأيتُ‪ ،‬وقلَـمَـا‬
‫عذَابـي‬ ‫طلْتِ َ‬ ‫داءَ الفؤادِ فقد أ َ‬ ‫ي بِـهِ‬
‫ن َتبْذُلِي لي نَائلً أشفـ ِ‬ ‫إْ‬
‫بيني وبينهمُ عُرَى السـبـابِ‬ ‫ت فيكِ أقاربي وتقطعتْ‬ ‫صيْ ُ‬‫وع َ‬
‫سعَفتِني بِـثـوابِ‬ ‫منهم‪ ،‬ول أ ْ‬ ‫ل ُممَتّـعـاً‬‫فتركتني ل بِالوصا ِ‬
‫جرَةٍ لَِلمْعِ سَـرَابِ‬ ‫في حرّ ها ِ‬ ‫ق فَضْلَةَ مائِهِ‬ ‫فقعدتُ كال ُمهْرِي ِ‬
‫جمَ َع بينها وبينَ عائشةَ بنت طلحة بن عبيد الّ؛ فلّما ُقتِل مصعب‬ ‫وكانت سكينة من أجمل نساء زمانها وأعقلهن‪ ،‬وكان مصعب بن الزبير قد َ‬
‫قالت سكينة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حرَاما‬ ‫ل بالسيوفِ َ‬ ‫يَرَى الموتَ إ َ‬ ‫فإن تَ ْقتُلُو ُه َت ْقتُلُوا الماجِـد الـذي‬
‫حمَامـا‬ ‫إلى القومِ حتى أ ْو َردُوهُ ِ‬ ‫ن مَنِـيّةَ‬ ‫َوقَبَلكَ ما خَاضَ الحسي ُ‬
‫س يعرفونَ جُملةَ الحالِ في فضل الستبانة‪ ،‬وجملة الحال في فضل التبيين‪ ،‬لعربوا عن كل ما‬ ‫وقال علي بن الحسين رحمه ال‪ :‬لو كانَ النا ُ‬
‫ك ذلك كان ل يعدمهم في اليام‬ ‫يتلَجْلَجُ في صدورهم‪ ،‬ولَ َوجَدوا من بَ ْردِ اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم‪ ،‬على أنّ إدرا َ‬
‫ف بسوء‬ ‫ب التثبّت‪ ،‬ومصرو ٍ‬ ‫القليل ِة العدّةٍ‪ ،‬والفكرةِ القصيرة المدَةِ‪ ،‬ولكنهم من بين مغمورٍ بالجهلِ‪ ،‬ومفتونٍ بالعُجْبِ‪ ،‬ومعدُولٍ بالهَوى عن با ِ‬
‫العادَة عن فَضْلِ التعلم‪.‬‬
‫ن به المغالبة‪ ،‬والمغالبة من أ ْمتَن أسباب القطيعة‪.‬‬ ‫حلّ العقدةَ الوثيقة‪ ،‬وأقلّ ما فيه أن تكو َ‬ ‫سدُ الصداق َة القديمة‪ ،‬ويَ ُ‬ ‫ل عنه‪ :‬المِرَا ُء يُ ْف ِ‬ ‫وقال رضي ا ّ‬
‫ومن دعائه‪ :‬اللهمّ ارْزقنْي خوفَ الوعيد‪ ،‬وسرورَ رجاء الموعود‪ ،‬حتى ل أرْجُو إل ما رَجَيت‪ ،‬ول أخاف إلّ ما خَوَفت‪.‬‬
‫حجَر فلم يقدر‪ ،‬فنُصِب له مِنبَرٌ فجلس عليه؛ فبينا هو كذلك إذْ َأ ْقبَلَ عليُ‬ ‫وحجَ هشام بن عبد الملك‪ ،‬أو الوليد أخوه‪ ،‬فطافَ بالبيتِ وأرادَ استلمَ الْ َ‬
‫بن الحسين بن علي بن أبي طالب‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬في إزارِ و ِردَاء‪ ،‬وكان أحسنَ الناس وَجْهاً‪ ،‬وأعطرهم رائحة‪ ،‬وأكثرَهم خشوعاً‪ ،‬وبين عينيه‬
‫ل من أهل الشام‪ :‬مَن‬ ‫ستَلم الحجرَ‪ ،‬فتنحّى له الناسُ هيبة وإجللً‪ ،‬فغاظ ذلك هشاماً؛ فقال رج ٌ‬ ‫سَجادة‪ ،‬كأنها رُكبة عنز‪ ،‬وطاف بالبيت‪ ،‬وأتى ل َي ْ‬
‫الّذي أكرمه الناس هذا الكرام‪ ،‬وأعظموه هذا العظام؟ فقال هشام‪ :‬ل أعْرفه‪ ،‬لئل َيعْظُمَ في صدور أهل الشام؛ فقال الفرزدق وكان حاضراً‪:‬‬
‫البسيط‪:‬‬
‫هذا النقيّ التقيُ الطاهرُ العَـلَـمُ‬ ‫هذا ابنُ خير عبادِ ال كـلـهِـمُ‬
‫والبيتُ يعرفُه والحل والـحَـرَمُ‬ ‫هذا الذي َتعْرِفُ البَطْحَاءُ وطأتُـه‬
‫إلى مكارم هذا ينتهي الـكـ َرمُ‬ ‫ش قـال قـائلُـهـا‪:‬‬ ‫إذا رأتْه قري ٌ‬
‫رُكنُ الحطيم إذا ما جاء يستـلـم‬ ‫سكُهُ عِـرْفـانَ راحـتـهِ‬ ‫يكادُ ُيمْ ِ‬
‫شمَـمُ‬ ‫في كفّ أَرْوَع في عِرنيِنه َ‬ ‫في كفّه خيزرانٌ رِيحُهُ عَـبِـق‬
‫فما يُكلَـمَ إلّ حـين يَبـتَـسِـم‬ ‫يُغضِي حَيا ًء و ُيغْضَى من مها َبتِـه‬
‫ت عناصِرُه والخِيم والـشّـيَم‬ ‫طاب ْ‬ ‫ل َنبْـعَـتُـهُ‬ ‫مُشتقّة من رسول ا ّ‬
‫عن َنيْلها عَرَبُ السلمِ والعَجَـمُ‬ ‫ُينْمَى إلى ذِرْوة العزّ التي قصُرت‬

‫‪18‬‬
‫كالشمس َينْجَاب عن إشراقها القَتـم‬ ‫َينْجَابُ نو ُر الهدى عن نُورِ غُـرّتـهِ‬
‫حُلْو الشمائل تَحْلُـو عـنـده نَـعَـمُ‬ ‫ل أثقال أقـوام إذا اقـتـرحـوا‬ ‫حمَا ُ‬
‫بجدّه أنبياءُ الـلّـه قـد خُـتِـمـوا‬ ‫هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جـاهِـلَـهُ‬
‫جرى بذَاك له في لَوْحـهِ الـقَـلَـمُ‬ ‫الُّ فـضّـلـه قِـدْمـاً وشـرّفـهُ‬
‫لمَـمُ‬‫ل أمّـتـه دانَـتْ لـه ا ُ‬ ‫و َفضْ ُ‬ ‫ل النـبـياء لـهُ‬ ‫ن فَضْـ ُ‬ ‫مَنْ جدُ ُه دا َ‬
‫عنها الغيابةُ والمـلقُ والـظُـلـمُ‬ ‫عمَ البريّة بالحسان فانـقـشـعـتْ‬ ‫َ‬
‫ستَوكفان ول َيعْرُوهـمـا الـعـدُم‬ ‫تْ‬ ‫كِلْتا يديه غِياث عَـ َم نـفـعُـهُـمَـا‬
‫تزينه الثنتان الـحِـلْـمُ والـكَـرَمُ‬ ‫سهْلُ الخليقة ل تُـخْـشَـى بـوادِرُهُ‬ ‫َ‬
‫رَحْبُ الفناء أَرِيب حـين يعـتـزم‬ ‫عدَ ميمـون بـغُـ ّرتِـه‬ ‫ل يُخِْلفُ الوَ ْ‬
‫لول التشهّـد كـانـت لء ُه نَـعَـمُ‬ ‫ل فـي تَـشَـهّـدِهِ‬ ‫ما قال ل قـطُ إ َ‬
‫كُفْر‪ ،‬وقُ ْر ُبهُم منْجًى ومُـعْـتَـصَـمُ‬ ‫ن َمعْشَر حبهم دِينٌ‪ ،‬وبغـضُـهـم‬ ‫مِ ْ‬
‫ستَرَب به الحـسـانُ والـنّـعَـمُ‬ ‫ويُ ْ‬ ‫ستَدفَعُ السوءُ والبَلْـوى بـحـبّـهـمُ‬ ‫يْ‬
‫في كل بَدْء ومختومٌ بـه الْـكَـلِـمُ‬ ‫مقدَ ٌم بعـد ذِكـرِ الـلّـه ذكـرهُـمُ‬
‫أو قيل مَن خيرُ أَهْلِ الرض قيل همُ‬ ‫عدّ أهل التقَى كانـوا أ ِئمّـتَـهُـمْ‬ ‫إن ُ‬
‫ول يُدانـيهـ ُم قـومٌ وإنْ كـرُمـوا‬ ‫ل يستطيعُ جَوَا ٌد بـعْـدَ غـايتـهـم‬
‫سدُ الشّرَى والبأْس ُمحْـتَـدِم‬ ‫الُسْد أُ ْ‬ ‫ث إذا مـا أَ ْزمَة أَ َزمَـت‬ ‫همُ الـغُـيو ُ‬
‫خِيمٌ كري ٌم وأيدٍ بـالـنّـدى هُـضُـمُ‬ ‫ن يَحلّ الذّمُ سـاحَـتَـهـم‬ ‫يَ ْأبَى لهم أَ ْ‬
‫سيّان ذلك إن أثْـرَوْا وإن عَـدِمـوا‬ ‫ِ‬ ‫ل َينْقُصُ العس ْر بَسطًا من أكـفّـهـمُ‬
‫لولـيّةِ هـذا أوْ لَـ ُه نِــعـــم‬ ‫أيّ الخلئق لَيسَت فـي ِرقَـابـهـمُ‬
‫ن من بيت هـذا نـالـه الُمـم‬ ‫فالدي ُ‬ ‫مَنْ يعرفِ اللّـه يَعـرِفْ أولـيتـه‬
‫وقد روي أن الحزين‬ ‫َجـم‬ ‫ع‬ ‫وال‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫َر‬‫ك‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫ف‬
‫ُ‬ ‫تعر‬ ‫ْب‬ ‫ر‬ ‫الع‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫وليس قولـكَ مـن هـذا بـضـائِ ِر‬
‫ل بن عبد الملك بن مروان وهو أمير على مصر فأنشده قصيدة منها‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫الكناني َوفَد على عبد ا ّ‬
‫حجّابُ والْـخَـدَمُ‬ ‫وقد تعرّضتِ الْ ُ‬ ‫ت عليه في الْجُموع ضحًى‬ ‫لما وقف ُ‬
‫في كفه خيزران‪ - ...‬والبيت‬ ‫وضَجّةُ القومِ عند الباب تَ ْزدَحِـمُ‬ ‫حَي ْيتُهُ بسـلم وهـو مُـ ْرتَـفـقٌ‬
‫الذي يليه‪.‬‬
‫ل بن العباس بن عبد المطلب‪ ،‬وهو الذي يقول فيه الخطل‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫ويقال‪ :‬إنها لداود بن سلم في ُقثَم بن العباس بن عبيد ا ّ‬
‫َهرّت عواذله هَرِيرَ الكـلُـبِ‬ ‫ولقد غدوتُ على التّجَار بُمسمِـح‬
‫ت تَرَا ِئبُه بمـا ًء مُـذهَـبِ‬ ‫سحَ ْ‬ ‫مُ ِ‬ ‫لَذ‪ ،‬يُقبله الـنـعـيم‪ ،‬كـأنـمـا‬
‫ب عيونُ ال َزبْـرَبِ‬ ‫ل مُ ْرتَ َق ٍ‬‫من ك ّ‬ ‫لبّاسِ أ ْردِيةِ الملـوكِ‪ ،‬تَـرُوقُـه‬
‫ويقال‪ :‬بل قالها في علي بن‬ ‫نَظر الهجان إلى ال َفنِيق المُصعَبِ‬ ‫ستُـو ِر إذا بَـدَا‬ ‫ن مِنْ خََللِ ال ُ‬‫َينْظُرْ َ‬
‫الحسين الَلعِينُ المِنقري‪ ،‬وسمي اللعين‪ ،‬لنّ عمر سمعه يُنشد شعراً والناس يُصَلُونَ‪ ،‬فقال‪ :‬مَن هذا اللعين؟ فعلق به هذا السم و ْليَقُلْه مَن‬
‫شاء‪ ،‬فقد أحسن ما شاء وأجاد وزاد‪.‬‬
‫وقال ذو الرمة في بلل بن أبي بُرْدة بن أبي موسى الشعري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫كأنهم الـكِـرْوانُ عَـايَنّ بـازيا‬ ‫مِنَ آل أبي موسى تَرَى الناسَ حَوْله‬
‫ل تَـنَـاجِـيَا‬
‫ول ينبسون القـوْلَ إ ّ‬ ‫ل َتبَـسُـمـاً‬ ‫حكَ إ ّ‬ ‫فما يعرفون الضّ ْ‬
‫عليهِ‪ ،‬ولكِنْ َه ْيبَة هـي مَـاهِـيَا‬ ‫ش منه يرهبون‪ ،‬ول ا ْلخَنا‬ ‫وما ال ُفحْ َ‬
‫يُوازِنُ أدناهُ الجبـال الـروّاسـيا‬ ‫سمَعُ قـولُ‬ ‫فتى السّنَ‪َ ،‬كهْلُ الْحِلم‪ ،‬يُ ْ‬

‫ومن أجود ما للمحدَثين في ذلك قول أبي عبادة البحتري في الفتح ابن خاقان‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫رجالٌ عن الباب الذي أنا دَاخِلُـهْ‬ ‫ولمّا حضْرنا سـدّ َة الذْنِ ُأخّـ َرتْ‬
‫ل بَدْرالتّـم حـين أقـابـلُـه‬ ‫أقابِ ُ‬ ‫ت مِنْ قُ ْربٍ إلى ذي مَهابةٍ‬ ‫ض ْي ُ‬
‫فأفْ َ‬
‫سَرَابيلُ ُه عنهُ وطالتْ حَـمـائِلُـهْ‬ ‫بَدَا لي محمودَ السجيّةِ شُـمَـرَتْ‬
‫أنابيبُه واهتزَ للطعن عـامِـلُـه‬ ‫ي ثُ ِقفَتْ‬‫كما انتصب ال ُرمْحُ الر َديْن ّ‬
‫ت مـنـازِلُـه‬ ‫س َتهَلّـ ْ‬
‫وتَمّ سَناهُ وا ْ‬ ‫وكالبدرِ وا َفتْـهُ لِـتَـمّ سُـعُـودُه‬
‫تُنازِعُني القولَ الذي أنا قـائلُـه‬ ‫فسلّمتُ فاعتاقَت جَنـانِـيَ هَـ ْيبَة‬
‫َل َديْه لَضْحى حاتمٌ وهو عـاذِلُـهْ‬ ‫إلى مُسرِفٍ في الجود لو أنَ حاتماً‬
‫س ْتنِـي مَـخَـايَلـهْ‬
‫ي ببشْرٍ آن َ‬ ‫إل َ‬ ‫فلما تأمَلتُ الطَـلقَةَ وانْـثَـنَـى‬
‫جميل مُحَياهُ سِبـاطٍ أنـامِـلُـهْ‬ ‫دَنَوتُ فقبلْتُ النّدى من يَدِ امـرئ‬
‫شمَـائِلـهْ‬ ‫ورفتْ كما رَق النَسِيمُ َ‬ ‫ل ما تصفُو المدام خِلَلُهُ‬ ‫ت ِمثْ َ‬
‫صفَ ْ‬

‫‪19‬‬
‫ووقعت حرب بالجزيرة بين بني تَغْلِب‪ ،‬فتولَى الصلح بينهم الفتح بن خاقان فقال البحتري فيما تعلّق بعضه بذكر الهيبة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ديا َركُ ُم أ ْمسَتْ ولـيس لـهـا أهْـلُ‬ ‫ي بـأنْ أرى‬ ‫بني َتغْلِبٍ أعْـزِزْ عـلـ ّ‬
‫سنْجا َر َيهْمي بها الـوَبـلُ‬ ‫مرابعُ من ِ‬ ‫ت دِمْنة من ساكِنيهـا وأَ ْوحَـشَـتْ‬ ‫خََل ْ‬
‫ت فيما بينهـ ْم قِـسْـمَةٌ عَـذل‬ ‫وللمو ِ‬ ‫إذا ما التَقَوْا يومَ ال َهيَاج تـحـاجَـزُوا‬
‫و ِمثْلٌ من القوام زَاحِـفـ ُه مِـثْـلُ‬ ‫لقَـى كَـفـيّهُ‬ ‫ي مـن الحـياء َ‬ ‫كَفـ ٌ‬
‫خ ل بليدٌ في الطـعـان ول وَغـلُ‬ ‫أٌ‬ ‫ح انـتـهـى لـهُ‬ ‫إذا ما أخ جَرَ الرما َ‬
‫عِتاق‪ ،‬وأنسابٌ بهـا يُدْ َركُ الـتّـبْـلُ‬ ‫طهُم البِيضُ ال َرقَـاقُ‪ ،‬وضُـمَـر‬ ‫تحو ُ‬
‫ب كما تَرْغو المُخَزَمةُ البُـزْلُ‬ ‫وضَ ْر ٍ‬ ‫طعْـنٍ َيكُـب الـذَارِعـين دِرَاكُـهُ‬ ‫بَ‬
‫عَِل ْمتُمْ‪ ،‬وللجَانِينَ في ِمثْلِها الـثـكـل‬ ‫تَجَافَى أمي ُر المؤمنـين عَـنِ الـتـي‬
‫َيدَ الغيْثِ عند الرْض أجدَبَها المحْـلُ‬ ‫وكانت يدُ الفتح بنِ خاقانَ عـنـدكُـمْ‬
‫لذَلّ ول عَـقْـلُ‬ ‫فل قَ َو ٌد يُعـطَـى ا َ‬ ‫ق ِدمَـا ُؤكُـمْ‬ ‫طلّتْ بالـعُـقُـو ِ‬ ‫ولولهُ ُ‬
‫سمَهِ الر َقمُ الـصًـلّ‬ ‫سقَاهُم بِأوحَى ُ‬ ‫تلفَيْتَ يا فـتْـحُ الراقِـ َم بَـعْـدَمـا‬
‫وقد أش َرفُوا أن يستتمّهُـمُ الـقـتـلُ‬ ‫و َهبْتَ له ْم بالسّلْم باقي نـفـوسـهـمْ‬
‫ك عـنـدهُـ ْم قَـبْـلُ‬ ‫تقدّ َم مِن نُعمـا َ‬ ‫أتاك وفودُ الشكْـ ِر يُثْـنُـونَ بـالّـذِي‬
‫ضمَتهُمْ إلى بابكَ الـسّـبـلُ‬ ‫من اليوم َ‬ ‫فلم أ َر يوْمـاً كـان أكـثـرَ سُـؤدداً‬
‫جلُ‬‫ستُورَ وهم عُ ْ‬ ‫خُطا ُهمْ‪ ،‬وقد جازُوا ال ّ‬ ‫ترا َءوْك مِنْ أقصى السّماط فقصـروا‬
‫على يَ ِد بَسّـام سَـجِـيتُـهُ الـبَـذْلُ‬ ‫صدْرَ السلم تهـافـتـوا‬ ‫وَلمّا َقضَوْا َ‬
‫جللةُ طَلْقِ الوَجهِ جانِـبُـه سَـهْـلُ‬ ‫طبَ ٍة قَطَـعَـتْـهُـمُ‬ ‫إذا شرَعُوا في خُ ْ‬
‫ت أنـهُـ ُم قُـبْـلُ‬ ‫ومالوا بلَحْظ خلْـ َ‬ ‫ن مَـهَـابَة‬ ‫إذا نكّسوا أبصارَهُـ ْم مِـ ْ‬
‫سَديداً‪ ،‬ورَأْياً مثل ما انتضيَ النّصْـلُ‬ ‫طرْفًا حديداً‪ ،‬و َمنْـطِـقـاً‬ ‫نصبْتَ لهمْ َ‬
‫كريمُ‪ ،‬وأبْرا غِلَها قوُلكَ الـفَـصـلُ‬ ‫وسَلّتْ سَخيمات الصدو ِر فَعـالُـكَ ال‬
‫ن ُبعْ ٍد منه‪ ،‬واجتمعَ الشّـمْـلُ‬ ‫على حي ِ‬ ‫شعْبُ الذي كـان بـينَـهُـمْ‬ ‫بكَ ا ْلتَأَمَ ال ّ‬
‫قِرَاكَ‪ ،‬فل ضغْنَ لـديهـمْ ول ذخـلُ‬ ‫فما بَرِحوا حتى تعاطَـتْ أكـفّـهُـمْ‬
‫عَطاءَ كريمِ مـا تـكـاءدَ ُه بُـخْـلُ‬ ‫ب َتصْفُو ذيولُهـا‬ ‫جرُوا ذيولَ العَصْ ِ‬ ‫وَ‬
‫س نائِلُـكَ الَـجْـزلُ‬ ‫كما عمهُ ْم بالمْ ِ‬ ‫ن غنم بـنِـسْـبَةٍ‬ ‫ع ّمهُمْ عمرو ب ُ‬ ‫وما َ‬
‫ضلُ‬ ‫فمنك بها ال ّنعْمى جَ َرتْ وَلكَ ا ْلفَ ْ‬ ‫غبْطَةٍ في اصطلحهمْ‬ ‫فمهما رَأوْا مِنْ ِ‬
‫عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط‪.‬‬
‫وللطائيين أبي تمام والبحتري في ذلك أشعا ٌر كثير ٌة مختارة‪ ،‬منها قول البحتري يحذّر عاقبة الحرب‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ل فيها والْحُـروبِ؟‬ ‫عن الزلزا ِ‬ ‫َأمَا لربيعة الفَـرَس انـتـهـاء‬
‫على تلك الضغائنِ والـنـدُوبِ‬ ‫وكانـوا رَفـعُـوا أيّام سـلـم‬
‫َت َبيّنَ فيه تَفْـرِيطُ الـطـبـيبِ‬ ‫إذَا ما الجُرْحُ رَمّ على فَـسـادَ‬
‫خطُوبِ‬ ‫ت يكشِفُ عن ُ‬ ‫وخَطْبٌ با َ‬ ‫رَ ِزيّةُ هالِـكٍ جَـلَـبَـتْ َرزَايا‬
‫يُصَغ ُر فيه تَشْقـيقُ الـجـيوب‬ ‫جيْبُ ثـمّ يجـيءُ َأمْـرٌ‬ ‫يُشقّ ال َ‬
‫إذا هي ناحَ َرتْ ُأفُقَ الجَـنـوبِ‬ ‫ن بَـ ْرقَـعِـيدٍ‬
‫و َقبْرٍ عـن أيَامِـ ِ‬
‫عهَادًا من مُرَاقِ دم صـبـيب‬ ‫ِ‬ ‫يُسَحّ تـرَابُـ ُه أبـداً عـلـيهـا‬
‫يَ ُردّ شريدَ حِلْمهما الـعـزِيبِ؟‬ ‫ي مِـنْ َرشِـيدٍ‬ ‫لبْنَيْ عَـدِ ّ‬ ‫فهل ِ‬
‫ع ْقبَـا ُه تُـوبـي‬‫من الكل الذي ُ‬ ‫أخافُ عليهما إمرا َر مَـرْعًـى‬
‫على الدّاعي إليها والمُـجِـيب‬ ‫وأَعَْلمُ أَنّ حَ ْربَـهُـمَـا خَـبَـال‬
‫ِب ُبعْدِ الهَمّ والصّـدرِ الـرَحِـيبِ‬ ‫لعل أبا المُـعَـمّـ ِر يَتّـلـيهـا‬
‫عطيّة ُم ْكثِ ٍر فـيهـا مُـطِـيبِ‬ ‫فكم من سُؤْد ٍد قد بات ُيعْـطـي‬
‫مشي ٍر بالنصـيحةِ أ ْو مُـهِـيبِ‬ ‫أ َه ْيثَمُ يا ابنَ عبدِ الـلـه‪ ،‬دَعْـوَى‬
‫ن من الـذّنـوب‬ ‫ب إذا َقدُمْ َ‬‫ذنو ِ‬ ‫ب قو ِمكَ إنَ حِفْـظَ ال‬ ‫س ذنو َ‬ ‫تَنا َ‬
‫سهْمِ المُصيبِ‬ ‫إلى الرامي من ال َ‬ ‫فَلَلسهْمُ الـسـدِيدُ أحَـب غِـبّـاً‬
‫إلى إخلصِ وُد بني حَـبـيبِ‬ ‫صرَ بني عُـبَـ ْيدٍ‬ ‫ت نَ ْ‬‫متى أح َرزْ َ‬
‫على أ ْيدِي العشيرةِ والقُـلـوبِ‬ ‫ب تـغـلـبـي‬ ‫حتَ أغلَ َ‬ ‫صبَ ْ‬
‫فقد أ ْ‬
‫يناسب قولَهُ‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫إذا ما الجرْحُ رَمَ على فَسادٍ‬
‫قولُ أبي الطيب المتنبي لعليّ بن إبراهيم التنوخي أحد بني القصيص‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫تُقَلبـهُـن أفـئدَةٌ أعـادِي‬ ‫فل تغ ُر ْركَ أَلْسِـن ٌة مَـوَالِ‬

‫‪20‬‬
‫َبكَى منه‪ ،‬ويَ ْروَى وهو صادِ‬ ‫وكُنْ كالموْت ل يَ ْرثِي ِلبَـاكِ‬
‫إذا كانَ البناءُ عَلَى فَـسَـادِ‬ ‫فإن ا ْلجُ ْرحَ ينغِ ُر بعد حِـينٍ‬
‫وفى هذه القصيدة‪:‬‬
‫ك مِنْ رُقادِ‬ ‫سيُو ُف َ‬‫ط ِبعَتْ ُ‬
‫َو َقدْ ُ‬ ‫كأن الهام في الهَيجَا عُـيُون‬
‫خطُرْنَ إلَ في فـؤَادِ‬ ‫فَما يَ ْ‬ ‫صغْتَ السِن َة مِنْ ُهمُوم‬ ‫َو َقدْ ُ‬
‫خفِي‪ :‬الكامل‪:‬‬‫ن هذين ينظِرُ إلى قولِ مسلم بن الوَليد من طَ ْرفٍ َ‬ ‫ل مِ ْ‬
‫كأنَ البيتَ الوَ َ‬
‫س ِه ْم كانُوا بَني جِـبـريلَ‬ ‫مِنْ بأْ ِ‬ ‫ن مَـنِـيةً‬ ‫وَلَوْ أَن قَوْمًا يَخْلُقُـو َ‬
‫ف مَقِـيلَ‬ ‫جمَ للسيو ِ‬ ‫جعَلُوا الجما ِ‬ ‫َ‬ ‫قوْم إذَا احمَرَ الهجيرُ من الوَغَى‬
‫وإنما أخذه أبو الطيب من قول منصور النميري‪ ،‬وذكر سيفاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫َيعْلُو الرجالَ بأ ْرجُوَانٍ ناقِـعِ‬ ‫ذَكَرٌ‪ ،‬برَ ْونَقِهِ الدّماءُ‪ ،‬كأنـمـا‬
‫مِلْح تَب ّددَ مـنْ وراءِ الـدّارع‬ ‫شفْ َر َتيْهِ كأنهـا‬ ‫وتَرَى مَسَاقِطَ َ‬
‫ِبدَمِ الرَجالِ عَلَى الدِيمِ النَاقِعِ‬ ‫وترا ُه مُعتـمّـاً إذا جَـ ًردْتَـهُ‬
‫خدَرُ ال ُمدَامَة أو ُنعَاش الهاجعِ‬ ‫َ‬ ‫جمَةِ الفتَـى‬ ‫وكأن وقعتَ ُه بِجمْ ُ‬
‫أردت هذا البيت‪ ،‬وقول النميري‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫َوتَرَاه ُم ْع َتمًّا إذَا جَ َر ْدتَهُ‬
‫يشير إلى قول أبي الطيب‪ ،‬وذكر سيفاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫غ ْمدِهِ وكأنما هُ َو ُمغْ َمدُ‬ ‫مِنْ ِ‬ ‫َيبِسَ النّجِيعُ عََليْهِ َفهْ َو مُجرد‬

‫وبنو عبيد‪ ،‬وبنو حبيب ‪-‬‬ ‫ت بَحْر مُ ْز ِبدُ‬‫لجَرَى من ال ُمهَجَا ِ‬ ‫سقَـ ْيتَـهُ‬
‫رَيانُ لو قَذفَ الذي أ ْ‬
‫اللذان ذكرهما البحتري ‪ -‬هم‪ :‬بنو عبيد ابن الحارث بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب‪ ،‬وحبيب بن الهجرس ابن تيم بن سعد‬
‫جشَم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب‪ ،‬وفيهم حبيب بن حرقة بن تغلب بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب‪ ،‬فل‬ ‫بن ُ‬
‫أدري أيهما أراد! وقال البحتري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫مَصَاي ُفهَا منها‪ ،‬وأقْ َوتْ ربُوعها‬ ‫عفَـتْ‬ ‫َأسِيتُ لخْوَالي ربيعةَ أنْ َ‬
‫شتّى جمي ُعهَـا‬ ‫ووَحْشًا َمغَانِيها‪ ،‬و َ‬ ‫ِبكُرْهِيَ أنْ بانَتْ خَل ًء دِيارُهَـا‬
‫ل نَجِيعُـهـا‬ ‫لخْرَى ما يُطَ ّ‬ ‫دِماء ُ‬ ‫ج َم َعتْـهُـمُ‬ ‫إذا افترقوا من وَقعَة َ‬
‫ت دون الثأْرِ وَهْوَ ضَجِيعُها‬ ‫إذا با َ‬ ‫َتذُمّ الفتاةُ الرُود شِيمةَ َبعْـلِـهَـا‬
‫كلبية أعْيا الرجالَ خُضُوعُهـا‬ ‫ش ْعبٍ جاهـلـي وعِـزّة‬ ‫حَميّةُ َ‬
‫ق دروعهـا‬ ‫بأحَفَادِها حتى تَضِي َ‬ ‫وفرسان هيجا ًء تَجيشُ صدورْهم‬
‫عليها بأي ٍد ما تكادُ تُطِـيعُـهـا‬ ‫ل من ِوتْرٍ أعَزّ نفـوسِـهـا‬ ‫ُل َقتّ ُ‬
‫ت دموعُهَا‬ ‫تذكّرَتِ القُ ْربَى ففاض ْ‬ ‫حتَ َربَتْ يومًا ففاضَت دماؤُها‬ ‫إذا ا ْ‬
‫شواجرَ أَرْحا ٍم مَلوم قَطوعـهـا‬ ‫جرُ أَرْماحٍ تقطَع بـينـهـا‬ ‫شوا ِ‬
‫وقال أبو تمام الطائي‪:‬‬ ‫ك َفتْحٌ يوم ذاك شفِيعهـا‬ ‫ومول َ‬ ‫لّ مَوْلى حياتِـهـا‬ ‫ت أمينَ ا ِ‬ ‫فكن َ‬
‫البسيط‪:‬‬
‫ل ابنةِ الـرقَـمِ‬ ‫حيّ الراقِم دُؤلو َ‬ ‫ك ل تجلُـبـنّ إلـى‬ ‫ل بَني مال ٍ‬ ‫مَه ً‬
‫لو كان ينفخُ َقيْن الحيّ في َفحَـمِ‬ ‫لم يَأُْلكُ ْم مَالكٌ صَفْحًا ومـغـفـ َرةً‬
‫والنار قد تُ ْنتَضَى من ناضِرِ السلم‬ ‫َأخْ َرجْتموه ِبكُرْهٍ مـن سَـجِـ ّيتِـهِ‬
‫لجَمِ‬‫لم يُخْرَج الليثُ لم يخرج من ا َ‬ ‫جمْرِ العقوقِ‪ ،‬ولـو‬ ‫أوطأتموهُ على َ‬
‫حَصائِدَ المر َه َفيْنِ السيفِ والقَلَـمِ‬ ‫لول مناشدةُ القُ ْربَـى لـغـادَرَكـم‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫مِنَ القطيعة يَرْعَى واديَ النّـقـمِ‬ ‫ظهْرًا إنهُ جَـمَـلٌ‬ ‫ل تجعلوا ال َبغْيَ َ‬

‫‪21‬‬
‫سنّةِ والقَنا تتـحَـطّـمُ‬ ‫َهدَفُ ال ِ‬ ‫غنْمٍ؛ إنكـم‬‫مهلً بني عمرو بن ُ‬
‫شرّ بـالحـوذيّةِ مـ َؤدَمُ‬ ‫أو مُب َ‬ ‫ما منكمّ إل مرَدى بالـحِـجَـى‬
‫اب بن سعدٍ سَهمكم ل يُسـهـم‬ ‫عمرو بن كلثوم بن مالك بن عت‬
‫جُشَم بن بكرٍ كفها وال ِمعْـصَـم‬ ‫خلِقت ربيعةَ من لدن خُلِقـت يَداً‬
‫وتسيح غنم في البلد فتغـنـم‬ ‫تغزو فتغلب تغلبّ مثل اسمهـا‬
‫إن جَلّ خَطبٌ أو تُدوفع مَغـرَم‬ ‫وستذكرون غداً صنائعَ مـالـكٍ‬
‫ما لي َأرَىَ أطوَادَكُم تتـهـدّمُ؟‬ ‫ما لي رأيت ثَرَاكمَا بِـبَـسـالَة‬
‫حمُ التي ل ترحَـمَ؟‬ ‫ما هذه الرّ ِ‬ ‫ما هذِهِ القُربَى التي ل تصطفى‬
‫أعيَت عَوائِدهَا وجـرح أقـدم‬ ‫سدُ القرابة للـقـرابة قـرحةٌ‬ ‫حَ َ‬
‫تَهفُو ول أحْلَمهَا تـتـقـسـمَ‬ ‫تلْكم قريشٌ لم تـكـن آبـاؤهـا‬
‫حنَاؤهمُ تتـضـرمُ‬ ‫شْ‬‫غدَتْ َ‬ ‫فيهم َ‬ ‫حتى إذا بعِثَ ال َنبِيّ مـحـمـدٌ‬
‫إلّ وهُم مـنـه ألـب وأحْـزَم‬ ‫عَزَبتْ عقوُلهُمُ‪ ،‬وما مِنْ معْشَـرٍ‬
‫ح َمدَ منهـم‬ ‫ورأوا رسولَ الّ أ ْ‬ ‫لما أقام ال َوحْي بين ظهـورهـم‬
‫طوْق بن‬‫ومالك هو‪ :‬ابن َ‬ ‫ن بِـه تـتـقَـدّمُ‬
‫ألّ تؤخّر مَـ ْ‬ ‫ومن الحزامة لو تكونُ حَـزَامة‬
‫ش َم بن بكر بن وائل‬
‫ل بن عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جُ َ‬ ‫مالك بن عتاب بن ُز َف َر بن مرَة بن شريح ابن عبد ا ّ‬
‫عبِل يهجوهُ‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب‪ ،‬وفيه يقول دِ ْ‬

‫ح منها ومهمـومِ‬ ‫من بين ذي فَ َر ٍ‬ ‫الناس كلهُم يَغـدو لـحـاجـتِـهِ‬


‫يَ ُر ّم منها بنـاءً غـيرَ مـ ْرمُـومِ‬ ‫ل مشغولً بنـسـبـتِـهِ‬ ‫ظّ‬
‫ومالكٌ َ‬
‫ما بين طوق إلى عمرو ابن كلثوم‬ ‫يبني بيوتاً خراباً ل أنـيس بـهـا‬
‫والتكثير من المعنى المعترض‪ ،‬يزيح عن ثغرة الغَرَض‪ ،‬لكني أجري منه إلى حلبة الجادة‪ ،‬وأقصدُ قصدَ الفادة‪ ،‬ثم أعود حيثُ أُرِيد‪.‬‬
‫ل بن سالم ‪ -‬في باب الهيبة‪ ،‬في مالك بن أنس الفقيه‪ ،‬رحمة ال عليه؛ وقيل‪ :‬إن هذا من قول ابن‬ ‫وقال ابن الخياط المكي ‪ -‬واسمه عبد ا ّ‬
‫المبارك‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫س الذقَـانِ‬
‫والسائلون نَوَاكِـ ُ‬ ‫ب فما يرَاجَعُ هَـ ْيبَةً‬ ‫يَأبَى الجوَا َ‬
‫فهو ال َمهِيبُ وليس ذَا سلْطـانِ‬ ‫أدَبُ الوقار‪ ،‬وعِزّ سلطانِ التقى‬
‫وقول الفرزدق البسيط‪:‬‬
‫يكادُ يمسكه عرفان راحته‬
‫قد تَجاذَبه جماعةٌ من الشعراء؛ قال أشجع بن عمرو السلمي لجعفر البرمكي‪:‬‬
‫ل بـين أرحُـلِ عـي ِركْ‬ ‫مَ فتختا ُ‬ ‫حَبذا أنتَ قـادمـًا تـردُ الـشـا‬
‫سيْرِك‬ ‫عت لسارت إليك من قبل َ‬ ‫إن أرضًا تسري إليها لو اسْطَـا‬
‫وإليه أشار أبو تمام الطائي في قوله‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫مُسْتغيثٌ بها الثرَى المكروب‬ ‫سمْحَة ال ِقيَاد سـكـوبُ‬ ‫ديمَة َ‬
‫َلسَعى نحوها المكان الجديبُ‬ ‫س َعتْ بقعةٌ لعظا ِم نُعمَى‬ ‫لو َ‬
‫وفي هذه القصيدة في وصف الدّيمة‪ ،‬ومدح محمد بن عبد الملك الزيات‪:‬‬
‫ت فعانَ َق ْتهَا القلوبُ‬
‫طيعُ قام ْ‬ ‫لذ شُؤبوبُها وطابَ فلو تـس‬
‫عزَالٍ تنشا وأخرى تَصُوبُ‬ ‫وَ‬ ‫َفهْوَ ما ٌء يجري ومـا ٌء يَلِـيهِ‬
‫ك وعندَ السّرى وحين تؤُوب‬ ‫ل بمغـدا‬ ‫حيَ أه ً‬ ‫أيّها الغيثُ َ‬
‫ن قد يشبه النجيبَ النجيبُ‬ ‫هّ‬ ‫جعْ َفرٍ خلئق تحـكِـي‬ ‫لبي َ‬
‫وأنشدها أبا جعفر بن الزيات‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا تمام؛ وال إنك لتحلَي شعرَك من جواهر لفظك وبدائع معانيك‪ ،‬ما يزيد حُسْناً على بهيّ الجواهر في‬
‫أجياد الكواعب؛ وما ُيدَخَرُ لكَ شيءٌ من جزيل المكافأة إل يَقصُرُ عن شِع ِركَ في الموازنة‪ .‬وكان بحضرته رجل من الفلسفة‪ ،‬فقال‪ :‬هذا الفتى‬
‫ت به أن النفسَ الروحانية كل‬‫حدّة والذكاء والفطنة مع لطافة الحسّ ما علم ُ‬ ‫ت عليه بهذا؟ فقال‪ :‬رأيت فيه من ال ِ‬ ‫ح َكمْ َ‬‫ن أيْنَ َ‬ ‫يموتُ شاباً! فقيل له‪ :‬مِ ْ‬
‫ف المهندُ غمدَه؛ قال الصولي‪ :‬مات وقد نيف على الثلثين‪.‬‬ ‫عمره كما يأكلُ السي ُ‬
‫وقال في أبي دُلف العجلي القاسم بن محمد بن عيسى‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا َل ْم ُيعَوذْهَا بنعـمةِ طَـالِـبِ‬ ‫تكادُ عطايَا ُه يُجَن جُـنُـونُـهَـا‬
‫فتركب من شَوقٍ إلى كل راكِبِ‬ ‫تكادُ مَغانيهِ َتهَشّ عِـرَاصـهَـا‬
‫حتَري‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وقال البُ ْ‬
‫في وُسْعه َلمَشَى إليكَ المنبَرُ‬ ‫ن مُشتاقًا َتكَلّفَ فوقَ مـا‬ ‫لو أ ّ‬
‫وقال أبو الطيب المتنبي لبدر بن عمار‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حيَاءٌ عا َقهَا َر َقصَت ِبنَا‬ ‫لول َ‬ ‫ت مَرَا ِكبُنا َفخِلْنا أنهـا‬‫طَ ِربَ ْ‬
‫ت مُحَيية إليكَ الغْصنا‬ ‫َمدّ ْ‬ ‫جرُ التي قابل َتهَا‬ ‫لو تعقلُ الشّ َ‬

‫‪22‬‬
‫رجع إلى ما انقطع‬
‫ع َبدْتَهُ؟ فقال‪َ :‬لمْ َأكُنْ لَعْبد مَنْ لم أَره‪ ،‬قال‪ :‬فكيف رأيتَه؟‬ ‫ل عنه‪ :‬هل رأيت الّ حين َ‬ ‫قال أعرابي لبي جعفر محمد بن علي بن الحسين‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫شبّه بالناس‪ ،‬معروف باليات‪ ،‬منعوتٌ بالعلماتِ‪،‬‬ ‫ب بحقائق اليمان‪ ،‬ل يُدرَك بالحواسَ‪ ،‬ول يُ َ‬ ‫قال‪ :‬لم تره البصارُ بمشاهدة العِيان‪ ،‬ورََأتْهُ القلو ُ‬
‫ل يجوزُ في القضيّات‪ ،‬ذلك الُّ الذي ل إله إلّ هو‪ .‬فقال العرابي‪ :‬الّ أعلم حيثُ يجعلُ رسالته‪.‬‬
‫قال الجاحظ‪ :‬قال محمد بن علي‪ :‬صلح شأنِ الدنيا بحذافيرها في كلمتين؛ لنّ صلحَ شأن جميع الناس في التعايش والتعاشر وهو مِلء ِمكْيَال؛‬
‫ثلثاه فطنة‪ ،‬وثلثه َتغَافل‪.‬‬
‫ن النسان ل يتغافلُ عن شيءً إلّ وقد عرفه وفطن له‪ ،‬قال‬ ‫قال الحافظ‪ :‬لم يجعل لغير الفِطْنة نصيبًا من الخير‪ ،‬ول حظّاً من الصلح؛ ل ّ‬
‫الطائي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫لكنّ سّي َد قَ ْومِهِ ال ُمتَغَابي‬ ‫ي بسيّد في قَ ْومِهِ‬ ‫ليس الغب ُ‬
‫وقال ابن الرومي لبي محمد بن وهب بن عبيد الّ بن سليمان‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حظَا‬ ‫وإن حدّدوا زُرقاً إليك جَوَا ِ‬ ‫تظلّ إذا نامت عيونُ ذوي العمى‬
‫ظ ُهمْ يقظان بل متياقـظـا‬ ‫وتوقِ ُ‬ ‫سنَانَ‪ ،‬بل متواسِنا‪،‬‬ ‫َتغَاضى لهم وَ ْ‬
‫ن بني هاشم عبارةً‪ ،‬وأجملهم شَا َرةً‪.‬‬ ‫ل عنه‪ ،‬دَيّناً‪ ،‬شجاعاً‪ ،‬ناسكاً‪ ،‬من َأحْسَ ِ‬ ‫وأبو جعفر هذا هو الباقر‪ ،‬وكان أخوه زيد بن علي‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫شبَا‬
‫حدّ من َ‬ ‫ظبَةِ السيف وأ َ‬ ‫وكانت ملوك بني أمية تكتُب إلى صاحب العراق أن امنَعْ أهلَ الكوفة من حضور زيد بن علي؛ فإنّ له لساناً أقْطع من ُ‬
‫ع ْقدَة‪.‬‬
‫سنّة‪ ،‬وأبلغ من السحر والكهانَة‪ ،‬ومن كل َنفْثٍ في ُ‬ ‫ال ِ‬
‫حصَر والّ ل ْلمُماراة أسرعُ في َهدْمِ ا ْل ِعيّ‬ ‫وقيل لزيد بن علي‪ :‬الصمتُ خيرٌ أم الكلم؟ فقال‪ :‬قبّح الّ المساكنة‪ ،‬ما أفسدها للبيان‪ ،‬وأجلبها للعِيّ والْ َ‬
‫من النار في يَبَس العَ ْرفَج‪ ،‬ومن السيل إلى الْحدور‪.‬‬
‫وقال له هشام بن عبد الملك‪ :‬بلغني أنك ترومُ الخلفة وأنت ل تصلُحُ لها؛ لنك ابنُ أمَة؟ قال زيد‪ :‬فقد كان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلم‬
‫ث َتكْره! فلمّا خرج من‬ ‫ابنَ أمة‪ ،‬وإسحاق ابنَ حُرَة؛ فأخرج الّ من صُلب إسماعيل خيرَ ولد آدم! فقال له‪ :‬قُمْ! فقال‪ :‬إذاً والّ ل تراني إلّ حي ُ‬
‫حدٌ‪ ،‬وكان زيد كثيراً ما ينشد‪ :‬السريع‪:‬‬ ‫ن هذا الكلم منك أ َ‬ ‫ل ذلَ‪ ،‬فقال له سالم مولى هشام‪ :‬ل يسمع ّ‬ ‫الدار قال‪ :‬ما أحبّ أحَد الحياةَ قط إ ّ‬
‫كذاك من َيكْرَهُ حرّ ا ْلجِـلَد‬ ‫شرّده الخـوفُ وأزْرَى بِـهِ‬
‫ف مَـ ْروٍ حِـدَادْ‬ ‫تَنكُبُه أطرا ُ‬ ‫منخرق الخفّين يشكو الوجَى‬
‫ح ْتمٌ في رقاب العبادْ‬ ‫والموتُ َ‬ ‫قد كان في الموت لـه رَاحَة‬
‫وقد رُوِيت هذه البيات لمحمد بن عبد ال بن الحسن بن الحسين‪ ،‬وقد رُوِيت لخيه موسى‪.‬‬
‫قال عبد الرحمن بن يحيى بن سعيد‪ :‬حدّثني رجل من بني هاشم قال‪ :‬كنّا عند محمد بن علي بن الحسين‪ ،‬وأخوه زيد جالس‪ ،‬فدخل رجل من‬
‫ف من نوادر الشعر‪ ،‬فكيف قال النصاري لخيه؟ فأنشده‪ :‬المتقارب‪:‬‬ ‫أهل الكوفة فقال له محمد بن عليّ‪ :‬إنك لتَروي طرائ َ‬
‫ف قُوَاهُ‬ ‫ن ول بِضَعي ٍ‬ ‫بِوا ٍ‬ ‫لَعمْرك ما إنْ أبو مالـكٍ‬
‫ُيعَادي أخاه إذا ما َنهَـاهُ‬ ‫ول بـألـدَ لَـ ُه نَـازغ‬
‫كريم الطبائع حلو نَثَـاهُ‬ ‫ولكنّه غـي ُر مِـخـلفةٍ‬
‫ت إليه كَفَاهُ‬
‫ومهما وكَ ْل َ‬ ‫ت مِطوَاعةً‬ ‫سدْ َ‬ ‫س ْدتَهُ ُ‬
‫وإن ُ‬
‫ل أن تكون قتيل أهل العراق! وكانت بين جعفر بن الحسن بن الحسين بن‬ ‫ص َفتُك يا أخي‪ ،‬وأُعِيذُك ا ّ‬ ‫ف زيد‪ ،‬فقال‪ :‬هذه ِ‬ ‫فوضع محمد يده على َكتِ ِ‬
‫ل يحفظ على‬ ‫س عليهما ليسمعُوا محاوَ َرتَهما؛ فكان الرج ُ‬ ‫علي وبين زيد‪ ،‬رضوان ال عليهم‪ ،‬منازعة في وصيّة‪ ،‬فكانا إذَا َتنَازعا انثالَ النا ُ‬
‫صاحبه اللّفظة من كلم جعفر‪ ،‬ويحفظُ الخرُ اللفظةَ من كلم زيد‪ .‬فإذا انفصل وتفرَق الناس عنهما قال هذا لصاحبه‪ :‬قال في موضع كذا وكذا‪،‬‬
‫وقال الخر‪ :‬قال في موضع كذا وكذا؛ فيكتبون ما قال‪ ،‬ثم يتعلّمُونه كما يتعلّم الواجب من الفَرض‪ ،‬والناد ُر من الشعر‪ ،‬والسائ ُر من المثل! وكانا‬
‫أعجوب َة دَهْرِهِما وأُحدُوثَة عصرهما‪.‬‬
‫شبّة بن عقال‪ ،‬وكلّف آل أبي طالب البراءة من زيد‪ ،‬وقام خطباؤهم بذلك؛‬ ‫جثّته بال ُكنَاسة وبعثَ برَأسه مع َ‬ ‫ف بنُ عُمر وصلب ُ‬ ‫ولما قْتل زيداً يوس ُ‬
‫ن قام عبدُ ال بن الحسن بن الحسين بن علي‪ ،‬رحمة ال عليه‪ ،‬فأوْجَز في كلمه ثم جَلَس‪ ،‬وقام عبدُ ال بن معاوية بن عبد ال بن‬ ‫ل مَ ْ‬
‫فكان أو َ‬
‫طبِ الناس‪ ،‬فقيل لعبد ال بن‬ ‫جعفر بن أبي طالب فأطْنب ‪ -‬وكان شاعراً خطيباً لسِناً ناسباً ‪ -‬فانصرف الناسُ وهم يقولون‪ :‬ابن الطيار مِنْ أَخْ َ‬
‫الحسن في ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬لو شئت أن أقولَ لقلت‪ ،‬ولكن لم يكن مقامَ سرور‪ ،‬وإنما كان مقا ُم مُصيبة‪.‬‬
‫ي بُنَيّ! إني مؤدّ حقّ ال في‬ ‫ل لبنهِ محمد أو إبراهيم‪ :‬أ ْ‬ ‫جيْن على أبي جعفر المنصور‪ ،‬وهو القائ ُ‬ ‫ل هذا هو‪ :‬أبو محمد وإبراهيم الخار َ‬ ‫وعبدُ ا ّ‬
‫س َتعِنْ على الكلم بطول الفكْر فيِ المواطن التي َتدْعُوك فيها‬ ‫تأديبك‪ ،‬فأدَ إليَ حقّ الّ في الستماع مني؛ أي بنيّ! كُفَ الذى‪ ،‬وار ُفضِ ال َبذَى وا ْ‬
‫حذَر مشورة‬ ‫ض ّر فيها الْخَطأُ‪ ،‬ول يَنْف ُع فيها الصّوابُ‪ ،‬واحذَرْ مشورةَ الجاهِلِ‪ ،‬وإن كان نَاصِحاً‪ ،‬كما تَ ْ‬ ‫نفسُك إلى الكلم‪ ،‬فإن للقول ساعات يَ ُ‬
‫ت هواك يَقْظان‪ ،‬فإياك أن تستب ّد برأيك؛‬ ‫ك بمَشُورته؛ واعلمْ يا بني أنّ رأيك إذا احتجْتَ إليه وج ْدتَه نائماً‪ ،‬ووجد َ‬ ‫العاقِل إذا كان غَاشّا؛ لنه يُ ْردِي َ‬
‫ل ِفعْلً إلَ وَأنْتَ على يقين أنّ عاقبَته ل تُ ْردِيك‪ ،‬وأن نتيجتَه ل تَجْني عليك‪.‬‬ ‫فإنه حينئذ هَواك؛ ول تفَع ْ‬
‫وهو القائل‪ :‬إياك ومُعاداة الرجال فإنك لن تعدَم َمكْر حليمٍ‪ ،‬أو مُعاداة لئيم‪.‬‬
‫ل تعالى‪ ،‬فإن الَّ تعالى جعل لمن اتّقاه المخرج من حيث َيكْرَه‪ ،‬والرزق من حيث ل يحتسب‪.‬‬ ‫وكتب إلى صديق له‪ :‬أُوصيك بتقوى ا ّ‬
‫وعبدُ الّ هو القائل‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫صيْدُهُنّ حرامُ‬ ‫كظباء مكّة َ‬ ‫أنُسٌ حرائرُ ما َه َممْنَ بريبةٍ‬
‫ويصدّهن عن الْخَنا السلمُ‬ ‫ن من لِينِ الحديث دوانيا‬ ‫سبْ َ‬
‫يُحْ َ‬
‫صبْوَة‪،‬‬ ‫ش أنّك أطولُها َ‬ ‫قال‪ :‬وهذا كما روي أن عبد الملك بن مروان استقبل عمر بن عبد ال بن أبي ربيعة المخزومي‪ ،‬فقال له‪ :‬قد عَِلمَتْ قري ٌ‬
‫وأ ْبعَدُها تَوْبة‪َ ،‬ويْحَك! أمَا لكَ في نساء قريش ما َيكْفِيك من نساء بني عبد مناف؟ ألست القائل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ولي نظر‪ ،‬لول التحـرُجُ‪ ،‬عـارمُ‬ ‫ب من مِـنًـى‬ ‫حصّ ِ‬ ‫نظرتُ إليها بالمُ َ‬
‫َبدَتْ لك خلف السّجفِ أم أنْتَ حالم؟‬ ‫صبْح أم مصابـيحُ راهـبٍ‬ ‫فقلتُ‪ :‬أ ُ‬

‫‪23‬‬
‫أبوها‪ ،‬وإما عبد شمسٍ‪ ،‬وهـاشـم‬ ‫بعيدةُ َمهْوَى ال ُقرْطِ‪ ،‬إمَا لـنَـوْفـلِ‬
‫ن َبعْ َد هذا‪:‬‬‫فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬فإ ّ‬
‫صدَرنَ وهُن المسلمات الكرائم‬ ‫َ‬ ‫طلبْنَ الهوى حتى إذا ما وجدنَهُ‬
‫فاستحيا منه عبدُ الملك‪ ،‬وقضى حوائجه ووصله‪.‬‬
‫وقال آخر في هذا المعنى‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فهنّ حَوالٍ في الصفات عَوَاطِلُ‬ ‫ل مِنْ محـاسـنِ أوْجُـهٍ‬ ‫َتعَطلْنً إ ّ‬
‫بعفّ الكلم بـاخِـلَت بَـوَاذل‬ ‫كَوَاسٍ عَوَارٍ صامتات نـواطـقٌ‬
‫وشِيبَ بحقَ القو ِل منهنّ بَاطِـلُ‬ ‫جبْنَ تـسـتُـراً‬ ‫بَرَزْنَ عفافاً واحت َ‬
‫حشَاء حِيدٌ نـواكـلُ‬ ‫وهنّ عن الف ْ‬ ‫فذو الحلم مرتاد وذو الجهل طامعٌ‬
‫وقال ال ُعدَيل بن ال َفرْخِ فيما يتطرف طرفًا من هذا المعنى‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن عيَش غافلِ‬ ‫حتى لبسنَ زما َ‬ ‫لعبَ النعي ُم بهن في أطللـه‬
‫ن فهُنَ غيْرُ عَوَاطِل‬ ‫طلْ َ‬
‫فإذا عَ ِ‬ ‫حسَنَ ما ترى‬ ‫يأخذن زينتهنّ أ ْ‬
‫حدَقَ المَها وأخذن َنبْل القاتل‬ ‫َ‬ ‫ن خدودهنّ أَ َر ْي َننِـي‬ ‫وإذا خَبأ َ‬
‫إل الصبا وعلمن أين مقاتلي‬ ‫يرميننا ل يستَتـرن بِـجـنة‬
‫ويجر باطلهن ذيل الباطـل‬ ‫يلبسن أردية الشباب لهلهـا‬
‫ل بن الحسن رَجل بما يَكرَهَ‪ ،‬فقال فيما أنشده ثعلب‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وتعرض لعبد ا ّ‬
‫أنَ أهجُوها لما هَجَتني مُحَا ِربُ‬ ‫سفَاهة رأيهـا‬ ‫ظنّت سَفاها من َ‬ ‫أَ‬
‫ي عن ذاك المقام لراغب‬ ‫ونفس َ‬ ‫فل وأبيها إنني بـعـشـيرتـي‬
‫ف بابن البعير‪ ،‬وقبلهما‪:‬‬ ‫وأنشد هذين البيتين أبو العباس المبرد لرجل لم يسمّه في رجل ُيعْرَ ُ‬
‫سنَامّ ول في ذروَة المجد غَارِب‬ ‫َ‬ ‫يقولون أبناء البَعير ومـا لَـهُـم‬
‫وسايَرَ عبد ال بن الحسن أبا العباس السفاح بظهر مدينة النبار وهو يَنظُر إلى بنا ًء قد بناه أبو العباس ويدور به‪ ،‬فأنشد عبدُ الّ‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫بناء نَ ْفعُه لبني ُبقَـيلَـهْ‬ ‫ألم تَرَ جَوْشَناً لما تبنّـى‬
‫حدُث كلّ َليْلَه‬ ‫وأم ُر ال يَ ْ‬ ‫عمْ َر نُوحٍ‬ ‫ن ُيعَمّر ُ‬‫يؤمّلُ أ ْ‬
‫وكان أبو العباس له ُمكْرِماً‪ ،‬ولحقّه معظّماً؛ فتبسم مغضَباً‪ ،‬وقال‪ :‬لو عَِل ْمنَا لشترطنا حقّ المُسَايرة! فقال عبدُ الّ‪ :‬بوادِرُ الخواطر‪ ،‬وأغفال‬
‫خذْ في غير هذا‪.‬‬‫ل مَنْ أقَال‪ ،‬وأوْلَى مَنْ صَفح‪ ،‬قال‪ :‬صدقت؛ ُ‬ ‫المسانح؛ والّ ما قلتُها عن رَ ِويّة‪ ،‬ول عارَضَني فيها فكرة وأنتَ أج ّ‬
‫جبِه؛ فوُضع بين يديه‪ ،‬فقال‪ :‬رحمك ال أبا القاسم‪ ،‬فقد‬ ‫ولما قتل المنصو ُر ابنَه محمدًا ‪ -‬وكان عبدُ الّ في السجن ‪ -‬بعث برأسه إليه مع الربيع حا ِ‬
‫خشَوْنَ َربّهمْ َويَخَافُونً سُوءَ ا ْلحِسَابِ"! ثم‬ ‫ن يُوصلَ‪ ،‬ويَ ْ‬ ‫لَ بِهِ أ ْ‬
‫ت من "الَذين يُوفُونَ ِب َع ْهدِ الِّ َولَ َينْ ُقضُونَ المِيثَاقَ‪ ،‬وَاَلذِين يَصِلُونَ مَا أمَر ا ُ‬ ‫كن َ‬
‫تمثّل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ويكفيه سوءاتِ المورِ اجتنابها‬ ‫س ْيفُه‬
‫حمِيه من الذلّ َ‬ ‫فتى كان يَ ْ‬
‫ك قد مضَى من بُؤْسنا مدة‪ ،‬ومن نعيمك مثلها؛ والموعدُ ل تعالى! قال الربيع‪ :‬فما رأيت المنصور قطّ‬ ‫ثم التفتَ إلى الربيع فقال له‪ :‬قل لصاحب ِ‬
‫أكثَر انكساراً منه حين أبلغتُه الرسالة‪.‬‬
‫أخذ العباس بن الحنف هذا المعنى‪ ،‬وقيل‪ :‬عُمارة بن عقيل بن بلل بن جرير‪ ،‬فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بنظرة عين عن هوى النفس تُحجَب‬ ‫حظِي حالي وحـالـك مـرّة‬ ‫فإن تَلْ َ‬
‫ك يُحـسَـبُ‬ ‫يم ُر بيوم من نعـيمـ ِ‬ ‫ل يوم مَ َر مِنْ ب ْؤسِ عيشتـي‬ ‫تَجِد ك ّ‬
‫ولما قتل المنصو ُر محمدَ بن عيد ال اعترضته امرأة معها صبيان‪ ،‬فقالت‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬أنا امرأ ُة محمد بن عبد الّ‪ ،‬وهذان ابنَاه‪ ،‬أي َت َمهُما‬
‫صعّرلهما خدّك‪ ،‬أوْ ينأى عنهما ِر ْفدُك؛ ولتَعطِفْك عليهما شَوَا ِبكُ النسب‪،‬‬ ‫سيفك‪ ،‬وأضرَعَهمَا خوفُك‪ ،‬فناشدتك الََ‪ ،‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أن ت َ‬
‫وأَوَاصِر الرّحم‪ ،‬فالتفتَ إلى الربيع‪ ،‬فقال‪ :‬اَ ْر ُددْ عليهما ضياع أبيهما‪ ،‬ثم قال‪ :‬كذا وال أحب أن تكونَ نساءُ بني هاشم‪.‬‬
‫وكان أهلُ المدينة لما ظهر محمد أَجْمعوا على حربِ المنصور‪ ،‬ونصر محمد؛ فلما ظفر المنصور أحضر جعفر بن محمد بن علي بن الحسين‬
‫جمّر نَخلَهم‪ .‬فقال له جعفر‪ :‬يا أميرَ‬ ‫ث إليهم من ُيغَوّر عيونهم‪ ،‬وي َ‬ ‫الصادق‪ ،‬فقال له‪ :‬قد رأيتَ إطباقَ أهلِ المدينة على حَرْبي‪ ،‬وقد رأيتُ أن أَبع َ‬
‫ل من نَسل الذين يَعفونَ‬ ‫ن يوسف قَدَ َر فغَفَر؛ فا ْق َتدِ بأيّهم شئت‪ ،‬وقد جعلك ا ّ‬ ‫ب ابتُلِي فصبرَ‪ ،‬وإ َ‬ ‫ن أيو َ‬ ‫طيَ فشكر‪ ،‬وإ ّ‬ ‫المؤمنين‪ ،‬إن سليمانَ أُع ِ‬
‫ويَصفَحون‪ ،‬فقال أبو جعفر‪ :‬إنّ أحدًا ل يُعلّمُنا ا ْلحِلمَ‪ ،‬ول يعرَفنَا العلم‪ ،‬وإنما قلتُ َه َممْت‪ ،‬ولم ترني فعلت‪ ،‬وإنك لتعل ُم أن قدرتي عليهم تم َنعُني‬
‫من الساءة إليهم‪.‬‬
‫ظمْ بنعمةٍ في مصيبة جَلبَتْ أجراً وأَفظ ْع بمصيب ٍة في نعمةٍ أكسبت كُفراً‪.‬‬ ‫وعزى جعف ُر بن محمد رجلً‪ ،‬فقال‪ :‬أَعْ ِ‬
‫هذا كقول الطائي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫و َي ْبتَلي ال َبعْض القَوْ ِم بال ّنعَـمِ‬ ‫قد يُنعِمُ ال بالبَلْوى وإن عظمتْ‬
‫وكان جعف ُر بن محمد يقولُ‪ :‬إني لُملِقُ أحياناً فأُتاجر ال بالصدقة فيُرْبحني‪.‬‬
‫ل عنه‪ :‬من تخلَق بالخلق الجميل وله خُلق سوء أصِيل فتخلُقُه ل محالَة زائل‪ ،‬وهو إلى خُلقه الَوّل آيل‪ ،‬كطَلْي الذهب على‬ ‫وقال جعفر‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫النحاس ينْسَحِق وتظهر صفرَته للناس‪.‬‬
‫هذا كقول العرجي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ومن خلئقه القصـارُ والـمَـلـق‬ ‫يا أيّها المتحـلّـي غـيرَ شـيمـتِـه‬
‫ق يأتِـي دُونـه الْـخـلـق‬ ‫إنّ التخل َ‬ ‫ض بِهِ‬
‫ارجعُ إلى خلقك المعروف وأر َ‬

‫‪24‬‬
‫ن مَنعَ الواخر يقطعُ لسانَ‬‫ختَها لتحسن َربّها وحِفظَها؛ ل ّ‬ ‫ي من يدٍ سبقَت مني إليه ُأتْبعها أ ْ‬ ‫وكان يقول‪ :‬ما توسّل إليّ أحد بوسيلة هي أقرب إل ّ‬
‫الوائل‪.‬‬
‫س مذ صارت إليه الخلفة إل الخشن‪ ،‬ول يأكل إل الجَشِب‪ .‬فقال‪ :‬يا َويْحَه! مع ما ُمكّن له‬ ‫وقيل لجعفر رحمه الّ‪ :‬إنّ أبا جعفر المنصور ل يلب ُ‬
‫جبِيَ إليه من الخراج! قالوا‪ :‬إنما يَفْعل ذلك بُخلً وجمعاً للمال‪ .‬فقال‪ :‬الحمد ل الذي حَرَمه من دُنياه ما ترك له من دينه‪ .‬انتهى‪.‬‬ ‫من السلطان‪ ،‬و ُ‬
‫قال‪ :‬ومن دعاء جعفر رضي ال عنه‪ :‬الله ّم إنك بما أنت أهلٌ له من العفو أوْلى بما أنا أهْل له من العقوبة‪.‬‬
‫ل بن معاوية بن عبد ال‪ ،‬بن جعفر عالماً‪ ،‬ناسِباً‪ ،‬وكان خطيبًا مُفَوّها‪ ،‬وشاعرًا مُجيداً‪ ،‬وكتب إلى بعض إخوانه‪:‬‬ ‫وكان عبد ا ّ‬
‫خبْرَة؛ ثم أع َق ْبتَني جفاء عن غير جَرِيرة؛‬ ‫طفٍ عن غير ِ‬ ‫أما بعدُ‪ ،‬فقد عاقَني الشك في َأمْرِك عن عزيمة الرّأي فيك‪ ،‬وذلك أنك ابتدَأتَني بِلُ ْ‬
‫خرُك عن وفَا ِئكَ؛ فل أنا في غير الرجاء مجمعٌ لك اطّراحاً‪ ،‬ول أنا في غد وانتظاره منك على ثقةٍ؛‬ ‫سنِي آ ِ‬ ‫ط َمعَني أوّلك في إخائك‪ ،‬وأَيَأ َ‬ ‫فأَ ْ‬
‫فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الشكّ في أمرك عن عزيمة الرأي فيك؛ فاج َت َمعْنَا على ائتلف‪ ،‬أو افترقنا على اختلف‪ ،‬والسلم‪.‬‬
‫وهو القائل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فكشفه التمحيصُ حتى بَـدَا لـيا‬ ‫ت ُفضَيلً كأن شيئًا مُلـفّـعـا‬ ‫رأي ُ‬
‫فإن عَرَضَت أيقنتُ أنْ ل أخالـيا‬ ‫فأنت أخي ما لم تكن ليَ حـاجةٌ‬
‫ونحن إذا ُم ْتنَـا أشـدُ تـغَـانـيَا‬ ‫كلنا غنيّ عـن أخـيه حـياتَـه‬
‫بلو ُتكَ في الحاجاتِ إلَ تـمـاديا‬ ‫فل زا َد ما بيني وبي َنكَ بـعـدمـا‬
‫كما أن عين السخط تُبلي المساوِيا‬ ‫ب كلـيلةٌ‬ ‫عيْ ٍ‬ ‫فعين الرضا عن كل َ‬
‫والقائل أيضاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ب نتكِلُ‬‫يوماً على الحْسَا ِ‬ ‫سنَا وإنْ أحسَا ُبنَا كَ ُرمَـتْ‬ ‫لْ‬
‫ل مَا َفعَلوا‬
‫ل ِمثْ َ‬
‫َت ْبنِي ونَفَع ُ‬ ‫نبْنِي كما كانَتْ أوَائِلُـنـا‬
‫وهذا كقول عامر بن الطفيل‪ ،‬قال أبو الحسن علي بن سليمان الخفش‪ :‬أنشدني محمد الحسن بن الحرون لعامر بن الطفيل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫أراكَ صَحيحًا كالسليم المـعـذّبِ‬ ‫تقول ابنةُ ال َعمْرِيَ‪ :‬ما لك َب ْعدَ مـا‬
‫من الثّ ْأرِ في حَييْ ُزبَيد وأ ْرحَـبِ‬ ‫فقلتُ لها‪َ :‬همّي الذي َتعْرفـينـهُ‬
‫مر ّك ُبهُمْ في الحيّ خير مركـب‬ ‫إن أغْزُ زُبيداً أغْز قومـاً أَعِـزّة‬
‫شِفاءٌ وخيرُ الثأرِ لـلـمـتـَأوّب‬ ‫خثْعم فـدمـاؤهـم‬ ‫حيّيْ َ‬ ‫وإن أغْزُ َ‬
‫بَأجْ َردَ طاو كالعَسِيب المُـشَـذّب‬ ‫فما أدْ َركَ الَ ْوتَا َر ِمثْلُ مـحـقّـق‬
‫ف ِدلَصٍ كالغدير ال ُمثَـوّبَ‬ ‫وزَغْ ٍ‬ ‫ي وأبـيض بَـاتـرٍ‬ ‫سمَرَ خَطّـ ّ‬
‫وأَ ْ‬
‫وفي الس ّر منها والصّريح المهذّب‬ ‫ن سيدِ عـامـر‬ ‫وإني وإن كنت اب َ‬
‫أبى الّ أن أسمـو بـأم ول أب‬ ‫فما سوّدتني عـامـر عـن وراثةٍ‬
‫أذَاها‪ ،‬وأرمي مَنْ رماها بمنكب‬ ‫ولكنني أحمي حماهـا‪ ،‬وأتّـقـي‬
‫ل في نعمته‪ ،‬وبارك في فَوَاضِله‪ ،‬وجميل نوافِلِه؛ ونسألُ ال ‪ -‬الذي قسم لكم ما تحبّون من‬ ‫وقْال أيضًا يهنّئ بعضَ الهاشميين بإملك‪ :‬زاد ا ّ‬
‫السرور ‪ -‬أن يجنَبكم ما تكرهون من المحذور‪ ،‬ويجعل ما أحدثه لكم زيناً‪ ،‬ومتاعاً حسناً‪ ،‬ورشداً ثابتاً‪ ،‬ويجعل سبيلَ ما أصبحت عليه‪ ،‬تماماً‬
‫حسْن موافقةِ الهْلِ‪ ،‬أَلفَ الُّ ذلك بالصلح‪ ،‬وتمَمه بالنجاح‪ ،‬و َمدَ لك في ثروة العدد‪ ،‬وطِيب الولد‪،‬‬ ‫شمْل‪ ،‬و ُ‬ ‫سمَوْت إليه؛ من اجتماع ال ّ‬ ‫لصالح ما َ‬
‫حسْنِ السلمةِ في الحال‪ ،‬وقُرَة العين‪ ،‬وصلح ذات ال َبيْن‪.‬‬ ‫مع الزيادة في المال‪ ،‬و ُ‬
‫ل عليه‪ ،‬فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ن بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمة ا ّ‬ ‫وهجا أبو عاصم محمد بن حمزة السلمي المدني الحس َ‬
‫ومهما قال فالحسن الجميلُ‬ ‫له حق وليس علـيه حَـقّ‬
‫عليه لغيره وهو الرسـولُ‬ ‫ل يَرَى حقوقاً‬ ‫وقد كان الرسو ُ‬
‫فلما ولي الحسن المدينة أتاه متنكّراً في زي العراب‪ ،‬فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫صفّينَ القبـورُ‬ ‫وتشهد لي ب ِ‬ ‫ن بن ز ْيدٍ‬ ‫ستأتي مِدحتي الحس َ‬
‫أبو حَسَن ُتعَادِيها الدهـور‬ ‫قبورٌ لم تزل مُذْ غاب عنها‬
‫يلو ُذ مُجِيرُها حُميَ المُجير‬ ‫قبور لو بأحمـدَ أو عـلـيً‬
‫جدِيرُ‬ ‫وأنت برفْع مَنْ رفعا َ‬ ‫ضعْهُ‬‫ضعَا َف َ‬ ‫هما أبوَاك مَنْ و َ‬
‫حيّاك ال! وبسط له رداءَه‪ ،‬وأجلسه عليه‪ ،‬وأمر له بعشرة آلف درهم‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬من أنت؟ قال‪ :‬أنا السلمي‪ .‬قال‪ُ :‬ادْنُ َ‬
‫سلْم مولى بني تَيمْ أن يصله‪ ،‬فلما مدح داودُ جعفرَ بن سليمان بن علي ‪ -‬وكان بينه وبين الحسن بن زيد‬ ‫وكان الحسن بن زيد قد عَوَد داود بن َ‬
‫تباعدٌ ‪ -‬أغضبه ذاك‪ ،‬وقدم الحسن من حج أو عمرة‪ ،‬فدخل عليه داود بن سلم مهنئاً‪ ،‬فقال‪ :‬أنتَ القائل في جعفر بن سليمان بن علي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وكان المنى في جعف ٍر أن يؤمّرَا‬ ‫وكنّا حديثًا قبل تأمير جـعـفـرٍ‬
‫إذا ما خطا عن منبر أ َم منبـرا‬ ‫حوى المنبرين الطاهرين كليهما‬
‫خيّرَ في أنسابهـم فـتـخـيّرا‬ ‫فُ‬ ‫صفّـوا أمـامُـه‬ ‫كأن بني حَوّاءَ ُ‬
‫ل فِداك‪ ،‬فكنتم خيرة اختياره! وأنا القائل‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫فقال داود‪ :‬نعم‪ ،‬جعلني ا ّ‬
‫بعفوٍ عن الجاني وإن كان ُمعْذِرا‬ ‫ت ُم ْنعِماً‬ ‫جدْ َ‬ ‫لعمري لئن عاقبتَ أو ُ‬
‫وأكرم فخراً إن فخرت وعُنصرا‬ ‫لنتَ بما َق ّدمْت أولـى بـمـدحةٍ‬
‫ويدعو علياً ذا المعالي وجعفـرا‬ ‫هو الغرّة الزهراء من فرع هاشم‬
‫طفّ الزكي المُطَهـرَا‬ ‫عمَك بِال َ‬ ‫وَ‬ ‫وزيد الندى والسبط سبط محمـد‬

‫‪25‬‬
‫ل عنه تـأخّـرا‬ ‫إذا ما نفاه ال ُعزْ ُ‬ ‫وما نال منها جعفر غير مجلـس‬
‫يرون به عزّاً عليكم ومظـهـرا‬ ‫بحقّكم نالوا ذُراها وأصـبـحـوا‬
‫فعادله الحسن بن زيد إلى ما كان عليه‪ ،‬ولم يزل يصله ويحسنُ إليه إلى أن مات‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬وإن كان ُم ْعذِراً؛ لن جعفراً أعطاه على أبياته الثلثة ألفَ دينار‪.‬‬
‫ت كمن باع لك دينه رجاء مدحك‪ ،‬أو‬ ‫ولما ولي الحسن بن زيد المدينة دخل عليه إبراهيمُ بن علي بن هَ ْرمَة‪ ،‬فقال له الحسن‪ :‬يا إبراهيم‪ ،‬لس ُ‬
‫جنّبني المقابح‪ ،‬وإنّ من حقَه عليَ ألَ أُغضِي على تقصير في‬ ‫ل تعالى بولدة نبيه‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الممادح‪ ،‬و َ‬ ‫خوف ذمك‪ ،‬فقد رزقَني ا ّ‬
‫ن لضربنَك حدّاً للخمرِ‪ ،‬وحداً للسكر؛ ولزيدَنَ لموضع حُرمتكَ بي‪ ،‬فليكن تركك لها لّ‪ ،‬عزّ وجلّ‪،‬‬ ‫ت بكَ سكرا َ‬ ‫حقّ وجب؛ وأنا أقسم لئن أتي ُ‬
‫عهَا للناس فتوكل إليهم‪ .‬فنهض ابن هرمة‪ ،‬وهو يقول‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫ُتعَنْ عليه‪ ،‬ول َتدَ ْ‬
‫وأدَبـنـي بـآدابِ الـكـرامِ‬ ‫نهاني ابن الرسولِ عن المُـدامِ‬
‫ف النـامِ‬ ‫لخوفِ ال ل خـو ِ‬ ‫وقال لي اصطبر عنها ودَعْهـا‬
‫ب تمكَنَ في عظـامـي‬ ‫لها حُ ّ‬ ‫وكيف تصبري عنها وحـبـي‬
‫وطيب العيش في خبث الحرام‬ ‫خبْثـاً‬
‫أرى طيفَ الخيال عََليّ ُ‬
‫وكان إبراهيم منهوماً في الخمر‪ ،‬وجلده خَيثَم بن عِرَاك صاحبُ شُرطة المدينة لرباح بن عبد الّ الحارثي في ولية أبي العباس‪.‬‬
‫ولما وفد على أبي جعفر المنصور ومدحه استحسن شعره ووصله‪ ،‬وقال له‪ :‬سَل حاجتك‪ ،‬قال‪ :‬تكتب لي إلى عامل المدينة ألَ َيحُدني إذا أُتيَ‬
‫بي سكران‪ ،‬فقال أبو جعفر‪ :‬هذا حد من حدود ال تعالى ل يجوز أن أعطله‪ ،‬قال‪ :‬فاحتك لي يا أمير المؤمنين! فكتب إلى عامل المدينة‪َ :‬منْ أتاك‬
‫بابن هرمة سكران فاجلده مائة‪ ،‬واجلد ابن هرمة ثمانين‪.‬‬
‫ل بن علي بن أبي طالب‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫س َككِ المدينة‪ ،‬فيقولون‪ :‬مَن يشتري مائة بثمانين؟! وقال موسى بن عبد ا ّ‬ ‫شرَط يمرّون به مطروحاً في ِ‬ ‫فكان ال ُ‬
‫ى الدَهرِ‬‫عتْبي عل َ‬ ‫ت منه طال َ‬ ‫تكَرّهْ ُ‬ ‫إذا أنا لم أ ْقبَلْ من الدهـر كـل مـا‬
‫وليس إلى المخلوق شي ٌء من المرِ‬ ‫إلى الّ كل المر في الخلق كلهـم‬
‫وأسلمني طولُ البلءَ إلى الصبـرِ‬ ‫ت مَسّ الضر حتى ألِـفْـتُـهُ‬ ‫تعود ُ‬
‫ق به صـدري‬ ‫وإن كنت أحياناً يضي ُ‬ ‫ووسَع صدري للذى النسُ بـالذى‬
‫لسُرْعَةِ لطف ال من حيث ل أدري‬ ‫وصيّرني يَأسِي من النـاس راجـياً‬
‫وموسى بن عبد الّ هو القائل‪ :‬مجزوء الوافر‪:‬‬
‫فكلّ جديدهـا خَـلَـقُ‬ ‫تولت بـهـجة الـدنـيا‬
‫فما أدري بمَـنْ أثـق‬ ‫وخان الناس كـلُـهُـم‬
‫سدَت دونها الط ُرقُ‬ ‫تِ ُ‬ ‫رأيت معالـمَ الـخـيرا‬
‫ول دِينٌ ول خُـلُــقُ‬ ‫فل حسَب ول نـسَـب‬
‫م في شيء وإن صدقوا‬ ‫فلست مصَـدَقَ القـوا‬
‫عذَرْت هؤلء الفساقَ في صَبرِهم؛‬ ‫ق بِحرْفٍ واحد؛ فقال الربيع‪َ :‬‬ ‫وكان المنصور حبسَهُ لخروجِ ِه عليه مع َأخَوَيهِ‪ ،‬ثم ضربه أَلْفَ سَوْطٍ‪ ،‬فما نط َ‬
‫ل هذا الفتى الذي نشأ في النعمة والدّعة؟ فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫فما بَا ُ‬
‫جَلَداً وصَبرًا قسوة السلطان‬ ‫إنّي من القو ِم الذين يَزِيدُهُمْ‬
‫وولدت هند بنت أبي عبيدة بن عبد الّ بن زَمعة موسى‪ ،‬ولها ستون سنة‪ ،‬ول يعلم امرأة ولدت بنت ستين سنة إلّ قرشيّة‪.‬‬
‫ل ابن الحسين‪ ،‬وقاتلهُ الحسين بن إسماعيل هناك‪ ،‬قد جرّد رجلً للقتل‪،‬‬ ‫اجتاز علي بن محمد العَلَوي بالجسر بحِدثان َقتْلِ عمر بن يحيى بن عبد ا ّ‬
‫فلما رأت أمّ الرجل عليّاً سأَلتْه أن يشفَع فيه‪ ،‬فقال عليّ إلى الحسين فأنشده‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ستَلِينُك بالـكـلمِ‬ ‫وجئتُك أ ْ‬ ‫قتلتَ أب ّر مَن َركِبَ المطايا‬
‫حدّ الْحُـسـامِ‬ ‫وفيما بيننا َ‬ ‫وعز عليَ أن ألـقـاكَ إلّ‬
‫قَوَادِمهُ يرفّ على الكامِ‬ ‫ولكنّ الجناحَ إذا أُصِيبـت‬
‫ج ُتكَ؟ قال‪ :‬العف ُو عن ابنِ هذه المرأة! فتركه‪.‬‬ ‫فقال له‪ :‬وما حا َ‬
‫س بن الحسين عن رجلٍ‪ ،‬فقال لجليسه‪ :‬أطرب من البل على الحدَاء‪ ،‬ومن الثمل على ال ِغنَاء‪.‬‬ ‫سئِل العبا ُ‬ ‫وُ‬
‫ل فقال‪ :‬ما ا ْلحِمام على الَحْرَار‪ ،‬وطول السّقَم في السفَار‪ ،‬وعِظَم الدّينِ على القتار‪ ،‬بأش ّد من لقائه‪.‬‬ ‫وذكر العباس رج ً‬
‫ت أن َيتَ َزيّدَ عندك حاضراً‪ ،‬أفتأذنُ لي يا أمير‬ ‫س بن الحسين للمأمون‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن لساني َينْطَلِق بمدْحِك غائباً‪ ،‬وقد أحبب ُ‬ ‫وقال العبا ُ‬
‫ل فتُحسِن‪َ ،‬وتَحضُر فتزبّن‪ ،‬وتغيب فتُؤَ َتمَن‪ ،‬فقال‪ :‬ما بعدَ هذا كلمٌ يا أميرَ المؤمنين! أفتأذن‬ ‫المؤمنين في الكلم؟ فقال له‪ :‬قل؛ فوال إنك لتقو ُ‬
‫بالسكوت؟ قال‪ :‬إذا شئت‪.‬‬
‫جبَال‪.‬‬‫ل بين ِرمَال‪ ،‬وماء يتغلغل بين ال ِ‬ ‫ت كلمَه إل بثعبان ينها ُ‬ ‫شّبهْ ُ‬
‫ل بليغًا فقال‪ :‬ما َ‬‫وذكر رج ً‬
‫وسمِ َع المنتجع بن نبهان كل َم العباس بن الحسين‪ ،‬فقال‪ :‬هذا كل ٌم يدلّ سائره على غابره‪ ،‬وأولُه على آخره‪.‬‬
‫شدُك الشعرَ‬ ‫حلْماً وأناة‪ ،‬ولم أسمع َلحْناً وَل إحالة؛ يح َدثُكَ الحديثَ على مَطَاوِيه‪ ،‬ويُن ِ‬ ‫وسأل المأمونُ العباسَ بن الحسين عن رجل؟ فقال‪ :‬رَأيتُ له ِ‬
‫على مَدارجه‪.‬‬
‫شعَرِ الهاشميين؛ وهو ُيعَد في طبقة‬ ‫وكان المأمون يقول‪ :‬مَنْ أراد أن يسمعَ لَهوًا بل حَرج فليسمعْ كلمَ العباسِ‪ ،‬والعباس بن الحسين من أ ْ‬
‫إبراهيم ابن المهدي‪ ،‬وهو القائل‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫سبَ ْينَك بالعيون وبالـشـعـور‬ ‫َ‬ ‫أتاحَ لك الهوى بِيضٌ حِـسَـانٌ‬
‫وأوْلى لو نظرت إلى الخصورِ‬ ‫نظرت إلى النحور فكدت تَقضِي‬
‫وهو القائل أيضاً‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬

‫‪26‬‬
‫بِيضٌ نواعمُ في الخـدورِ‬ ‫صا َدتْك من بعض القصور‬
‫ن منـهـنّ حُـورِ‬ ‫ك بأعيُ ٍ‬ ‫حُور تحور إلـى صـبَـا‬
‫جنَى الرّضاب من الخمور‬ ‫َ‬ ‫وكأنمـا بـثـغـورهـنّ‬
‫د بماء رمان الـصّـدور‬ ‫ص ُبغْنَ تُـفّـاح الـخـدو‬‫يَ ْ‬
‫ل بن العباس بن عبد‬ ‫ل عنه‪ ،‬وأم عبيد الّ جدّة بنت عبيدِ ا ّ‬ ‫س بن الحسين بن عبيد ال بن العباس بن علي بن أبي طالب‪ ،‬رضي ا ّ‬ ‫وهو‪ :‬العبا ُ‬
‫المطلب ع ّم محمد بن علي أبي الخلفاء‪.‬‬
‫طنْفِسة ومعه عليها‬
‫سبِه وأدبه‪ .‬قال أبو دلف‪ :‬دخلتُ على الرشيد وهو في طارمة على ِ‬ ‫وكان الرشيدُ والمأمون يقرّبانِ العباسَ غايةَ التقريب؛ ِلنَ َ‬
‫خرَاب َيبَاب‪َ ،‬أخْ َربَها الَكراد والعراب‪ .‬فقال قائل‪ :‬هذا‬ ‫خبَرُ أرْضك؟ فقلت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪َ ،‬‬ ‫شيخٌ جميلُ المنظر؛ فقال لي الرشيد‪ :‬يا قاسم‪ ،‬ما َ‬
‫آفةُ الجبل‪ ،‬وهو أفسده‪ ،‬فقلت‪ :‬أنا أُصْلحه‪ ،‬قال الرشيد‪ :‬وكيف ذلك؟ قلت‪ :‬أفْسَدتُهُ وأنت عليَ وأُصلِحُه وأنتَ معي! قال الشيخُ‪ :‬إن همته لترمي به‬
‫ف ذلك الوقت صغيرَ السنّ‪.‬‬ ‫من وراء سنّ ِه مَ ْرمًى بعيداً؛ فسألت عن الشيخ فقيل‪ :‬العباس بن الحسين‪ ،‬وكان أبو دُلَ َ‬
‫ل عنه‪ ،‬محمدَ بن الرشي ِد المينَ بالمدينة وموسى على َبغْلَة‪ ،‬فقال للفضل بن الربيع‪ :‬عَاتِبْ هذا‪ ،‬فقال له‬ ‫ولقي موسى بن جعفرٍ‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫سبِق‪ ،‬وإن طلبت عليها تلحق‪ ،‬فقال‪ :‬لست أحتاج أن أطْلُب‪ ،‬ول إلى‬ ‫الفضلُ‪ :‬كيف لقيتَ أمير المؤمنين على هذه الدابة التي إن طَلَبتَ عليها لم تَ ْ‬
‫أن أُطلب؛ ولكنها دابةٌ تنحط عن خيَلَء الخيلِ‪ ،‬وترتفع عن ذِلة ال َعيْر‪ ،‬وخيرُ المورِ أوسطُها‪.‬‬
‫ن بن سهل‪ ،‬فقال‪ :‬إنا لم ن ْأ ِتكَ ُمعَزّين؛ بل جئنَاك ُم ْقتَدِين؛ فالحمدُ ل الذي جعل حياتكم للناس‬ ‫أُصيب علي بن موسى بمصيبة‪ ،‬فصار إليه الحس ُ‬
‫رَحمَة‪ ،‬ومصائبَكم لهم قدوة‪.‬‬
‫عهْدَه‪ ،‬وعقد له الخلفة بعده‪ ،‬ونزع السّواد عن بني العباس‪ ،‬وأمرهم بلباس الخضرة‪،‬‬ ‫وكان علي بن موسى الرضا‪ ،‬رحمه ال‪ ،‬قد ولّه المأمون َ‬
‫ن فيه تبرّكا به‪ ،‬وكان الرشيد قد مات بطوس فدفن هناك؛ ولذلك‬ ‫ومات علي بن موسى في حياةِ المأمون بطُوس‪ ،‬فشق المأمونُ قبر الرشيد و ُدفِ َ‬
‫قال دِعْبل بن علي الخزاعي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫إن كنت تربع من دِين علـى وَطـر‬ ‫اِ ْربَعْ بطوسٍ على َقبْر الزكّي بـهـا‬
‫على الزكيّ بقرب الرجْسِ من ضَ َررِ‬ ‫ما ينفع الرّجس من قُرْب الزكّي‪ ،‬ول‬
‫له يداه فـخُـذْ مـن ذاك أو فَــذَرِ‬ ‫هيهات كل امرئ رَهْن بما كسـبـت‬
‫وقبر شرّهم‪ ،‬هـذا مـن الـعِـبَـرِ‬ ‫خيْرُ الناس كلـهـم‬ ‫قبران في طُوس‪َ :‬‬
‫وكان دعبل مداحاً لهلِ البيت‪ ،‬كثير التعصُب لهم‪ ،‬والغلوّ فيهم‪ .‬وله المرثية المشهورة‪ ،‬وهي من جيد شعره‪ ،‬وأولها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي ُمقْفرُ العَرَصـاتِ‬ ‫َومَنزِلُ وَحْ ٍ‬ ‫ت مـن تِـلَوةٍ‬ ‫مَدَارِس آياتِ عَفَ ْ‬
‫وبالبيت والتّعرِيفِ وا ْلجَـمَـراتِ‬ ‫ف من مِنـى‬ ‫خيْ ِ‬ ‫للِ رسولِ ال بال َ‬
‫وحمزة والسَجّاد ذي الثفـنَـات‬ ‫دِيَارُ علي والحسينِ وجَـعْـفَـر‬
‫ع ْهدُها بالصوْمِ والصلَـوَاتِ‬ ‫متى َ‬ ‫قِفَا نَسْأَل الدارَ التي خص أهلُهـا‬
‫أفانينَ في الفاق مفْـتَـرِقـات‬ ‫شطّتْ بهم غُ ْربَةُ النَوَى‬ ‫وأينَ الُلى َ‬
‫وأهْجُرُ فيهم ُأسْرَتي وثِـقَـاتِـي‬ ‫حبّهـم‬ ‫ب قَصِيَ الدا ِر من أجل ُ‬ ‫ح ّ‬‫أُ ِ‬
‫وهي طويلة‪.‬‬
‫ل بعد أن أعْطَاه المان‪ ،‬وكان قد هجاه وهجَا أباه‪ ،‬فقال‪ :‬يا دعبل‪ ،‬من الحضيض الوهد! فقال‪ :‬يا أمير‬ ‫ن بغداد أحْضَر دِعْب ً‬ ‫ولما دخل المأمو ُ‬
‫جرْماً مني! أراد المأمون قول دعبل يهجوه‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫المؤمنين‪ ،‬قد عفوت عمن هو أشدّ ُ‬
‫ك بِمَـقْـعَـدِ‬
‫قتلَتْ أخَاك وش َر َف ْت َ‬ ‫إنّي من القوم الذين سـيوفُـهُـمْ‬
‫واستنقذوك من ا ْلحَضِيضِ الَوْ َهدِ‬ ‫شادُوا بذكرك بعد طولِ خُمولِـه‬
‫يفتخِرُ عليه ب َقتْلِ طاهر بن الحسين بن مصعب ذي اليمينين أخاه محمداً‪ ،‬وطاهر مولى لخُزاعة‪ ،‬فاستنشده هذه القصيدة التائية‪ ،‬فاستعفاه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫س عليك‪ ،‬وقد رويتُها‪ ،‬وإنما أحببت أن أسمعَها منك‪ ،‬فأنشدها دعبل؛ فلما انتهى إلى قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ل بأْ َ‬
‫غدُو دائمَ الحسَـرَاتِ‬ ‫أروح وأ ْ‬ ‫ألَم تَر أني مذ ثلثـين حِـجّةً‬
‫وأيد َيهُم من فيئهم صَـفـرات‬ ‫أرى فَيئهم في غيرهم مُتقسّماً‬
‫أ ُكفّا عن الوتار مُنْقَبـضـاتِ‬ ‫إذا وُتروا مدّوا إلى أهل ِوتْرهم‬
‫وآل زياد غلَظُ القَـصَـراتِ‬ ‫وآلُ رسول ال نُحْفٌ جسومهم‬
‫وبنت رسول الّ في الفَلَواتِ‬ ‫بناتُ زيادٍ في القصو ِر مَصْونَةٌ‬
‫بكى المأمون‪ ،‬وجدّد له المان‪ ،‬وأَحْسَن له الصّلة‪.‬‬
‫والشيء يستدعي ما قرَع بابه‪ ،‬وجذبَ أَ ْهدَابَه‪ ،‬قال سليمان بن قتيبة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فلم أرَها عَهدِي بها يوم حُلّـت‬ ‫مررت على أبيات آل محـمـدٍ‬
‫ت من أهلها قد تخلتِ‬ ‫ح ْ‬ ‫وإن أصب َ‬ ‫فل يبعد الّ الديارَ وأهـلَـهـا‬
‫ظمَت تلك الرزايا وجلّـت‬ ‫أل ع ُ‬ ‫وكانوا رجاءً ثـم عـادوا رَزِيةً‬
‫أذلّ رقابَ المسلمـين فَـذَلـتِ‬ ‫وإن قتيل الطَفّ من آلِ هـاشـم‬
‫ويشبه قوله‪ :‬وكانوا رجاء ثم عادوا رزية قولَ امرأ ٍة من العرب مرَت بالجسر بجثّة جعفر بن يحيى البرمكي َمصْلوباً؛ فقالت‪ :‬لئن أصبحت‬
‫نهاية في البلء‪ ،‬لقد كنت غايَةَ في الرجاء‪.‬‬
‫ألفاظ لهل العصر في أوصاف الشراف‬
‫لها في هذا الموضع مَوْقع‬

‫‪27‬‬
‫سبٌ شَادخ‪.‬‬ ‫جدٌ بَاذِخ‪ ،‬وحَ َ‬ ‫ف العنصر الكريم‪ ،‬ومعدن الشرف الصميم‪ .‬أَصلٌ راسخ‪ ،‬وفرع شامِخ‪ ،‬ومَ ْ‬ ‫فلن من شرَ ِ‬
‫عرْق كريمِ‪،‬‬
‫س َن ْبعَتُه في محلّ الفضل‪ .‬أَصلٌ شريف‪ ،‬و ِ‬ ‫غرَ َ‬ ‫جدِ‪ ،‬و َ‬
‫حتَه في قرارةِ المَ ْ‬
‫طرَفين‪ ،‬شريف الجا ِنبَين‪ ،‬قد ركّبَ ال دَو َ‬ ‫فلن كريم ال َ‬
‫ف نَسبُ أسلفه‪ .‬نسبٌ فخم‪ ،‬وشرفٌ ضخم‪ .‬يستوفي شرفَ الرومة بكرم البوّة‬ ‫و َمغْرِس عظيم‪ ،‬ومغْرز صميم‪ .‬المجد لسانُ أوصافه‪ ،‬والشر ُ‬
‫والمومةْ‪ ،‬وشرف الخؤُولة والعمومة‪ .‬ما َأ َتتْه المحاسِنُ عن كللة‪ ،‬ول ظَفر بالهدى عن ضللة‪ ،‬بل تناول المجدَ كابراً عن كابر‪ ،‬وأخذ الفخْرَ‬
‫عن أسِ َرةٍ ومنابر‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫كالرمح أُنبوبا على أُنوبِ‬ ‫ف تَنفل كابراً عن كابر‬ ‫شر ٌ‬
‫ج َرتُه من َثدْي الرسالة‪ ،‬وتهدّلت أغصانُه عن َن ْبعَة المامة‪ ،‬وتبحبَحَت أطْرافُه في عَرصَةِ الشّرفِ‬ ‫ستَقى عِ ْرقَه من َمنْبع النبوّة‪ ،‬ورضعتْ ش َ‬ ‫اْ‬
‫س ْمعِه‪ ،‬مختار من أ ْكرَم المناسب‪ ،‬منتَخَب من‬ ‫ضبْعه‪ ،‬وشقّ ال َوحْيُ عن بصره و َ‬ ‫والسيادة‪ ،‬وتفقّأت بيضته عن سللةِ الطهارة‪ ،‬قد جذَبَ القرآن ب َ‬
‫شرَف العناصر‪ ،‬مرْتضًى من أعلى المحاتد‪ ،‬مُ ْؤثَر من أعظم العشائر‪ ،‬قد وَرِث الشرفَ جامعاً عن جَامِع‪ ،‬وشهد له نداءُ الصوامع‪ ،‬هو من‬ ‫أْ‬
‫طرْفها‪ ،‬ومن الرسالة في مهِبْطِ وَحيها‪ ،‬ومن المامة في موقف عزَها‪ ،‬ينزع إلى المحا ِمدِ بنفس‬ ‫سوَاد َ‬ ‫مُضر في سُوَيداء قَ ْلبِها‪ ،‬ومن هاشم في َ‬
‫ط ْبعُه‪ ،‬وهو الطّيب أصلُه وفَرعُه‪ ،‬الزّاكي بذره وزَرْعُه‪،‬‬ ‫وعِرْق‪ ،‬ويحن إلى المكارم بوراثة وخلق؛ يتناسب أصلُه وفَرْعُه‪ ،‬ويتناصف نَخرُه و َ‬
‫ب َفرْعًا مشيداً لصله‪.‬‬ ‫شبْله‪ ،‬ويكون النجي ُ‬ ‫ع ْرقِه‪ ،‬وتلوح مخايل الليثِ في ِ‬ ‫يجمع إلى عز النصاب‪ ،‬مَ ِزيّةَ الداب‪ ،‬ل غَزو أن يجريَ الجوادُ على ِ‬
‫له معِ نباهة شَ َرفِهِ‪ ،‬نزاهة سََلفِه‪ ،‬ومع كرم أرومته وحَزْمه‪ ،‬مزيةُ أدبه وعلمه‪ ،‬لن تخلف ثمرة غرْس ا ْرتِيدَ لها من المنابت أزْكاها‪ ،‬ومن‬
‫المغارس أطْيبها وأغذاها وأنماها‪ ،‬قد جمع شرفَ الخلق‪ ،‬إلى شرفِ العراق‪ ،‬وكرمَ الداب‪ ،‬إلى كرم النساب؛ له في المجد أول وآخِر‪،‬‬
‫ث وقديمٌ؛ ل غَرْوَ أنْ يغمر فضلُه‪ ،‬وهو نَجْلُ الصّيد الكارم‪ ،‬أو يغزر علمه وهو َفيْضُ البحور‬ ‫وفي الكرم تليدٌ وطَارِف‪ ،‬وفي الفضل حدي ٌ‬
‫عتْ أغصانُها‪ ،‬وبرد‬ ‫سمَق فَرْعها‪ ،‬وطاب عُودُها‪ ،‬واعتدل عمودُها‪ ،‬وتفيّأتْ ظِللُها‪ ،‬وتهدَلَتْ ثمارُها‪ ،‬وتفرَ َ‬ ‫الخضارم‪ ،‬دَوْحَةٌ رسب عِ ْرقُها‪ ،‬و َ‬
‫جبَاهَها‪ ،‬وتَ ْلثِمُ النجومُ أرضَه بأفواهِها وشِفاهِها‪.‬‬ ‫جدٌ يلحظ الجوْزَاء من عَال‪ ،‬ويطولُ النج َم كل مَطَال‪ .‬شَرَفٌ تضع له الفلكُ خدودَها و ِ‬ ‫مَقيلُها‪ .‬مَ ْ‬
‫جدُه‬‫ل إليه تُشِير‪ .‬محله شاهق‪ ،‬ومَ ْ‬ ‫ف به أنيق‪ .‬ولسانُ الثناء ب َفضْله نَطوق‪ .‬فََلكُ المجدِ عليه َيدُور‪ ،‬ويدُ العُ َ‬ ‫نسبُ المجدِ به عَرِيق‪ ،‬وَرَ ْوضُ الشر ِ‬
‫بَاسِق‪.‬‬
‫بدء الكتاب‬
‫ف عليه‪ ،‬ورأيتُ أن أبتدئ مقدّمات‬ ‫ط َ‬ ‫قد تتمَ ما استفتحت به التأليف‪ ،‬وجعلته مقدمة التصنيف‪ ،‬مع ما اقترن به‪ ،‬وانْضَافَ إليه‪ ،‬والتف به‪ ،‬وانْعَ َ‬
‫البلغات بغُرَر التحاميد وأوْصافها‪ ،‬وما يتعلّق بأثنائها وأطرافها‪.‬‬
‫وقد قال سهل بن هارون في أول كتابٍ عمله‪ :‬يجب على كلّ مبتدئ مقالةً أن يبتدئَ بحمدِ الّ قبل استفتاحها‪ ،‬كما بُدئ بالنعمة قبل استحقاقها‪.‬‬
‫ح ْمدُ ال خيرُ ما ا ْبتُدِئ به القول وختُم‪ ،‬واف ُتتِح‬ ‫ق فمه‪ ،‬وافتتح به كَلِمه‪ ،‬حمدُ الَِ جل ثناؤُه‪ ،‬وتقدّست أسماؤُه‪َ .‬‬ ‫ولهل العصر‪ :‬أولَى ما َفغَر به الناط ُ‬
‫ب و ُتمَمَ‪.‬‬
‫به الخطا ُ‬
‫ب بظهير‪ ،‬جل عن موقع تحصيل أدوات البشر‪ ،‬ولَطُف عن‬ ‫وقال أبو العباس عبد ال بن المعتز بال‪ :‬إن الّ‪ ،‬جلّ ثناؤه‪ ،‬ل يُمثل بنظير‪ ،‬ول ُيغْلَ ُ‬
‫حصَى نعماؤه وتكافأ آلؤه؟ عَجَز أقْصى الشك ِر عن أدَاء نعمته‪ ،‬وتضاءل‬ ‫ح َمدُ إلَ بتوفيق منه يَ ْقتَضِي حمداً‪ ،‬فمتى تُ ْ‬ ‫ألحاظ خطرات ال ِفكَر‪ ،‬ل يُ ْ‬
‫سعَ ِة ُقدْرَته؛ قَدر َف َقدَر‪ ،‬وحكَم فأحكم؛ وجعل الدّين جامعاً لشمْل عباده‪ ،‬والشرائع مَنَاراً على سبيل طاعته؛ َي ْت َبعُها أهل اليقين به‪،‬‬ ‫ما خلق في ِ‬
‫ويَحِيدُ عنها أهلُ الشك فيه‪.‬‬
‫أخذ أبو العباس قولَه‪ :‬ول يحمد إلَ بتوفيق منه يقتضي حمدًا من قول محمود بن الحسن الوراق‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شكْـرُ‬ ‫عليّ له في ِمثْلها يَجبُ ال ُ‬ ‫لّ ِنعْـمَةً‬ ‫شكْري نعمةَ ا ِ‬ ‫إذا كان ُ‬
‫وإن طالت اليام واتَصَلَ العمرُ‬ ‫شكْرِ إلّ بفضـلـهِ‬ ‫فكيف بلوغُ ال ّ‬
‫جرُ‬‫وإن َمسَ بالضّراء أعقَبها الَ ْ‬ ‫إذا عمّ بالسّرّاء عَمَ سـرورهـا‬
‫حرُ‬ ‫تَضِيقُ بها الوهامُ والبَرُ وا ْلبَ ْ‬ ‫ل له فـيه نِـعْـمَةٌ‬ ‫فما منهما إ َ‬
‫وإنما أخذه محمود من قول أبي العتاهية‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫دَ على الحمد والمزيدُ لَـ َديْه‬ ‫لَ فَهوَ ألهمني الحـم‬ ‫أحمد ا ِ‬
‫ت عليهِ‬ ‫صِرْتُ في غيره بكي ُ‬ ‫ت فيه فلـمّـا‬ ‫ن َب َكيْ ُ‬
‫كم زما ٍ‬
‫وقد اضطربت الروايةُ في هذين البيتين وقائلهما‪ ،‬وهذا البيت الثاني كثير‪ ،‬قال إبراهيم بن العباس‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫شكُوهَا‬ ‫إذا ت َقضّت ونحنُ اليوْ َم نَ ْ‬ ‫كذاك أيامُنا ل شك َننْـدُبـهـا‬
‫وآخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل بكيتُ على أمـسِ‬ ‫فأفْقدُهُ إ ّ‬ ‫وما مرّ يوم أرتجي فيه راحة‬
‫ومحمود هو القائل أيضاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫هذا محالٌ في القياس بـديعُ‬ ‫ت تُظْهرُ حبهُ‬ ‫َتعْصِي اللهَ وأنْ َ‬
‫ب مُطِيعُ‬ ‫إنّ المحب لمن أحَ ّ‬ ‫ط ْعتَـهُ‬‫لو كان حبّك صادقاً ل َ‬
‫حكَم المتق َدمِين‪ ،‬فيحلّي بها نظامَه‪ ،‬و ُيزَين بها كلمَه‪ ،‬وهو القائل‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وكان كثيراً ما ينقلُ أخبارَ الماضين‪ ،‬و ِ‬
‫ت ذَاكَ له على عِ ْلمِي‬ ‫وشكرْ ُ‬ ‫إني وَ َهبْتُ لظالمي ظُلْمـي‬
‫جهْلِهِ حِـلْـمِـي‬‫َلمّا أبان ب َ‬ ‫ورأيتـه أسْـدَى إلــيَ يداً‬
‫َفضْل فعادَ مُضاعَفَ الْجُرْم‬ ‫ج َعتْ إساءتُ ُه عليه‪َ ،‬ولِـي‬ ‫رَ َ‬
‫وأنا المسيءُ إليه في الزعْمِ‬ ‫فكأنما الحْسَـانُ كـان لـهُ‬
‫حتى َر َثيْتُ له من الظـلـم‬ ‫ما زال يَظِْلمُني وأرحـمـهُ‬
‫وهو القائل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫خيْ ٍر تزيدْتُ في الشَـرَ‬ ‫خيْراً إلى َ‬ ‫وَ‬ ‫أراني إذا ما ازددتُ مـالً وثـروَةً‬

‫‪28‬‬
‫شكْرِ للـه بـالـكُـفْـ ِر‬
‫أقو ُم مقامَ ال ّ‬ ‫شكْر ال إنْ كـنـت إنـمـا‬ ‫فكيف ب ُ‬
‫يقولُ الذي يدري من المر مَا أدْري‬ ‫بأي اعْـتِـذَارٍ أوْ بـأيةِ حُـــجّة‬
‫فإنَ اطّراحَ ال ُعذْرِ خي ٌر من العُـذْرِ‬ ‫إذا كان وَجْهُ ا ْلعُـذْرِ لـيس بـبـينٍ‬
‫في البلغة‬
‫شّ‬
‫ك‬ ‫ق بين ال َ‬ ‫صيْقَل العقول‪َ ،‬ومُجَلي الشبهة‪ ،‬وموجب الحجة‪ ،‬والحاكم عند اختصام الظنون‪ ،‬والمفرّ ُ‬ ‫ولبن المعتز‪ :‬البيان تَرْجُمانُ القلوب‪ ،‬وَ َ‬
‫ق بأنصاره‪ ،‬وخَلَ ربْعُ‬ ‫واليقين‪ ،‬وهو من سلطان الرُسُل الذي ا ْنقَاد به المصعَب‪ ،‬واستقام الصْيد‪ ،‬وبهت الكافر‪ ،‬وسَلَم الممتنع‪ ،‬حتى أَشِب الح ّ‬
‫عمّاره‪ ،‬وخيرُ البيان ما كان مصرَحًا عن المعنى؛ ليُسْرعَ إلى الفهم تلقّيه‪ ،‬وموجَزاً ليخفّ على اللفظ تعاطيه‪.‬‬ ‫ل من ُ‬ ‫الباط ِ‬
‫عجْز المتعاطين‪ ،‬وَوَهن المتكلّفين‪ ،‬وتحيّر الكذابين‪،‬‬ ‫وفَضل القرآن على سائر الكلم معروف غيرُ مجهول‪ ،‬وظاهر غيرُ خفي؛ يشهدُ بذلك َ‬
‫ظلَم الضلل‪ ،‬ولسانُ الصّدق النافي للكذب‪ ،‬ونذيرّ‬ ‫وهو المبلّغ الذي ل يُمل‪ ،‬والجديد الذي ل يَخْلُق‪ ،‬والحقّ الصادع‪ ،‬والنورُ الساطع‪ ،‬والماحِي ل ُ‬
‫قدّ َمتْه الرحمة قبل الهلك‪ ،‬ونَاعِي الدنيا المنقولة‪ ،‬و َبشِيرُ الخرةِ المخلَدة‪ ،‬ومِفْتاح الخير‪ ،‬ودليل الجنة‪ ،‬إنْ أ ْوجَزَ كان كافياً‪ ،‬وإنْ أكثر كان‬
‫سهْلٌ على الفهم‪،‬‬ ‫ن بيّن فشافياً‪َ ،‬‬ ‫مُ َذكّراً‪ ،‬وإن أ ْومَأ كان مُقنِعاً‪ ،‬وإن أطال كان مُفهِماً‪ ،‬وإن أمر فَناصحاً‪ ،‬وإن حكم َفعَا ِدلً‪ ،‬وإن أخبر فصادقاً‪ ،‬وإ ْ‬
‫جوْهَر‬ ‫حكَم‪ ،‬و َ‬
‫ج تستضي ُء به القلوب‪ ،‬حُل ٌو إذا تذ ّوقَتْه العقول‪ ،‬بَحْرُ العلوم‪ ،‬وديوانُ الْ ِ‬ ‫سرَا ٌ‬
‫خذَ‪ ،‬بعيدُ المرام‪ِ ،‬‬ ‫صعْبٌ على المتعاطي‪ ،‬قريب المَ ْأ َ‬ ‫َ‬
‫ل عليه وعلى آله الطيبين‪ ،‬فخصمَ‬ ‫الكلم‪ ،‬ونُزْهَة المتوسّمين‪ ،‬ورَوْح قلوب المؤمنين‪ ،‬نزل به الرُوح المِينُ على محمد خاتم النبيين‪ ،‬صلى ا ّ‬
‫خدّ الكفر‪.‬‬
‫الباطل‪ ،‬وصَدع بالحق‪ ،‬وتألف من النفرة‪ ،‬وأنْ َقذَ من الهَلَكة‪ ،‬فوصل ال له النصر‪ ،‬وأضرع به َ‬
‫جمَ َع مع ذلك سهولةَ‬ ‫قال علي بن عيسى الرماني‪ :‬البلغةُ ما حُطّ التكلّف عنه‪ ،‬وبُني على التبيين‪ ،‬وكانت الفائدةُ أغْلب عليه من القافية‪ ،‬بأَنْ َ‬
‫حسْنُ البتداءَ كحُسْن النتهاء‪ ،‬وحسن الوَصل‪ ،‬كحُسْنِ القطع‪ ،‬في‬ ‫المخرج‪ ،‬مع ُقرْبِ المتناوَل؛ وعذوبةَ اللفظ‪ ،‬مع رشاقَةِ المعنى؛ وأن يكون ُ‬
‫ن فيه‬ ‫المعنى والسمع‪ ،‬وكانت ك ّل كلمة قد وقَعتْ في حقّها‪ ،‬وإلى جَنب أُختها‪ ،‬حتى ل يقالَ‪ :‬لو كان كذا في موضع كذا لكان أولى! وحتى ل يكو َ‬
‫س َبهَاءَ الحكمة‪ ،‬ونورَ المعرفة‪ ،‬وشرفَ المعنى‪ ،‬وجَزالة اللّفظ‪ ،‬وكانت حلوتُه في الصدر وجللته في‬ ‫لفظٌ مختلف‪ ،‬ول معنى مُستَكرَه‪ ،‬ثم أُلب َ‬
‫النفس تفتّقُ الفهم‪ ،‬وتنثر دقائقَ الحكم‪ ،‬وكان ظاهرَ النفع‪ ،‬شريفَ القَصْد‪ ،‬معتدلَ الوَزْنِ‪ ،‬جميل المذهَبِ‪ ،‬كريمَ المطلب‪ ،‬فصيحاً في معناه‪ ،‬بيناً‬
‫عجَ َز عن معَارَضته جمي ُع النام‪.‬‬ ‫ل هذه الشروط قد حواها القرآن‪ ،‬ولذلك َ‬ ‫في فَحْواه؛ وك ّ‬
‫ألفاظ لهل العصر في ذكر القرآن‬
‫جتُه الكبرى‪ ،‬ومحجّته الوسطَى‪ ،‬وهو الواضح سبيلُه‪ ،‬الراشدُ‬ ‫القرآن حبل الّ الممدود‪ ،‬وعَهده المعهود‪ ،‬وظلُه العميم‪ ،‬وصرَاطه المستقيم‪ ،‬وح ّ‬
‫ل وعهْده‪،‬‬ ‫دليلُه‪ ،‬الذي سَنِ استضاءَ بمصابيحه أبْصَر ونَجَا‪ ،‬ومَنْ أعرض عنه ضَلّ وهَوَى؛ فضائل القرآن ل تُسْتقصى في ألفِ قرن‪ ،‬حجّة ا ّ‬
‫ووعيدُه ووعده‪ ،‬به يعلمُ الجاهلُ‪ ،‬ويعملُ العامِلُ‪ ،‬ويتنبّه الساهي‪ ،‬ويتذكّر اللهي‪ ،‬بَشِيرُ الثواب‪ ،‬و َنذِيرُ العقابِ‪ ،‬وشفاءُ الصدور‪ ،‬وجَلءُ المورِ؛‬
‫من فضائله أنه يُقْ َرُأ دائماً‪ ،‬ويُكتَبُ‪ ،‬و ُيمْلَى‪ ،‬ول يَملّ‪ .‬ما أهْون الدنيا على مَنْ جعل القرآن إمامه‪ ،‬وتصوّر الموتَ أمامه‪ ،‬طوبى لمن جعل القرآن‬
‫ن ترتيله‪.‬‬ ‫مصباح قلبه‪ ،‬ومفتاح ُلبّه‪ .‬من حقّ القرآن حِ ْفظُ ترتيبه‪ ،‬وحسْ ُ‬
‫ستَخْرِجة لها من‬ ‫ح ِييَة لها من مَ ْوتِ الجهالة‪ ،‬ومُ ْ‬ ‫حيْرَة‪ ،‬ومُ ْ‬ ‫سكْرَةِ ا ْل َ‬‫سنَة الغفْلة‪َ ،‬و ُمنْقذَة للبصائر من َ‬ ‫قال بعض الحكماء‪ :‬الحكمة مُوقِظَةٌ للقلوب من ِ‬
‫سمِيرٌ في‬ ‫حدَة‪ ،‬و َ‬ ‫حذٌ للذهان الكليلة‪ ،‬ونورٌ في الظلمة‪ ،‬وُأ ْنسٌ في ال َوحْشَةِ‪ ،‬وصاحبٌ في الوَ ْ‬ ‫شَ‬ ‫ضيقِ الضَللَة؛ والعل ُم دواء للقلوب العليلة‪ ،‬ومِ ْ‬
‫صلَةٌ في المجلس‪ ،‬ومادّةٌ للعقل وتَلْقيحٌ للفهم‪ ،‬ونَافٍ للعِيّ المُزْرِي بأهْلِ الحْسَابِ‪ ،‬المقصّرِ بذوي اللباب؛ أنطق الّ سبحانه أهله‬ ‫خلْوةِ‪ ،‬وو ْ‬‫الْ َ‬
‫ف به الوضيعَ‪ ،‬وأع ّز به الذليلَ‪ ،‬وس ّودَ‬ ‫ل بين الشبهات‪ :‬شَرّ َ‬ ‫بالبيان الذي جعله صف ًة لكلمه في تنزيله‪ ،‬وأيدَ به رُسُلهُ إيضاحاً للمشكلت‪ ،‬وفصْ ً‬
‫ختَ ِرمُه الدهور‪ ،‬يتج َددُ على البتذال‪ ،‬ويَ ْزكُو على‬ ‫به المَسُود‪ ،‬من تحلَى بغيره فهو معطّلُ‪ ،‬ومن تَعَطّل منه فهو مغفّل‪ ،‬ل ُتبْلِيه اليام‪ ،‬ول تَ ْ‬
‫شكْرُ‪.‬‬
‫ن به على عبادِه الحمدُ وال ّ‬ ‫النفاق؛ لّ على ما م ّ‬
‫غيّك‪ .‬قال السائل‪:‬‬ ‫شدِك‪ ،‬وعواقبَ َ‬ ‫عدَلَ بك عنِ النار‪ ،‬وبصَرَك مَوَاقع رُ ْ‬ ‫رجع إلى البلغةقيل لعمرو بن عبيد‪ :‬ما البلغة؟ قال‪ :‬ما بلَغك الجنَة‪ ،‬وَ َ‬
‫س َتمِع‪ ،‬ومن لم يُحسِنْ الستماعَ لم يُحْسِن القولَ‪ ،‬قال‪ :‬ليس هذا أُريد‪ ،‬قال‪ :‬قال النبي‪،‬‬ ‫ن أن يَ ْ‬‫ليس هذا أُريد‪ ،‬قال‪ :‬من لم يُحسِن أن يسكُتَ لم يُحْسِ ْ‬
‫عقْله‪ ،‬قال السائل‪ :‬ليس هذا أريد‪،‬‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬إنّا معش َر النبياء فينا َبكْءٌ" أي قِلَةُ كلم؛ وكانوا يكرهون أن يزيد منطقُ الرجل على َ‬
‫ص ْمتِ‪ ،‬قال‪ :‬ليس هذا أُريد‪ ،‬قال عمرو‪ :‬يا‬ ‫قال‪ :‬كانوا يخافون من ِفتْنَة القولِ ومن سقطَاتِ الكلم ما ل يخافون من فِتنَةِ السكوت‪ ،‬وسقَطَاتِ ال َ‬
‫هذا‪ ،‬فكأَنك تري ُد تَحْبير اللفظ في حسن الفهام‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬إنَك إن أردتَ تقريرَ حُجّةِ الِّ عزّ وجلّ في عقول المكلّفين‪ ،‬وتخفيف المؤونة عن‬
‫المستمعين‪ ،‬وتَزْيين تلك المعاني في قلوب المُريدين‪ ،‬باللفاظ المستحسنة في الذان‪ ،‬المقبولة في الذهان‪ ،‬رغبةً في شرْعة إجابتهم‪ ،‬ونَ ْفيِ‬
‫جبْت من الّ جزيلَ الثواب‪ ،‬فقيل‬ ‫صلَ الخطابِ‪ ،‬واستو َ‬ ‫الشواغلِ عن قلوبهم‪ ،‬بالموعِظَة الحسنة على الكتاب والسنة ‪ -‬كنت قد أُوتيت الحكمةَ وفَ ْ‬
‫جتَرِئ عليه هذه‬ ‫ت عن ذلك أبا حفص الشمري‪ ،‬فقال‪ :‬ومن َي ْ‬ ‫عمْرو هذا الصبر؟ قال‪ :‬سأل ُ‬ ‫صبَرَ له َ‬‫لعبد الكريم بن روح الغِفاري‪ :‬مَنْ هذا اَلذِي َ‬
‫الجرأة إلَ حفص بن سالم‪.‬‬
‫ل من تكلّم على المخلوق‪ ،‬واعتزلَ مجلسَ الحسن البصري‪ ،‬وهو أول المعتزلة‪.‬‬ ‫وعمرو بن عبيد بن باب هو رئيسُ المعتزلة في َوقْته‪ ،‬وهو أ َو ُ‬
‫شتَرِ نفسَك منه ببعضها؛‬ ‫ودخل عمرو بن عبيد على أبي جعفر المنصور‪ ،‬فقال‪ :‬عِظْني‪ ،‬فقال‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪ ،‬إنَ الّ أعطاكَ الدنيا بأسْرِها‪ ،‬فا ْ‬
‫ف َفعَلَ َر ُبكَ ِبعَادِ إ َرمَ ذاتِ العِمادِ؟ قال‪ :‬فبكى المنصور حتى بَل‬ ‫ح ٍد قبلَك ما وصل إليك‪ ،‬أَل ْم تَ َر َكيْ َ‬ ‫يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬إن هذا المرَ لو كان باقياً ل َ‬
‫طيْلَساناً‪ ،‬فقال‪ :‬يُ ْرفَ ُع هذا الطيلسان عني! فرُفع‪ ،‬فقال أبو جعفر‪ :‬ل‬ ‫ثوبه‪ .‬ثم قال‪ :‬حاجتَك يا أبا عثمان! وكان المنصور َلمّا دخل عليه طرَح عليه َ‬
‫ت إليك‪ ،‬ول َبدَتْ لي حاجة إلَ سأل ُتكَ‪ ،‬ولكن ل ُتعْطِني حتى أسألك‪ ،‬ول تَدْعُني حتى آتيك‪،‬‬ ‫تَ َدعْ إتياننا؛ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ل يضمُني وإياك بلد إلّ دخل ُ‬
‫قال‪ :‬إذًا ل تأتينا أبداً‪.‬‬
‫وقد رُوي مثل هذا لبن السماك مع الرشيد‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬لو كان هذا المر باقيًا لح ٍد قبلَك ما وصل إليك كقول ابن الرومي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عيْنِ البصيرِ غِطاؤها‬ ‫إذا زال عن َ‬ ‫لعمرُك ما الـدّنـيا بـدارِ إقـامةٍ‬
‫سبَاب ال َفنَـاء بـقـاؤهـا؟‬ ‫يُنال بأ ْ‬ ‫وكيف بقاءُ الناسِ فيهـا وإنـمـا‬
‫جعَلْ فوق شكره شكراً‪.‬‬ ‫ووعظ شبيب بن شبة المنصور‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن الّ لم يجعل فوقك أحداً‪ ،‬فل تَ ْ‬
‫ودخل عمرو بن عبيد على المنصور وعنده المهدي فقال له‪ :‬هذا ابنُ أخيك المهدي‪ ،‬وليُ عهد المسلمين‪ ،‬فقال‪ :‬س َم ْيتَه اسماً لم يستحقّ حمله‪،‬‬
‫ويفضي إليكَ المر وأنت عنه مشغول‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫غنِنِي بالفتقا ِر إليك‪ ،‬ول تُفْقرْني بالستغناء عنك‪.‬‬ ‫وكان عمرو بن عبيد يقول‪ :‬اللهمَ أ ْ‬
‫ظهِرِ الحق َيتْ َب ْعكَ أهلُه‪.‬‬‫عنَي بأصْحَابك‪ :‬قال‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪ ،‬أ ْ‬ ‫وقال له المنصور‪ :‬يا أبا عثمان‪ ،‬أ ِ‬
‫شهَد ُه دونَ‬
‫ن تكلَم لم َي َكدْ يُطيل؛ وكان يقول‪ :‬ل خيرَ في المتكلّم إذا كان كلمُه لمن يَ ْ‬ ‫وقال عمر الشمري‪ :‬كان عمرو بن عبيد ل يكادُ يتكلَم‪ ،‬وإ ْ‬
‫قائله‪ ،‬وإذا طال الكلمُ عرضَتْ للمتكلّم أسبابُ التكلف‪ ،‬ول خيرَ في شيء يَأْتيك به التكلف‬
‫ل الهند؟ قال بهلة‪ :‬عندنا في ذلك صحيفة‬ ‫قال معمر بن الشعث‪ :‬قلت ل َبهْلَةَ الهندي أيام اجتلَبَ يحيى بن خالدٍ أطباءَ الهند‪ :‬ما البلغةُ عند أه ِ‬
‫ف معانيها‪ .‬قال ابنُ الشعث‪ :‬فلقيت بتلك‬ ‫ق من نفسي بالقيام بخصائصها‪ ،‬ولطي ِ‬ ‫ج هذه الصناعَةَ‪ ،‬فَأثِ َ‬ ‫مكتوبة‪ ،‬ولكنني ل أحسِن ترجمتَها‪ ،‬ولم أُعال ْ‬
‫الصحيفة التراجمة فإذا فيها‪ :‬أولُ البلغة اجتماعُ آلة البلغة‪ ،‬وذلك أن يكونَ الخطيب رابطَ الجأش‪ ،‬ساكنَ الجوارحِ‪ ،‬قليل اللَحْظِ‪ ،‬متخير اللفظ‪،‬‬
‫ل يكلم سي َد المَة بكلم المة‪ ،‬ول الملوكَ بكلم السّوقة‪ ،‬ويكون في قُوَا ُه فَضْلُ التصرف في كل طبقة‪ ،‬ول يدقّق المعاني كلّ التدقيق‪ ،‬ول يُنقحُ‬
‫اللفاظ كل التنقيح‪ ،‬ول يصفيها كل التصفية‪ ،‬ول يهذّبها غاي َة التهذيب‪ ،‬ول يفعل ذلك حتى يصادفَ حكيماً‪ ،‬أو فيلسوفاً عليماً‪ ،‬ومن قد تعوّد‬
‫ف فُضُول الكلم‪ ،‬وإسقاطَ مشتركات اللفاظ‪ ،‬وقد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة‪ ،‬ل على جهة التصفّح‬ ‫حذْ َ‬
‫َ‬
‫والعتراض‪ ،‬ووجه التظرّف والستظراف‪.‬‬
‫جرِي في وجو ٍه كثيرة‪ ،‬فمنها ما‬ ‫ن تَ ْ‬‫ل ابن المقفع إذ قال‪ :‬البلغةُ اسمٌ لمعا ٍ‬ ‫قال إسحاق بن حسان بن قوهي‪ :‬لم يفسّر أحد البلغة تفسي َر عبد ا ّ‬
‫يكونُ في الستماع‪ ،‬ومنها ما يكونُ في السكوت‪ ،‬ومنها ما يكون في الشارة‪ ،‬ومنها ما يكونُ في الحديث‪ ،‬ومنها ما يكونُ في الحتجاج‪ ،‬ومنها‬
‫خطَباً‪ ،‬ومنها ما يكون رسائلَ‪ ،‬فغاي ُة هذه‬ ‫ما يكون شعراً‪ ،‬ومنها ما يكون ابتداءً‪ ،‬ومنها ما يكونُ جواباً‪ ،‬ومنها ما يكون سَجْعاً‪ ،‬ومنها ما يكون ُ‬
‫ي فيها والشارة إلى المعنى؛ واليجازُ هو البلغة‪ ،‬فأمّا الخطب فيما بين السّماطين‪ ،‬وفي إصلح ذات البين‪ ،‬فالكثارُ في غير‬ ‫البواب الوَحْ ُ‬
‫صدْرَه عرفتَ‬ ‫صدْ ِر كلمِك دليلٌ على حاجتك‪ ،‬كما أَنّ خيرَ أبياتِ الشعر البيتُ الذي إذا سمعتَ َ‬ ‫خَطَل‪ ،‬والطالةُ في غير إملل‪ ،‬ولكن ِليَكن في َ‬
‫صدْرٌ يدل على عجُزِهِ‬ ‫ن من ذلك َ‬ ‫قافيته كأنه يقول فرّق بين صدر خطبة النكاح وخطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة التّوَاهُب‪ ،‬حتى يكونَ لكل فَ ّ‬
‫صدْت‪ ،‬والغرض الذي إليه نزعْت‪.‬‬ ‫فإنه ل خيرَ في كلم ل يدلُ على معناك‪ ،‬ول يشيرُ إلى َمغْزاك‪ ،‬وإلى العمود الذي إليه َق َ‬
‫فقيل له‪ :‬فإنْ ملّ المستمعُ الطالة التي ذكرت أنها أحق بذلك الموضع؟ قال‪ :‬إذا أعطيت كل مقام حقه‪ ،‬وقمتَ بالذي يجب من سياسة الكلم‪،‬‬
‫ضيَان بشيء؛ فأمّا الجا ِهلُ فلستَ منه وليس منك‪،‬‬ ‫ق ذلك‪ ،‬فل تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو؛ فإنهما ل يَ ْر َ‬ ‫ت مَنْ يعرف حقو َ‬ ‫وأرضي َ‬
‫ورضا جميع الناس شي ٌء ل ُينَال‪.‬‬
‫الطالة واليجاز‬
‫وقد مدحوا الطالة في مكانها‪ ،‬كما مدحوا اليجازَ في مكانه‪ .‬قال أبو داود ابن جرير في خطباء إياد‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫َوحْيَ المَلحظِ خِيفَة الرقبـاء‬ ‫يَ ْرمُونَ بالخطب الطوال‪ ،‬وتارةً‬
‫قال أبو وَجْزة السعدي يصف كلم رجل‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ثَبتٌ‪ ،‬إذا طَالَ النّضَالُ‪ُ ،‬مصِيبُ‬ ‫ل كلمِه‪ ،‬وكـثـيرُهُ‬ ‫َيكْفي قلي ُ‬
‫وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد المبرَد ولم يسمّ قائلَه‪ ،‬وهو مولّد ولم ينقصه توليدُه من حظّ القديم شيئاً‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫م لَ ْم َيعْيَ يوماً ولم َيهْـذُرِ‬ ‫طبِيبٌ بداء ُفنُـون الـكـل‬ ‫َ‬
‫َقضَى للمُطِيل على ال ُمنْزر‬ ‫خطْـبَةٍ‬ ‫طنَبَ في ُ‬ ‫فإنْ هو َأ ْ‬
‫قَضى لل ُمقِلّ على ال ُمكْثِـرِ‬ ‫وإن هو أَ ْوجَزَ في خُطـبَةٍ‬
‫وقال آخر يصف خطيباً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عدّةِ َألْسُنِ الخطباءِ‬ ‫بجميع ِ‬ ‫فإذا تكلّم خِ ْلتَ ُه متكلّـمـا‬
‫قد كان عُّلمَ ُه مِنَ السماءِ‬ ‫فكأن آدم كان علّمه الّذي‬
‫وكان أبو داود يقول‪ :‬تلخيص المعاني رِفق‪ ،‬والستعانة بالغريب عَجْز‪ ،‬والتشدق في العراب نقْصٌ‪ ،‬والنظرُ في عيون الناس عِيّ‪ ،‬ومسّ‬
‫ج عما ُبنِي عليه الكلم إسهاب‪.‬‬ ‫اللحية هُلك‪ ،‬والخرو ُ‬
‫ل بالعيّ‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقال بعضهم يهجو رج ً‬
‫سحَ ِة ع ُثنُونٍ و َفتْل الصابع‬ ‫ومَ ْ‬ ‫مَلِي ٌء ِب ُبهْرٍ والتفاتٍ وسعـلةٍ‬
‫ظهِر ما غَمض من الحجة‪ ،‬ويصور الباطلَ في صورة الحقّ‪ ،‬و ُي ْفهِمك الحاج َة من غيرِ إعادة ول‬ ‫ل بليغاً فقال‪ :‬كان يُ ْ‬ ‫ووصف العتابي رج ً‬
‫جزِ‪ ،‬ودلئل‬ ‫سمَع‪ ،‬و َفهِمت! وما أشبهَ ذلك‪ .‬وهذا من َأمَاراتِ ا ْلعَ ْ‬ ‫س ِتعَانة؟ قال‪ :‬يقول عند مقاطع كلمه يا هناة‪ ،‬وا ْ‬ ‫استعانة‪ .‬قيل له‪ :‬وما ال ْ‬
‫الحصَرِ! وإنما ينقط ُع عليه كلمه فيحاولُ وصْلَه بهذا‪ ،‬فيكون أش َد لنْقطَاعِه‪.‬‬
‫طبْع‪ ،‬وعمودها الدربة‪ ،‬وجَناحَاها رِوَاية الكلم‪ ،‬وحَ ْليُها العراب‪ ،‬وبهاؤُهَا تخيرُ اللفظ؛ والمحبةُ مقرونة‬ ‫خطَابة ال ّ‬ ‫وكان أبو داود يقول‪ :‬رَأسُ ال َ‬
‫بقلة الس ِتكْراه‪.‬‬
‫وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ‪ :‬قال بعض جها ِبذَةِ اللفاظ‪ ،‬ونفاد المعاني‪ :‬المعاني القائمةُ في صدور الناس‪ ،‬المختلجة في نفوسهم‪،‬‬
‫والمتصورة في أذهانهم‪ ،‬المتصلة بخواطرهم‪ ،‬والحادثة عن فكرهم‪ ،‬مستورة خفية‪ ،‬وبعيدة وحشية‪ ،‬ومحجوبة مكنونة‪ ،‬وموجودة في معنى‬
‫ف النسانُ ضميرَ صاحبه‪ ،‬ول حاجةَ أخيه وخليطِهِ‪ ،‬ول معنى شريكه والمعاون له على أمره‪ ،‬وعلى ما ل يبلغه من حاجات‬ ‫معدومة‪ ،‬ل يعر ُ‬
‫ل بغيره‪ ،‬وإنما يحيي تلك المعاني ِذكْرهم لها‪ ،‬وإخبارهم عنها‪ ،‬واستعمالهم إياها‪.‬‬ ‫نفسه إ ّ‬
‫وهذه الخصالُ هي التي تقرّبها من الفهم‪ ،‬وتجليها للعقل‪ ،‬وتجعل الخفيّ منها ظاهراً‪ ،‬والغائب شاهداً‪ ،‬والبعيدَ قريباً‪ .‬وهي التي تلخص الملتبس‪،‬‬
‫وتحل المنعقد‪ ،‬وتجعل المهمل مقَيداً‪ ،‬والمقيّد مطلقاً‪ ،‬والمجهول معروفاً‪ ،‬وال َوحْشِي مألوفاً‪ ،‬والغفل موسوماً‪ ،‬والموسوم معلوماً؛ وعلى قدْرِ‬
‫حسْنِ الختصار‪ ،‬ودقة المدْخَلِ‪ ،‬يكون ظهورُ المعنى‪ .‬وكلما كانت الدللة أوضَحَ وأفصَحَ‪ ،‬وكانت الشارة‬ ‫ح الدللة‪ ،‬وصواب الشارة‪ ،‬و ُ‬ ‫وضو ِ‬
‫َأ ْبيَن وأنور‪ ،‬كانت أنفع وأنجع في البيان‪ .‬والدللةُ الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت ال ي ْمدَحه‪ ،‬ويَدْعُو إليه‪ ،‬ويحث عليه؛ بذلك‬
‫نطق القرآن‪ ،‬وبذلك تفاخرت العرب‪ ،‬وتفاضلت أصناف العجم‪.‬‬
‫حجُبَ دون الضمير‪ ،‬حتى يُ ْفضِيَ السامعُ إلى حقيقته‪ ،‬ويهجم على محصوله‪،‬‬ ‫والبيان‪ :‬اسمٌ لكل شيء كَشَفَ لك عن قناع المعنى‪ ،‬و َهتَك لك الْ ُ‬
‫كائناً ما كان ذلك البيان‪ ،‬ومن أي جنس كان ذلك الدليل؛ لن مدار المر والغاية التي إليها يجري القائْلُ والسامع إنما هو الفهم والفهام؛ فبأيّ‬

‫‪30‬‬
‫ت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع‪.‬‬ ‫شيء بَلغْتَ الفهامَ وأوضح َ‬
‫حكْمَ المعاني خلفُ حكم اللفاظ؛ لَنّ المعاني مبسوطة إلى غير غاية‪ ،‬وأسماء المعاني محصورة معدودة‪،‬‬ ‫ظكَ الَُ! ‪ -‬أن ُ‬ ‫ثم اعْلَمْ ‪ -‬حَ ِف َ‬
‫ومحصلة محدودَة‪.‬‬
‫صنَافِ الدللت على المعاني من لفظٍ أو غيره خمسةُ أشياء ل تنقص ول تزيد‪ :‬أولها اللَفظ‪ ،‬ثم الشارة‪ ،‬ثم العُقد‪ ،‬ثم الخطّ‪ ،‬ثم الحال‬ ‫وجميعُ أ ْ‬
‫ص ُر عن تلك الدللت‪.‬‬ ‫التي تسمى نُصبة‪ .‬والنّصبَة هي الحالُ الدالة التي تقوم مقام تلك الصناف‪ ،‬ول تَقْ ُ‬
‫عيَان المعاني في‬ ‫ولكل واحد ِة من هذه الدلئل الخمسة صور ٌة بائن ٌة من صورةِ صاحبتها‪ ،‬وحِ ْليَةٌ مخالفة لِحِليَةِ أختها؛ وهي التي تكشف لك عن أَ ْ‬
‫الجملة‪ ،‬وعن حقائقها في التفسير‪ ،‬وعن أجناسها وَأقْدَارِها‪ ،‬وعن خاصّها وعامّها‪ ،‬وعن طبقاتها في السار والضارّ‪ ،‬وعما يكون منها َلغْواً‬
‫َبهْرَجاً‪ ،‬وساقطًا مُطّرَحاً‪.‬‬
‫وفي نحو قول أبي عثمان‪ :‬إنَ المعاني غير مقصورة ول محصورة يقول أبو تمام الطائي لبي دُلَفَ القاسِمِ بن عيسى العجْلِيَ الطويل‪:‬‬
‫ك منه في العصو ِر الذّوَاهِبِ‬ ‫ضَ‬ ‫حيَا ُ‬
‫ِ‬ ‫ولو كان َي ْفنَى الشعرُ َأفْنته ما قَ َرتْ‬
‫ت بَـسَـحَـائِبِ‬ ‫ع ِقبَ ْ‬
‫سحائبُ منه أُ ْ‬ ‫ل إذا انـجـلَـتْ‬ ‫ولكنه َفيْضُ العقو ِ‬
‫كما أشار إلى قول أوْس بن حَجر السدي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وجهديَ في حبل العشيرة أحطِبُ‬ ‫أقول بما صَبتْ عليّ غمامـتـي‬
‫ظ َينْهَى‬‫ل محمودة‪ ،‬أداةٌ يظهر بها البيان‪ ،‬وشاهد يخبر عن الضمير؛ وحاكمٌ يفصل الخطاب‪ ،‬وواع ٌ‬ ‫وقال بعضُ البلغاء‪ :‬في اللسان عشرُ خصا ٍ‬
‫شكَر به الحسان‪ ،‬و ُمعَز تذهب به الحْزان‪،‬‬ ‫ب يُ ْ‬‫عن القبيح‪ ،‬وناطق يردُ الجواب‪ ،‬وشافع ُتدْرَك به الحاجة‪ ،‬وواصف تعرف به الشياء‪ ،‬و ُمعْرِ ٌ‬
‫ب الضغينةَ‪ ،‬ومونق يلهي السماع‪.‬‬ ‫وحا ِمدٌ يذه ُ‬
‫وقال أبو العباس بن المعتز‪ :‬لحظةُ القلب أسرع خطر ًة من لحظة العين‪ ،‬وأبعدُ مَجالً‪ ،‬وهي الغائصة في أعماق أ ْودِيةِ الفكر‪ ،‬والمتأملة لوجوه‬
‫العواقب‪ ،‬والجامعةُ بين ما غاب وحَضَر‪ ،‬والميزانُ الشاهدُ على ما نَفَع وضَرّ‪ ،‬والقلبُ كال ُممْلِي للكلم على اللسان إذا نطق‪ ،‬واليد إذا كتبت‪،‬‬
‫شيَ الكلم في قلبه‪ ،‬ثم يُبديها بألفاظ كَوَاسٍ في أحسن زينة‪ ،‬والجاهلُ يستعجلُ بإظهار المعاني قبل العناية بتزيين‬ ‫والعاقل يكسو المعاني وَ ْ‬
‫َمعَارضها‪ ،‬واستكمال محاسنها‪.‬‬
‫ستَعان عليه‬ ‫وقيل لجعفر بن يحيى البرمكي‪ :‬ما البيان؟ قال‪ :‬أن يكونَ الس ُم يحيط بمعناك‪ ،‬و َيكْشِف عن َمغْزَاكَ‪ ،‬ويخرجه من الشركة‪ ،‬ول يُ ْ‬
‫غ ِنيّاً عن التأويل‪.‬‬
‫بالفكر‪ ،‬ويكون سليمًا من التكلُفِ‪ ،‬بعيداً من الصّنعة‪ ،‬بَرِيئًا من التعقيد‪َ ،‬‬
‫جمَع في كلمه وبلغته ال َه ّذ والتمهل‪ ،‬والجزالة والحلوةَ‪ ،‬وكان يُفهم‬ ‫وذكر سهل بن هارون ‪ -‬وقيل ُثمَامة بن أشرس ‪ -‬جعف َر بن يحيى فقال‪ :‬قد َ‬
‫ستَغني مستغنٍ عن الشارة بمنطقه لستغنى عنها جعفر‪ .‬كما استغنى عن العادة فإنه ل يتَحبّسُ ول‬ ‫إفهامًا ُيغْنيه عن العادة للكلم‪ .‬ولو كان يَ ْ‬
‫يتوقف في منطِقه ول يتلَجْلَجُ‪ ،‬ول يتسعّل‪ ،‬ول يترقّب لفظًا قد استدعاه من ُبعْد‪ ،‬ول يتلّمس معنًى قد عصاه بعد طلبه له‪.‬‬
‫وقيل لبشّار بن بُرْد‪ِ :‬بمَ فقْتَ أهل عمرك‪ ،‬وسبقتَ أهْلَ عصرك‪ ،‬في حسن معاني الشعر‪ ،‬وتهذيب ألفاظه؟ فقال‪ :‬لني لم أقبل كل ما تُو ِردُهُ علي‬
‫ط ْبعِي‪ ،‬ويبعثه فكري‪ ،‬ونظرت إلى مغارس الفطن‪ ،‬ومعادن الحقائق‪ ،‬ولطائف التشبيهات‪ ،‬فسِ ْرتُ إليها بفهمٍ جيد‪،‬‬ ‫قريحتي‪ ،‬و ُينَاجيني به َ‬
‫ت من متكلَفها‪ ،‬ول وال ما ملك قيادي قَطُ العجابُ بشيء مما‬ ‫سبْرَها‪ ،‬وانتقيت حُرها‪ ،‬وكشفتُ عن حقائقها‪ ،‬واحترز ُ‬ ‫وغريزة قوية‪ ،‬فأحكمت َ‬
‫آتي به‪.‬‬
‫وكان بشا ُر بن برد خطيباً‪ ،‬شاعراً‪ ،‬راجزاً‪ ،‬سجاعاً‪ ،‬صاحب منثور ومزدوج‪ ،‬ويلقب بالمرعّث لقوله‪ :‬مجزوء الخفيف‪:‬‬
‫ساحر الطّرْفِ والنظَرْ‬ ‫ظبْـي مُـرعَـثٍ‬ ‫مَنْ لِ َ‬
‫قلت أو يغلب القَـدَرْ‬ ‫قال لي لن تنـالـنـي‬
‫وليس هذا موضع استقصاء ذكره‪ ،‬واختيار شعره‪ ،‬وسأستقبل ذلك إن شاء الّ‪.‬‬
‫خذِهِ‪ ،‬ووجوه اقتضابه‪،‬‬ ‫شعْرَ‪ ،‬وكنتُ أ ْرجِ ُع فيه إلى طبْعٍ‪ ،‬ولم أكُنْ أقِف على تسهِيل مَ ْأ َ‬ ‫حدَاثَتي أرُومُ ال ّ‬ ‫وقال الوليد بن عبيد البحتري‪ُ :‬كنْتُ في َ‬
‫صفْرٌ‬
‫عبَادة؛ تخير الوقاتَ وأنت قليلُ الهموم‪ِ ،‬‬ ‫حتى قصدْتُ أبا تمام‪ ،‬وانقطعت فيه إليه‪ ،‬واتكَلْتُ في تعريفه عليه؛ فكان أول ما قال لي‪ :‬يا أبا ُ‬
‫حفْظِه في َو ْقتِ السّحَر؛ وذلك أن النّ ْفسَ قد أخذَتْ حظها من‬ ‫ت أن يقصد النسانُ لتأْلِيفِ شيءً أو ِ‬ ‫من الغموم‪ ،‬واعلم أن العادةَ جرت في الوقا َ‬
‫الراحة‪ ،‬وقِسْطَها من النوم‪ ،‬وإن أردتَ التشبيب فاجعل اللفظ رشيقاً‪ ،‬والمعنى رقيقاً‪ ،‬وأ ْكثِر فيه من بيان الصّبابة‪ ،‬وتوجّع الكآَبة‪ ،‬وقلق الشواق‪،‬‬
‫ضدِ المعاني‪ ،‬واحذر المجهولَ‬ ‫ن معالمه‪ ،‬وشَرّفْ مقامه؛ ونَ ّ‬ ‫شهِر مناقبَه‪ ،‬وأظهر مناسبه‪ ،‬وأبِ ْ‬ ‫ت في مديح سيّد ذي أيادٍ فأ ْ‬ ‫ولَوْعَة الفراق‪ ،‬فإذا أخذ َ‬
‫ح نفسَك‪ ،‬ول‬ ‫ش ْعرَك باللفاظ الرديئة‪ ،‬ولتكن كأنك خيّاط يقطع الثيابَ على مقادير الجساد‪ .‬وإذا عارضك الضجَرُ فأَر ْ‬ ‫منها‪ ،‬وإيّاك أن تَشين ِ‬
‫ن تعتبر شعرَك‬ ‫تعمل شعرك إلّ وأنْتَ فارغُ القلبِ‪ ،‬واجعل شهو َتكَ لقولِ الشعر الذريعةَ إلى حسن نظمه؛ فإن الشهوة ِنعْ َم المعين‪ ،‬وجملةُ الحال أ ْ‬
‫بما سلف من شعر الماضين‪ ،‬فما استحسن العلماءُ فاقصده‪ ،‬وما تركوه فاجتنبه‪ ،‬ترشد إن شاء الّ‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأعملت نفسي فيما قال فوقفت على السياسة‪.‬‬
‫ن يَحُوك الكلمَ على حسب الماني‪ ،‬ويخيط اللفاظ على قدُود المعاني‪.‬‬ ‫وقالوا‪ :‬البليغ مَ ْ‬
‫جمّ الذهانُ‪ ،‬وتنقطع‬ ‫ل فقال‪ :‬فيه تَ ُ‬ ‫ولذكر الطائي الليل ذكر بعض أهل العصر ‪ -‬وهو أبو علي محمد بن الحسن ابن المظفّر الحاتمي ‪ -‬اللي َ‬
‫ضوَأ في مذاهب الفكر‪ ،‬وأَخْفى لعمل البر‪ ،‬وأعون على‬ ‫الشغال‪ ،‬ويصحّ النظر‪ ،‬وتؤلّف الحكمة‪ ،‬وتدرّ الخواطرَ‪ ،‬ويتسع مَجَالُ القلب‪ ،‬والليل أَ ْ‬
‫ح لتلوة الذكر‪ ،‬ومُدبّرُو المور يختارون الليلَ على النهار‪ ،‬فيما لم تصف فيه الناة لرياضة التدبيرِ وسياسة التقدير‪ ،‬في َدفْع‬ ‫سرّ‪ ،‬وأص ّ‬ ‫صدَقة ال ّ‬‫َ‬
‫ظمِ الكلم‪ ،‬وتقريبه من‬ ‫الملّم‪ ،‬وإمضاء المهمّ‪ ،‬وإنشاء الكتب‪ ،‬وتصحيح المعاني‪ ،‬وتقويم المباني‪ ،‬وإظهار ا ْلحُجَج‪ ،‬وإيضاح ال َمنْهَج‪ ،‬وإصابة نَ ْ‬
‫الفهام‪.‬‬
‫وقال بعض رؤساء الكتاب‪ :‬ليس ال ِكتَابُ في كل وقتٍ على غير نسخة لم تُحَرَر بصواب؛ لنه ليس أحدٌ أولى بالناة وبالرويّة من كاتب َيعْرِض‬
‫عفْوَ القريحة ول يستكرهها‪ ،‬ويعمل على أن جميعَ الناس أعداء له‪ ،‬عارفون‬ ‫عقله‪ ،‬وينش ُر بلغته؛ فينبغي له أن يعمل النسخ ويرويها‪ ،‬ويقبل َ‬
‫بكتابه‪ ،‬منتقدون عليه‪ ،‬متفرغون إليه‪.‬‬
‫صفَت النَفس‪ ،‬فليعد النظر‪ ،‬وليكن فَ ًرحُه بإحسانه‪،‬‬ ‫جدّة تعجب‪ ،‬فإذا سكنت القريحة‪ ،‬وعدل التأمل‪ ،‬و َ‬ ‫ن لبتداء الكلم فتنةً تروق‪ ،‬و ِ‬ ‫وقال آخر‪ :‬إ ّ‬
‫مساويًا لغمَه بإساءته؛ فقد قالت الخوارج لعبد ال بن وهب الراسي‪ :‬نبايعك الساعة فقد رأينا ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬دَعُوا الرأي حتى يبلغ أناته‪ ،‬فإنه ل خيرَ‬
‫في الرأي الفَطير‪ ،‬والكلم القضيب‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫وقال معاوية بن أبي سفيان‪ ،‬رحمه ال‪ ،‬لعبد ال بن جعفر‪ :‬ما عندك في كذا وكذا‪ .‬فقال‪ :‬أريد أن ًأصْقُلَ عقلي بنَ ْومَة القائلة‪ ،‬ثم أروح فأقول بعدُ‬
‫ما عندي‪.‬‬
‫قال الشاعر‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ن مضمارُ‬ ‫حتى يغيّره بالوَزْ ِ‬ ‫إن الحديث َتغُر القومَ جَلْ َوتُهُ‬
‫أو يستم ّر به عِيّ وإ ْكثَـارُ‬ ‫فعند ذلك تستكفي بلغتـهُ‬
‫وقالوا‪ :‬كل ُمجْرٍ با ْلخَلء يُسَرُ‪ ،‬وقال أبو الطيب المتنبي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫حدَه والنّزال‬ ‫طلَبَ الطعْنَ َو ْ‬‫َ‬ ‫وإذا ما خَلَ الْجَبانُ بَأرْضٍ‬
‫حمُ في صدري‪ ،‬فيقف قلمي ليتخير‪.‬‬ ‫ف كثيراً‪ ،‬فقيل له في ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬إن الكلم يَ ْزدَ ِ‬ ‫وكان قلم بن المقفع يَق ُ‬
‫طبَ مضطرّ‪ ،‬ومن يَ ِر ُد عليه كتابك فليس يعلم أَأسْرعْتً فيه أم‬ ‫ب يُتصفح أكثر ممّا يتصفح الخطاب؛ لنَ الكاتب متخير‪ ،‬والمخا ِ‬ ‫وقالوا‪ :‬الكِتا ُ‬
‫أبطأت؛ وإنما ينظر أأخطأتَ أم أَصبتَ؛ فإبطاؤك غيرُ قادح في إصابتك‪ ،‬كما إن إسراعك غير ُمغَط على غَلَطِك‪.‬‬
‫ووصف بعضُ الكتّاب النسخ فقال‪ :‬ينبغي أن يصحَبها الفكر إلى استقرارها‪ ،‬ثم تُستبرأ بإعادة النظر فيها بعد اختيارها‪ ،‬ويوسّع بين سُطُورِها‪،‬‬
‫حرْفاً حرفاً إلى آخرها‪.‬‬ ‫ثم تحرر على ثق ٍة بصحتها‪ ،‬وتُتأمل بعد التحرير َ‬
‫ن ل تَعتب ُر ذلك؛ ثقة أنه ل ُيغْلَط فيه‪ ،‬حتى َفطِنَ‬ ‫فقد كتب المأمون مُصْحفاً اجتمع عليه؛ فكان أوله‪ :‬بسم ال الرحيم‪ ،‬فأغفلوا الرحمن؛ لن العي َ‬
‫المأمون له‪.‬‬
‫وقال محمد بن عبد الملك الزيات للحسن بن وهب‪ :‬حرر هذه النسخة وبكَر بها‪ ،‬فتصبح الحسن فقال له‪ :‬لم تصبحت؟ قال‪ :‬حتى تصفحت! وقال‬
‫أحمد بن إسماعيل بَطاحَة‪ :‬كان بعض العلماء الغبياء ينظر في نسخ ِه بعد نفوذ ُكتُبه‪ ،‬فقال بعض الكتاب‪ :‬السريع‪:‬‬
‫مُستَلَبُ اللُب غَوِيُ الشباب عذّبه الهَجْر أشدَ العذابْ‬
‫به وقـد مُـكّـن مـنـه الــتّـــصَـــابْ‬ ‫يؤمل الصبر وأنى لَهُ‬
‫إصـلحَـهـا بـعـد نـفـوذِ الـكــتـــابْ‬ ‫كنـاظـرٍ فـي نـسـخـهٍ يبــتـــغـــي‬
‫أوصاف بليغة في البلغات‬
‫على ألسنة أقوام من أهل الصناعات‬
‫قال بعضُ من ولَد عقائل هذا المنثور‪ ،‬وألَف فواصل هذه الشذور‪ :‬تجمَع قوم من أهل الصناعات‪ ،‬فوصفوا بلغاتِهم‪ ،‬من طريق صناعاتهم‪:‬‬
‫فقال الجوهري‪ :‬أحسنُ الكلم نِظاماً ما ثقبته يَد الفكرة‪ ،‬ونظمته الفِطْنة‪ ،‬و ُوصِل جَوْ َه ُر معانيه في سُموط ألفاظه‪ ،‬فاحتملته نحورُ الرواة‪.‬‬
‫شقِه‪ ،‬وسطعت رائحة عبَقه‪ ،‬فتعلّقت به ال ُروَاة‪ ،‬وتعطَرت به السّراة‪.‬‬ ‫ع ْنبَر ألفاظه بمسْك َمعَانيه‪ ،‬ففاح نسي ُم نَ َ‬ ‫وقال العطار‪ :‬أطيبُ الكلمِ ما عُجِنَ َ‬
‫خبَث الطناب‪ ،‬فبرز بروزَ البريز‪ ،‬في معنى وَجيز‪.‬‬ ‫ح َميْتَه بكِير الفِكر‪ ،‬وس َب ْكتَه بمشَاعِل النّظر‪ ،‬وخلّصته من َ‬ ‫وقال الصائغ‪ :‬خيرُ الكلم ما َأ ْ‬
‫ع ُي َبهْرِجُه‪.‬‬
‫وقال الصيرفي‪ :‬خيرُ الكلم ما َن َقدَتْهُ يدُ البصيرة‪ ،‬وجلَته عين الروية‪ ،‬ووز ْنتَه ب ِمعْيار الفصاحة‪ ،‬فل نظر يُ َزيّفه‪ ،‬ول سما َ‬
‫وقال الحداد‪ :‬أحسن الكلم ما نصبت عليه مِنْفَخة القريحة‪ ،‬وأشعلْتَ عليه نارَ البصيرة‪ ،‬ثم أخرجتَه من فحم الفحام‪ ،‬ورقّقته بفطّيس الفهام‪.‬‬
‫ش ْرتَه بمنشار التدبير‪ ،‬فصار باباً لبيت البيان‪ ،‬وعارِضة لسَقفِ اللسان‪.‬‬ ‫ت نَجْ َر معناه بقدُوم التقدير‪ ،‬ونَ َ‬ ‫وقال النجار‪ :‬خيرُ الكلم ما أحكم َ‬
‫وقال النجاد‪ :‬أحسنُ الكلم ما لطُفت َرفَارِف ألفاظه‪ ،‬وحسُنت مَطارح معانيه‪ ،‬فتنزّهت في َزرَابيّ محاسنه عيونُ الناظرين‪ ،‬وأصاخت لنمارِق‬
‫َبهْجَتهِ آذان السامعين‪.‬‬
‫وقال الماتح‪ :‬أ ْبيَن الكلم ما علقتْ َوذَمُ ألفاظه ببكرة معانيه‪ ،‬ثم أرسلته في قَلِيب الفطَن فمتحت به سقاء يكشِفُ الشبهات‪ ،‬واستنبطت به معنى‬
‫يروي من ظمإ المشكلت‪.‬‬
‫سدُه اللفظ‪،‬‬
‫جَ‬ ‫ج ْيبُه المعرفة‪ ،‬وكُفَاه الوجازة‪ ،‬ودَخَارِيصه الفهام‪ ،‬ودُرُوزُه الحلوة‪ ،‬ولبس َ‬ ‫وقال الخياط‪ :‬البلغة قميص؛ فجُربانه البيان‪ ،‬و َ‬
‫وروحُه المعنى‪.‬‬
‫ب الداب‪،‬‬ ‫صقَلتْه َيدُ الروِي ِة من ُكمُود الشكال‪َ ،‬فرَاعَ كواعِ َ‬ ‫وقال الصباغ‪ :‬أحسن الكلم ما لم تنْضَ بهجة إيجازه‪ ،‬ولم تكشف صبغة إعجازه‪ ،‬قد َ‬
‫وألَف عَذَارَى ال ْلبَابِ‪.‬‬
‫سدَى معانيه‪ ،‬فخرج مُفوّفًا مُنيراً‪ ،‬وموشّى محبراً‪.‬‬ ‫وقال الحائِك‪ :‬أحسنُ الكلم ما اتّصَلت لُحمة ألفاظه ب َ‬
‫وقال البزار‪ :‬أحسن الكلم ما صدقَ رقم ألْفاظه‪ ،‬وحسن نَشْ ُر معانيه فلم يس َتعْجِم عنك نَشر‪ ،‬ولم يستبهم عليك طَيّ‪.‬‬
‫ل بعد الرياضة‪ ،‬وكان كال ُمهْرِ الذي أطمع أوَل رياضته في تمام‬ ‫حدّ التّخْليع‪ ،‬إلى منزلة التّ ْقرِيب إ ّ‬ ‫وقال الرائض‪ :‬خيرُ الكلم ما لم يخرج عن َ‬
‫ثَقافته‪.‬‬
‫وقال الجمَال‪ :‬البليغُ من أخذَ بخِطام كلمه‪ ،‬فأناخَه في َمبْرك المعنى‪ ،‬ثم جعل الختصار له عِقَالً‪ ،‬واليجاز له مَجالً‪ ،‬فلم يَندّ عن الذان‪ ،‬ولم‬
‫يشذّ عن الذهان‪.‬‬
‫وقال المخنّث‪ :‬خيرُ الكلم ما تكسرَت أطرافُه‪ ،‬وتثنّت أعطافه‪ ،‬وكان لفظه حُلّة‪ ،‬ومعناه حِلْية‪.‬‬
‫عذُوبَتُه‪ ،‬وفي الفكارِ ِرقَته‪،‬‬ ‫صفَاه رَاوُوق ال َفهْمِ‪ ،‬وضمّته ِدنَان الحكمة‪ ،‬فتمشّت في المفاصل ُ‬ ‫ختْه مَرَاجِلُ العلم‪ ،‬و َ‬ ‫وقال الخمّار‪ :‬أبلغُ الكلم ما ط َب َ‬
‫حدّته‪.‬‬‫وفي العقول ِ‬
‫جرَعِهِ‪.‬‬ ‫غبَاوَةَ الشكّ‪ ،‬ورفعت ِرقَته فظاظةَ الجهل‪ ،‬فطاب حِسا ُء فطنته‪ ،‬وعذُب مَصّ ُ‬ ‫حتْ ألفاظُه َ‬ ‫وقال الفقاعي‪ :‬خيرُ الكلم ما رَوّ َ‬
‫سقَمَ الشُبهة استطلقت طبيعةُ الغباوة؛ فشُفِي من سوء التفهّم‪ ،‬وأورث صحة التوهم‪.‬‬ ‫وقال الطبيب‪ :‬خيرُ الكلم ما إذا باشر دواءُ بيانه َ‬
‫عيْنَ اللكنة بميلِ البلغة‪ ،‬واجْلُ رمَصَ الغَفْلة بِمرْ َودِ اليقظة‪.‬‬ ‫حلْ َ‬ ‫وقال الكحّال‪ :‬كما أن الرمَد قذى البصارِ‪ ،‬فكذا الشبهة َقذَى البصائر‪ ،‬فاكْ َ‬
‫ثم قال‪ :‬أجمعوا كلّهم على أن أبلغ الكلم ما إذا أشرقت شمْسُه‪ ،‬انكشف َلبْسه‪ ،‬وإذا صدقت أنواؤه اخضرّت أحماؤه‪.‬‬
‫فِقرٌ في وصف البلغة لغير واحد‬
‫قال أعرابي‪ :‬البلغةُ التقرّب من البعيد‪ ،‬والتباعد من الكُلْفَة‪ ،‬والدللة بقليل على كثير‪.‬‬
‫قال عبد الحميد بن يحيى‪ :‬البلغة تقريرُ المعنى في الفهام‪ ،‬من َأقْرَب وجوه الكلم‪.‬‬
‫ابن المعتز‪ :‬البلغةُ البلوغ إلى المعنى ولم يطل سَفَر الكلم‪.‬‬
‫سهل بن هارون‪ :‬البيان ترجمان العقول‪ ،‬وروْض القلوب‪ ،‬وقال‪ :‬العقل رائدُ الروح‪ ،‬والعلم رائدُ العقل‪ ،‬والبيان تَرجمان العلم‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫إبراهيم ين المام‪ :‬يكفي من البلغة أل يُ ْؤتَى السامع من سوء إفهام الناطق‪ ،‬ول يؤتَى الناطق من سوء فهم السامع‪.‬‬
‫العتّابي‪ :‬البلغة م ُد الكلم بمعانيه إذا قَصر‪ ،‬وحُسن التأليف إذا طال‪.‬‬
‫خطَل‪.‬‬ ‫عجْز‪ ،‬وإطناب في غير َ‬ ‫أعرابي‪ :‬البلغة إيجاز في غير َ‬
‫ي الكبر‪ ،‬وعليك بما‬ ‫ل البلغة؛ فإن ذلك العِ ُ‬ ‫ي الكلم‪ :‬إياك وتتبع الوحشي طمعاً في نَيْ ِ‬ ‫شَ‬
‫وكتب إبراهيم بن المهدي إلى كاتب له ورآَه يتبع وَحْ ِ‬
‫سهل مع تجنبك ألفاظ السفل‪.‬‬
‫ل فقال‪ :‬أخذ بزمام الكلم‪ ،‬فقاده أسهل َمقَاد‪ ،‬وساقه أجمل مَسَاق؛ فاسترجع به القلوبَ النافرة‪،‬‬ ‫وقال الصولي‪ :‬وصف يحيى بن خالد َرجُ ً‬
‫واستصرف به البصار الطامحة‪.‬‬
‫وسمع أعرابي كلمَ الحسن البصري رحمه ال‪ ،‬فقال‪ :‬وال إنه لفصيح إذا نطق‪ ،‬نصيح إذا وَعَظ‪.‬‬
‫ب ينابيع اللسان؛ إذا حاور سدَد سهمَ الصواب إلى غرض المعنى‪ ،‬ل يكلم‬ ‫عذْ َ‬‫قال الجاحظ‪ :‬ينبغي للكاتب أن يكون رقيقَ حَوَاشي الكلم‪َ ،‬‬
‫الخاصة بكلم العامة‪ ،‬ول العامة بكلم الخاصة‪.‬‬
‫وقال أبو العباس المبرد‪ :‬قال الحسن بن سهل لسالم الحراري‪ :‬ما المنزلة التي إذا نزل بها الكاتب كان كاتباً في قوله وفعله واستحقاقه؟ قال‪ :‬أن‬
‫سيَرِها وأيامها‪،‬‬ ‫حتَنكاً بالتجربة‪ ،‬عارفاً بحلل الكتاب وحرامه‪ ،‬وبالدهور في تصرّفها وأحكامها‪ ،‬وبالملوك في ِ‬ ‫يكون مطبوعاً على المعرفة‪ ،‬مُ ْ‬
‫وأجناس الخط‪ ،‬وبادية القلم‪ ،‬مع تشاكل اللفظ وقرب المأخذ‪ .‬قال الحسن‪ :‬فليس في الدنيا إذاً كاتب‪.‬‬
‫وقيل لليوناني‪ :‬ما البلغة؟ قال‪ :‬تصحيح القسام‪ ،‬واختيار الكلم‪.‬‬
‫وقيل للرومي‪ :‬ما البلغة؟ قال‪ :‬حسنُ القتضاب عند ال َبدَاهة‪ ،‬والغزارة يومَ الطالة‪.‬‬
‫وقيل للهندي‪ :‬ما البلغة؟ قال‪ :‬وضوح الدللة‪ ،‬وانتهاز الفرصة‪ ،‬وحُسْن الشارة‪.‬‬
‫وقيل للفارسي‪ :‬ما البَلَغة؟ قال‪َ :‬معْرِفة الفَصْل من الوصل‪.‬‬
‫وقال علي بن عيسى ال ُرمّاني‪ :‬البلغةُ إيصال المعنى إلى القَ ْلبِ في أحسن صورة من اللفظ‪.‬‬
‫ومن كلم أهل العصر‬
‫في صفة البلغة والبلغاء‬
‫ل مَجازه‪ ،‬وكثر إعجازه‪ ،‬وتناسبَتْ صدوره وأعجازه‪.‬‬ ‫ن إيجازه‪ ،‬وق ّ‬ ‫قال علي بن عيسى الرماني‪ :‬أبلغ الكلم ما حَسُ َ‬
‫س ِمعَه‪ ،‬ويُوئس مضيّعه‪.‬‬ ‫أبلغ الكلم ما يُ ْؤنِس مُ ْ‬
‫البليغ من يجتني من اللفاظ أنوارَها‪ ،‬ومن المعاني ثمارها‪.‬‬
‫ن يبلغ أمد المراد بألفاظ أعْيان‪ ،‬ومعان َأفْراد‪ ،‬من حيث ل‬ ‫سنَانه‪ ،‬أو ُيبْسِط رهان القول و َميْدَانه‪ ،‬بل هي أ ْ‬ ‫ليست البلغةُ أن يُطال عِنانُ القلم أو ِ‬
‫تَ َزيّدٌ على الحاجة‪ ،‬ول إخْلَل ُيفْضِي إلى الفاقة‪.‬‬
‫ل ببصائر البيان‪.‬‬ ‫سلَك إ ّ‬‫البلغة ميدان ل يُ ْقطَع إل بسوابق الذهان‪ ،‬ول يُ ْ‬
‫فلن يعبث بالكلم‪ ،‬ويقوده بأَلين زمام‪ ،‬حتى كأنّ اللفاظ تتحاسدُ في التسابق إلى خواطره‪ ،‬والمعاني تتغايَرُ في النْ ِثيَال على أنامِله‪.‬‬
‫هذا كقول أبي تمام الطائي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ت قوافيهِ ستَ ْق َتتِـلُ‬ ‫حتى ظنن ُ‬ ‫سهِرْتُ لَهُ‬
‫تغَايَرَ الشع ُر فيه إذ َ‬
‫صدْره‪ ،‬وحسن الصواب بين‬ ‫صيْرَفيّ المنطق‪ .‬البيان أصغر صفاته‪ ،‬والبلغة عفوُ خطراته‪ .‬كأنما أوحى بالتوفيق إلى َ‬ ‫فلن مشرفي المشرق‪ ،‬و َ‬
‫طبْعه وفكره‪.‬‬
‫َ‬
‫فلن يح ّز مَفَاصِل الكلم‪ ،‬ويسبق فيها إلى دَرك المرام‪ ،‬كأَنما جمع الكلم حولَه حتى انتقى منه وانتخَب‪ ،‬وتناول منه ما طَلَب‪ ،‬وترك بعد ذلك‬
‫أذْنابًَا ل رؤوساً‪ ،‬وأَجْساداً ل نفوساً‪.‬‬
‫طنِب فل ُيمِلّ‪ ،‬ل فلن أخذ بأزمّة القول يقودُها كيف أراد‪ ،‬ويَجْذبُها‬ ‫خلّ‪ ،‬وي ُ‬ ‫طبْع‪ ،‬ويقنع بما خفّ على السمع‪ ،‬ويُوجِز فل ي ِ‬ ‫فلن يَ ْرضَى بعَفْو ال ّ‬
‫أنَى شاء؟ فل تعصيه بين الصّعب والذّلُول‪ ،‬ول تسلمه عند الحُزونة والسّهول‪ ،‬كلمه يشتدّ مرّة حتى تقول الصخْر الملس‪ ،‬ويَلين تارةً حتى‬
‫تقولَ الماء أو أَسْلَس‪ ،‬يقول فيَصُول‪ ،‬و ُيجِيب فيصيب‪ ،‬و َي ْكتُب فيطبّقُ المَ ْفصِل‪ ،‬أو ُينَسّقُ الدرّ المفَصّلَ‪ ،‬ويَ ِر ُد مشارعَ الكلمِ وهي صَا ِفيَة لم‬
‫حدّ َقطْعاً‪ ،‬والماء أو أَسلَس جَرياً‪ ،‬والفلك أو أقْوَم َهدْياً؛ هو ممن يسهلُ الكلم‬ ‫طرُهُ البَرْقُ أو أسرَع لمعاً‪ ،‬والسيْفُ أو أ َ‬ ‫تُطرَق‪ ،‬وجامَة لم تُ َرنّق‪ ،‬خا ِ‬
‫ج ْريِه‪ ،‬لسانُه يَفلِق الصّخور‪،‬‬ ‫شرَع العميق بيسيرِ َ‬ ‫س ْعيِه‪ ،‬ويستَ ْنبِطُ المَ ْ‬
‫ط ْبعِه‪ ،‬فيتناول المَ ْرمَى البعيدَ بقريب َ‬ ‫حمُ المعاني على َ‬ ‫على لفظه‪ ،‬وتتزا َ‬
‫جمَة‪،‬‬
‫عْ‬ ‫حبْسة‪ ،‬ول ترتهنه ُل ْكنَة‪ ،‬ول تتمشّى في خطابه رنة‪ ،‬ول تتحيّف بيانه ُ‬ ‫صمَ‪ ،‬خَطيب ل تنالُه ُ‬ ‫سمِع الصم‪ ،‬ويستنزل العُ ْ‬ ‫ويغيض البحور‪ ،‬ويُ ْ‬
‫ول تعترض لسانه عُقْدة‪.‬‬
‫صفَا خرقه‪ ،‬قد أحسن‬ ‫شعْر حَلَقه‪ ،‬أَوْ على الصّخْر فَلَقه‪ ،‬أو على الجمر أحرقه‪ ،‬أو على ال َ‬ ‫فلن رقيق الَسَلَة‪ ،‬عذب العذَبَة لو ُوضِع لسانُه على ال ّ‬
‫السّفارة‪ ،‬واستوفى العبارة‪ ،‬وأدى اللفاظ‪ ،‬واستغرق الغراض‪ ،‬وأصاب شواكِلَ المراد‪ ،‬وطبّق مفَاصِلَ الشَداد‪ ،‬وبسط لسانَ الخطابِ‪ ،‬ومدّ‬
‫أطناب الطناب‪ ،‬وطلب ال َمدَ في السهاب‪ ،‬قالَ حتى قال الكلمُ‪ :‬لو أُعفيت! وكتَب حتى قالت القلمُ‪ :‬قد أحفيت‪ ،‬قد ا َتسَع له مَشْ َرعُ الطناب‪،‬‬
‫حنْفَر في الكلم‬ ‫سَ‬
‫ل مَجال‪ ،‬إذا ا ْ‬ ‫وانفرج له مَسْلَك السهاب‪ ،‬أرسل لسانَه في َميْدانِهِ‪ ،‬وأرخى له من عنانه‪ ،‬قال وأطال‪ ،‬وجَالَ في بَسْطِ الكلم ك ّ‬
‫ظ كغمزات اللْحَاظ‪ ،‬ومَعان كأنها فكّ عَانٍ!‬ ‫طَفَح آذِيه‪ ،‬وسَال أ ِتيّه‪ ،‬وانثال عليه الكلم كانثِيَال الغمام‪ ،‬واستجاب له الخِطاب كصَوْب الرَباب‪ .‬ألفا ٌ‬
‫ت كتشكَي العُشاق يوم الفراق‪.‬‬ ‫ن كما تنفّست السْحَار‪ ،‬ألفاظ قد استعارت حلوةَ العِتابِ بين الحباب‪ ،‬واستلنَ ْ‬ ‫ألفاظ كما نوّرت الشجار‪ ،‬و َمعَا ٍ‬
‫كلمٌ قريب شاسِع ومُطمع مانِع‪ ،‬كالشمس تَقرب ضياءً‪ ،‬وتبعد علءً‪ ،‬أو كالماء يَرْخُص موجوداً‪ ،‬ويغلو مفقوداً‪ .‬كل ٌم ل تمجه الَذان‪ ،‬ول تُبليه‬
‫شرَى مسموعة‪ ،‬أو أزاهير الرياض مجموعه‪ ،‬ومعان كأنْفَاس الرياح‪َ ،‬ت ْعبَقُ بال َريْحَان والراح‪.‬‬ ‫الزمان‪ ،‬كالبُ ْ‬
‫سهْلُ متسلسل‪ ،‬كالمدام بماء الغمام‪ ،‬يقرب إذنه على الفهام‪.‬‬ ‫كلم َ‬
‫حرَار‪ ،‬وبُرْد الشباب في خلع العِذار‪.‬‬ ‫كلم كبَرْد الشّراب على الكبادِ ال ِ‬
‫سهْل النواحي‪.‬‬ ‫س المتون‪ ،‬رقَيقُ الحواشي‪َ ،‬‬ ‫كلم كثيرُ العيونِ‪ ،‬سَِل ُ‬
‫حبَر‪ ،‬والمثال وال ِعبَر‪ ،‬والنعيم الحاضر‪ ،‬والشباب النّاضِرِ‪.‬‬ ‫كلم هو السّحْرُ الحللُ‪ ،‬والماء الزّلل‪ ،‬والبُرُود وال ِ‬
‫عقَد السحر‪.‬‬ ‫خدَع الدهر‪ ،‬و ُ‬ ‫سبْكاً ونحتاً‪ ،‬ألفاظ هي ُ‬ ‫نظرت منه إلى صورةِ الطرف بَحْتاً‪ ،‬وصورة البلغة َ‬
‫ي من الكَلَف‪.‬‬ ‫سهّل ا ْلحُزون‪ ،‬ويعطل الدرّ المخزون‪ .‬كل ٌم بعيد من الكُلَف‪ ،‬نق ّ‬ ‫كلم يسرّ المحزون‪ ،‬ويُ َ‬

‫‪33‬‬
‫عنِي الفه ُم بتهذيبها‪ .‬ألفاظ حسبتها من رِقتها‬ ‫كلم كما تنفّس السّحَر عن نسيمه‪ ،‬وتبسّم الذُ ّر عن نظيمه‪ ،‬ألفاظ تأنّقَ الخاطر في تَذْهِيبها‪ ،‬ومعَانٍ ُ‬
‫منسوخة في صحيفة الصّبا‪ ،‬وظننتها من سلستها مكتوبةً في نَحْر الهوى‪.‬‬
‫سمْعُ الشيخ العقيم‪.‬‬ ‫كلم كالبُشْرى بالولد الكريم‪ ،‬قُرعَ به َ‬
‫سيْن أو أدنى‪ ،‬ثم سما وعل حتى صار بالمنزل العْلى‪ .‬رقيق المزاج‪ ،‬حُلْو‬ ‫كلم قرُب حتى أطْمع‪ ،‬و َبعُد حتى امتنعَ‪ ،‬وقرُب حتى صار قابَ قوْ َ‬
‫ب به صَخْر‪ ،‬أو أُطْفئَ‬ ‫ن كلماً ُأذِي َ‬ ‫شبْك‪ ،‬مقبول الَلفْظ‪ .‬قرأت لفظاً جلياً‪ ،‬حَوى معنًى خفيّا‪ ،‬وكلماً قريباً‪َ ،‬رمَى غرضًا بعيداً‪ .‬لو أ ّ‬ ‫السماع‪ ،‬نقيُ ال َ‬
‫جمْر‪ ،‬أو عُوفي به مريض‪ ،‬أو جُبر به َمهِيض لكان كلمَه الذي يقودُ سامعيه إلى السجود‪ ،‬ويجري في القلوب كجَرْي الماء في ا ْلعُود‪ .‬ألفاظه‬ ‫به َ‬
‫أنوار‪ ،‬ومعانيه ثمار‪ .‬كلمُه أنْسُ المقيم الحاضر‪ ،‬وزادُ الراحل المسافر‪ .‬كلمُه يُصغِي إليه المقبور‪ ،‬وينتفض له العُصفور‪ ،‬كل ٌم يقضي حق‬
‫شرِحُ الصدر‪.‬‬ ‫حسْنِ والحسان‪ ،‬كل ٌم منه يجتني الدر‪ ،‬وبه ُيعْ َقدُ السحْر‪ ،‬وعنده ُيعْتِب الدهر‪ ،‬وله يَنْ َ‬ ‫البيان‪ ،‬ويملك ِرقّ الْ ُ‬
‫ومن ألفاظهم‬
‫في وصف النظم والنثر والشعر والشعراء‬
‫نثر كنثر الورد‪ ،‬نَظْمٌ كنظمِ العِقد‪ .‬نثر كالسحر أو َأدَقّ‪ ،‬ونظمٌ كالماء أو أرقّ‪ .‬رسالة كال َروْضَة النيقة‪ ،‬وقصيدة كالمخدرة الرشيقة‪ .‬رسالة َتقْطُر‬
‫ق نواحيه‬ ‫ج بماء الرَاح لطفاً‪ .‬نثره سِحْرُ البيان‪ ،‬ونَظْمه قِطَعُ الْجُمان‪ .‬نثرٌ كما تفتح الزهَر‪ ،‬ونظم كما تنفّس السَحَر‪ .‬نثر تر ّ‬ ‫ظَرْفاً‪ ،‬وقصيدة تمز ُ‬
‫غرَر‬ ‫ضحَك عن ُ‬ ‫خدّها‪ .‬رسالة تَ ْ‬ ‫خرِيدة تو َردَتْ أسرارُ َ‬ ‫حدَاق و ْردِها‪ ،‬ونظم كالْ َ‬ ‫ظمٌ تروقُ ألفاظه ومعانيه‪ .‬نثر كالحديقة تفتّحت َأ ْ‬ ‫وحَوَاشِيه‪ ،‬ونَ ْ‬
‫شعْرك‪ .‬كلم كما هَبَ‬ ‫حبَر ودرَر‪ .‬لم تَرْضَ في بِرك‪ ،‬بأخوات النّثرة من نثرك‪ ،‬حتى وصلتها ببنات الشّعرى من ِ‬ ‫وزَهَر‪ ،‬وقصيدة تنطوي على ِ‬
‫شعْر في نفسه شاعر‪ ،‬تُوسم به المواسم والمشاعر‪ .‬كلم أنْسَى حلوة‬ ‫نَسيمُ السحر‪ ،‬على صفحات الزهر‪ ،‬ولذَ طعمُ الكَرَى بعد ب ْرحِ السَهر‪ .‬و ِ‬
‫شعْر من حلّةِ الشباب مسروق‪ ،‬ومن طِينة الوِصال َمخْلُوق‪ .‬قصيدة‪ ،‬في فنها فرِيدة‪ ،‬هي عروس‬ ‫الولد بحلوته‪ ،‬وطلوَةَ الربيع بطلوته‪ ،‬و ِ‬
‫ق فيه ماء الطبع‪ ،‬ويرتفع له حجابُ القَلْب والسمع‪ .‬شعر ل مزية العجاز َأخْطََأتْه؛ ول فضيلة‬ ‫كُسْ َوتُها القوافي‪ ،‬وحِ ْل َيتُها المعاني‪ .‬شِع ٌر يترقْرَ ُ‬
‫شعْرٌ‬
‫ظتُه لما لحظته‪ .‬أبياتٌ لو جُعلت خلعاً على الزمان لتحَلَى بها مُكاثراً‪ ،‬وتجلَى فيها مُفَاخراً‪ِ .‬‬ ‫حفِ ْ‬
‫اليجاز تخطته شعرٌ رَ َو ْيتُه لما رأَيتْه‪ ،‬و َ‬
‫غشًي من‬ ‫ب لفظه بعيدُ المرام‪ُ ،‬ممَرّ النظام‪ ،‬قويّ السْر‪ ،‬صافي البَحْر‪ .‬نظ ٌم قد ألبِس من البداوة َفصَاحَتها‪ ،‬و ُ‬ ‫رَاقَني‪ ،‬حتى شاقني‪ ،‬فإنه مع قُ ْر ِ‬
‫ى بالفكار‪ ،‬و َنقْل يتَناوَلُ بالسماع والبصار‪ ،‬ونَقْلُ‬ ‫عبِيد وَلبِيد‪ ،‬وإن شئتَ حَبيب والوليد قصيدتُه رَوْضَة تجتن َ‬ ‫سجَاحتها فإن شئت قلت َ‬ ‫الحضارة َ‬
‫جمَان‪ ،‬ورَوْض كالجنَان‪ ،‬وأمنِ الفؤاد‪ ،‬وطيبِ‬ ‫ب من فاكهة الطعام‪ .‬نظم كنظم الْ ُ‬ ‫العلم والدب‪ ،‬أَل ُذ من نَقْل المأكْل والمشرب‪ ،‬وفاكهةُ الكلم‪ ،‬أطي ُ‬
‫الرُقاد‪ .‬قصيدةٌ لم أَرَ غيرها بكْراً‪ ،‬استوفَتْ أقسامَ ا ْلحُنكة‪ ،‬واس َتكْملَتْ أحْكا َم الدّ ْربَة؛ فعليها ر ْونَق الشباب‪ ،‬ولها قُوَةُ المُذْكيَات الصلب‪ ،‬روح‬
‫سبْكه بالذّهب‬ ‫الشعرِ‪ ،‬وتاجُ الدهر‪ ،‬ومقدمة عساكر السحر‪ .‬كل بيت شعر خي ٌر من بيت ِتبْر‪ .‬شعر يُحكم له بالعجاز وال ّتبْريز‪ ،‬ويشبه في صفاء َ‬
‫البريز‪ .‬شعر تَأتِلفُ القلوب على دُ َررِه ائتلفاً‪ ،‬وتصير الذان له أصدافاً‪ .‬لّ دره ما أحْلى شعره! وأنقى دُرَه‪ ،‬وأعْلى قدره‪ ،‬وأعجب أمْره! قد‬
‫ن السبك‪ ،‬مُحْكم‬ ‫حسَ ُ‬
‫ع فيما يصنع‪َ ،‬‬ ‫أخذ برِقاب القوافي‪ ،‬ومَلك رِقّ المعاني‪ ،‬فَضْله بُرْهان حق‪ ،‬وشعره لِسَان صدق‪ .‬فلن يُغرب بما يَجْلِب‪ ،‬و ُيبْ ِد ُ‬
‫خذٌ في عيون الفضل بأَوْفى‬ ‫شعْرِه‪ُ ،‬متَنافس في سحره‪ .‬هو ضارِب في ِقدَاح الشعر بأَعْلى السهام‪ ،‬آ ِ‬ ‫ال َرصْف‪ ،‬بديع ال َوصْفِ‪ ،‬مرغوب في ِ‬
‫طبْعٌ غير طَبع‪،‬‬ ‫شعَاره أشعارُه‪ ،‬ودأبه آدابه‪ ،‬هو ممن َيبْ َتدِ ُه فيبتدع‪ ،‬طبعه ُيمْلي عليه‪ ،‬ما ل ُيمَل الستماع إليه‪َ .‬قرِيحة غير قَرِيحة‪ ،‬و َ‬ ‫القسام‪ِ ،‬‬
‫ل ل ُيبْلي‬ ‫عبِيد لديه من العَبيد‪ ،‬والفرزدقُ عنده أقل من فرزدقة خَمير‪ ،‬وجري ُر يُقَاد إليه بجَرير‪ ،‬قد نسجَ حُلَ ً‬ ‫وخِيم غيرُ وخيم‪ ،‬لبيد عنده بَليد‪ ،‬و َ‬
‫ك ناحيتي الش ْرقِ والغرب‪ .‬أشعار قد وردَتِ‬ ‫ظمُه قد نظم حاشيتي البَرّ والبَحْر‪ ،‬وأَدر َ‬ ‫حسْناّ عَلى تر ُددِ ال ْزمَان‪ .‬نَ ْ‬‫جدّتها الجديدان‪ ،‬ول تزداد إل ُ‬
‫س ْر بِزَاد‪ ،‬وطا َرتْ في الفاق‪ ،‬ولم َتمْشِ على ساق‪ .‬شعرُه أسيَر من المثال‪ ،‬وأسْرَى من‬ ‫المياه‪ ،‬وركِبت الفواه‪ ،‬وسارت في البلد‪ ،‬ولم تَ ِ‬
‫ت هبوب الريح‪ ،‬وطبقت تخُومَ الرض‪ ،‬وانتظمت الشرق إلى‬ ‫الخيال‪ ،‬سار مسيرَ الرياح‪ ،‬وطار بغير جَناح‪ .‬أشعارُه سارت مَسِيرَ الشمس‪ ،‬وهبً ْ‬
‫جدِ‪ ،‬فعلمت كيف يتكسّر الزّهر‬ ‫الغرب‪ .‬قد كادت اليامُ تنشدها‪ ،‬والليالي َتحْفَظُها‪ ،‬والجنّ تدرسها‪ ،‬والطير تتغنّى بها‪ .‬أبيات أسْفَر عنها طَبع المَ ْ‬
‫ل ِفكْره‪ ،‬ووقف كيف شاء عند عَالي َأمْره‪ .‬شعرٌ‬ ‫خ ْدمَته بكما ِ‬
‫حسَن ِ‬‫شعْر قد أَ ْ‬‫على صفحات الحدائق‪ ،‬وكيف يغرس الدرّ في رياض ال َمهَارق‪ِ .‬‬
‫ُيعَلَق في َك ْعبَةِ المجد‪ ،‬ويتوّج به مَفْرِقُ الدهر‪ .‬جاءت القصيدة ومعها عِزّة المُلك‪ ،‬وعليها رواءُ الصدق‪ ،‬وفيها سِيماء العلم‪ ،‬وعندها لِسَانُ المجد‪،‬‬
‫س ِمعَتْ بشبهه‪ .‬شعر يكتب في غُرّة‬ ‫شعْ ِر أن ينتج ما ل عين وقعَت على مثله ول أذن َ‬ ‫ض بَحْرُ العلم على لسانِ ال َ‬ ‫صيَال الحقّ‪ ،‬ل غر َو إذا فا َ‬ ‫ولها ِ‬
‫ج ْبهَة الشمس والبدر‪.‬‬ ‫غرّة الدهر‪ ،‬ويشرح في َ‬ ‫ت بشبهه‪ .‬شعر يكتب في ُ‬ ‫س ِمعَ ْ‬‫ج ْبهَة الشمس والبدر‪.‬عَت على مثله ول أذن َ‬ ‫الدهر‪ ،‬ويشرح في َ‬
‫وهذه جملة من فصول أهل العصر‬
‫تليق بهذا الموضع‬
‫كتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي محمد خلد الرامهرمزي القاضي‪.‬‬
‫ضفْت‬ ‫وصل كتابُك الذي وصلت جَناحَه بفنونِ صلتك وتفقُدك‪ ،‬وضروبِ برك وتعهّدك؛ فارتَحْتُ لكلّ ما أوَْليْت‪ ،‬وابتهَجْتُ بجميع ما أ ْهدَيت‪ ،‬وأ َ‬
‫ب منه‪ ،‬وقد‬ ‫شكْري‪ ،‬وتأمَلْتُ النظم فملكني العُجْب به‪ ،‬و َبهَ َرنِي التعجّ ِ‬ ‫إحسانَك في كل فصل إلى نظائره التي وكلت بها ذِكري‪ ،‬ووقفت عليها ُ‬
‫ُرمْتُ أن أجْري على العادة في تشبيهه بمستَحْسنِ من زهر جَني‪ ،‬وحُلَل وحُلي‪ ،‬وشذور الفرائد‪ ،‬في نحُور الخرائد‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ض وقد رُحنَ في الخطوط السُودِ‬ ‫غدَوْنَ في الحلل البـي‬ ‫والعذارى َ‬
‫ك من إحسانه‪ ،‬ويلهمك مِنْ بر إخوا ِنكِ ما تتمم به صنيعَك‬ ‫ل يزيدك من فضله‪ ،‬ول يُخْلي َ‬ ‫ع ْدلَ‪ ،‬ول أرْضى ما عددتُهُ له مثلً؛ وا ّ‬ ‫فلم أره لشيء َ‬
‫لديهم‪ ،‬ويُرَب معه إحسانك إليهم‪.‬‬
‫خ الدولتين كيف ا ْلكََلفُ بسادتي من أهل ميكال ‪ -‬أيدهم ال! ‪-‬‬ ‫وكتب أبو القاسم إسماعيل بن عباد الصاحب إلى أبي سعيد الشبيبي‪ :‬قد رأى شي ُ‬
‫ح أنْطِقُ فيه بلسان ال ّزمَان‪ ،‬حتى إن ِذكْرهم إذا‬ ‫ظ يمليه عليَ المَلَوان‪ ،‬و َمدْ ٍ‬ ‫ضمِره على ال ُبعْد‪ ،‬وإيثار أُظهره على تراخي المزار‪ ،‬وتقري ٍ‬ ‫بين ود أُ ْ‬
‫ضلُها باهِر‪ ،‬وشرفُها على شرف النماء‬ ‫صدْرِي‪ ،‬فتلك عصبةُ خير فَ ْ‬ ‫س ْمعِي انفرج له َ‬ ‫ت له نَفْسي‪ ،‬وفَضلَهم إذا جرى على َ‬ ‫جَرَى على لساني اهتز ْ‬
‫زاهِر‪ ،‬وشجر ٌة طيبة أصلُها ثابت وفَرْعُها في السماء ناظر‪ ،‬وال يتمَ ُم أعدادها‪ ،‬ول يعدمني ِودَادها‪ ،‬وإذا كان إكباري لهم هذا الكبار فكلّ‬
‫ي فلن منتسباً إلى جملتهم‪ ،‬وحبذا الجملة‪ ،‬ومُعتزِياً إلى خدمتهم‪ ،‬و ِن ْعمَت الخدمة‪ ،‬ففررناه‬ ‫منتسب إلى جنبهم أثِيرٌ لديّ‪ ،‬كثير في يديّ‪ .‬وطرأ عل َ‬
‫عذْب‪ ،‬وصلةِ نثرٍ بنظم؛ فإن شاء قال‪ :‬أنا الوليد‪ ،‬وإن شاء قال‪ :‬أنا عبد الحميد؛ ولم أعظِم بمن خرَجته تلك النعمة ونتجته‬ ‫سمْح‪ ،‬ولَفْظٍ َ‬ ‫طبْعٍ َ‬
‫عن َ‬
‫عدّة‪ ،‬إلى أن تذكّر مَعاهدَ رَأى فيها الدَهْرَ‬ ‫جدْوَة؛ وآنسَنا بالمقام مُدة‪ ،‬أكدتها شوافِع ِ‬ ‫تلك السدَة أن يأخ َذ من كلّ حسنة بعُرْوة‪ ،‬ويقدح في كل نارٍ ب َ‬
‫ن حنينَ الرّكاب‪ ،‬ورَكبَ عَزِيم الياب‪.‬‬ ‫طَلْقاً‪ ،‬والزمان غُلماً‪ ،‬والفضلَ رهناً‪ ،‬والفضال لِزاماً؛ فح ّ‬
‫فصل من كتاب كتبه المير أبو الفضل عبيد ال بن أحمد الميكالي إلى أبي القاسم الداوودي جواباً عن كتاب له ورد عليه‪ ،‬وأبو الفضل رئيس‬

‫‪34‬‬
‫نيسابور وأعمالها في وقتنا هذا‪ ،‬وسيم ّر من كلمه ونثره ونظامه ما يغني عن التنويه‪ ،‬و َيكْفِي عن التنبيه‪ ،‬ويجل عن التشبيه‪ ،‬ويكون كما قال‬
‫جمَعُ إلى تأديب ولده المتاعَ بإيناسه؛ فندَبني‬ ‫أبو الحسن الخفش علي بن سليمان‪ :‬استهدى إبراهيم بن المدبر أبا العباس محمد بن يزيد جليسًا يَ ْ‬
‫لذلك‪ ،‬وكتب إليه معي‪ :‬قد أنفذت إليك ‪ -‬أعزَك ال ‪ -‬فلناً‪ ،‬وجملة أمره أنه كما قال الشاعر‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫خبُروني‬ ‫شفيعًا عندهمْ أن يَ ْ‬ ‫إذا زُرت الملوك فإن حسبي‬
‫وفصل أبي الفضل‪ :‬وقفتُ على ما أتحفني به الشيخ‪ :‬من نَظمِه الرائق البديع‪ ،‬وخَاله المُزْري بزهر الربيع‪ ،‬مُوشّحًا بغُرَرِ ألفاظه‪ ،‬التي لو‬
‫حتُ طَرْفي منها في رياضٍ جادتْها‬ ‫ت مَوَا ِردَ البحور‪ ،‬فسرَ ْ‬ ‫ع َذبَ ْ‬
‫أعِيرت حِ ْل َيتُها لعطّلَت قلئد النحور‪ ،‬وأبكارِ معانيه التي لو قُسمت حَلَوتها ل ْ‬
‫ت عنها ثغورُ المعالي وال ِهمَم‪ ،‬ولم أدرِ ‪ -‬وقد حي َرتْني أصنافُها‪ ،‬وبهرتني‬ ‫سحائبُ العلوم وا ْلحِكم‪ ،‬وهبّ عليها نسيمُ الفضل والكرَم‪ ،‬وابتسمَ ْ‬
‫ستْراً وحجاباً‪ ،‬ولم أدْ ِر أد َهتْني لها نَشْوَة راح‪ ،‬أم ازْدهَتْني نغمةُ‬ ‫ثغورُها وأوصافها‪ ،‬حتى كستْني اهتزازاً وإعجاباً‪ ،‬وأنشأت بيني وبين التماسك ِ‬
‫س ْمعِي منها غناء َم ْعبَدٍ وغَريض‪ ،‬وكيفما كان فقد حَوَى رتبة العجاز والبداع‪ ،‬وأصبح‬ ‫ارتياح‪ ،‬وانتظم عندي منها عِقد ثَناء وقَريض‪ ،‬أم قَرَع َ‬
‫جتَلي مطالَعه ومناظره‪ ،‬أو لسانًا َيدْرُس‬ ‫نزهة القلوب والسماع‪ ،‬فما من جَارِحةٍ إل وهي تودُ لو كانت أذنًا فتلتَقط دررَه وجواهره‪ ،‬أو عينًا تَ ْ‬
‫محاسنَه ومفاخره‪.‬‬
‫وله فصل من كتاب إلى أبي منصور عبد الملك بن إسماعيل الثعالبي‪ :‬وصل كتابُ مولي وسيدي‪ ،‬أبْدَع الكتب هَوَاديَ وأعجازا‪ ،‬وأبرعها‬
‫سبْت ألفاظَه دَرَ السحاب‪ ،‬أو أصفى قطرًا ودِيمة‪ ،‬ومعانيه دُرّ السخاب‪ ،‬بل أوفى قدْراً وقيمة‪ .‬وتأمّلت البياتَ فوجدتها فائقةَ‬ ‫بلغةً وإعجازاً‪ ،‬فح ِ‬
‫عبِقَة النسيم والعَرف‪ ،‬فائزة بقدَاح الْحسْن والطرْف‪ ،‬مالكةً لِزمام القَ ْلبِ والطرْف؛ ول غَرْ َو أن يصدر مثلُها عن ذلك الخاطر‪،‬‬ ‫النظْمِ والرّصْفِ‪َ ،‬‬
‫ل ُيمَتعُه بما منحه من هذه الغُرَر والوضاح‪ ،‬كما أطلق فيه ألسنة الثناء والمتداح‪.‬‬ ‫صدَف الدرر والجواهر‪ ،‬وا ّ‬ ‫وهو َهدَف الفقَر والنوادر‪ ،‬و َ‬
‫حدِه‪ ،‬وله مصنفات‬ ‫وأبو منصور هذا يعيش إلى وقتنا هذا على طريق التخمين ل على حقيقة اليقين وهو فريدُ دهره‪ ،‬وقريع عصره‪ ،‬ونسيجُ وَ ْ‬
‫في العلم والدب‪ ،‬تشهدُ له بأعلى الرتب‪ ،‬وقد ف ّرقْت ما اخترته منها في هذا الكتاب‪ ،‬مع ما تعلق بشاكلته من الخطاب؛ منها كتاب سماه سحر‬
‫البلغة قال في صدر هذا الكتاب‪" :‬أخرجتُ بعضه من غُرَر نجوم الرض‪ ،‬ونكَت أعيان الفضل‪ ،‬من بُلَغاء العصر‪ ،‬في النثر‪ ،‬وحللت بعضه‬
‫من نظم أمراء الشعر‪ ،‬الذين أوردت مُلَح أشعارهم في كتابي المترجم بيتيمة الدهر‪ ،‬فلفقْت جميع ذلك وحرّرته‪ ،‬وسقته ونسَقته‪ ،‬وأنفقت عليه ما‬
‫شبْهُ‬ ‫ت فيه لَذةَ الجِدة‪ ،‬و َروْنق الحداثة‪ ،‬وحلوة الطَراوة‪ ،‬ولم َأ ُ‬ ‫رُزِقته‪ ،‬وعملته بكد الناظر‪ ،‬وجهد الخاطر‪ ،‬و َتعَبِ اليمين‪ ،‬وعرق الجبين‪ ،‬وتعمَدْ ُ‬
‫بشيء من كلم غير أهل العصر‪ ،‬إلّ في قلئل وقلئد من ألفاظِ الجاحظ وابن المعتز‪ ،‬تخلّلت أثناءَه‪ ،‬وتوشحت تضاعيفه‪ ،‬ولم أُخْل كلماتِه ‪-‬‬
‫التي هي وسائط الداب‪ ،‬وصياقل اللباب‪ ،‬وما تس َت ْمتِعُه أنْفسُ الدباء‪ ،‬وتلذّ أعين الكتاب ‪ -‬من لفظ صحيح‪ ،‬أو معنًى صريح‪ ،‬أو تجنيس أنيس‪،‬‬
‫ق هذا الكتاب قَرُبَ تنا ُولُه من الكتاب‪،‬‬ ‫أو تشبيه بل شَبيةٍ‪ ،‬أو تمثيل بل مَثيل ول عَديل‪ ،‬أو استعارة مُختارة‪ ،‬أو طِباق‪ ،‬في رَوْنق باق؛ فمن رَافَ َ‬
‫إذا وشّوا ديباج َة كلمهم بما يقتبسونه من نُوره‪ ،‬وسماحة قيادِه لفراد الشعراء إذا رصَعوا عقودَ نظامِهم بما يلتقطونه من شذُوره‪ ،‬فأمَا‬
‫المخاطبات والمحاورات‪ ،‬فإنها تتبرَج بغرّة من غُرره‪ ،‬وتتوَج بدرة من درَرِه‪.‬‬
‫وقد ذكر جملة مَنْ أخرج معظم كتابه من نثرهم ونظمهم‪ ،‬وهم‪ :‬الصابيان‪ ،‬والخالِديان‪ ،‬وبديع الزمان‪ ،‬وأبو نصر بن ال َمرْ ُزبَان وعلي بن عبد‬
‫العزيز القاضي‪ ،‬وأبو محمد القاضي‪ ،‬وأبو القاسم الزعفراني‪ ،‬وأبو فراس الحمداني‪ ،‬وابن أبي العلء الصبهاني‪ ،‬وأبو الطيب المتنبي‪ ،‬وأبو‬
‫الفتح البُستْي‪ ،‬وأبو الفضل الميكالي‪ ،‬وشمس المعالي‪ ،‬والصاحب بن عباد‪ ،‬وجماعة يكثر بهم التعداد‪ ،‬قد ذكرهم في كتابه‪ ،‬فكل ما مرّ أو يمر‬
‫من ذكر ألفاظ أهل العصر فمن كتابه نَقَ ْلتُ‪ ،‬وعليه عَوّلت‪.‬‬
‫وفي أبي منصور يقول أبو الفتح علي بن محمد البُستي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ستَقرَى البـلد أخ‬ ‫ما مثلُ ُه حين تُ ْ‬ ‫ن بنيسابورَ عـنـد أخ‬ ‫قلبي رهي ٌ‬
‫ف تُنتسَخُ‬ ‫من الحِجَا والعُل والطرْ ِ‬ ‫له صحـائف أخْـلَق مـهـذّبة‬
‫وأما الذين ذكر أسماءهم في كتابه فسأُظهر من سرائر شعرِهم الرصين‪ ،‬وأجلو من جواهر نثرهم الثمين‪ ،‬ما أخذ من البلغة باليمين‪.‬‬
‫فصل لبي الفضل‪ :‬وصل كتابُ الشيخ المبشر من خبر سلمته التي هي غُرّة الزمان البهيم‪ ،‬وعذر الدهر المليم‪ ،‬بما أشرقت له آفاقُ الفَضْلِ‬
‫ع دُرَرُها وجواهرها‪ ،‬و َمبَار‬ ‫حتُ طَرْفي من محاسن ألفاظه‪ ،‬في أنْوار تَرُوق أزا ِهرُها‪ ،‬وقل ِئدَ ترو ُ‬ ‫والكرم‪ ،‬وتمَت به نفائِسُ اللء والنعم‪ ،‬فسرَ ْ‬
‫يسترق الرّقابَ باطنها وظاهرها‪.‬‬
‫ل من أخبار سلمتك‪ ،‬وآثا ِر نعمِ الّ بساحتك‪ ،‬ما أدى روحَ البَرّ ونسيمه‪ ،‬وجمع فنونَ‬ ‫وله إلى أبي سعيد بن خلف الهمداني‪ :‬وصل كتابُك متحم ً‬
‫الفضل وتقاسيمه‪ ،‬ومجدَدًا عندي من عمر مواصلته‪ ،‬ومعسول كلمه ومحاوَرته‪ ،‬ما ترك غُصنَ المِقَة غضاً تروق أوْراقه‪ ،‬ووَجْهَ الثقة طَلْقاً‬
‫ق اليام تُحا ِذنِيهِ‪ ،‬وحويت به من عِلْق مَضنّة قلما يجود الدهر بمثله لبنيه‪.‬‬ ‫سرّة كانت عوائ ُ‬ ‫يتهلّل إشراقه‪ ،‬فكم جنيت عنه من ثمر مَ َ‬
‫وله فصل إلى بعض الحكام بجُ َويْن‪:‬‬
‫صوْبُ الصابة‬ ‫ب فَضلَ المقادة‪ ،‬ومعنى سنيّ جاده َ‬ ‫وصل كتابُ الحاكم وقد وشّحه بمحاسن ِفقَره‪ ،‬ونتائج ِفكَره‪ ،‬من لفظ شهيً أعطته القلو ُ‬
‫طرْفي فيما حواه من بدائع وطُرَف‪ ،‬قد جمعت في الحسن‬ ‫ي اتّفَ َقتْ على العتراف بفضله ألسنةُ الثناء والشهادة‪ ،‬فسرّحْتُ َ‬ ‫والجادة‪ ،‬وبِرّ هن ّ‬
‫والحسان بين واسطة وطَرَف‪ ،‬حتى لم تبقَ في البلغة يتيمة إلّ جبرتها وتمّمتها‪.‬‬
‫وله إلى المير السيد أبيه يهنئه بالقدوم‪.‬‬
‫كتبت وأنا بمنزلة من ارتدّ إليه شبابُه بعد المشيب‪ ،‬وارتدى بردَاء مِنَ العمر قَشِيب‪ ،‬والحمد لّ رب العالمين‪ ،‬وصل كتابُ مولي مبشّرًا من‬
‫ل فيه ورائحَه‪ ،‬واثقةً‬ ‫صنْع ا ّ‬
‫ل و َكنَفه‪ ،‬بما لم تزل المال تتنسّم روائحه‪ ،‬وتترقّب غاديَ ُ‬ ‫خبر عَوْده إلى مقرَ عزّه وشَرَفه‪ ،‬محروساً في حفظ ا ّ‬
‫غمْرة الغَماء خروجَ السيف من ال ِغمْدِ‪ ،‬والبدر بعد السّرَار‬ ‫بأنّ عادةَ الّ الكريمة عنده تُسَايره وتُرافقه‪ ،‬وتلزم جنابه فل تُفارِقه‪ ،‬حتى تْخرجَه من َ‬
‫شّبهْهُ في إهداء الرّوح‬ ‫حدِيداً‪ ،‬ولم أُ َ‬ ‫طرْفَ الحسود كليلً وقد كان َ‬ ‫جدِيداً‪ ،‬وردَ َ‬
‫إلى النجلء‪ ،‬فعددْتُ يوم وُرودِهِ عيداً‪ ،‬أعاد عهد السّرور َ‬
‫والشفاء‪ ،‬وتلفي الرّوح بعد أن أشْفَى على المكروه كل الشفاء إل بقميص يوسف حين تلقّاه يعقوبُ عليه السلم من البشير‪ ،‬وألقاه على وجهه‬
‫غمّة في النفس إلَ‬ ‫ل بَ َر ْدتُهَا‪ ،‬ول ُ‬‫فنظر بعَيْنِ البصير‪ ،‬فكم أوسعتُه لثماً واستلماً‪ ،‬والتقطت منه بَرْداً وسلماً‪ ،‬حتى لم تبق غُلّة في الصدر إ ّ‬
‫طَ َردْتها‪ ،‬ول شريعة من النس إلّ وردْتها‪.‬‬
‫حجُوله‪،‬‬ ‫ف بي عند أول فصل من فصوله‪ ،‬ويثبّطني عن استيفاء غُرَره و ُ‬ ‫ظمُ العجاب تارة يق ُ‬ ‫ط التعجب مَرّة وعِ َ‬ ‫وله فصل من رسالة‪ :‬وكان فر ُ‬
‫جنَان فوقها مُتطلَع‪ ،‬حتى إذا جاوزته‬ ‫ويُوهمني أنّ المحاسنَ ما حَ َوتْه قلئدُه‪ ،‬ونَظمته فرائدُه؛ فليس في قوس إحسان وراءها ِمنْزَع‪ ،‬ول لقتراح َ‬
‫صفَ‪ ،‬و َيعْلُو على الول مَحَلً ومكاناً‪ ،‬ويفوقه حسناً‬ ‫حيّر الطّرْف‪ ،‬و ُيعْجِز الوَ ْ‬‫ت ما يُ َ‬‫إلى لففه وتَ ْزيِينه‪ ،‬وأجَ ْلتُ فكري في نكتِه وعُيونه‪ ،‬رأي ُ‬

‫‪35‬‬
‫حكَم من مطالعه ومَشارقه‪ ،‬وسلّمت لمعانيه وألفاظه فضيلةَ السَبق والبَرَاعةِ‪،‬‬ ‫وإحساناً‪ ،‬فر َتعْتُ كيف شئتُ في رياضِه وحدَائِقه‪ ،‬واقتبست نُورَ ال ِ‬
‫وتلقيتها بواجبها من النَشرِ والذاعة؛ فإنها جمعت إلى حسْنِ اليجاز درجةَ العجاز‪ ،‬وإلى فضيلة البداع جللةَ الموقع في القلوب والسماع‪.‬‬
‫حبَر‬‫وله من فصل‪ :‬وصل كتاب الشيخ َفنَشَر عندي من حُلل إفضاله وإكرامه‪ ،‬ومحاسن خطابه وكلمه‪ ،‬ما لم أشبّهه إل بأنْوَار النّجُود‪ ،‬و ِ‬
‫البرود‪ ،‬وقلئد العُقُود‪.‬‬
‫حرَ الشعر‪ ،‬و ُر ْقيَةَ الدهر‪،‬‬ ‫وذكر أبو منصور الثعالبي المير أبا الفضل في كتاب ألفهُ‪ ،‬فقال في بعض فصوله‪ :‬مَنْ أراد أن يسمعَ سِرّ النظم‪ ،‬وسِ ْ‬
‫ويرى صَوْب العَقْل‪ ،‬وذَوْب الظرْف‪ ،‬ونتيجة الفَضل؛ فليستنشد ما أسفْر عنه طب ُع مَجْده‪ ،‬وأ ْثمَرَه عالي فكره‪ ،‬من مُلَحِ تمتزجُ بالنفوس لنفاستها‪،‬‬
‫وتشرَب بالقلوب لسلستها‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ق هزَت لَها الغانيات ال ُقدُودا‬ ‫قوافِ إذا ما رَوَاها المشـو‬
‫وأضحى لَبيد لديهـا بَـلِـيدا‬ ‫عبِيداً ثياب الـعَـبِـيد‬ ‫كَسَوْنَ َ‬
‫س َعدَني بالقتباس من نُوره والغتراف من َبحْرِه‪ ،‬فشاهدت ثِمارَ المجدِ والسؤود تنَتثِرُ‬ ‫وأيْمُ ال ما مرّ يوم أسعفني فيه الزمانُ بمواجهة َوجْهه‪ ،‬وأ ْ‬
‫ل تذكرت‬ ‫من شمائله‪ ،‬ورأيت فضائلَ الدهرِ عيالً على فضائله‪ ،‬وقرأتُ نسخة ال َفضْلِ والكرم من ألْحَاظِه‪ ،‬وانتهَبْتُ فضائل الفوائد من ألفاظه‪ ،‬إ َ‬
‫ما أنشدنيه‪ ،‬أدام ال تأييده لبن الرُومي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫صبِ‬
‫تلك الفضائلُ في لَحمِ ول عَ َ‬ ‫صنْعِ الّ ما ثبتـت‬ ‫لول عجائب ُ‬
‫وقول الطائي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫طبَاعِ‬ ‫على ما فيكَ من كَ َرمِ ال ّ‬ ‫ت نفسَك لم تَ ِزدْها‬ ‫فلو صورْ َ‬
‫وقول كُشاجم‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ب يُوَفيه مِـنَ الـعَـيْنِ‬
‫عيْ ٍ‬
‫َ‬ ‫ما كان أحوج ذا الكمال إلى‬
‫وربعت بقول أبي الطيب‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ك َبعْضُ دَمِ الغَزَالِ‬ ‫فإن المس َ‬ ‫ت مِنـهُـم‬ ‫فإن تَفُقِ النامَ وَأنْ َ‬
‫ثم استعرت فيه بيانَ أبي إسحاق الصابي حيث يقول للصاحب وَرثَهُ ال أعمارها‪ ،‬كما بلغه في البلغة أنوارها‪ :‬السريع‪:‬‬
‫تعوَد العبدُ على المولـى‬ ‫ال حسبي فيك من كلّ ما‬
‫غيْرِك الَوْلَى‬ ‫ت بها من َ‬ ‫َأنْ َ‬ ‫ل في نعـمةٍ‬ ‫فل تَزَل ت ْرفُ ُ‬
‫سيْل ال َقطْرِ‪،‬‬ ‫وقال في فصل منه‪ :‬وما أنس ل أنسَ أيامي عنده بفيروزاباد‪ ،‬إحدى قُرَاه برستاق جُوين‪ ،‬سقاها الّ ما يحكي أخلقَ صاحبها من َ‬
‫عشْرَته العِطْرِية‪ ،‬وآدابه العلوية‪ ،‬وألفاظِه اللؤلؤية‪ ،‬مع جلئل ِن َعمِهِ المذكورة‪ ،‬ودقائق كرمه المشكورة‪ ،‬وفوائد‬ ‫فإنها كانت ‪ -‬بطَ ْل َعتِه ال َبدْرِية‪ ،‬و ِ‬
‫مجالسه المعمورة‪ ،‬ومحاسِن أقواله وأفعاله التي َيعْيا بها الواصفون ‪ -‬أنموذجات من الجنّة‪ ،‬التي وُعِد المتقون‪ ،‬وإذا تذكرتها في المَرابع التي‬
‫طوِي لها‬ ‫ف مطارفها‪ُ ،‬‬ ‫ت بدائعَ زخارفها‪ ،‬ونشرت طرائ َ‬ ‫هي مَرَاتِع النوَاظر‪ ،‬والمصانع التي هي مطالع العيش الناضر‪ ،‬والبساتين التي إذا أخذَ ْ‬
‫ش َيمِهِ‪ ،‬وآَثار قَلمه‪ ،‬وأزها ِر كلمه‪ ،‬تذكرت سِحراً وسيماً‪ ،‬وخيرًا عميماً‪،‬‬ ‫الديباج ا ْلخُسْرُوَاني‪ ،‬ونُفي معها ال َوشْي الصّنعاني‪ ،‬فلم تُشَبه إلّ ب ِ‬
‫وارتياحًا مُقيماً‪ ،‬وروحاً و َريْحانًا ونعيماً‪.‬‬
‫خ ْدمَته‪ ،‬ول َزمْتُ في أكثر أوقاتي عَالي مَجْلسه‪ ،‬وتعطّرت عند‬ ‫حكِي للخوان أني استغرقتُ أربعة أشهر بحضرته‪ ،‬وتوفّرت على ِ‬ ‫وكثيراً ما أ ْ‬
‫ل مَجْداً وشرفًا منْ أحواله‪ .‬وما‬ ‫طرَفاً من أخلقه؛ ولم أشاهد إ َ‬ ‫حنْثاً فيها إني ما أنكَرت َ‬ ‫ت غنياً عنها لو خفت ِ‬ ‫ركوبه بغُبار مَ ْوكِبه؛ فبال يمينًا كن ُ‬
‫غتَابَ غائباً‪ ،‬أو سبّ حاضِراً‪ ،‬أو حَرَم سائلً‪ ،‬أو خيّب آملً‪ ،‬أو أطاع سلطانَ ال َغضَبِ في الحضَر‪ ،‬أو تَسلَى بنار الضّجَر في السّفَر‪ ،‬أو‬ ‫رأيتُه ا ْ‬
‫ل ما يتعاطاه‪ ،‬والمآثمَ إلّ ما يتخطَاه‪.‬‬ ‫بطش بَطْشَ المُتجبّر؛ ول وجدت المآثرَ إ ّ‬
‫عذْرتها‪ ،‬ومالِك أ ِزمَتها‪ ،‬وكأنما يُوحَى إليه في الستئثار‬ ‫وقال في فصل منه يصفه‪ :‬وأما فنونُ الدب فهو ابن بَجْدتها‪ ،‬وأخو جملتها‪ ،‬وأبو ُ‬
‫بمحاسنها‪ ،‬والتفرُد ببدائعها‪ ،‬ول هو إذا غرس الدُرّ في أرض القراطيس‪ ،‬وطَرّز بالظلم ِردَاء النهار‪ ،‬وألقت بِحَارُ خواطره جواهِرَ البلغة‬
‫على أنامله‪ ،‬فهناك ا ْلحُسْنُ ب ُرمّته‪ ،‬والْحُسْن بكلَيته‪.‬‬
‫وذكر عمر بن علي المُطَوَعي في كتاب ألّفه في شعر أبي الفضل ومنثوره والشعراء‪ ،‬فقال‪ :‬رأيتُ أهل هذه الصناعة قد تشعّبوا على طُرُق‪،‬‬
‫وانقسموا على ثلث فرق‪ ،‬فمنهم من اكتسى كلمه شرف الكتساب دون شرف ال ْنتِساب كالمكتسبين من الشعراء بالمدائح‪ ،‬المترشحين بها‬
‫خذِ الجوائز والمنائح‪ ،‬وهم الكثرون من أهل هذه الصناعة؛ ومنهم من شَرُفت بناتُ فكره عند أهل العقول‪ ،‬وجلبت لديهم فضائل ال َقبُول‪،‬‬ ‫لْ‬
‫شرَف قائلها‪ ،‬ل ِلكَثرة عقائلها‪ ،‬وكرم واشيها‪ ،‬ل ل ِرقَة حواشيها‪ ،‬كالعدد الكثير‪ ،‬والجمّ الغفير‪ ،‬من الخلفاء والمراء والجِلّة والوزراء؛ ومنهم‬ ‫لِ َ‬
‫ش َيتَيه‪ ،‬كامرئ القيس ابن حُجْر الكندي في المتقدّمين‪ ،‬وهو أميرُ الشعراء غير‬ ‫حسْنِ من حا ِ‬ ‫من أخذ بحبل الْجَوْدة من طَ َر َفيْه‪ ،‬وجمع رداءَ الْ ُ‬
‫مُنازع‪ ،‬وسيّدهم غير مجاذَب ول مدافع‪ ،‬وعبد ال بن المعتز بال أمير المؤمنين في المولدين‪ ،‬وهو أشعر أبناء الخلفة الهاشمية‪ ،‬وأبرع أنشاء‬
‫ل كلمه في التشبيه‪ ،‬عن أن يُمثّل بنظير أو شبيه‪ ،‬وعَلَت أشعاره في الوصاف‪ ،‬عن أن تتعاطاه ألسنةُ الوُصّاف؛‬ ‫الدولة العباسية‪ ،‬ومَنْ ج ّ‬
‫حمْدان فارس البلغة‪ ،‬ورجل الفصاحة‪ ،‬ومن حكمت له شعراءُ العصر قاطبةً بالسيادة‪ ،‬واعترفت لكلمه بالحسان‬ ‫والمير أبي فراس بن َ‬
‫ختِم بملك‪ ،‬يعني أمرأ القيس وأبا فراس؛ وهذه الطائفة أشهر‬ ‫والجادة‪ ،‬حتى قال أبو القاسم إسماعيل بن عباد الصاحب‪ُ :‬بدِئ الشعرُ بملك و ُ‬
‫خرِ ومواطئ الشرف َقدَما‪ ،‬وأسبق الشعراء في َميْدان البلغة‪ ،‬وأرجَحهُم في ميدان البَرَاعة؛ فإنّ الكلمَ‬ ‫الثلثة تقدّما‪ ،‬وأثبتها في مواطن الفَ ْ‬
‫الصادرَ عن العيان والصدور‪ ،‬أق ُر للعيون وأشفى للصدور‪ ،‬فشرف القلئد بمن قُلدها‪ ،‬كما أن شرف العقائل بمن وََلدَها‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫شعْرِ ما قالَ ال َعبِيدُ‬
‫وشَرّ ال ّ‬ ‫ش ْع ِر أكْ َرمُه رِجَالً‬ ‫خيْرُ ال ّ‬
‫وَ‬
‫وإذا اتفق مَن اجتمعت فيه هذه الشرائط‪ ،‬وانتظمت عنده هاتيك المحاسن‪ ،‬كان خليقًا بأن تُخلّد في صحائف القلوبِ أشعارُه‪ ،‬وتُدوَن في ضمائر‬
‫ن بسرعة المجال في المجالس‪ ،‬وخِفة المدار في المدارس‪ ،‬كالمير‬ ‫النفوس آثارُه‪ ،‬وتكتَب على الحداق والعيون أخبارُه‪ ،‬وجديراً بأن يختص َ‬
‫الجليل السيد مولنا‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ع َدتْهُ نفـسُـ ُه بـمـزيدِ‬‫ومن وَ َ‬ ‫ن نال السما َء بفضلِهِ‬ ‫أبى الفضل مَ ْ‬
‫فينظمهـا مـن تَـوْأَم وفـريدِ‬ ‫تودُ عقودُ الدرّ لو كانَ لـفـظَـهُ‬
‫وهذه مقطعات لهل العصر‬

‫‪36‬‬
‫في وصف البلغة‬
‫قال أبو الفتح البُسْتي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بأمثالها الصّيدُ الكِرَامُ العاظمُ‬ ‫ت قَلئد لم َيفُـزْ‬ ‫حتُك فالتام ْ‬ ‫مد ْ‬
‫وفك ِريَ غَوّاصٌ وشعْرِي ناظم‬ ‫لنك بَحْرٌ والمعـانـي للِـئُ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫سمْعَ المرء والبَصَرا‬ ‫في الوقت ُي ْمتِعُ َ‬ ‫ت بـنُـوّارٍ لـه ثـمـرٌ‬ ‫ما إن سمع ُ‬
‫ظ ومعنى يشبـه الـدُرَرَا‬ ‫عن كل لف ٍ‬ ‫ب منـك مـبـتـسِـمٌ‬ ‫حتى أتاني كتا ٌ‬
‫وكان معناه فـي أثـنـائه ثـمـرا‬ ‫للَئه زَهَـراً‬ ‫فكان لَفْـظـك فـي ْ‬
‫لّ من ثم ٍر قد سـابـقَ الـزَهَـرَا‬ ‫ِ‬ ‫تسابقَا فأصابَا ال َقصْـدَ فـي طَـلَـقٍ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫غيْ ِر محـدودِ‬ ‫ل بِر ولفظ َ‬ ‫عن ك ّ‬ ‫َلمَا أتاني كتاب منك مبـتـسـمٌ‬
‫آثا َركَ البيضَ في أحواليَ السّود‬ ‫حكَتْ معانيه في أثناء أسْطُـرِهِ‬
‫كأنه ألم بقول الطائي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ستْها َيدُ المأمولِ حُـلّة خَـائِبِ‬ ‫كَ َ‬ ‫يرى أقبـحَ الشـياء أ ْوبَةَ آمـل‬
‫بياضُ العطايا في سَوَادِ المَطَالِبِ‬ ‫ن من نَوْر تُفتّحه الصّـبـا‬ ‫وأحس َ‬
‫وقال أبو الفتح البستي في أبي نصر أحمد بن علي الميكالي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ل َتعْلو بها القـدارُ‬ ‫ر خِصا ً‬ ‫جمع الَ في المير أبي نص‬
‫وذكاءً تبـدو لـه السـرارُ‬ ‫صدْرًا فَـضـاءً‬ ‫راحةً برةً و َ‬
‫ضحَكن‪ ،‬والمعاني ثِمارُ‬ ‫هار يَ ْ‬ ‫خَطُهُ روضةٌ وألفاظُـه الز‬
‫وقال عمر بن علي المطوعي َي ْمدَح أبا الفضل الميكالي من قصيدة‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫بكمال سُؤددهِ علـى المـراء‬ ‫وإلى المير ابن المير المعتلي‬
‫متقاذفِ ال ْكنَـافِ والرْجـاءِ‬ ‫جنَ َة َم ْهمَهِ‬ ‫وطِئتْ بيَ الوَجْناءُ وَ ْ‬
‫فَلَكًا يُدِير كواكِبَ الـعَـلْـيَاء‬ ‫ظ منه في أفق العُلَ‬ ‫كيما ألح َ‬
‫كا ْلبَحْ ِر غير عذوبةٍ وصفـاء‬ ‫كا ْل َبدْ ِر غير دَوَامِه متَكـامِـلً‬
‫كالرّي َي ْكمُن في زُلل المـاءِ‬ ‫بالفضل ُيكْنى وهو فيه كامـن‬
‫صنْعاء‬ ‫ي من َ‬ ‫شَ‬ ‫أ ْهدَى إلينا الو ْ‬ ‫ب يمـينـه‬ ‫ط الكتا َ‬‫يا من إذا خَ َ‬
‫ت عـن يَد بـيضـاءِ‬ ‫إل تحل ْ‬ ‫لم تجر كفُك في البياض مُوقعاً‬
‫في النظْم والعطاء إلّ الطائي‬ ‫قَرْم يداه وقَ ْلبُه ما مـنـهـمـا‬
‫وقال فيه أيضاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫َينُوبُ عن الماء الزلل لمن يَظْما‬ ‫كل ُم المير النّدْبِ في ثنْي نَظْمهِ‬
‫ظمَا إذا لم نرْو يومًا له نَظْمـا‬ ‫ونَ ْ‬ ‫فنرْوى متى نَرْوي بدائ َع نَظْمـه‬
‫وكتب إليه أيضاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫كأني قد اس َتمْل ْي ُتهُن من السُـحْـبِ‬ ‫أقول وقد جادت جُفوني بـأ ْدمُـعٍ‬
‫كتْبنَ معاناةَ العناء على قـلـبـي‬ ‫وقد علِقتْ بي للـنـزاع نَـوَازعُ‬
‫وزادت معاليه ضياء على الشهب‬ ‫إلى سيّد أوفى على الشمسِ قـدرُهُ‬
‫وراحتِ ِه تُربي على عَ َددِ الـتـربِ‬ ‫أبي الفضل مَنْ راحت فواضلُ كفّه‬
‫كنائله الفياض أو لفظِهِ الـعـذْب‬ ‫ل فيها سحائبـاً‬ ‫سقى الَُ أرضاً ح ّ‬
‫ويقدمها بَرْق كصارمه ال َعضْـبِ‬ ‫حدُوها نسيم كـخُـلْـقـهِ‬ ‫ب يَ ْ‬
‫سحائ َ‬
‫بحضرته تنتابها وهو كالقُـطْـبِ‬ ‫ول زال أفْلَك السعود مُـطِـيفةً‬
‫وقال أبو منصور الثعالبي للمير أبي الفضل‪ :‬الكامل‪:‬‬

‫جمَـع‬‫أبداً لغيرك في الوَرى لم تُ ْ‬ ‫لك في الفضائل معجزات جَـمة‬


‫شعْرُ الوليد وحُسْن لفظِ الصمعي‬ ‫ِ‬ ‫ن بحرٌ في البـلغة شـابَـهُ‬ ‫بحرا ِ‬
‫كالوَشْي في بُ ْردٍ عليه مُـوشَـع‬ ‫كالنَورِ أو كالسّحر أو كـالـدّر أو‬
‫وافى الكري َم ُب َعيْ َد فَقْـ ٍر مُـ ْدقِـع‬ ‫شكرًا فكم من فَ ْقرَةِ لك كالغِـنَـى‬
‫فالحسنُ بين مُرَصّع ومُـصَـ َرعِ‬ ‫شعْـرِك نـاضـراً‬ ‫وإذا تفتق نَوْرُ ِ‬
‫ج ُد مُـبـدِع‬ ‫س البديع وأنت أمْ َ‬ ‫را َ‬ ‫ت فُرسان الكلم و ُرضْت أف‬ ‫أ ْرجَلْ َ‬
‫تُ ْزرِي بآثارِ الربيع الـمُـمْـرعِ‬ ‫ونقشت في فصّ الزمان بـدائعـاً‬
‫وقال في وصف فرس أهداه إليه ممدوحه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫قد أنعلوه بـالـرياح الربـعِ‬ ‫يا ُمهْدِي الطّرْف الجوادِ كأنمـا‬

‫‪37‬‬
‫في شكر نائلك اللطيف المَ ْوقَع‬ ‫ل شيء أسرعُ منه إل خاطري‬
‫لجلل ُمهْدِيه الكـريم الر َوعِ‬ ‫ولو أنّني أنصفْتُ في إكرامِـهِ‬
‫وجعلت مربطه سَوادَ المَ ْدمَعِ‬ ‫أنظمته حَب القلوب لِـحُـبـه‬
‫بُرْد الشباب لجله والبُـرْقـع‬ ‫وخلعت ثم قطعت غير مضيق‬
‫وكتب إليه في جواب كتاب ورد عليه‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫جتْه رَيا الـحـبـيب الثـيرِ‬ ‫مازَ َ‬ ‫أنسيمُ الـرياض حَـوْلَ الـغـدير‬
‫ك أسيرٍ أو يُسْر أمـرٍ عـسـيرِ‬ ‫أم ُورُود البشير بالنجْـح مـن ف‬
‫تحت أ ْيكٍ من التصابي نـضـير‬ ‫في مُلء من الـشـبـاب جـديدٍ‬
‫دِ؛ فيا حـبّـذا كـتـابُ المـيرِ‬ ‫أم كتاب المير سـيدنـا الـفَـرْ‬
‫من سُطورٍ فيها شفاءُ الصـدورِ‬ ‫وثمار الصـدور مـا أجـتـنـيه‬
‫وارَ والزهر في رياض السطورِ‬ ‫نم َقتْهـا أنـامـل تَـفْـتـقُ الن‬
‫َر مع المن من صروفِ الدهور‬ ‫ج ِمعْنَ في النعـم الـغَ‬ ‫كالمُنى قد ُ‬
‫جل باريكَ من لطـيفٍ خـبـير‬ ‫يا أبا الفـضـل وابـنَـهُ وأخـاهُ‬
‫ويُعبّرْن عن نـسـيم الـعـبـير‬ ‫ن دَرّ الـمـعـالـي‬ ‫شيَ ٌم يَرتَضعْ َ‬
‫ِ‬
‫ي مَـشـورِ‬ ‫رِ رُضابُ الحَيا بَأرْ ٍ‬ ‫وسجايا كأنـهـنّ لـدى الـنـش‬
‫صادق البشر مُخْجل لـلـبـدورِ‬ ‫ومحيا لدى الـمـلـوك مـحـيّا‬
‫فأجابه أبو الفضل بأبياتٍ يقول فيها في صفة أبياته‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫تتهادى في حِـلـيَةٍ وشُـذُورِ‬ ‫سمْ ِع ِبكْـرٍ‬ ‫و َهدِيّ ُزفّتْ إلى ال ّ‬
‫سكِ في الكافورِ‬ ‫في بياضٍ كالمِ ْ‬ ‫ت مِنْ سَوَادٍ‬ ‫ن بدَ ْ‬‫عجب الناس أ ْ‬
‫مثل نظم العقود َفوْقَ النحـور‬ ‫نُظِمت في بـلغة ومـعـانٍ‬
‫ل عيْش نَضِـير‬ ‫للتلقي في ظ ّ‬ ‫كم تذكَرت عندها من عُـهُـودٍ‬
‫شمْلَ السـرورِ‬ ‫باجتماع َيضُمّ َ‬ ‫ن عـنّـا‬ ‫ن إذْ ض َ‬ ‫فذممْتُ الزما َ‬
‫أ ْلبَس الُنس ذِلَة المهـجـورِ‬ ‫ن بـبـينٍ‬ ‫عنَا الـزمـا ُ‬‫ولئن را َ‬
‫في أمانٍ من حادثاتِ الدهـورِ‬ ‫ن يُعيدَ اجتمـاعـاً‬ ‫فعسى الَُ أ ْ‬
‫ل أ ْمرٍ عَـسِـيرِ‬ ‫ت و َتيْسير ك ّ‬ ‫إنه قادر عـلـى ردَ مـا فـا‬
‫ق إبراهي ُم بن هلل الصابي في الوزير المهلَبي‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وقال أبو إسحا َ‬
‫قد أعجزت كلّ ال َورَى أوصـافُـهُ‬ ‫قل للوزير أبـي مـحـمـدٍ الَـذي‬
‫ويَسُوغُ فـي ُأذُنِ الديب سُـلفـهُ‬ ‫لك في المجالس َمنْطِق يَشْفي الْجَوَى‬
‫وكـأنـمـا آذانُـنـا أصـدافُــه‬ ‫وكأنَ لفظَك جَوْهَـرٌ مـتـنـخـل‬
‫ل بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب‪ ،‬وَ َزرَ لحمد بن بُ َويْه الدّيْلمي‪،‬‬ ‫والمهلبي هذا هو أبو محمد الحسن بن هارون بن إبراهيم بن عبد ا ّ‬
‫عفّائهم؛ وفيه يقول أبو إسحاق الصابي‪:‬‬ ‫وكانت وزارته سنة تسع وثلثين وثلثمائة‪ ،‬وكان أبو محمد من سَرَوات الناس وأدبائهم وأجوادهم وأ ِ‬
‫الخفيف‪:‬‬
‫لَفُ إلّ الخايرَ النساكـا‬ ‫ِنعَم الّ كالوحوش فما تأ‬
‫ن لها البر والتّقَى أشرَاكا‬ ‫نَفّرتها آثامُ قـوم وصـيّر‬
‫ل اتّصاله بالسلطان سائحاً في البلد‪ ،‬على طريق الفقْرِ والتصوّف‪ ،‬قال أبو علي‬ ‫وكان قب َ‬
‫الصوفي‪ :‬كنت معه في بعض أوقاته‪ ،‬أُماشِيه في إحدى طرقاته‪ ،‬فضجِر لضيق الحال‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫الوافر‪:‬‬
‫فهــــــــذا الـــــــــــــــعـــــــــــــــيشُ‬
‫مـــــــــــــــا ل خَـــــــــــــــيْرَ‬ ‫ت ُيبَاعُ فأشتريهِ‬
‫أل مو ٌ‬
‫فـــــــــــــــيهِ‬
‫تصـــــــدّق بـــــــالـــــــــوفـــــــــــــــاةِ‬
‫أل رَحِـــــــمَ الـــــــمـــــــهـــــــيمــــــــــن نـــــــــــــــفـــــــــــــــس حـــــــــــــــرّ‬
‫عـــــــــــــــلـــــــــــــــى أخـــــــــــــــيهِ‬
‫س ّر مَنْ رأى‪ ،‬وإذا أنا بناشطيات وحراقات َوزَيارب‬ ‫ثم تصرّف بما يُ ْرضِيه الدهر‪ ،‬وبلغ المهلبي مَبْلغه‪ .‬قال أبو علي‪ :‬دخلت البصرة فاجتزت ب ُ‬
‫عدَد‪ ،‬فسألتُ‪ِ :‬لمَنْ هذا؟ فقيل‪ :‬للورْير المهلبي‪ ،‬ونعتوا لي صاحبي؛ فوصلتُ إليه حتى رأيته‪ ،‬فكتبتُ إليه رقعة‪ ،‬وتوصّلت‬ ‫طيّارات في عُدّة و ُ‬ ‫وَ‬
‫حتى دخلتُ فسلّمت‪ ،‬وجلستُ حتى خل مجلسه‪ ،‬فدفعتُ إليه الرقعةَ وفيها‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫مقال ُم َذكّرٍ ما قد نَـسـيه‬ ‫حتِشـام‬‫ل قُلْ للوزير بل ا ْ‬ ‫أَ‬
‫ل مَوْت يُباعُ فَأشْـتَـرِيهِ‬‫أَ‬ ‫أتذكر إذ تقولُ لضيق عيشي‬
‫فنظر إليَ وقال‪ :‬نعم‪ ،‬ثم نهض وأنهضني معه إلى مجلس الُنس‪ ،‬وجعل ُيذَاكِرني ما مَضى‪ ،‬و َي ْذكُرُ لي كيف ترقَت حالُه‪ ،‬و ُقدّم الطعام فَطعِمنا‪،‬‬
‫ت َبغْلَة رائعة بسَرجٍ ثقيل؛ فقال‪:‬‬ ‫ث ِبدَر‪ ،‬ومع الخر تخوتٌ وثياب‪ ،‬ومع الخر طِيب وبخور‪ ،‬وأقَبلَ ْ‬ ‫وأقبل ثلثةٌ من الغلمان على رأسِ أحدِهم ثَلَ ُ‬
‫يا أبا علي‪ ،‬تفضّلْ بقبول هذا‪ ،‬ول تتخلّف عن حاجة َتعْرِضُ لك‪ ،‬فشكرته وانصرفت‪ ،‬فلمّا هممْتُ بالخروج من الباب استردّني وأنشدني بديها‪:‬‬
‫مجزوء الكامل‪:‬‬

‫‪38‬‬
‫و َرثَى لطول تحرُقي‬ ‫رَقّ الزمان لفاقتـي‬
‫وأجا َر ممّا أتّـقـي‬ ‫وأنالني ما أرتَـجـي‬
‫سبّقِ‬
‫َر من الذنوب ال ُ‬ ‫فلغفرنّ له الكثـي‬
‫فعلَ المشيب بمَفْرِقي‬ ‫إل جنـايَتـه الـتـي‬
‫قال بعضُ العلماء‪ :‬العقول لها صُوَر مثلُ صورِ الجسام‪ ،‬فإذا َأنْتَ لم تسُلكْ بها سبيلَ الدب حارَتْ وضلَت‪ ،‬وإن بع ْثتَها في أَ ْودِيتها كلت وملّت‪،‬‬
‫ق عليه آفةَ العَطَب؛ فإن العقلَ شاهدُك على‬ ‫ت الدب‪ ،‬وتَوَ ّ‬ ‫جمَام للعلم‪ ،‬وا ْرتَدْ لعقلك أ ْفضَلَ طبقا ِ‬ ‫س َتبْقِ ِه بال ِ‬‫شعَاب المعاني والفهم‪ ،‬وا ْ‬ ‫سُلكْ بعقلك ِ‬ ‫فا ْ‬
‫الفَضْل‪ ،‬وحارسُك من الجهل‪.‬‬
‫غمُز‬‫خيْرُها‪ ،‬فا ْ‬ ‫واعَْلمْ أن مغارِسَ العقول كمغارس الشجار؛ فإذا طابت بِقَاعُ الرض للشجر زكا ثمرُها‪ ،‬وإذا كَ ُرمَت النفوسُ للعقول طاب َ‬
‫نفسَك بالكرم‪ ،‬تَسْلَ ْم من الفَةِ والسَقَم‪.‬‬
‫ن ثمرَ العقول وإن‬ ‫جتَ ِ‬
‫خبْثِ ال َمغْرِس؛ فا ْ‬
‫س اللئيمة‪ ،‬بمنزلة الشجرة الكريمة في الرض الذميمة‪ ،‬ينتفع بثمرها عَلَى ُ‬ ‫واعَلمْ أَنّ العقل الحسن في النف ِ‬
‫أتاك من ِلئَام النفس‪ .‬وقال النبي عليه السلم‪" :‬رب حاملِ فقهٍ إلى مَنْ هو أوعى له"‪ .‬وقيل‪ :‬رب حامل فقه غير فقيه‪ ،‬ورب َر ْميَ ٍة من غير رام‪.‬‬
‫ح ْكمَةُ ضالَ ُة المؤمن‪ ،‬أينما وجدها أخذها‪ .‬وسمع الشّعبيُ الحجاجَ ابن يوسف وهو على المنبر يقول‪ :‬أمّا بعد‪ ،‬فإنّ ال كتب على الدنيا‬ ‫وقيل‪ :‬ال ِ‬
‫الفنَاءَ‪ ،‬وعلى الخرة البقاء‪ ،‬فل فناءَ لما كُتِب عليه البقاء‪ ،‬ول بَقاء لما كتِب عليه الفناء‪ ،‬فل يغرنكم شاهد الدنيا عن غائبِ الَخرة‪ ،‬وأ ْقصِرُوا من‬
‫ج من قلب خَرَابٍ! وأخرج ألواحَه فكتب‪.‬‬ ‫الملِ‪ ،‬لقِصَر الجل‪ .‬فقال‪ :‬كل ُم حكمة خَرَ َ‬
‫وقد روى ذلك عن سفيان الثوري‪.‬‬
‫ستَطِير!‬
‫شرُه مُ ْ‬ ‫سكَر الكبير‪ ،‬ليومٌ َ‬ ‫وقد سمع إبراهيم بن هشام وهو يَخْطُب على المنبر ويقول‪ :‬إن يوماً أشاب الصغير‪ ،‬وأ ْ‬
‫وصف الكتب‬
‫جمُ كلمَ‬ ‫حمَلُ في ُردْن‪ ،‬ورَوْضَةٌ تقلّب في حِجر‪ ،‬ينطق عن الموتى‪ ،‬و ُيتَرْ ِ‬ ‫ستَان يُ ْ‬‫قال الجاحظ‪ :‬الكتاب وعاء مُلئ عِلْماً‪ ،‬وظرف حُشِي ظَرفاً‪ ،‬وبُ ْ‬
‫الحياء‪.‬‬
‫وقال‪ :‬من صنَف كتاباً فقد استهدف؛ فإنْ أحسن فقد استعطف‪ ،‬وإن أساء فقد استقذف‪.‬‬
‫ظهَر كفاية‪ ،‬وأقل جناية‪ ،‬ول أقل إمللً‬ ‫وقال‪ :‬ل أعلم جاراً أبرّ‪ ،‬ول خليطًا أنْصَف‪ ،‬ول رفيقاً أطوع‪ ،‬ول ُمعَلماً أخضع‪ ،‬ول صاحباً أ ْ‬
‫صلَفاً وتكلفاً‪ ،‬ول أبعد من مِرَاء‪ ،‬ول‬ ‫صرّفا‪ ،‬ول أقل َ‬ ‫وإبراماً‪ ،‬ول أقل خلفاً وإجراماً‪ ،‬ول أقل غِيبةً‪ ،‬ول أبعد من عضيهِة‪ ،‬ول أكثر أعجوبة وت َ‬
‫شغْب‪ ،‬ول أزهد في جِدال‪ ،‬ول أكف عن قتال‪ ،‬مِنْ كتاب‪ .‬ول أعلم قريناً أحْسَن مُواتاة‪ ،‬ول أعجل مكافأة‪ ،‬ول أحْضر َمعْونة‪ ،‬ول أقل‬ ‫أترك ل ِ‬
‫جتَنى‪ ،‬ول أسرع إدراكاً في كل أوَانٍ‪ ،‬ول أوجد في غير أبان‪،‬‬ ‫مَؤُونة‪ ،‬ول شجرة أطولَ عمراً‪ ،‬ول أجمع أمراً‪ ،‬ول أطيب ثمرة‪ ،‬ول أقْرب ُم ْ‬
‫مِنْ كتاب‪ .‬ول أعلم نتاجاً في حداثة سنّه‪ ،‬وقرب ميلده‪ ،‬ورِخَص ثمنه‪ ،‬وإمكان وجوده‪ ،‬يجمع من التدابير الحسنة‪ ،‬والعلوم الغريبة‪ ،‬ومن آثار‬
‫العقول الصحيحة‪ ،‬ومحمود الخبار عن القرون الماضية‪ ،‬والبلد ال ُمتَراخِية‪ ،‬والمثال السائرة‪ ،‬والمم البائدة ما يَجْمع الكتاب‪.‬‬
‫ودخل الرشيد على المأمون‪ ،‬وهو َينْظر في كتاب‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا؟ فقال‪ :‬كتاب يَشْحَذ ال ِف ْكرَة‪ ،‬ويُحسن العِشرة‪ .‬فقال‪ :‬الحمدُ لّ الذي رزَقنِي َمنْ‬
‫يرى ب َعيْن قلبه أ ْكثَر مما يرى بعين جسمه‪.‬‬
‫وقيل لبعض العلماء‪ :‬ما بَلَغ من سرورك بأدبك و ُكتُبك؟ فقال‪ :‬هي إن خََلوْت لذتي‪ ،‬وإن اهتممتُ سَلْوَتي‪ ،‬وإن قلتَ‪ :‬إنَ زهْرَ البستان‪ ،‬ونوْر‬
‫ح ُذ الذّهن‪ ،‬ويُحيي القلب‪ ،‬ويقوَي القريحة‪ ،‬و ُيعِينُ‬ ‫جلُوانِ البصار‪ ،‬وي ْمتِعانِ بحسنهما اللحاظ؛ فإنَ بستانَ الكتب َيجْلُو العقل‪ ،‬و َيشْ َ‬ ‫الجِنان‪ ،‬يَ ْ‬
‫ك بنوادره‪َ ،‬ويُسرُ بغرائبه‪ ،‬ويفيد ول‬ ‫حُ‬ ‫حشَة‪ ،‬و ُيضْ ِ‬ ‫ث نتائج العقول‪ ،‬ويستثِير دفائنَ القلوب‪ ،‬ويُمتِعُ في ا ْلخَلْوةِ‪ ،‬ويُ ْؤنِسُ في الوَ ْ‬ ‫الطبيعة‪ ،‬و َيبْع ُ‬
‫يَستفيد‪ ،‬و ُيعْطي ول يأخذ‪ ،‬وتَصِلُ لذته إلى القلب‪ ،‬من غير سآمة تدْ ِركُك‪ ،‬ول مشقّة َتعْرِض لك‪.‬‬
‫وقال أبو الطيب المتنبي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫نديمٌ‪ ،‬ول يُ ْفضِي إليه شَـرَابُ‬ ‫وللسّرّمنّي مَوْضِ ٌع ل َينَـالُـهُ‬
‫غيْرِ اللقا َء تُـجَـابُ‬‫فَلَةٌ إلى َ‬ ‫ول ْلخَ ْودِ مني ساعةٌ‪ ،‬ثم َبيْنَـنـا‬
‫ب نَفْسَ ُه فيُصَـاب‬ ‫ُيعَرَضُ ق ْل ٌ‬ ‫وما العشْقُ إل غِرّةٌ وطمَـاعَة‬
‫غيْ ُر َبنَاني للرّخَاخِ ِركَـابُ‬ ‫وَ‬ ‫غيْرُ فؤادي لِ ْلغَوانـي َرمِـيّةٌ‬ ‫وَ‬
‫فليس لنا إل بهـن لِـعـاب‬ ‫تَر ْكنَا لطرافِ ال َقنَا كلّ لَـذّةٍ‬
‫ن مّنْ ُه ِكعَابُ‬ ‫ت فيه ّ‬ ‫صفَ ْ‬
‫قد انقَ َ‬ ‫طعْنِ فَ ْوقَ سَوَابـحٍ‬ ‫نُص ّرفُه لل ّ‬
‫وخَيرُ جَلِيسٍ في الزّمان ِكتَابُ‬ ‫أَعَز مكانٍ في الدّنا سَرْجُ سابحٍ‬
‫فِقر في الكتب‬
‫إنفاق الفضّة على كُتب الداب‪ ،‬يُخلفك عليه ذَهَبَ اللباب‪ .‬إنّ هذه الداب شَوَارد‪ ،‬فاجعلُوا الكتبَ لها أ ِزمّة‪ .‬كتاب الرجل عُنوان عقله‪ ،‬ولسانُ‬
‫فضله‪.‬‬
‫ط يُحْرز ما تحته‪.‬‬ ‫سطْراً من كتاب قد خطّ عليه فقد خان كاتِبه؛ لن الخ ّ‬ ‫ابن المعتز‪ :‬مَن قرأ َ‬
‫صدَاف الحِكم‪ ،‬تنشقّ عن جواهر الكلم‪.‬‬ ‫بزرجمهر‪ :‬الكتبُ أ ْ‬
‫شكْله يؤمن من إشكاله‪.‬‬ ‫ط يمنع من استعجامه‪ ،‬و َ‬ ‫بعض الكتاب‪ :‬إعجام الخ ّ‬
‫كأن هذا الكاتب نَحَا إلى قول أبي تمام‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لديهِ‪ ،‬ومشكولً إذا كان مُـشـكِـلَ‬ ‫ب معجَماً‬ ‫ترى الحادثَ المستعجمَ الخط ِ‬
‫جمَة‪ ،‬كالبرود المعَلَمة‪.‬‬ ‫ما كُتب قرَ‪ ،‬وما حُفِظ فرّ‪ .‬الخطوط المع َ‬
‫وقال ابن المعتز يصف كتاباً‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وحا َكتْه الناملُ أيَ حَـ ْوكِ‬ ‫وذي نكَت موشّى نمقّـتْـهُ‬
‫كأن سطورَه أغصانُ شَ ْوكِ‬ ‫بشكل يَ ْرفَع الشكال عنـه‬
‫جملة من ألفاظ أهل العصر في صفة الكتب‬

‫‪39‬‬
‫وتهاديها‪ ،‬وما يتعلّق بأسمائها ومعانيها‬
‫ن ُيهْدى إليها غيرُ الكتب‪ ،‬التي ل يترفّع عنها كبير‪ ،‬ول َي ْمتَنع منها خطير‪ ،‬وقد فكّرت فيما أنفذت به مقيماً للرّسْم في‬ ‫حضرة مولي تَجَلّ عن أ ْ‬
‫جدْ إلّ ال ّرقّ الذي سبق ملْكه له‪ ،‬والمال الذي َمنَحه وخَوّله‪ ،‬فعدَلْتُ إلى الدَب الذي َتنْفُقُ سوقُه‬ ‫جملة الخدَم‪ ،‬وحافِظاً للسم في غمارِ ا ْلحَشم‪ ،‬فلم أ ِ‬
‫بباب سيّدنا ول تكْسد‪ ،‬وتهب ريحُه بجانبه ول تَ ْركُد‪ ،‬وأنفذت كتابي هذا راجياً أن أشَرّف بقبوله‪ ،‬ويوقّع إليّ بحصوله؛ ولمَا وجب على ذوي‬
‫الختصاص لسيدنا إهداء ما جرت العادةُ بتسابق الولياء إلى الجتهاد في إهدائه‪ ،‬وجب العدولُ في إقامة رسم الخدمة إلى اتباع ما صدر عنه‬
‫جتَنى‪.‬‬ ‫ب يُ ْ‬ ‫ل عند ذوي اللباب قيمتُه‪ ،‬وتحلو ثمرتُه‪ :‬وهو علْ ٌم يُ ْقتَنى‪ ،‬وأد ٌ‬ ‫من الرخصة فيما تسهُلُ كلفته‪ ،‬وتج ّ‬
‫طبَاطَبا العَلَوي‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫قال أبو الحسن ابن َ‬
‫سنَهُ ونظامَـهُ‬ ‫حْ‬‫منكَ استفدْنا ُ‬ ‫ل تُنكِرَنْ إ ْهدَا َءنَا لك َمنْطِقـاً‬
‫حيَ ُه وكـلمَـهُ‬ ‫َيتْلُو عليه وَ ْ‬ ‫ل مَن‬ ‫فالُّ عزّ وجل يشكر ِفعْ َ‬
‫ن هديةً قيمتُها ألف ألف درهم‪ ،‬وكتب‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وأهدى أحمد بن يوسف إلى المأمون في يوم ِمهْرجا ٍ‬
‫جلّت فضائلُهْ‬ ‫عظُمَ المَوْلَى و َ‬ ‫وإنْ َ‬ ‫ق َفهْ َو ل بدّ فاعلُـهْ‬ ‫على العَ ْبدِ ح ّ‬
‫غنًى وَهْوَ قابِلُهْ‬ ‫وإن كان عنه ذا ِ‬ ‫ألَ ْم تَرَنا ُنهْدي إلى الَ مـا لـهُ‬
‫وقال أبو الفتح البستي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫علومك الغُرّ أو آدابك النتفـا‬ ‫ل تُنكِرنّ إذا أهديت نحوك مِن‬
‫برسم خدمته من بَاغه التّحفا‬ ‫فقيمُ الباغِ قد ُيهْدِي لمالـكـهِ‬
‫وكتب أبو إسحاق الصابي إلى عضد الدولة في هذا المعنى‪ :‬العبيد تُلطِف ول تكاثر الموالي في هَداياها‪ ،‬والموالي تَ ْقبَل الميسور منها قبولً هو‬
‫محسوبٌ في عطاياها‪ .‬ولما كان ‪ -‬أدام ال تعالى عزّه ‪ !-‬مبرزاً على ملوك الرض في الخطر الذي قَصَروا عنه شديداً‪ ،‬والسعي الذي وقفوا‬
‫منه بعيداً‪ ،‬والداب التي عجزوا عن استعلمها فَضْلً عن علْمها‪ ،‬والدوات التي نكِلوا عن استفهامها فضلً عن ف ْهمِها‪ ،‬وجب أن ُيعْدَلَ عن‬
‫اختياراتهم ما تَحْظَى به الجسو ُم البهيمية‪ ،‬إلى اختيارِه فيما تخطَى به النفوسُ العليّة‪ ،‬وعما َينْفُق في سوقهم العامية‪ ،‬إلى ما َينْفُق في سوقه‬
‫ق منه بالغُبار‪ :‬وقد حملت إلى خِزانة‬ ‫الخاصية‪ ،‬إفراداً ل ُرتْ َبتِه العُلْيا‪ ،‬وغايته القصْوى‪ ،‬وتمييزًا له عمن ل يجْري معه في هذا المضمار‪ ،‬ول يتعل ُ‬
‫شرَفاً له وزائداً في إحسانِه إليه‬
‫ض ذلك عليه مُ َ‬ ‫عرْ ِ‬ ‫‪ -‬عمرها ال! ‪ -‬شيئًا من الدفاتر وآلة النجوم‪ ،‬فإنْ رآى مولنا أن يتطوَل على عبده بالذن في َ‬
‫َفعَلَ إنْ شاء ال تعالى‪.‬‬
‫وأهدى أبو الطيب المتنبي إلى أبي الفضل بن العميد في يوم نوروز قصيدة مدحه فيها‪ ،‬يقول في آخرها‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫عبَادُهْ‬ ‫دي إلى ربها الرئيسِ ِ‬ ‫َكثُرَ ال ِفكْ ُر كيف ُن ْهدِي كما ته‬
‫ل َف ِمنْه هِـبـاتُـهُ وقـيادُهْ‬ ‫والَذي عندَنا من المالِ وا ْلخَي‬
‫كُل ُمهْ ٍر َميْدَانُـ ُه إنْـشَـادُهْ‬ ‫ن مِـهَـاراً‬
‫فبعثنا بأ ْربَـعـي َ‬
‫سبِقُ الجـيادَ جِـيَادُه‬ ‫ط تَ ْ‬‫مَ ْربِ ٌ‬ ‫ن قَلْبًا نَـمـاهـا‬
‫فا ْر َتبِطْها فإ َ‬
‫وفي هذه الكلمة يقولُ وقد احتفل فيها‪ ،‬واجتهد في تجويد ألفاظها ومعانيها‪ ،‬فعقّب عليه أبو الفضل في مواضع وقف عليها فقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ل َقبُولٌ سَوَا ُد عـينـي مـدادُهْ؟‬ ‫هل لُعذرِي إلى الهُمام أبي الفض‬
‫مكْرُمـاتُ الـمُـعِـلَةِ عُـوَادُهْ‬ ‫أنا من شـدة الـحـياء عـلـيْلٌ‬
‫عن عُلَهُ حتى ثناه انـتـقـادُهْ‬ ‫ت فـيه‬ ‫ما كفاني تَقْصيرُ ما قُلْـ ُ‬
‫ل‪ ،‬وهذَا الَذي آتـاهُ اعْـتـيادُهْ‬ ‫ما َتعَ َودْتُ أن أرى كأبي الفـض‬
‫أن يكونَ الكل ُم مِـمّـا أفـادُهْ‬ ‫غَم َرتْني فـوائد شـاءَ مـنـهـا‬
‫فاشتهى أن يكونَ ِمنْهـا فـؤادُهْ‬ ‫س ِم ْعنَا بمن أحَبّ الـعـطـايا‬ ‫ما َ‬
‫وقد كان مدحه بقصيدته التي أولها‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫وبُكاكَ إن لم يجر َد ْم ُعكَ أوْ جَرَى‬ ‫صبَرْت أم لم تَصْـبِـرَا‬ ‫بادٍ هواكَ َ‬
‫وفيها معانٍ مخترعة‪ ،‬وأبيات مبتدعة‪ ،‬يقول فيها‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫جاَلسْتُ َرسْطاليسَ والسكنـدرا‬ ‫ب أنّي َبعْـدهـا‬ ‫مَنْ مُبلغُ العرا ِ‬
‫ن قَرَى‬ ‫ن َينْحَرُ ال ِبدَرَ النضَار لم ْ‬ ‫مَ ْ‬ ‫حرَ عِشارِها فأضافنـي‬ ‫ت نَ ْ‬‫ومَلل ُ‬
‫ُم َتمَلكًا مُتبـديًا مُـتـحَـضـرا‬ ‫س ُكتْبِـهِ‬ ‫وسمعْتُ بطْلِيموسَ دا ِر َ‬
‫ردّ اللهُ نفوسَهم والعْـصُـرَا‬ ‫ورأيت كلّ الفاضلين كـأنـمـا‬
‫وأتى فذلك إ ْذ أتـيت مُـؤخّـرا‬ ‫نُسِقوا لنا نسق الحساب مقـدَمـاً‬
‫وفيها يقول‪:‬‬
‫س ال ْكبَـرا‬ ‫ودَعاكَ خاِلقُك الرئي َ‬ ‫فدعاك حُسَدك الرئيسَ وأمسكُوا‬
‫ي منْ أ ْبصَرا‬ ‫س َمعَ ْ‬
‫ل مِ ْ‬‫ط يمْ ُ‬ ‫كالخ ّ‬ ‫خََلفَتْ صفا ُتكَ في العيون كلمَهُ‬
‫أخذه من قول الطائي يصف قصائده‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫و َي ْدنُو إليها ذو الحجا وَهْوَ شاسعُ‬ ‫س ْمعِـه‬ ‫ب يَرَاها مَنْ يراها بِ َ‬ ‫بقُ ْر ٍ‬
‫نموذج في وصف الكتب‬
‫كتاب َكتَبَ لي أمانًا من الدّهر‪ ،‬وهنّاني في أيام العمر‪ .‬كتاب أوجب من العتداد فوق العداد‪ ،‬وأودع بياض الوداد سواد الفؤاد‪ .‬كتاب النظر فيه‬
‫نعيم مقيم‪ ،‬والظف ُر به فتح عظيم‪ .‬كتاب ارتحت لعيانه‪ ،‬واهتززت لعُنوانه‪ .‬كتاب هو من الكتب ال َميَامين‪ ،‬التي تأْتي من قبل اليمين‪ .‬كتاب عددته‬
‫ل متوقع‪ .‬كتابٌ لو قُرئ‬ ‫غرَره‪ .‬كتابٌ هو أنفس طالع‪ ،‬وأكرم متطلع‪ ،‬وأحْسن واقع‪ ،‬وأج ّ‬ ‫من حجول العُمرِ وغُرَره‪ ،‬واعتَدَدته من فُرَص العيش و ُ‬
‫على الحجار ِة لنْفجرَت‪ ،‬أو على الكواكب لنتثَرت‪ .‬كتاب كِدتُ ُأبْليه طيًّا ونشراً‪ ،‬وقبّلته ألفاً‪ ،‬و َيدَ حامله عشراً‪ .‬كتاب نسيتُ لحسنه الرَوْضَ‬
‫‪40‬‬
‫ط من ك ّ‬
‫ل‬ ‫ل عن لسانك‪ .‬أنا ألتق ُ‬ ‫ق به لسانُ الفَض ِ‬ ‫ب أمَْليْته هِزّة المجدِ على بنانكَ‪ ،‬ونط َ‬ ‫والزّهر؛ وغفرتُ للزمان ما تقدّم من ذنبه وما تأخر‪ .‬كتا ٌ‬
‫خفّاً‪ ،‬وإذا تأمّلت من كلمك‬ ‫حرْفاً‪ ،‬وجدتُ على قلبي ِ‬ ‫ف تُديرُه أنامُلك تُحفة‪ ،‬وآخُذ من كل سطرٍ تتجشّمُ تخطيطَه نزهة‪ .‬إذا قرأت من خطك َ‬ ‫حَر ٍ‬
‫لفظاً‪ ،‬ازددت من ُأنْسي حظاً‪ .‬كتاب كتبَ لي أمانًا من الزمان‪ ،‬وتوقيعٌ وق َع ِمنّي مَ ْوقِعَ الماء من العطشان‪ .‬كتاب هو َتعِلّةُ المسافر‪ ،‬وُأنْسَةُ‬
‫صفْ ٌو بل كدَر‪.‬‬‫سهَر‪ ،‬و َ‬ ‫سمَ ٌر بل َ‬
‫المستوحش‪ ،‬وزبدة الوصال‪ ،‬وعُقْلة المستوفز‪ .‬كتاب هو رُقية القلب السليم‪ ،‬وغرة العيش البهيم‪ ،‬كتاب هو َ‬
‫كتاب تمتّعت منه بالنعيم البيض‪ ،‬والعيش الخضر‪ ،‬واستلمته استلم الحجر السود‪ ،‬ووكلتُ طرفي من سُطُورِهِ بوشْي مُهلّل‪ ،‬وتاج ُمكَلّل‪،‬‬
‫ح ْكمَةٌ بالغهٌ‪،‬‬ ‫غ ْيمُها نِعمةٌ سابغَة‪ ،‬وغيْثها ِ‬ ‫سحَابة من لفظك‪َ ،‬‬ ‫ت سمعي من محاسنه من أنساني سماعَ الغاني من مطربات الغواني‪ .‬نشأت َ‬ ‫وأَ ْودَعْ ُ‬
‫ي من السماء‪ ،‬اهتزازًا لمطلعه‪،‬‬ ‫سبَتْ‪ .‬كتابٌ حسبته ساقطاً إل ّ‬ ‫جدْبِ؛ فاهتزت وَ َربَتْ‪ ،‬واكتست ما اكت َ‬ ‫سقَتْ رَوْضة القلب‪ ،‬وقد أجهدتها َيدُ الْ َ‬
‫ف به المسير‪ ،‬وقميص‬ ‫ضتُ ُه كما يَفضُ الرّحيق المختوم‪ .‬كتاب كالمشتري شَرُ َ‬ ‫ن موقعه‪ ،‬تناولتُه كما يُتناول الكتابُ المرقومُ‪ ،‬وفض ْ‬ ‫وابتهاجاً بحسْ ِ‬
‫عدْنٍ‪ ،‬وفي شرح النفس و َبسْطِ النس برد الكباد والقلوب‪ ،‬وقميص يوسف‬ ‫يوسفَ جاء به البشير‪ .‬كتاب هو من الحسن‪ ،‬رَوضة حَزن‪ ،‬بل جَنةُ َ‬
‫ن الدنيا مجموعةً في ورقه‪ ،‬ومباهج الحلى والحلل محصورة في طبقه‪ .‬كتابّ ألص ْقتُه بالقَلْبِ والكبد‪،‬‬ ‫ي محاس َ‬ ‫في أجفان يعقوب‪ .‬قد أهديت إل ّ‬
‫جنِيّاً‪ ،‬والماء مريّا‪ ،‬والعيش هنيّاً‪ ،‬والسحر بابليّاً‪ .‬كتاب مَطلعهُ أ ِهلّة العياد‪ ،‬وموقعه موقع َنيْل‬ ‫ك ذكياً‪ ،‬والزهرُ َ‬ ‫سُ‬ ‫وشممته شمّ الولد‪ .‬و َردَ منك الم ْ‬
‫لخِر منه الوّل‪ .‬كتاب منتقض الطراف‪،‬‬ ‫المراد‪ .‬كتاب وجدته قصيرَ العمر‪ ،‬كليالي الوصال بعد الهجْر‪ ،‬لم أبدأ به حتى استكمل‪ ،‬وقارَبَ ا َ‬
‫منقطع الكتاف‪ ،‬أبتَرُ الجوارح‪ ،‬مضطرب الجوانح‪ ،‬كتاب كأنه توقيع متحرَز‪ ،‬أو تعريض مُتبرز‪ .‬كاد يلتقي طَرَفاهُ‪ ،‬ويتقارب مُفْتتحه ومُنتهاهُ‪.‬‬
‫صغَراً‪ ،‬واجتمعت حاشيتاه قِصراً‪ .‬ما أظنني ابتد ْأتُهُ حتى ختمته‪ ،‬ول استفتحته حتى أتممته‪ ،‬ول لمحته حتى استوفيته‪ ،‬ول‬ ‫كتاب التقَتْ طرفاه ِ‬
‫نشرته حتى طويته‪ ،‬وأحسبنْي لو لم أجوّد ضبطه‪ ،‬ولم أُلْزم يَديّ حفظَهُ‪ ،‬لطار حتى يختلط بالجوّ‪ ،‬فل أَرَى منه إلّ هبا ًء منثوراً‪ ،‬وهواءً منشوراً‪.‬‬
‫كتاب حسبته يطي ُر من يدي لخفّته‪ ،‬ويلطف عن حِسّي لقلّته‪ ،‬وعجبتُ كيف لم تحمله الرياحُ قبل وصوله إليّ‪ ،‬وكيف لم يختلط بالهواء عند‬
‫ص القتصارُ أجنحته‪ ،‬فلم يَدَع له قوادم وَل خوَافِي‪ ،‬وأخذ الختصار جثّته‪ ،‬فلم يبق ألفاظاً ول معاني‪ .‬طل َع كتا ُبكَ كإيماء‬ ‫وصوله لديّ‪ .‬كتاب ق ّ‬
‫ي َبكَفّ‪.‬‬ ‫بطَرْفٍ‪ ،‬أو وَحْ ٍ‬
‫جزْءاً فيه أخبار َمعْبد بخط حماد بن إسحاق الموصلي‪ ،‬وكان وعدني‬ ‫ل بن المعتز‪ :‬استعرت من علي بن يحيى المنجم ُ‬ ‫وقال أبو العباس عبد ا ّ‬
‫ت بقولك جُزْءاً الجزء الذي ل يتجزّأ فقد أصبت‪ ،‬وإن كنت أردتَ جُزْءاً‬ ‫به‪ ،‬فبعث إليّ بستّ ورقات لِطَاف‪ ،‬فرددتها وكتبت إليه‪ :‬إن كنت أرد َ‬
‫حلْت‪ :‬وقد ر َددْته عليك بعد أن طار اللّحْظ عََليْهِ طيرة‪.‬‬ ‫فيه فائدة للقارئ‪ ،‬و ُم ْتعَةٌ للسامع‪ ،‬فقد أ َ‬
‫ع ْندَك منجا ًة فما أصنْع؟‬ ‫فأجابني‪ :‬إذا كان السّفر ِ‬
‫في محادثة الجليس‬
‫ل علمت أنه مبتورُ‬ ‫عمْرِي ل أراك فيه إ ّ‬ ‫سهْل بعد أن تأخّر عنه أياماً‪ ،‬فقال‪ :‬ما َينْ َقضِي يوم من ُ‬ ‫وقال أبو العباس‪ :‬دخل رجلٌ على الحسن بن َ‬
‫القَدرِ‪ ،‬منحوس الحظ‪َ ،‬م ْغبُون اليام‪.‬‬
‫س به ُبغْ َيتَها‪ ،‬وتستوفي منه‬ ‫فقال الحسن‪ :‬هذا لنّك توصل إليّ بحضورك سُروراً ل أجده عند غيرك‪ ،‬وأتنَسّم من أرواح عِشْرَتك ما تجدُ الحوا ّ‬
‫لذتها‪ ،‬فنفسُك تألف مني مثل ما آلفُهُ منك‪.‬‬
‫وكان يقال‪ :‬محادثة الرَجال تَلْقيح اللباب‪.‬‬
‫وقال ابن الرومي‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫خبِـيثُ‬
‫فكأنّ أطيبَها َ‬ ‫ت مَآرِبـي‬ ‫س ِئمْ ُ‬
‫ولقد َ‬
‫حدِيثُ‬‫سمِ ِه أبداً َ‬
‫ِمثْلُ ا ْ‬ ‫إلَ الحديثَ؛ فـإنـهُ‬
‫ب بك‪ ،‬وَلُوع إليك‪ ،‬مغمورُ القلب بشكرك‪ ،‬واللسانِ ب ِذكْرك‪،‬‬ ‫قال مخارق‪ :‬لقيني أبُو إسحاق إسماعيلُ بن القاسم قبل نسكه‪ ،‬فقال‪ :‬أنا وال صَ ّ‬
‫ع ُد به نَفْسِي من الجتماع معك‪ ،‬ومن قضاء الوَطَر منك؛ فما عندك؟ أنا ال ِفدَاء لك!‬ ‫ت اليامُ على ما أ ِ‬ ‫متشوّف إلى رؤيتك ومفاوضتك‪ ،‬وقد طال ِ‬
‫ن هو منك بهذا الموضع وفي هذا المحل إلَ النقياد إلى أمرك‪ ،‬والسمعُ والطاعةُ‬ ‫ل ِفدَاك! ما يكونُ عند مَ ْ‬ ‫وتزورني أم أزورك؟ قلت‪ :‬جعلني ا ّ‬
‫ق إليك‪ ،‬والشّغف بك‪ ،‬دون‬ ‫ل فيما عندي من الشو ِ‬ ‫ت به من القول يق ّ‬ ‫لك‪ ،‬ولول أن أسيء الدبَ في أمرٍ بدَأت فيه بالفضل لقلت‪ :‬إن كثيرَ ما ابتدأ َ‬
‫عنَاني إلى ما أ َردْت‪ ،‬و ُقدْني كيف شئت‪ ،‬تجدني كما قال القائل‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫ت لك به المنّة عليّ‪ ،‬وأنا بين يديك‪ ،‬فأثْنِ ِ‬ ‫ل مني‪ ،‬فوجبَ ْ‬ ‫ما حرَك هذا القو ُ‬
‫شمْته جِشما‬ ‫جّ‬ ‫صبّ فما َ‬ ‫والقلبُ َ‬ ‫ش َتهِيه فإني اليوم فاعـلُـهُ‬ ‫ما ت ْ‬
‫وذكر سهل بن هارون رجلً‪ ،‬فقال‪ :‬لم أر أحسن منه فَهماً لجليل‪ ،‬ول تفهما لدقيق‪ ،‬أشار إليه أبو تمام فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫تعرَضَه صَفوح من مَلولِ‬ ‫وكنت أعَز عِزّا من قنـوع‬
‫به فَقرٌ إلى ذِهنٍ جـلـيلِ‬ ‫ل من معنًى دقيقٍ‬ ‫فصرت أذ ّ‬
‫ي بحديثه‪ ،‬وإشارته إلي بِطَرفه؛ لقد‬ ‫وقال سعيد بن مسلم للمأمون‪ :‬لو لم أشكُر الَ تعالى إلّ على حسن ما أبلني من أمير المؤمنين من قصدِهِ إل َ‬
‫ج ُد عندك من حسْن الفهام إذا حَدثت‬ ‫كان في ذلك أعظمُ الرفعة‪ ،‬وأرف ُع ما تُوجِبه الحرمة‪ .‬فقال‪ :‬يفعل أمير المؤمنين ذلك؛ لن أمير المؤمنين يَ ِ‬
‫ف عند مقاطع كلمي‪،‬‬ ‫حدٍ ممن مضى‪ ،‬ول يظن أنه يجده عند أحد ممن بَقِي‪ ،‬فإنك لتستَقصِي حديثي‪ ،‬وتَق ُ‬ ‫وحسن الفهم إذا حُدثت ما ل يجدُه عند أ َ‬
‫خبِر بما كنتُ أغفلته منه‪.‬‬ ‫وتُ ْ‬
‫وقال المتوكل لبي العيناء‪ :‬ما تحسنُ؟ فال‪ :‬أفهَمُ وأُفهِم‪.‬‬
‫ضرَب الموسيقى‪ :‬أفهمت؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬بل لم تفهم‪ ،‬لني ل أرى عليك سرور الفهم! وقد قيل‪ :‬مَنْ نظر إلى‬ ‫وقال بعض الحكماء لتلميذه‪ ،‬وقد َ‬
‫الربيع وأنواره‪ ،‬والروض وأصبْاغه‪ ،‬ولم يبتهج كان عديمَ حِسّ‪ ،‬أو سقيم نفس‪.‬‬
‫ومرّ أبو تمام بأيرشهر من أرض فارس‪ ،‬فسمع جارية تغني بالفارسية‪ ،‬فَشَاقَه شجيّ الصوت‪ ،‬فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ولم تصممهُ‪ ،‬ل يصممْ صداها!‬ ‫س ِمعَةٍ تروقُ السمعَ حسنـاً‬ ‫ومُ ْ‬
‫فل ْو يسطيعُ حاسدُها فَـدَاهـا‬ ‫لوت أوتارها فشجتْ وشاقـت‬
‫ت كبدي فلم أجْهل شداهـا‬ ‫َورَ ْ‬ ‫ولم أفْهم معانـيهـا‪ ،‬ولـكـن‬
‫يُحَب الغـانـياتِ ول يراهـا‬ ‫فكنت كأنني أعمى مـعَـنّـى‬
‫قال أبو الفضلى أحمدُ بن أبي طاهر‪ :‬قلت لبي تمام‪ :‬أخذت هذا المعنى من أحد؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬أخذتُه من قول بشار بن برد‪ :‬البسيط‪:‬‬

‫‪41‬‬
‫ل العـينِ أحـيانـا‬
‫ق قب َ‬
‫والذن تعْشَ ُ‬ ‫يا قو ِم أذْني لبعض الحيّ عـاشـق ٌة‬
‫لذْنُ كا ْل َعيْنِ تُوفي القلبَ ما كانـا‬
‫اُ‬ ‫ن ل تَرى تهذْي؟ فقلت لهم‪:‬‬ ‫قالوا‪ :‬بم ْ‬
‫وقال بشار أيضاً في هذا المعنى‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫حبّها َأثَرُ‪:‬‬
‫ضحَى به من ُ‬
‫قَلبي فأ ْ‬ ‫قالت عَقِيل بن كعب إذ تعلقَـهـا‬
‫إن الفؤادَ يرى ما ل يَرَى البَصَر‬ ‫أنّى ولم تَرَها َتهْدي! فق ْلتُ لهـم‪:‬‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫قلو ُبهُ ُم فيها مـخـالِـفَةّ قـلـبـي‬ ‫عبْـدَة مـعـشـرٌ‬
‫يُزهّدني في حُبّ َ‬
‫ب ل بالعين يبْصِرُ ذو الـلُـ ِ‬
‫ب‬ ‫فبا ْلقَ ْل ِ‬ ‫فقلت‪ :‬دعُوا قلبي وما اختارَ وارتضى‬

‫ل من القـلـ ِ‬
‫ب‬ ‫ول تسمع الذْنانِ إ َ‬ ‫وما تبْصِرُ العينان في موضع الهوى‬
‫وقد قال أبو يعقوب الخريمي في هذا المعنى‪ ،‬وكان قد أعورَ ثم عمي‪ ،‬وقيل‪ :‬إنها للخليل بن أحمد‪ :‬الكامل‪.‬‬
‫يا للرجال لصبْوة العمـيانِ‬ ‫غدَاة لقيتهـا؟‬
‫قالت أتهزأ بي َ‬
‫سيّانِ‬‫ُأذْني وعيني في الهوى ِ‬ ‫فأجبتها‪ :‬نفسي فداؤك إنـمـا‬
‫وقريب من هذا قول الحكم بن قنبر إنْ لم يكن منه‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫غيّبتَ عن بَصَـرِي‬ ‫يَرْعاك قلبي وإن ُ‬ ‫إن ُكنْتَ لَست معي فالذكر منك معـي‬
‫وناظرُ القلب ل يَخلو من الـنـظـر‬ ‫ن تَـهـوَى وتـفـقـده‬ ‫العين ُتبْصِر مَ ْ‬
‫وقـال آخـر‪ :‬الـــطـــويل‪:‬‬
‫ت عن عيْني فما غِبتَ عن قلبي‬ ‫غبْ َ‬
‫لئن ِ‬ ‫أما والّذي لو شاءَ لم يخْلُق الهَوَى‬
‫أُناجيك من ق ْربٍ وإنْ لم تكن قربـي‬ ‫عيْنُ الوَهْمِ حـتـى كـأنـنـي‬ ‫ترِينيكَ َ‬
‫وقال أبو عثمان سعيد بن الحسن الناجم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فما هو عن عين الضمير بغـائبِ‬ ‫لئن كانَ عن عينيّ أحمـدُ غـائبـاً‬
‫ولم تتخَطّفْهـا أكـفّ الـنـوائبِ‬ ‫له صورةٌ في القلب لم يُ ْقصِها النوى‬
‫وضاقت بقلبي في نَوا ُه مَذَاهـبـي‬ ‫إذا ساءني منه شُـحُـوطُ مـزاره‬
‫حّلتُهُ بين الحَـشَـا والـتّـرَائب‬ ‫مَ َ‬ ‫عطفتُ على شَخْصٍ له غير نـازحٍ‬
‫وذكر أبو عبيدة كيسان مسْتمليه في بعض المر‪ ،‬فقال‪ :‬ما َفهِمَ‪ ،‬ولو فهم لوَ ِهمَ‪ .‬وكان كيسان يوصف بالبَلدة والغفلةّ‪.‬‬
‫قال الجاحظ‪ :‬كان يكتبُ غيرَ ما يسمع‪ ،‬ويستقني غير ما يكتب‪ ،‬ويقرأ غيرَ ما يستقني‪ ،‬ويُملي غير ما يقرأ‪ ،‬أمليت عليه يوماً‪ :‬مجزوء الوافر‪:‬‬
‫بمعتمر أبا عمـرِ‬ ‫عجبتُ لمعشرٍ عدلوا‬
‫فكتب أبا بشر‪ ،‬وقرأ أبا حفص‪ ،‬واستقنى أبا زيد‪.‬‬
‫جمَع له بالَه‪ ،‬ويُصغِي إلى حديثه‪ ،‬ويكتم عليه سِ ًرهُ‪ ،‬ويبسط له عذره‪.‬‬ ‫قال أبو عباد‪ :‬للمحدث على جليسه‪ ،‬السامع لحديثه‪ ،‬أن يَ ْ‬
‫وقال‪ :‬ينبغي للمحدث إذا أنكر عين السامِعِ أن يستَفهمه عن َمعْنى حديثه‪ ،‬فإن وجده قد أخْلَص له الستماع أتمّ له الحديث‪ ،‬وإن كان لهيًا عنه‬
‫حرمهُ حُسْنَ القبال عليه‪ ،‬ونَفْعَ المؤانسة له‪ ،‬وعرفه بسوء الستماع والتقصير في حق المحدث‪.‬‬
‫وقال‪ :‬نَشَاطُ المحدّث على َقدْر فهم المستمع‪.‬‬
‫حدّجُوك بأسماعهم‪ ،‬ولحظوك بأبصارهم‪ ،‬فإذا رأيت منهم فتوراً فأمسك‪.‬‬ ‫ل بن مسعود ‪ -‬رضي ال عنه! ‪ -‬يقول‪ :‬حدّثِ الناسَ ما َ‬ ‫وكان عبد ا ّ‬
‫وقال أبو الفتح البستي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وحفظي والبلغة والبـيانِ‬ ‫إذا أحَسَست في لَفظي فتوراً‬
‫على مقدار إيقاعِ الزّمـانِ‬ ‫فل تَ ْرتَبْ بفهمي إنّ َرقْصي‬
‫ت من القلب وقعت في القلب‪ ،‬وإذا خرجت من اللسان لم تُجاوز الذان‪.‬‬ ‫وقال عامر بن عبد قيس‪ :‬الكلمةُ إذا خرج ْ‬
‫وقال الحسن ‪ -‬وقد سمع متكلّمًا َيعِظُ فلم تَقَ ْع موْعِظته من قَ ْلبِهِ ولم يرق لها ‪ :-‬يا هذا‪ ،‬إن بقلبك لشرّاً‪ ،‬أو بقلبي! وقال محمد بن صبيح المعروف‬
‫ل أنك تكرره‪ ،‬قال‪ :‬إنما أكرره ليفهمه مَنْ لم يكن َفهِمه‪ ،‬قالت‪ :‬إلى أن‬ ‫عظُ الناس به؟ قالت‪ :‬هو حَسَن‪ ،‬إ ّ‬ ‫بابن السماك لجاريته‪ - :‬كيف ترين ما أ ِ‬
‫سمْع الذكي‪.‬‬ ‫يفهمه البطيء يَثْقُل على َ‬
‫جدّه‪ ،‬لعدته‪.‬‬ ‫ض من بهائه‪ ،‬وأُريق من مائه‪ ،‬وُأخْلِق من ِ‬ ‫وأستعيد ابنُ عباس حديثاً فقْال‪ :‬لول أني أخافُ أن أغُ َ‬
‫وقال أبو تمام الطائي يصف قصائده‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫مكرَمةً عَنِ ال َم ْعنَى المعادِ‬ ‫مُنزهةً عن السرق الم ّؤدّى‬
‫أخذه البحتري فقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫ر َر فيه واللفظَ المُ َر َددْ‬ ‫ل ُي ْعمِلُ اللفظَ المـك‬
‫والطالة ممْلولة كما يمَلّ التكرير‪.‬‬
‫ت عليهن؛ فأما الشهرجانية فضربُ‬ ‫وقد قال الحسن بن سهل‪ :‬الداب عشرة؛ فثلثة شهرجانية‪ ،‬وثلثة أنُوشروانية‪ ،‬وثلثة عربية‪ ،‬وواحدة أ ْربَ ْ‬
‫العْود‪ ،‬ولعب الشطْرنج‪ ،‬ولعب الصّوَالج‪ .‬وأما النوشروانية فالطّب‪ ،‬والهندسة‪ ،‬والفروسية‪ .‬وأما العربية فالشعْر‪ ،‬والنّسب‪ ،‬وأيام الناس‪ .‬وأما‬
‫س بينهم في المجالس‪.‬‬ ‫الواحدة التي أ ْربَتْ عليهنّ‪ ،‬فمقطعات الحديث‪ ،‬والسمر‪ ،‬وما يتلقّاه النا ُ‬
‫وكان يُقال‪ :‬خُذ من العلوم نتفها‪ ،‬ومن الداب طُرَفها‪.‬‬
‫وكان يقال‪ :‬مقطعَات الدب‪ ،‬قُراضاتُ الذهب‪.‬‬
‫وحضَر بشا ُر بن بُ ْردٍ مجلساً فقال‪ :‬ل تجعلوا مَجلِسنا غِناء كلَه‪ ،‬ول شعرًا كله‪ ،‬ول سَمرًا كله‪ ،‬ولكن انتهبوه ا ْنتِهاباً‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫وقال الحسن رحمه ال‪ :‬حادثُوا هذه القلوبَ فإنها سريع ُة ال ّدبُور‪ ،‬وا ْقدَعُوا هذه النفس فإنها طُلعة؛ وإنكم إل تَزَعُوها تنزعْ بكم إلى شَر غاية‪.‬‬
‫وقال أزدشير بن بابك‪ :‬إن للذهان كَللً‪ ،‬وللقلوب مللً‪ ،‬ففرّقوا بين الحكمتين يكن ذلك استجماماً‪.‬‬
‫ف به على ما يُصِْلحُه من فساده‪،‬‬ ‫ح لمَعاشه‪ ،‬و ِفكْ ٌر يق ُ‬ ‫ويروى في حكمة آل داود‪ :‬ل ينبغي للعاقل أن يُخْلي نفس ُه من أربع؛ عدّة ِل َمعَادِهِ‪ ،‬وصل ٌ‬
‫ولذة في غير مُحَرم يستعينُ به على الحالت الثلث‪.‬‬
‫وما أحسن ما قال أبو الفتح بن كشاجم‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫لَ ذِلَتِ الطـلَـبْ‬ ‫وكفَاه ا ُ‬ ‫جبِي ممّن تَنَا َهتْ حـالُـهُ‬ ‫عَ َ‬
‫بين حاَليْن نَـعـيم وأدَبْ؟‬ ‫شطْرَيْ عمرِه‬ ‫كيف ل يَ ْقسِم َ‬
‫من غذاء وشراب منتخَـبْ‬ ‫ساعة ُيمِتع فيها نَـفْـسَـهُ‬
‫حين يشتاقُ إلى اللّعب ُلعَبْ‬ ‫و ُدنُو من ُدمًـى هُـنَ لَـهُ‬
‫فحديث ونشـيد وكُـتُـبْ‬ ‫ل مِنْ ذا حَـظـه‬ ‫فإذا ما نَا َ‬
‫فإذا ما غسَقَ الليل انتْصبْ‬ ‫مرة جِـد‪ ،‬وأخـرى راحة‬
‫ل ليلً ما َوجَـبْ‬ ‫وقضى َ‬ ‫فقضى الدنيا نَهاراً حقّـهـا‬
‫شدْ و ُيصِبْ‬ ‫دَهْرَ ُه يَس َعدْ و َيرْ ُ‬ ‫تلك أقسا ٌم متى يَ ْعمَلْ بـهـا‬
‫وقال أبو العباس محمد بن يزيد‪ :‬قسّمَ كسرى أيامه فقال‪َ :‬يصْلُح يَوْمُ الريح للنوم‪ ،‬ويوم ال َغيْم للصيد‪ ،‬ويومُ المَطَر للشرب واللَهو‪ ،‬ويوم الشمس‬
‫لقضاء الحوائج‪.‬‬
‫قال الحسين ابن خَالَويْه‪ :‬ما كان أعرفهم بسياسة دُنْياهم‪ ،‬يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهُمْ عن الخرة هم غافلون‪ ،‬ولكن نبيّنا‪ ،‬صلى ال عليه‬
‫جزْء ل‪ ،‬وجزءٌ لهله‪ ،‬وجزءٌ لنفسه‪ ،‬ثم جُزءٌ جزأه بينه وبَينَ الناس؛ فكان يستعين بالخاصّة على العامة‪،‬‬ ‫وسلم‪ ،‬قَدْ جَزأ نهاره ثلثة أجزاءَ‪ُ :‬‬
‫ل تعالى يَوْمَ الفَزَع الكبر‪.‬‬
‫ن ل يستطيع إبلغَها آمنهُ ا ُ‬ ‫وكان يقول‪ :‬أبْلِغوني حاج َة من ل يستطيعُ إبلغي؛ فإنه من أبلغَ ذا سلطان حاج َة مَ ْ‬
‫رجع إلى البلغة‬
‫وقال شبيب بن شيبة‪ :‬إن ابتُلِيت بمقام ل بدَ لك فيه من الطالة فقدم إحكام البلوغ في طلب السلمة من الخَطَلِ‪ ،‬قبل التقدّم من إحكام البلوغ في‬
‫ن تَ ْعدِل بالسلمة شيئاً‪ ،‬فقليلٌ كافٍ خَي ٌر لك من كثير غير شاف‪.‬‬ ‫شَ َرفِ التّجْويد؛ ثم إياك أ ْ‬
‫وكان جعفر بن يحيى يقول لكتابه‪ :‬إن استَطعْتم أن يكون كلمُكم كلُه مثل التوقيع فافعلوا‪.‬‬
‫وقال ثمامة بن أشرس‪ :‬لم أرَ قط أنطَق من جعفر بن يحيى بن خالد‪ ،‬وكان صاحبَ إيجازٍ‪.‬‬
‫ل بن‬‫وكان أبو وائلة إياس بن معاوية ‪ -‬على تقدمه في البلغة‪ ،‬وفضْلِ عقله وعلمه ‪ -‬بالكثار َمعِيباً‪ ،‬وإلى التطويل َمنْسوباً‪ ،‬وقال له عبد ا ّ‬
‫ل َكثْرة كلمك‪ .‬قال‪ :‬أفتسمعون صواباً أم‬ ‫سمَع‪ .‬وقيل له‪ :‬ما فيك عيبٌ إ ّ‬ ‫ت ل نتفق‪ ،‬أنْتَ ل تشتهي أن تسكت‪ ،‬وأنا ل أشتهي أن أ ْ‬ ‫شبرمة‪ :‬أنا وأنْ َ‬
‫خطأ؟ قالوا‪ :‬بل صواباً‪ ،‬قال‪ :‬فالزيادةُ في الخير خير‪.‬‬
‫قال الجاحظ‪ :‬وليس كما قال‪ ،‬بل للكلم غاية‪ ،‬ولنشاط السامعين نهاية‪ ،‬وما فَضَل عن مقدار الحتمال‪ ،‬ودعا إلى الستثقال والكَلَل؛ فذلك هو‬
‫الفِضَال وال َهذَر وا ْلخَطل والسْهاب الذي س ِمعْتُ الخطبا ِء يَعيبونه‪.‬‬
‫حدِيد‪ ،‬ولني عيَيّ‪ ،‬قال‬ ‫وذكر الصمعي أن ابن هبيرة لمّا أراد إياساً على القضاء قال‪ :‬إني والّ ل أصلح له‪ ،‬قال‪ :‬وكيف ذلك؟ قال‪ :‬لنّي دميم َ‬
‫س بك‪.‬‬‫ل الدّمامة فإني ل أريد أن أُحا ِ‬ ‫ت عما تريد؛ وأما ا ّ‬ ‫ي فقد عبّرْ َ‬ ‫حدّة فإن السوْط يُ َقوَمك؛ وأما العِ ّ‬ ‫ابنُ هبيرة‪ :‬أما ال ِ‬
‫ب بالكثار‪ ،‬ولكنه أراد المدافعة عن نَفْسه والحديث ذو شجون‪.‬‬ ‫ولم يصفه أحد بالعيّ‪ ،‬وإنما كان ُيعَا ُ‬
‫ت لبعض القيَان فعشقني على السماع‪ ،‬فلمّا رأتْني استقبحتني‪ ،‬فقلت‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫قال أبو العيناء‪ ،‬ذُكِ ْر ُ‬
‫وقالت‪ :‬قبيحٌ أحْوَلٌ ما له جسمُ‬ ‫وشاطر ٍة لمّا رَأتني تنـكّـ َرتْ‬
‫ي ول فَـدْمُ‬ ‫ب ل عي ّ‬ ‫أديبّ أري ٌ‬ ‫فإن تُنْكري مني احوِللً فإنني‬
‫فاتصل بها الشعر‪ ،‬فكتبَتْ إلي‪ :‬إنّا لم نرد أن نُولَيك ديوانَ الزمام! وكان عم ُر بن عبد العزيز رحمه ال تعالى كتب إلى عدي بن أرطاة‪ :‬إن ِقبَلك‬
‫حدَهما قضاءَ البَصْرَة؛ فأحضرهما‪ ،‬فقال بكر‪ :‬والِّ ما أحْسن القضاء؛ فإن‬ ‫جَليْن من مزينة ‪ -‬يعني بكر بن عبد الّ‪ ،‬وإياس بن معاوية ‪ -‬فَوَلّ أ َ‬ ‫رَ ُ‬
‫ل تَوْليتي‪ ،‬وإن كنتُ كاذبًا فذلك أوجْبُ لِتركي‪ ،‬فقال إياس‪ :‬إنكم َوقَ ْف ُتمُوه على شَفِير جهنّم‪ ،‬فا ْفتَدى منها َبيَمينٍ يكفرها‪،‬‬ ‫كنتُ صادقًا فما تَحِ ّ‬
‫ق بها‪ ،‬فولّه‪.‬‬ ‫ل تعالى منها‪ ،‬فقال له عديّ‪ :‬أما إذ اهتديت لها فأ ْنتَ أح ّ‬ ‫ويستَغفِرُ ا ّ‬
‫خفَض‬ ‫ل عليه إياسٌ بالكلم‪ ،‬فقال له القاضي‪َ :‬‬ ‫شيْخاً‪ ،‬فصا َ‬ ‫ودخل إيَاس الشام وهو غلم صغيرٌ‪ ،‬فقدّم خَصْماً له إلى بعض القضاة‪ ،‬وكان ا ْلخَصْمُ َ‬
‫ق بحجتي؟ قال‪ :‬ما أراك تقولُ حقاً‪ ،‬قال‪ :‬ل إله إل الّ! فدخل القاضي‬ ‫ن يَنطِ ُ‬‫ق أ ْكبَر منه‪ ،‬قال‪ :‬اسكت! قال‪ :‬فمَ ْ‬ ‫عليك‪ ،‬فإنه شَيخ كبير‪ ،‬قال‪ :‬الح ّ‬
‫على عبد الملك فأخبره؛ فقال‪ :‬اقْضِ حاجتَه الساعَةَ وأخْرجه من الشام ل يُفْسِد أهلَها! وقال أحمد بن الطيب السّ َرخْسِي تلميذ يعقوب بن إسحاق‬
‫ن له‪،‬‬ ‫ل من حديثٍ إلى حديث‪ ،‬وكنّا في صَحْ ٍ‬ ‫ل إليه أن يتحدّث‪ ،‬فأخذ يحدّثني‪ ،‬ويتنق ُ‬ ‫الكندي‪ :‬كنتُ يومًا عند العباس بن خالد‪ ،‬وكان ممن حبّب ا ّ‬
‫ن الدبِ في حُسْنِ الستماع‪ ،‬وذكرت قول‬ ‫ضجَر‪ ،‬ومللت حُسْ َ‬ ‫ل َفيْئاً؛ فلمّا أ ْكثَر وأ ْ‬
‫فلما بلغتنا الشمس انتقلنا إلى موضع آخر‪ ،‬حتى صار الظ ّ‬
‫ي فيه‪ ،‬فكيف أراك وأنْتَ المتكلم؟ فقال‪ :‬إنّ‬ ‫ت ممّا ل كُلْفَة عل َ‬ ‫عيِي ُ‬ ‫الوزاعي‪ :‬إن حسنَ الستماع قوة للمحدث‪ ،‬قلت له‪ :‬إذا كنتُ وأنا أسمع قد َ‬
‫الكلم يحَللُ الفضولَ اللَزجة الغليظة التي تعرض في الّلهَوَاتِ وأصْل اللسان ومنابِت السنان‪ ،‬فو َثبْتُ وقلت‪ :‬ل أراني معك اليوم إلَ إيَارج‬
‫الفَيقرا‪ ،‬فأنت تتغَرغَر بي! فاجتَهد في أن أجِلسَ فلم أفعَل‪.‬‬
‫قال أحمد بن الطيب‪ :‬كنا مرَة عند بعض إخواننا‪ ،‬فتكلّم وأعجبَه من نفسه البيان‪ ،‬و ِمنّا حسنُ الستماع‪ ،‬حتى أفْرَط‪ ،‬فعرض لبعض مَن حضَر‬
‫مَلل‪ ،‬فقال‪ :‬إذا بارك ال في الشيء لم َيفْنَ‪ ،‬وقد جعل ال تعالى في حديث أخينا البركة! ولعبد ال بن سالم الخياط في رجل كثير الكلم‪:‬‬
‫المنسرح‪:‬‬
‫يزيدُ عند السكون والحَرَكةْ‬ ‫لي صاحبٌ في حديثه البركة‬
‫لردها بالحروف مُشتَبـكة‬ ‫لو قال لَ في قليل أحرُفهـا‬
‫ومن طرائف التطويل ما أنشأه البديع‪ ،‬وسيم ّر من كلمه ما هو آنَق من زَهر الربيع‪.‬‬
‫في الظرف والمُلح والمزاح‬

‫‪43‬‬
‫قال الصمعي‪ :‬بالعلم وصَلنا‪ ،‬وبالملَح نِلنَا‪ ،‬وقال الصمعي أيضاً‪ :‬أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة‪ ،‬وكان أعقَل من رأيْتُه‪ :‬السريع‪:‬‬
‫نزلتُ في الخانِ على نَفسِي‬ ‫ل عن َمنْـزِلـي‬ ‫يا أيّها السائ ُ‬
‫ل يقبل الرّهن ول ينسِـي‬ ‫يغدو عليَ الْخُبزُ من خابـزٍ‬
‫حتى لقد أوجعني ضِرسي‬ ‫ل مِن كِيْسِي ومن كسْرتي‬ ‫آكُ ُ‬
‫ف ُتعْجِبهم المُلَح‪.‬‬
‫شبِ ُه مثلَك‪ ،‬وإنما يَرْوِي مثل هذا الحداثُ؛ فقال‪ :‬اك ُتبْها فالشرا ُ‬ ‫فقال‪ :‬اكتب لي هذه البيات‪ ،‬فقلت‪ :‬أصلحك الّ! هذا ل يُ ْ‬
‫وقد قال أبو الدَرداء رحمه ال تعالى‪ :‬إني لستَجِمّ نفْسي ببعض الباطل‪ ،‬ليكونَ أقْوَى لها على الحق‪.‬‬
‫وقال ابن مسعود رحمه ال‪ :‬القلوب تمل كما تمل البدان‪ ،‬فاطلبوا لها طَرَائِفَ الحكمة‪.‬‬
‫ل ليحدّثني بالحديث من الفقه فيُمليه عليَ‪ ،‬ويذكر الخب َر من المُلَح فأستعيدُه فل يفعل‪ ،‬ويقول‪ :‬ل‬ ‫جشُون‪ :‬لقد كنّا بالمدينة وإن الرج َ‬ ‫وقال ابن الما ِ‬
‫أعطيك مُلَحِي‪ ،‬وأ َهبُك ظَرْفي وأدبي‪.‬‬
‫ل قميصٌ واحدة فأ ْدفَعه إلى صاحبها‪ ،‬وأس َتكْسِي الّ عزّ وجلّ‪.‬‬ ‫سمَع بالكلمة المَليحة وما لي إ ّ‬ ‫جشُون‪ :‬إني ل ْ‬ ‫وقال ابن الما ِ‬
‫خلُ عليّ في صناعتي‪،‬‬ ‫ن هذا يَدْ ُ‬‫شعَبَ الطم َع عند بعض الوُلة‪ ،‬ويقول‪ :‬أصْلَح الَُ المير! إ ّ‬ ‫ي ُينَازع أ ْ‬‫وقال الزبير بن بكار؛ رُؤي الغاضر ّ‬
‫ب مشاركتي في بِضاعتي‪ ،‬وهيْأتُه هيأةُ قاض‪ ،‬والمير يضحك‪ ،‬وكانا جميعًا فرسَيْ رهان ورضيعَيْ لِبان في َبيَانهما؛ إلّ أنّ الغاضري‬ ‫ويطل ُ‬
‫شعَب‪.‬‬ ‫كان ل يتخلَق بالطمَ ِع تَخُلقَ أ ْ‬
‫ن بن زيد فقال‪ :‬جُعلت ِفدَاك! إني عصيت الَّ ورسوله‪ ،‬قال‪ :‬بئس ما ص َنعْت! وكيف ذلك‪ .‬قال‪ :‬لنّ رسولَ ال‬ ‫وأتى الغاضري يوماً الحس َ‬
‫ح قومٌ ولَوا أمرَهم امرأة"‪ ،‬وأنا أطعتُ امرأتي‪ ،‬فاشتريتُ غلماً فهرب‪.‬‬ ‫صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬ل يُفْلِ ُ‬
‫ض عليك الخصلتين‪ ،‬قال‪ :‬ل‪،‬‬ ‫ت فثمَنُ الغلم‪ ،‬قال‪ :‬بأبي أنتَ! ِقفْ عند هذه ول تتجاوَزها! قال‪ :‬أعْ ِر ُ‬ ‫قال الحسن‪ :‬فاخترْ واحدةً من ثلث‪ :‬إن شئ َ‬
‫حَسْبي هذه‪.‬‬
‫وقد رُوِي نحوُ هذا عن أشعب‪ ،‬أنه قال له بعض إخوانه‪ :‬لو صرتَ إليّ العشيّة نتفرج؟ قال‪ :‬أخاف أن يجيء ثقيل‪ ،‬قلت‪ :‬ليس معنا ثالث‪ ،‬فمضى‬
‫معي‪ ،‬فلفا صلّينا الظهر ودعوتُ بالطعام‪ ،‬فإذا بداق يدق البابَ‪ ،‬قال‪ :‬ترى أنْ قد صِرْنا إلى ما نكره‪ ،‬قلت له‪ :‬إنه صديق‪ ،‬وفية عشرُ خصال إن‬
‫كرِهْتَ واحد ًة منهن لم آذَنْ له‪ ،‬قال‪ :‬هَاتِ‪ ،‬قلت‪ :‬أولها أنه ل يأكل ول يَشرب‪ ،‬فقال‪ :‬التسعُ لك! قل له يدخل! ورأى سفيان الثوْري الغاضريّ‬
‫ف فيه حتى َلقِي الّ عزّ‬ ‫جمَ الغاضري‪ ،‬وما زَال ذاك ُيعْرَ ُ‬ ‫س ُر فيه ال ُمبِطلون؟ فو َ‬‫حكُ الناسَ؛ فقال‪ :‬يا شيخُ‪ ،‬أوَ ما علمتَ أن لّ يومًا يَخْ َ‬ ‫ضِ‬ ‫وهو يُ ْ‬
‫وجل‪.‬‬
‫وأشعب الطمِع هو أشعب بن جُبير‪ ،‬مولى عبد الّ بن الزبير‪ ،‬وكان أحْلَى الناسِ‪ ،‬قال الزبير بن أبي بكر‪ :‬كان أهلُ المدينة يقولون‪ :‬تغيرَ كل‬
‫خبْز أبي الغيث‪ ،‬ومِشية بَرّة؛ وكان أبو الغيث يعالج الخُبز بالمدينة‪ ،‬وبرّة بنت سعيد بن السود كانت مِنْ أجمَلِ النساء‬ ‫ل مُلَح أشعب‪ ،‬و ُ‬ ‫شيء إ ّ‬
‫شعَبُ قد نشأ في حِجْر عائشة بنت عثمان ‪ -‬رحمها ال! ‪ -‬مع أبي الزناد قال‬ ‫ب به المثلُ في الطّمع‪ ،‬وكان أ ْ‬ ‫وأحسنهنّ مِشيَةً‪ ،‬وأشعب يضر ُ‬
‫أشعب‪ :‬فلم يزَلْ يعلو وأنحط حتى بلغنا الغاية‪.‬‬
‫وقال أشعب‪ :‬أسلمتني أمي إلى بَزّاز‪ ،‬فسألتني بعد سنة‪ ،‬أين بلَغت؟ فقلت‪ :‬في نصف العمل‪ ،‬قالت‪ :‬وكيف؟‪ .‬قلت‪ :‬تعلمت النَشْر وبقي الطَي‪،‬‬
‫ت ل تفلح‪.‬‬ ‫قالت‪ :‬أن َ‬
‫ك به‪ ،‬قال‪ :‬ا ْذكُري أنك سألتني وم َن ْعتُك! وقيل له‪ :‬كم كان أصحابُ رسول الّ صلى ال عليه وسلم يوم‬ ‫وسألتْه صديقةٌ له خاتماً‪ ،‬فقالت‪ :‬أذكُ ُر َ‬
‫خيْرٍ‪ ،‬رحمه ال تعالى! وقيل لشعب‪ :‬أرأيتَ أطمع منك؟ قال‪:‬‬ ‫غزَا ومات على َ‬ ‫بَدْر؟ !قال‪ :‬ثلثمائة عشر درهماً! ثم تنسَك في آخر عمره‪ ،‬و َ‬
‫نعم‪ ،‬كلبة آل فلن‪ ،‬رأتْ رجلين َيمْضُغان عِلْكاً‪ ،‬فتبعَ ْتهُما فَرْسخين تظنّ أنهما يأكلن شيئاً‪.‬‬
‫وأهدى رجلٌ من ولد عامر بن لؤي إلى إسماعيل العرج قالوذجة وأشعَبُ حاضر‪ ،‬فقال‪ :‬كُلْ يا أشعب‪ ،‬فأكل منها؛ فقال‪ :‬كيف تَراها‪ .‬فقال‪:‬‬
‫عمِلَت قبل أن يُوحِيَ ربك إلى النحْل أي‪ :‬ليس فيها حَلَوة‪.‬‬ ‫عليه الطلق إن لم تكن ُ‬
‫ن بن هانئ على يحي بن خالد فقال‪ :‬أنشدني بعض ما ُقلْتَ‪ ،‬فأنشده‪ :‬الكامل‬ ‫وروى أبو هفان قال‪ :‬دخل أبو نُواس الحس ُ‬
‫حكَى‬ ‫ويَزيد في علمي حِكايَةُ مَنْ َ‬ ‫إني أنا الرجلُ الحكيمُ بطَـبـعِـه‬
‫كيما أحدث مَنْ أُحب فيضْحَكـا‬ ‫أتتبعُ الظرفاء أكتـبُ عـنـهـم‬
‫ل َقدْحةٍ‪ ،‬فقال ارتجالً في معنى قول يحيى‪ :‬الكامل‬ ‫فقال له يحيى بن خالد‪ :،‬إن أول زَندك ليُوري بأوَ ِ‬
‫حكَا‬
‫ل َقدْ َ‬
‫ستَوْ َريْتَ سهَ َ‬
‫إنه َز ْن ٌد إذا ا ْ‬ ‫أمـا و َزنْـدُ أبـي عـلـــي‬
‫جدّك للسماح و َمنْحَكـا‬ ‫قد صاغَ َ‬ ‫إن اللهَ ِلعِـلْـمِـ ِه بـعـبـاده‬
‫ل َمدْحَـكـا‬
‫من أهْلها و َتعَافُ إ َ‬ ‫تَأْبى الصنائ َع همَتي و َقرِيحـتـي‬
‫سرَعَهم جواباً‪ ،‬وأكثرهم حياءً‪،‬‬ ‫ووصف أبو عبد ال الجماز أبا نواس فقال‪ :‬كان أظْرفَ النّاس منطقاً‪ ،‬وأغْزَرهم أدباً‪ ،‬وأقدَرهم على الكلم‪ ،‬وأ ْ‬
‫سنُونَ ال َوجْه‪ ،‬قائِم النف‪ ،‬حسن العينين‬ ‫وكان أبيضَ اللَونِ‪ ،‬جميل الوَجْهِ‪ ،‬مليح النغمة والشارة‪ ،‬ملتفّ العْضاء‪ ،‬بين الطويلِ والقصير‪ ،‬مَ ْ‬
‫عذْب اللفاظ‪ ،‬حُلْوَ الشمائل‪ ،‬كثيرَ النوادر‪ ،‬وأَعْلَمَ الناس‬ ‫جيّدَ البيان‪َ ،‬‬ ‫ضحَك‪ ،‬حُلْو الصورة‪ ،‬لَطيفَ الكَفّ والطراف؛ وكان فصيحَ اللسان‪َ ،‬‬ ‫والمَ ْ‬
‫كيف تكلمت العربُ‪ ،‬رَاويةً للشعار‪ ،‬علمة بالخبار‪ ،‬كأن كلَمه شعرٌ موزون‪.‬‬
‫شرَاعة كأنها كَرَبة نَخْل؛ فقال الجماز‪ :‬فلو كانت أطرافه‬ ‫جمَازُ في حديثه‪ ،‬وكان أقبح الناسِ وجهاً‪ ،‬وكانت يدُ أبي َ‬ ‫وأقبل أبو شراعة العبسي‪ ،‬وال َ‬
‫شتُمه‪.‬‬‫ف يَ ْ‬
‫سنُه؛ فغَضِب أبو شراعة وانصر َ‬ ‫على أبي شراعة لتمَ حُ ْ‬
‫لفَةِ أبي بكر‪ ،‬رضي‬ ‫ح ْميَر‪ ،‬ناَلهُمْ سِباء في خِ َ‬ ‫والجماز هو‪ :‬أبو عبد ال محمد بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر‪ ،‬وكانوا يَزْعمون أنهم من ِ‬
‫ل عنه‪ ،‬وهم مَوَالِيه‪ ،‬وسَلْم الخاسر عمّه‪ ،‬وكان الجماز من أحْلَى الناسِ حكاية‪ ،‬وأكثرِهم نادرة‪.‬‬ ‫ا ّ‬
‫حمْله إليه‪ ،‬فلما دخل ُأ ْفحِم‪ ،‬فقال له المتوكل‪ :‬تكلمْ فإنّي‬ ‫قال بعض جلسا ِء المتوكّل‪ :‬كُنّا ن ْكثِر عند المتوكل ِذكْرَ الجماز حتى اشتَاقه‪ ،‬فكتبَ في َ‬
‫حيْضَتين يا أمي َر المؤمنين؟ فقال له الفتح‪ :‬قد كلّمتُ أمي َر المؤمنين يُولَيك على القرود والكلب! قال‪ :‬أفلستَ‬ ‫حيْضَةٍ أو ب َ‬ ‫ستَبرئكَ‪ ،‬فقال‪ :‬ب َ‬ ‫أُريدُ أن أ ْ‬
‫سامِعاً مطيعاً‪.‬؟ فضحك المتوكل وأمر له بعَشْرَةِ آلف درهم‪.‬‬
‫خلْفِ الباب‪ ،‬فلّما‬ ‫خلُ بيتَه أكثر من ثلثةٍ لضيقه؛ فدعا ثلثةً‪ ،‬فجاءه ستّة‪ ،‬وقَرَعوا الباب‪ ،‬ووقفوا على رِجل رِجل فَعدَ أرجُلَهم من َ‬ ‫وكان ل يُدْ ِ‬

‫‪44‬‬
‫ت ناساً ولم أدعُ كَراكِي‪.‬‬ ‫حصلوا عنده‪ ،‬قال‪ :‬اخرجُوا عني‪ ،‬فإنما دعو ُ‬
‫وقال الطائي في عمرو بن طوق التغلبي ‪ :‬الكامل‬
‫جدٌ لمن لـم يَلْـعَـبِ‬ ‫سجحٌ ول ِ‬ ‫الْجِد ّشي َمتُـه‪ ،‬وفـيه فـكَـاهَة‬
‫طبِ‬ ‫صهْباء ِما لم تق َ‬ ‫ل خيرَ في ال َ‬ ‫شَرِس‪ ،‬ويتبع ذاك لينُ خَـلِـيقة‬
‫وقال في الحسن بن وَهْب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫في ظلّه بالخندريس السَلْـسَـلِ‬ ‫لِّ أيامٌ خـطَـبْـنـا لِـينَـهـا‬
‫ل خيرَ في المعلول غيرَ معلـلِ‬ ‫بمدام ٍة نَغَمُ السماع خـفـيرُهـا‬
‫بازٍ‪ ،‬ويغفلُ وهو غي ُر ُمغَـفـل‬ ‫يخشى عليها وهو يَجْلُو مُقلـتَـيْ‬
‫خَشِنُ الوقا ِر كأنَه في محـفـلِ‬ ‫ش َتهْفُـو خـلئقُـه‪ ،‬ول‬ ‫ل طائ ٌ‬
‫ش مَنْ لم يهْزِلِ‬ ‫عيْ ُ‬ ‫ُينْضَى و ُيهْ َزلُ َ‬ ‫فكِه يجمُ الجـدّ أحـيانـاً‪ ،‬وقـد‬
‫وقال فيه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫تُؤْ ٌم َف ِبكْر في النّظَـا ِم وثَـيبُ‬ ‫ولقد رأيتكَ والـكـلمُ للـئٌ‬
‫سهِبُ‬ ‫وابن المقفعِ في اليتيم ِة يُ ْ‬ ‫ظ يَخْطُـبُ‬ ‫وكأن قُسّا في عُكا ٍ‬
‫ن َينْـسِـبُ‬ ‫وكثِيرَ عزَ َة يَوْم َبيْ ٍ‬ ‫وكأن َليْلَى الخيلـية تَـنْـدُبُ‬
‫طوْرًا َف ُي ْبكِي سامِعي ِه ويُطْرِبُ‬ ‫َ‬ ‫َيكْسُو الوقارَ ويستخف موقـراً‬
‫وقال أبو الفتح البستي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بِرَاح‪ ،‬وعلّلْهُ بشي ًء مِنَ المَـ ْزحِ‬ ‫طبْ َعكَ ال َم ْكدُود بالـهـمَ رَاحةً‬ ‫أ ِفدْ َ‬
‫بمقدا ِر ما ُنعْطِي الطعا َم من المِلْحِ‬ ‫ح فَـلْـ َيكُـنْ‬
‫ن إذا أعط ْيتَه المَ ْز َ‬ ‫لكِ ْ‬
‫وما زال الشراف يمزَحون ويسمحون بما ل يَ ْقدَحُ في أديانهم‪ ،‬ول يغضّ في مُرُوءَا ِتهِم‪.‬‬
‫سمْحَة"‪.‬‬‫وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬بعثت بالحنيفية ال ّ‬
‫وقال‪" :‬إني لمْ َزحُ ول أقُول إل حقاً"‪.‬‬
‫جمِياً‪.‬‬‫عَ‬ ‫سكُوا نُسكاً أ ْ‬ ‫ن إنشادَ الشعر‪ ،‬فقال‪ :‬لقد نَ َ‬
‫وقيل لسعيد بن المسيب‪ :‬إنّ قوماً من أهل العراق ل يَرَوْ َ‬
‫وقيل لبن سيرين‪ :‬إنّ قوماً يزعمون أن إنشادَ الشعر ينقض الوضوء‪ ،‬فأنشد‪ :‬الطويل‬
‫ستِه لستقرَتِ‬ ‫ضيَت رَشح آ ْ‬ ‫ولو رَ ِ‬ ‫لقد أصبحَتْ عِرْس الفرزدق نَاشِزاً‬
‫وقام يصَلي! وقيل‪ :‬بل أنشد‪ :‬البسيط‬
‫ش ْهرِ الصَوم في الطَولِ‬ ‫عُرقوبُها ِمثْلُ َ‬ ‫عجُوزاً جِئتُ أَخـطـبـهـا‬ ‫أ ْنبِئْتُ أن َ‬
‫ما قيل في النسيب والغزل‬
‫شتَهي النسيب؟‪ .‬فقال‪ :‬أما من يؤمن بال واليوم الخر فل‪.‬‬ ‫وقيل لبي السائب المخزومي‪ :‬أترى أحداً ل يَ ْ‬
‫شدُ‬
‫ل بن عروة الزبيري قال‪ :‬كان عُروَة بن ُأذَينة نازلً في دار أبي بالعقيق‪ ،‬فسمعتُه ُينْ ِ‬ ‫وروى مصعب بن عبد الّ الزبيري عن عروة بن عبيد ا ّ‬
‫لنفسه‪ :‬الكامل‬
‫خُلِ َقتْ هواك كما خُِلقْتَ َهوًى لها‬ ‫ت فؤادَك مَـلّـهـا‬ ‫عمَ ْ‬ ‫إنَ التي زَ َ‬
‫أبْدى ِلصَاحِبه الصبّابَ َة كُـلّـهـا‬ ‫لكُمَـا‬ ‫ت بها‪َ ،‬وكِ َ‬ ‫فيك الذي زعمَ ْ‬
‫ظلّـهَـا‬ ‫ت إذَنْ ل َ‬ ‫حيَ ْ‬‫ضِ‬ ‫يوماً وقد َ‬ ‫وَل َعمْرُها لو كان حبُك فَـوقَـهـا‬
‫شَفَع الضميرُ إلى الفؤاد فَسَلّهـا‬ ‫جدْت لها وَسَاوِسَ سَـلـوَة‬ ‫فإذا و َ‬
‫بَِلبَـاق ٍة فَـَأ َدقّـهَـا وَأجـلَـهـا‬ ‫بيضاء بَاكَرَها النّعيمُ فصَاغَـهـا‬

‫صعُوبتها‪ ،‬وأرجُو ذُلّها‬ ‫أخْشَى ُ‬ ‫ت مُسَلَماً‪ ،‬لِيَ حاجة‬ ‫َلمّا ع َرضْ ُ‬


‫ن أكْثرَها لنَا وأقـلّـهـا‬‫ما كا َ‬ ‫ت تَح ّيتَها فَقُلتُ لصاحبـي‪:‬‬ ‫َمنَعَ ْ‬
‫في بعضِ ِرقْبتِها‪ ،‬فقلت‪ :‬لَعلّها‬ ‫فَدنا وقال‪ :‬لعلّهـا مَـعْـذُورة‬
‫شدُها‪ ،‬فأنشدته البيات‪،‬‬
‫ت لعُروة بلغني أنك سمعتَه يُن ِ‬ ‫ت له َب ْعدَ التّرْحيب به‪ :‬أَلكَ حاجة؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬أبيا ٌ‬ ‫قال‪ :‬فأتاني أبو السائب المخزومي فقل ُ‬
‫فلمّا بلغت قوله‪:‬‬
‫فدنَا وقالَ لعلَها معذورَة‪ ..‬البيت‬
‫طرب‪ ،‬وقال‪ :‬هذا والّ الدائمُ الصبّابة‪ ،‬الصادق ال َعهْد‪ ،‬ل الذي يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫غبُ‬ ‫عني فأَهلْي بي أضَنّ وأَر َ‬ ‫ك يمنعونَك رَغْـبَةً‬ ‫إن كان أهُل ِ‬
‫حسْن الظنّ بها‪ ،‬وطَلب ال ُعذْر لها‪ ،‬قال‪ :‬فعرضت عليه الطعام‬ ‫لقد عَدا هذا العرابي طَوْرَه‪ ،‬وإني لرجو أن يغفر ال لصاحب هذه البيات ل ُ‬
‫فقال‪ :‬ل والّ ما كنت لخْلط بهذه البيات طعاماً حتى الليل‪ ،‬وانصرف‪.‬‬
‫جدّه يكنى أبا السائب أيضاً‪ ،‬وكان خليطاً لرسول‬ ‫ت مذكورة‪ ،‬وأخبار مشهورة‪ ،‬وكان َ‬ ‫غزِيرَ الدب‪ ،‬كثير الطَرَب‪ ،‬وله فكاها ٌ‬ ‫وكان أبو السائب َ‬
‫الّ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكان النبيّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إذا ذكره قال‪ِ :‬نعْمَ الخليط! كان أبو السائب ل يشَارِي ول يماريَ‪.‬‬
‫ظ ْرفِهِ‪.‬‬‫ف منصبه‪ ،‬وحلوة َ‬ ‫شرَ ِ‬‫واسمُ أبي السائب عبدُ الّ‪ ،‬وكان أشرافُ أهلِ المدينة يستظرفونه ويقَدمونه ل َ‬
‫وكان عروة بن أذينة ‪ -‬على زُ ْهدِه‪ ،‬ووَرَعه‪ ،‬و َكثْر ِة علمه وفَهمِهِ ‪ -‬رقيقَ الغزَل كثيره‪ ،‬وهو القائل‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫أ ْقبَ ْلتُ نحوَ سِقاءِ القوم أ ْبتَـ ِردُ‬ ‫جدْتُ أُوارَ الحُبّ في َكبِدي‬ ‫إذا و َ‬

‫‪45‬‬
‫َفمَنْ لِنارٍ على الحْشاء تتقِـدْ؟‬ ‫ت ِببَ ْردِ الماءَ ظا ِهرَهُ‬ ‫َهبْني بَ َردْ ُ‬
‫وقد رُوِي هذان البيتان لغيره‪.‬‬
‫ومرّت به سكينةُ بنتُ الحسين بن عليّ بن أبي طالب ‪ -‬رضي الّ عنهم! ‪ -‬فقالت له‪ :‬أنْتَ الذي تزعم أنّك غيرُ عاشق‪ ،‬وأنت تقول‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫س َتتِـرِ‬
‫ستْرَ فا ْ‬ ‫قد كنتَ عندي تُحِبّ ال ّ‬ ‫ت بـه‬ ‫سرَي فَـبُـحْـ ُ‬ ‫قالتْ وأَب َثثْ ُتهَا ِ‬
‫غَطّي هواكِ وما ألْقَى على بَصَري‬ ‫ت ُتبْصِ ُر مَنْ حَولي؟ فقلت لهـا‬ ‫س َ‬‫أل ْ‬
‫والّ ما خرج هذا من قَلْبِ سليم‪.‬‬
‫شدْتُه‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫لحْوًص فأنْ َ‬ ‫وروى الزّبير عن رجل لم يسمّه‪ ،‬قال‪ :‬قال لي أبو السائب‪ :‬أنشدني لِ َ‬
‫ل امرئ بوصاِلكُمْ صَب ‪:‬‬ ‫حبْ َ‬ ‫قالت وقلت‪ :‬تحرّحِي َوصِلي َ‬
‫الـغـدرُ شـيءٌ لــيس مـــن ضَـــرْبـــي‬ ‫ن َبعْلي؟ فقلت لها‪:‬‬ ‫ب إذَ ْ‬ ‫صَاحِ ْ‬
‫عِرْس الـخـلـيل وجَــارةُ الْـــجَـــنْـــبِ‬ ‫شيئان ل أدْنُــو لـــ َوصْـــلِـــهـــمـــا‬
‫والـجـــارُ أوصـــانـــي بـــه َربّـــي‬ ‫أمّـا الـخـلـيلُ فـلـســتُ فـــاجِـــعَـــهُ‬
‫بعـضَ الـحـديث مَـطـيكـم صَــحْـــبِـــي‬ ‫عُوَجـا كــذا نَـــ ْذكَـــرْ لـــغـــانـــيةٍ‬
‫ت بــدَأت بـــالـــ ّذنْـــبِ؟‬ ‫نُذنِـبْ‪ ،‬بَـك أنْـ ِ‬ ‫ونَـقُـلْ لـهـا‪ :‬فـــيمَ الـــصّـــدُودُ ولـــم‬
‫مِنـا بِـدارِ الــسَـــهْـــلِ والـــرُحْـــبِ‬ ‫إن تُـقْـبِـلـي نُـقْـبِـل ونُــنْـــزِلُـــكـــم‬
‫وتُـصَـدعـي مُـتَـــلئِمَ الـــشَـــعْـــبِ‬ ‫أو تَـهْـجُـرِي تـكـدرْ مـعــيشـــتُـــنـــا‬
‫فقال‪ :‬هذا والّ المحب حقاً‪ ،‬ل الذي يَقُول‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ي مُنفَسحاً عريضا‬ ‫وجدت وَرَا َ‬ ‫وكنت إذا حبيبٌ رامَ هَجْـرِي‬
‫صحِبك ال‪ ،‬ول وسَع عليك! وخرج أبو حازم يومًا يَ ْرمِي الجمار‪ ،‬فإذا هو بامرأة حَاسِر قد َفتَنتِ الناسَ بحُسنِ وجهها‪،‬‬ ‫ثم قال‪ :‬اذْهَب‪ ،‬فل َ‬
‫شغَ ْلتِهم عن مَناسكهم‪ ،‬فاتقي ال واس َتتَري؛ فإنّ ال‪ ،‬عزَ وجل‪ ،‬يقول في‬ ‫شعَرٍ حرام‪ ،‬وقد فتنتِ الناسَ و َ‬ ‫وأله ْتهُمْ بجمالها‪ ،‬فقال لها‪ :‬يا هذه‪ ،‬إنك بمَ ْ‬
‫جيُوبهن"؛ فقالت‪ :‬إني من اللتي قيل فيهنّ‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫خمُرِهِنّ عَلَى ُ‬ ‫كتابه العزيز‪" :‬وَ ْليَضْ ِربْنَ ب ُ‬
‫ختْ على المتنين بُرْدًا مهلهل‬ ‫وأرْ َ‬ ‫ت كِساء ا ْلخَزّ عن حُر وَجْهها‬ ‫ط ْ‬‫أما َ‬
‫ولكن ل َيقْتلْنَ البريء المُـغَـفّـل‬ ‫ن يَ ْبغِين حِسـبةً‬ ‫من اللءِ لم يحججْ َ‬
‫ل تعالى بالنار! فجعل أبو حازم‬ ‫ل يعذبها ا ّ‬ ‫ل لهذه الصورة الحسنة أ ّ‬ ‫الشعر للحارث بن خالد المخزومي‪ ،‬فقال أبو حازم لصحابه‪ :‬تعالوا َن ْدعُ ا ّ‬
‫يَدْعُو وأصحابه يُؤ َمنُون‪ ،‬فبلغ ذلك الشعبي‪ ،‬فقال‪ :‬ما أَ َرقّكم يا أهلَ الحجاز وأظرفكم! أما وال لو كان من قُرَى العراق لقال اعزبي عليك َل ْعنَة‬
‫الّ! وكان أبو حازم من فضلء التابعين‪ ،‬وله مقامات جميلة من الملوك‪ ،‬وكل ٌم محفوظ يدلّ على فضله وعقله‪ ،‬وهو القائل‪ :‬كل عمل تكْرَ ُه من‬
‫ت أن يكون معك غداً فقدمه اليوم‪ .‬وكان يقول‪ :‬إنما بيني وبين الملوك يوم واحد‪،‬‬ ‫أجله الموتَ فاتركه‪ ،‬ول يضرك متى متَ‪ .‬وكان يقول‪ :‬ما أحبب َ‬
‫غدٍ على َوجَل؛ وإنما هو اليوم‪ ،‬فما عسى أن يكون اليوم‪.‬‬ ‫أما أمس فل يجدون لذّته‪ ،‬وأنا وإياهم من َ‬
‫وقال أبو العتاهية‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وإنما نحْنُ فيها بـين يومَـيْنِ‬ ‫سبُها‬‫حتى متى نحن في اليام نَحْ َ‬
‫لعلّه أجْلَبُ اليومين لـلـحَـيْنِ‬ ‫يومٌ تولَى‪ ،‬ويومٌ نحن نـأمُـلُـه‬
‫وروى الزبير بن أبي بكر قال‪ :‬قدمت امرأة من ُهذَيل المدينَة‪ ،‬وكانت جميلةً‪ ،‬ومعها ابن لها صغير‪ ،‬وهي أيّم‪ ،‬فخطبَها الناسُ وأكثروا‪ ،‬فقال‬
‫ع ْتبَةَ بن مسعود‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ل بن ُ‬ ‫فيها عبيد ال بن عبد ا ّ‬
‫ن بعـيدُ‬ ‫قَريبٌ ول في العالمي َ‬ ‫حّبكِ حبًا ل يحبّك مـثـلَـهُ‬ ‫أِ‬
‫ب عليك شديدُ‬ ‫جدْتِ ولم يصعُ ْ‬ ‫َل ُ‬ ‫أحبّك حبّاً لو علمت ببعَضـهِ‬
‫شهيدي أبو بكر َفذَاكَ شهـيدُ‬ ‫وح ّبكِ يا أمّ العلء مُتـيّمـي‬
‫عرْوَةُ ما َألْقَى بكم وسعـيدُ‬ ‫وُ‬ ‫جدِي القاس ُم بن محمدٍ‬ ‫ويعلم وَ ْ‬
‫وخارج ٌة ُيبْدي لـنـا ويُعـيدُ‬ ‫ن كلّـه‬ ‫ويعلم ما ُأخْفي سليما ُ‬
‫ف وتلـيدُ‬ ‫ب عندي طار ٌ‬ ‫فَلَلحُ ّ‬ ‫خبَري‬ ‫متى تسألي عما أقول فت ْ‬
‫فقال له سعيد بن المسيّب‪ :‬قد َأمِنَ أن تسألنا‪ ،‬ولو سأَلتْنا ما شهدْنا لك بزور‪.‬‬
‫حدَ الفقهاء السبعة الذين انتهى إليهم عل ُم المدينة‪ ،‬وقد ذكرهم عبيد الّ في هذه البيات؛ وهم‪ :‬أبو بكر بن عبد الرحمن بن‬ ‫وكان عبيد ال أ َ‬
‫الحارث بن هشام ابن المغيرة المخزومي‪ .‬والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق‪ ،‬وعروة بن الزبير ابن العوام‪ ،‬وسعيد بن المسيب بن حزن‪،‬‬
‫وسليمان بن يسار‪ ،‬وخارجة بن زيد ابن ثابت النصاري‪.‬‬
‫وقيل لعبيد الّ‪ :‬أتقول الشعر على شَ َر ِفكَ؟ فقال‪ :‬ل بُدَ للمصدور أن َينْفُث؛ وعبيد الّ هو القائل‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫هَوَاكِ فَلِيمَ والتأمَ ال ُفطُـورُ‬ ‫ت فيه‬ ‫ب ثم ذَرَ ْر ِ‬‫شقَقْتِ القل َ‬ ‫َ‬
‫َفبَادِيهِ مع الَخَافـي يَسـيرُ‬ ‫ع ْثمَةَ في فُؤادِي‬ ‫َتغَ ْلغَلَ حُبّ َ‬
‫ول حُزْنٌ ولم يبلغْ سرورُ‬ ‫َتغَ ْلغَلَ حيث لم يبلُغ شرابٌ‬
‫أخذه سَلْم بن عمرو الخاسر فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل َمفْصِلِ‬ ‫خمْرِ في ك ّ‬ ‫فدَب دَبيبَ ال َ‬ ‫سقتني بعينَيْها الهوى وس َقيْتُـهـا‬
‫وقال أبو نُوَاس‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫لترداد اسمها فيهـا ُألَمُ‬ ‫أحِب اللومَ فيها ليس إل‬
‫ل ل َتغَ ْلغَُلهَا ال ُمدَام‬
‫مَداخِ َ‬ ‫و َيدْخُل حبها في كل قَلبٍ‬

‫‪46‬‬
‫ومنه قول المتنبي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شرَابُ‬ ‫نَديمٌ‪ ،‬ول يُ ْفضِي إليه َ‬ ‫وللسّ ّر منّي موضِ ٌع ل َينَالُهُ‬
‫وقال بعض المحدثين‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حتى حللت بحيثُ حَل شرابي‬ ‫ما زلت تغويني وتطلبُ خُلّتي‬
‫ما هكذا الحْبابُ للحْـبَـابِ‬ ‫ثم انصرفت بغير جزْمٍ كان لي‬
‫ت من قول أبي محمد ابن أبي أمية‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫أخذ أبو نُواس‪ ،‬قوله‪ :‬أحب اللوم فيها‪ ...‬البي َ‬
‫ل أمينٌ‪ ،‬والنساءُ شـهـود‬ ‫رسو ٌ‬ ‫س ُكنْت زينَـهُ‬ ‫وحدّثني عن َمجْلِ ٍ‬
‫ك من بيْنِ الحـديث أُريدُ‬ ‫وَذكْر ِ‬ ‫فقلت له ُردّ الحديث الذي مضى‬
‫كأني بطيء الفهم عنه بَـعِـيدُ‬ ‫أناشدُ ُه بـالـلّـهِ إلّ أَعَـ ْدتَـهُ‬
‫وقول أبي نواس في البيت الول كقوله‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫س ِميَةِ الحـبـيبِ‬
‫فممزوجًا بتَ ْ‬ ‫إذا غَا َديْتني بصَـبُـوحِ لَـوْم‬
‫عليكِ‪ ،‬إذا فع ْلتِ‪ ،‬من الذنوبِ‬ ‫عدُ الـلَـوْمَ فـيهـا‬ ‫فإني ل أُ ِ‬

‫ضنَتْ بمبحوس النصيب‬ ‫وإن َ‬ ‫جنَانـا‬ ‫ول أنا إن عَمدْتُ أرى َ‬


‫بغير تكلُفٍ ثمَرَ القُـلـوبِ‬ ‫ن تَرْعَـى‬ ‫مقنعة بثَوْبِ الحُسْ ِ‬
‫وفي جنان هذه يقول أبو نواسٍ‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫لَ ُقلْ وأعِـدْ يا طـيبَ الـخـبـرِ‬ ‫با ِ‬ ‫يا ذا الذي عن جَنانٍ ظَـل يُخْـبِـرُنـا‬
‫أراه من حيث ما أقبلـتُ فـي أثـرِي‬ ‫ت بـه‬ ‫قالوا اشت َك ْتكَ وقالت ما ابـتـلـي ُ‬
‫جلُني مـن شِـدّة الـنـظـر‬ ‫حتى َليُخْ ِ‬ ‫ت بِـه‬‫طرْفَ نحوي إن مـرر ُ‬ ‫ويرفع ال َ‬
‫حصَر‬‫ق من ال َ‬ ‫في الموضع الخِلْو لم َينْطِ ْ‬ ‫وإن َو َقفْتُ لـه كـيمـا ُيكَـلـمـنـي‬
‫حتى لقد صار من همَي ومن وَطَـرِي‬ ‫ما زال يفـعـلُ بـي هـذا و ُي ْدمِـنُـه‬
‫وفي جنان أيضاً يقول أبو نواس‪ ،‬وكان بها صباً‪ ،‬ولها محبّا‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وتزعم أنني رجل خبـيثُ‬ ‫ن تسبني ُذكِرَتْ بخـير‬ ‫جنا ُ‬
‫وأني للذي تطوى بَثـوث‬ ‫وأن مودّتي كـذِب ومَـيْن‬
‫ولكنّ الملول هو النكـوثُ‬ ‫وليس كذا‪ ،‬ول ردّ عليهـا‪،‬‬
‫ق بين أضلعي حَثيثُ‬ ‫وشو ٌ‬ ‫ب ُينَازِعني إلـيهـا‬ ‫ولي قل ٌ‬
‫فملّتني‪ ،‬كذا كان الحـديثُ‬ ‫جدِي‬ ‫ت كَلَفي بها وقديمَ َو ْ‬ ‫رََأ ْ‬
‫وكانت جنان مولة لبعض الثقفيين‪.‬‬
‫وفي معنى قول ابن أبي أمية يقولُ العباسُ بن الحنف‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سعْدُ‬ ‫جنوناً ف ِزدْني من حديثك يا َ‬ ‫ح ّدثْتني يا سع ُد عنها فَ ِزدْتنـي‬ ‫وَ‬
‫شدُهم اهتزازاً للسماع‪ ،‬وحسنَ أدبٍ عند الستماع‪ .‬وقال عبد ال بن جعفر‪:‬‬ ‫ظرْفاً‪ ،‬وأكثرهم طِيباً‪ ،‬وأحلهم مزاجاً‪ ،‬وأ َ‬ ‫وأهل المدينة أكثر الناس َ‬
‫طيْتُ‪ ،‬ولو قاتلت لبْلَيت‪.‬‬ ‫إن لي عند السماع هِزّة لو سُئلت عندها لَعْ َ‬
‫خ قديم من أهل المدينة من ولد الزبير يكنى أبَا ريحانة جالس‬ ‫صرَة‪ ،‬فإذا شي ٌ‬
‫وروى أبو العيناء قال‪ :‬قال الصمعي‪ :‬مررت بدار الزبير بالبَ ْ‬
‫ت إليه؛ فبينما أنا كذلك إذ طلعَتْ علينا سويداء تحمل قِرْبة‪ ،‬فلما نظر إليها لم يتماَلكْ أن قام إليها‪،‬‬ ‫ستُرُهُ‪ ،‬فسلّمت عليه‪ ،‬وجلس ُ‬ ‫شمْلة تَ ْ‬‫بالباب عليه َ‬
‫غنّي صوتاً‪ .‬فقالت‪ :‬إن مواليَ أَعْجَلوني‪ ،‬فقال‪ :‬ل بدّ من ذلك‪ ،‬قالت‪ :‬أما وال ِق ْربَة على كتفي فل‪ ،‬قال‪ :‬فأنا أحْملها‪ ،‬فأخذ القربة‬ ‫فقال لها‪ :‬بال َ‬
‫منها‪ ،‬فاندفعت تُغنَي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تفيضُ‪ ،‬وأحْزَاني عليك تَطُولُ‬ ‫فُؤادي أسِي ٌر ل يُ َفكّ‪ ،‬و ُمهْجَتـي‬
‫إليك‪ ،‬وأجْفَاني عليك ُهمُـولُ‬ ‫ولي ُمقْلَ ٌة قَ ْرحَى لطول اشتياقها‬
‫شيَاعي لـديك قـلـيل‬ ‫بعيدٌ‪ ،‬وأ ْ‬ ‫عدَائي كثيرٌ‪ ،‬وشُقتـي‬ ‫فديتك‪ ،‬أ ْ‬
‫ضتَني‬‫سعَ ْفتُك بحاجتك فعر ْ‬ ‫جزَائي منك؛ أ ْ‬ ‫صرْخَةً‪ ،‬وضرب بالْقِربة إلى الرض فشقّها؛ فقامت الجارية تبكي‪ ،‬وقالت‪ :‬ما هذا بِ َ‬ ‫فطَرِب وصرخ َ‬
‫شمْلة وابتاع لها قِرْبةً‬ ‫ن المصيبة عََليّ حصلت‪ ،‬ونزع الشَملة ووَضع يدًا من خلف ويداً مر ُقدَام‪ ،‬وباع ال َ‬ ‫لما أكره من مواليّ‪ .‬قال‪ :‬ل تغتمي فإ ّ‬
‫ي بن أبي طالب ‪ -‬رضي ال تعالى عنه! ‪ -‬فعرف حاله‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا ريحانة‪ ،‬أحسبك من‬ ‫ل من ولد عل ّ‬ ‫جديدة‪ ،‬وقعد بتلك الحال؛ فاجتاز به رج ٌ‬
‫عبَادِ‬
‫ت تِجَا َر ُتهُمْ َومَا كَانُوا ُم ْه َتدِين"‪ .‬قال‪ :‬ل يا ابنَ رسُولِ الّ‪ ،‬ولكني من الذين قال الّ تعالى فيهم‪َ " :‬فبَشّرْ ِ‬ ‫الذين قال ال تعالى فيهم‪َ " :‬فمَا َر ِبحَ ْ‬
‫ل َفيَت ِبعُونَ أَحْسَنه"‪ ،‬فضحك‪ ،‬وأمر له بألْفِ درهم‪.‬‬ ‫س َت ِمعُونَ الْقَو َ‬
‫اَلذِين يَ ْ‬
‫ظتُ نياماً‪ ،‬وغنّيت‬ ‫شرِبت حَرَاماً‪ ،‬وأيْقَ ْ‬ ‫ن وهو يتغنّى بليل‪ ،‬فأشرف عليه‪ ،‬وقال‪ :‬يا هذا‪َ ،‬‬ ‫ومرَ بالوقص المخزومي‪ ،‬وهو قاضي المدينة‪ ،‬سكرا ُ‬
‫خطأ‪ ،‬خُذهُ عني‪ ،‬وأصلَح له الغناء‪.‬‬
‫وسمع سعيد بن المسيب منشدًا ينشد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫خرجن من التنعيم ُمعْـتَـمـرَاتِ‬ ‫فلم ترَ عيني مثلَ سـرْبٍ رأيتـهُ‬
‫يلَبينَ للرَحْـمـن مـؤتـجـراتِ‬ ‫مَ َررْنَ بفَخّ ثـم ُرحْـنَ عَـشِـيّة‬
‫ن مِنَ آن يلْقَـ ْينَـهُ حَـذِرات‬ ‫وك َ‬ ‫ضتْ‬ ‫ولما رأتْ ركُبَ النميري أعر َ‬
‫نواعم‪ ،‬ل شعْثـاً ول غَـبَـراتِ‬ ‫دعت نسوة شُمَ العـرانـين بُـ َزلً‬

‫‪47‬‬
‫حِجَابًا من ال َقسّيّ والحـبـرا ٍ‬
‫ت‬ ‫ن دونهـا‬ ‫فأبرزن لما قمن يحجب َ‬
‫به زينبٌ في نسوةٍ عَـطِـرَاتِ‬ ‫شتْ‬ ‫ن نعمان إذ م َ‬ ‫تَضَوّع طيبًا بَط ُ‬
‫خرُجْن شطر الليل ُم ْعتَجِرات‬‫ويَ ْ‬ ‫ف البنَان من التقَـى‬ ‫يُخَبئن أطرا َ‬
‫ل مما يلذّ استماعه‪ ،‬ثم قال‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫فقَال سعيد‪ :‬هذا وا ّ‬
‫وأبدت بَنانَ الكَفّ للـجَـمَـراتِ‬ ‫س َعتْ جَيبَ درعها‬ ‫وليست كأُخْرى و ّ‬
‫على مِثلِ بَد ٍر لَحَ في الظلمَـاتِ‬ ‫ت بَيان المسك وَحفًا ُمرَجـلً‬ ‫وغاَل ْ‬
‫ح مِـن عَـرَفـاتِ‬ ‫برؤيتها مَنْ را َ‬ ‫جمْع فأفتَـنَـتْ‬ ‫وقامت تَرَاءَى بين َ‬
‫ل بن نميِر الثقفي يقوله في زينب بنت يوسف أخت الحجاج؛ وطلبه الحجاج‬ ‫قال‪ :‬فكانوا يرون أن الشعرَ الثاني له‪ ،‬والولى لمحمد بن عبد ا ّ‬
‫ل المير إلّ‪:‬‬‫حتى ظَفر به فقال‪ :‬أنت القائل ما قلت؟ قال‪ :‬وهل قلت أصلح ا ّ‬
‫شطْر الليل مُعتَجِراتِ‬ ‫ويخرجن َ‬ ‫يخبّئن أطرافَ البَنان من التقـى‬
‫قال له‪ :‬كم ُك ْنتُم إذ تقول‪:‬‬
‫ولما رأت َركْبَ النميري أعْرَضت‬
‫قال‪ :‬وال ما كنت إلّ أنا وصاحب لي عَلَى حمّار هَزيل! فضحك وعفا عنه‪ .‬وهو القائل‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫بنِي الزّيّ الجميل من الثاثِ‬ ‫ج ْتكَ الظّعائِنُ يوم بَـاتُـوا‬ ‫أهَا َ‬
‫ح ِتثَـاث‬‫حثّ إذا َرنَتْ أي ا ْ‬ ‫تَ ُ‬ ‫ن قَـوّ‬ ‫ظَعائن أسَْلكَت في بَطْ ِ‬
‫ِنعَاجًا تَ ْرتَعي بَقْلَ البِـراث‬ ‫كأنٌ على الهوادج يَوْمَ بانـوا‬
‫كما سجع النّوَادِب بالمَراثي‬ ‫حمَا ُم إذا تـغـنـى‬ ‫يهيّجك ا ْل َ‬
‫سيَة جَرّاحة‪ ،‬كم راقد في‬ ‫طوَاحة طرّاحة‪ ،‬آ ِ‬ ‫عدُ الدنيا إلى خََلفِ‪ ،‬وبقاؤها إلى تَلَفِ‪ ،‬و َبعْدَ عَطائِها المنع‪ ،‬وبعد أمانها الفَجْع‪َ ،‬‬ ‫وقال ابن المعتز‪ :‬وَ ْ‬
‫سكُن َرمْسَه‪ ،‬وينقطع عن أمله‪ ،‬ويُشْرِف على عمله‪ ،‬وقد َرجَح الموتُ‬ ‫ظلّها قد أيقظته‪ ،‬ووافق بها قد خَانَته‪ ،‬حتى يلفظَ نفسَه‪ ،‬ويودعّ دنياه‪ ،‬وي ْ‬
‫ط من رَماد تحت صفائح أنْضاد؛ وقد أسلمه‬ ‫خّ‬ ‫ل َبهْجَته‪ ،‬وقطع نظامَ صورته‪ ،‬وصار ك ً‬ ‫ض قُوَى حَركاته‪ ،‬وطَمس البلَى جما َ‬ ‫بحياته‪ ،‬ونق َ‬
‫ت فيه ا ْلجَنادل‪ ،‬ما زال مضطرباً في أمَلِه‪ ،‬حتى استقرّ في أجَله‪ ،‬ومحت اليا ُم ِذكْرَه‪،‬‬ ‫ش ْ‬
‫الحباب‪ ،‬وافترش التُرَاب‪ ،‬في بيت نجرتْه ال َمعَا ِولُ‪ ،‬و ُفرِ َ‬
‫ظ َف ْقدَه‪.‬‬
‫واعتادتِ الَ ْلحَا ُ‬
‫وكتب وهو معتقل إلى أستاذه أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب يتشوّقه‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫بماء مزْنٍ بار ٍد مُـصَـفّـقِ‬ ‫ما وَجدُ صَادٍ بالحبال مُوثَـقِ‬
‫ف دَجن مطبِقِ‬ ‫جادت به أخل ُ‬ ‫بالرّيح لم يَكدُر ولـم يُ َرنَـقِ‬
‫مَادَ عليها كالزّجاج الزرقِ‬ ‫بصخر ٍة إن تَرَ شَمساً تبـرق‬
‫ل كوَجْدي بك‪ ،‬لكن أتّقـي‬ ‫إّ‬ ‫صَرِيحُ غَيثٍ خالصٍ لم يُمذَق‬
‫وصَيرَفيًّا ناقداً للمـنـطِـقِ‬ ‫يا فاتحًا لكل باب مُـغْـلَـقِ‬
‫إنّا على البعاد والـتـفـرّقِ‬ ‫ل هذا َبهْرج لم ينـفـقِ‬ ‫إنْ قا َ‬
‫لنلتقي بالذكر إن لم نَلـتَـقِ‬
‫ل بقاءك‪ ،‬أو َد هذه البيات مما أمليْتُه عليك من قول جميل‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫فأجابه‪ :‬أخذتَ‪ ،‬أطال ا ّ‬
‫على الماء‪ ،‬يخشين العصيَ حَواني‬ ‫وما صادِياتٌ حُمـنَ يومـاً ولـيلةً‬
‫ن من بَردِ الحياض دَوَانـي‬ ‫ول ه ّ‬ ‫كواعبُ لم يَصدُرْن عنه لِـوجْـهَةٍ‬
‫فهنّ لصواتِ السّـقـاة رَوَانـي‬ ‫ت دونـهُ‬ ‫يَرَينَ حَبابَ الماء والمـو ُ‬
‫إليكِ‪ ،‬ولكنّ الـعـدوّ عـرانـي‬ ‫بأكثـرَ مـنـي غُـلّةً وَصـبـابةً‬
‫خذْتَ آخرَهَا من قول رُ ْؤبَة بن العجاج‪ :‬الرجز‪:‬‬ ‫وأ َ‬
‫ع ْيتَني‬ ‫ستَرْ َ‬‫أخوك والرّاعي إذا ا ْ‬ ‫إني وإن لم تَرَنـي فـإنّـنـي‬
‫أراك بالوُد وإنْ لَ ْم تَـرَنـي‬
‫قال‪ :‬فاستخفني في ذلك ونسب إليَ سوءَ الدب‪.‬‬
‫ن المعتز في المنصب العالي من الشعر والنثر‪ ،‬وفي النهاية في إشراق ديباجَةِ البيان‪ ،‬والغاية من رقَةِ حاشية اللسان‪.‬‬ ‫لبُ‬ ‫وكان أبو العباس عبدُ ا ّ‬
‫وكان كما قال ابن المرزبان‪ :‬إذا انصرف من بديع الشعر إلى رقيقِ النّثر أتى بحلل السحر‪ ،‬وليس بعد ذي الرّمة أكثرُ افتناناً وأكب ُر تصرّفا‬
‫ت من شعره ونثره في جملة هذا الكتاب؛ لئلّ أخرج عما تقدم به الشرط في البسط‪ ،‬وآتي‬ ‫جمْلة ما اختر ُ‬ ‫وإحساناً في التشبيه منه‪ .‬وإنما فرقتُ ُ‬
‫ههنا ببعض ما أختاره له‪ ،‬قال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وضوءُ الصبح متهَمُ الطّلوع‬ ‫و ِف ْتيَانٍ سَرَوْا والـلـيلُ داجٍ‬
‫على أكتافهم صدَأ الـدّروعِ‬ ‫ن بُزا َتهُمْ أُمـراءُ جـيش‬ ‫كأ ّ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حتى تبلّى ِمثْلَ َو ْقفِ الـعـاجِ‬ ‫في ليل ٍة أكَل المحاقُ هِللَـهـا‬
‫عُرْيان يَمْشِي في الدّجَا بِسرَاجِ‬ ‫والصبحُ َيتْلُو المشتَري فكأنّـهُ‬
‫وقال أيضًا يصف فرساً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عجَاجَ َة قَسطَلِ‬ ‫ع َقدَتْ سنا ِبكُه َ‬
‫َ‬ ‫غدَوْتُ على طمِر سابحٍ‬ ‫ولقد َ‬
‫لول الفتاة مساوِكًا من إسْحِلِ‬ ‫متلثم لُجُمَ الحديد يَلُـوكُـهـا‬

‫‪48‬‬
‫متبختر َيمْشِي بك ّم مُسْـبَـلِ‬ ‫ومحجل غير اليمين كـأنَـه‬
‫وقال‪ :‬مجزوء الرمل أو الرجز‪:‬‬
‫مُسَـوم َيعْـبُـو ِ‬
‫ب‬ ‫غ َتدِي بِـقَـارح‬‫قد أ ْ‬
‫كال َقدَح المكـبـوب‬ ‫ينفي ا ْلحَصى بحافرٍ‬
‫في موضع التقطيبِ‬ ‫قد ضحكت غُ َرتُـهُ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ف كلَوْنِ الصبح حين وَفـدْ‬‫طرْ ٌ‬
‫ِ‬ ‫ولقد وطئتُ الغيثَ يحمـلـنـي‬
‫أخرى عليه إذا جَرى بـأشـدّ‬ ‫خمَاع أطْرَافِ الصّوار فمـا الْ‬
‫صدف المعشَق ذو الدّلل وصدْ‬ ‫يمشي فيعرض في العِنان كمـا‬
‫أطلقتهُ فإذا حبـسـت جـمـدْ‬ ‫ب إذا‬ ‫فكـأنـه مَـــوْج يذو ُ‬
‫وقال أيضًا يصف سيفاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ك ِدمَـاء‬
‫فما يُنتضَى إلَ لس ْف ِ‬ ‫ولي صار ٌم فيه المنايا كَوامِن‬
‫بقي ُة غيْمٍ رَق دُونَ سَـمَـاء‬ ‫ق َمتْنيْه الف ِرنْد كأنهُ‬ ‫ترى فَوْ َ‬
‫وقال يَصِف ناراً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫كأنَ سيوفًا بين عيدانها تُجْـلـى‬ ‫مُشهَرة ل يحجب النخلُ ضوءَها‬
‫كما شقّت الشقراء عن َمتْنها جُل‬ ‫يفرج أغصان الوقود اضطرامُها‬
‫وقال بعض أهل العصر‪ ،‬وهو السّريّ الموصليّ‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ك فيه السرو ُر من كـثَـ ِ‬
‫ب‬ ‫حُ‬ ‫ضَ‬
‫يَ ْ‬ ‫يوم رذاذ ُممَـسّـك الـحـجُـب‬
‫على شموسِ البهاء والحـسـبِ‬ ‫ومجلـسٍ أُسْـبـلِـت سـتـائرهُ‬
‫في ح ْل ِيهَا أو هممن بالـخـبَـبِ‬ ‫وقد جرت خيلُ راحنـا خَـبَـبـاً‬
‫ُي ْغنِيك عن كل منظَـرٍ عَـجَـبِ‬ ‫والتهبت نا ُرنَا فـمـنـظَـرُهـا‬
‫على ذَرَاها مَطَا ِردُ الـلّـهَـب‬ ‫إذا ارتمت بالشرار فـاطّـردت‬
‫تطيرُ عنها قـرَاضَةُ الـذهـب‬ ‫رأيتَ ياقـوتةَ مـشــبـــكةً‬
‫فيه رياضُ الـجـمـالِ والدبِ‬ ‫فانهض إلى المجلس الذي ابتسمت‬
‫وقال بعض أهل العصر‪ ،‬وهو أبو الفرج الببغا‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫في كوانينه حياةَ النّفُو ِ‬
‫س‬ ‫فَحَمًا َقدّمَ الغلمُ فأَهْـدَى‬
‫فغدا وهو ُمذْهَبُ البنوسِ‬ ‫غيْرَ محلّى‬ ‫ن كال َبنُوسِ َ‬ ‫كا َ‬
‫عرُوسِ‬ ‫صّبغَاتِ َ‬‫ستْ ُه مُ َ‬
‫فكَ َ‬ ‫لقي النارَ في ثيابِ حِـدَادٍ‬
‫وقال أبو الفضل الميكالي‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫عيْنِ‬‫ظرُها كلّ َ‬ ‫ق مَنْ َ‬
‫وقد را َ‬ ‫كأن الشّرارَ على نـارِنـا‬
‫فإمَا هَوَى ففُتات اللُجَـيْنِ‬ ‫سُحال ُة ِتبْـرٍ إذا مـا عـل‬
‫وقال ابن المعتز يصف سحابة‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫َتهَادى فوق أعناقِ الرّيا ِ‬
‫ح‬ ‫ومُوقَرة بثِقل الماءَ جاءَتْ‬
‫و َهطْلً مثل أفواهِ ا ْلجِرَاحِ‬ ‫فباتَتْ ليَلهَا سَحـاً و َوبْـلً‬
‫خِلَل نجومها عند الصباحِ‬ ‫كأَن سماءَها لما تجـلَـتْ‬
‫تفَتح بينـه نَـوْ ُر القـاحِ‬ ‫ض َبنَ ْفسَج خَضِل ثراهُ‬ ‫ريا ُ‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬

‫خذِم‬
‫صمْصَامَةٍ َ‬
‫بصارم ذكرٍ َ‬ ‫غمْرَتهـا‬ ‫ولُجّةٍ للمنايا خُضتُ َ‬
‫ش ْهبَةٍ كاختلط الصبْح بالظلم‬
‫بُ‬ ‫صبَغَ ا ْلخِيلنُ دُ ْه َمتَـهُ‬
‫وقارحٍ َ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ق لمَـاعٍ وأبـيضَ صـار ِم‬
‫بأزر َ‬ ‫خضْت ظلمَـه‬ ‫وليل ككُحْل ال َعيْنِ ُ‬
‫تصافحُ رضراضَ الحصى بمنَاسم‬ ‫ومَضْبورةِ العضادِ ح ْرفٍ كأنهـا‬
‫وقال يصف حيّة‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫لوقدّها السيف لم يعلق بـه بـلَـلُ‬ ‫َنعَتّ رقطاء ل تَحيا لَـدِيغَـتُـهَـا‬
‫ع قـدّهُ بَـطَـلُ‬
‫كأَنـهـا كُـ ّم دِ ْر ٍ‬ ‫تلقى إذا انسلخت في الرض جلدتها‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شبَا حَظّي‪ ،‬وقلـبـًا مـشـيعَـا‬
‫ي ُفلّ َ‬ ‫عضْبـًا مُـهَـنّـداً‬ ‫سأَ َر منّي الدَهرُ َ‬
‫وأَ ْ‬
‫سعَى‬
‫غيْبِ الدهر من حيث ما َ‬ ‫سرائر َ‬ ‫ورأيا كمـرآة الـصـنَـاع أرى بِـهِ‬

‫‪49‬‬
‫أخذه من قول المنصور لبنه المهدي‪ :‬ل ُتبْرِمنّ أمراً حتى تفكّر فيه؛ فإن ِفكْره العاقل مرآته‪ ،‬تريه قبحه وحسنه‪.‬‬
‫حمًى من العقل ل يطي ُر به الجهل‪ ،‬وكنت‬ ‫لَ يا أمير المؤمنين‪ ،‬وغفر لكَ! فقد كان لك ِ‬ ‫حمَك ا ُ‬‫ولما ُدفِن المنصور وقف الربيعُ على قبره فقال‪َ :‬ر ِ‬
‫ترى باطنَ المر بمرآ ٍة من الرأي‪ ،‬كما ترى ظاهره‪ .‬ثم التفت إلى يحيى بن محمد أخي المنصور فقال‪ :‬هذا كما قال أبو دهبَل الجمحي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫إن النساء بمثلِه عُـقْـمُ‬ ‫عُقمَ النسا ُء فما يَلِدنَ شَبيهَهُ‬
‫وبعده‪:‬‬
‫سِيان منه ال َوفْرُ والـعـدمُ‬ ‫ل ب َنعَمْ‪ ،‬بِلَ متبـاعِـدٌ‬ ‫متهل ٌ‬
‫سقْمُ‬
‫ضمِناً‪ ،‬وليس بجسمه ُ‬ ‫َ‬ ‫نزْرُ الكلم من الحياء تخالُه‬
‫أخذ البيت الخير من قول ليلى الخيلية‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن مظْلـومـا‬ ‫إن ظالمًا يوماً وإ ْ‬ ‫ن الدّهرَ آل مُـطَـرّف‬ ‫ل تقْ َربَ َ‬
‫ن نُـجُـومـا‬ ‫وأسنة زرق ُيخَل َ‬ ‫ل بيوتـهـم‬ ‫قوم رِباطُ الخيل حَوْ َ‬
‫وسطَ البيوت من الحياء سقيما‬ ‫وممزَق عنهُ القميص تَخَـالَـهُ‬
‫يوم الهياج على الخميس زعيما‬ ‫حتى إذا ُرفِع الـلـواءُ رأيتـهُ‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫صبَة العنَاق واللمَـمِ‬ ‫وطول أنْ ِ‬ ‫يُشَتهون ملوكا في تجـلـتـهـمْ‬
‫راحُوا كأًنه ُم مَرْضى من الكرمِ‬ ‫ك يَجرِي في َمفَارقهم‬ ‫إذا بَدَا المس ُ‬
‫وقال أبو علي الحاتمي‪ :‬وما أحسن أبياتاً أنشدها أبو عمر المطرز غلم ثعلب يعترض في أثنائها هذا المعنى‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وخُرْساً عن الفَحْشا ِء عند التهاتُرِ‬ ‫صمّاً عن الْخَـنـا‬ ‫تخاُلهُم للحلم ُ‬
‫وعند الحروب كالليوث ا ْلخَوَادرِ‬ ‫لقَوْا حياء وعِـفّة‬ ‫ومَرضَى إذا َ‬
‫بهم وًَل ُه ْم ذَلتْ رِقابُ العشـائر‬ ‫لهم عزُ إنصافٍ وذلّ تـواضـع‬
‫وليس بهم إلّ اتقاءُ المَـعـايرِ‬ ‫كأن بهم وَصماً يخافـون عـارهُ‬
‫وأنشد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عيْبَ لسانِ‬
‫أحلم عا ِد ل يَخَافُ جَليسهُم وإن نَطَقَ العوْراء َ‬
‫وإن حــدَثـــوا أدَوْا بـــحُـــســـن بـــيانِ‬ ‫خشَ سوءُ استماعهم‬ ‫حدّثوا لم يُ ْ‬ ‫إذا ُ‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫طفِ الخصر مَياسِ‬ ‫دقيق ال َمعَانِي مُخْ َ‬ ‫وعا ِقدِ زُنارٍ علـى غُـصُـن السِ‬
‫ب َفمَ الْكاسِ‬ ‫ك عن َثغْرِ ا ْلحَبا ِ‬ ‫حَ‬‫فأَضْ َ‬ ‫سقاني عُقاراً صَب فيها مِزَاجـهـا‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حدَاثه‪ ،‬كُونـي بـل فَـجْـرِ‬ ‫أْ‬ ‫يا ليل ًة نَسِيَ الـزمـانُ بـهـا‬
‫فيها الصبّا بمواقع القَـطْـرِ‬ ‫فاح المساء ببدرهـا‪ ،‬وَوَشَـتْ‬
‫ت من الدَهْرِ‬ ‫ط ْ‬ ‫في حيث ما سق َ‬ ‫ثم انقضت والقَلْب يَ ْتبَـعُـهـا‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل يملكون لِسلْوة قَلْبـاً‬ ‫يا رُب إخوانٍ صحبتهمُ‬
‫حبّـا‬‫أجسامهم فتعانقت ُ‬ ‫لو تستطيع قلوبُهم نَفَ َرتْ‬
‫هذا كقول ابن الرومي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إليه‪ ،‬وهل َبعْد ال ِعنَاق تَدَاني؟‬ ‫س بَ ْعدُ َمشُـوقَةٌ‬
‫أعانقه والنف ُ‬
‫فيشتد ما ألقى من الهَيمـان‬ ‫وألثم فاه كي تَزُولَ حَرَارَتي‬

‫ليرويَهُ ما ترشُفُ الشَـفَـتـان‬ ‫ولم يك مِ ْقدَارُ الذي بي مِنَ ا ْلهَوَى‬


‫سوى أن يُرَى الروحان يمتزِجَان‬ ‫كأن فؤادي ليس يشفي غلـيلـه‬
‫ن يُسافرون في المودَة‪ ،‬حتى يبلغوا الشُقة‪ ،‬فإذا بلغوها أَلْقوا عَصا التّسيار‪ ،‬واطمَأنّتْ بهما الدار‪ ،‬وأقبلت وفودُ‬ ‫خوَا ُ‬
‫ومن منثوره‪ :‬ل يزالُ ال ْ‬
‫عقَد التحفّظ‪ ،‬ونزعوا ملبس التَخَلُق‪.‬‬ ‫النصائح‪ ،‬وأمنت خَبايا الضمائر‪ ،‬فحلُوا ُ‬
‫وله‪ :‬سار فلن في جيوش عليهم أر ِديَة السيوف‪ ،‬وَأقْمصَةُ الحديد‪ ،‬وكأنّ ِرمَاحَهم قرونُ الوُعْولِ‪ ،‬وكأنّ دروعَهم َزبَدُ السيولِ‪ ،‬على خيل تأكُل‬
‫غرَر كأنها صحائف الرق‪ ،‬وأمسكها تحجيلٌ كأنه أَسْورة اللّجين‪ ،‬و ُقرّطت‬ ‫الرض بحوافرها‪ ،‬وتمدّ بالنّقْع سُرَادِقَها‪ ،‬قد نُشرت في وجوهها ُ‬
‫شنْف‪ ،‬تتلقّف العداء أوائلُه ولم تَ ْنهَض أواخره‪ ،‬قد صُب عليهم وقار الصبر‪ ،‬وهبّت معهم ريح النّصر‪.‬‬ ‫عذُراً كأنها ال َ‬
‫وله في عليل‪ :‬آذنَ الُّ في شفائك‪ ،‬وتَلَقى داءك بدوائك‪ ،‬ومسحَ بيدِ العافي ِة عليك‪ ،‬ووجه َو ْفدَ السلمة إليك‪ ،‬وجعل عِلّتك ماحية لذنوبك‪ ،‬مضاعفَةً‬
‫لثوابك‪.‬‬
‫ل بن سليمان بن وَهب في يوم عيد‪ :‬أَخّرتْني العِلّةُ عن الوزير أعزه الّ‪ ،‬فحضرت بالدعاء في كتاب لينوبَ عنيّ‪ ،‬و َي ْعمُر ما‬ ‫وكتب إلى عبيد ا ّ‬
‫ب ويُحَبّ‬‫ح ُ‬ ‫ل هذا العيدَ أعْظَ َم العياد السالفة بركةً على الوزير‪ ،‬ودون العياد المستَ ْقبَلة فيما يُ َ‬ ‫ل تعالى أن يجع َ‬ ‫أخَْلتْه العوائِقُ مني‪ ،‬وأنا أسألُ ا ّ‬
‫له‪ ،‬ويَقْبل ما توسّل به إلى مَرْضَاته‪ ،‬ويضاعفَ الحسان إليه‪ ،‬على الحسان منه‪ ،‬ويمتّعه بصحبة النعمة ولباسِ العافية‪ ،‬ول يُ ِريَهُ في مسرَةٍ‬
‫نقصاً‪ ،‬ول يقطع عنه َمزِيداً‪ ،‬ويجعلني من كل سو ًء فِدَاء‪ ،‬ويصرف عيون ال ِغيَ ِر عنه‪ ،‬وعن حظّي منه‪.‬‬
‫حسْنَ الظّفَر بقُبح النتقامِ‪ ،‬وتجاوز عن كل ُم ْذنِب لم يَسْلكْ من العذار طريقاً حتى اتّخذ من رجاء عَفْ ِوكَ رفيقاً‪.‬‬ ‫وله إلى بعض الرؤساء‪ :‬ل تَشِنْ ُ‬
‫جنِه‪ ،‬وألتَمس‬ ‫ت بَرِيئاً‪ ،‬وتفضل بالعفو إن كنتُ مسيئاً‪ ،‬فوالّ إني لطلب عَف َو ذَنبٍ لم أ ْ‬ ‫ع َبيْدِ الّ‪ :‬ترفّع عن ظُ ْلمِي إن كن ُ‬ ‫وله اعتذار إلى القاسم بن ُ‬
‫‪50‬‬
‫حرُسها بوفائك من باغٍ يحاولُ إفسادها‪،‬‬ ‫ش َيكِيدُهَا‪ ،‬وأ ْ‬ ‫القالةَ مما ل أعرفه؛ لتزدَاد تط ّولً‪ ،‬وأزداد تَذَلُلً؛ وأنا أُعِيذُ حالي عندك بكرمك من وا ٍ‬
‫ق منك‪.‬‬ ‫ستَح ّ‬‫ل تعالى أنْ يجعلَ حظّي منك‪ ،‬بقدر ودّي لك‪ ،‬ومحلّي من رجائك‪ ،‬بحيث أ ْ‬ ‫وأسأل ا ّ‬
‫سمْعِ الوزير ونَظَره‪ ،‬ولم أشغل وَجْهًا من ِفكْره‪ ،‬وما زالت الشكوى‪ ،‬تُغرِبُ عن‬ ‫ت مَوض ٌع يَسعُ حالي لخففْت عن َ‬ ‫صمْ ِ‬‫وله إليه‪ :‬لو كان في ال ّ‬
‫ستْر أمْرِيَ حتى خذلني‪.‬‬ ‫صمْتِ هََل َكتُه‪ ،‬وقد كان الصبرُ ينصرُني على َ‬ ‫لسان البَلْوَى‪ ،‬ومن اختلّت حالته‪ ،‬كان في ال ّ‬
‫ل أن يكونَ بالشاكي انقباض‪ ،‬وبالمشكُوّ إليه إعْرَاض‪.‬‬ ‫وهذا كقول أحمد بن إسماعيل‪ :‬فصاحةُ الشكوى‪ ،‬على َقدْرِ البلوى‪ ،‬إ ّ‬
‫في باب الوصف‬
‫وقد أحسن أبو العباس بن المعتز في صفة الماء في أرجوزته التي أنشدتها آنفاً‪ ،‬وقد قال في قصيدة له وذكر إبِلً‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫بِ ِر ماء صافي الجِمام عَرِيّ‬ ‫فتبدّى لهنّ بالنّجَـفِ الـمُـدْ‬
‫َء َقذَاه فَمتْـنُـه مَـجْـلـيّ‬ ‫حصًى يَسُْلبُ الما‬ ‫يتمشّى على َ‬
‫خِلْته ُكسّرت عليه ا ْلحُـلـيّ‬ ‫وإذا داخلتـه دُرّة شَـمْـسٍ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫يا دارُ‪ ،‬جـادكِ وَابِـلٌ وسَـقــاكِ‬ ‫ل مثْل منـزلة الـدُوَيرةِ مـنـزلٌ‬
‫ح من قلبي الهوى ومَـحَـاكِ‬ ‫لم َيمْ ُ‬ ‫بُؤسًا لدَهْـرٍ غَـيّرتْـكِ صـروفُـهُ‬
‫ذُمَ المـنـازل كـلّـهـنّ سِـوَاكِ‬ ‫ل للعينين بـعـدك مـنـظَـرٌ‬ ‫حُ‬ ‫لم يَ ْ‬
‫ُممْسـاك بـالصـال أم مَـعْـدَاكِ‬ ‫ك أنْـدُبُ طِـيبَـهُ‬ ‫أي المعاهد منـ ِ‬
‫أم أرضـك الـمـيثــاء أم َريّاكِ‬ ‫أم بَرد ظلّك ذي الغصون وذي الجنى‬
‫أو فُتّ فأْرُ المسـكِ فـوق ثَـراكِ‬ ‫وكأنما سطعت مجامـرُ عـنـبـرٍ‬
‫وكـأن مـاءَ الـو ْر ِد دَمْـ ُع نَـداكِ‬ ‫صبَاءُ أرضِـكِ جَـوْهَـرٌ‬ ‫ح ْ‬ ‫وكأنما َ‬
‫ت ثياب ال َوشْي فوق رُباك‬ ‫نشَرَ ْ‬ ‫وكأنما أيدي الربيع ضُـحـيّة‬
‫جرَتْ عليه صبَاكِ‬ ‫ماءُ الغدير َ‬ ‫وكأن دِرْعًا ُمفْرغًا من فِـضة‬
‫وعشقت عاتكة المرية ابنَ عمّ لها فراودها عن نفسها فقالت‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تحدَر عن غرّ طـوالِ الـذوائبِ‬ ‫طعْمَ ماءً أيّ ماء تـقـولـهُ‬ ‫فما َ‬
‫ف من كل جانبِ‬ ‫عليه رياحُ الصي ِ‬ ‫بمنعرَج من بَطْنِ وَادٍ تقـابـلـتْ‬
‫عيْب تَرَاهُ لِـشَـاربِ‬ ‫فما إن به َ‬ ‫نَفَتْ جَ ْريَةُ الماء ال َقذَى عن متُونِه‬
‫تُقَى الّ واستحيا ُء َبعْضِ العواقبِ‬ ‫ف دونَهُ‬ ‫ب ممن يقِصر الطّ ْر َ‬ ‫بأطي َ‬
‫حسَن ما قيلَ في معناه‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وأنشد الصمعي قال‪ :‬أنشدني أبو عمرو بن العلء لجابر بن الرق‪ ،‬وقال‪ :‬هو أ ْ‬
‫ض مَا ِربِ‬ ‫على شَ ْربَةٍ من ماء أحْوَا ِ‬ ‫ح نَفْسِي كلّما الْتحْـتُ لـوحةً‬ ‫أيا َويْ َ‬
‫مصقلة الرْجاءِ زُرْق المَشَـارِبِ‬ ‫بقايا نِطَافٍ أ ْودَع الغيم صَـفْـوهـا‬
‫عليهن أنْفَاسُ الـرياح الـغـرائبِ‬ ‫ن فيهنّ وا ْلتَـوَتْ‬ ‫ق َدمْعُ المُزْ ِ‬
‫تَ َرقْرَ َ‬
‫وأنشد إسحاق بن إبراهيم للُبيْرِد اليربوعي‪ ،‬ورويت لمضرس بن رِبعي السدي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ق مَحَافِرُهْ‬ ‫عذْبِ الماء ُزرْ ٍ‬ ‫بأرجاءَ َ‬ ‫خيّمت‬ ‫فأ ْلقَت عَصا التسيَا ِر عنها‪ ،‬و َ‬
‫يروحُ عليه ناسمـًا ويُبـاكِـرُهْ‬ ‫أزال الْقذَى عن مائه وَا ِفدُ الصبّـا‬
‫وأول من أتى بهذا زهير بن أبي سُلْمى في قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عصِي الحاضِرِ المتَخَيمِ‬ ‫ضعْن ِ‬ ‫َو َ‬ ‫فلما َو َردْنَ الماءَ ُزرْقاً جِمامُـهُ‬
‫وقال ابن الرومي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫من الريح مِعطارُ الصائِل وال ُبكَـرْ‬ ‫وماء جََلتْ عن حُر صفحته الْـقَـذَى‬
‫جرِي على النوْر والزَهَرْ‬ ‫نسيم الصبا ي ْ‬ ‫عبَق ممَـا تـسَـحَـبَ فـوقَـهُ‬ ‫به َ‬
‫وصف الدور والقصور‬
‫ويتعلق بهذا الباب قولُ البحتري يصف بِركة الجعفري وهو قصر ابتناه المتوكل في سر من رأى‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ت مَـغَـانـيهـا‬ ‫ح ْ‬ ‫ت إذَا لَ َ‬‫والنسا ِ‬ ‫يا من رَأى البركَةَ الحسنا ورونَقها‬
‫حسْنِ طوْراً وأطوَارًا تُباهيها!‬ ‫في ال ُ‬ ‫ما بالُ دجلةَ كال َغيْرَى تُنافِـسُـهـا‬
‫ن مَصقولً حَوَاشيهـا‬ ‫مثلَ الجواشِ ِ‬ ‫إذا علتْها الصبا أ ْبدَت لها حُـبْـكـاً‬
‫ورَيقُ الغَيثِ أحيانـَا يُبـاكـيهـا‬ ‫فحاجبُ الشمس أحيانًا ُيغَـازِلُـهـا‬
‫َليْلً حَسبتَ سماءً رُكبَـتْ فـيهـا‬ ‫إذا النجومُ ترا َءتْ في جوانـبـهـا‬
‫من السبائك تَجْري في مَجاريهـا‬ ‫كأنما الفِضةُ الـبـيضـاء سـائلة‬
‫حبْل مُجريهـا‬ ‫كالخيل خارج ًة من َ‬ ‫ب فيها وفودُ الماء مُـعـجَـلةً‬ ‫تنص ّ‬
‫عهَا فأدقُوا في مَـعَـانـيهـا‬ ‫إبدا َ‬ ‫كأن جِن سلـيمـان الـذين وَلُـوا‬
‫ح تمثيلً وتشبيها‬ ‫قالت‪ :‬هي الصَ ْر ُ‬ ‫فلو َتمُ ُر بها بِلْقيسُ عـن عُـ ُرضٍ‬
‫ل ُب ْعدِ ما بين قاصـيهـا ودانـيهـا‬ ‫ل يَبلُغُ الس َمكُ المقصورُ غايتـهـا‬
‫كالطَير تنشر في جوّ خَوَافـيهـا‬ ‫ط مُـجَـنّـحة‬ ‫َيعُمْنَ فيها بـأَوْسَـا ٍ‬

‫‪51‬‬
‫ولم ُينْفِق أح ٌد من خلفاء بني العباس في البناء ما َأنْ َفقَه المتوكل؛ وذلك أنه أنفق في أبنيته ثلثمائة ألف ألف‪ ،‬وفي أبنيته يقول علي بن الجهم‪:‬‬
‫المتقارب‪:‬‬
‫خطَارِها‬ ‫ك َتبْني على َقدْرِ أ ْ‬ ‫َ‬ ‫وما زِلتُ أسمَع أنّ الملـو‬
‫ل ُيقْضى عليها بآثـارهـا‬ ‫وأعلمُ أنَ عقـولَ الـرجـا‬
‫حسِر من بُعْد أقْطَارِهـا‬ ‫فتَ ْ‬ ‫ن تسافر فيها العُـيون‬ ‫صُحو ٌ‬
‫سرَارهـا‬ ‫م تُفضِي إليها بأ ْ‬ ‫وقبّة مَلْك كـأنّ الـنـجـو‬
‫سنَا نَارِهـا‬ ‫أضاء الحِجازَ َ‬ ‫إذا أُو ِقدَت نَارُها بالعـراق‬
‫كساها الرّياض بأنْوَارِهـا‬ ‫لها شُرُفات كأنّ الـربـيع‬
‫لِفصْح النصارى وإفطارها‬ ‫خرَجْـنَ‬ ‫فهنّ كمصطحباتٍ َ‬
‫بعُونِ النساءَ وأبْكارِهـا‬ ‫نظمن القسِيَ كنظم الحلى‬
‫عقْد ُزنّارهـا‬‫ومُصلحة َ‬ ‫شعْرَها‬‫فمن بين عاقصةٍ َ‬
‫وللبحتري فيها شعر كثير منه‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ت التـمـامـا‬ ‫مصانعها وأكمل ِ‬ ‫أرى المتوكِّليّة قـد تـعـالَـتْ‬
‫ضئْنَ للساري الظّلمـا‬ ‫َي َكدْنَ يُ ِ‬ ‫قُصورٌ كالكواكـب لمِـعَـاتٌ‬
‫حوْذانِ ُينْشَرُ والخُزَامى‬ ‫جنَى ال َ‬‫َ‬ ‫ض ِمثْلُ بُ ْردِ ال َوشْـي فـيه‬ ‫ورو ٌ‬
‫جنَى الزّ ْهرِ الفُرادَى والتؤامـا‬ ‫َ‬ ‫ب من فنون النوْرِ فـيهـا‬ ‫غرائ ُ‬
‫عليه الغيم ينسجمُ انسـجـامـا‬ ‫حكُها الضّحى طوراً وطَوراً‬ ‫تُضَا ِ‬
‫ت لهـا غَـمـامـا‬ ‫بِ َريّقِهِ لكن َ‬ ‫ولو لم يستهـل لـهـا غَـمـامٌ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ِل َيتِمّ إلّ للـخـلـيفةِ جَـعْـفَـرِ‬ ‫قد تمّ حُسْنُ الجعفريّ ولـم يكـن‬
‫حضَـرِ‬ ‫في خير مبْدًى للَنا ِم ومَ ْ‬ ‫ملكٌ تبـوّأَ خَـيْرَ دارٍ أُنـشِـئت‬
‫ب بعَـنْـبَـرِ‬ ‫سكٌ يُشَا ُ‬‫وترابُها ِم ْ‬ ‫ش ِرفَةٍ حَصاها لُؤلـؤ‬ ‫أفي رأس مُ ْ‬
‫ومضيئةٌ والليلُ ليس ِبمُـقْـمِـرِ‬ ‫ضرّةٌ والغيثُ ليس بسَـاكـب‬ ‫مُخْ َ‬
‫ظلّ الغمام الصيّب المستعـبـر‬ ‫ِ‬ ‫ت ب ُمنْخَرقِ الرياح‪ ،‬وجاورتْ‬ ‫رفع ْ‬
‫وبعده‪:‬‬
‫ضيْبَر‬‫ضوَى أو شواهقُ َ‬ ‫أعلمُ رَ ْ‬ ‫ت ُبنْـيانـًا كـأنّ زُهـاءَه‬ ‫و َر َفعْ َ‬
‫ن منه إلى بياضِ المشتري‬ ‫َينْظُرْ َ‬ ‫ظ العيونِ كأنـمـا‬ ‫حِ‬ ‫عالٍ على لَ ْ‬
‫شُرفاتُ ُه قِطَعَ السحابِ ال ُممْطِـر‬ ‫ملت جوانِبُهُ الفضاءَ‪ ،‬وعا َنقَـتْ‬
‫من لُجّة ُفرِشت ورَوْضٍ أَخْضَر‬ ‫حتَـه فـفِـنـاؤه‬ ‫وتسيلُ دجلةُ ت ْ‬
‫أعطافُهُ في سَائحِ متـفـجّـرِ‬ ‫ح فتنـثـنـي‬ ‫شج ٌر تُلَعِبُهُ الريا ُ‬
‫أخذ أبو بكر الصنبوري قولَ البحتري في صفة البركة فقال يصف موضعاً‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫بَطِيءُ ال ّرقُوء إذا ما سَ َفكْ‬ ‫سقى حلباً سافِك دَمـعـهُ‬
‫وساحاتُه بينهنّ الـبِـ َركْ‬ ‫طهُن الـرياض‬ ‫مَيادينُه بس ُ‬
‫شبَـكْ‬ ‫درُوعًا مُضَاعَفةً أو َ‬ ‫ترى الريح َتنْسِج من مـائه‬
‫ن بها فد سبـك‬ ‫جيْ ِ‬
‫وماء اللُ َ‬ ‫كأن الزجاجَ عليهـا ُأذِيب‬
‫مكانَ الطيو ِر يَطِيرُ السمكْ‬ ‫هي الجوّ من رقَة غير أن‬
‫فمفترق النّظم أو مشتبِـك‬ ‫ظمَ الزهر نظم النجوم‬ ‫وقد نُ ِ‬
‫حبُـكْ‬ ‫ودبجَ وجهَ السماء ال ُ‬ ‫كما درَج الما َء مَر الصبـا‬
‫و َنقْشَ عَصائبها والتكَـكْ‬ ‫ُيبَاهِين أعل َم ُقمْصِ القيان‬
‫وأخذ قوله‪:‬‬
‫جوَانبها‬ ‫إذا النجُوم ترا َءتْ في َ‬
‫فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بدجله في تشرين في الطولِ والعرْضِ‬ ‫ولما تعالى الـبـد ُر وامـتـدّ ضـوؤُه‬
‫سنَا بَـعْـضِ‬ ‫وبعضُ نجوم الليل يَ ْقفُو َ‬ ‫وقد قابل الماء المـفـضّـض نـورُه‬
‫ك مِنْ ظاهِرِ الرضِ‬ ‫يرى باطن الفل ِ‬ ‫تّوهم ذو الـعـين الـبـصـيرة أنـه‬
‫ولهل العصر في هذا النجْوم كلم كثير‪ :‬قال المير أبو الفضل الميكالي‪ ،‬يصف بركة وقع عليها شعاع الشمس فألقته على َمهْو مطل عليها‬
‫يقول‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫نورًا من الشمس في حافاتها سطعَا‬ ‫أما ترى البركة الغرّاء قد َلبِـسَـتْ‬
‫ك في دَسْـتِـه ارتـفَـعَـا‬ ‫كأن ُه مل ٌ‬ ‫وال َمهْو من فوقها يُ ْلهِيك مـنـظَـرُه‬
‫ج مُلْـتَـمِـعـا‬ ‫أعلى سماواته فارت َ‬ ‫والماء من تحته ألقى الشعاع علـى‬

‫‪52‬‬
‫سعَى‬ ‫كفّ الكمي إلى ضَرْبِ الكميَ َ‬ ‫ل تُـقـلـبـه‬ ‫ف مصقـو ً‬ ‫كأنه السي ُ‬
‫وقال علي بن محمد اليادي يمدح المعز ويصف دار البحر بالمنصورية‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫على النجم واشتدَ الرواق المـروّقُ‬ ‫جدُ واستولت البُنـي‬ ‫ولما استطال المَ ْ‬
‫ف مُونِقُ‬ ‫لها منظ ٌر يُزْهى به الطّرْ ُ‬ ‫بنى قبةً للملـك فـي َوسْـطِ جَـنّة‬
‫ي نُطّـقُ‬ ‫َفخُضْرٌ‪ ،‬وأمّا طيرها َفهْ َ‬ ‫بمعشوقة الساحات‪ ،‬أمَا عِراصُهـا‬
‫ترى البحر في أرجائه وهو ُمتْأق‬ ‫ص ٍر ذي قصُو ٍر كـأنـمـا‬ ‫تحف بقَ ْ‬
‫تَخُب بقصريهَا العيون وتُـعْـنِـقُ‬ ‫له بركةٌ للمـاء مِـلْء فَـضَـائِه‬
‫حُسَامٌ جَلَه الْ َقيْنُ بالرض مُلصَقُ‬ ‫ل َينْصَب فـيهـا كـأنـهُ‬ ‫جدْو ٌ‬
‫لها َ‬
‫كما قام في فَيض الفرات الخَوَ ْرنَقُ‬ ‫لها مَجلس قد قام في وَسْط مائِهـا‬
‫صفَتْ أرجاؤه فهـو أزرقُ‬ ‫زجاج َ‬ ‫كأنّ صفاءَ الماء فيها وحُـسْـنـهُ‬
‫رأيتَ وجوهَ الزنج بالنار تُـحْـرَقُ‬ ‫إذا بث فيها الليلُ أشْخاص نَجْـمِـه‬
‫ف ِرنْد على تاج المُـعـزّ وروْنـقُ‬ ‫وإن صافحتْها الشمس لحَتْ كأنهـا‬
‫عذَارَى عليهنَ المُلءُ الممَنْـطَـقُ‬ ‫َ‬ ‫كأن شُرافات المَقاصر حـولـهـا‬
‫صحَان الم َرقَرقُ‬ ‫صحْ َ‬ ‫كما ذاب آلُ ال َ‬ ‫يذوب الجفاء الج ْعدُ عن َوجْهِ مائهـا‬
‫وقال عبد الكريم بن إبراهيم‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫والشمس كالدّنِف المعشوقِ في الُفق‬ ‫ت بـينـهـم‬ ‫ح ُ‬ ‫صدْق رُ ْ‬ ‫ب فتيان ِ‬ ‫يا ر ّ‬
‫تروح الغُصُن الممْطُور في الوَرق‬ ‫حسْرى شمائلـهـا‬ ‫مَرْضَى أصائلها َ‬
‫ع ْقدَ مرجان مـن الـنَـزَقِ‬ ‫تقلّدت ِ‬ ‫معاطياً ش ْمسَ إبـريق إذا مُـزجَـت‬
‫كأنما َنفْسُه صِيغَتْ مـن الْـحَـدَق‬ ‫عن ماحِل طافحٍ بالماء مُـعْـتـلِـج‬
‫فالماء ما َبيْنَ محبوس و ُمنْـطَـلـق‬ ‫ضمُهُ الرَيحُ أحـيانـاً‪ ،‬وتـفَـ ْرقُـهُ‬ ‫تَ ُ‬
‫وأبيض تحت َقيْظِيّ الضحَـى يَقَـق‬ ‫مِنْ أخضر ناضر والطّل يلـحـقـه‬
‫ق فؤادِ العاشق القـلِـقِ‬ ‫خفْ َ‬
‫للزجر َ‬ ‫تهزهُ الريح أحيانـًا فـيمـنَـحُـهـا‬
‫ت مِنْ لؤلـؤ نَـسَـق‬ ‫مَناطقاً رُصعَ ْ‬ ‫كأنّ حافاتِـ ِه نُـطّـقـن مـن َزبَـد‬
‫حسناء مَجْلُوّةُ اللبـات والـعُـنُـقٍ‬ ‫كأن َقبّتـه مـن سُـنْـدُسِ نـمـط‬
‫حسبته فرسـاً دهـاء فـي بَـلـق‬ ‫إذا تبلَـج فَـجْـرٌ فـوق زُ ْرقَـتِـه‬
‫ق من مَـائِهِ شـرقِ‬ ‫فلح في شار ٍ‬ ‫أو لزَ َورْداً جَرَى في َمتْنِـ ِه ذَهَـب‬
‫لفُـقِ‬‫ل ُي َمدّدُ أطنـابـاً عـلـى ا ُ‬‫لي ٌ‬ ‫عشيّة كملت حُسـنـاً وسـاعـدَهـا‬
‫ت من كَرمٍ وافٍ ومن خُلُـقِ‬ ‫ما شئ َ‬ ‫تجلى بغُرّةِ وَضاح الـجَـبِـين لـه‬
‫ألفاظ لهل العصر في وصف الماء‬
‫وما يتصل به‬
‫سبْحَ النضْناض‪،‬‬ ‫ماء كالزّجاج الزرق‪ ،‬غدير كعين الشمس‪ ،‬مَوَارِد كالمَبَارِد‪ ،‬وماء كلسان الشمعة‪ ،‬في صفا ِء ال َد ْمعَة‪ ،‬يسبح في الرّضْرَاض‪َ ،‬‬
‫س الدّرْع‬‫لسِلَ الفضّة‪ ،‬ماء إذا صافحته رَاحة الريح‪ ،‬لب َ‬ ‫ستْه َيدُ النسيم حكى سَ َ‬
‫سنّور‪ ،‬صاف كقضيب البلور‪ ،‬ماء إذا م ّ‬ ‫ماء أزرق كعين ال ّ‬
‫كالمسيح‪ ،‬كأنّ ال َغدِي َر بترابِ الماء رداء مُصندل‪ ،‬بركة كأنها مرآة السماء‪ ،‬بركة مَفْرُوزةٌ بالخضرة‪ ،‬كأنّها مِرآة مجلوّة‪ ،‬على ديباجة خضراء‪،‬‬
‫ت عليه أنفاسُ الرياح الغرائب ماء زرق حِمامُه‪ ،‬طامية أرجاؤه‪،‬‬ ‫بركة ماء كأنها مِرآةُ الصّناعِ‪ ،‬غدير ترقرقت فيه دموعُ السحائب‪ ،‬وتواترَ ْ‬
‫صبَاؤه‪ ،‬ماء كأنما يفقده مَنْ يَشْهده‪ ،‬يتسَ ْلسَلُ كالزرافين‪ ،‬ويرضع أولد الرّياحين‪ ،‬انحلّ عقدُ السماء‪،‬‬ ‫َيبُوحُ بأسْرَاره صفاؤه‪ ،‬وتلوحُ في قراره حَ ْ‬
‫ش ْريَانُ الغَمامِ‪،‬‬
‫خيْطُ السماء‪ ،‬وانقطع ِ‬ ‫سعَد السحابُ جفونَ العُشَاق‪ ،‬وأكُفّ الجواد‪ ،‬وانحلّ َ‬ ‫ووَهَى عقد النْوَاء‪ ،‬انحلّ سلكُ القطر عن دُرّ البَحْر‪ ،‬أ ْ‬
‫ضلُوعه‪ ،‬سحابة تحدو من‬ ‫سحابة يتجلّى عليها ماءُ البحر‪ ،‬وتفضُ علينا عقو َد الدّر‪ ،‬سحابٌ حكى المحبّ في انسكاب دموعِه‪ ،‬والتهاب النا ِر بين ُ‬
‫ل المطارَ أمواجاً‪ ،‬والمواجَ أفواجاً‪ ،‬تحللت عقد السماء بالدّيمة الهَطْلء‪ ،‬غيث أجشّ يروي‬ ‫الغيوم جمالً‪ ،‬وتمدّ من المطار حِبالً‪ ،‬سحابة ترس ُ‬
‫ك من‬ ‫حُ‬ ‫ضَ‬
‫ب والكام‪ ،‬ويُحيي النبات والسّوَام‪ ،‬غيث كغزارة فضِلكَ‪ ،‬وسلسة طبعك‪ ،‬وسلمة عقدك‪ ،‬وصفاء ُودّك‪َ ،‬وبْل كالنبل‪ ،‬سحابهٌ ي ْ‬ ‫الهِضَا َ‬
‫ف أنينها‪ ،‬ديمة رَوّت أديمَ الثرى‪ ،‬ونبهت عيونَ النوْرِ من ا ْلكَرى‪،‬‬ ‫سوَادها الرض‪ ،‬سحابة ل تجف جفونُها ول يَخ ّ‬ ‫بُكائها الرَوْض‪ ،‬و َتخْضَر من َ‬
‫ل معها على البيوت بالثبُوت‪ ،‬وعلى‬ ‫حتْ كَأفْوَاه الجراح‪ ،‬مطر كأفْواه القِرَب‪ ،‬ووَحل إلى الركب‪ ،‬أ ْندِية مَنّ ا ّ‬ ‫عنَاق الرياح‪ ،‬وسَ َ‬ ‫سحابة ركبت أ ْ‬
‫جنّة‪.‬‬‫حدِرُ انحداراً‪ ،‬ويحمل أحجاراً وأشجاراً‪ ،‬كأن به جِنة‪ ،‬أو في أحشائه أ ِ‬ ‫ل يَنْ َ‬
‫السقوف بال ُوقُوف‪ ،‬أقْبل السّي ُ‬
‫وبعض ما م ّر من هذه اللفاظ محلول نظام ما تقدّم إنشاده‪.‬‬
‫ولهم في مقدمات المطر‬
‫سرَادق الغَيم‪ ،‬ولبس الج ّو مُطْ َرفَ ُه الدكَنَ‪ ،‬باحت الريحُ بَأسْرارِ الّندَى‪،‬‬ ‫لبست السماءُ جلبَابها‪ ،‬وسحبت السحائِبُ أذيالها‪ ،‬قد احتجبت الشمسُ في ُ‬
‫شرَ النسيم بالندى‪ ،‬واستعدت الرضُ للقطر‪ ،‬هبّت‬ ‫وضربت خيمَة الغمام‪ ،‬ورشّ جيش النسيم‪ ،‬وابتلّ جناحُ الهواء‪ ،‬واغرورقت مُقْلة السماء‪ ،‬وبَ َ‬
‫ستُور على النجوم‪.‬‬ ‫شمائل الجنائِب‪ ،‬لتأليف شمل السحائب‪ .‬تألّفت أشتاتُ الغيوم‪ ،‬وأسبلت ال ّ‬
‫وفي الرعد والبرق‬
‫عدُ‬
‫عدِ‪ ،‬ونبض عِرْق البَرْقِ‪ ،‬سحابة ارتجزت رَوَاعدها‪ ،‬وأذهبت ببروقها مطاردها‪ ،‬نطقَ لسانُ الرعد‪ ،‬وخفق قَ ْلبُ البرق‪ ،‬فالر ْ‬ ‫قام خطيبُ الرّ ْ‬
‫ق عن قهقهة الرعد‪ ،‬زأرت أسْد الرعد‪ ،‬ولمعت سيوف البَ ْرقِ‪ ،‬رعدت سيوفُ الغمائم‪ ،‬وبَ َر َقتْ‪ ،‬وانحلّت‬ ‫ق ذو َلهَبٍ‪ ،‬ابتسم البَ ْر ُ‬ ‫خبٍ‪ ،‬والبَرْ ُ‬ ‫ذو صَ َ‬
‫عَزَاليُ السماء فطبقت‪َ ،‬هدَرت رَوَاعِدها‪ ،‬وقربت أبَاعدها‪ ،‬وصدقت مَوَاعدها‪ ،‬كأن البرق قلب مَشُوق‪ ،‬بين التهاب وخُفُوق‪.‬‬
‫ويتصل بهذه النحاء‬
‫‪53‬‬
‫ما حكاه عمر بن علي المطوعي قال‪ :‬رأى المير السيد أبو الفضل عبيد الّ بن أحمد ‪ -‬أدام ال عزّه! ‪ -‬أيام مُقامِهِ بجُ َويْن أن يطالع قري ًة من‬
‫صحِية‪،‬‬ ‫قرى ضيَاعه تدعى نجاب على سبيل التنزّه والتفرّج‪ ،‬فكنت في جملة مَن استصحبه إليها من أصحابه‪ ،‬واتفق أنّا وصلنا والسماء مُ ْ‬
‫والجوّ صاف لم يطرز ثوبه بعلم الغمام‪ ،‬والفق ًفيْرُوزَج لم يعبق به كافور السحاب؛ فوقع الختيار على ظل شجرة باسقة الفروع‪ ،‬متّسقة‬
‫الورق والغصون‪ ،‬قد سترت ما حواَليْها من الرْض طولً وعرضاً‪ ،‬فنزلنا تحتها مستظلّين بسَماوَةِ أ ْفنَانِها‪ ،‬مس َتتِرينَ من وَهَج الشمس بستارة‬
‫ت بعد ما‬ ‫عدَت وأبرقت‪ ،‬وأظلمَ ْ‬ ‫شدَة والمحاورة؛ فما شعرنا بالسَماء إلَ وقد أرْ َ‬ ‫أغصانها‪ ،‬وأخذنا نتجاذبُ أذيال المذاكرة‪ ،‬ونتسالب أ ْهدَاب المُنا َ‬
‫عيْثاً‪ ،‬وهَمّ‬
‫طرٍ كَأفْوَاه القِرَب فأَجادت‪ ،‬وحكت أنامل الجْوَاد ومدامع العشاق‪ ،‬بل أ ْوفَتْ عليها وزادت‪ ،‬حتى كاد غيثها يعود َ‬ ‫أشرقت‪ ،‬ثم جادت بمَ َ‬
‫َوبْلها أن يستحيل َويْلً‪ ،‬فصبرنا على أذاها‪ ،‬وقلنا‪ :‬سَحَابة صيفٍ عما قليل تَ َقشّع‪ ،‬فإذا نحن بها قد أمطرتنا بَرَدًا كالثغُورِ‪ ،‬لكنها من ثغور العَذَاب‪،‬‬
‫ل قد بلغ‬ ‫ل من الثغورِ العِذَاب‪ ،‬فأَيقنَا بالبَلَء‪ ،‬وسلَمنَا لسباب القضاء؛ فما مرت إل ساعة من النهار‪ ،‬حتى سمعنا خَرِيرَ النهار‪ ،‬ورأينا السيْ َ‬
‫سيْل بأفنيتها‪ ،‬وعائذين من القطر بأبنيتها‪ ،‬وأثوابنا قد صَندل‬ ‫حصْن القرية لئِذين من ال َ‬ ‫غمَرَ القِيعان والرُبى؛ فبادرنا إلى ِ‬ ‫ال ُزبَى‪ ،‬والماء قد َ‬
‫كافوريها ماءُ ال َوبْل‪ ،‬وغلَف طِرازيها طينُ ال َوحْل‪ ،‬ونحن نحمدُ ال تَعالى على سلمة البدان‪ ،‬وإن فقدنا بياضَ الكمام والردان‪ ،‬ونشكره على‬
‫سلمةِ النفس والرواح‪ ،‬شُكرَ التاجر على بقاء رأسِ المال إذا فجِع بالرباح؛ ف ِبتْنا تلك الليلة في سما ًء تكِفُ ول تكف‪ ،‬وتبكي علينا إلى‬
‫ل الغمام‪ ،‬رأينا صوابَ الرأي أن نوسِع‬ ‫ف بِوَالي الصحو عَامِ ُ‬ ‫الصباح بأدمعٍ َهوَام‪ ،‬وأربعة سِجام؛ فلما سُلّ سيفُ الصبح من غِمد الظلم‪ ،‬وصُ ِر َ‬
‫غبَا َر ذلك‬
‫ضنَا ُ‬‫ل عنها فَرْضاً؛ فما ِز ْلنَا نطوي الصحارى أرضًا فأرضاً‪ ،‬إلى أن وافينا المستقر ركضَاً؛ فلمّا َنفَ ْ‬ ‫القامة بها َرفْضاً‪ ،‬ونتخذ الرتحا َ‬
‫المسير‪ ،‬الذي جمعنا في ِربْقَةِ السير‪ ،‬وأفض ْينَا إلى ساحةِ التيسير‪ ،‬بعد ما أُص ْبنَا بالمر العسير‪ ،‬وتذاكَرْنا ما لقينا من التعب والمشقة‪ ،‬في قطع‬
‫ذلك الطريق وَطَي تلك الشقة‪ ،‬أخذ المير السيد ‪ -‬أطال ال بقاءه! ‪ -‬القلم فعلق هذه البيات ارتجالً‪ :‬المتقارب‬
‫بغيثِ على أفْق ِه مُسْـبِـل‬ ‫ده ْتنَا السماء غداة السحَـاب‬
‫كَرن ِة ثَكلى ولم تـثـكـل‬ ‫فَجَـاء بـرَعْـدٍ لـه رَنة‬
‫فعاد َوبَالً على ال ُممْـحِـل‬ ‫وثنى ب ًوبْـل عَـدا طَـورَه‬
‫على خطرٍ هائل ُمعْضِـل‬ ‫ن أذَاه‬ ‫وأشرف أصْحابُنَا مِـ ْ‬
‫وآوٍ إلى َنفَـق مُـهْـمَـل‬ ‫َفمِنْ ل ِئذٍ بِفِنـاءِ الـجِـدَار‬
‫خ ُمعْوِلِ‬ ‫هناك‪ ،‬ومن صار ٍ‬ ‫ومن مستجير ُينَادي‪ :‬الغريقَ‬
‫جدِ لم يهمـل‬ ‫ِب َدمْعٍ من ال َو ْ‬ ‫سمَاءُ السقوف‬ ‫وجادَتْ علينا َ‬
‫يَبيساً من الرض لم ُيبْلَـل‬ ‫حرَامًا لهـا أن تَـرَى‬ ‫كأن َ‬
‫فَأدْب َر كُلَ عن المُـقْـبِـل‬ ‫وأقبَـلً سـيْلٌ لـه رَوْعةٌ‬
‫حمِلِ‬ ‫وما يَلْق من صخر ٍة يَ ْ‬ ‫يُقلّعُ مـا شـاء مـن دَوْحَةٍ‬
‫حبْلَى ولم تـحـبـل‬ ‫أَجنّةَ ُ‬ ‫كأنَ بـَأحْـشـائِه إذ بَــدَا‬
‫جهَـل‬ ‫ومن ُمعْلَم عادَ كال َم ْ‬ ‫فمنْ عامـرٍ ردّة غـامـراً‬
‫فقد وجب الشكْرُ للمُ ْفضِلِ‬ ‫كفـانـا بـلـ ّيتَـه ربّـنـا‬
‫فإنّا رجعنا إلى المـنـزلِ‬ ‫فَقُلْ للسماء ارعُدي وابْرُقي‬
‫غمْدِ الظلم من قول أبي الفتح البستي‪ :‬الرمل‪:‬‬ ‫أخذ المطوعي قوله‪ :‬فلما سُلّ سيفُ الصبحِ من ِ‬
‫نُو َر ثَـغْـر أو مـدام أو نـدامِ‬ ‫رُب لـيل أغـمـد النـوار إلّ‬
‫غ ْمدِ الظلمِ‬ ‫سُل سيف الصبحِ مِنْ َ‬ ‫قد نعمـنـا بـدَيَاجـيه إلـى أن‬

‫وقال بعض أهل العصر‪ ،‬وهو أبو العباس الناشئ الطويل‪:‬‬


‫أم النار في أحشائها وهي ل تَدْرِي؟‬ ‫خليليّ‪ ،‬هل للمُزن مُقْـلةُ عـاشـق‬
‫وكاللؤلؤ المنثو ِر أ ْدمُعها تـجْـري‬ ‫أشارت إلى أرض العراق فأصبحتْ‬
‫ت له نحوَ الرياض على َقبْـرِ‬ ‫فعاجَ ْ‬ ‫ت َثكْلَى أُصيبَتْ بـواحـد‬ ‫سحاب حكَ ْ‬
‫مَطارفُها طرزًا من البَرْق كالتبـرِ‬ ‫تَسّربل وَشْيًا من حُزون تـطـرزتْ‬
‫ك بل َثغْـرِ‬
‫حٌ‬‫عيْن‪ ،‬وضِ ْ‬ ‫ودمْع بل َ‬ ‫فوشْي بـل رقـمٍ‪ ،‬ورقـم بـل يدِ‬
‫وقال آخر‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫شهُـ ْ‬
‫ب‬ ‫تَرامَى غواربه بال ُ‬ ‫ق شديد الوَميض‬ ‫ت لبَرْ ٍ‬
‫أر ْق ُ‬
‫سُطُور ُك ِتبْنَ بماءَ الذهبْ‬ ‫كأنَ تألُقه في الـسـمـاء‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫خليع من ال ِفتْيان يسحب مِئزَرا‬ ‫كأن الرّباب ا ْلجَوْنَ دون سحابهِ‬
‫تلفتَ واستل الحُسام المُذكَـرا‬ ‫إذا لحقته خيفةً مـن رعـودهِ‬
‫وقد قال حسان بن ثابت‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫نعامٌ تعلّـق بـالرْجُـل‬ ‫كأن الربّاب دُ َويْنَ السحاب‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫طنُ ْ‬
‫ب‬ ‫موصلة بالرض مُرْخاة ال ُ‬ ‫باكية يضحك فيهـا بـرقـهـا‬
‫جبْ‬‫كمثل طرف العين أو قلب ي ِ‬ ‫رأيت فيها برقهـا مـنـذ بـدا‬
‫منها لِيَ البرقُ كأمثال الشهـب‬ ‫جرت بها ريح الصبا حتى بـدا‬

‫‪54‬‬
‫أحشاؤها عنه شجاعاً يضطربْ‬ ‫تحسبه طوراً إذا ما انصـدعَـتْ‬
‫ق مَالَ جُـلّـهُ حـين َوثْـبْ‬
‫أبْلَ ُ‬ ‫وتـارة تـحـسـبـه كـأنـه‬
‫ل مفصولة من الـذهـبْ‬ ‫سلس ُ‬ ‫وتـارةً تـحـسـبـه كـأنـه‬
‫وقال الطائي‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫صار على رغم الدُجى َنهَارا‬ ‫يا سهمُ للبَرْقِ الذي استطـارا‬
‫آض لنا ماء وكـان نـارا‬
‫وينشد أصحاب المعاني‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫والنار تلفحُ عيداناً فتحترقُ‬ ‫نا ٌر تج َددُ للعينين نضرتُهـا‬
‫حوِ‪ ،‬ويذمّه في المطر‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫وقال ابنُ المعتز يمدح الشُرْب في الصَ ْ‬
‫عيْر والشَرْب تحتها في خرابِ‬ ‫َ‬ ‫أنا ل أشتهي سماءً كبطـن الْ‬
‫وجدارٍ ملقًـى وتَـل تُـراب‬ ‫ل مـاء‬ ‫سقْفٍ قد صار مُنخ َ‬ ‫بين َ‬
‫ن وإيقاعُ ُه بـغَـيْرِ صـوابِ‬ ‫وبيوت يوقّـع الـ َوكْـف فـيه‬
‫هِ سما ًء مَصقولةِ الجِـلْـبَـابِ‬ ‫إنما أشتهي الصّبوحَ علـى وَج‬
‫ض َندٍ جديدِ الشَبـابِ‬ ‫فوق رَوْ ٍ‬ ‫ونَسيم منَ الصبـا يتـمـشّـى‬
‫رٌ جََلتْـه حـدا ِئدُ الـضـرَاب‬ ‫وكأنّ الشمس المضـيئة دِينـا‬
‫طلَعتْ في ملءَة من شَـرابِ‬ ‫َ‬ ‫في غدَاة وكأسها مثلُ شـمـسٍ‬
‫َفهْيَ صَفْراء في قميص حَباب‬ ‫خلُـوقٍ‬ ‫ضمّخت ب َ‬ ‫أو عروس قد ُ‬
‫ب َتنَدَي ال ْوتَارِ والمـضـراب‬ ‫عذْر لـلـعـودِ فـيه‬‫وغناء ل ُ‬
‫ن ومَسْحِ القدام في كل بَـابِ‬ ‫ضرِ الطـي‬ ‫ونَقاء البساط من وَ َ‬
‫جاتنا في مجيئهم والـذّهـاب‬ ‫ونشاط الغلمان إن عرضَتْ حا‬
‫ضّ بأيدي الخلّن والصحابِ‬ ‫وجفاف الريحان والنرّجس الغ‬
‫وا بضغث ندى أنوف الكلب‬ ‫ل تندَى أنوفُهم كـلـمـا حُـي‬
‫من عَطاء ا ْل ُم َه ْيمِنِ الـوَهَـابِ‬ ‫ذاك يومٌ أراه غنْمـاً وحـظـاً‬
‫صنَ ْوبَري‪ :‬المتقارب‪:‬‬ ‫وقال ال ّ‬
‫وصبغ حَياً مثل صبغ الحيَا‬ ‫أنيس ظباءً بوحش الظـبـا‬
‫صَفاء الهوَى وصفاء الهوا‬ ‫ويوم تكلله الشـمـس مـن‬
‫وشمسِ الجنَانِ وشمسِ السَما‬ ‫س الدَنان وشمس القِـيانِ‬ ‫شمْ ِ‬‫بَ‬
‫شبِيهٌ بالبيات التي كتبها َثعْلب إلى أبي العباس بن المعتز لجميل قول الخر‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وَ‬
‫صلْصَل‬ ‫عن الوِرْد حتى جَ ْوفُها يت َ‬ ‫ج ُد مِلْواح من ال ِهيْمِ خُلَـيَتْ‬‫وما وَ ْ‬
‫أقاطي ُع أنْعام ُتعَـل وتَـنْـهَـلُ‬ ‫صيّ وحَوْلهـا‬ ‫تحوُم و َتغْشاها العِ ِ‬
‫إلى ال ِورْد إلّ أنني أتجمَلُ‬ ‫بأكثر ِمنَي لوعةً وصبابةً‬
‫وقال أبو حيّة النميري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن ل سبيلَ إلى الـوِ ْردِ‬ ‫لعيني ولكِ ْ‬ ‫كفى حَزَنًا أنّي أرَى الما َء ُمعْرَضاً‬
‫س كلّهم عِـنْـدي‬ ‫بكفّ أعزّ النا ِ‬ ‫وما كنت أخْشَى أن تكون منيّتـي‬
‫طنِه‪ ،‬فل‬‫قال ابنُ المقفّع‪ :‬كان لي أخ أعظم الناس في عيني‪ ،‬وكان رَأس ما عظمه في عيني صِغر الدنيا في عينه‪ ،‬وكان خارجاً من سلطان بَ ْ‬
‫ن فَرْجه‪ ،‬فل تدعوه إليه مؤنة‪ ،‬ول يتسخفّ له رأيًا ول بدناً‪ ،‬وكان ل يتأثر عند‬ ‫سلْطا ِ‬
‫يشتهي ما ل يجد‪ ،‬ول ُيكْثِر إذا وجد‪ ،‬وكان خارجاً من ُ‬
‫ِنعْمَةٍ‪ ،‬ول يستكينُ عند مصيبة‪ .‬وكان خارجًا من سُلْطانِ لسانه‪ ،‬فل يتكلَ ُم بما ل يعلم‪ ،‬ول يُماري فيما علم‪ ،‬وكان خارجاً من سُلْطانِ الجهالة‪ ،‬فل‬
‫ضعَفاً‪ ،‬فإذا جد الجدّ‪ ،‬فهو اللَيثُ عادياً‪ .‬وكان ل‬ ‫ل بَزَ القائلين‪ ،‬وكان ضعيفاً مست ْ‬‫يتقدَم أبداً إل على ثقة بمنفعة‪ ،‬وكان أكثر دَهره صامتاً‪ ،‬فإذا قا َ‬
‫عدُول‪ .‬وكان ل يلومُ أحدًا فيما يكونُ العُذْرُ في مثله‬ ‫يدخل في دَعْوَى‪ ،‬ول يُشا ِركُ في مِرَاء‪ ،‬ول ُيدْلي بحُجة حتى يَرَى قاضيًا فَهما‪ ،‬وشهوداً ُ‬
‫عذْرُه‪.‬‬
‫حتى يعلَم ما ُ‬
‫شكُو وجعه إل عند مَنْ يرجو عنده البُرْء‪ ،‬ول يستشيرُ صاحباً إل أنْ يرجوَ منه النصيحة‪ .‬وكان ل يتبرَم ول يتسخط‪ ،‬ول يتشكّى ول‬ ‫وكان ل يَ ْ‬
‫ص نفسه بشيء دون إخوانه من اهتمامه وحيلته وقوتِه‪ .‬فعليك بهذه الخلق إن‬ ‫يتشهّى‪ ،‬ول ينتقم من العدو‪ ،‬ول َيغْفُل عن الولي‪ ،‬ول يَخُ ّ‬
‫أطقتها‪ ،‬ولَنْ تطيق‪ ،‬ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع‪.‬‬
‫وعلى ذكر قوله‪ :‬وإن قال بَرّ القائلين قال ابن كناسة ‪ -‬واسمه محمد بن عبد ال‪ ،‬ويكنى أبا يحيى ‪ -‬في إبراهيم بن أدهم الزاهد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن أدْهَما‬ ‫وقد كان يَرْضَى دون ذاك اب ُ‬ ‫رأ ْيتُك ل تَ ْرضَى بما دونه الـرضـا‬
‫لَ فيها مُـعَـظّـمـا‬ ‫وكان لمْرِ ا ِ‬ ‫وكان يَرى الد ْنيَا صغيراً عظيمُـهـا‬
‫وإنْ قال بَز القائلين فـأفْـحَـمـا‬ ‫وأكْثرُ ما تلْقَاهُ في الناس صـامِـتـاً‬
‫وتلقى به البأْساءُ عيسى بن مريمـا‬ ‫يُشِيعُ ال ِغنَى في الناس إن مَسّهُ الغِنى‬
‫ب الدّما‬‫كما اجتنب الجاني الدم الطال َ‬ ‫أَهان الهوى حتى تجنّبـه الـهـوى‬
‫ألفاظ لهل العصر في ذكر التقى والزهد‬

‫‪55‬‬
‫عذْب المَشْرب‪ ،‬عَفّ المَطْلَب‪ ،‬نَقيّ الساحة من المآثم‪ ،‬بَرِيء الذمة من الجرائم‪ ،‬إذا رضي لم يَ ُقلْ غيرَ الصدق‪ ،‬وإذا سخِط لم يتجاوَ ْز‬ ‫فلن َ‬
‫خدَعها‪ ،‬وأقبل على اكتساب ِنعَم‬ ‫س أمّارة بالخير‪ ،‬بعيدةٍ من الشر‪ ،‬مدلولة على سبيل البِر؛ اعْرَض عن ِزبْرجِ الدنيا و ُ‬ ‫جا ِنبَ الحق‪ ،‬يرجعُ إلى نف ٍ‬
‫ط ْرفَه عن متاعها وزَهْرتها‪ ،‬وأعرض عَنهَا وقد تعرَضتْ له بزينتها‪ ،‬وص َد عنها‬ ‫ف كَفَه عن زُخْرف الدنيا و َنضْرَتها‪ ،‬وغَضّ َ‬ ‫الخرة و ُمنَعِها‪ .‬كَ َ‬
‫وقد تصدّت له في حِلْيتها‪.‬‬
‫طبَع‪ ،‬نَقيّ الصحيفة‪ ،‬عَلي عن الفضيحة‪ ،‬عَف الزار‪ ،‬طاهر من الَوْزَار‪ ،‬قد عاد‬ ‫فلنٌ ليس ممن يَقِف في ظل الطمع‪ ،‬فيُسِف إلى حَضيض ال ّ‬
‫لصلح المعاد‪ ،‬وإعداد الزاد‪.‬‬
‫ل مختارة‪ ،‬وكان مُحْجِماً عن قول الشعر‪ ،‬وقيل له‪ :‬لم‬ ‫وكان ابن المقفع من أشراف فارس‪ ،‬وهو من حكماء زمانه‪ ،‬وله مصنّفات كثيرة‪ ،‬ورسائ ُ‬
‫ل تقولُ الشعر؟ فقال‪ :‬الذي أرضاه ل َيجِيئني‪ ،‬والذي يجيءُ ل أَرْضاه‪.‬‬
‫أخذ هذا بعضُهم فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حكَما‬‫ن مُ ْ‬‫إليَ‪ ،‬ويَأْبى منه ما كا َ‬ ‫أبى الشع ُر إل أن يَفـيءَ َردِيهُ‬
‫ولم أكُ من فرْسانه كنت مُ ْفحَما‬ ‫جدْ حَ ْوكَ َوشْـيِهٍ‬
‫فيا ليتني إذْ لم أ ِ‬
‫وكان ظريفاً في دينه‪ ،‬وذكر أنه م ّر ببيت النار فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حذَرَ ال ِعدَا وبه الفؤا ُد مُ َوكّـلُ‬
‫َ‬ ‫ت عاتكةَ الّـذي أتـعـزلُ‬ ‫يا بي َ‬
‫ل ْميَلُ‬
‫قَسَمًا إليك مع الصدود َ‬ ‫أصبحتُ أمنحُك الصدودَ‪ ،‬وإنني‬

‫ي ال َدبْر‪ ،‬قتله بنو‬


‫ح ِم ّ‬
‫البيتان للحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الفلح النصاري‪ ،‬أخي بني عمرو بن عوف‪ .‬وعاصم بن ثابت َ‬
‫ن قتلَ بعضَ ولدها‬ ‫خمْر‪ ،‬وكا ْ‬ ‫ت سعد نذرت َلتَشْ َربَن في رأسه ال َ‬ ‫لحيان من ُهذَيل يوم الرَجيع‪ ،‬فأرادوا أن َي ْبعَثوا برَأسِه إلى مكة‪ ،‬وكانت سلفة بن ُ‬
‫جدُوا إليه سبيلً‪ ،‬وجعلوا يقولون‪ :‬إنّ‬ ‫خذَ رأسه حمته ال َدبْر ‪ -‬وهي النحل ‪ -‬فلم يَ ِ‬ ‫من طلحة بن أبي طلحة أحد بني عبد الدار يوم أُحد‪ ،‬فلمّا أرادوا أ ْ‬
‫ل أتِيا فوارَاه منهم‪ .‬وعاتكة التي ذكر هي عاتكة بنت يزيد بن معاوية‪.‬‬ ‫شوِ استه‪ ،‬فلما أمسوا بعثَ ا ّ‬ ‫صرْنا إلى حَ ْ‬ ‫الدّبر لو قد أمسى ِ‬
‫عهْدي بديار قومي؛ فا ْلتَمس لَه‬ ‫ولمّا دخل أبو جعفر المنصو ُر المدينة قال للربيع‪ :‬ابغِني رجلً عاقلً عالمًا بالمدينة ليَ ِقفَني على دُورِها؛ فقد َبعُد َ‬
‫خبَارٍ حتى يسأله المنصور فيجيبه بَأحْسَن عبارة‪ ،‬وأجود بيان‪ ،‬وأوفى معنى‪ ،‬فأُعْجِب‬ ‫ئ بإ ْ‬
‫الربيع فتًى من أعقل الناس وأعلمهم‪ ،‬فكان ل يبتدِ ُ‬
‫المنصور به‪ ،‬وأمر له بمالٍ‪ ،‬فتأخّر عنه‪ ،‬ودعتهُ الضرورة إلى استنجازِه‪ ،‬فاجتاز ببيت عاتكة‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬هذا بيتُ عاتكة الذي‬
‫ستِخبار إلّ‬‫يقول فيه الحوص‪ :‬يا بيت عاتكة الذي أتعزّل‪ ...‬البيتَ‪ ،‬ففكر المنصور في قوله‪ ،‬وقال‪ :‬لم يُخَالف عادتَه بابتداء الخبار دون ال ْ‬
‫لمر‪ ،‬وأقبل يردّد القصيدة ويتصفّحها بيتاً بيتاً حتى انتهى إلى قوله فيها‪:‬‬
‫ل ما ل يَفْعلُ‬ ‫َمذِقُ اللسان يقو ُ‬ ‫ض ُهمْ‬‫وأراكَ َت ْفعَلُ ما تقولُ وبع ُ‬
‫فقال‪ :‬يا ربيع‪ ،‬هل أوصَ ْلتَ إلى الرجلِ ما أمَ ْرنَا له به؟ فقال‪ :‬أخرتَه عنه ‪ -‬لعلّةٍ ذكرها الربيع ‪ -‬فقال‪ :‬عَجلْه له مُضَاعَفاً‪ ،‬وهذا ألطف تعريض‬
‫من الرجل‪ ،‬وحُسْنُ فهم من المنصور‪.‬‬
‫في الحسد‬
‫طعْماً‪ ،‬ول يزالُ‬ ‫جدُ لها َ‬ ‫جدُ لها مَزَالً‪ ،‬ومكدَراً على نفسه ما به من النعمة فل تَ ِ‬ ‫ل ول يَ ِ‬‫سدُ ل يزالُ زارياً على نعمة ا ّ‬ ‫ومن كلم ابن المقفع‪ :‬الحا ِ‬
‫ن ل يترضَاه‪ ،‬ومتسخّطاً لما ل ينال‪ ،‬فهو كَظُوم هَلُوع جَزُوع‪ ،‬ظالم أشْبه شيء بمظلوم‪ ،‬محروم الطِلبَة‪ ،‬منغّص العيشة‪ ،‬دائم‬ ‫ساخطاً على مَ ْ‬
‫ل فيه إلى ُمدَةٍ ل يقدر‬ ‫ل نعم الّ مباشراً المسرور‪ ،‬م ْمهَ ً‬ ‫ضِ‬ ‫س َم له يَ ْقنَع‪ ،‬ول على ما لم يُقْسَم له يغلب‪ ،‬والمحسودُ يتقلّب في فَ ْ‬ ‫التسخّط‪ ،‬ل بما قُ ِ‬
‫ل أن يُتمَ نورَه‬‫سدُ على ما به لكان خيراً له؛ لنه كلما أراد أن يُطفِئَ نورَ الّ أعْلَهُ‪ ،‬وَيأْبى الَُ إ َ‬ ‫الناسُ لها على قطْعٍ ول انتقاص‪ ،‬ولو صبر الحا ِ‬
‫ولو كَرِه الكافرون‪.‬‬
‫قال الطائي‪:‬‬
‫سدِ ال ّنعْمَى عَلَى المحـسـودِ‬ ‫ِللْحَا ِ‬ ‫لول التخَ ُوفُ للعَوَاقِبِ لـم تَـ َزلْ‬
‫ت أتَاحَ لها لسانَ حَـسُـودِ‬ ‫ط ِويَ ْ‬
‫ُ‬ ‫وإذا أراد ال نَـشْـرَ فـضـيلة‬
‫ما كان يعْرَفُ طِيبُ عَ ْرفِ العُودِ‬ ‫لول اشتعالُ النارِ فيمـا جـاوَرَتْ‬
‫أخذه البحتري فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذَا أنْتَ لم ُتدْلَلْ عليها بحَاسِـدِ‬ ‫س َتبِينَ الده َر مَوْض َع ِن ْعمَةٍ‬ ‫ن تَ ْ‬‫ولَ ْ‬
‫ولقد أحسنَ القائل‪ :‬والبسيط‪:‬‬
‫ل قد حُسِدوا‬ ‫َقبْلي من الناس أهْلِ الفض ِ‬ ‫إن يحسدوني فإنـي غـي ُر لئمِـهِـمْ‬
‫وماتَ أكثرُنا غَـيْظـاً بـمـا يَجِـدُ‬ ‫فدام لي وَلهُمْ مـا بـي ومـا بـهـمُ‬
‫ل أ ْرتَقي صَـدَراً عـنـهـا ول أَ ِردُ‬ ‫جدُونـي فـي صـدورِهـمُ‬ ‫أنا الذي يَ ِ‬
‫وقال ابن الرومي لصاعد بن َمخْلَد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت أنفاسه تتـصَـعَـدُ‬ ‫ول برحَ ْ‬ ‫وضدّ لكم ل زَال يَسْفُـل جَـده‬
‫و ُيغْضِي عن استحقاقكم فهو يُ َفَأدُ‬ ‫ج الدنيا يُزَف إلـيكـم‬ ‫يَرَى ِزبْ ِر َ‬
‫طفََأ ناراً في الْحَشا تـتـ َوقَـدُ‬
‫لَ ْ‬ ‫حتُـمُ‬ ‫ولو قاس باستحقاقكم ما ُمنِ ْ‬
‫وأحسنُ من سِربالها المتـجَـ َردُ‬ ‫ق من عِ ْقدِ العقيل ِة جـيدُهـا‬ ‫وآن ُ‬
‫وقال معن بن زائدة‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫غيْ َر محسودِ‬ ‫ش مَنْ عاش يوماً َ‬ ‫ل عا َ‬ ‫سدْتُ فزادَ الّ في حَـسـدِي‬ ‫حِ‬ ‫إني ُ‬
‫بالعلم والظرْفِ‪ ،‬أو بالبَأسِ والْجُـودِ‬ ‫سدُ المر ُء إل مِنْ فـضـائلـهِ‬ ‫ما يُحْ َ‬
‫ألفاظ لهل العصر في ذكر الحسد‬

‫‪56‬‬
‫صدٍ‪ .‬فلن َمعْجُون من طِينَةِ الحسد وال ُمنَافَسَة‪ ،‬مضروبٌ في قالب الضَيق والمناقشة‪ .‬قد وكلَ بي‬ ‫سدَة‪ ،‬وكمنت أفاعِيهم بكل مَ ْر َ‬ ‫دَبت عقارِبُ الح َ‬
‫حقْد‪ .‬الحاسدُ يَعمَى عن محاسن الصُبح‪ ،‬بعين تُدْ ِركُ حقائقَ ال ُقبْحِ‪.‬‬ ‫لَحظًا ينتضِلُ بأَسهُمِ الحسد‪ .‬فلن جَس ٌد كلُه حسد‪ ،‬وعقد كلُه ِ‬
‫كتب محمد بن حماد ُيعَرض في حاجة له ببيتي شعر إلى الواثق يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وقلت لها كُفي عن الطلب المُ ْزرِي‬ ‫ت دَواعي النفسِ عن طلبِ المُنى‬ ‫جذب َ‬
‫مَدار رحًى بالرزق دائبة تَـجْـرِي‬ ‫فإن أميرَ المـؤمـنـين بـكـفـهِ‬
‫ت هنيئاً‪.‬‬
‫خذْ ما طلَب َ‬ ‫سعَةِ فَضلي عليك‪ ،‬ف ُ‬ ‫جذْبك نفسَك عن امتهانها بالمسألةِ دعاني إلى صَ ْونِك بِ َ‬ ‫فوقع تحتها‪َ :‬‬
‫قال علي بن عبيدة‪ :‬أتيت الحسن بن سَهل بفم الصلح؛ فأقَمتُ ببابه ثلثة أشهر ل أحظَى منه بطائل‪ ،‬فكتبت إليه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بذاك يدٌ عـــنـــدي ول قَـــدَم بَـــعْـــــدُ‬ ‫مَدَحْـتُ ابـن ســهـــل ذا اليادي ومـــا لـــهُ‬
‫جدُ‬
‫وما َذنْبُه‪ ،‬والناس إلّ أقلّهم عيالٌ له‪ ،‬إن كان لم َيكُ لي َ‬
‫له فـيّ رَأيٌ عـادَ لـي ذلــك الـــحـــمـــد‬ ‫سأحمده للناس حتى إذا بَدَا‬
‫صبْ ٌر ومال‪ ،‬فقلت للواسطة‪ :‬تؤدّي عني؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬تقول له‪ :‬لو كان لي مال‬ ‫حتَاج إلى ثلث خِلل‪ :‬عقل و َ‬ ‫فكتب إليَ‪ :‬باب السلطان يَ ْ‬
‫عقْل لستدللت به على النزاهة عن ِرفْدك! فأمر لي بثلثين ألف درهم‪.‬‬ ‫ل ببابك‪ ،‬أو َ‬ ‫لغْناني عن الطلب إليك‪ ،‬أو صبْرٌ لصبرت عن الذ َ‬
‫ب تتدارك‬ ‫وقال علي بن عبيدة الريحاني يوماً‪ ،‬وقد رأى جارية َيهْوَاها‪ :‬لول البُقيا على الضمائر َلُبحْنا بما تُجِنه السرائر‪ ،‬لكن نِيران ا ْلحُ ّ‬
‫ح مَصَارعِ العلن‪ .‬وقد قال محمد بن يزيد الموي‪:‬‬ ‫بالخفاء‪ ،‬ول تُعاجَل بالبداء؛ فإن دوامَها مع إغلق أبواب ال ِكتْمان‪ ،‬وزوالَها في َفتْ ِ‬
‫مجزوء الخفيف‪:‬‬
‫ح بالدّمع مدمعـا‬ ‫فِ ُ‬ ‫ل وحُبيك ل ُأصَـا‬
‫ح وإن كان مُوجَعا‬ ‫ستَرَا‬
‫من بكى حبّه ا ْ‬
‫لنْسَ لِباسُ العِرض‪ ،‬وتُحْفة‬ ‫ي بن عبيدة‪ :‬اجعَل أنْسَك آخ َر ما َتبْذُل من ُودّك‪ ،‬وصن السترسال منك‪ ،‬حتى تجد له مستحقاً‪ ،‬فإن ا ُ‬ ‫ومن كلم عل ّ‬
‫ت له منك‪.‬‬ ‫جدّته إلَ لمن يعرف َقدْرَ ما بذل َ‬ ‫حبَاء الكفاء‪ ،‬وشِعار الخاصَة‪ ،‬فل تُخلق ِ‬ ‫الثقة‪ ،‬و ِ‬
‫ل مُؤَانَستك لي‪ ،‬لب َقيْت عليك من العناء‪،‬‬ ‫عرِف لها مُثيراً من مظانها إ ّ‬ ‫ت من البتهاج أجِد حِسَها عند رؤيتك في نفسي ل أ ْ‬ ‫وقال‪ :‬لول حركا ٌ‬
‫حتِمال الخسران بالوَحدة منك‪.‬‬ ‫وخففت عنك مؤونة اللقاء‪ ،‬لكني أجد من الزيادة بك عندي أكْثر من َقدْرِ راحتك في تأخرك عني‪ ،‬فأضيق عن ا ْ‬
‫ل عند من ُأحِب دوامه لي؛ ورد طَ ْرفِ الشوق باطناً‬ ‫ستَخِف التّجَافي مع شدَة الشوقِ‪ ،‬لتبقى جدَة الحا ِ‬ ‫طلُوع المللة بكَرّ اللقاء أَ ْ‬ ‫وقال‪ :‬لِوجلي من ُ‬
‫أيْسَر من مُعاناةِ الجفاء مع الود ظاهراً‪.‬‬
‫وقال بعض المحدثين‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫صَبّ إليكم من الشواق فـي تَـ َرحِ‬ ‫كم استَراحَ إلىِ صـبـر فـلـم يُ َرحِ‬
‫لو يُرزَق الوصل لم يَقْدر على ال َفرَحِ‬ ‫ن فُـ ْرقَـتـكـم‬ ‫تركتم قَ ْلبَه من حُـزْ ِ‬
‫وقال أعرابي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ضبُ‬ ‫ت عليك الهَوا ِ‬ ‫وذات الغَضَى‪ :‬جادَ ْ‬ ‫ل قُلْ لدا ٍر َبيْنَ أكْـثِـبَةِ الْـحِـمَـى‬
‫أَ‬
‫دموع‪ ،‬أضاعت ما حفظتُ‪ ،‬سَواكِـبُ‬ ‫ك ل آتـيك إلّ تـتـابَـعَــتْ‬ ‫أجِـد َ‬
‫وطاوَعَني فيها الهَوَى والْـحـبـائِبُ‬ ‫ديار تنسمْتُ ال ُمنَى نَـحْـوَ َأرْضِـهـا‬
‫ل مَنْ أَ ْهوَى ول الظن كاذِب‬ ‫على وَص ِ‬ ‫ي ل الهجرانُ محْـتَـكِـمٌ بـهـا‬ ‫ليال َ‬
‫آداب الجلوس‬
‫ب بين يدي أحمد بن أبي دُواد في مجلس الحكم في عقار بناحية السَواد‪ ،‬فأ ْربَى عليه إبراهيمُ‬ ‫تنازع إبراهي ُم بن المهدي وابن بختيشوع الطبي ُ‬
‫ت عليه صَ ْوتَاً‪ ،‬ول‬ ‫ن أنكَ رفعْ َ‬ ‫ن أبي دُوَاد‪ ،‬فقال‪ :‬يا إبراهيم‪ ،‬إذا نازعتَ في مجلس الحكم بحضرتنا امرءًا فل أعلم ّ‬ ‫وأغْلَظَ له‪ ،‬فأحفظ ذلك اب َ‬
‫صدُك أمَماً‪ ،‬وريحُك ساكنة‪ ،‬وكلمُك مع َت ِدلً‪ ،‬مع وفاء مجالس الخليفة حقَوقها من ال ّتعْظيم‪ ،‬والتوقير‪ ،‬والستكانة‪ ،‬والتوجّه‬ ‫ت بيد‪ ،‬وليكن َق ْ‬ ‫شرْ َ‬
‫أَ َ‬
‫ل يعصمك من خَطَل القول‬ ‫عجَلة َتهَبُ َريْثاَ‪ ،‬وا ُ‬ ‫ل لمذهبك في مَحْتدِك‪ ،‬وعظيم خَطرك‪ ،‬ول تعجَلن‪ ،‬فرُبّ َ‬ ‫شكَل بك‪ ،‬وأَشمَ ُ‬ ‫إلى الواجب؛ فإن ذلك أَ ْ‬
‫والعمل‪ ،‬ويتَ ّم نعمتَه عليك كما أتّمها على أبويك من قبل‪ ،‬إن ربك حكيم عليم‪.‬‬
‫ت عائداً لما َيثْلِ ُم مُرُوءَتي عندك‪ ،‬وُيسْقطني من عينك‪ ،‬ويخرجني‬ ‫ضتَ على رشاد؛ ولس ُ‬ ‫سدَاد‪ ،‬وخضَ ْ‬ ‫فقال إبراهيم‪ :‬أصْلَحك ال تعالى‪ :‬أ َمرْتَ ب َ‬
‫من مقدارِ الواجب إلى العتذار‪ ،‬فها أنا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذا َر مُ ِقرّ بذنبه‪ ،‬م ْعتَرِف بجُ ْرمِه‪ ،‬ول يزال الغضبُ يستفزني بمواده‪،‬‬
‫ت ذلك يكون وأفياً بأَرْش الجناية‬ ‫فيردني مثُلكَ بحلمه‪ ،‬وتلك عادةُ الّ عندك وعندنا منك؛ وقد جعلتُ حقي من هذا العقار لبن بختيشوع‪ ،‬فلي َ‬
‫لَ و ِنعْمَ ال َوكِيلُ"‪.‬‬
‫سبُنا ا ُ‬ ‫عليه؛ ولم َيتْلفْ مال أفادَ موعظةً؛ و"ح ْ‬
‫ض فيها على اللفة والطاعة‪ ،‬وحذرهم‬ ‫جمَعَ ملوكَ الطوائف‪ ،‬وتم له مُلْكه‪ ،‬جمع الناسَ فخطبهم خطبة ح ّ‬ ‫لفا استوثق َأمْرُ أردشير بن بابك و َ‬
‫المعصية ومفارقَة الجماعة‪ ،‬وصف الناسَ أربعة صفوف؛ فخزُوا له سُجَداً‪ ،‬وتكلّم متكلّمهم فقال‪ :‬ل زلت أيها الملك محبوّا من الّ تعالى بعزّ‬
‫حسْن المزيد‪ ،‬ول زلت تتَابَعُ لديك المكرمات‪ ،‬وتَشفع إليك الذمَامات حتى تبلغَ الغاية التي‬ ‫النصر‪ ،‬ودَرَك المل‪ ،‬ودوام العافية‪ ،‬وتمام النّعمة‪ ،‬و ُ‬
‫يِؤمَنُ زوالها‪ ،‬وتصل إلى دار القرار التي أعدَها ال تعالى لنظرائك من أهْل الزّلفى عنده والمكانة منه‪ ،‬ول زال ملكك وسلطانك باقيين بقاءَ‬
‫ق علينا من‬ ‫الشمسِ والقمر‪ ،‬زا ِئدَيْن زيادة النجوم وال ْنهَار‪ ،‬حتى تستوي أقْطَارُ الرض كلّها في علو َقدْرِك عليها‪ ،‬ونفا ِذ أمْرِك فيها‪ ،‬فقد أشْرَ َ‬
‫ل بك اليدي بعد‬ ‫ضياء نورك ما عمنا عمومَ ضياء الصبح‪ ،‬ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتصل بأَن ُفسِنا اتصال النسيم؛ فأصبحت قد جمع ا ُ‬
‫ك بوصف‪ ،‬ول يُح ُد ب َنعْت‪.‬‬ ‫ك الذي ل يُدْر ُ‬ ‫ب بعد توقد نيرانها‪ ،‬ففضُل َ‬ ‫افتراقها‪ ،‬وأَلف القلو َ‬
‫فقال أردشير‪ :‬طوبَى للممدوح إذا كان للمدح مستَحِقاً‪ ،‬وللداعي إذا كان للجابة أهلً‪.‬‬
‫حلَب العصور‪ ،‬وجرّب الدهور‪ ،‬أي الكنوزِ أعْظمُ قدراً؟ قال‪ :‬العلم الذي خفّ محمله‪ ،‬فثقُلَتْ مفارقته‪،‬‬ ‫وقيل لردشير‪ :‬أيها الملك الرفيع الذي َ‬
‫س به الْخَسيس‪ ،‬ول يمكن حاسدك عليه‬ ‫جمَال‪ ،‬وفي الوَحدَة أنيس‪ ،‬يرأ ُ‬ ‫ق عليه؛ فهو في المل َ‬ ‫ي مكانه‪ ،‬فأُمنَ من السّرَ ِ‬ ‫و َكثُرَتْ مرافقته‪ ،‬وخَف َ‬

‫‪57‬‬
‫انتقاله عنك‪ .‬قيل له‪ :‬فالمال؟ قال‪ :‬ليس كذلك‪ .‬مَحمْلُه ثقِيل‪ ،‬والهمّ به طَويل؛ إن كنت في مَل شغلك ال ِفكْ ُر فيه‪ ،‬وإن كنت في خَلْوَة أتعبتك‬
‫حراسته‪.‬‬
‫سير الملوك وأخبارهم‬
‫ت فيما معهم من ديواني‪،‬‬ ‫جعَلُ اختلفهم إليّ‪ ،‬فتكون المؤامرا ُ‬ ‫قال الجاحظ‪ :‬حدّثني الفضل بن سهل قال‪ :‬كانت رسلُ الملوك إذا جاءت بالهدايا ُي ْ‬
‫سيْفَه‪،‬‬ ‫ل ملك الروم عن سيرة ملكهم‪ ،‬فقال‪َ :‬بذَلَ عُرفَه‪ ،‬وج ّردَ َ‬ ‫سيَر ملوكهم‪ ،‬وأخبار عظمائهم‪ ،‬فسألتُ رسو َ‬ ‫ل منهم عن ِ‬ ‫فكنت أسًألُ رَجُلً رج ً‬
‫حزْن النكال‪ ،‬الرجاءُ والخوف معقودان في يده‪.‬‬ ‫سهْلُ النّوال‪َ ،‬‬ ‫فاجتمعت عليه القلوبُ ركبةً ورهبةً‪ ،‬ل ينظر جُنده‪ ،‬ول يُحْرج رعيته؛ َ‬
‫ح ْكمُه؟ فقال‪ :‬يردُ الظّلم‪ ،‬وي ْردَع الظالم‪ ،‬ويعْطِي كل ذي حق حقه؛ فالرعية اثنان‪ :‬راضِ‪ ،‬ومغتبط‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬فكيف ُ‬
‫قلت‪ :‬فكيف هي َبتُهم له؟ قال‪ :‬يتَصور في القلوب‪ ،‬ف ُتغْضِي له العيون‪.‬‬
‫ل ملك الحبشة إلى إصْغائي إليه‪ ،‬وإقبالي عليه‪ ،‬فسأل الترجمان‪ :‬ما الذي يقولُه الروميّ؟ قال‪ :‬يَذكُرُ ملكهم‪ ،‬ويصِفُ سيرتَه؛‬ ‫قال‪ :‬فنظر رسو ُ‬
‫فتكلم مع الترجمان بشيء‪ ،‬فقال لي الترجمان‪ :‬إنه يقول‪ :‬إن مِلكَهم ذو أناة عند القُدرة‪ ،‬وذو حلم عند الغضبِ‪ ،‬وذو سَطْوة عند المغالبة‪ ،‬وذو‬
‫سعَهم‬ ‫ت نكالً‪ ،‬وَ ِ‬ ‫ل ِن ْعمَته‪ ،‬وخوفهم عسف ِن ْقمَته؛ فهم يتراءونه رَأيَ الهلل خيالً‪ ،‬ويخافونه مخافةَ المو ِ‬ ‫جتِرَام‪ ،‬قد كسا رعيّته جمي َ‬ ‫عقوب ٍة عند ال ْ‬
‫طوَته‪ ،‬فل تَم َت ِهنْهُ مَ ْزحَة‪ ،‬ول تؤمنه غَفلة؛ إذا أعطى أوسع‪ ،‬وإذا عاقب أوجع؛ فالناس اثنان‪ :‬راجٍ وخائف‪ ،‬فل الراجي خائِبُ‬ ‫عتْهم سَ ْ‬‫عدْلُه‪ ،‬ورَد َ‬ ‫َ‬
‫المل‪ ،‬ول الخائف بعيد الجل‪ .‬قلت‪ :‬فكيف هيبتهم له؟ قال‪ :‬ل ترفعُ إليه العيون أجفانَها‪ ،‬ول تتبِعُهُ البصارُ إنسا َنهَا‪ ،‬كأن رعيتَه قَطاً رفرفت‬
‫عليها صقور صوائد‪.‬‬
‫فحدثْتُ المأمون بهذين الحديثين فقال‪ :‬كم قيمتُهما عندك؟ قلت‪ :‬ألفا درهم‪ .‬قال‪ :‬يا فضل؛ إن قيمتهما عندي أ ْكثَرُ من الخلفة‪ ،‬أما عرفت قول‬
‫حسِنُ أن يصف أحداً من خلفاء الّ الراشدين‬ ‫ئ ما يحسن‪ .‬أفتع ِرفُ أحداً من الخطباء البُلَغاء يُ ْ‬ ‫ل امر ً‬ ‫ل وجهه‪ :‬قيمةُ ك ّ‬ ‫علي بن أبي طالب‪ ،‬كرَم ا ّ‬
‫المهديين بهذه الصّفة؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فقد أمَرْت لهما بعشرين ألف دينار‪ ،‬واجعل الْعذْر مادة بيني وبينهما في الجائزة على المعوز؛ فلول حقوقُ‬
‫السلم وأهله لرأ ْيتُ إعطاءهما ما في بيتِ مال الخاصة والعامة دون ما يستحقانِه‪.‬‬
‫ت لملكهم‪ ،‬قال‪ :‬أصابتنا‬ ‫ت عند الفَضْل بن سهل‪ ،‬وعنده رسولُ ملك الخزَرِ‪ ،‬وهو يحدَثنا عن ُأخْ ٍ‬ ‫وقال الجاحظ‪ :‬حدثني حميد بن عطاء قال‪ :‬كن ُ‬
‫ف الفاتِ؛ ففَزع الناسُ إلى الملك‪ ،‬فلم يدرِ ما يُجِيبُهم به‪ ،‬فقالت أخته‪ :‬أيها الملك‪ ،‬إن الخوفَ ل‬ ‫سنَة احتدم شِوَاظُها علينا بحر المصائب‪ ،‬وصنو ِ‬ ‫َ‬
‫ت إليك رعيتُك بفضل‬ ‫جرُهُ عن استفسادها‪ ،‬وقد َفزِعَ ْ‬ ‫عيّته‪ ،‬وزا ِ‬ ‫ستِصْلَح رَ ِ‬ ‫خلُقُ جديدهُ‪ ،‬وسبب ل يمتهن عزيزه‪ ،‬وهو دالّ المَِلكِ على ا ْ‬ ‫خُلُق ل ي ْ‬
‫جزِ عن اللتجاء إلى مَنْ ل تزيدُه الساءَة إلى خلقه عِزاً‪ ،‬ول يَنقُصه العَ ْودُ بالحسان إليهم مُلْكاً‪ ،‬وما أحد أ ْولَى بحفظ الوصية من الموصي‪،‬‬ ‫العَ ْ‬
‫حسْنِ الرعاية من الراعي‪ .‬ولم تزل في نعمة لم تغبرها نِ ْقمَة‪ ،‬وفي رِضاً لم يكدره سُخْط‪ ،‬إلى أن جَرَى ال َقدَرُ‬ ‫ول بركوب الدللة من الدال‪ ،‬ول بِ ُ‬
‫ع ْذ بِه من فظيع النقم‪ ،‬فمتى َتنْسَهُ‬‫شكْرِ النعم‪ ،‬و ُ‬‫حذَر‪ ،‬فسلب الموهوب‪ ،‬والواهب هو السالب؛ ف ُعدْ إليه ب ُ‬ ‫بما عَمي عنه البصر‪ ،‬وذُهِل عنه الْ َ‬
‫يَنسَك‪ ،‬ول تجعلن الحياء من التذلل للمع ّز المذِل سترًا بيْنك وبين رعيتك‪ ،‬فتستحق مذمومَ العاقبة؛ ولكن ُمرْهُم ونفسك بصرف القلوب إلى‬
‫شكْرِ له؛ فإن الملك ربما عاقب عَبده ليرجعه عن سَيئ فِعل إلى صالح عمل‪ ،‬أو‬ ‫القرار له ب ُكنْهِ القدرة‪ ،‬وبتذلل اللْسُن في الدعاء بمَحْضِ ال ُ‬
‫شكْ ٍر ل ُيحْرِز به فَضْلَ أجْر‪.‬‬
‫َل ْيبَعثه على دائبِ ُ‬
‫فأمرها الملك أن تقو َم فيهم فتنذرهم بهذا الكلم‪ ،‬ففعلت‪ ،‬فرجع القومُ وقد علم ال منهم قبولَ الوَعْظِ في المر والنهي؛ فحال عليهم الْحَول وما‬
‫منهم مفتقد نِعمةٍ كان سُِلبَها‪ ،‬وتواترت عليهم الزيادات بجميل الصنع؛ فاعترف لها الملك بالفضل‪ ،‬فقلدها المُلْك؛ فاجتمعت الرعية لها على‬
‫الطاعة في المكروه والمحبوب‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهذا وهم أعداء ال تعالى‪ ،‬وضرائر نِعمته‪ ،‬ومستوجبو نِ ْقمَته‪ ،‬أعادَ لهم بالشكر ما أرادوا‪ ،‬وأعطاهم بالقرار له ب ُكنْه قدرته ما تمنوا‪،‬‬
‫فكيف بمن يج َمعُه على الشكر نورانِ اثنان‪ :‬قرآن منزل‪ ،‬ونبي مرسل‪ ،‬لو صدقت النياتُ‪ ،‬واجتمعت على الفتقار إليه الطلبات؛ لكنهم أنكروا ما‬
‫عرفوا‪ ،‬وجهلوا ما علموا‪ ،‬فا ْنقَلبَ جدُهم هَزلً‪ ،‬وسكوتُهم خَبلً‪.‬‬
‫قطعة صادرة من أقوال الملوك‬
‫دالة على فضل كرمهم وبعد هممهم‬
‫ط عن مرتبته‪ ،‬ول ينقص من صِلَته؛ فإن الملوك تؤدب بالهجران‪ ،‬ول تعاقِب‬ ‫غضِب كسرى أنو شروان على بعض مَرَازبته‪ ،‬فقال‪ :‬يُحَ ُ‬
‫ح ْرمَان‪.‬‬ ‫بال ِ‬
‫واصطنع أنو شروان رجلً فقيل له‪ :‬إنه ل قديمَ له‪ .‬قال‪ :‬اصطناعُنا إياه شرفه‪.‬‬
‫جهْل ل‬ ‫ف من أن يكون في الرض َ‬ ‫قال معاوية‪ ،‬رضي ال عنه‪ :‬نحن الزمان‪ ،‬من َر َفعْناهُ ارتفع‪ ،‬ومن وضعْناه اتضع‪ .‬وكان يقول‪ :‬إني لن ُ‬
‫سعُها جُودي‪.‬‬ ‫سعُهُ عفوي‪ ،‬وحاجة ل يَ َ‬ ‫بلي َ‬ ‫سعُهُ حِ ْلمِي‪ ،‬و َذنْ ٌ‬‫يَ‬
‫عبد الملك بن مروان ‪ -‬أفضل الناس مَن تَوَاضَعَ عن رفعة‪ ،‬وعَفا عن ُقدْرَة؛ وأنْصَف عن قُوة‪.‬‬
‫زياد ‪ -‬استشفعوا ِلمَن وراءكم؛ فليس كل أحدٍ يصلُ إلى السلطان‪ ،‬ول كل من وصل إليه يَقدِرُ على كلمه‪.‬‬
‫ت لمن يشتري المماليك بماله‪ ،‬كيف ل يشتري الحرار بمعروفه! وقد روى هذا لبن المبارك‪ .‬وقال لبنيه‪ :‬يا بني‪ ،‬أحسن ثيابكم‬ ‫المهلب ‪ -‬عَجب ُ‬
‫ما كان على غيركم‪.‬‬
‫قال أبو تمام الطائي يَستهدِي فَرواً‪ ،‬وعرض بقول المهلب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫من الشُكر يعلو مُصعِداً ويصوبُ؟‬ ‫ت مُهدِيه بمثـل شـكـيره‬ ‫فهل أن َ‬
‫بها كان أوْصَى في الثياب المهلّبُ‬ ‫فأنت العليمُ الـطّـبّ أيّ وصـيّة‬
‫ل من ينجُو منه‪.‬‬ ‫يزيد بن المهلب ‪ -‬است ْكثِرُوا من الحمد؛ فإنّ الذمّ ق ّ‬
‫السفاح ‪ -‬ما أ ْقبَح بنا أن تكون الدنيا لنا وأولياؤُنا خالُون من أثرها‪.‬‬
‫ب الدنيا لتُملك‪ ،‬فإذا مُلكت فلتوهب‪ .‬وقال‪ :‬إنما يتكثّر بالذهب والفضة من يَقلَن عنده‪.‬‬ ‫المأمون ‪ -‬إنما تُطَْل ُ‬
‫الحسن بن سهل ‪ -‬الطراف َمنَازِل الشراف؛ يتناولون ما يزيدون بال ُقدْرَة‪ ،‬وينتابهم من يريدهم بالحاجَةِ‪ .‬وتعرض له رجل فقال له‪ :‬من أنت؟‬
‫ي يوم كذا وكذا‪ .‬فقال‪ :‬مرحبًا بمن توسَل إلينا بنا‪.‬‬ ‫قال‪ :‬أنا الذي أحسنتَ إل ّ‬
‫ن بن سهل‪ ،‬فنظر إليه‬ ‫ولما أراد المعتصم أنْ يشرف أشناس التركي بعقب َفتْح الخزمية أمر أصحابَ المراتب بالترجّل إليه‪ ،‬فترحل إليه الحس ُ‬
‫حاجبُه يَمشي ويتعثّر في مشيه‪ ،‬فبكى‪ ،‬فقال‪ :‬ما يبكيك؟ إن الملوك شرّفتنا وشرفت بنا‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫ومن كلم أهل العصر‬
‫شمَكير ‪ -‬مَن أ ْق َعدَتْ ُه نكاية اليام أقامته إغاثة الكرام؛ ومن ألبسه الليلُ ثوب ظلماته نزعَه النهار عنه بضِيائه‪.‬‬ ‫للمير شمس المعالي قابوس بن َو ْ‬
‫سعْي في الخطب الجليل‪.‬‬ ‫وله‪ :‬ابتناءُ المناقب باحتمال المتاعب‪ ،‬وإحرازُ الذكر الجميل بال ّ‬
‫الصاحب بن عباد‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫لمَمْ؟‬ ‫وَأمْرُك ُممْتثَل في ا ُ‬ ‫ع َرتْك الهمـومُ‬‫وقائلةٍ‪ :‬لِمْ َ‬
‫فإنَ الهمو َم بِقدرِ ال ِهمَـمْ‬ ‫فقلت‪ :‬ذَرِيني لما أشتكي‬
‫أبو الطيب المتنبي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫يَخْلُو من الهَمَ أخْل ُه ْم من الْفطَنِ‬ ‫أَفاضِلُ الناس أغْرَاضٌ ِلذَا الزمَنِ‬
‫أبو الفتح البستي‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫غمَـمْ‬‫من ُهمُوم َت ْعتَرِيهِ و ُ‬ ‫صاحبُ السلطان ل بُدَ له‬
‫حمْ‬
‫ل من َب ْعدِ قُ َ‬ ‫ُقحَم الهْوا ِ‬ ‫سيَرى‬ ‫واَلذِي يَركَبُ بحْراً َ‬
‫ومن كلم الملوك الجاري مجرى المثال‬
‫أردشير ‪ -‬إذا رغبت الملوكُ عن العَدْلِ رغبت الرعيةُ عن الطاعة‪.‬‬
‫أفريدون ‪ -‬اليام صحائفُ آجالِكم‪ ،‬فخّلدُوها أحْسَن أعمالِكم‪.‬‬
‫ل تعظيمك لمؤدّبك أكثر من تعظيمك لبيك؟ قال‪ :‬لنَ أبي سبَبُ حياتي الفانية ومؤدّبي سببُ حياتي الباقية‪.‬‬ ‫ل للسكندر‪ :‬ما با ُ‬ ‫وقي َ‬
‫ل من فَتق‬ ‫ودخل محمد بن زياد مؤدّب الواثق على الواثق‪ ،‬فأظهر إكرامه‪ ،‬وأكثر إعظامَه‪ ،‬فقيل له‪ :‬مَنْ هذا أيا أمير المؤمنين؟ قال هذا أو ُ‬
‫لساني بِ ِذكْرِ الَِ‪ ،‬وأدْناني من رحمة الّ‪.‬‬
‫وأُشِير على السكندر بتبييت الفرس‪ ،‬فقال‪ :‬ل أجعل غلبتي سَرِقة‪ .‬وقيل له‪ :‬لو تزوّجت بنت دارا؟ فقال‪ :‬ل تغلُبني امرأةٌ غلبتُ أباها‪.‬‬
‫سطْحَ بيته بما يَ ْقتَلِعه من قواعد بُنْيانه‪.‬‬ ‫أنوشروان ‪ -‬الملك إذا كثر مالُه مما يأخذ من رعيته كان كمن يعمر َ‬
‫ن فوقك يطعك مَن دونك‪.‬‬ ‫أبرويز ‪ -‬أطِ ْع مَ ْ‬
‫سدَة كان العف ُو معْجَزة‪ ،‬والصبرُ حَسن إلّ‬ ‫حزْماً‪ ،‬والعفو ُذلً‪ .‬وكان يقول‪ :‬إذا كان الحلم مَفْ َ‬ ‫السفاح ‪ -‬إن من أدنَى الناس ووضعائهم من عدَ البخل َ‬
‫ل عند إمكان الفرصة‪.‬‬ ‫على ما أوقع بالدّين‪ ،‬وأوْهَى السلطان؛ والناةُ محمودة إ ّ‬
‫وقد قال ابن المعتز‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ف وتَـنَـدّمِ‬ ‫شجِي بطُول تََلهُ ِ‬ ‫تُ ْ‬ ‫غصّة‬ ‫ت فعادَتْ ُ‬ ‫كم فرص ٍة ذَهَب ْ‬
‫ولما عزم المنصور على ال َفتْك بأبي مسلم فزع من ذلك عيسى بن موسى‪ ،‬فكتب إليه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن تتعجّلَ‬ ‫فإن فسادَ الرَأي أَ ْ‬ ‫إذا كنت ذَا رَأي فكن ذا َتدَبرِ‬
‫فأجابه المنصور‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فإنَ فسادَ الرأي أن تـتـردَدا‬ ‫ت ذَا رأي فكن ذا عزيمةٍ‬ ‫إذا كن َ‬
‫غدَا‬
‫وبادِرْهُ ُم أن يملكوا مِثْلها َ‬ ‫ول ُتمْهِل العداء يومًا بغُـدْوة‬
‫وهذا في موضعه كقول المام علي‪ ،‬كرّم ال وجهه‪ :‬من فكَر في العواقب لم يشجع‪.‬‬
‫وقال سعد بن ناشب فأفرط‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تُرَاثُ كري ٍم ل يَخَافُ العواقـبـا‬ ‫عليكم بداري فاهدموها؛ فإنـهـا‬
‫وكبَ عن ِذكْرِ العواقب جانـبـا‬ ‫إذا هَمّ ألقى بين عينيه عَـ ْزمَـهُ‬
‫سيْفِ صاحبا‬ ‫ولم يَرْضَ إلّ قائمَ ال َ‬ ‫شرْ في رأيه غي َر نفسِـهِ‬ ‫ستَ ِ‬
‫ولم يَ ْ‬
‫ي قضاءُ الّ ما كان جالِـبـا‬ ‫عل ّ‬ ‫سأغسل عنيّ العارَ بالسيف جالباً‬
‫يميني بإدْرَاكِ الذي ُكنْتُ طالِبـا‬ ‫صغُرُ في عيني تِلدِي إذا انثنتْ‬ ‫ويَ ْ‬
‫سعْد من مَ َردَةِ العرب وشياطين النس‪ ،‬وفيه يقول الشاعر‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وكان َ‬
‫شيْطانُهُ عند الهِلَ ِة يُصْـ َرعُ؟‬ ‫وَ‬ ‫س ْعدُ بن ناشبٍ‬ ‫وكيف يُفيقُ الدهرَ َ‬
‫جعْدِي إلى عبد ال بن علي يسأله حفظَ حرمه‪ ،‬فقال له‪ :‬الحقّ لنا في َد ِمكَ‪ ،‬وعلينا في حُ ْرمِك‪.‬‬ ‫كتب مروان بنُ محمد ال َ‬
‫وقال الرشيد لسماعيل بن صبيح‪ :‬إياك والدالة فإنها تفسد حرمة‪ ،‬ومنها أتي البرامكة‪.‬‬
‫وقال المأمون‪ :‬الملوك تَح َتمِلُ كلّ شيء إل ثلثاً‪ :‬إ ْفشَاءَ السر‪ ،‬والقدح في الملك‪ ،‬والتعرّض للحُرَم‪.‬‬
‫المعتصم‪ :‬إذا نُصِر الهوى بطل الرَأي‪.‬‬
‫ب من لذة التَشَفي؛ وذلك أن لذةَ ال َعفْ ِو يلحقها حَمد العاقبة‪ ،‬ولذّة التشفّي يلحقها ذم الندم‪.‬‬ ‫طيَ ُ‬‫المنتصر ‪َ -‬لذّةُ العَفْوِ أَ ْ‬
‫ل قد عَ َقدَ لولده‬
‫شهَ ُر من أن يُذكَرَ‪ ،‬ولكني ُأ ْلمِعُ منه بالسير‪ :‬كان المتوكّ ُ‬ ‫والمنتصر يقول عن تجربة‪ ،‬لنه قتل أباه المتوكل‪ ،‬والمْرُ في ذلك أَ ْ‬
‫ت تتمنى موتي‪ ،‬وتنتظر وَقتي!‬ ‫خ َويْهِ‪ ،‬وكان يسميه المُنتظِر‪ ،‬ويقول له‪ :‬أن َ‬ ‫المنتصر والمعتزّ والمؤيد ولي َة العهد‪ ،‬ثم تغيّر على المنتصر دون أَ َ‬
‫ن من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين كان‬ ‫ويأم ُر الندماء أن يعبثوا به‪ ،‬إلى أن أوْغَر صدْره‪ ،‬وأقلّ صبره؛ فلما كانت ليلة الربعاء لثلثِ خَلْو َ‬
‫المتوكّل يَشْرَب مع ال َفتْحِ في قصره المعروف بالجعفري‪ ،‬ومعه جماعة من الندماء والمغنيّن‪ ،‬وكأن المنتصر معهم‪ ،‬فلما انصرمت ثلثُ‬
‫سعُني ساعةً حتى أشكو إليك ما يمرّ بي؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬وجعل يماطله ويطاوله‪ ،‬وغَلّق بُغا الشرابي‬ ‫ت من الليل قال لزرَافَة التركي‪ :‬أل تَ َ‬ ‫ساعا ٍ‬
‫ب عليه‪،‬‬ ‫ل باب الماء‪ ،‬ومنه دخل الذين قتلوه‪ ،‬فأوّل مَنْ ضربه باغر التركي ضربة قطع بها حبل عاتقه‪ ،‬وتلقاه ال َفتْح بنفسه فأكَ ّ‬ ‫ب كلّها إ ّ‬‫البوا َ‬
‫ف ُقتِل جميعاً‪ ،‬وبويع المنتصر من ساعته‪ ،‬وكانت مدّة المنتصر في الخلفة مدة شيرويه ابن كسرى ‪ -‬حين قتل أباه ‪ -‬ستة أشهر‪.‬‬
‫وقال إبراهيم بن أحمد السدي يرثي المتوكّل‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ي ومِـــزْهَـــ ٍر ومُــــــدَامِ‬ ‫بين نـــا ٍ‬ ‫هكـذا فَـلْـتَـكُـنْ مَـنـــايا الـــكِـــرامِ‬

‫‪59‬‬
‫كأس لـذاتـه وكـــأس الـــحِـــمـــام‬ ‫بين كـأســين أرْ َوتَـــاه جـــمـــيعـــًا‬
‫ح ْتفُه في المنامِ‬
‫يَقظٌ في السرور حتى أتاه قدر الَُ َ‬
‫ن وبـالـمُـرهَـفـات مَـوتُ الـــكـــرام‬ ‫َ‬ ‫والمنايَا مَراتب يتفاضل‬
‫بصـنـــوفِ الوْجـــاع والســـقَـــام‬ ‫لم يزرْ نـفـسـه رســولُ الـــمـــنـــايا‬
‫في سُـتُـور الـدّجَـى بـحـدّ الـحــسَـــام‬ ‫هابَـه مُـعْـــلـــنـــاً فـــدَب إلـــيه‬
‫أخذ هذا المعنى عبد الكريم بن إبراهيم التيمي‪ ،‬فقال يرثي عيسى بن خلف‪ ،‬صاحب خراج المغرب‪ ،‬وكان قد تناول دوا ًء فمات بسببه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لها مِن ثنايا شاهِق ُمتَطـلـعـا‬ ‫منايا س َددْتَ الطرْقَ عنها ولْم تَدع‬
‫طمَعـا‬ ‫ج ْد فيك مَ ْ‬ ‫عليك ولما لم تَ ِ‬ ‫فلماّ رأت سُورَ المهابة دونـهـا‬
‫توَاجه موفور الجَللَةِ أروَعـا‬ ‫ترقّت بأسبابٍ لِطَافٍ ولم تـكـد‬
‫على حينِ لم تَحذَر لداء تَ َوقُعـا‬ ‫فجاءتك في سِرَ الدواء خَـفِـيّةً‬
‫ش كيداً فترجعا‬ ‫ول مثلها لم تخْ َ‬ ‫سهْمهـا‬ ‫فلم أر ما ل َ ُيتّقى مثل َ‬
‫ض َريْن ليلة َقتْله‪ .‬فاختفى أحدُهما في طيّ الباب‪ ،‬والخر في‬ ‫وقد رثاه البحتري ويزيد المهلبي بمرثيتين من أَجودِ ما قيل في معناهما‪ ،‬وكانا حا ِ‬
‫قناة الشاذَرْوَان؛ فمن قصيدة البحتري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وقُوّض بادي الجعفريّ وحاضرهْ‬ ‫جعَـفَـ ِريّ وُأنْـسـه‬ ‫َتغَيّرَ حسنُ ال ْ‬
‫فآضت سوا ًء دُورُه ومـقـابـرُه‬ ‫ل عنه سـاكـنـو ُه فُـجَـاءةً‬ ‫حمَ َ‬
‫تَ‬
‫وإذ ذُعِـرَتْ أطـلؤه وجـآذِرْه‬ ‫س ْربُـهُ‬ ‫ولم أرَ مثل القَصرِ إذ رِيعَ ِ‬
‫ستَـا ُرهُ وسـتـائرُهْ‬ ‫على عجَل َأ ْ‬ ‫ح فيه بالرّحيل َف ُهتّـكَـتْ‬ ‫وإذْ صِي َ‬
‫وقد كان قبلَ اليوم ُيبْـهَـجُ زائرُهْ‬ ‫لسَـى‬ ‫جدَ لـنـا ا َ‬ ‫إذا نحن زُرْناه أ َ‬
‫َتنُوبُ وناهِي الدهر فيهم وآمـ ُرهْ‬ ‫فأين عميدُ الناسِ فـي كـل نَـ ْوبَةٍ‬
‫وأولى لمن ي ْغتَالُه لو يجَـاهِـ ُرهْ‬ ‫تَخَفّى ل ُه مُغتَالُـهُ تـحـتَ غِـرّةٍ‬
‫حمْرٌ أظافِـرُهْ‬ ‫يَجُودُ بها والموتُ ُ‬ ‫صريع تقاضاه السيوفُ حُـشـاشةً‬
‫دماً بدم يجري على الرض مائِرُهْ‬ ‫ح بَعـ َدكَ أو أَرى‬ ‫حَرام عليّ الرا ُ‬
‫َمدَى الدهر والموتورُ بالدم وَاتِرُهْ‬ ‫ل يُ ْرتَجى أن يَطْلُبَ الدمَ طالبٌ‬ ‫وه َ‬
‫ول حمّلت ذاك الدعا َء َمنَـابـرهْ‬ ‫فل ملّيَ الباقي تُرَاثَ الذي مضى‬
‫ن أذهلته المصائبُ عن تخوّف العواقب‪.‬‬ ‫ح مَ ْ‬ ‫وهي طويلةٌ‪ ،‬وكان أبو العباس ثعلب يقول فيها‪ :‬ما قيلت هاشمية أحسن منها‪ ،‬وقد صرّح فيها تصري َ‬
‫وقد كان البحتري يرتاح في كثير من شعره إلى ذكره وذكر الفتح بن خاقان‪ ،‬فمن ذلك قوله لبعض من يمدحه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫على فاق ٍة ذاك النّدى والتطـوُلُ‬ ‫ن منكَ‪ ،‬ونالـنـي‬ ‫تداركَني الحسا ُ‬
‫لدفْ ِع الذى عني ول المتـوكّـل‬ ‫ح يُ ْرتَجَى‬ ‫ودا َفعْتَ عني حين ل ال َفتْ ُ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وبين قتيل فـي الـدمـاء مـضَـرَج‬ ‫ح بـين مُـوَسّـدٍ‬ ‫مضى جعفرٌ والفَـتْـ ُ‬
‫ثَوَى منهما في التربِ أ ْوسِي وخَزْرَجي؟‬ ‫ب أنْصاراً على الدهـر بـعـدمـا‬ ‫أأطُْل ُ‬
‫وقال في غلم له‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ودَهْ ٌر تَوَلّـى بـالحـبّ ِة يُقْـبِـلُ‬ ‫جعَةِ الوصل يوصَلُ‬ ‫س من رَ ْ‬ ‫عسى آي ٌ‬
‫وحالَ التّعـادي دونـه والـتـزيلُ‬ ‫أياً سكناً فاتَ الفـراقَ بـنـفـسـه‬
‫ولم يخترمْ نفسي الحِمامُ ال ُمعَجّـلُ؟‬ ‫أتعجبُ لّما يَغُلْ جِسْمي الـضّـنـا‬
‫شفْعاً لـه الـمـتـوكّـل‬ ‫وفارقني َ‬ ‫فَ َقبَْلكَ بانَ ال َفتْحُ مـنّـي مـودّعـاً‬
‫ت يَفْـعَـلُ‬ ‫ول َفعَلَ الوجدُ الذي خِ ْل ُ‬ ‫فما بَلَ َغ الدّمع الذي كنتُ أرتـجـي‬
‫وقال أبو خالد يزيد بن محمد المهلبي في قصيدة أولها‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ع ْينَاي مفت َقدُ‬ ‫ن فَقدَتْ َ‬ ‫ول َكمَ ْ‬ ‫جدَ إلَ أراه دُونَ ما أجدُ‬ ‫ل وَ ْ‬
‫يقول فيها‪:‬‬
‫سدُ‬ ‫لَ‬ ‫كما هَوَى من عضاهِ الزُبية ا َ‬ ‫ل َي ْب َعدَنْ هالك كانـت مَـنِـيّتـهُ‬
‫ل أتتْه المنايا والقنَا قُـصُـدُ؟‬ ‫هَ‬ ‫جاءت مَنِيتُـهُ والـعـينُ هـادِية‬
‫لم يَحمِ ِه مُ ْلكُه لمّا انْقَضى المَـدُ‬ ‫فخ َر فوق سرير الملك ُمنْـجَـدِلً‬
‫إذ ل يهزُ إلى الجاني علـيك َيدُ‬ ‫ضيْمًا بعد ليلتـهـم‬ ‫ل يدفع الناسُ َ‬
‫صمَـدُ‬ ‫وليس فوقك إلّ الواحدُ ال َ‬ ‫ن ل دونَـه أحـدٌ‬ ‫عَلتْك أسياف مَ ْ‬
‫وإن ر َث ْيتُ فإن الشع َر مُـطَـ ِردُ‬ ‫إذا بكيتُ فإن الدم َع مُنـهَـمِـلٌ‬
‫ت َقبْلك أقوا ٌم فمـا فُـقِـدُوا‬ ‫وما َ‬ ‫إنَا فَ َقدْناكَ حتى ل اصطبارَ لـنـا‬
‫فعل َمتْني الليالي كيف أ ْقتَـصِـدُ‬ ‫قد كنتُ أُشرِفُ في مالي فتُخِْلفُـهُ‬
‫وقال فيها يذكر التراك‪ ،‬ويحضّ على اصطناع العرب‪:‬‬
‫ضعْتم وضيعت ُم مَنْ كان يُعتَقدُ‬ ‫ِ‬ ‫حفَاظَ لهـم‬ ‫لما اعتقدتم أُناساً ل ِ‬

‫‪60‬‬
‫حمتكم الذَادة المنسوبة الحُشُـدُ‬ ‫ولو جعلتم على الحرا ِر نعمَتكُم‬

‫والدينُ والمجدُ والرحامُ والبلـ ُد‬ ‫قوم همُ الصلُ والسما ُء تجمعكم‬
‫سدُوا‬ ‫على الهوَان وإنْ أكرمتهم فَ َ‬ ‫إن العبي َد إذا أذللتهم صـلـحُـوا‬
‫وقال أبو حية النميري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫نَؤوم الضحى في مَأتمٍ أي مـأْتـمِ‬ ‫َر َمتْهُ فتاة مـن ربـيعة عـامـرٍ‬
‫صحيحاً وإلَ تقتُليهِ فـألْـمِـمِـي‬ ‫فقلن لها في السر‪ :‬نفْـدِيك ل يَرُح‬
‫بأحسَن موصولَين كف ومعصـم‬ ‫فأَ ْلقَت قِناعًا دونه الشمسُ واتّقَـتْ‬
‫وعينيه منها السحرَ قالت لـه نَـمِ‬ ‫ت فـي فـؤاده‬ ‫وقالت فلمّا أفرَغـ ْ‬
‫ج من الليل مُـظْـلِـمِ‬ ‫تَرَوَح أم دا ٍ‬ ‫فأصبح ل َيدْرِي أفي طلعة الضحى‬
‫أخذ قوله‪ :‬فألقت قناعًا دونه الشمس من قول النابغة الذبياني‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫كالشمس يومَ طلوعِها بالس ُعدِ‬ ‫قامت تَرَاءى بين سَجفَي كِـلَةٍ‬
‫فَتناولته واتقـتْـنـا بـالـيدِ‬ ‫سقَطَ النَصِيفُ ولم تُرِد إسقاطَه‬ ‫َ‬
‫وقال أبو حية يرثي سلمة بن عياش‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫به الليل والبِيض القِلَص النجـائبُ‬ ‫كأنَ أبا حفص فتى البَأس لـم يُجَـبْ‬
‫كراماً وتخطوه الخطوبُ الـنـوائبُ‬ ‫إلى الغاية القُصوَى‪ ،‬ولم تهد فـتـيةً‬
‫ضعَتْ عنها ا ْلعَلَيا المشاجـب‬ ‫إذا ُو ِ‬ ‫ق العيِسِ حتى كـأنـهـا‬ ‫و ُي ْعمِلُ عتَا َ‬
‫سوى ال والعَضْبِ السُرَيجْي صاحب‬ ‫بعيد مثاني الهـم ُيمْـسِـي ومـالُـه‬
‫فتى في جسيمات المكـارم راغـبُ‬ ‫يَرُومُ جسيمات العُـل فـينـالـهـا‬
‫تَوَاتَرُ أفواجـاً إلـيه الـمـواكـب‬ ‫فإن يمسِ وَحْشًا بابُـه فَـلـربُـمـا‬
‫هِلل َبدَا وانجاب عنه الـسـحـائبُ‬ ‫يحيون بـسـامـاً كـأنّ جـبـينـهُ‬
‫ضمّنَ الـلَـحْـدَ غـائبُ‬ ‫ولكنه من ُ‬ ‫وما غائب مَنْ غـاب يُرجَـى إيابـهُ‬
‫وزعم الصولي أن أبا حية إنما قالها في محمد بن سليمان بن علي بن عبيد ال بن العباس‪ .‬وكان أبو حية جَيد الطبع‪ ،‬مألوفَ الكلم‪ ،‬رقيق‬
‫حواشي الشعر‪.‬‬
‫سئِلَ الصمعي عن قيس بن الملوح المجنون‪ ،‬فقال‪ :‬لم يكن مجنوناً‪ ،‬وإنما كانت به لُوثة كلوثة أبي حَية‪ ،‬وهو القائل‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وُ‬
‫عشية أحجارِ الكِنـاسِ َرمِـيمُ‬ ‫ل بيني وبينـهـا‬ ‫ستْرُ ا ّ‬
‫رمتني و ِ‬
‫ل يهـيمُ‬ ‫ض ِمنْتُ لـكـم أل يَزَا َ‬
‫َ‬ ‫رميمُ التي قالت لجارات بيتهـا‪:‬‬
‫ولكنّ عهدي بالنـضـار قـديم‬ ‫ب يوم رمتْني رمـيتـهـا‬ ‫أل رُ ّ‬
‫ط َدمِي شخصٌ عليَ كـريم‬ ‫أشَا َ‬ ‫فيا عجبًا من قـاتـلِ لـي أودّهُ‬
‫لمدنَف أحْناءِ الضلوع سَـقـيم‬ ‫يرى الناسُ أني قد سَلَ ْوتُ‪ ،‬وإنني‬
‫وأنشدني إسحاق بن إبراهيم المَوصلي في مثله‪ ،‬ولم يسَمّ قائله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫مُعا ِودَتي أيامُهنّ الـصـوالـح‬ ‫لدْم كالَرام والزّه ُر كال ّدمَى‬ ‫هل ا ُ‬
‫ف من حسنهن ورامـحُ‬ ‫لها سائ ٌ‬ ‫زمانَ سِلحي بينهنّ شبـيبـتـي‬
‫ش ْيبِي ولو سَالَتْ بهن الباطـحُ‬ ‫ِل َ‬ ‫فأقسمْنَ ل يسقينني قَطْ َر مُـزنَةٍ‬
‫وقال هارون بن علي بن يحيى المنجّم‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫نّ إلى انصرام وا ْنقِضَـابِ‬ ‫الـغـانـيات عـهــودُهُ‬
‫ةَ بالـخـديعة والـكِـذابِ‬ ‫شبْنَ له الـمـودّ‬ ‫مَنْ شابَ ِ‬
‫كَ في الشبيبة غيرُ خابـي‬ ‫فا ْنعَ ْم بـهـنّ و َزنْـدُ سِـنّ‬
‫وغصُونه الخُضر الرّطابِ‬ ‫ما ُدمْتَ في رَوْق الصّـبَـا‬
‫عذَا َركَ في التصابي‬ ‫واخْلَع ِ‬ ‫فافْخَـرْ بـأيام الـصّـبـا‬
‫ت تعذر بالشـبـابِ‬ ‫ما دُم َ‬ ‫ب نـصـيبـهُ‬ ‫وَاعْطِ الشبا َ‬
‫وقال أشجع بن عمرو السلمي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وغصنا ُه يهتَزّانِ في عُوده الرّطْبِ‬ ‫ي ل أُعْطي الشبابَ نصيبـهُ‬ ‫وما ل َ‬
‫فأسرعتُ باللذات في ذلك ال ّنهْـبِ‬ ‫رأيتُ الليالي ينتهبن شـبـيبـتـي‬

‫فقد جُزن سَلمي وانتهين إلى حَرْبي‬ ‫فإنّ بنات الدّهر يخلـسـنَ لـذّتـي‬
‫على الرأس أمثال الفتيل من العَطْب‬ ‫وقد حوّلَت حالي الليالي وأسرَجـت‬
‫إذا كان ذا حالين يَصبُو ول يُصبـي‬ ‫ومَوْت الفتى خيرٌ له مـن حـياتـه‬
‫وقال آخر‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫تحب وأن يحبك مَن تُحبه‬ ‫ما الــعَـــيش إل أن‬

‫‪61‬‬
‫فِقَ ّر تتصل بهذه البيات‪ ،‬وفي وصف الشباب‬
‫ل ذيولَ الهوى‪ ،‬و َركَضَ في ميدان التصابي‪ ،‬وجنى ثمرات الملهي‪ .‬هو في‬ ‫أطاع الشبابَ وغِرّته‪ ،‬وأجاب الصبا وش َرتَهُ‪ ،‬جرّ إزارَ الصبا‪ ،‬وأذَا َ‬
‫إقتبال شبَابه‪ ،‬وحداثة أترابه‪ ،‬و َر ْيعَان عمره‪ ،‬وعُنفوان أمره‪ .‬هو في إبان شبابه واعتداله وريعان إقباله واقْتباله‪ .‬بعثَه على ذَلك أشَر الصبا‪ ،‬ولينَ‬
‫حدَاثة‪ ،‬فَتي السن‪ ،‬رطيب الغصنِ‪ ،‬عمره في إقباله‪ ،‬ونشاطُه في استقباله‪ ،‬وشبابُه في اقتباله‪ ،‬وماؤه بحاله‪.‬‬ ‫شرْخُ الشبيبة‪ ،‬وسكر ال َ‬ ‫الغصنِ‪ ،‬و َ‬
‫فلنّ في حكم الطفال‪ ،‬الذين لم يَعضّوا على نَوَاجِذ الرجال‪ .‬هو في عنفَوان شبيبةٍ تُخاف سقطاتُها وهَفواتُها‪ ،‬ول يُؤمن جَيحاتها ونَزواتُها‪ .‬هو‬
‫في سكرَى الشباب والشراب‪ ،‬وبين نزوات الشبان‪ ،‬ونزغَات الشيطان‪ .‬شبابُه أَعمَى عن الرشد‪ ،‬أصمّ عن العَذل‪ ،‬قد لبّى دَاعِيَ هَواه‪ ،‬وانغمس‬
‫جرِبة‪ ،‬جامحٌ في عِذار‬ ‫غفْلٌ من سِمةِ التّ ْ‬ ‫صبَا‪ .‬فلن ُ‬ ‫صبَاه‪ .‬قد هَجَم بسكْرِ الحداثَة على سكرات الحوادث‪ ،‬يَجْرِي إلى الصّبا جَ ْريَ ال َ‬ ‫في ُلجّةِ ِ‬
‫عذَاره ومِقوَده‪ ،‬وأ ْلقَى إلى البطالة باعَه و َيدَه‪ .‬هو بين‬ ‫صعْبُ المراس على لجام العظَة‪ .‬هو مِنْ سلطان الصّبا في النّ ْوبَة الولى‪ .‬قد خلع ِ‬ ‫الغَفْلَة‪َ ،‬‬
‫خمَار ال َغدَاة وسكر العَشِي ل يعرف الصّحو‪ ،‬ول يفارق اللهو‪ .‬فلن ل يفيق‪ ،‬ول يذكر التوفيق‪ .‬هو بين غرَرِ الشباب‪ ،‬وغُرَر الحباب‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ويتعلّق بهذه اللفاظ ألفاظ لهم‬
‫في نجابة الشباب وترشحهم للمعالي‬
‫شيْبة‪ .‬هو بين شباب‬ ‫قد جمع نَضَارة الشباب إلى ُأبّهة المشيب‪ ،‬وهو على حدوث ميلدِه وقُرْب إسناده شيخ َقدْرٍ وَ َهيْبَة‪ ،‬وإن لم يكن شيخَ سِنّ و َ‬
‫مُقْتبل‪ ،‬وعقل م ْك َتمِل‪ ،‬قد لبس بُ ْردَ شبابه على عَقْل كهل‪َ ،‬ورَأي جزل‪َ ،‬و َمنْطِق فصل‪ .‬للدهر فيه مقاصد‪ ،‬ولليام فيه مَواعد‪ ،‬أرى له عي فصل‬
‫ض ٍر وفتح‪ .‬قد استكَمل قوّة الفَضل‪ ،‬ولم يتكامَل له سِنّ ال َكهْلِ‪ .‬ما زالت َمخَايِلُه‬ ‫ن اليام وَدائَع الحظوظ والًقسام‪َ ،‬تبَاشِي َر نجح‪ ،‬ومَخايلَ ن ْ‬ ‫ضما ِ‬
‫عيَان الرجال‪ ،‬التي ل تدرك إلَ مع الكمال‬ ‫ح فيه! قد سما إلى مراتب أ ْ‬ ‫وليداً وناشئاً‪ ،‬وشمائله صغِيراً ويافعاً‪ ،‬نواطِق بالحسن عنه وضوامِنَ النج ِ‬
‫والكتهال‪ .‬ح ِمدَت عزائمه‪ ،‬قبل أن حُلَت تمائمه؛ وشهِدت مكرماته‪ ،‬قبل أن تدرجَ ِلذَاته‪.‬‬
‫وقال البحتري‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫في السن وانظر إلى المجد الذي شَادَا‬ ‫ل تنظرن إلى العباس مـن صـغـر‬
‫صعَـادا‬‫في العين أذهبها في الجوَ إ ْ‬ ‫إن النجوم نجومَ الفقِ أصـغـرهـا‬
‫وقال آخر‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ولم يقسَم على قَدرِ السنينا‬ ‫رأيت العقل لم يكن انتهاباً‬
‫حوى الباءُ أنصب َة البنينا‬ ‫فلو أن السنين تقسَمـتـه‬
‫وقال الفضل بن جعفر الكاتب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫به ُر ْتبَةَ ال َكهْلِ المؤهَل للمَـجْـدِ‬ ‫فإن خلّفته السن فالعَقـلُ بـالـغ‬
‫صبِياً وعيسى كلَم الناسَ في المهْدِ‬ ‫حكْم قبـلـه‬ ‫فقد كان يحْيَ أُوتِيَ الْ ُ‬
‫عمَر حتى التقى بابن مناذر فاستنشده شعره‪ ،‬فأنشده أبو حية‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وكان أبو حيّة كثير الرواية عن الفرزدق‪ ،‬و ُ‬
‫لبِسْنَ البِلى مِما َلبِسْنَ اللّيالـيا‬ ‫ي من أجل الحبيب ال َمغَانيا‬ ‫ألَ حَ ّ‬
‫تقاضاه شي ٌء ل يملّ التقَاضيا‬ ‫إذا ما تَقَاضى المرءَ يومٌ وليلة‬
‫ن ُيبْقِينَ باقيا‬‫سَوِيَ ا ْل َعصَا لو كُ َ‬ ‫حَنتكَ الليالي بعدما كنت مـرةً‬
‫فقال ابن مناذر‪ :‬أوَ شع ٌر هذا؟ فقال أبو حيّة‪ :‬ما في شعري عيب‪ ،‬غير أنك تسمعه‪.‬‬
‫وفي هذه القصيدة يقول أبو حيّة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وتكَديرَها الشرْبَ الذي كان صافيا‬ ‫ولما أبـتْ إلّ الـتّـوا َء بِـ ُودَهـا‬

‫وكيف يعاف ال َرنْقَ من كان صَادِيا؟‬ ‫ق مِنْ هَوَاهـا مُـكَـدّ ٍر‬ ‫شربتُ ب َرنْ ٍ‬
‫وقد قال عَمرُو بن قَميئةَ في معنى قول أبي حية‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فألنها الصبـاحُ والمْـسـاءُ‬ ‫كانت َقنَاتي ل تَلِينُ لـغـامـزٍ‬
‫لمَةُ داءُ‬‫ليُصِحنِي فـإذا الـسـ َ‬ ‫ودعوتُ ربي في السلمة جاهداً‬
‫وقال النّمر بن تولب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فكيف يرى طولَ السلمة ي ْفعَلُ؟‬ ‫يَ َودُ الفتى طولَ السلمة والبَـقـا‬
‫ينوءُ إذا رَامَ القـيام ويُحْـمَـلُ‬ ‫يعود الفتى من َب ْعدِ حُسنٍ وصحةٍ‬
‫وقد روي في الحديث الشريف‪" :‬كفى بالسلمة داءً"‪.‬‬
‫حمَيد بن ثور في قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقد أحسن ُ‬
‫وحَسْبكَ دا ًء أن تَصح وتَسْلَمـا‬ ‫صحَةٍ‬ ‫أرَى بَصَرِي قد رَابَني بعد ِ‬
‫إذا طلبا أن يدركا ما تـيمّـمـا‬ ‫ولن يَلبَثَ العصْران يوم ولـيلةٌ‬
‫حمَيد‪ ،‬ومن أجوَد ما فيها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وهذان البيتان من قصيدة طويلة‪ ،‬وهي أجود شعر ُ‬
‫دَعَتْ ساقَ حُر تَرحَ ًة وتَرنُـمَـا‬ ‫حمَـامَةٌ‬‫ومَا هاجَ هذا الشوقَ إلّ َ‬
‫طعَـمَـا‬ ‫مولّه ًة تَبغي له الدَه َر م ْ‬ ‫تَروح عليه وَالهاً ثـم تَـغْـتَـدِي‬
‫وتَبكي عليه إنْ َزقَا وتَـ َرنّـمـا‬ ‫تؤمل منه مُ ْؤنِسـًا لنْـفـرَادِهـا‬
‫إذ هُ َو َمدَ الجيد منهُ لِيطْـعَـمـا‬ ‫كأنَ على إشراقه نورَ خـمـرةٍ‬
‫جثَمـا‬ ‫لها مَعهُ في ساحةِ الحي م ْ‬ ‫فلمَا ا ْكتَسَى الريشَ السُحامَ ولم تَجِد‬
‫به الريح صِرْفاً أيّ وجه َت َيمّمـا‬ ‫ن تَذَءّبـتْ‬ ‫تنحّتْ قريباً فوقَ غُص ٍ‬
‫لها وَلَداً إلّ رِماماً وأعْـظُـمـا‬ ‫سفّ فلـم َي َدعْ‬ ‫فأهوى لها صَقْ ٌر مُ ِ‬

‫‪62‬‬
‫لنائحةٍ في نَوْحِها مُـتَـلـوَمـا‬ ‫حيّا ولم تَدعْ‬ ‫فأ ْو َفتْ على غُصْنٍ ضُ َ‬
‫فصيحاً ولم تَ ْفغَ ْر ب َمنْطِقها فـمـا‬ ‫جبْتُ لها أنى يكونُ غِـنـاؤهـا‬ ‫عَ ِ‬
‫جمَـا‬
‫ول عَرَبيّا شاقَهُ صَوتُ أعْ َ‬ ‫ت ِمثْلِهـا‬‫فلم أر مِثلِي شاقَهُ صَوْ ُ‬
‫ومن خبيث الهجاء قولُه في هذه القصيدة يخاطب رجلين بعثهما‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫خ ْثعَـمـا‬
‫ن َنهْداً و َ‬
‫وجاوزتما الح ّييْ ِ‬ ‫وقول إذا جاوزتُما أَ ْرضَ عـامـرٍ‬
‫جمَا‬
‫حَ‬ ‫أبوْا أن يريقوا في الهَزاهِ ِز مِ ْ‬ ‫تريعان مِنْ جَرْ ِم بـنِ َزيّانَ أنـهـم‬
‫وما ُهجِيت جَرْم بأش َد من هذا‪ ،‬يريد أنهم لذلتهم لم َيتِروا أحداً فيطالبهم ِبذَحْل‪.‬‬
‫ل من يَ ْفنَى ببقائه‪ ،‬ويَسْقَم بسلمَتِه‪ ،‬ويُؤتى من مَأمنه‪.‬‬ ‫وقال الصمعي‪ :‬قيل لبعض الصالحين‪ :‬كيف حالُك؛ قال‪ :‬كيف حا ُ‬
‫وقال محمود الوراق‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫علـــى ثـــقةٍ أنّ الـــبـــقـــا َء بَـــقَـــــاءُ‬ ‫يُحِـب الـفـتـى طــولَ الـــبـــقـــاء كـــأنـــهُ‬
‫إذا ما طوى يوماً طوى اليو ُم َبعْضَهويَطْويه إنْ جَن المساء مَساءُ‬
‫وأنـى عـلـى نَـقْـــصِ الـــحـــياة نـــمـــاءُ؟‬ ‫حيَاته‬ ‫زيادته في الجسم نقصُ َ‬
‫ول لـهـمـا بَـعْـــدَ الـــجـــمـــيع بـــقـــاءُ‬ ‫جديدان ل يَبْـقَـى الـجــمـــيعُ عـــلـــيهـــمـــا‬
‫وقال المتنبي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن قُـوّتـي ضَـعْـفُ‬ ‫ي مِـ ْ‬‫وقُوةُ عِشقٍ وَ ْه َ‬ ‫ي نَـقْـصُ زِيادتـــي‬ ‫زيادةُ شَـيْبٍ وَهْـ َ‬
‫وبيت محمود الخير كقول البحتري‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫َأنَـهْـب مـا تُـصَـرّف أم جُـبـــارُ؟‬ ‫أناةً أيها الفَلك المُدارُ‬
‫كمـا تُـبْـلـي فـيد َركُ مِـنْـكَ ثـــارُ‬ ‫ل مـا تـفْـنـي وتَـبْـلَـى‬ ‫ستَ ْفنَـى مـثـ َ‬
‫َ‬
‫و َي ْدمُـرُ فـي تَـصَـرّفـه الــدّمـــارُ‬ ‫ت إذا تـنـــاهَـــتْ‬ ‫تُنـابُ الـنـائبـا ُ‬
‫مطـاياهُـمْ رَواحٌ وابْـــتِـــكـــار‬ ‫ومـا أهْـلُ الـمـنـازِلِ غَـيْر َركْـــبٍ‬
‫ويقول فيها‪:‬‬
‫ن َرجّيها وأعمـا ٌر قِـصـارُ‬ ‫لنا في الدَهر آمـال طـوالٌ‬
‫ن به ْم فساروا‬ ‫لقد طَ َردَ الزما ُ‬ ‫أما وأبي بني حار بْنِ كعـبٍ‬
‫ل منهم والنـهـارُ‬ ‫ونالَ اللي ُ‬ ‫أصاب الدَهْرُ دولةَ آلِ وَهْبٍ‬
‫تقاضاهُ ْم فَ َردُوا ما استعاروا‬ ‫أعارَهُم رداءَ العِز حـتـى‬

‫لمبصرِها وأيديه ْم بِحَارُ‬ ‫ج ِههُ ْم ُبدُور‬


‫وقد كانوا وأوْ ُ‬
‫أخذ قوله‪ :‬ست ْفنَى مثل ما تُفْنى أبو القاسم بن هانئ فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫شمْسُ والقمرُ‬ ‫والنيرانِ‪ :‬ال ّ‬ ‫تَفْنى النجومُ الزّهر طاِلعَةً‬
‫منظوم ًة فَلَسوْف تَنتـثِـرُ‬ ‫وَلئِنْ ت َبدَتْ في مَطالِعـهـا‬
‫فلسوف يُسِْلمُها َو َينْ َفطِـرُ‬ ‫ولئن سعى الفََلكُ المدا ُر بها‬
‫وقد استقصى علي بن العباس الرومي المعنى الول فقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫حتى َتكُرَ عليه لَـيلةُ الـقَـرَبِ‬ ‫شئُهُ‬ ‫ث ُينْ ِ‬ ‫والدّه ُر ُيبْلي الفتى من حيْ ُ‬
‫ويحْتسي نغَبًا ِمنْهُ علـى نُـغَـبِ‬ ‫َيغْذُوهُ في كل آنٍ وَهْـوَ ي ْأكُـلـه‬
‫تسرّب الماء في مُسْتأنَفِ ال ُكتَـبِ‬ ‫ل فَحالٍ من شَبـيبـتـهِ‬ ‫يُودي بحا ٍ‬
‫وإنْ أجم فلَ ْم يُنكَـبْ ولـم يُنَـب‬ ‫خنَى دهْرٍ تطاوُلُهُ‬ ‫حَسْب امرئ مِنْ َ‬
‫والعمْرُ أ ْقدَح مِبرَا ًة من الوَصَـبِ‬ ‫ف من وَقا ِئعِـهِ‬ ‫في ُه ْدنَةِ الدَهْرِ كا ٍ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫حرزاً لِشِلو من العْداء مشـجـونِ‬ ‫يَا بَانِي الحِـصْـنِ أرسـاه وشَـيدَهُ‬
‫سبَح النونِ‬ ‫في مطمح النسر أو في مَ ْ‬ ‫انظر إلى الدهر هل فاتته بغـيتُـهُ‬
‫سجْن لـمـسـجـونِ‬ ‫صتُه ِ‬ ‫فإنما حِ َ‬ ‫ومن تحصن َمنْخُوباً عـلـى َوجَـل‬
‫علْمُ مفـتـونِ‬ ‫بل ليس جهلً ولكنْ ِ‬ ‫جهْلً قد أضَـرَ بـنـا‬ ‫أشكو إلى ال َ‬
‫وقال الطائي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لتُ ُه ل مَعاقِلُه‬ ‫أولئك عُقا َ‬ ‫وإن ُتبْنَ حيطان عليه فإنما‬
‫خنْتني فاتهمتني‪ ،‬فقال‪ :‬إذا انقَضَت‬
‫ودخل يحيى بن خالد على الرشيد وقد ابتدأت حاله في التغير‪ ،‬فأُخبر أنه مشغول‪ ،‬فرجع‪ ،‬فبعث إليه الرشيد‪ُ :‬‬
‫المدة كان الْحَتفُ في الحيلة‪ ،‬وال ما انصرفتُ إل تخفيفاً‪.‬‬
‫أخذه ابن الرومي فقال وقد فصده بعضُ الطباء‪ ،‬فزعم أن الفَصدَ زاد في علّته‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عجزت محالته عن الصدارِ‬ ‫غلط الطبيبُ عليَ غَلطَ َة مُوردٍ‬
‫غََلطُ الطبيبِ إصابةُ المقـدارِ‬ ‫س يَلْحَوْنَ الطبيب‪ ،‬وإنمـا‬ ‫والنا ُ‬
‫ما قيل في الثغر‬
‫وقال أبو حية النميري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫‪63‬‬
‫ِرقَاق الثنَايَا عَ ْذبَةَ الـمـتـ َرنَـ ِ‬
‫ق‬ ‫صرْفاً مروَقـاً‬ ‫س َقتْنِي بكَ ْأسِ الحبّ ِ‬ ‫َ‬
‫كنَوْ ِر القاحي طيب الـمـتـذوَق‬ ‫وخُمصانَ ٍة تَ ْفتَرُ عن مـتـنـشـق‬
‫ب من عُودِ الراك المخـلَـقِ‬ ‫أنابي َ‬ ‫إذا امتضغت بعد امتتاع من الضحى‬
‫فضيضًا بخرْطُوم الرَحيقِ المرَوّق‬ ‫شعَبَ المسواك ماءَ غمـامةٍ‬ ‫سقَتْ ُ‬ ‫َ‬
‫وأنشد الثوري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وكالدر منظوماً إذا لم تكلّـمِ‬ ‫ترى الدّر منثورًا إذا ما تكلّمت‬
‫عيْنَ الناظر المتوسّـم‬ ‫وتملُ َ‬ ‫ب بِـدلـهـا‬ ‫تُعبّد أحرارَ القلو ِ‬
‫والبيت الول من هذين كقول البحتري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ومن لؤلؤ عند الحديث تُساقِطُهْ‬ ‫فمن لؤلؤ تَجْلُوهُ عند ابتسامِهـا‬
‫وقد تقدم‪.‬‬
‫قال أبو الفرج الرياشي‪ :‬سمعت الصمعي يقول‪ :‬أحسن ما قيل في وصف الثغر قول ذي الرمة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صبَحُ‬‫ك يُ ْ‬ ‫سُ‬ ‫من ال َع ْنبَرِ ال ِهنْدِيّ والمِ ْ‬ ‫ع مـن أراكٍ كـأنـه‬ ‫َوتَجلُو بِ َف ْر ٍ‬
‫إليِهِ الندَى من رامةَ المتـر َوحُ‬ ‫ذُرَى أقْحُوان وَاجَه الليل وا ْرتَقَى‬
‫ل يُفْصِـحُ‬ ‫س عنه كاد بالقو ِ‬ ‫خرَ َ‬ ‫لَ ْ‬ ‫سمَـتْ‬ ‫هِجان الثنَايا ُمعْرِب لو َتبَ ّ‬
‫ل النابغة الذبياني في صفة المتَجَ ّردَةِ امرأةِ النعمان بن المنذر‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫ومن قديم هذا المعنى وجيّده قو ُ‬
‫سفَ لِثاتُه بالثـمـدِ‬ ‫بَرَداً أُ ِ‬ ‫تَجْلو بقا ِد َمتَي حَمـام ِة أ ْيكَة‬
‫جَفّت أعاليه وَأسْفَلُه نَـدي‬ ‫غدَاةَ غبّ سمائِه‬ ‫ل ْقحُوَان َ‬ ‫كا ُ‬
‫ش ِهيُ المَوْرِد‬ ‫عَذبٌ م َقبّلهُ َ‬ ‫ن فَاهَا بَـا ِردٌ‬ ‫زَعَم ال ُهمَامُ بأ ّ‬
‫صدِي‬ ‫طشُ ال ّ‬ ‫يشفي بريّا رِيقها العَ ِ‬ ‫زَعم الهـمـامُ ولـم َأذُقـه أنـه‬
‫ومن قوله ‪ -‬ولم أذقه أخذ ك ّل من أتى بهذا المعنى‪ ،‬ففتقه الناس َب ْعدَهُ‪ ،‬قال المتوكل الليثي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ق ودَنَ‬ ‫ق بَـيْنَ راوُو ٍ‬ ‫تَرَق َر ُ‬ ‫صرْفـاً‬ ‫ن مدامةً صهباءَ ِ‬ ‫كأ ّ‬
‫فِراس ُة مُقلتي وصَحِيحُ ظَني‬ ‫ُتعَلّ بها الثّنايَا من سلـيمـى‬
‫وقال بشّار‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫إلّ شهادةَ أطرافِ المـسـاويكِ‬ ‫طيَبَ الناس رِيقاً غي َر مختَبـرِ‬ ‫يا أ ْ‬
‫َثنّي ول تجعليها بَـيَضةَ الـدَيكِ‬ ‫قد ُز ْرتِنا مرةً في الدهر واحـدةً‬
‫حَسبي برائحة الف ْردَوس مِنْ فيكِ‬ ‫يا رَحمةَ الّ حُلّي في منازلـنـا‬
‫وقيل لبشار‪ :‬يا أبا معاذ‪ ،‬كم بين قولك‪ ،‬وأنشد هذه البيات‪ .‬وبين أن تقول‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫عظْمُ الجمل‬ ‫سكَ ِر ل َ‬‫َقصَبُ ال ُ‬ ‫إنما عَظْم سُلَيمـى خُـلّـتـي‬
‫غلب المِسكُ على ريح البَصلْ‬ ‫وإذا قُرَب مـنـهـا بَـصَـلٌ‬
‫جيَفَه‪.‬‬
‫صدَفهُ‪ ،‬ومرةً يقذف ِ‬
‫فقال‪ :‬إنما الشاعر المطبوع كالبحر؛ مر ًة يقذِف َ‬
‫ي بن العباس الرومي من أقْرَب متناول فقال‪ :‬وكَشَفه بأوْضح عبارة ‪ -‬في صفته لجارية أبي الفضل عبد‬ ‫وقد تناول هذا المعنى أبو الحسن عل ّ‬
‫الملك بن صالح السوداء بعد أن استوفى جميعَ صفاتها وكان قد ا ْقتُرِح عليه وصْفُها‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ختَـبِـرْ ولـم نَـذقِ‬ ‫وهم ولم نَ ْ‬ ‫صفْت فيها اّلذِي هَويت على ال‬ ‫و َ‬
‫منك إلينا عن ظبـية الـبُـرَقِ‬ ‫إلّ بأخبارك الـتـي رُفـعَـتْ‬
‫ن مَـخْـبَـ ٍر َيقَـقِ‬ ‫ذراك إلَ عَ ْ‬ ‫حاشا لسَوْداء منظرٍ سـكَـنَـتْ‬
‫وهذه البيات من قصيدة له وصف فيها السواد‪ ،‬واحتجّ بتفضيله على البياض‪ ،‬حتى أغْلق فيه الباب بعده‪ ،‬ومنع أن يَقْصد فيه أحد قصده‪ ،‬إلّ‬
‫ل بن العباس المسيب على فضائلها‪ ،‬وأجاد التشبيه‪ ،‬وكشف عن وجوه البداع‪،‬‬ ‫كان مقصّر السهم عن غرض الحسان‪ .‬وقد نبّه علي بن عبد ا ّ‬
‫وضروب الختراع‪.‬‬
‫وقد مدح الناسُ السوادَ والسّود فأكثروا؛ فمن جيد ما قالوا فيه قول أبي حفص الشطرنجي‪ :‬السريع‪:‬‬
‫عدَهْ‬
‫قائمةً في لوْنه قا ِ‬ ‫ك وأشبهتِهِ‬ ‫أشبَهك المِس ُ‬
‫أنكما من طينةٍ واحدهْ‬ ‫ك إذا لَوْنكما واحدٌ‬ ‫لش ّ‬
‫فأخذ ابنُ الرومي هذا المعنى‪ ،‬وأضاف إليه أشياء أخر توسعاً واقتداراً‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ذوات النـسـيم والـعَـبَـقِ‬ ‫سكّ‬ ‫يذكرك المسك والغَوالي وال ّ‬
‫ن تعاطى‬
‫وهذه الشياء وإن كانت ناقِصةً عن المسك‪ ،‬فهي ممدوحة بالطيب‪ ،‬غير مستغنى عن ذكرها في التشبيه‪ ،‬فأما زيادَتُه على جميع مَ ْ‬
‫مدح السواد فقوله‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫قر ول كُـلْـفَ ٍة ول بَـهَــق‬ ‫سوداء لم تنتسب إلى برَص الشّ‬
‫والبيض الشديد البياض َمعِيب‪ ،‬وقد دل عليه قوله‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫والحق ذو سلّم وذو نَفَـقِ‬ ‫و َبعْض ما فُضّل السوا ُد بهِ‬
‫ب البياضُ بال َبهَقِ‬ ‫وقد يُعا ُ‬ ‫أل يعيبَ السّوادَ حَ ْلكَـتُـهُ‬
‫ف هذه السوداء بالكمال في‬
‫ل لذلك مثلً؛ ثم قصد لوَصْ ِ‬ ‫قوله‪ :‬الحق ذو سُلّم وذو نَفَق أراد أنّ الحقّ يتصرًفُ في جهات‪ ،‬وضَربَ الصعودَ والنزو َ‬
‫الصفة؛ ومن عيب السُودان أن أكفّهم عابسة متشققة‪ ،‬وأطرافهم ليست بناعمة ليّنة‪ ،‬وكذلك ل يزال ال َفلْحُ في شفاههم‪ ،‬وهي الشقوق المذمومة‬

‫‪64‬‬
‫الموجودة في أكثر السودان في أوساط الشفاه‪ ،‬وأيضاً فإن السود مهجو بخبث العَرَق‪ ،‬فنفى هذه الصفات المذمومة الموجودة في أكثر السودان‬
‫عنها‪ ،‬فقال‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫فُلْحِ الشَفاهِ الخبائثِ الْـعَـرَقِ‬ ‫س الكُفّ ول ال‬ ‫لَيسَت من ال ُعبْ ِ‬
‫ثم عاج بخاطره على وصف هذه السوداء بأضداد تلك الصفات المذمومة‪ ،‬فقال‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫فرَاء أَو لِينِ جيدِ الدلَـق‬ ‫سمّورة تخيرها الْ‬ ‫في لِينِ َ‬
‫ومن بديع مدح السوداء قوله‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫صبغة حَب القلوب والْحَـدَقِ‬ ‫أكسبها الحبّ أنها صُـبِـغـت‬
‫شقْنَ أيما عَـشَـقِ‬ ‫أبصار َيعْ َ‬ ‫فانصرفت نحوها الضمائِرُ والْ‬
‫حدَق‪.‬‬
‫فأخبر أن القلوب إنما أحبتها بالمجانسة التي بينها وبين حَب القلوب من السواد‪ ،‬وكذلك الْ َ‬
‫ومن جيّد تشبيهات أبي نواس وقد نبه نديماً للصبوح فأخبر عن حاله وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫جَلَ التبسُم عن غُر الثنـياتِ‬ ‫ح كما‬ ‫فقام والليل يَجْلُوهُ الصبا ُ‬
‫ولعلي بن العباس عليه التقدم بقوله‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫من ثغرها كاللَلئ النّسق‬ ‫يفتَ ّر ذاك السوا ُد عن يَقق‬
‫ليل َتعَرَى دُجاه عن فَلَقِ‬ ‫حكُهـا‬ ‫ضِ‬ ‫ح يُ ْ‬ ‫كأنها والمزا ُ‬
‫ل هذا الكلم على ذاك أن هذا قدَمَ لمعناه في التشبيه مقدمة أيّ َدتْه‪ ،‬ووطََأتْ له الَذان‪ ،‬وأصغت الفهام إلى الستحسان‪ ،‬وهي قوله‪:‬‬ ‫وفض ُ‬
‫يَفَت ّر ذاك السوادُ عن يقق‬
‫وفي هذه السوداء يقول‪ ،‬وقد سأله أبو الفضل الهاشمي أن يستغرقَ صفات محاسنها الظاهرة والباطنة‪ ،‬فقال‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫من قلب صبّ وصدرِ ذي حَنق‬ ‫لها حِرٌ يسـتـعـير َوقْـدَتـه‬
‫ما ألهبتْ في حشاه من حُـرَق‬ ‫كأنـمـا حـرُه لِـخَـابــرِهِ‬
‫تَ ْزدَاد ضيقاً ُأنْشُوطةُ الـوَهَـق‬ ‫يَزْداد ضيقاً على المِراس كمَـا‬
‫ثم فكَ َر فيما فكَ َر فيه النابغة‪ ،‬وقد أمره النعمانُ بوصف المتجرّدة‪ ،‬فوصف ما يجوز ذكره من ظاهر محاسنها‪ ،‬ثم كره أن يذكر من فضائلها ما ل‬
‫يسوغ بمثله أن يذكر منها‪ ،‬فرد الخبار عن تلك الفضائل إلى صاحبها‪ ،‬وهو الملك‪ ،‬فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عذْب إذا قبّلته قلتَ أ ْز َددِ‬ ‫زعمَ الهُمام بأن فاها باردٌ‬
‫ي بن العباس هذا‪ ،‬فقال بعد ما سأله أن يستغرقَ في وصف فضائلها الظاهرة والباطنة‪ :‬المنسرح‪:‬‬ ‫فاحتذى عل ّ‬
‫خَ ّز الماديح ل مِنْ الْـخِـرَقِ‬ ‫خذْها أبا الفضل كسو ًة لك مِـنْ‬ ‫ُ‬
‫ْهمِ ولم نَخْـتَـبِـرْ ولـم نَـذُقِ‬ ‫وصفت فيها التي َهوِيتَ على الْو‬
‫ظبْـيَةِ الـبُـرَقِ‬ ‫منكَ إلينا عن َ‬ ‫إلّ بأخبارك الـتـي َوقَـعَـتْ‬
‫ل عنْ مـخـبـر يقَـقِ‬ ‫ذُرَاكَ إ َ‬ ‫حاشا لسوداء َمنْظَرٍ سَـكَـنَـتْ‬
‫ف المعنى وإيضاحه‪ ،‬ما زادَ‬ ‫ب معرِفتُه عن أكثرِ الناس‪ ،‬ولو آثرَ النابغةُ تركَ الختصار‪ ،‬وه َم بكَشْ ِ‬ ‫وهذا المعنى أومأ إليه النابغة إيماءً خفيّا تذه ُ‬
‫على هذا الكشف الذي كشفه ابن الرومي‪.‬‬
‫وأصحابه المعاني ينشدون للفرزدق‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عليه ولم أ ْبعَث عليه البَوَاكِـيَا‬ ‫ح قد رُزئتُ فلم أنح‬ ‫جفْنِ سِلَ ٍ‬
‫وِ‬
‫سَأتْـه لـيَالـيا‬
‫لَو أن المنايا أنْ َ‬ ‫طنِه مِنْ دَارِم ذو حَفِيظةٍ‬ ‫وفي بَ ْ‬
‫ومعناه عندهم أنه رثى امرأة توفَيت حاملً‪ ،‬فقال علي بن العباس وقد وصف هذه المرأة السوداء‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫كالسيف يفري مُضَاعَفَ الحلَقِ‬ ‫أخِلقْ بها أن تقومَ عـن َذكَـرٍ‬
‫أسْ َودُ والحق غير ُمخْـتَـلـقِ‬ ‫ف أكْـثـرهـا‬ ‫إنّ جفونَ السيو ِ‬
‫فْهذه زيادةٌ بيّنة‪ ،‬وعبارة واضحة‪ ،‬لم تحتج إلى تفاسير أصحاب المعاني‪ ،‬وقال ممّا لم ينشده المتنبي‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫مؤتَزَ ٍر مُعجب ومنتـطـقِ‬ ‫غُصْن من البَنُوس ُركَبَ في‬
‫ومن دواجي ذُرَاه في ورَقِ‬ ‫يهتز من ناهديه في ثـمـرٍ‬
‫وهذا معنى قد بلغ قائلُه من الجادة‪ ،‬فوق الرادة‪ ،‬وامتثل أبو الفضل الهاشمي ما أشار به ابن الرومي‪ ،‬فأولدها‪ ،‬فأنجبت‪.‬‬
‫وفي معنى قول الفرزدق قال الطائي وأحسن وذكر وََل َديْنِ تَوَْأ َميْنِ ماتا لعبد ال ابن طاهر‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫لبِـل‬‫رُزأيْن هاجَا لَوْع ًة وبَ َ‬ ‫ي نهارٍ واحدٍ‬ ‫إن تُرْزَ في طَ َرفَ ْ‬
‫إل إذا ما كان وَهْمـًا بـازِل‬ ‫فالثّقل ليس مضاعفاً لمطِـيةٍ‬
‫لو أُمهلتْ حتى تكون شمائل‬ ‫لهفي على تلك المشاهد منهما‬
‫حُكماً‪ ،‬وتلك الريحيّة نـائل‬ ‫َلغَدا سكونُهما حِجًى‪ ،‬وصباهُما‬
‫ن سيكون بدرًا كاملَ‬ ‫أيقنْتَ أ ْ‬ ‫إن الهللَ إذا رأيت نـمـاءَهُ‬
‫وعلى ذكر التوأمين ألفاظ‬
‫لهل العصر في التهنئة بتوأمين‬
‫سعْد‪ ،‬وشِهاباَ عِزّ‪ ،‬وكَ ْوكَبا مَجْد‪ ،‬فتأهلت بهما رُبوع‬ ‫حتَانِ في وطن‪ ،‬وانتظمت مَوهِبتان في قَرَن‪ ،‬طلع في أفق الكمال نجمَا َ‬ ‫تيسرت مِن َ‬
‫خبَ ُر الموهبة المشفوعة بمِثْلها‪ ،‬وال َن ْعمَة المقرونة‬ ‫ف المكارم‪ ،‬واستشرقَتْ إليهما صدور السرّةِ والمنَابر‪ .‬بلغني َ‬ ‫المحاسن‪ ،‬ووُطّئت لهما أكنا ُ‬
‫جبُه ا ْزدِوَاج البُشْرى‪ ،‬واقترانُ غادِيةٍ‬ ‫ِبعِدْلها في الفارسين المقبلين‪ ،‬رضيعي العز والرفعة‪ ،‬وقَريني المجد والمنعة‪ ،‬فشملني من الغتباط ما يُو ِ‬

‫‪65‬‬
‫خرَى‪.‬‬‫بأُ ْ‬
‫والشي ُء ُي ْذكَر بما قارب ناحي ًة من أنْحائه‪ ،‬وجاذبَ حاشي َة من رِدائه‪.‬‬
‫في الهجاء‬
‫وقال بعض أهل العصر يهجو رجلً وضمّن قول النابغة‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫سمَائه‬ ‫غدَاةَ غِب َ‬ ‫كالقحوان َ‬
‫وأزاحه عن بابه؛ فجاءَ مليحاً في الطبع‪ ،‬مقبولً في السمع‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ج ْلمَدِ‬ ‫رَطْبَ العِجَانِ وكفه كالْ َ‬ ‫عهْدِي بِهِ‬ ‫يا سائلي عن جعفر‪َ ،‬‬
‫جَفّتْ أعاليه وأسْفَلُـه نَـدِيَ‬ ‫غدَاة غِب سمـائِهِ‬ ‫لقْحُوان َ‬ ‫كا ُ‬
‫ومن مستحسن ما روي في هذا التضمين قول الخر وضمّن بيتًا لمهلهل ابن ربيعة‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫عمّا فيه من كَرَم وخِـيرِ‬ ‫وَ َ‬ ‫وسائلةٍ عن الحَسَن بن وهبٍ‬
‫أراه كثيرَ إرخاء الستـورِ‬ ‫فقلت هو المهذّب‪ ،‬غيرَ أني‬
‫سيْنٌ حين يخلو بالسُـرور‬ ‫حُ َ‬ ‫وأكثر ما يغـنَـيه فَـتـاهُ‬
‫ل البيض تُقْرَع بالذُكورِ‬ ‫صَلي َ‬ ‫جرٍ‬ ‫ن بِحُ ْ‬ ‫سمِ َع مَ ْ‬
‫فلول الريح أُ ْ‬
‫وهذا البيت لمهلهل ممّا يعدُونه من أول كذب العرب‪ ،‬وكانت قبل ذلك ل تكذب في أشعارها‪ ،‬وكان بين الموضع الذي كانت فيه هذه الواقعة‬
‫صبَة باليمامة مساف ٌة بعيدة‪ ،‬فأخرجَه هذا الشاعر بقوة ُمنّته‪ ،‬ونفاذِ فِطنته‪ ،‬إلى معنىً آخر مستظرف في بابه‪.‬‬ ‫حجْر وهي قَ َ‬ ‫وهي بالجزيرة وبين ُ‬
‫وهذا المذهبُ أحسَن مَذاهب التضمين‪ .‬ومن مليح ما في هذا الباب تضمينات الحمدوني في طيلسان أحمد بن حرب المهلبي‪ ،‬وسيأتي ما أختارَه‬
‫من ذلك في غير هذا الموضع‪.‬‬
‫??رجع إلى ما قيل في الثغر‬
‫وقد جاء في صفةِ الثغور والفواه والرّيق شع ٌر كثير‪ .‬قال جميل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تُرِيك نَ ِقيّا واضِحَ الثغر أشْـنَـبـا‬ ‫تمنيْتُ منها نظرةً وهـي واقِـفٌ‬
‫هزي ُم الذّرى َتمْرِي له الريحُ َهيْدَبا‬ ‫كأن عَرِيضًا من فَضيض غمـامةٍ‬
‫ج ُم من بعد الهدو تَصَـوَبـا‬ ‫إذا الن ْ‬ ‫يُصَفّقُ بالمسك الذكيَ رُضـابـهُ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫والنجْمُ وَهْناً قد َبدَا ِلتَـغَـ ُورِ‬ ‫وكأن طارقَها على عَلَلِ الكرى‬
‫برُضابِ مسكٍ في ذكيَ العنبرِ‬ ‫ح مُدامةٍ معـلـولةٍ‬ ‫ستَافُ ري َ‬ ‫يَ ْ‬
‫وقال عمر بن عبد ال بن أبي ربيعة المخزومي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫نَقي الثنايا ذو غُرُوب مُؤشَرُ‬ ‫ك منها مُفَلج‬ ‫سِ‬‫َيمُج َذكِيَ المِ ْ‬
‫ن ُمنَوّرُ‬ ‫حَصَى بَ َردٍ أو أُقحوا ٌ‬ ‫ف إذا تَ ْفتَرُ عنه كـأنـه‬ ‫يَرِ ّ‬
‫وقال الهذلي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ب قَذاها‬ ‫كلون الصّرْف ُمنْجا ٌ‬ ‫صهْبَاءُ صافيةٌ لـضـبّ‬ ‫وما َ‬
‫أحلته برَضراضٍ عُراهـا‬ ‫طفَ ٍة مِن مـاء مُـزْن‬ ‫تُشَخ بنُ ْ‬
‫سنَةٍ كَراها‬ ‫إذا ما طار عن ِ‬ ‫طعْ ِم فيها‬ ‫شرَعاً من َ‬ ‫ب مَ ْ‬‫طيَ َ‬‫بأ ْ‬
‫وقال آخر‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫كالدُرّ ل كَسَس فيه ول ثَـعَـلُ‬ ‫وشق عنها قِناع الخز عـن بَـ َردٍ‬
‫طَل من الدَجْنِ سقاطُ الّندَى هَطِل‬ ‫ت يَضْـ ِربُـه‬ ‫كأنه أقْحـوانٌ بـا َ‬
‫شنّـه جَـبَـلُ‬ ‫شُجت بماء سماء َ‬ ‫صرْفًا كميتَ اللَوْنِ صافـية‬ ‫كأن ِ‬
‫أو اعتراها سُباتُ النَوم والكسـلُ‬ ‫سنَةً‬ ‫ت من نومها ِ‬ ‫فوُها إذا ما َقضَ ْ‬
‫وقال الخر‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ت آ ِنسَةٌ كسولُ‬ ‫قطيع الصَو ِ‬ ‫هِجانُ اللَوْنِ واضِحَةُ المحيا‬
‫فُرات الريقِ ليس به فلولُ‬ ‫تَبسمُ عن أغَرّ له غُـرُوبٌ‬
‫تُشَجُ به شآمـيةٌ شـمـولُ‬ ‫صبِيبَ غادية لصـبّ‬ ‫كأنَ َ‬
‫مُحَلقَةً وأ ْردَفهـا رَعِـيلُ‬ ‫على فيها إذا الجَوْزاء عاَلتْ‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬المديد‪:‬‬
‫قد بَدا الصبحُ لنا واستبانـا‬ ‫يا نديميَ أشربا واسقِـيانـا‬
‫واتركا الدَهْر فما شاءَ كانا‬ ‫واقتل همّي بصرفٍ عقارٍ‬
‫فإذا دامَ على المَرْء هانـا‬ ‫إن للمكـروه لَـذْعةَ شَـرّ‬
‫طاب للعطشان وِرداً وحَانا‬ ‫وامزجا كأسي بريقةِ أ ْلمَـى‬
‫ناصح الريق إذا الرّيق خَانَا‬ ‫من ف ٍم قد غُرِس الدّ ُر فـيهِ‬
‫وقال ابن الرومي‪ :‬السريع‪:‬‬
‫يمجـه بـين ثَـنـاياكـا‬ ‫يا ُربّ ريقٍ بات َبدْ ُر الدّجى‬
‫والما ُء يُ ْروِيك و َينْهـاكـا‬ ‫يروي ول ينهاك عن شربِهِ‬

‫‪66‬‬
‫ل بن طاهر‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫ل بن عبد ا ّ‬ ‫وقال عبيد ا ّ‬
‫أخْشَى عُقُوب َة مَـالِـكِ المـلكِ‬ ‫ك قُلت لي‪:‬‬ ‫وإذا سأَل ُتكِ رَشْفَ ري ِق ِ‬
‫ن أكُونَ خليفة الـمـسـوَاكِ‬ ‫من أ ْ‬ ‫ماذا عليك؟ جُعلت قبلك في الثرى!‬
‫صَب بحبـك دون عُـودِ أراكِ؟‬ ‫أيجو ُز عنـدك أن يكـون مُـتَـيّمٌ‬
‫وهذا المعنى يجاوُز الحصاء‪ ،‬ويفوتُ الستقصاء؛ وكلّه مأخوذ من قول امرئ القيس‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫طرْ‬‫وريحَ الخُزَامَى ونَشْرَ القُ ُ‬ ‫كأنّ ال ُمدَامَ وصَوْبَ الغـمـام‬
‫إذا طرَبَ الطائرُ ال ُمسْتحِـرْ‬ ‫ُيعَـل بـه بَـ ْردُ أنْـيابـهـا‬
‫فجمع ما فرَقوه‪ ،‬وأخذه الجعفري فقصّر عنه‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫سلْ‬ ‫وريحَ الخُزَامى وذوْبَ العَ َ‬ ‫كأن المُدامَ وصَوْبَ الغـمـامِ‬
‫ع َتدَلْ‬
‫سطَ السماء ا ْ‬ ‫جمُ وَ ْ‬
‫إذا النّ ْ‬ ‫ُيعَـل بـه بَـ ْردُ أنـيابـهـا‬
‫ويلحق بهذه المعاني من شعرِ أهل العصر قولُ أبي علي محمد بن الحسين بن المظفر الحاتمي ‪ -‬وذكر خمراً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن تَ َقنّعَ بالمـلحةِ واعـتَـجَـر‬ ‫ِفتَ ٌ‬ ‫مِنْ كفّ ساقٍ أ ْهيَفٍ حَـرَكـاتُـه‬
‫يُوحي إليّ أن ارتقبهم واصْطَبـرْ‬ ‫ناولته كأسِي وكسـرُ جُـفـونِـهِ‬
‫تهْوى إلـى أفـراد دُ ّر ذِي أشَـرْ‬ ‫فثنـى لـهـا َأقْـل َم دُرّ رَخْـصَةٍ‬
‫ل من قمرْ‬ ‫كالشمس َتغْرُب في هِل ٍ‬ ‫ت من كأْسِ ِه فـي ثَـغـرِهِ‬ ‫فتحدّرَ ْ‬
‫وأهدى أبو الفتح كشاجم لبعض القيان مِسْواكاً وكتب إليها‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫واضحاً كاللؤلؤ الرّطْبِ أغَـرّ‬ ‫قد بعثْنَاهُ لكـي تَـجْـلُـو بِـهِ‬
‫سقَى في السحَرْ‬ ‫كان من ريقِك يُ ْ‬ ‫ب منه العَرْفُ حَتى خِلْـتُـهُ‬ ‫طا َ‬
‫حَظّه منكِ لثْـنَـى وشَـكَـرْ‬ ‫وَأما والـلّـه لـو يَعـلَـ ُم مَـا‬
‫بَر ُد أنيا ِبكِ فـي كـلّ سَـحَـرْ‬ ‫ليتني المهدَى فيَروِي عَطَـشِـي‬
‫أملح الشعر وأرقّه‬
‫وكان ذُكرَ بحضرة ابن أبي عتيق شعر عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزوميين‪ ،‬فقال رجل من وَلد خالد بن العاص بن هشام بن‬
‫ش ْع ِر ابنِ أبي ربيعة لَوْطةٌ بالقلب‪ ،‬وعَلَق بالنفسِ‪ ،‬ودَرْك للحاجَة‬ ‫حبُنا الحارث أشعر‪ ،‬فقال ابنُ أبي عتيق‪َ :‬دعْ قولَك يَا بْنَ أخي‪ ،‬فلِ ِ‬ ‫المغيرةّ‪ :‬صا ِ‬
‫ف معناه‪،‬‬‫خ ْذ عنّي ما أصِفُ لك‪ :‬أشعَرُ قريش مَنْ َر ّ‬ ‫ش ْعرِ الحارث‪ ،‬وما عُصِي الُّ بشعرٍ قطّ أكثر مما عُصِي بشعر ابن أبي ربيعة‪ ،‬ف ُ‬ ‫ليس ل ِ‬
‫عرَب عن صاحبه‪ ،‬فقال الذي من ولد خالد بن العاص‪ :‬صاحبُنا الذي‬ ‫سهُل مَخْرَجه‪ ،‬وتعطّفَتْ حواشيه‪ ،‬وأنارت معانيه‪ ،‬وأ ْ‬ ‫ولَطُف مَدْخَله‪ ،‬و َ‬
‫يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عند الجِمار تَؤودها العُقْلُ‬ ‫إني وما نَحرُوا غَدا َة ِمنَى‬
‫سُفْلً وأصبح سُفلها يَعْلُو‬ ‫لو ُبدّلَتْ أعْلى منازلـهـا‬
‫فيرده القواءُ والمَـحـل‬ ‫فيكادُ َيعْرِفها الخبيرُ بهـا‬
‫مني الضلوعُ لهلها َقبْلُ‬ ‫لعرفت مغناها بما اح َتمَلتْ‬
‫ستُرْ على صاحبك‪ ،‬ول تشاهد المحاضر بمثل هذا‪ ،‬أما تطَير الحارثُ عليها حين قََلبَ َر ْبعَها فجعل عالِيه‬ ‫فقال ابنُ أبي عتيق‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬ا ْ‬
‫ل مصاحبةً إذ يقول‪:‬‬ ‫حسَنَ الناسِ للرّبع مخاطبةً وأجم َ‬ ‫ن أبي ربيعة كان أ ْ‬ ‫سافلَه؟ ما بقي إلَ أن يسألَ الّ حجار ًة من سجيل وعذاباً أليماً‪ .‬اب ُ‬
‫الخفيف‪:‬‬

‫هجتَ شوقاً لي ال َغدَاةَ طويل‬ ‫سائِل ال َربْعَ بالبُلَـيّ وقـول‬


‫ر بِهمْ آهِلٌ أَراك جَـمـيل؟‬ ‫ت مَسرو‬ ‫أين أهلٌ حَلُوك إذ أَن َ‬
‫وبكُرْهِي لو استطعتُ سَبيل‬ ‫قال‪ :‬سارُوا وَأ ْم َعنُوا‪ ،‬واستقلُوا‬
‫واستحبوا َدمَاثَةً وسـهـول‬ ‫سَئمُونَا ما سَئ ْمنَـا مُـقَـامـاً‬
‫ل من ولد أبي بكر‬ ‫خذُ بطَ َرفِ الحديث‪ ،‬دخل مزيد المدني على مَوْلى لبعض أهل المدينة‪ ،‬وهو جالس على سرير ممهد‪ ،‬ورج ٌ‬ ‫وهاهنا حكاية تَأْ ُ‬
‫الصديق وآخرُ من ولد عمر ‪ -‬رضي ال عنهما! ‪ -‬جالسان بين يَدَيه على الرض‪ ،‬فلمّا رأى المولى مَريدًا تجهَمه‪ ،‬وقال‪ :‬يا مَزْيد‪ ،‬ما أكثَر‬
‫ت تسألني شيئاً؟ قال‪ :‬ل وال‪ ،‬ولكني أردتُ أن أسأَلك عن معنى قول الحارث بن خالد‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫سؤالك! وأشد إلْحَافك! جئ َ‬
‫عند الْجِمار تَؤودها العُقْل‬ ‫إنّي وما نَحرُوا غَداة ِمنَى‬
‫صبَحَ سُفَْلهَا يَعْلُو‬
‫سُفْلً وََأ ْ‬ ‫لو ُبدّلَتْ أعْلَى منازلـهـا‬
‫حكَ أهلُ المجلس‪.‬‬ ‫ضِ‬ ‫ت معنى الذي قال‪ .‬فقال‪ :‬أعزُب في غير حِ ْفظِ الّ! و َ‬ ‫ت هذين بين يديك عرف ُ‬ ‫فلّما رأيتك ورأي ُ‬
‫وأخذ الحارث قوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ع لهْلِها َقبْلُ‬ ‫مني الضلو ُ‬ ‫لعرفت َمغْناها بما اح َتمَلَت‬
‫ق بن مُحلم‪ :‬قال لي أبو محلم‪ :‬أتعرفُ لمرئ القيس أبياتًا سينية قالها عند موته في ُقرُوحه‬ ‫من قول امرئ القيس؛ قال علي بن الصباح َورَا ُ‬
‫والحلة المسمومة‪ ،‬غير قصيدته التي أولها‪ :‬الطْويل‪:‬‬
‫سعَسَا‬
‫ألمَا عَلَى الرَبع القديم بعَ ْ‬
‫شدَني جماع ٌة من الرُواة‪ :‬المتقارب‪:‬‬ ‫فقلت‪ :‬ل أعرف غيرها‪ ،‬فقال‪ :‬أنْ َ‬
‫وغيرَه سالفُ الحْ ُرسِ‬ ‫ِلمَنْ طَلَل دَرَسَـت آيَهُ‬

‫‪67‬‬
‫شغَفُ النفسِ‬
‫ويعرفه َ‬ ‫تَنكّرُهُ ا ْل َعيْنُ من حادِ ٍ‬
‫ث‬
‫وفد أخذه طريح بن إسماعيل الثقفي‪ ،‬فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫خبِـر‬‫ستَ ْ‬ ‫خبَاراً على مُ ْ‬ ‫لترد أ ْ‬ ‫خبِ ُر ال ّدمَنَ القِفار ولم تكنْ‬‫ستَ ْ‬‫تَ ْ‬
‫ف مُنكِـرِ‬ ‫َمغْنى أحبته وط ْر ٍ‬ ‫ت تحكم بين ق ْلبٍ عارفٍ‬ ‫فَظَلْل َ‬
‫وقال الحسن بن وهبٍ‪ ،‬إشارة إلى هذا المعنى‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ن تُبْصـرُهُ‬ ‫فما تكا ُد العيو ُ‬ ‫جدّتهِ‬
‫أبَْليْتَ جِسمي من بعدِ ِ‬
‫َتعْرفُ ُه العينُ ثم تنـكـ ُرهُ‬ ‫كأنه رَسمُ منزلٍ خَـلـق‬
‫وقال يحيى بن منصور الذهلي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ف من سُعاد و َمرْبـعِ‬ ‫تذكُر طي ِ‬ ‫ل انبَرى لـهُ‬ ‫أما يستفيقُ القلب إ ّ‬
‫ي َت ْدمَعِ‬‫ل عين َ‬ ‫متى تعرف الطل َ‬ ‫أُخادع مِنْ عِ ْرفَانِ ِه العـينَ؛ إنـهُ‬
‫وقال آخر‪ :‬مجزوء الوافر‪:‬‬
‫ف لِمْ ل تعرف الدَارَا‬ ‫هي الدارُ التي تَعـرِ‬
‫كَ أعلمـاً وآثـارَا‬ ‫ترى منها لحـبـاب‬
‫وتبدي العينُ إنكـارَا‬ ‫عرْفانـاً‬‫فيبدي القلبُ ِ‬
‫ل قوله بهذا المعنى‪ ،‬وأنا أنشد البيات كلّها ِلمَلَحتها؛ إذ كان الغرض في هذا التصرف هو إرادة الفادة‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقال أبو نُوَاس‪ ،‬وتعلّق أو ُ‬
‫ض به عيني ويَلْفظُـهُ وَهْـمِـي‬ ‫تَغ ّ‬ ‫ل ل أَرَى مثلي امتَرَى اليومَ في رَسمِ‬ ‫َأ َ‬
‫فظني كَلَ ظن وعِلمي كَلَ عِـلْـمِ‬ ‫صوَرُ الشيا ًء بـينـي وبـينـه‬ ‫أتت ُ‬
‫وساقية بين المرَاهـق والْـحُـلْـمِ‬ ‫ب بحديثٍ من حبيبٍ مـسـاعـدٍ‬ ‫فطِ ْ‬
‫عهْدٍ بـالفَـاقَ ِة مِـنْ سُـقْـم‬ ‫قَرِيبَة َ‬ ‫ف تحسـب أنـهـا‬ ‫ضعيفة كرَ الطَرْ ِ‬
‫تفوّقي الصهباءَ من حَلَـبِ الـكَـرْمِ‬ ‫ف وتَـالِـدٍ‬ ‫يفوّق مَالـي مـن طَـرِي ِ‬
‫و َتعْلَم قوسي حِين أنزع مَن أرْمـي‬ ‫ث ُي ْبتَـغَـى‬‫وإني لتي ال َوصْلَ من حي ُ‬

‫ورَوَى أبو هفان قال‪ :‬كان أبو عبد الّ محمد بن زياد العرابي يطعن على أبي نواس‪ ،‬و َيعِيبُ ش ْعرَه‪ ،‬ويضعفه‪ ،‬ويستلينه‪ ،‬فجمعه مع َبعْضِ‬
‫ن من هذا؟ وأنشده‪ :‬ضعيفة كرّ‬ ‫خ ل يَعْ ِرفُه‪ ،‬فقال له صاحبُ أبي نواس‪ :‬أتعرفُ ‪ -‬أع ّزكَ الّ! ‪ -‬أحْسَ َ‬ ‫رُوَاةِ شعر أبي نواس مجلسٌ والشي ُ‬
‫الطّرْفِ‪ ...‬البيات‪ ،‬فقال‪ :‬ل والّ‪ ،‬فَِلمَنْ هو؟ قال‪ :‬للذي يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عفّى عليه بكٌا عليك طًـوِيلُ‬ ‫َ‬ ‫سمُ الكَرَى بين الجفون مُحِيلُ‬ ‫رَ ْ‬
‫ط بينهـنّ قَـتِـيلُ‬ ‫حتى تشحَ َ‬ ‫يا ناظراً ما أقَْلعَتْ لحظـاتُـه‬
‫جوَد منه لقديم ول لمحدَث! فقال‪ :‬ل أُخْبرك أو تكتبه؛ فكتبه‪ ،‬وكتب الول‪ ،‬فقال‪ :‬للذي‬ ‫س ِمعْتُ أ ْ‬
‫فطربَ الشيخُ‪ ،‬وقال‪َ :‬ويْحك! لمنْ هذا؟ فوال ما َ‬
‫يقول‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫كَأْس الكَرَى فانتَشَى المَسْقيّ والساقي‬ ‫َركْب تَسَاقَوْا على الكوار بـينـهـمُ‬
‫ق بـأعـنـاقِ‬ ‫على المناكب لم تُخْلَـ ْ‬ ‫كأن‪ ،‬أرْؤُسهمْ والنـ ْومُ وَاضِـعُـهـا‬
‫حتى أناخُوا إليكم َقبْـلَ إشـراقـي‬ ‫عقْـداً لـرَاحِـلَة‬ ‫ساروا فلم يقطعوا َ‬
‫ل مُـشْـتَـاقِ‬ ‫حمَلَتْ أوصـا َ‬ ‫مشتاقةٍ َ‬ ‫مِنْ كل جائلةِ الطَـرْفـين نـاجـيةً‬
‫فقال‪ :‬لمن هذا؟ وكتبه‪ .‬فقال‪ :‬للذي تَ ُذمّه‪ ،‬و َتعِيب شعره‪ ،‬أبي علي الحكمي! قال‪ :‬ا ْكتُم عليّ‪ ،‬فوال ل أعود لذلك أبداً‪.‬‬
‫شرْباً‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫أخذ قولَه‪ :‬كَأَنَ أ ْرؤُسهم والنوم واضعها أبو العباس بن المعتز‪ ،‬فقال يصف َ‬
‫ظِباءٌ بأَعْلى ال َر ْق َم َتيْنِ قـيامُ‬ ‫كأن أبارِيقَ اللُجَـيْن لـديهـمُ‬
‫من اللّين لم يُخْلَقْ َلهُن عِظَامُ‬ ‫وقد شربوا حتى كأن رُؤوسهم‬
‫البيت الول من هذين من قول علقمة بن عبدة‪ :‬والبسيط‪:‬‬
‫ن مَـلْـثُـومُ‬ ‫سبَا ال َكتّا ِ‬
‫مُ َفدَمٌ ب َ‬ ‫ظبْيٌ على شَرفٍ‬ ‫كأنّ إبريقَهم َ‬
‫أراد بسبائب‪ ،‬فحذف‪ .‬وقد أحسن مسلم بن الوليد في قوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫وحكى المديرُ بمُ َقَلتَيْهِ غَزَال‬ ‫إبْرِي ُقنَا سَلَبَ الغزالةَ جِيدَهـا‬
‫ويُديرها من كَفّه جِـ ْريَال‬ ‫صبَابةٍ‬
‫يَسْقيك باللحاظ كأسَ َ‬
‫وأنشد الحارث بن خالد أبياتَهُ‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫‪.........................‬‬ ‫غدَا َة ِمنًى‬
‫حرُوا َ‬ ‫إني وما نَ َ‬
‫لعبد ال بن عمر‪ ،‬فلما بلغ إلى قوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ع لهْلِها َقبْلُ‬ ‫مِني الضلو ُ‬ ‫ت مَغناها بمَا احتملتْ‬ ‫لع َرفْ ُ‬
‫خيْرَ في شي ًء يُفْسده إن شاء ال‪.‬‬ ‫قال له ابن عمر‪ :‬قلْ إن شاء ال‪ ،‬قال‪ :‬إذاً تفسد الشعر يا أبا عبد الرحمن‪ ،‬فقال‪ :‬ل َ‬
‫وكان الحارث بن خالد أحدَ المجيدين في التشبيب‪ ،‬ولم يكن يعتقد شيئًا من ذلك‪ ،‬وإنما يقولُه تظرفاً وتخلّعا‪ ،‬وكان أكثر شعره في عائشة بنت‬
‫ي أني كنت معتقداً ِلمَا أقول فيها‪ ،‬وهو القائل‪:‬‬ ‫ب بن الزبير قيل له‪ :‬لو خطبتَها! قال‪ :‬إني لكْرَه أن يتوهَم الناسُ عل َ‬ ‫ص َع ُ‬
‫طَ ْلحَة‪ ،‬فلما ُقتِلَ عنها مُ ْ‬
‫البسيط‪:‬‬
‫بنا الصبابَةُ حتى مسّنا الشًـفَـقُ‬ ‫عمْرانَ ما زَاَلتْ وما بَ ِرحَتْ‬ ‫يا أمّ ِ‬

‫‪68‬‬
‫كما يتوقُ إلى َمنْجَاتِهِ الـغَـ ِر ُ‬
‫ق‬ ‫ي يلقـيَكـم‬ ‫ب تاقَ إليكم كـ ْ‬ ‫القل ُ‬
‫ظهْر الحية الفَـرِقُ‬ ‫كما يمسُ ب َ‬ ‫تُوفيك شيئًا قليلً وهـي خـائفة‬
‫أخذ هذا الطائيُ فحسّنه فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل يكنْ ما ًء قَـرَاحـًا يُمـذَقِ‬ ‫إّ‬ ‫تَأبى على التصْـرِيدِ إلَ نَـائِلً‬
‫سكِ التي لم تُ ْفتَق‬ ‫من فَأْرة المِ ْ‬ ‫نزرًا كما استكرَهْتَ عاب َر نفحةٍ‬
‫ت أدْلَجَتْ ولم يعلم‪ ،‬فكتب إليها‪:‬‬ ‫حجّت عائشةُ بنْتُ طلحة‪ ،‬فوجه إليها يستأذنها في الزيارة‪ ،‬فقالت‪ :‬نحن حَرام‪ ،‬فأخّر ذلك حتى نحلّ‪ ،‬فلمّا أحَل ْ‬ ‫وَ‬
‫الكامل‪:‬‬
‫غدُها‬ ‫إنّ المنيةَ عاجلٌ َ‬ ‫سدَداً‬‫ما ضر ُكمْ لو قُ ْلتُمُ َ‬
‫حدُها‬‫لسنا على اليام نَجْ َ‬ ‫ولها علينا ِنعْمةٌ سلَفـتْ‬
‫ت بذلك عندنا َيدُهـا‬ ‫َتمَ ْ‬ ‫ب ِنعْمَتها‬ ‫لو َت ّممَتْ أسبا َ‬
‫بالنار تَحْرِق ُه وي ْعُبدُهـا‬ ‫إني وإياها كمفـتَـتِـنٍ‬
‫ل بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق‪ ،‬رضي ال عنه! وكان من أفاضل زَمانِهِ عِلْماً وعَفافاً‪ ،‬وكان‬ ‫ن أبي عتيق هذا هو عبد ا ّ‬ ‫واب ُ‬
‫ستَحسن إن شاء ال‪.‬‬ ‫أحْلَى الناس فكَاهةً‪ ،‬وأظرفهم مزاحاً‪ ،‬وله أخبار مستظرفة سيم ُر منها ما يُ ْ‬
‫ت فداكِ؟ قالت‪ :‬في‬ ‫جعِلْ ُ‬‫روى الزبير بن أبي بكر أنه دخل على عائشة ‪ -‬يعني بنت طلحة‪ ،‬رضي ال عنهما! ‪ -‬وهي لما بها؛ فقال‪ :‬كيف أنت‪ُ ،‬‬
‫الموت‪ ،‬قال‪ :‬فل إذاً‪ ،‬إنما ظننت في المر ُفسْحَة‪ ،‬فضحكت‪ ،‬وقالت‪ :‬ما َت َدعُ مَزْحك بحَالٍ‪.‬‬
‫وفيه يقول عمر بن أبي ربيعة القرشي‪ :‬المديد‪:‬‬
‫بفلةٍ ُه ْم لديهـا خُـشُـوعُ‬ ‫ليْت شعري هل أقولنْ لركب‬
‫حان من نَجْمِ الثريا طلـوعُ‬ ‫ستَـقِـلُـوا‬
‫سُتمُ فا ْ‬ ‫طَالَما عرّ ْ‬
‫وحديثُ النفس ِمنّـي يَرُوعُ‬ ‫عنّـي‬ ‫إنّ َهمّي قد َنفَى النومَ َ‬
‫ل الدمـوعُ‬ ‫ت ممّا يقو ُ‬ ‫فجرَ ْ‬ ‫قال لي فيها عَتيقٌ مـقـالً‬
‫فأجاب القلبُ‪ :‬ل أستطـيع‬ ‫قال لي‪َ :‬و َدعْ سليمى ودَعْها‬
‫وابكِ لي ممّا تُجِنّ الضّلوعُ‬ ‫ل تَُل ْمنِي في اشتياقي إليهـا‬
‫قال أبو العباس محمد بن يزيد‪ :‬قوله‪ :‬حان من نجم الثريا طلوع كناية‪ ،‬وإنما يريد الثريا بنت علي بن عبد الّ بن الحارث بن أميّة الصغر‪،‬‬
‫وكانت موصوفةً بالجمال‪ ،‬وتزوّجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري‪ ،‬فنقلها إلى مصر‪ ،‬وفي ذلك يقول عمر‪ ،‬وضرب لهما المثل‬
‫بالنجمين‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ف يَ ْلتَقيَانِ؟‬
‫عمْ َركَ الََ‪ ،‬كي َ‬ ‫َ‬ ‫سهَـيْلً‬ ‫أيها المُنكِحُ الثريا ُ‬
‫ل َيمَانِـي‬ ‫وسهيلٌ إذا استَقَ ّ‬ ‫هي شامية إذا ما استقلَـتْ‬
‫فمات سُهيل عنها‪ ،‬أو طلَقها‪ ،‬فخرجت إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة دمشق تَطْلب في دَين عليها‪ ،‬فبينما هي عند أ ّم البنين ابنة عبد العزيز‬
‫عمَر بن أبي ربيعة‬ ‫ب في َديْنٍ ارتكبها‪ ،‬فأقبل الوليد عليها‪ ،‬فقال‪ :‬أتروِين من شعرِ ُ‬ ‫ن هذِه عندكِ؟ قالت‪ :‬الثريا‪ ،‬جاءتك تطل ُ‬ ‫إذ دخل الوليدُ فقال‪ :‬مَ ْ‬
‫شيئاً؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬أما إنه رحمه ال كان عفيفاً‪ ،‬عفيف الشعر‪ ،‬أروي له قوله‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ن َرجْعَ السلمِ أوْ لو أجَابَـا‬ ‫سمِ بالبُلييْنِ لو بي‬ ‫ما عَلَى الرَ ْ‬
‫ئف أمْسى من النِيس َيبَابـا‬ ‫فإلى قَصْ ِر ذِي العُشَيرة بالصا‬
‫شبَابَا‬ ‫ش نعمةً و َ‬ ‫ظاهري العي ِ‬ ‫حيَ صِـدْقٍ‬ ‫وبما قد َأرَى به َ‬
‫حسَابَا‬ ‫ت عند الهوى ال ْ‬ ‫حافظا ٍ‬ ‫جوَارياً‪ ،‬خَـفـرَاتٍ‪،‬‬ ‫وحِساناً‪َ ،‬‬
‫َبعْن‪َ ،‬ي ْنعَقْنَ بال ِبهَامِ‪ ،‬الظرَابـا‬ ‫ل ُي َكثّرْنَ بالـحـديث ول يت‬
‫ت من شعر عمر؟ قالت‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فإنّي لما عرَضْت لها بعمر‬ ‫فلما خل الوليد بأ ّم البنين قال‪ :‬لّ درُ الثريا؛ أتدرين ما أرادَتْ بإنشادها ما أنشدَ ْ‬
‫عرّضت بأن أمي أعرابية؛ وأمّ الوليد َولّدة ابنةُ العباس بن جزء بن الحارث بن زُهير العبسي‪ ،‬وهي أمُ سليمان‪ ،‬ول تُعلم امرأة ولدت خليفتين‬
‫سبِية من خَرشَنة‪ ،‬ولدت موسى الهادي وهارون الرشيد ابني محمد المهدي‪ ،‬وشاهسفرم بنت فيروز‬ ‫في السلم غيرها‪ ،‬وغير الخيزُرَان‪ ،‬وهي َ‬
‫بن يزدجر بن شهريار بن كِسْرى أبروير؛ فإنها ولدت للوليد بن عبد الملك يزي َد بن الوليدِ الناقصَ وإبراهي َم بن الوليد المخلوع؛ جلس في‬
‫الخلفة َبعْد أخيه يزيد مدةً يسيرة‪ ،‬ثم جاء مروان بن محمد بن مروان آخر ملوك بني أمية فخلعه و ُولّي بعده‪.‬‬
‫شبِيه بقول الثريّا في باب التعريض أنه دخَلتْ عَزّةُ على عبد الملك بن مروان‪ ،‬فقال لها‪ :‬أنْتِ ع َزةُ كثير؟ قالت‪ :‬أنا أمّ بكر الضمْرِية‪ ،‬قال لها‪:‬‬ ‫وَ‬
‫يا عزّةُ؟ هل تروين من شعر كثيّر شيئاً؟ قالت‪ :‬ما أعرفه‪ ،‬ولكن سمعت الرواة ينشدون له‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل ُم َعنّى غَرِيمُهـا‬ ‫عزّة ممطو ٌ‬ ‫وَ‬ ‫قَضَى كل ذي َديْنٍ فوفى غريمَهُ‬
‫قال‪ :‬فتروين قوله‪ :‬الطويل‪ِ:‬‬
‫ومَنْ ذا الذي يا ع ّز ل يَتغيّر؟‬ ‫ت َبعْدَها‬ ‫وقد زعمتْ أني َتغَيرْ ُ‬
‫خبَرُ‬
‫خبَرْ بسرّك مُ ْ‬ ‫ع ِهدْتِ ولم يُ ْ‬
‫َ‬ ‫تغيّر حالي والخليقة كـالـذي‬
‫قالت‪ :‬ما سمعت هذا‪ ،‬ولكن سمعتُهم ينشدون‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫من الصّم لو َتمْشِي بها العُصْمُ زَلَتِ‬ ‫كأنّي أُنادي صَخْ َرةً حين أعرضَـتْ‬
‫ل مَـلَـتِ‬ ‫ن مَل منها ذلك الوص َ‬ ‫فم ْ‬ ‫ل بَـخـيلةً‬ ‫غَضُوبًا فما تَـلْـقَـاك إ َ‬
‫ل بن أبي ربيعة‪ ،‬واسمُ أبي‬ ‫ن أبي ربيعة في شعره من عتيق‪ ،‬أو أبي عتيق‪ ،‬فإنما هو ابنُ أبي عتيق‪ ،‬وكان عم ُر بن عبد ا ّ‬ ‫ل ما َذكَر اب ُ‬
‫قال‪ :‬وكُ ّ‬
‫ل بن عمر بن مخزوم‪ ،‬ويكنى أبا الخطاب‪ ،‬أمّه أم ولد سبيّة من حضرموت‪ ،‬ويقال من حمير‪ ،‬ومن ثم أتاه‬ ‫ربيعة حذيفة‪ ،‬ابن المغيرة بن عبد ا ّ‬
‫شقٌ يماني‪ ،‬ودَل حجازي‪ .‬قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫الغَزَل؛ لنه يقال‪ :‬عِ ْ‬
‫‪69‬‬
‫ظبْي من الظّباء الجوازي‬ ‫مع َ‬ ‫ل تَـلّ عـزاز‬ ‫إن قلبي بالـتـ ّ‬
‫ظرْفِ العراق دَلّ الحِجازِ‬
‫مَعَ َ‬ ‫شَادِنٍ لم يَرَ الـعِـراقَ وفـيه‬
‫وقال الطائي وذكر نفسه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫منه العراق‪ ،‬ورفَقته المشرِقُ‬ ‫سهّلَتْ‬ ‫ت ِمنْه الحجازُ‪ ،‬و َ‬ ‫قد ثَقّفَ ْ‬
‫وهجرت الثريا غمَر‪ ،‬فقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ختَ ال ّربَـاب؟‬ ‫حبّ ال َقتُولَ أ ْ‬ ‫أتُ ِ‬ ‫قال لي صاحبي ل َيعْلَم ما بـي‪:‬‬
‫ت بَ ْردَ الشّـرابِ‬ ‫ء إذا ما فَقَد َ‬ ‫جدِك بالما‬ ‫جدِي بها ك َو ْ‬ ‫قلتُ‪ :‬وَ ْ‬
‫ُمهْجتي؟ ما لقاتلي من َمتَابِ‬ ‫أَزْ َهقَتْ ُأ ّم نَ ْوفَل إذ دعَـتْـهـا‬
‫َبيْنَ خمسي كواعبٍ أَتـراب‬ ‫أبرزوها مثلَ المهاة تَـهَـادَى‬
‫في أَديم الخ َديْن ماءُ الشبـاب‬ ‫وهي مكنونةٌ تحدّر مـنـهـا‬
‫عدَد ال َرمْل والحَصَى والتُراب‬ ‫َ‬ ‫حبّها؟ فلتُ‪ :‬بَـهْـراً‬ ‫ثم قالوا‪ :‬تُ ِ‬
‫ولما بلغ ابنَ أبي عتيق قولُه‪:‬‬
‫ضِ ْقتُ ذرعاً بهجرها والكِتاب‬ ‫مَنْ رسولي إلى الثريّا؟ فإنـي‬
‫قال‪ :‬إياي أراد‪ ،‬وبي َهتَف ونَوّه‪ ،‬ل جَ َر َم ل ذُقْتُ طعاماً أو أشخص إليها‪ ،‬وأصلح بينهما؛ قال مولى لبني تميم‪ :‬فنهض ونهضتُ معه‪ ،‬ثم خرج‬
‫إلى السوق إلى الضمرتين‪ ،‬فأَتى قومًا من بني الديل بن َبكْرٍ َيكْرونَ النجائب‪ ،‬فقال‪ :‬بكم نكرُونَني راحلتين إلى مكة؟ قالوا‪ :‬بكذا وكذا درهماً‪،‬‬
‫ستَوضِعوا شيئاً‪ ،‬فقال ابن أبي عتيق‪ :‬ويحك! إن ال ِمكَاس لَيس من أخلق الناس‪ .‬ثم ركب واحدةً وركبتُ أخْرَى‪ ،‬وأجدّ‬ ‫فقلت لبعض التجار‪ :‬ا ْ‬
‫ل بين عمر والثريّا! فقدمنا مكة وأتى بابَ‬ ‫حبْلَ الوصل أن يتقَضّبا‪ .‬وما أملح الدنيا إذا تمَ الوص ُ‬
‫ق بنفسك‪ ،‬فقال‪ :‬ويحك! أُبادر َ‬ ‫السير‪ ،‬فقلت‪ :‬ارف ْ‬
‫ت ذَرْعاً بهجرها والكِتابِ‪ .‬فلمَه عمر‪،‬‬
‫الثريا‪ ،‬فقالت‪ :‬وال ما كنتَ لنا زَوَارا‪ ،‬فقال‪ :‬أجل‪ ،‬ولكن جئتُ برسالة‪ ،‬يقول لك ابن عمك عمر‪ :‬ضِق ُ‬
‫شكَر‪.‬‬ ‫فقال ابن أبي عتيق‪ :‬إنما رأيتك مبادرًا تَ ْلتَمِسُ رسولً‪ ،‬فخفَفت في حاجتك‪ ،‬فإنما كان ثوابي أن ُأ ْ‬
‫ن أبي عتيق وقال‪ :‬تشبّب‬ ‫ووصف ابن أبي عتيق لعمر امرأ ًة من قومه‪ ،‬وذكر جمالً رائعاً‪ ،‬وعقلً فائقاً‪ ،‬فرآها عمر‪ ،‬فشّبب بها‪ ،‬فغضِب اب ُ‬
‫بامرأة من قومي؟ فقال عمر‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ق ما قد كَفَـانـي‬ ‫إنّ بي يا عتي ُ‬ ‫ل تَُلمْني عتيقُ حَسْبي الَذي بـي‬
‫لَى عِظامي مكنونُهُ وبـرانـي‬ ‫ضمَرًا من الحبّ قد أبْ‬ ‫إن بي مُ ْ‬
‫ل تَلُمني فأنْتَ َزيّنتهَـا لـي‪.‬‬
‫فقال ابن أبي عتيق‪:‬‬
‫ت ِمثْلُ الشيطانِ للنسانِ‬ ‫أنْ َ‬
‫ب الكعبة قلت‪.‬‬ ‫فقال عمر‪ :‬هكذا و َر ّ‬
‫شيْطَانك وربّ ال َقبْر ربما ألمّ بي! وحَجتْ رملة بنت عبد ال بن خلف أخت طلحة الطلحات‪ ،‬فقال عمر فيها‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫فقال ابن أبي عتيق‪ :‬إن َ‬
‫مُ ْقصَداً يوم فارَقَ الظاعنينـا‬ ‫أصبح القلبُ في الحبال رَهِيناً‬
‫شكٍ من بينكم‪ :‬نَولّينـا‬ ‫قبلَ َو ْ‬ ‫ولقد قلـت يو َم مـكةَ سِـراً‬
‫لو تُوَاتينَ عاشقاً محـزونـا‬ ‫أنتِ أهوى العباد ُقرْبًا و ُبعْـداً‬
‫ن يَحينا‬ ‫ج جهاراً ولم يَخَفْ أ ْ‬ ‫قاده الحينُ يوم سرْنا إلى الح‬
‫ومَهًا نُجلَ النواظر عِـينَـا‬ ‫فإذا نعجة تراعي نِـعَـاجـا‬
‫وبوجه يضيء للناظـرينـا‬ ‫س َبتْني بـمـقـلة وبِـجِـيدٍ‬ ‫فَ َ‬
‫أ ُمبِد سؤاَلكَ العالَـمِـينـا؟‬ ‫صدَتْ وقالت‬ ‫قلتُ من أنتم؟ ف َ‬

‫أن تبَلْتِ الفؤادَ أن تصدقـينـا‬ ‫قلت بال في الجـللة لـمـا‬


‫فأبيني لنـا ول تـكـذبـينـا‬ ‫ي من تجمُع المواسِمُ أنـتـمْ‬ ‫أ ُ‬
‫أخْبريه بعلم ما تكـتـمـينـا‬ ‫فرأت حِ ْرصِيَ الفتاةُ‪ ،‬فقالـت‬
‫قبلها قَاطنـينَ مـكَةَ حـينـا‬ ‫نحن من ساكني العراق‪ ،‬وكنّا‬
‫ت؟ عسى أن يجر شأنٌ شؤونا‬ ‫صدَقْناكَ إذ سألْتَ فمـن أن‬ ‫قد َ‬
‫ت ظنوناً وما قَتلْنـا يقـينـا‬ ‫ع َرفْناك بـالـنْـع‬
‫وترى أننا َ‬
‫قد نراه لناظ ٍر مُسْـتـبـينـا‬ ‫ن ونـعْـتٍ‬
‫بسوادٍ الثّـنِـيّتـي ِ‬
‫غبْشان‪ ،‬فباعه من قصَي بزق‬‫قولها‪ :‬وكنا قبلها قاطنين مكّة حينا أرادت إذ كانت مكةُ لخزاعة‪ .‬وكان آخ َر من نَ َبذَ مفتاح الكعبة من خُزَاعة أبو ُ‬
‫ل من مرضه لمه‬‫ح قُصَيًا مريضًا قد يئس من نفسه‪ ،‬فلما أب ّ‬ ‫غبْشان‪ .‬وكان أبو غُبشان إذ باعَ المفتا َ‬
‫خمر؛ فقيل في المثل‪ :‬أخسر صفقةً من أبي ُ‬
‫ب بين خُزَاعة وقريش‪ ،‬فظفر قُصَي واستولى على مكة‪ ،‬وجمع قريشاً بها؛ ولذلك سمي مجمعاً‪،‬‬ ‫قومه‪ ،‬وسألوه استرجاعه‪ ،‬وذلك الذي هاج الحر َ‬
‫قال مطرف الخزاعي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل من ِفهْرِ‬ ‫به جمع ال القبائ َ‬ ‫أبوكُ ْم قُصي كان يُدْعَى مُجَمعاً‬
‫وقال الطائي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫به نائباتُ الدهـر مـا ُيتَـوقَـعُ‬ ‫ولمّا نَضَا ثوبَ الحياةِ وأ ْوقَـعَـتْ‬
‫ذرى َدمْعه في خدّه كيف يصنعُ‬ ‫غدا ليس يَدْري كيف يصنع ُمعْدم‬

‫‪70‬‬
‫ل يستـقـلّ ويظْـلَـ ُع‬‫ف بَا ٍ‬
‫بأكْس ِ‬ ‫سعْيَ الجودِ خَ ْلفَ سريره‬ ‫ولم أنس َ‬
‫وإن كان تكبيرَ المُصَلّين أ ْربَـعُ‬ ‫خمْسًا عليه مَعـاً لـنَـا‬ ‫وتكبيرهُ َ‬
‫بأنّ النَدَى في أهْـلِـه يتـشَـيّع‬ ‫لَ َقبْلَـهـا‬ ‫وما كنتُ أدري يَعلَمُ ا ُ‬
‫جمَـعُ‬ ‫ت مُ َ‬
‫قريشٌ قريش يوم ما َ‬ ‫غدَوْا في زَوايا نعشِه وكـأنَـمَـا‬ ‫َ‬
‫غبْشان‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫وقال الشاعر في أمر قصيّ وأبي ُ‬
‫ن بني فهرٍ خزاعَهْ‬ ‫وأظْلَ ُم مِ ْ‬ ‫ن قُصَـيً‬ ‫ظلَ ُم مِ ْ‬
‫غبْشَانَ أ ْ‬ ‫أبو ُ‬
‫خكُ ْم إذْ كانَ باعَهْ‬‫شيْ َ‬
‫ولوموا َ‬ ‫صيّا في شِـرَاهُ‬ ‫فل تَلْحَوْا قُ َ‬
‫وكان عمر أسود الثنيتين‪.‬‬
‫قال مولى ابن أبي عتيق بلل‪ :‬أتيتُ الثريّا مسلماً عليها‪ ،‬فقالت‪ :‬أنشدني لعمر‪ ،‬فأنشدتها‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫حبَال رَهِيناً‬ ‫صبَح القلبُ في الْ ِ‬ ‫أ ْ‬
‫عنَانه‪ ،‬ولعرفنّه نفسه! فمررت فيها حتى انتهيت إلى قوله‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫ن من ِ‬‫فقالت الثريّا‪ :‬إي والّ‪ ،‬لئن سلِمت له لردّن من شَأوه‪ ،‬ولثني ّ‬
‫أ ُمبِد سؤَالكَ العاَلمِـينـا؟‬ ‫ت مَن أنت ُم فَصدّتْ وقالت‬ ‫قُلْ ُ‬
‫فقالت‪ :‬أو قد أجابته بهذا؟ أي وقت؟ فلما انتهيت إلى قوله‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫وترى أننا عرفناك بالنّعتِ‬
‫قالت‪ :‬جاءت النّوْكا ُء بآخِر ما عندها من مَ ْوقِف واحد‪.‬‬
‫وسأله أخوه الحارث ‪ -‬وهو المعروف بال ُقبَاع‪ ،‬وكان من أفاضل أهْل دهره ‪ -‬أن يترك الشعر‪ ،‬ورغب إليه في ذلك‪ ،‬ووعظه‪ ،‬فقال‪ :‬أمّا ما دمتُ‬
‫بمكة فل أقدِرُ‪ ،‬ولكني أخرج إلى اليمن‪ ،‬فخرج؛ فلما سار إلى هناك لم تَدَعْهُ نفسُه وتَركَ الشعر‪ ،‬فقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫إذا نزلْنا بِسِيفِ البحر مـن عَـدَنِ‬ ‫ن أمّةِ الوهابِ منزلُـنـا‬ ‫هيهات مِ ْ‬
‫إل التذكر أو حظ مـن الـحَـزَنِ‬ ‫واحتلّ أهُلكَ أجياداً‪ ،‬ولـيس لـنـا‬
‫وموقفي‪ ،‬وكِلنا ثَـ ّم ذُو شـجَـنِ‬ ‫خيْف موقفَهـا‬ ‫بل ما نسيت غداة الْ َ‬
‫سنَنِ‬ ‫والدمعُ منها على الخدّين ذُو َ‬ ‫وقولها للثـريّا وهـي مـطـرقةٌ‬
‫ماذا أردتَ بطُولِ ال ُمكْثِ في اليمن‬ ‫بالّ قولي له في غير مَـعْـتـبةٍ‬
‫ج من ثَـمـنِ‬ ‫ت بترك الح ّ‬ ‫فما أخذ َ‬ ‫ت بها‬ ‫إن كنت حاولت ُدنْيا أو ظفِرْ َ‬
‫فلمّا بلغ الشعرُ الحارثَ قال‪ :‬قد علمنا أنه ل يَفي‪.‬‬
‫ن بن عيينة عن ابن جريج قال‪ :‬لزمَني دَين مرّ ًة فضاقَتْ ساحتي وبلدي بي‪ ،‬فتوجهت إلى َمعْن بن زائدة باليمن‪ ،‬فقال‪ :‬ما أ ْقدَمك‬ ‫وروى سفيا ُ‬
‫حبُوراً‪ ،‬قال‪ :‬فأقمت عنده‪ ،‬ثم رأيتُ الناس يرحَلُون إلى‬ ‫هذه البلدة‪ :‬قلت‪ :‬ديْن طردني عن وطني‪ ،‬قال‪ :‬يُقْضَى دَ ْي ُنكَ‪ ،‬وتُردّ إلى وطنك محبوّا مَ ْ‬
‫ت باب َمعْن‪ ،‬فقلت للحاجب‪ :‬است ْأذِنْ لي على المير‪ ،‬فلمّا دخلت عليه‬ ‫الحجّ‪ ،‬فحننت إلى مكة‪ ،‬وذكرت قول ابن أبي ربيعة‪ ،‬وذكر البيات‪ ...‬فأتي ُ‬
‫ستَ ْو ِدعُ ال المير وأستحفظه عليه‪ .‬قال‪ :‬وما هاج هذا ِمنْك؟ فقلت‪ :‬رأيت خروجَ الناس إلى الحجّ‪ ،‬وذكرت قولَ‬ ‫قال‪ :‬إنّ لك لحادثَ خَبر! قلت‪ :‬أ ْ‬
‫ت وحنينك‪ ،‬وإن كنتُ بفراقك ضَنينا‪ ،‬وسي ْت َبعُك ما تحتاجُ إليه؛ فسِ ْر مُصَاحَبا‪ ،‬قال‪ :‬فس ْرتُ إلى رَحْلي‪ ،‬فأتبعني‬ ‫عمر‪ ،‬فحننت إلى مكّة‪ ،‬فقال‪َ :‬أنْ َ‬
‫بمالٍ وثياب ومَطَايا ودوابّ‪ ،‬وسرت إلى مكّ َة من ًفوْري‪.‬‬
‫وكان عمر ‪ -‬على غَزَله‪ ،‬وما يذكره في شعره ‪ -‬عفيفاً‪ .‬حدّث المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه قال‪ :‬دخلت مع أبي مكةَ‪ ،‬فجاءه عمر‪ ،‬فسلّم‬
‫شعْرِي فتمت ّد في يده‪ ،‬يُ ْرسِلها فترجع‪ ،‬فيقول‪ :‬واشباباه! فمّال لي‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬قد‬ ‫خذُ بخصلة من َ‬ ‫عليه‪ ،‬وأنا غلم شابّ وعليّ جبّة‪ ،‬فجعل يَ ْأ ُ‬
‫سمعتَ قولي‪ :‬قُلت لها وقالت لي؛ وكل مملوك لي حرّ إن كنت قط كشفت عن فرج حَرَام! قال‪ :‬فقمت وفي نَ ْفسِي من يمينه شيء؛ فسألتُ عن‬
‫رَقيقه‪ ،‬فقيل لي‪ :‬أما في هذا الحول فسبعون‪.‬‬
‫ويستحسن قول عمر في المساعدة‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ت ومستمِعًا مُطِيعا‬ ‫إذا نظ َر ْ‬ ‫عيْنَ النّصْح منهُ‬ ‫خلّ كنتُ َ‬ ‫وِ‬
‫وقلتُ له‪ :‬أرى أمراً شنيعا‬ ‫عنْـهـا‬
‫أطاف ِب َغيّةٍ َف َن َهيْتُ َ‬
‫أبى وعَصَى أت ْينَاها جميعا‬ ‫جهْدي‪ ،‬فلمّـا‬ ‫أ َردْتُ رَشادَه ُ‬
‫وهذا مأخوذ من قول دريد بن الصّمة الجُشَمي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شدَ إلَ ضُحَا ال َغدِ‬ ‫فلم يستبينوا ال ُر ْ‬ ‫َأمَ ْر ُتهُ ْم أمْرِي ب ُم ْنعَرَج الـلَـوى‬
‫سَرَا ُتهُمُ في الفارسي المـسـ ّردِ‬ ‫ي مُـدَجـجٍ‬ ‫فقلت لهم؛ ظُنوا بألفَ ْ‬
‫غيْ ُر مُـهْـتَـدي‬
‫غوايتهم وأنني َ‬ ‫فلما عصوني كنتُ منهم وقد أرى‬
‫شدْ غَزِيةُ أرْشُـدِ‬ ‫غَ َويْتُ‪ ،‬وإن تَ ْر ُ‬ ‫ل من غَ ِزيّةَ إنْ غَـ َوتْ‬ ‫وما أنا إ ّ‬
‫ومن جيد شعره‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي ل أرعـاكِ حـين أغِـيب‬ ‫وإن َ‬ ‫صدُق في الهَوَى‬ ‫يقولون إني لستُ أ ْ‬
‫له أ ْنفُس من َمعْشَـرٍ وقُـلُـوبُ‬ ‫طتْ‬ ‫فما بال ط ْرفِي عف عمّا تَسَاقَ َ‬
‫حجًى ممن يقـال لـبـيب‬ ‫سَفَاه ِ‬ ‫عشي َة ل يستنكرُ الـقـو ُم أن يَرَوْا‬
‫َب َعيْنِ الصّبا كَسْلَى القيام لَـعُـوبُ‬ ‫ول فتنةً من ناسكٍ أ ْومَضـتْ لـه‬
‫ب وقد زيدَت عـلـيه ذُنُـوبُ‬ ‫فآ َ‬ ‫ح يَ ْرجُو أن تُـحَـط ذُنُـوبـه‬ ‫تروّ َ‬
‫على العين منّي والفـؤادِ رقـيبُ‬ ‫لنِي‪ ،‬ولكِنَ لِ ْلهَـوى‬ ‫سكُ أسْ َ‬ ‫وما النّ ْ‬

‫‪71‬‬
‫شنَع لمرك‪ ،‬فقال‪ :‬إني‬ ‫ونظر عم ُر بن أبي ربيعة إلى فتَى من قريش يكلّم امرأة في الطواف‪ ،‬فعاب ذلك عليه‪ ،‬فذكر أنها ابن ُة عمه‪ ،‬فقال‪ :‬ذلك أ ْ‬
‫عمَ ُر عمَه‪،‬‬
‫خطبتُها إلى عمي‪ ،‬وإنه زعم أنه ل يزوجني حتى أصد َقهَا أربعمائة دينار‪ ،‬وأنا غيرُ قادر على ذلك‪ ،‬وذكر مِنْ حاله وحبّه لها؛ فأتى ُ‬
‫عمَ ُر عنه المَهر‪.‬‬
‫فكلّمه في أمرها‪ ،‬فقال‪ :‬إنه ُممْلَقٌ ‪ ،‬فزوَجه‪ ،‬وساق ُ‬
‫ل يقول بيتاً إلّ أعتق رقبة‪ ،‬فانصرف إلى منزله يحدّث نفسَه‪ ،‬فجعلت جاريته تكلّمه ول يجيبُها؛ فقالت‪ :‬إن لك‬ ‫وكان عمر حين أسنّ حَلَف أ َ‬
‫لشأنا‪ ،‬وأراك تريدُ أن تقولَ شعراً‪ ،‬فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ت قد أقْص ْرتُ حِينا‬ ‫ت و ُكنْ ُ‬
‫ط ِربْ ُ‬
‫َ‬ ‫تقول وليدتي لـمّـا رأتْـنِـي‬
‫وهاجَ لكَ الهوى دا ًء َدفِـينـا‬ ‫ت أمْـراً‬ ‫حدَثْـ َ‬
‫أراكَ اليو َم قد أ ْ‬
‫إذا ما شئتَ فار ْقتَ القَـرِينـا‬ ‫ت أنك ذُو عَـزَاءً‬ ‫وكنتَ زعم َ‬
‫فشاقَك أمْ لقيتَ لها خَـدِينـا؟‬ ‫لعمرك هل رأيتَ لها سـمـيّا‬
‫كبعْضِ زَماننا إ ْذ َتعْلَـمِـينـا‬ ‫خ مُـحِـب‬ ‫فقلتُ‪ :‬شكا إلـي أ ٌ‬
‫فذكّر َبعْضَ ما كنّا نَـسِـينـا‬ ‫ي ما يَلْقَى بـهـنـدٍ‬
‫فقصَ عل َ‬

‫مَشُوق حين يَلْقَى العاشـقـينـا‬ ‫ن تـعـزى‬ ‫وذُو الشوقِ القديم وإ ْ‬


‫ت بها ضَـنِـينـا‬ ‫لغير قِلىً‪ ،‬وكن ُ‬ ‫ت عـنـهـا‬ ‫فكم من خُلة أعرضْ ُ‬
‫وإن جُنّ الفؤادُ بهـا جُـنُـونـا‬ ‫ص َددْتُ عَـنْـهَـا‬
‫ت ِبعَادَها ف َ‬‫أردْ ُ‬
‫ثم دعا تسعة من رقيقه فأعتقهم‪.‬‬
‫جعْنا من مكّة مررْنا بالمدينة‪ ،‬فرأينا عمر بن أبي ربيعة‪ ،‬وقد نَسَك وتَرَك قول الشعر‪،‬‬ ‫قال عثمان بن إبراهيم‪ :‬حججت أنا وأصحابٌ لنا‪ ،‬فلما رَ َ‬
‫ت ل يكلمنا‪ .‬فقال له بعضنا‪ :‬أيعجبك قول الفرزدق‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫سنَا وهو ساك ٌ‬
‫فقال بعضنا لبعض‪ :‬هل لكم فيه؟ فمِلنَا إليه‪ ،‬وسلمنا عليه‪ ،‬وجََل ْ‬
‫ستَلهيًا من بعد مَسـرَاهـا‬ ‫ت مُ ْ‬
‫فبِ ّ‬ ‫ت لعيْنك سَ ْلمَى بعد َمغْفَـاهـا‬ ‫سَ َر ْ‬
‫ت ِت ْمثَاَلهَا أو ُكنْـتِ إياهَـا‬ ‫إن كن ِ‬ ‫سهْلً! مَنْ َهدَاكِ لنا؟‬ ‫فقلتُ‪ :‬أَهْلً و َ‬
‫حتى نقول‪َ :‬دنَتْ منـا بـرياهـا‬ ‫تأتي الرياح التي من نحو بَلدتكـم‬
‫ن َبعْ ِد مُمساها‬ ‫هيهات مصبَحها مِ ْ‬ ‫عنّا نـوًى قـذفٌ‬ ‫وقد تراختْ بهم َ‬
‫من نحو بَل َدتِها نَاع فَـ َينْـعَـاهَـا‬ ‫من أجلها أتمنـى أن يُلَقـينـي‬
‫وتضميِرُ النفس يأساً ثم تسلهـا‬ ‫كيما أقول‪ :‬افتراقٌ ل اجتماعَ لهُ‪،‬‬
‫يا بؤْس للدهر ليتَ الدهرَ أبقاهـا‬ ‫ولو تموتُ لراعتني وقلتُ لَـهَـا‪:‬‬
‫ش لذلك! فقال الخر‪ :‬أيعجبك قول ال ُعذْري‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫فلم يه َ‬
‫لم َر َيهْوِي سَرِيعًا نَحْوهَـا رَاسِـي‬ ‫لو حزّ بالسيف رَأسي في مَ َودَتهـا‬
‫لكنت َأبْلَى وما قلبي لكم نَـاسـي‬ ‫سدِي‬ ‫طبَاق الثرَى جَ َ‬ ‫ولو بَلى تحتَ أ ْ‬
‫ش به ما عشتُ في الناس‬ ‫رُوحاً أعي ُ‬ ‫أو يَقبض ال رُوحي صَا َر ِذكْركُـمْ‬
‫لكنتُ محترقًا من حَ ّر أنـفـاسِـي‬ ‫لول نسيم لذكـراكُـ ْم يُرَوّحـنـي‬
‫فتحرّك ثم قال‪ :‬يا وَيحَه! أبعد ما يحزّ رأسه يَميل إليه؟ ثم أنشأ يحدّثنا‪ ،‬فقال‪ :‬أتاني خالد الدليل‪ ،‬فقال‪ :‬إن هنداً وَأتْرابها بموضع كذا وكذا من‬
‫الصحراء أيام الربيع‪ ،‬فقلت‪ :‬كيف الحيلة؟ فقال‪ :‬تتلثّم وت ْكتَفل كأنك طالبُ ضالّة‪ ،‬ففعلت‪ ،‬فدُفعت إليهنّ‪ ،‬فقلْن‪ :‬يا أعرابي‪ ،‬ما تطلب؟ قلت‪ :‬ضالّة‬
‫ث بنا‬
‫ن حديثنا وأصبْنا من حديثك‪ ،‬ولعلّك تروح إلى وجود ضالتك‪ ،‬فنزلت؛ فلمّا امتدّ الحدي ُ‬ ‫لي‪ ،‬فقلْن‪ :‬قد كلِلت يا أعرابي‪ ،‬فلو جلست فأصبت م ْ‬
‫عنَاك‪ ،‬وبعْثنا إليك خالداً‪ ،‬رأينا خل ًء ومنظرًا فأ َردْنَاك‪ ،‬ونظرت في دِرْعِي فأعجبني ما‬ ‫خدَ ْ‬
‫حسرت ِه ْندٌ ِلثَامي‪ ،‬وقالت‪ :‬أ ُترَاك خدعْتنا؟ نحن والّ َ‬
‫رَأَيت‪ ،‬فقلت‪ :‬يا أبا الخطاب‪ ،‬قال عمر‪ :‬فقلت‪ :‬ل ّبيْك‪ ،‬وفي ذلك أقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ِببَطْنِ حُليّاتٍ‪ ،‬دوَا ِرسَ بـلـقـعـا؟‬ ‫ألمْ تسأل الطللَ والـمُـتَـرَبـعـا‬
‫معاُلمُه َوبْـلً وكـبـاء زَعْـزَعـا‬ ‫إلى السّرح من وادي المغمَس ُبدّلَتْ‬
‫نكَأْنَ فؤاداً كان ِقدْمـًا مُـوَجّـعـاً‬ ‫ن با ْلعِلْـم بَـعْـدَمـا‬‫فيبخَلْنَ أو يُخبِرْ َ‬
‫جميعٌ وإذ لم نًخْش أن يتَـصَـدّعـا‬ ‫لهند وأترابٍ لـهـنـد إذِ الـهـوى‬
‫لواشٍ لدينا يَطُْلبُ الهجْ َر مطمـعـا‬ ‫وإذ ل نطيعُ الـعـاذلـين ول نَـرَى‬
‫شعْشَعا‬ ‫كما صفق الساقي الرحيقَ المُ َ‬ ‫ن مثلُ الماء كـان مِـزَاجُـهُ‬ ‫وإذ نح ُ‬
‫وحتى تذكّرت الحبيبَ الـمـودّعـا‬ ‫ُتنُوعتنَ حتى عاودَ القلـبَ خَـبْـلُـه‬
‫ضَ َررْتَ‪ ،‬فهل تسْطِي ُع نَفْعا فتنفعـا؟‬ ‫فقلت لمُطرِيهنّ با ْلحُـسـن‪ :‬إنـمـا‬
‫فؤاد بَأ ْمثَال ال َمهَا كـان مـولَـعـا‬ ‫صحَا‬
‫وأشريتَ فاستشرى وقد كان قد َ‬
‫كمثل الُلى أطْريت في الناس أربعا‬ ‫حدّثْتُ حَقّـا فـمـا أرى‬ ‫لئن كان ما ُ‬
‫أخافُ حديثاً أن يشاع فـيَشْـنُـعـا‬ ‫فقال‪ :‬فقم فانظر‪ ،‬فقلتُ‪ :‬وكيفَ لي؟‬
‫فسل ْم ول تُكثـر بـأَن تـتـورّعـا‬ ‫فقال‪ :‬اكتفل ثم التثـمْ فـ ْأتِ بـاغـيا‬
‫لموعدِهِ َأبْغي قَلُوصـًا مـوقّـعـا‬ ‫فأقبَلْتُ أَهوِي مثل ما قال صاحبـي‬

‫وجُوه زَهَاهَا الحسنُ أنْ تتقنعَـا‬ ‫فلمّا تواقفنا وسلّمـتُ أقـبـلـت‬

‫‪72‬‬
‫وقلْنَ‪ :‬امرُؤ باغ َأكَلّ وأَوْضَعـا‬ ‫تباَلهْنَ بالعِرْفان َلمّـا رأينـنـي‬
‫صبَعـا‬ ‫س ذِراعا كلّما قِسْنَ إ ْ‬ ‫يَقي ُ‬ ‫وقَ ّربْنَ أسبابَ الهـوى لـمـتـيّمٍ‬
‫أخِ ْفتَ علينا أن ُنغَرَ و ُنخْـدَعـا؟‬ ‫فلمّا تنازعْنَ الحاديثَ ُقلْـن لـي‬
‫إليكَ‪ ،‬وَبينَا له المرَ أجـمـعـا‬ ‫فبالمس أ ْرسَ ْلنَا بذلـك خـالـداً‬
‫على مل منَا خَرَجْنا له مَـعـا‬ ‫ق مَـوْعـدٍ‬ ‫فما جئتنا إلَ على َو ْف ِ‬
‫سهْل المحلة مُمرِعا‬ ‫َدمِيثَ الرُبى َ‬ ‫عيُونٍ ومنـظـراً‬ ‫رأينا خل ًء من ُ‬
‫فحقّ له في اليوم أن يتمـتّـعَـا‬ ‫ل كـرائمٍ‬ ‫وقلن‪ :‬كريمٌ نال َوصْـ َ‬
‫وقوله‪ :‬وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا يقول‪ :‬هذه الوجو ُه ُمدِلَة بجمالها فل تختمر‪ ،‬فتستر شيئاً عن الناظرين إليها‪ .‬وقد أشار إلى هذا المعنى‬
‫الشماخ بن ضِرَارٍ يصف ناقته‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ُب َعيْد الشباب حاولت أن تُـعَـذّرَا‬ ‫ن ذِرَاعَـيْهـا ذراع مُـــدِلَةٍ‬ ‫كأ َ‬
‫غنْمٍ أو َلقِيط بن َي ْعمُـرا‬ ‫س بن َ‬ ‫فِرا َ‬ ‫من البيض أعطافا إذا اتّصلت دعَتْ‬
‫أطارت من الحسن ال َردَاء المحبّرا‬ ‫بها شَرَق من زعفران وعَـنـبـر‬
‫في معانٍ أخرى‬
‫ل ل تستُر وجهها‪ ،‬فلمّا دخلت على مُصْعب بن الزبير قال لها في ذلك‪ ،‬فقالت‪ :‬إن ال تعالى وسَمني‬ ‫قال‪ :‬وكانت عائشة بنت طلحة بن عبيد ا ّ‬
‫بميسَم جمال‪ ،‬فأحببتُ أن يراه الناس‪ ،‬وال ما بي وَصمة أسْتتر لها‪.‬‬
‫وقال علي بن العباس الرومي يصف قينة‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫جهُها إلى السترِ‬ ‫ضوَى َو ْ‬ ‫ول انْ َ‬ ‫لم َي ْعتَصِ ْم عودُهـا بـزامـرةٍ‬
‫وقد ردّد معنى قوله‪ :‬لم يعتصم عودها بزامرة فقال‪ :‬يصف بَرعَة الكبيرة‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ش ْمعَهْ؟‬ ‫هل تحوجُ الشمسُ إلى َ‬ ‫غَتتْ فلم تحوجْ إلـى زامِـر‬
‫فألبستها حُسنـهـا خِـلْـعَـهْ‬ ‫شمْس الضـحـى‬ ‫كأنما غنّت ل َ‬
‫شكْوَى سبقـت َدمْـعَـهْ‬ ‫رقّة َ‬ ‫كأنما َرنّة مـسـمـوعـهـا‬
‫كأنها قد أطلعـت طـلـعـهْ‬ ‫ُتهْدِي إلى قلبك ما يشـتـهـي‬
‫والحسنُ والحسانُ في بُ ْقعَـهْ‬ ‫يجتمع الظرفُ لجـلّسِـهـا‬
‫فبعض تطفيل ال َفتَى رفْـعَـهْ‬ ‫طَفل على من حصلت عنـدَهُ‬
‫فلن يُعابَ الحر بالنّـجْـعَـه‬ ‫ربيع غيثٍ فانتجِـعْ رَ ْوضَـهُ‬
‫وكان ابن الرومي ل يزال معتمّا‪ ،‬وكان يغضب إذا سُئل عن ذلك‪ ،‬وسأله بعضُ الرؤساء‪ :‬لِ َم َت ْعتَمّ؟ فقال بديها‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ك ُم ْعتَجِرا‬‫عَنيَ ِلمْ ل أرَا َ‬ ‫يا أيها السائلي لُخبـرَهُ‬
‫ستِرَا‬
‫ن مَا ُ‬ ‫تعريفُهُ السائلي َ‬ ‫أستر شيئاً لو كان يمكنني‬
‫وقد بيًن العلة التي أوجبت اهتمامه في قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سفَعْ‬ ‫من القَرَ يوماً والْحَرُو ِر إذَا َ‬ ‫ي بُـرْهَةً‬ ‫تعممت إحصاناً لِرأسـ َ‬
‫وأودى بها بعد الطالة والفَـ َرعْ‬ ‫فلما دَهى طولُ التعمم لِـمـتَـى‬
‫ي من الصَلعْ‬ ‫لتستر ما جَ َزتْ عل َ‬ ‫عزمت على ُلبْسِ العمامة حـيلةً‬
‫جعلت إليه من جنايته الـفـ َزعْ‬ ‫فيا لك من جانٍ علـيَ جِـنـايةً‬
‫ن نَفعْ‬ ‫جبْ بأَ ْ‬ ‫عمْد وأع ِ‬ ‫دَوَائي على َ‬ ‫وأعجب شيء كان دائي جعلتـه‬
‫وهذا كقوله‪ ،‬وإن لم يكن في معناه‪ ،‬وقد رأيت من ينسبه إلى كشاجم‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ن ألمتَـا بـي‬ ‫طوالِ ُع شيبتي ِ‬ ‫ع ْتنِي‬‫طربتُ إلى ا ْل ِمرَاةِ فرَوَ َ‬
‫حبّا للتصابي‬ ‫إلى ال ِمقْرَاضِ ُ‬ ‫ش ْيبَة فَ َفزِعتُ منـهـا‬ ‫فأمّا َ‬
‫شهَد بالبَراء ِة من خِضَابي‬ ‫لتَ ْ‬ ‫حتُ عنهـا‬ ‫شيْبَة فصفَ ْ‬
‫وأما َ‬
‫شبَابي‬ ‫ت ب ِه الدَليل على َ‬ ‫أقمْ ُ‬ ‫ب بالدَليل على مَشيبي‬ ‫ج ْ‬‫فأع ِ‬
‫وهو القائل في صفة رجل أصلع‪ :‬السريع‪:‬‬
‫إلى َمدًى يقصرُ عن ميلهِ‬ ‫يجذب من نقرتـه طُـ َرةً‬

‫ف من َليْلِهِ‬
‫خذَ نهار الصيْ ِ‬
‫َأ ْ‬ ‫خذُ مـن رأسِـهِ‬ ‫جهُه يَ ْأ ُ‬
‫فو ْ‬
‫وقال أعرابي‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫ج ْبهَةً إلى ال َقفَا‬
‫فصار رَأسِي َ‬ ‫صفْصَ َفاً‬
‫قد ترك الدَهْرُ صَفَاتِي َ‬
‫كأنه قد كان َربْعًا فَـعَـفَـا‬
‫قال أعرابيّ لسليمان بن عبد الملك‪ :‬إني أكلّمك يا أمي َر المؤمنين بكلم فاحتمله‪ ،‬فإنّ وراءَه إن قبِلتَه ما تحبّه‪ ،‬قال‪ :‬هاته يا أعرابي‪ ،‬فنحن نَجُودُ‬
‫جيْباً‪ .‬قال‪ :‬فإني سأُطْلِقُ لساني بما خَرِست عنه‬ ‫غيْبته‪ ،‬ول نرجُو نصيحته‪ ،‬وأنت المأمون غيباً‪ ،‬الناصح َ‬ ‫بسعَةِ الحتمال على مَنْ ل نأْمن َ‬
‫اللسن‪ ،‬تأديةً لحقّ ال تعالى؛ إنه قد اكتنفك رِجَالٌ أساءوا الختيارَ لنفسهم؛ وابتاعوا دُ ْنيَاك بدينهم‪ ،‬ورضاكَ بسَخَطِ ربّهم‪ ،‬وخافوك في ال ولم‬
‫لّ عليه؛ فإنهم لم يَأْلُوا المان َة تضييعاً‪ ،‬والمة كسفاً وخَسْفاً‪ ،‬وأنت‬ ‫سلْم للدنيا‪ ،‬فل ت ْأ َمنْهم على ما ائتمنك ا ُ‬ ‫ل فيك‪ ،‬فهم حرب للخرة‪ ،‬وَ َ‬ ‫يخافوا ا ّ‬
‫غبَنًا مَنْ باع آخِ َرتَه بدُ ْنيَا‬
‫مسؤول عما اجترموا‪ ،‬وليسوا مسؤولين عمّا اجترمْت؛ فل تُصلِحْ دنياهم بفساد آخرتك؛ فإن أعظَم الناسِ عند الّ َ‬

‫‪73‬‬
‫غيره‪.‬‬
‫سيْفُك‪ ،‬قال‪ :‬أجل يا أمير المؤمنين‪ ،‬لك ل عليك‪.‬‬ ‫فقال سليمان‪ :‬أما أنت يا أعرابي‪ ،‬فقد سللت لسانك وهو َ‬
‫وروى العتبي عن أبيه عن مولى لعمرو بن حريث قال‪ :‬شخصت إلى سليمان بن عبد الملك‪ ،‬فقيل لي‪ :‬إنك تَ ِردُ على أفصح العرب‪ ،‬وسيسألك‬
‫ظ ْر ما تجيبه‪ ،‬فقلت‪ :‬ما عندي من الجواب إلّ ما عند العامّة‪ ،‬فقيل لي‪ :‬ما ذلك بمُ ْقنِع عنده‪ ،‬فلقيني أعرابي فقلت‪ :‬هل لكَ في‬ ‫عن المطر‪ ،‬فانْ ُ‬
‫ن هذا المطر ب َم كنت تُجيبه؟ قال‪ :‬أو َيعْيَا بهذا أحد؟‬ ‫ص عليهما‪ ،‬فما شَأنُك؟ فقلت‪ :‬لو سألك سائل عَ ْ‬ ‫درهمين‪ .‬فقال‪ :‬إنّي والّ محتاج إليهما‪ ،‬حري ٌ‬
‫ضبُعِ؟‬‫ت منها ال ُغدُر‪ ،‬وأتتك في مثل وِجَار ال ّ‬ ‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬سَائُِلكَ! قال‪َ :‬أ َت ْعيَا أن تقول‪ :‬أصابتنا سماءٌ‪ ،‬عَمد لها الثّرى‪ ،‬واتصَل بها العُرَى‪ ،‬وقَامَ ْ‬
‫ف بين يديه‪ ،‬وقد سلّمت عليه‬ ‫فكتبتُ الكلمَ‪ ،‬وأعطيتُه درهمين‪ :‬فكان هِجّيرَايَ على الرَاحلة ‪ ،‬فإذا نزلت أ ْقبَلت عليه وأمثل نفسي كأني واق ٌ‬
‫عذْرته‪.‬‬ ‫حدَى عينيه‪ ،‬وقال‪ :‬إني لَسمَع كلماً ما أنت بأبي ُ‬ ‫بالخلفة وهو يَسْأَلني عن المطر! فلمّا انتهيتُ إليه سألني فاقتصَصْت الكلمَ‪ ،‬فكَسَر إ ْ‬
‫صلَتي‪.‬‬‫قلت‪ :‬صدقت! وحياتك يا أمير المؤمنين اشتريته بدرهمين! فاستغرب ضَحِكاً‪ ،‬ثم أحْسَنَ ِ‬
‫وقال أعرابي يمدح رجلً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سكُـوبُ‬ ‫ن ل َينْدَى السّحابُ َ‬ ‫َندٍ حي َ‬ ‫جدَا‬
‫شجَاعٌ مع الْ َ‬ ‫حَليمٌ مع التقْوَى‪ُ ،‬‬
‫لمات خُفـاتـاً أو لـكـادَ يذوبُ‬ ‫ويَجْلو أموراً لو تَصيّفْـنَ غـيرهُ‬
‫به لقلوبِ العـالَـمـينَ وَجـيبُ‬ ‫شديد َمنَاطِ ا ْلقَلْبِ في الموقف الذي‬
‫ل أدِيب‬ ‫غيْر تأديبِ الـرّجـا ِ‬ ‫ومن َ‬ ‫غيْر التخلّق مـاجِـدٌ‬ ‫فتًى هو مِنْ َ‬
‫وقال بعض المحدّثين يمدح‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ويَجْعل دون ال ُعذْر فضل التّـكَـرّمِ‬ ‫جعَلُ المعروفَ قبـل سُـؤَالِـهِ‬ ‫فتًى يَ ْ‬
‫تُصبْ ومتى تطلب به ال ُغنْم َتغْـنَـمِ‬ ‫صدْ به فَضْـل حـظـهِ‬ ‫أغ ّر متى تَ ْق ِ‬
‫ل من عَ ْقدِ العُرى كل مُـبْـرَمِ‬ ‫وينح ّ‬ ‫ص ِدعُ الـصَـفـا‬‫على رأيه ينض ّم مُنْ َ‬
‫حسَام المـصـمّـمِ‬ ‫وخَطْ َرةُ رام كالْ ُ‬ ‫له عَزْمة أغنى من الجيش في الوَغَى‬
‫جملة من كلم بديع الزمان الهمداني‬
‫أبي الفضل أحمد بن الحسين‬
‫ض المكاسر‪ ،‬أنِيق الجواهر‪ ،‬يكادُ الهواء يسرقه ُلطْفاً‪ ،‬والهوى يعْشَقَه ظَرْفاً‪.‬‬ ‫ق َمعْناه‪ ،‬وكلم غَ ّ‬ ‫سمَاه‪ ،‬ولفظ طاب َ‬ ‫وهذا اسمٌ وافق مُ َ‬
‫ولمّا رأى أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الزدي أغْرب بأربعين حديثاً‪ ،‬وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره‪ ،‬واستنخبها من معادِن ِفكْرِه‪،‬‬
‫وأبداها للَبصار والبَصائر‪ ،‬وأهداها للفكارِ والضمائر‪ ،‬في معارض أعجمية‪ ،‬وألفاظ حُوشِية‪ ،‬فجاء أكثرُ ما أظْهر َت ْنبُو عن قبوله الطباعُ‪ ،‬ول‬
‫ج َبهَا السماعُ‪ ،‬وتوسَع فيها؛ إذ صرَف ألفاظَها ومعانيها‪ ،‬في وجوه مختلفة‪ ،‬وضروس متصرّفة‪ ،‬عارضها لربعمائة مقامة في‬ ‫حُ‬‫ترفعُ له ُ‬
‫ال ُكدْيَة‪ ،‬تذوب ظَرْفاً‪ ،‬وتقطر حُسْناً‪ ،‬ل مناسبةَ بين المقامتين لفظًا ول معنى‪ ،‬وعطف مُسَاجلتها‪ ،‬وو َقفَ مناقلتها‪ ،‬بين رجلين سمَى أحدهما عيسى‬
‫حكُ الحزين‪ ،‬وتحرّك ال َرصِينَ‪ ،‬يتطلع منها كل‬ ‫بن هشام والخرَ أبا الفتح السكندري‪ ،‬وجعلهما يتهاديان الدّر‪ ،‬ويتنافثان السحر‪ ،‬في معانٍ ُتضْ ِ‬
‫ف منها على كلّ لطيفة‪ ،‬وربما أفرد أحَدهما بالحكاية‪ ،‬وخصَ أحدهما بالرواية؛ وسأذكر منها ما ل يُخِل طولُه بالشرط المعقود‪،‬‬ ‫طريفة‪ ،‬ويُوقِ ُ‬
‫ول ينافي حصولُه الغرضَ المقصود‪.‬‬
‫عزَ ال المير! ‪ -‬وبودي أن أكُونَه‪ ،‬فأسعد به دُونَه‪ ،‬ولكن الحريصَ محروم‪ ،‬لو بلغ الرزق‬ ‫كتب إلى أبي نصر أحمد بن علي الميكالي‪ :‬كتابي ‪ -‬أ َ‬
‫فاه‪ ،‬لوله َقفَاه‪ .‬فرَق ال بين اليام‪ ،‬تفريقَها بين الكِرام‪ ،‬وألهمها أن تورد بعقل‪ ،‬وتُصدر بتمييز‪ ،‬وما ذلك على ال بعزيز‪ ،‬وأنا في مفاتحة‬
‫حرُ وإن لم أره‪ ،‬فقد سمعتُ خبرَه‪ ،‬ومن رأى مِنَ السيف أثره‪ ،‬فقد عاين أكثرَه‪ ،‬والليث‬ ‫المير‪ ،‬بين ثقة تعِد‪ ،‬وَي ٍد تَ ْرتَعِد‪ ،‬ولم ل يكونُ ذلك‪ .‬والب ْ‬
‫شهَد به الدفاتر‪ ،‬والخبرُ‬ ‫ف فَضْل وأدب‪ ،‬و ُبعْد همة وصِيت‪ ،‬فمعلوم تَ ْ‬ ‫وإن لم ألْقَه‪ ،‬فلم أجهل خلقه‪ ،‬وما وراء ذلك من تالِد أصْل وحَسَب‪ ،‬وطار ِ‬
‫ن أيْسَر‬ ‫المتواتر‪ ،‬وتنطق به الشعارُ‪ ،‬كما تصدق به الثارُ‪ ،‬والعين أقل الحواس إدراكاً‪ ،‬والذن أكثرها استمساكاً‪ ،‬وإن بعدت الدار فل ضَير؛ إ ّ‬
‫البعدين بُ ْعدُ الدارين‪ ،‬وخيرَ القربين قُ ْربُ القلبين‪.‬‬
‫وكتب إليه في سنة ثلث وثمانين وثلثمائة‪ :‬المير الفاضل‪ ،‬والشيخ الرئيس‪ ،‬رفيع ُمنَاطِ الهمة‪ ،‬بعيد منال الحرمة‪ ،‬وفسيح مجال الفضل‪،‬‬
‫خرَقِ الجود‪ ،‬رطيب مكْسِ ِر العود‪ :‬المجتث‪:‬‬ ‫ب مُنْ َ‬‫رَحِي ُ‬
‫والشعـ َر َييْن قَـرِيضـا‬ ‫فلو نَظَـمْـتُ الـثـريا‬
‫وشعب َرضْوَى عَرُوضا‬ ‫وكاهل الرض ضربـا‬
‫وللـهـواء نـقـيضـا‬ ‫صغْتُ لـلـدر ضـدا‬ ‫و ُ‬
‫سُودَ النـوائب بِـيضَـا‬ ‫جلَـوْتُ عـلـيهِ‬ ‫بل لو َ‬
‫لخمصيه حَضِـيضـا‬ ‫أو ادّعـيت الـثـــريا‬
‫يوم العطاء مَـغِـيضَـا‬ ‫والبحر عـنـد لُـهَـاهُ‬
‫ح أنَى سلك‪،‬‬ ‫ل في ذمّة ال ُقصُور‪ ،‬وجانب التقصير‪ ،‬فكيف وأنا قاعدُ الحالة فيُ المدح‪ ،‬قاصِرُ اللة عن الشَرْح؟ ولكني أقول‪ :‬الثناء ُمنْج ٌ‬ ‫لما كنت إ ّ‬
‫صبْها وابل فَطَلّ‪ ،‬و َبذْلُ‬ ‫صدَاء فماء‪ ،‬وإن لم يكن خمر فَخَل‪ ،‬وإن لم يُ ِ‬ ‫والسخيّ جوده بما ملك‪ ،‬وإن لم تكن غُرّةٌ لئحة َفَلمْحَ ٌة دالّة‪ ،‬وإن لم يكن َ‬
‫الموجود غاية الجود‪ ،‬وبعض الجهد آخر المجهود‪ ،‬وماش خير من ل ش‪ ،‬ووجود ما قلّ خي ٌر من عدم ما جَلّ‪ .‬وقليل في الجيب خير من كثير‬
‫في ال َغيْبِ‪ ،‬وجهد المقلّ خي ٌر من عذر المخل‪ ،‬وحمار أيْس خير من فرسِ َليْس‪ ،‬وكوخ في العِيان خي ٌر من قصر في الوهم‪ .‬و َذيْتَ خير من ليت‪،‬‬
‫خيْ ٌر من أن تقف‪ ،‬ومن لم يجد الجميم رعى‬ ‫وما كان أجود من لوْ كان‪ ،‬وقد قيل‪ :‬عصفور في الكف أجو ُد من كُرْكي في الجو‪ ،‬ولنْ تقطف َ‬
‫ل نعماه! ‪ -‬ل ينظر في قوافي صنيعته إلى َركَاكة ألفاظها‪،‬‬ ‫الهشيم‪ ،‬ومن لم يحسن صهيلً نَهق‪ ،‬ومن لم يجد ماء تيمّمَ؛ والمير الرئيس ‪ -‬أدام ا ّ‬
‫صبَة جرجان‪ ،‬ووطئت عَتبة خراسان‪ ،‬ما زففتها إلَ إليه‪،‬‬ ‫و ُبعْدِ أغراضها‪ ،‬ولكن إلى كثرة جذرها‪ ،‬وثقل مهرها‪ ،‬وقِلّة كفئها‪ ،‬وإنني منذ فارقت قَ َ‬
‫ب سمعه‪،‬‬ ‫ل عليه‪ ،‬هذا على تمرغي في أعطاف المحن‪ ،‬وضرورتي إلى أبناء الزمن‪ ،‬وإن كان المير الرئيس يرفعُ لكل لفظٍ حجا َ‬ ‫ول وقَ ْفتُها إ ّ‬
‫ويُفْسِحُ لكلّ شعر فِناء طبعه‪ ،‬فهاك من النثر ما ترى‪ ،‬ومن النظم ما يترى‪ :‬مجزوء الرمل‪:‬‬
‫فَج ِر قد كـادَ يلـوحُ‬ ‫س فعَرْفُ الْ‬ ‫أدْهِقِ الكا َ‬

‫‪74‬‬
‫صبُـوحُ‬ ‫ولذي الرأي َ‬ ‫فهو للنـاس صـبـاحٌ‬
‫حَلْبة اللَهو جَـمُـوحُ‬ ‫والذي يمرح بي فـي‬
‫لهـا عَـ ْرفٌ يفـوحُ‬ ‫فاسقنيهـا والمـانِـيّ‬
‫راً بها سوف تَـبُـوحُ‬ ‫إنّ لـليام أســـرا‬
‫صادقُ الحِـسّ وروح‬ ‫ل يغـ َرنّـك جـسـمٌ‬
‫جال َنغْـدُو ونـروح‬ ‫إنما نـحـن إلـى ال‬
‫ح وهذا الـروح ريح‬ ‫ويْك هذا العمر تبـري‬
‫جسم إذ أنتَ طـرِيح‬ ‫بينما أ ْنتَ صحـيح الْ‬
‫فظه الدّيك الـذّبـيح‬ ‫فاسقنيها مثـل مـا يل‬
‫سنِـيح‬ ‫رِ بيَ ال ِقدْحُ ال ّ‬ ‫قبل أن يضرب في الده‬
‫صغَى نصـيحُ‬ ‫ولمنْ َأ ْ‬ ‫إنما الـدّهـرُ غَـرُورٌ‬
‫ظِ لوَاعـي ِه فَـصِـيحُ‬ ‫ولسان الدّهر بـالْـوَع‬
‫م منّـا تَـسْـتَـبِـيح‬ ‫نستبيح الـدّهـرَ واليا‬
‫لُ المـنـايا ل تـريح‬ ‫نحـن لهـون وآجـا‬
‫س من الناس مُـرِيحُ‬ ‫ُ‬ ‫يا غلمُ الك ْأسَ فـالـيأ‬
‫فسنا وَهْـ َو مـبـيح‬ ‫ضاع ما نحميه من أن‬
‫ل بالـمـرء قـبـيح‬ ‫وقنوعاً فمـقـام الـذّ‬
‫ئك شِـقّ وسَـطـيحُ‬ ‫أنا يا دهـر بـأبـنـا‬
‫شحِـيحُ‬ ‫ل على ُكفْءً َ‬ ‫وبأبكـار الـقـوافـي‬
‫ُد لعِـلَتـي مُـزِيح‬ ‫يا بني ميكال والـجـو‬
‫فضل فيكمْ لفـسـيحُ‬ ‫شرفًا إن مـجـال الْ‬
‫ك الـمـديح‬ ‫دوح يَأْتي َ‬ ‫سنَا الـمـم‬ ‫وعلى قدر َ‬
‫فع والطّرْف الطمُوح‬ ‫فهناك الـشـرف الَر‬
‫صبِـيحُ‬ ‫خلْق ال ّ‬ ‫هر وال َ‬ ‫والنّدى والخُُلقُ الـطـا‬
‫رف فـيه ويطــيح‬ ‫مرتَقَى مجدٍ يحار الط‬
‫ثل والخُلْقُ السَـجِـيحُ‬ ‫أيهَذا الـكـرم الـمـا‬
‫عادَه منك المـسـيح‬ ‫كان هذا الجود مـيتـاً‬
‫ض البديهة‪ ،‬ومسارقة القلم‪ ،‬ومسابقة ال َيدِ للفم‪ ،‬وجمرات الحدّة‪ ،‬وثمرات المدّة‪،‬‬ ‫عفْو الساعة‪ ،‬و َفيْ ُ‬
‫هذه ‪ -‬أطال ال بقا َء المير! ‪ -‬هديّة الوقت‪ ،‬و َ‬
‫سمْع‪ ،‬ومجاذبة الجنان للبيان‪ ،‬والشعر إذا لم تقدّمه روّية‪ ،‬ولم تنضجه نيّة‪ ،‬لم يفتح له السمع بابه‪ ،‬ولم‬ ‫طبْع لل ّ‬ ‫ومجاراة الخاطر للناظر‪ ،‬ومباراة ال ّ‬
‫يرفع له القلب حجابه‪ ،‬وإذا لبس المير هذه على علّتها رجوت أن يكون بعدها ما هو أفتن وأحسن وأرصن‪ ،‬فرأيه أيّده الّ في الوقوف عليها‬
‫موفقاً إن شاء ال‪.‬‬
‫وله إليه معاتبة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لقد سرّني أنّي خَطَ ْرتُ بباِلكَ‬ ‫ن نِلْتني بمسَـا َءةٍ‬ ‫َلئِنْ سَاءَني أَ ْ‬
‫ي إبعاده وإدْنَائِه ُمتَطَوّل‪ .‬وهنيئًا له من‬ ‫لّ بقاءهُ إلى آخر الدعاء‪ ،‬في حَال برّه وجفائه ُمتَفَضل‪ ،‬وفي يومَ ْ‬ ‫المير الفاضل الشيخ الرئيس‪ ،‬أطال ا ُ‬
‫عرَاضِنا ما يستحلّه‪ ،‬بلغني أنه ‪ -‬أدام الُّ عِزه! ‪ -‬استزاد صنيعته‪ ،‬وكنت أظنني مجنيّا عليه‪ ،‬مُساءً‬ ‫حمَانا ما يُحِلُه‪ ،‬ومن عُرَانا ما َيحُله‪ ،‬ومن أ ْ‬ ‫ِ‬
‫ضتُه‪ ،‬أو واجبٍ في‬ ‫خدْمة َرفَ ْ‬
‫إليه‪ ،‬فإذا أنا في قرارة ال ّذنْبِ‪ ،‬وبمثابة العتْب‪ ،‬وليت شعري أيّ محظور في العشرة حَضَرْته‪ ،‬أو مفروض من ال ِ‬
‫ل مِيكَالَ‬
‫الزيارة أ ْهمَ ْلتُهُ‪ .‬وهل كنتُ إلَ ضيفًا أهداه بَلدٌ شاسع‪ ،‬وأدّاه أمل واسع‪ ،‬وحَداه َفضْلٌ وإن قلّ‪ ،‬وهدَاهُ رأيٌ وإنْ ضَلّ‪ ،‬ثم لم يُ ْلقِ إلّ في آ ِ‬
‫ح ْرمَة إلّ‬
‫ت َمهَانةً‪ ،‬ول زادت ُ‬ ‫شكْرَه‪ ،‬ثم ما َبعُدَت صحبةٌ إلّ َدنَ ْ‬ ‫شعْرَه‪ ،‬ولم يَقفْ إلّ عليهمِ ُ‬
‫حبْلَه‪ ،‬ولم َينْظِم إلّ فيهم ِ‬ ‫حلَه‪ ،‬ولم يَصِلْ إلَ بهم َ‬ ‫رَ ْ‬
‫صدْرَة‪ ،‬وذلك‬‫طرَة‪ ،‬وعاد قميصُ القيام ُ‬ ‫ل تراجعت َمنْزِلة‪ ،‬ولم تزل الضعَة بنا حتى صار وابلُ العظام قَ ْ‬ ‫ت ِمنّة إ ّ‬ ‫نقصت صيانة‪ ،‬ول تضاعَف ْ‬
‫التقربُ أ ْزوِرَاراً‪ ،‬وطويل السلم اختصاراً‪ ،‬والهتزازُ إيماء‪ ،‬والعبارة إشارة؛ وحين عاتبته آمل إعتابه‪ ،‬وكاتبته أ ْنتِظِر جوابه‪ ،‬وسألته أرجو‬
‫عتَب بال ُقنُوت‪ ،‬فما ازددت إل له ولءً‪ ،‬وعليه ثناءً؛ ل جَرَم إني اليوم أبيضُ َوجْ ِه العهد‪ ،‬واضح محجّةِ الوُد‪ ،‬طويلُ‬ ‫إيجابه‪ ،‬أجاب بالسكوت‪ ،‬وأَ ْ‬
‫ح ْكمَةِ ال ُعذْر؛ وقد حمَلت فلنًا من الرسالة ما تجافَى عنه القلم؛ والمير الرئيس أطال ال بقاءَه ُينْعِمُ بالصغاء لما يورده موفقاً‬ ‫عنَان القول‪ ،‬رفيع ِ‬ ‫ِ‬
‫إنْ شاء الّ‪.‬‬
‫ح بين أَنْ أشْرَبها رنقة ول أُسِيغُها‪ ،‬وألجلج منها مُضْغة ول‬ ‫وله إليه في هذا الباب‪ :‬أنا في خدمة المير الرئيس ‪ -‬أطال ال بقاءَه! ‪ -‬مترج ٌ‬
‫طوِيها على عَرَها‪ ،‬ول أرتضع أَخلف دَرَها‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫أُجيزها‪ ،‬وبين أَنْ أَ ْ‬
‫ول هِممي تُوَطنُني لَخْفضِ‬ ‫فل نَفْسِي تُطاوعني ِل َرفْض‬
‫ل متبرَماً؛ ولستُ‬ ‫وبقي أن أقْرُصَه بأنامل ال َعتْبِ‪ ،‬وأَحشمَه بأَلحاظ ال َعذْل‪ ،‬وأعرفه أني ما أطوي مسافَة مزار إلّ متجشّما‪ ،‬ول أطأُ عَتبة دار إ َ‬
‫س َتعْدِياً؛ فإن كان الميرُ الرئيس ‪ -‬أيّده الَُ! ‪ -‬يسرحُ طَرْفة مني في طامح أو طامِع‪ ،‬ف ْل ُيعِد للفِراس ِة نَظرا‪:‬‬ ‫س َتجْدياً‪ ،‬أو ينْقل قدمَه مُ ْ‬ ‫كمن َيبْسُط يدَهُ مُ ْ‬
‫الطويل‪:‬‬
‫إليك‪ ،‬ولكنّا بِقُـرْبـاكَ نـنـجـحُ‬ ‫فما الف ْق ُر من أرض العشيرة سَاقَني‬

‫‪75‬‬
‫جدُني كلما استفزّني الشوق إلى تلك المحاسن‪ ،‬أطِير إليها بجناحين عَجِل‪ ،‬وأرجع بعَرجا َويْن خَجِل‪ ،‬ولول أنّ الرضا بذلك ضربٌ من سقوط‬ ‫وأ ِ‬
‫صنْتُ مجلسه عن قَلمي‪ ،‬كما أصُونه عن قَدَمي‪ ،‬وَلمِ ْلتُ إلى أرْض الدعاء فهو أنْجَع‪ ،‬وإلى جانبِ‬ ‫ع من أنواع الخدمة‪ ،‬ل ُ‬ ‫ب نو ٌ‬ ‫الهمة‪ ،‬وأن العتا َ‬
‫الثناء فهو أوْسع‪ ،‬وسأَفعل لتخف مؤْنتي‪ ،‬ول تثقل وَطْأتي‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫و ُهنْتُ عليك فلم تُعْنَ بي‬ ‫ع َتبْتُ فلم ُتعْـتِـبِ‬‫إذا ما َ‬
‫ل ِعفْتُ الورُودَ ولم أشْ َربِ‬ ‫سلَوْت‪ ،‬ولو كان ماء الحياة‬
‫قطعة من مفردات البيات لهل العصر‬
‫في معان شتّى تجري مجرى المثال‬
‫أبو فراس الحمداني‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سبِ‬ ‫أتتْهُ الرَزايا من وجوهٍ ال َمكَا ِ‬ ‫إذا كان غيرُ الَِ للمَـرْء عُـدَةَ‬
‫وله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا عَف عن َلذَاتِه وَهوَ قادِرُ‬ ‫عَفَافكَ عي‪ ،‬إنما عِفَةُ الفَتى‬
‫وقال المتنبي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫حُجة لجِئ إليها اللئام‬ ‫كل حِلْم أتى ب َغيْرِ اقتِدارِ‬
‫وله‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫َت ِعبَتْ في مرادِها الجْسَامُ‬ ‫س كِبـاراً‬ ‫وإذا كانتِ النفُو ُ‬
‫وله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ي كامِل‬ ‫َفهْيَ الشَهادَةُ لي بأن ّ‬ ‫وإذا أ َت ْتكَ َم َذمّتي من ناقص‬
‫وله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ق دَفيناً جَ ْودَةُ الكَفَنِ؟‬ ‫وهل تَرُو ُ‬ ‫ن بِ ّزتِـهِ‬ ‫حسْ ُ‬ ‫ن مَضِيماً ُ‬ ‫جبَ ّ‬
‫ل ُيعْ ِ‬
‫وله‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫غتِصاباً لم يَ ْل َتمِسْهُ سُـؤال‬ ‫وا ْ‬ ‫من أطاقَ ال ِتمَاسَ شيءً غِلباً‬
‫وله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ذا عِفَ ٍة فـلِـعِـلَ ٍة ل يَظْـلِـمُ‬ ‫جدْ‬‫ن تَ ِ‬ ‫شيَمِ النفوسِ‪ ،‬فإ ْ‬ ‫والظلْم من ِ‬
‫وله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫حسُودُ‬ ‫أني بما أنا بَاك ِمنْه مَ ْ‬ ‫جبُهُ‬
‫ت من الدنيا وأَعْ َ‬ ‫ماذا لقي ُ‬
‫وله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ما قَاتَه‪ ،‬وفُضولُ ا ْلعَيْشِ أشغالُ‬ ‫جتُهُ‬
‫عمْره الثاني‪ ،‬وحا َ‬ ‫ذِكْرُ الْفتى ُ‬
‫والمتنبي ا ْكثَرُ المحدَثين ا ْفتِناناً وإحساناً في الغراب بهذا البابِ؛ والستقصاء يخرج عن شرط الكتاب‪.‬‬
‫وقّال السري الموصلي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫صرِمٌ والعيشُ منْ َقرِضُ‬ ‫والدهر مُنْ َ‬ ‫خذُوا من العيشِ فالعمار فـائتةٌ‬ ‫ُ‬
‫وله‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫أَن ُم مِن النّسيمِ على الرّياضِ‬ ‫فإنك كلّما استُودِعْتَ سِـرّا‬
‫وقال أبو إسحاق الصابي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وليس يُرْجَى التقاءُ اللبّ والذهبِ‬ ‫الضب والنّون قد يُرْجَى التقاؤُهما‬
‫وقال ابن نباتة‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عَ َو ُز الدّرَاهـمِ آفةُ الجْـوَادِ‬ ‫مثَل خََلعْتُ على الزمان رِداءَهُ‬
‫وله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ب الثناء طبيعةُ النسانِ‬ ‫ح ّ‬ ‫يهوى الثنا َء مبرّ ٌز و ُمقَصّرٌ‬
‫وقال أبو الحسن السّلمي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫رََأ ْينَا ا ْلعَفْ َو من َثمَ ِر الذُنوبِ‬ ‫تبسَطنا على اللّذات لـمَـا‬
‫وقال ابن لنكك البصري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ولو قد صَفَتْ كانَتْ كأحلمِ نائمِ‬ ‫وماذا أُرجي من حَياةٍ تكـدّرَتْ‬
‫وقال أبو طالب المأموني‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل بدَ أن تسـتَـلـهُ القـدارُ‬ ‫لي في ضَمير الدهر س ّر كامِن‬
‫وقال أبو الفضل بن العميد‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫يَطْرَا عليه وصَ ْقلُهُ التذكـيرُ‬ ‫صدَأ كا ْلحُسام لعارِضٍ‬ ‫الرأي يَ ْ‬
‫وقال أبو الفتح‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عبْد الهُون بـالْـهُـونِ را ِدعُ‬ ‫وتقويم َ‬ ‫طرْتم والعَصَا َزجْ ُر مَنْ عَصَى‬ ‫بطِرْتم ف ِ‬
‫وله‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫فليس له بعدها مُ ْقتَرحْ‬ ‫إذا بلغ المرء آمـالـهُ‬
‫وقال الصاحب إسماعيل بن عباد‪ :‬مجزوء الرمل‪:‬‬
‫ل ٌة نَـزُورُ‬
‫دِ َلمِـقْـ َ‬ ‫إن أُمّ الصقر في الودْ‬

‫‪76‬‬
‫وله‪ :‬مخلع البسيط‪:‬‬
‫شهَد الجنازَهْ‬ ‫إنْ مات لم نَ ْ‬ ‫ضنَـا‬‫من لم َيعُدْنا إذا مَرِ ْ‬
‫وله‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫حفْظَ الشكر للحسان‬ ‫حفَظْهُ ِ‬
‫فا ْ‬ ‫حفْظُ اللسانِ راحةُ النـسـانِ‬ ‫ِ‬
‫وقال إسماعيل الناشئ‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت ثِقَاتُ الناسِ حتى التجارب‬ ‫فخان ْ‬ ‫وكنتُ أرَى أنّ التجـاربَ عُـدّةٌ‬
‫وقال أبو الفتح البستي‪ :‬السريع‪:‬‬
‫خلُو من ا ْل َعيْثِ‬ ‫ث ل يَ ْ‬ ‫فالغي ُ‬ ‫ل تَ ْرجُ شيئاً خالصًا نَ ْفعُـه‬
‫وله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حسْنِ الصبر جُبة لبِس‬ ‫ول مثل ُ‬ ‫ولم أر مثل الشكر جَنة غـارسٍ‬
‫وله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ُيغَيره ريحاً ولونًا و َمطْعمـا‬ ‫وطول مُقام الماء في مستقرّهِ‬
‫وله‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ب َقنَاتِي‬ ‫بعدما عَ َوجَ المَشِي ُ‬ ‫ما استقامت َقنَاةُ رأييَ إل‬
‫وقال أبو الفضل الميكالي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يدَ الدهر إلّ حين َتضْرِبه جَ ْلدَا‬ ‫هو الشوك ل ُيعْطيك واف َر منةٍ‬
‫وله‪ :‬السريع‪:‬‬
‫غدَا أقْوَم من قِـدْحِ‬ ‫وإن َ‬ ‫ذو الفضل ل يسلَم من َقدْح‬
‫وقال شمس المعالي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وليس ُيكْسَفُ إلَ الشمسُ والقمرُ‬ ‫وفي السماء نجومٌ ما لهـا عَـ َددٌ‬
‫هذا مأخوذ من قْول الطائي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ن بـالـ ًرتَـمِ‬ ‫جدٍ فلم يعـبـأْ َ‬ ‫عيدانَ ن ْ‬ ‫إن الرياحَ إذا ما استعصفت َقصَفَـتْ‬
‫والشمسُ والبَدْرُ منها الدهر في الرَقم‬ ‫ش و َنعْش ل كُسـوفَ لـهـا‬ ‫ت نع ٍ‬ ‫بنا ُ‬
‫وقال أبو الحسن علي بن عبد العزيز القاضي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫عيْشٍ على غَرَرِ‬ ‫والموتُ أَطيَب من َ‬ ‫ح من َوصْل على حَـذَرٍ‬ ‫الهجر أَرْ َو ُ‬
‫وقال أبو بكر الخوارزمي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫َفيَا رُب حَي ٍة فـي رِياضِ‬ ‫ل تغرّنك هذه الوجه ا ْلغُرّ‬
‫قال أبو العيناء‪ :‬كان عيسى بن فَرْخان شاه يَتِيهُ عليَ في وليته ال ِوزَارَة‪ ،‬فلمَا صُرِف ر َهبَتي‪ ،‬فلقيني فسلّم عليّ فَأحْفَى‪ ،‬فقلت لغلمي‪ :‬مَنْ هذا؟‬
‫ك دُونَ لَفْظك‪ ،‬فالحمدُ ل على ما آلَتْ إليه حالُك‪،‬‬ ‫ظَ‬‫ل لقد كنْتُ أ ْقنَع بإيمائك دون بَيا ِنكَ‪ ،‬وبلَحْ ِ‬
‫قال‪ :‬أبو موسى؛ فدنوتُ منه وقلت‪ :‬أعزّك ال‪ ،‬وا ّ‬
‫ف عنك‪،‬‬ ‫ت محاسنها بالنصرا ِ‬ ‫ت فيك النعمة‪ ،‬فلقد أصابت فيك الن ْقمَةُ‪ ،‬ولئن كانت الدنيا َأ ْبدَتْ مقابِحَها بالقبال عليك‪ ،‬لقد أظهرَ ْ‬ ‫خطَأَ ْ‬
‫فلئن كانت أ ْ‬
‫شكَرْتَ حقّ ال ُم ْنعِم‪ ،‬فقيل له‪ :‬يا أبا عبد ال‪،‬‬ ‫حمْلَ النعم‪ ،‬وما َ‬ ‫ل المنّة إذ أَغْنانا عن ال َكذِب عليك‪ ،‬ونزّ َهنَا عن قول الزو ِر فيك‪ ،‬فقد والّ ًأسَ ْأتَ َ‬ ‫و ِ‬
‫خلْ َقتِه‪.‬‬
‫لقد بالغت في السب‪ ،‬فما كان الذنب؟ قال‪ :‬سألته حاجةً أقل من قيمتهِ‪ ،‬فردَ عنها بأ ْقبَحَ من ِ‬
‫ي بنُ العباس الرومي لبي الصقر إسماعيل بن بلبل لمّا نكبه الموفق بن أحمد وأَلمَ في بعض قوله بقول أبي العيناء‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وقال عل ّ‬
‫س ِدكْ‬‫و َبكَت بشجْو عين ذي حَ َ‬ ‫ل يومُك عِبرةَ لِـغـدكْ‬ ‫ل زا َ‬
‫سنَـدِك‬‫بك ِهمّة لجأَتْ إلى َ‬ ‫فلئن ن ِكبْتَ لطالما نـكـبَـتْ‬
‫إلّ ِليَوْم فَت في عَـضُـدك‬ ‫لو تسجد اليام ما سـجـدتْ‬
‫ما كان أ ْقبَحَ حس َنهَـا بِـيَدك‬ ‫يا ِن ْعمَةً وّلتْ غَضَـا َرتُـهـا‬
‫غدَتْ حَراً على َكبِـدك‬ ‫َلمَا َ‬ ‫ت بَرْداً على كَبـدي‬ ‫غدَ ْ‬ ‫فلقد َ‬
‫لما اسْتبانَ النقص في عَددِك‬ ‫ورأيْت ُنعْمـى الـلـهِ زائدةً‬
‫لو أنها صُبتْ على كـتَـدك‬ ‫ولقد تمنّتْ كـلّ صـاعـقة‬
‫جسَـدِك‬ ‫إل بقاء الرّوح في َ‬ ‫لَ ْم َيبْقَ لي ممّا بَرَى جسـدي‬
‫ج كثيرة لما نكب‪ ،‬منها قوله‪ :‬السريع‪:‬‬ ‫وله فيه أَهَا ٍ‬
‫صرِيعًا َبعْدَ تحـلـيقِ‬ ‫خَرَ َ‬ ‫خفّضْ أبا الصّقر فكَمْ طائرٍ‬ ‫َ‬

‫َفصَانها المحه بتطـلـيق‬ ‫ت نعمى لم تكن كُفْأها‬ ‫رُوّجْ َ‬


‫كم حجّةِ فيها لِـ ِزنْـديق‬ ‫س ْربَ ْلتَهـا‬
‫ت نُغمَى تَ َ‬
‫س ْ‬‫ل ُقدّ َ‬
‫وكان أبو الصقر لمَا ولي الوزارة َمدَحَه ابن الرومي بقصيدته النونية التي أولها‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫فيهنّ نوعـان تُـفّـاحٌ ورمـانُ‬ ‫ن و ُكثْـبـانُ‬ ‫ج َن ْي َنكَ الوردَ أغصا ٌ‬ ‫أْ‬
‫سود لهن من الظَلمـاء ألـوانُ‬ ‫وفوق َذيْنك أعـنـاب مُـهَـدَلةٌ‬
‫أطرافهنّ قلوب القوم قِـنـوانُ‬ ‫عنّاب تَـلُـوح بـهِ‬ ‫وتحت هاتيك ُ‬
‫حمِلُ الـبـان‬‫وما الفواكِ ُه مما يَ ْ‬ ‫غصونُ بانِ عليها الزهر فاكِـهة‬

‫‪77‬‬
‫وأقحوان منـير الـلـون رَيان‬ ‫ونرجس بات سَارِي الطّل يَضْ ِربُه‬
‫فهن فاكـهة شـتـى و َريْحـان‬ ‫ألّفن من كل شيِء طيبٍ حسـنٍ‬
‫لكنها حين تبلُو الطعْمَ خُطـبَـان‬ ‫ق إذا عاينْتَ ظاهرَهـا‬ ‫صدْ ٍ‬
‫ثمار ِ‬
‫والغانيات كما شُبهْنَ بـسـتَـان‬ ‫ع ْهدٍ لمعـتـقـدٍ‬‫ول يَ ُدمْنَ على َ‬
‫َويَكتَسِي ثم يُ ْلفَى وهـو عُـريان‬ ‫يَميلُ طورًا بحمل ثـم يعـ ُدمُـه‬
‫وهي أكثر من مائتي بيت‪ ،‬مرَ له فيها إحسان كثير‪ ،‬فأنشدها أبا الصقر‪ ،‬فلما سمع قوله‪:‬‬
‫كل لعمري ولكِن منـه شَـيْبـانُ‬ ‫ش ْيبَان قلت لهم‬ ‫قالوا أبو الصقر من َ‬
‫ل تسمع ما بعده‪:‬‬ ‫ن هذا من أحسن المدح؛ أ َ‬ ‫قال‪ :‬هجاني‪ ،‬قيل له‪ :‬إ ٌ‬
‫عدْنـان‬ ‫كما عََلتْ برسول الَِ َ‬ ‫شرَفٍ‬ ‫ل بابن ذُرًى َ‬ ‫ب قد عَ َ‬ ‫وكم أ ِ‬
‫قال‪ :‬أنا بشيِبان ل شيبان بي‪ .‬فقيل له فقد قال‪:‬‬
‫بها المبالغ أعراقٌ وأغْـصـانُ‬ ‫ولم أقَصر بشَيبَان التي بلـغـت‬
‫ت منه و ْلدَانُ‬ ‫رَوْع إذا الروع شا َب ْ‬ ‫لّ شيبان قـوم ل يشـوبُـهُـم‬
‫ل ل أثيبه على هذا الشعر‪ ،‬وقد هجاني‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬ل وا ّ‬
‫ل بن عبد الّ بن طاهر‪ ،‬وقد ذكروا قصيدة ابن الرومي هذه النونية‪ ،‬فقال‪ :‬هذه دارُ‬ ‫قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي‪ :‬كنت يومًا عند عبيد ا ّ‬
‫البطيخ‪ ،‬فاقرأوا تشبيهاتها تعلَموا ذلك! فضحك جميع من حضر‪.‬‬
‫وفي هذه القصيدة يقول من المختار في النسيب‪:‬‬
‫سوءًا‪ ،‬وقد يفعل السْوَاءَ إحـسـانُ‬ ‫يا رُب حُسّانة منهّن قـد فـعـلـت‬
‫صمِي الرّمايا وهي مِرْنان‬ ‫كالقَوْس تُ ْ‬ ‫حبّ وتلفى الدهرَ شاكِـيةً‬ ‫تُشْكي المُ ِ‬
‫ف فيها قوس البندق‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ص ُ‬ ‫وهذا كقوله في قصيدة يَ ِ‬
‫جعَا‬‫ن كان مُو َ‬ ‫جدَر بالعوال مَ ْ‬ ‫وأَ ْ‬ ‫لها َرنّة أَ ْولَى بها من تصـيبـهُ‬
‫يقول فيها‪:‬‬
‫ج مَ ْفتُونٌ وُفـتـان‬‫وزَهْوها‪ ،‬ل ّ‬ ‫ل تَ ْلحَياني وإيّاها على ضَرَعي‬
‫ومُلّكت فلها بالمُلْك طُـغْـيَانُ‬ ‫ق مَسَـكَـنةٌ‬‫إني ملكت فبي للرّ ّ‬
‫عبْرتي وفمٌ ما عِشتُ ظمآنُ‬ ‫من َ‬ ‫جنَةٌ َريّا بمشْ َربِهـا‬ ‫لي ُم ْذ نَأَتْ َو ْ‬
‫وفيها في مدح بني شيبان‪:‬‬
‫ش ْهبَانُ‬ ‫طبِ ُ‬ ‫غَ ْوثٌ ‪ ،‬وآراؤُهم في الخَ ْ‬ ‫قوم سماحتهم غيثٌ‪ ،‬ونَـجْـ َدتُـهُـمْ‬
‫كالُسد ألبسـهـا الجـامَ خَـفّـان‬ ‫تَلْقَاهُمُ ورِماحُ الـخَـطّ حَـوْلَـهُـمُ‬
‫سبُل العلياء ما صَـانـوا‬ ‫مِنهنّ في ُ‬ ‫صانوا النفوس عن ال َفحْشاء وابتذلـوا‬
‫يَوْمًا ب ُنعْمى‪ ،‬ولو منُوا لما مَـانَـوا‬ ‫المنعمون وما منّـوا عـلـى َأحَـدٍ‬
‫يقول فيها في أبي الصقر‪:‬‬
‫عن المفاداة تَ ْقصِي ٌر ونُقْـصَـانُ‬ ‫ن فيه عن مِقْدار فِـ ْد َيتِـه‬ ‫يَ ْفدِيه مَ ْ‬
‫حبِير الشعر أكْفـان‬ ‫وما لهم من َ‬ ‫قوم كأنهُ ُم مَوْتـى إذا مُـدِحُـوا‬
‫وإن سألت َيدَيْ ِه فهـ َو نَـشْـوانُ‬ ‫صاحي الطباع إذا سالت هَواجسُه‬
‫حكِم َفهْو صاحٍ وَهْو سكْرانُ‬ ‫ستَ ْ‬
‫مُ ْ‬ ‫صحْوَ ُه كـرم‬ ‫يُصْحِيه ذِهن َو َي ْأبَى َ‬
‫طرّا وهو إنـسـانُ‬ ‫كأنه الناس ُ‬ ‫ل ذي بَـصَـرٍ‬ ‫فرد جميعٌ يَرَاه ك ُ‬
‫وهذا كقول أبي الطيب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫سهُمْ والعْصرَا‬ ‫َردّ اللهُ نفو َ‬ ‫ن كأنّمـا‬‫ولَقيتُ كلّ الفاضلِي َ‬

‫ت مُؤخّرَا‬
‫وأتى َفذَِلكَ إذْ أتي َ‬ ‫ب مُقدَما‬
‫نُسِقوا لنا نَسَقَ الحِسا ِ‬
‫وقد تقدّم‪.‬‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن ذَهَبَ الوردُ‬ ‫فإنك ماءُ الوَردِ إ ْ‬ ‫سيّا ُر بْن مكْرم ا ْنقَضَى‬
‫ن يكُ َ‬ ‫فإ ْ‬
‫ح ٌد فَردُ‬
‫ج ّمعَتْ وا ِ‬‫وأَلْف إذا ما ُ‬ ‫مَضَى وبَنوه وا ْنفَ َردْتَ بفَضلهمْ‬
‫وقال البحتري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لدى المجد‪ ،‬حتى عُدّ أ ْلفٌ بواحدِ‬ ‫ل تـفـاوتـاً‬
‫ولم أ َر أ ْمثَال الرجا ِ‬
‫ومدحَه وعاتبه بقصائد كثيرة فما أنجحت‪ ،‬فمن ذلك قوله في قصيدة طويلة يمدحه‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ما راد في مثلها طَرْف ول سَرَحـا‬ ‫جهِه رَوْضَةٌ للحسـن مـونِـقَة‬ ‫مي وَ ْ‬
‫سفَـحـا‬ ‫طبِ لو َر ْقرَقتَه َ‬ ‫كاللؤلؤ الرَ ْ‬ ‫طَلّ الحياء علـيهـا سـاقـط أبـداً‬
‫ل يرى بعدها بُـؤسـًا ول تَـرَحـا‬ ‫أَ‬ ‫ل بـغُـرَتـهِ‬‫أنا الزعيم لمـكـحـو ٍ‬
‫فإنما دخلوا البـابَ الّـذِي فَـتـحـا‬ ‫ل ومن كَـرَم‬ ‫مهما أتى الناس من طَوْ ٍ‬
‫فالموت إن جدّ‪ ،‬والمعروف إن مَزَحا‬ ‫ُيعْطِي المزاحَ ويعطي الجدّ حقّهمـا‬

‫‪78‬‬
‫ظيْنِ ما اقْـتَـرَحـا‬ ‫فأَعْطَياه من الح َ‬ ‫عطَاردَ والـمـرَيخ مَـوْلـده‬ ‫وافى ُ‬
‫ولم يقُلْها لمن يس َت ْمنِحُ الـمِـنَـحَـا‬ ‫إن قال‪ :‬ل‪ ،‬قالها لـلمـريه بـهـا‬
‫نُبلً‪ ،‬وناهيك من كَفّ بما اتشَـحـا‬ ‫في كَف ِه قلـم نـاهـيك مـن قـلـمٍ‬
‫ل ما مَـحـا ووحَـى‬ ‫فما المقاديرُ إ َ‬ ‫َيمْحُو و ُيثْبتُ أرْزَاقَ الـعـبـا ِد بـهِ‬
‫جرِيه في أي أنحاءِ البـلدِ نَـحـا‬ ‫يُ ْ‬ ‫كأنما القـلـمُ الـعُـلْـوي فـي َيدِهِ‬
‫ل تُبْـدِي ول قَـلَـحـا‬ ‫َقهْقِه فل َنغَ ً‬ ‫لمَا تبَس َم عنك المَـجْـدُ قـلـتَ لـهُ‬
‫ل ُمنْفَسـحـا‬ ‫وقد وجدت بها في القوْ ِ‬ ‫أُثني عليك بنعماك التي عًـظُـمَـتْ‬
‫أنْتَ المـحـيا بـرياه إذا نَـفَـحـا‬ ‫جنَاني َتكْـسُـهُ زَهَـراً‬ ‫أمط ْر ِبذَاك َ‬
‫أنشدتها على متوالي الختيار‪ ،‬وكذلك أجري في كثير من الشعار‪.‬‬
‫وقال يعاتبه ويستبطئه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حسْرى قد أبت أن تَسَرّحـا‬ ‫حَبائسَ َ‬ ‫عَقيدَ الندَى‪ ،‬أطـلِـق مَـدائِحٍ جَـمّةً‬
‫يُرى لكَ أهجَى ما يُرى لك أمدحـا‬ ‫وكُنت مَتى تنشد مديحاً ظـلـمـتـه‬
‫ض تَصَـوَحـا‬ ‫سَحائبُها أو كان رَوْ ٌ‬ ‫عذَ ْرتُك لو كانت سما ٌء تَقَـشَـعَـتْ‬ ‫َ‬
‫ضهَا مُلْق كلكِـلَ جُـنَـحـا‬ ‫وعَا ِر ُ‬ ‫ولكنها سُـقـيا حُـ ِرمْـت رَوِيهـا‬
‫سرَحا‬ ‫وقد عاد منها السهْلُ والحَزْن مَ ْ‬ ‫ت مَريعَـهَـا‬ ‫وأكْلَء َمعْروفٍ حَ َرمْ َ‬
‫فلمَا أردْنَ الوِ ْردَ أَ ْل َفيْنَ ضَحْضَـحَـا‬ ‫ضتَ لورادي وبَحْـ ُركَ زاخِـرٌ‬ ‫عَرَ ْ‬
‫ن تَـوَضـحـا‬ ‫سرَابٌ بال ِمتَـا ِ‬
‫لقُلتُ‪َ :‬‬ ‫فلو لم ت ِردْ أذْواد غَـيْرِي غِـمَـارَه‬
‫وإن كان غيري واجداً فيه مَسْبحـا‬ ‫فيا لك بحْراً لم أج ْد فيه مَـشْـربـاً‬
‫حضَحـا‬ ‫ت به بَحْ َر الندَى فتَضَ ْ‬ ‫صَ َربْ ُ‬ ‫مديحي عصا مُوسى‪ ،‬وذلك أنـنـي‬
‫إذا اطّردَ المِ ْقيَاسُ أنْ يتـسـمّـحـا‬ ‫سأمْدح بعضَ الباخـلـين لـعَـلّـه‬
‫أ َي ْبعَثُ لي منـه جـداوِلَ سُـيحـا؟‬ ‫ت به الصفَا‬ ‫ض َربْ ُ‬ ‫شعْرِي إن َ‬ ‫فيا َليْتَ ِ‬
‫سفَـحـا‬ ‫وشَقتْ عيوناً في الحجارة ُ‬ ‫ت ثَرَى الرض يابسـاً‬ ‫كتِ ْلكَ التي أبْدَ ْ‬
‫إذا مََلكَ الحرا َر ِمثُْلكَ أسْـجَـحـا‬ ‫مَلكْتَ فَأسْجِحْ يا أبا الصـقْـرِ إنـهُ‬
‫وما ضرع إلى أحد هذه الضرَاعة‪ ،‬ول في طوْقه هذا الحتمال؛ وهذه البيات الخيرة إنما ولّد أكثرها من قول أبي تمام الطائي لمحمد بن عبد‬
‫الملك الزيات‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ض ْرعُ حافلُ‬ ‫ت الدَرَ وال ّ‬ ‫ولكن حَرمْ ُ‬ ‫عذَرْتُ لقَاحَهـا‬ ‫شوْل َ‬ ‫فلو حا َردَتْ َ‬
‫لنا ظَمأ بَرْحٌ وأنتـمْ مـنـاهـلُ‬ ‫أكابَرنا عطفاً علـينـا؛ فـإنـنـا‬
‫وفيه يقول‪ :‬السريع‪:‬‬
‫مات مستجير بكـم عـائِذِ‬ ‫هذا مقامي يا بَـنـي وائل‬
‫وعضه بالنابِ والنـاجِـذِ‬ ‫أنْشَبَ فيه الدهر أظفـارَه‬
‫لذَ بكُ ْم منه مـع الـلئذِ‬ ‫فأنْصِفوا منه أخَا حُـ ْرمَةٍ‬
‫يَخْرج مِنْ حكمكم النافـذِ‬ ‫فما أرى الدهر على جَوْرهِ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫أنـصــارُ أمـــوالـــه ولَـــ ْم يَهـــنِ‬ ‫يا أيّهـا الـســـيدُ الـــذي وَهَـــنَـــتْ‬
‫قوَة والَـبَـاقِــلـــيَ والـــلـــسِـــنِ‬ ‫فأصْـبَـحَـت فـي َيدِ الـضّـعـــيف وذي ال‬
‫غيري على أنني مؤمّلُك الْقدم سا ِئلْ بذاك وامتحِنِ‬
‫محـرومـهـا عـنـك غَـيْر مـضـطـغــنِ‬ ‫مادح عشرين حجة َكمَلً‬
‫ه عـلـــيه أجَـــلّ مـــؤتَـــمـــن‬ ‫فضـلـك أو عـدلـك الـذي ائتـمــن الـــل‬
‫فلـتـعـطـنـي حـقّ حـصـه الـفـطِــنِ‬ ‫إن كُـنـت فـي الـشـعـر نـاقـداً فـطـنــا‬
‫فلـتـعـطـنـي حـق حـصـه الـ ّزمِـــنِ‬ ‫وإن أكُـن فـيه سـاقــطـــاً زمـــنـــاً‬
‫جدْوَا ُه بـين الـصـحـيح والــضّـــمِـــن‬ ‫َ‬ ‫سم بِـيَ ديوانـــك الـــذي عـــدلـــت‬
‫اس فــإن لـــم أ ِزنْـــكَ لـــم أشِـــنِ‬ ‫كثر بشخـصـي مَـنِ اسـتـطـعـت مـن الـن‬
‫ود لـقـاءٌ بــجـــانـــبٍ خَـــشِـــنِ‬ ‫ما حَـق مـن لنَ صـــدره لَـــكَ بـــالْ‬
‫وقال أبو العباس الرومي لرجل مدحه في كلمة‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ص فيه أن يُلقَـى‬ ‫َيدِق الشخ ُ‬ ‫ي دونك كـل قَـفـرٍ‬ ‫أبعْدَ لِقا َ‬
‫ضرَبَ الظلمُ له رِواقـا‬ ‫وقد َ‬ ‫وإعمالي إليك به الـمـطـايا‬
‫أعانق واسط الكُور اعتناقَـا‬ ‫و َر ْفضِي النومَ إلّ أن ترانـي‬
‫أشوقاً كان ذَلـك َأمْ سـياقـا‬ ‫تسوق بنا الحُداةُ فليس تَـدْرِي‬
‫َلدَيك ول أذوق لـهـا ذواقـا‬ ‫شكْرَى‬ ‫أصادف دِرَةَ المعروف َ‬
‫يقول فيها‪:‬‬

‫‪79‬‬
‫ن َيعْلُو إذا ما استَ ْفرَهَ الس ْبتَ الرَقاقا‬
‫غَدا َيعْلُو الجيادَ وكا َ‬
‫حَفـاءُ الـكَـدّ أنْـعَـلَـــهـــا طِـــراقـــا‬ ‫أعِنتها الشُسُوعُ فإنْ عَراها‬
‫أرانـي الـلَـهُ صُـبْـحَـتَـهـا الـطّـــلقـــا‬ ‫فزُوَج بَـعْـ َد قَـفْـ ٍر مـنــه نُـــعْـــمـــى‬
‫أبو العيناء‬
‫قال أبو القاسم عليّ بن حمزة بن شمردل‪ :‬حدثني أبي قال‪ :‬سأَلتُ أبا ال َع ْينَاء عن نسبه‪ ،‬فقال‪ :‬أَنا محم ُد بن القاسم بن خلد بن ياسر بن سليمان‪،‬‬
‫ع َتقَه‪ ،‬فولؤُنا لبني هَاشم؛ وكان أبو‬ ‫صلُ قومي من بني حنيفة من أ ْهلِ اليمامة‪ ،‬ولَحِقهم سِباءٌ في أيام المنصور؛ فلمّا صار ياسر في َق ْيدِهِ أ ْ‬ ‫وأ ْ‬
‫ط َبتَه؛ فدعا عليه وعلى ولده بال َعمَى‪ ،‬فكلّ‬ ‫جدَه الكبر لقيَ علي بن أبي طالب ‪ -‬رضي الّ عنه! ‪ -‬فأَسا َء مُخا َ‬ ‫العيناء ضَريرَ البَصرَ؛ ويقال‪ :‬إن َ‬
‫ن كلمي‪ ،‬وقال لي‪:‬‬ ‫من عمي منهم صحيحُ النسب! قال الصولي‪ :‬حدّثني أبو العيناء‪ ،‬قال‪ :‬لما ُأدْخِلْتُ على المتوكلِ فدعوتُ له وكلّمته استحس َ‬
‫ن فيك شرّا! فقلتُ‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪ ،‬إن يكن الش ُر ِذكْرَ المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فقد َزكّى ال تعالى وذم‪ ،‬فقال في التزكية‪:‬‬ ‫بلغني أ ّ‬
‫خيْ ِر ُم ْع َتدٍ َأثِيمٍ"‪ .‬وقال الشاعر‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫" ِنعْمَ ا ْل َعبْ ُد إنّهُ أَوَابٌ"‪ ،‬وقال في الذمّ‪َ " :‬همَا ٍز مَشّا ًء بنَمي ٍم ‪َ ،‬منّاع لل َ‬
‫جبْسَ اللئي َم المذمّما‬ ‫ولم أذُممِ ال ِ‬ ‫إذا أنا لم أ ْمدَحْ على الخير أهْلَهُ‬
‫وشقّ ليَ الَُ المسامَع والفَما؟‬ ‫ففيمَ عَ َر ْفتُ الخيرَ والشرَ باسْمهِ‬
‫ي ‪ ،‬فقلتُ‪ :‬يا‬ ‫لّ عبدَك عن ذلك! فقال لي‪ :‬بلغني أنك رَافِض ٌ‬ ‫طبْ ٍع ل بتمييز‪ ،‬فقد صَانَ ا ُ‬ ‫وإن كان الشرّ كفعل العَقْرَب التي تَلْسَعُ السّنيَ والدنيَ ب َ‬
‫صمَعي‪ ،‬وليس يَخْلو القومُ أن يكونوا أرادُوا الدين‬ ‫أمي َر المؤمنين‪ ،‬وكيف أكونُ رافضيّا وبلدي البصْرَة و َمنْشَئي في مَسْجِد جامِعها‪ ،‬وأستاذِي الَ ْ‬
‫أو الدنْيا؛ فإن كانوا أرادوا الدَين فقد أجمع الناس على تقديم مَنْ َأخّروا‪ ،‬وتأخير من قدموا‪ ،‬وإن كانوا أرادوا الدنيا فأَنتَ وآباؤك أمراءُ المؤمنين‪،‬‬
‫ل معك‪.‬‬ ‫ل دِينَ إلّ بك‪ ،‬ول د ْنيَا إ ّ‬
‫قال‪ :‬كيف ترى دَارِي هذه؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬رأيت الناس بَنَوْا دُورهم في الدنيا‪ ،‬وأنت بنيتَ الدنيا في دارك‪.‬‬
‫فقال لي‪ :‬ما تقول في عبيد ال بن يحيى؟ قلت‪ِ :‬نعْمَ ال َعبْد ل ولك‪ ،‬مقَسَم بين طاعته وخدمتك‪ ،‬يؤثِر ِرضَاك على كل فائدةٍ‪ ،‬وما عاد بصلحِ‬
‫ملكك على كل لذّة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما تَقول في صاحب البريد ميمون بن إبراهيم؟ ‪ -‬وكان قد علم أني واج ٌد عليه بتقصير وقَ َع منه في َأمْرِي ‪ -‬فقلت‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬يدٌ‬
‫ت تضرط؛ وهو مثل اليهوديّ سرق نصف جزْيتَه‪ ،‬فلَه‪ ،‬إقدامٌ بما أَدى‪ ،‬وإحجام بما أبْقَى‪ ،‬إساءتُه طبيعة‪ ،‬وإحسانه تكلّف! قال‪ :‬قد‬ ‫تَسْرِق واس ٌ‬
‫ل بما لي في هذا المجلس من الشرَفِ‪ ،‬ولكني محجوب‪ ،‬والمحجوب تختلف عليه‬ ‫أَ َردْتك لمجالستي‪ ،‬قلت‪ :‬ل أطيق ذاك‪ ،‬وما أقول ذلك جه ً‬
‫جهُك غضبان‪ ،‬ومتى لم أُميز بين هذين هلكت‪،‬‬ ‫جهُك راضٍ أو بكلم راضٍ ووَ ْ‬ ‫الشارة‪ ،‬ويَخْفَى عليه اليماء‪ ،‬ويجوز أن يتكلّم بكلم غَضْبان ووَ ْ‬
‫قال‪ :‬صدقت‪ ،‬ولكن تلزمنا‪ ،‬قلت‪ :‬لزومَ الفَ ْرضِ الواجبِ اللزم‪ ،‬فوصَلنِي بعشرة آلف درهم‪.‬‬
‫ولبي العيناء مع المتوكل مجالس أدْخَلَ الروَاة بَعْضها في َبعْضِ‪ ،‬وسأُورد مستظرفها إن شاء الّ‪ :‬قال له المتوكل يوماً‪ :‬يا أبا العَيناء‪ ،‬ل تُكثِر‬
‫ل عن الوقيعة فيهم‪ ،‬قال‪ :‬ذلك أشَد لحيفك في أهل العافية! وقال له يوماً‪ :‬هل رأيتَ طالبياً حسنَ‬ ‫شغْ ً‬‫الوقيعةَ في الناس‪ ،‬قال‪ :‬إن لي في بصَرِي لَ ُ‬
‫ال َوجْهِ قطّ؟ فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أرأيت أحداً قطّ سأَل ضريرًا عن هذا؟ قال‪ :‬لم تكن ضريرًا فيما تقدّم‪ ،‬وإنما سألتُك عما سلف‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪،‬‬
‫جدُك كنت قوَادًا عليه! فقال أبو العيناء‪ :‬وفرغت‬ ‫جدُه كان مؤاجراً‪ ،‬و َت ِ‬ ‫رأيت منهم ببغداد منذ ثلثين سنة فتًى ما رأيت أجمل منه‪ ،‬قال المتوكّل‪ :‬تَ ِ‬
‫لهذا يا أمير المؤمنين‪ ،‬أتراني أ َدعُ مَوَاليّ على َكثْ َرتِهم‪ ،‬وأقُودُ على الغرَباء؟ قال‪ :‬اسكتْ يا مَأْبون؟ قال‪ :‬مَوْلَى قوم منهم! قال المتوكل‪ :‬أردتُ أن‬
‫شتَفى لهم مني‪.‬‬ ‫أشتفي به منهم فا ْ‬
‫سرَعهم جواباً‪ ،‬وأبلغهم خطاباً‪.‬‬ ‫وكان أبو العيناء أحذ الناسِ خاطراً‪ ،‬وأحْضَرَهم نادرة‪ ،‬وأ ْ‬
‫شهْوَته‪ ،‬وكان أصحابه يتسخّفون ويستخفّون بحضْرَته‪ ،‬وكان يُهاتِرُ الجلساء‪،‬‬ ‫والمتوكلُ أوّل من أظه َر من خلفاء بني العباس النهماكَ على َ‬
‫جدَال‪.‬‬‫ويفاخِر الرؤساء‪ ،‬وهو مع ذلك من قلوب الناس مُحبّب‪ ،‬وإليهم ُمقَرَب؛ إ ْذ أماتَ ما أحياهُ الواثق من إظهار العتزالِ‪ ،‬وإقامة سوق ال ِ‬
‫قال محمد بن مكرم الكاتب‪ :‬مَنْ زعم أن عبدَ الحميد أكتَبُ من أبي العيناء إذا أحسّ بكرم‪ ،‬أو شرع في طمع‪ ،‬فَقَد ظلم‪.‬‬
‫عبْدٍ وأمَةِ‪ ،‬وقد أعْطِي بخادم‬ ‫عقَار وأثَاثٍ و َ‬ ‫كتب إلى أبي عبيد ال بن سليمان وقد نكبه وأبا ُه المعتمدُ‪ ،‬وهما يُطالَبان بمال يبيعان له ما َيمْلكانِه من َ‬
‫أَسْوَد لعبيد ال خمسون يناراً‪ :‬قد علمت ‪ -‬أصْلَحك الُ! ‪ -‬أنّ الكريمَ المنكوب أجْرَأ على الحرار من اللئيم الموفور؛ لن اللئيم يزيدُ مع ال ّن ْعمَةِ‬
‫حنَةِ إلَ كرماً‪ ،‬هذا م ّتكِلٌ على رازقه‪ ،‬وهذا يُسيء الظنّ بخالقه‪ ،‬وعبدك إلى مِلك كافور فقيرٌ‪ ،‬وثمنه على ما اتّصلَ‬ ‫لُؤْماً‪ ،‬والكريم ل يزي ُد مع المِ ْ‬
‫بي يَسير؛ لنه بخدمته السلطان يعرّفني الرؤساء والخوان؛ ولست بواج ٍد ذلك في غيره من الغلمان؛ فإنْ سمحت به فتِلك عَادَتُك‪ ،‬وإن أمرت‬
‫ك مادَتي‪ ،‬أدام ال دَوَْلتَك‪ ،‬واستقبل بالنعمة ن ْك َبتَك‪ .‬فَأمَر لَ ُه به‪.‬‬ ‫خ ِذ ثمنه فَماُل َ‬
‫بأَ ْ‬
‫ل يقول‪ :‬من ذهب َبصَرُه قلّت حيلته‪ ،‬قال‪ :‬ما أَغْفَلك عن أبي ال َعيْناء! وكتب أبو العيناء إلى عبيد ال بن سليمان‪ :‬أنا ‪-‬‬ ‫وسمع ابن مكرم رج ً‬
‫ل بعد‬ ‫ل تعالى! ‪ -‬ووََلدِي وعيالي َزرْع من زَرعك‪ ،‬إن سقيتَه راعَ وزَكا‪ ،‬وإن ج َف ْوتَه َذبُل وَذوَى؛ وقد مسّني ِم ْنكَ جَفاءٌ بعد بر‪ ،‬وإغفا ٌ‬ ‫أعزك ا ّ‬
‫ل ُكنْتُ بهم لعباً‪ ،‬ولهم مجرساً‪ ،‬ولِّ درُ أبي السود في قوله‪ :‬الرمل‪:‬‬ ‫سدّ‪ ،‬ولعبت بي ظنونُ رجا ٍ‬ ‫شمِت حا ِ‬ ‫تعاهُد‪ ،‬حتى تكلم عدو‪ ،‬و َ‬
‫وشديد عادةٌ مُنتزَعًـهْ‬ ‫ل ُتهِني بعد إذ كْ َر ْمتَني‬
‫ع ِهدْتَ‪ ،‬و َميْلي إليك كما علمت‪ ،‬وليس من أ ْنسَأنَاه أ ْهمًلْناه‪ ،‬ول من أخ ْرنَاه تركْناه‪ ،‬مع‬ ‫فوقع في رقعته‪ :‬أنَا ‪ -‬أَسعدك ال! ‪ -‬على الحال التي َ‬
‫شهْرَين؛ لتريح غلتك‪ ،‬وتعرفني‬ ‫اقتطاع الشغل لنا‪ ،‬واقتسام زماننا‪ ،‬وكان من ح َقكَ علينا أن تذكرَنا بنفسك‪ ،‬وتعلمنا أمْرَك؛ وقد وقعت لك برزْقِ َ‬
‫طلِقَ لك باقيَ أرزاقك‪ ،‬إنْ شاء ال‪ ،‬والسلم‪.‬‬ ‫مبلغَ استحقاقك‪ ،‬لُ ْ‬
‫وكان إذا خرج من داره يقول‪ :‬اللهم إنّي أعو ُذ بك من الركبِ وال ُركُب‪ ،‬والجر والخَشب‪ ،‬والزوَايا والقِرَب‪.‬‬
‫ن مع‬ ‫قطعة من خطابه وجوابه‪ :‬دخل على أبي الصقر بعدما تأخّ َر عنه‪ ،‬فقال‪ :‬ما أخ َركَ عنا؟ قال‪ :‬سُرِق حماري‪ ،‬قال‪ :‬وكيف شرِق؟ قال‪ :‬لم أ ُك ْ‬
‫ت ذِلَة المُكارِي‪ ،‬و ِمنّة العَوَاري‪.‬‬ ‫غيْرِهِ؟ قال‪َ :‬قعَدَ بي عن الشراء ِقلّة يساري‪ ،‬وكره ُ‬ ‫اللصّ فأخبرك! قال‪ :‬فلِمَ لم تأتِنا على َ‬
‫حمَاره‪ ،‬فضرب بيديه على ُأ ُذنَي الحمار‪ ،‬وقال‪ :‬يا فَتى‪ ،‬قُلْ للحمارِ الذي فَ ْوقَك يقول‪ :‬الطّريق! ودخل على إبراهيم‬ ‫وزحمه رجل بالجسر على ِ‬
‫بن المدبر‪ ،‬وعنده الفَضْل بن اليزيدي‪ ،‬وهو يُلقى على ابنه مسائل من النحو‪ ،‬فقال‪ :‬في أي باب هذا؟ قال‪ :‬في باب الفاعل والمفعول به‪ ،‬قال‪ :‬هذا‬
‫بابي وباب الوالدة حفظها الّ! فغضب ال َفضْل وانصرف؛ وكان البحتري حاضرًا فكتب بعد ذلك بقصيدته إلى إبراهيم بن المدبر التي أولها‪:‬‬
‫الخفيف‪:‬‬
‫َأ ْوقَدَتْ لوْعتي وهَاجَت غَليلي‬ ‫ذَكّ َر ْتنِيكَ َروْحَة للـشَـمُـولِ‬
‫‪80‬‬
‫ءَ وظل للعيش فيها ظَـلـيلِ‬ ‫أي شيءً أَ ْلهَاكَ عن س ّر من را‬
‫وفيها يقول‪:‬‬
‫وهو مستكرَه كثير الفُضُـو ِ‬
‫ل‬ ‫ث فَضْـل‬ ‫ا ْقتِصاراً على أحادي ِ‬
‫ل مُعادَ المِخْراق نزر القَبولِ‬ ‫ِ‬ ‫ت مُنكسف البـا‬ ‫صطَ َفيْ َ‬‫فعلمَ ا ْ‬
‫ن َتعَفّي الطُلُولِ‬ ‫بِ الغَوَاني وم ْ‬ ‫جدْه َأخْلَقَ من شَـيْ‬ ‫إن تَزُرْه تَ ِ‬
‫حذِ والتّطْـفـيلِ‬ ‫ح ادّلجا للشَ ْ‬ ‫صبْ‬ ‫مُسْرِجاً ملجِماً وما َمتَعَ ال ُ‬
‫ض ْعفَى ال ُعقُولِ‬ ‫لٍ قليلو التمييز َ‬ ‫غيْ َر أن المعلمين علـى حَـا‬ ‫َ‬
‫ن متينِ الشعار والمجهـول‬ ‫مِ ْ‬ ‫س معـنـى‬ ‫فإذا ما تَذاكرَه النّا ُ‬
‫غ ْيبَه للسّؤال والـمـسـؤول‬ ‫َ‬ ‫قال‪ :‬هذا لَنا ونحن كشـفْـنـا‬
‫مرُ أم ألقحوا بأير الخَـلِـيل‬ ‫ضرب الصمعيّ فيهم أم الح‬
‫ل مِنْ وَاِلدَيْهِ وا ْلمَفْـعُـولِ‬‫عِ‬ ‫جُلّ ما عنده التردّد في الـفـا‬
‫وعَزّى بَعْضَ المراءِ‪ ،‬فقال‪ :‬أيّها المير‪ ،‬كان العزا ُء لك ل بِك‪ ،‬والفناءُ لنا ل لك‪ ،‬وإذا كنتَ البقيّة فالرزيّ ُة عطيّة‪ ،‬والتعزية َتهْنية‪.‬‬
‫ب بِقيعَةٍ‬ ‫ن بني إسرائيل ونزل َذبْحُ البقرة ما ذُبحَ غيره! قيل‪ :‬فأَخوه عمر؟ قال‪ :‬كسَرا ٍ‬ ‫وسئل أبو العيناء عرْ مالك بن طَوْق‪ ،‬فقال‪ :‬لو كان في َزمَ ِ‬
‫ظمْآنُ ماءً حتى إذا جاءَه لم يَجدْه شيئاً‪.‬‬ ‫سبُه ال ّ‬
‫يَحْ َ‬
‫وكان موسى بن عبد الملك قد اغتال نجاح بن سلمة في شراب شَرِبه عنده‪ ،‬فقال المتوكّل بعد ذلك لبي العيناء‪ :‬ما تقول في نجاح بن سلمة؟‬
‫ل بن يحيى ابن خاقان‪ ،‬فقال‪ :‬أيّها الوزير‪ ،‬أ َردْتَ‬ ‫ل تعالى‪ :‬فو َكزَه موسَى َفقَضى عليه! فاتّصَل ذلك بموسى‪ ،‬فلقي الوزير عُبيد ا ّ‬ ‫قال‪ :‬ما قال ا ّ‬
‫عدَاوتِه لي؛ فعاتب عبيدُ الّ أبا العيناء في ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬وال ما اس َت ْعذَبتُ‬ ‫جدْ إلى ذلك سبيلً إلّ بإدخال أبي العيناء إلى أمير المؤمنين مع َ‬ ‫قتلي فلم تَ ِ‬
‫الوقيع َة فيه حتى ذَ َممْتُ سريرته لك؛ فَأمْسَك عنه‪.‬‬
‫غ ْيبَتُك‪ ،‬فقال‪ :‬قد والّ اش َت ْق ُتكَ!‬
‫خيْرُها رُؤُيتك وشرّها َ‬ ‫ت بعدُ؟ قال‪ :‬في أحوالٍ مختلفة‪َ ،‬‬ ‫ثم دخل َبعْ َد ذلك أبو ال َعيْناء على المتوكل فقال‪ :‬كيف كن َ‬
‫ع ْبدَه دعاه‪.‬‬ ‫شتَاقُ ال َعبْد؛ لنه يتعذّر عليه لقاءُ موله‪ ،‬وأما السيّد فمتى أراد َ‬ ‫قال‪ :‬إنما يَ ْ‬
‫ن أبي دُوَاد‪ ،‬قال المتوكّل‪ :‬تأتي إلى رجل رفضته فتنسبه إلى السخاء؟ قال‪ :‬إنّ الصدقَ يا أميرَ‬ ‫سخَى مَنْ رأيت؟ قال‪ :‬اب ُ‬ ‫وقال له المتوكل‪ :‬مَنْ أَ ْ‬
‫المؤمنين ليس في موضعٍ من المواضع َأنْفَق منه في مجلسك؛ وإنّ الناس يغلطون فيمن َينْسبونَه إلى الجود؛ لنّ سخاء البرامكة منسوب إلى‬
‫سهْل منسوب إلى المأمون‪ ،‬وجودُ ابن أبي دواد منسوبٌ إلى المعتصم؛ فإذا نَسَب الناسُ ال َفتْحَ وعبيد ال‬ ‫الرشيد‪ ،‬وسخاءَ الفضل والحسن ابنْي َ‬
‫ت من‬ ‫ل من رأيت؟ قال‪ :‬موسى بن عبد الملك‪ ،‬قال‪ :‬وما رأي َ‬ ‫سخَاؤُك يا أَمير المؤمنين‪ ،‬قال‪ :‬صدقت؛ فمن أبخ ُ‬ ‫ابني يحيى إلى السخاء فذلك َ‬
‫ت فيه عندي مرتين‪ ،‬وما أحبّ لك‬ ‫بُخْله؟ قال‪ :‬رأيته يخدم القريب كما يخدم البعيد‪ ،‬و َي ْع َتذِر من الحسان كما يعتذِرُ من الساءة‪ ،‬فقال له‪ :‬قد َو َق ْع َ‬
‫ذلك؛ فألْقَ ُه واعتذر إليه‪ ،‬ول يعلم أنّي وجهت بك‪ ،‬قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬من يستكتمني بحضرة ألف؟ قال‪ :‬لن تخاف‪ ،‬قال‪ :‬على الحتراس من‬
‫الخوف‪.‬‬
‫فصار إلى موسى فاعتذَر كلّ واحد منهما إلى صاحبه‪ ،‬وافترقا عن صلح؛ فلقيه بعد ذلك بالجعفري‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا عبد الّ‪ ،‬قد اصطلحنا‪ ،‬فما لك‬
‫ل كما ُكنّا‪.‬‬ ‫ل َتأْتينا؟ قال‪ :‬أتريد أن تقتلَني كما قتلت َنفْساً بالِمس؟ فقال موسى‪ :‬ما أرانا إ ّ‬
‫ج ٌد عليك‪ ،‬قال‪ :‬ولن تَرْضَى عنك اليهودُ ول النصارى حتى تتبع ملّتهم! قال‪ :‬إن جماعة من‬ ‫وقال له المتوكل‪ :‬إبراهيم بن نوح النصراني وَا ِ‬
‫الكتاب يلومونك! فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فل زال غَضْباناً عليّ ِلئَامهـا‬ ‫عنّي كِرَامُ عشيرتي‬ ‫ضيَتْ َ‬ ‫إذا ر ِ‬
‫عبْداً له ل يَ ْرضَاني عبداً له‪.‬‬ ‫قال المتوكل له‪ :‬أكان أبوك في البلغة ِمثَْلكَ؟ قال‪ :‬لو رأى أمير المؤمنين أني لرأى َ‬
‫وقيل لبي العيناء‪ :‬إن المتوكل قال‪ :‬لول أنه ضرير البصر لنَادَ ْمتُه‪ ،‬فقال‪ :‬إن أعفاني من رُؤية الهلّة‪ ،‬وقراءة َنقْشِ الفصوص‪ ،‬فأنا أصْلُح‬
‫للمنادمة‪.‬‬
‫ب من ُبكُوره‪ ،‬فقال‪ :‬أراك تشاركني في الفعل و ُتفْ ِردُني بالتعجب! ووقف به رجل من العامّة‬ ‫ج ُ‬ ‫ولقيه رجل من إخوانه في السّحَر‪ ،‬فجعل ُيعْ َ‬
‫ت هذا النَسْل إلَ قد انقطع! ودخل‬ ‫ل بقاك! وبقيت في الدنيا‪ ،‬ما ظنن ُ‬ ‫س به‪ ،‬فقال‪ :‬مَنْ هذا؟ قال‪ :‬رجل من بني آدم! قال‪ :‬مرحبًا بك‪ ،‬أطال ا ّ‬ ‫فأحَ ً‬
‫غنْمٌ‪ ،‬وحِرْمانك‬ ‫على عبيد ال بن سليمان فقال‪ :‬اقْرُب منّي يا أبا عبد ال‪ ،‬فقال‪ :‬أعزّ ال الوزير‪ ،‬تقريبُ الولياء‪ ،‬وحِرْمانُ العداء‪ ،‬قال‪ :‬تقريبُك ُ‬
‫ح مِنْ حالك إن شاء الّ‪.‬‬ ‫صلِ ُ‬
‫ظُلْم؛ وأنا ناظرٌ في أمرك نظرًا يُ ْ‬
‫حتَجْ إليك‪ ،‬وأنشده‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقال له يوماً‪ :‬اعذرني فإنّي مشغول‪ ،‬فقال له‪ :‬إذا فرغت من شغلك لم نَ ْ‬
‫شغْلُ‬ ‫تُناطُ بك المالُ ما اتّصَلَ ال ُ‬ ‫شغْل عنّا؛ فإنًـمـا‬ ‫فل تَ ْع َتذِرْ بال ُ‬
‫شكْرك مَنْ ل يَصْلُح ل ُعذْرِك‪.‬‬ ‫ثم قال‪ :‬يا سيّدي‪ ،‬قد عذرتك‪ ،‬فإنه ل يَصْلُحُ ل ُ‬
‫جفَاء! وقال له مرّة‪ :‬نحن في العطلة مَرْحُومُون‪ ،‬وفي الوزارة محرومون‪ ،‬وفي‬ ‫وأقبل إليه يومًا فقال‪ :‬مِن أين يا أبا عبدِ ال؟ قال‪ :‬من مَطَارح ال َ‬
‫س بما كسبَتْ رهِينة‪.‬‬ ‫القيامةِ كل َنفْ ٍ‬
‫صلّي‪ ،‬قال‪ :‬لكل جديدٍ لذةٌ! وكان صاعدٌ نصرانيًا َقبْلَ الوزارة‪.‬‬ ‫ل يُ َ‬‫وسار يوماً إلى باب صاعد بن مخلد‪ ،‬فقيل‪ :‬هو مشغو ٌ‬
‫ص َر من همَته طولُ‬ ‫س قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبّر؟ فقال‪ :‬كتبتَ إلى رجل قد ق َ‬ ‫ل بن سليمان‪ ،‬فشكا إليه حالَه‪ ،‬فقال‪ :‬أَليْ َ‬ ‫ودخل إلى عميد ا ّ‬
‫ن الدّهْرِ‪ ،‬فأخفقته في طَِلبَتي! قال‪ :‬أنْتَ اخترته؟ قال‪ :‬وما علي ‪ -‬أعزّ ال الوزير! ‪ -‬في ذلك‪ :‬قد اختار موسى‬ ‫الفقْر‪ ،‬وذُل السْر‪ ،‬ومعانا ُة مِحَ ِ‬
‫قومه سَبعِينَ رجلً‪ ،‬فما كان منهم رَشيد‪ ،‬واختار النبيّ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم ابنَ أبي سَرحٍ كاتباً‪ ،‬فرجع إلى المشركين مرتداً‪ ،‬واختار علي بن‬
‫أبي طالب أبا موسى حاكماً فحكَ َم عليه!‬
‫هروب إبراهيم بن المدبر من السجن‬
‫وكان إبراهيم بن المدبر أسَ َرهُ صاحبُ الزّنج بالبصرَة وحبَسه؛ فاحتال حتى نقب السجن و َهرَب‪ ،‬فلذلك ذكر أبو العيناء ذُلّ السْر‪ ،‬وكان قد‬
‫ضُرِب في وجهه ضَ ْربَ ًة بَقِي أثرها إلى أن مات؛ ولذلك قال البحتري‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫والخيل َت ْكبُو في العَجاجِ الكابي‬ ‫سمَـهـا‬ ‫شهَ َر المنازِل وَ ْ‬ ‫ومبِينَةٍ َ‬

‫‪81‬‬
‫أنّ الوُجو َه تُصانُ بـالحْـسـاب‬ ‫كانت بوجهك دون عرضك إذ رأَوْا‬
‫صرَ السارَ على الفرار بِعـابِ‬ ‫نَ َ‬ ‫ولئن أُسِ ْرتَ فما السارُ على امرئ‬
‫عيْنَ الرقيب و َقسْـوَةَ الـبـوَابِ‬ ‫َ‬ ‫نامَ المضلل عن سُراكَ ولم َتخَـفْ‬
‫جبَانُ‪ :‬أتيتَ غَـيْر صَـواب‬ ‫يَقلِ ال َ‬ ‫خبِـ ْر بـهـا‬ ‫ل مَتى تُ ْ‬ ‫فَ َر ِك ْبتَها هَ ْو ً‬
‫ل بُ ْردِ ال ْرقَمِ المُـنْـسـاب‬
‫في مِثْ ِ‬ ‫ك مُصْـلَـتـاً‬ ‫ع ُهمْ إلّ استرا ُق َ‬ ‫ما را َ‬
‫تَصِلي التَلفُتَ خَشـيَةَ الـطُـلّب‬ ‫حمِي أُغَيِلمَةً وطائشةُ الخُـطـى‬ ‫تَ ْ‬
‫حتى أضفْتَ إلـيه يَ ْومَ ضِـراب‬ ‫ك بـاهـراً‬ ‫قد كان يوم ندى بِطَوْل َ‬
‫عطِيتَ فـي الخْـلقِ والدابِ‬ ‫أُ ْ‬ ‫ذِكْ ٌر من البأس استعذْتَ إلى الَـذي‬
‫لولكَ ما ُك ِتبَتْ على الـكُـتّـابِ‬ ‫ت بِفَضْـلـهـا‬ ‫ت انْ َف َردْ َ‬
‫ووحيدة أنْ َ‬
‫أخبار صاحب الزنج‬
‫قال أبو بكر الصولي‪ :‬حدثني محمد بن أبي الزهر‪ ،‬وقد ذاك ْرتُه خبرَ علي صاحب الزنج‪ ،‬قال‪ :‬ادّعى أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن‬
‫زيد بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب‪ ،‬رضي الّ عنهم‪ ،‬فنظرت مولده ومولد محمد ابن أحمد الذي ادعاه فكان بينهما ثلث سنين؛‬
‫وكان لمحمد بن أحمد ولدٌ اسمه علي‪ ،‬مات بعد هذا المدعي اسمَه ونسبَه بزمَانٍ‪ .‬ثم رجع عن هذا النسب فادَعى أنه علي بن محمد بن عبد‬
‫الرحيم بن رحيب بن يحيى المقتول بخرَاسان ابن زيد بن علي‪.‬‬
‫قال أبو عبيدة محمد بن علي بن حمزة‪ :‬ولم يكن ليحيى وَلَد يقال له رحيب ول غيره؛ لنّه قُتل ابنَ ثماني عشرة سنَةَ ول َوَلدَ له‪.‬‬
‫ي بن عبد الرحمن بن رحيب‪ :‬هو ابن عم أبي لحاً علي بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب‪ ،‬ورحيب رجل من‬ ‫قال بشر بن محمد بن السّ ِر ّ‬
‫العجم من أهل وَرتين من ضياع الريّ‪ ،‬وهو القائل لبني العباس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عقُودها‬ ‫حتَيْها ُ‬‫تضمنها من را َ‬ ‫بني عمّنا إنّا وأنتـم أنـامـلٌ‬
‫ونحن قديماً أصلُها وعمودُها‬ ‫بني عمّنا ولَيتُم الترك أمْرَنـا‬
‫شهُودُها‬ ‫ونحن لديها في البلدِ ُ‬ ‫ك تقسم َف ْيئَنا‬ ‫عجْم التر ِ‬ ‫فما بالُ ُ‬
‫عيْشِ أو ُيبَاد عميدُهـا‬ ‫فبُ ْلغَةُ َ‬ ‫فأُقسِم ل ذقْتُ القَراح وإن أذقْ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫دَ وما قد حَ َوتْ ُه مِنْ كلّ عـاصِ‬ ‫َلهْفَ نفسي على قصو ٍر ببغـدا‬
‫ورجالٍ على المعاصي حِراصِ‬ ‫وخُمورٍ هُناك تُشْرَبُ جَـهْـراً‬
‫ل بين تِ ْلكَ العـراصِ‬ ‫خيْ َ‬
‫ُأ ْقحِم ا ْل َ‬ ‫ت بابْنِ الفواطمِ الزُهْرِ إنْ لم‬ ‫لس ُ‬
‫وله في هذا المعنى شع ٌر كثير قد ناقضَه البغداديون‪ ،‬وكانت مدّته حين نَجَم إلى أن قتل أرْبع عشرةَ سنةً‪ ،‬وجملة مَن قتل ألفُ ألفٍ وخمسمائة‬
‫ألف‪.‬‬
‫رجع إلى أخبار أبي العيناء‬
‫ك كالبكاء‪ ،‬وتودّد كالعزاء‪ ،‬ونوادر ك َندْب الموتى! وكان يُهاتر ابن مكرم كثيراً‪ ،‬وكتب إليه ابنُ مكرم يوماً‪:‬‬ ‫حٌ‬ ‫وذكر أبو العيناء رجلً‪ ،‬فقال‪ :‬ضَ ِ‬
‫قد ا ْب َتعْتُ لك غلمًا من بني ناشر‪ ،‬ثم من بني نَاعِظ‪ ،‬ثم من بني نهد‪ .‬فكتب إليه‪ :‬فأتنا بما َت ِع ُدنَا إن ُكنْتَ من الصادقين‪.‬‬
‫ووُلد لبي العيناء ولد‪ ،‬فأتى ابنُ مكرم فسل ّم عليه‪ ،‬ووضع حجرًا بين يديه وانصرف‪ ،‬فأحس به‪ ،‬فقال‪ :‬مَن وضع هذا؟ فقيل‪ :‬ابن مكرم؟ قال‪:‬‬
‫لعنه ال! إنما عرَض بقول النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬الولَد للفراش وللعاهر الحجر‪.‬‬
‫حكَ!‬ ‫وقال لبن مكرم‪ ،‬وقد قدم من سفر‪ :‬ما لك لم تُهدِ إلينا هديةً؟ قال‪ :‬لم آتِ بشيء‪ ،‬وإنما قدمت في خُف‪ .‬قال‪ :‬لو قدمت في خفّ لخَلّفتَ رُو َ‬
‫وأتى إلى باب إبراهيم بن رياح‪ ،‬فحجب‪ ،‬فقال‪ :‬إذا شغل بكأس يمناه وبحر يسراه‪ ،‬وانتسب إلى أبٍ ل يعرف أباه‪ ،‬ول يَحْفِل بحِجاب مَنْ أتاه‪.‬‬
‫وقدم إليه أبو عيسى بن المتوكل سِكباحةْ‪ ،‬فجعل ل تق ُع يده إلّ على عظم؛ فقال‪ :‬جعلت ِفدَاك! هذه قِدر أو قبر؟ ودعا ضريرًا ليعشيه‪ ،‬فلما َيدَعْ‬
‫ل أكله‪ ،‬فقال‪ :‬يا هذا‪ ،‬دعوتك رحم ًة فتَرَكتني رحمة‪.‬‬ ‫شيئاً إ ّ‬
‫ألفاظ لهل العصر في صفات الطعام‬
‫ومقدّماته‪ ،‬وموائده‪ ،‬وآلته‬
‫طغَام‪ .‬الكريم ل يَحظُر‪ ،‬تقديمَ‬ ‫ل مع الخوان‪ .‬البخلُ بالطعام‪ ،‬من أخلق ال ّ‬ ‫ح ْم َد ال‪ .‬ل يَطِيبُ حضور الخِوان‪ ،‬إ ّ‬ ‫افرش طعامَك اسمَ الّ‪ ،‬وألحُفهُ َ‬
‫ما يَحضُر‪ .‬قد قامت خطباءُ القدور‪ .‬قدورٌ أبكار‪ ،‬بخواتِم النّار‪ِ .‬قدْر طار عَ ْرفُها‪ ،‬وطاب غَ ْرفُها‪ .‬دَ ْهمَاء تهدِر كال َفنِيق‪ ،‬وتَفُوح كالمِسكِ ال َفتِيقِ‪.‬‬
‫طرِيفة‪ .‬مائدة تشتمل على بدائع المأكولت‪ ،‬وغرائب‬ ‫مائدة كدَارَة البَدر‪ ،‬تباعد بين أنفاس الجلّس‪ .‬مائدة مثلُ عروس‪ .‬مائدة لطيفة‪ ،‬محفوف ٌة بكل َ‬
‫الطيّبات‪ .‬مائدةٌ كأنما عملها صنّاع صنعاءَ‪ ،‬تجمع بين أنوار الربيع‪ ،‬و ِثمَارِ الخريف‪.‬‬
‫ل أكرمُ الخَلْق وألَمهم ‪ -‬يريد الملئكَةَ‬ ‫حضُ ُر مائدتَه إ ّ‬ ‫ل فقال‪ :‬ل يَ ْ‬ ‫وقال الجماز‪ :‬جاءنا فلن بمائد ٍة كأنّها َزمَنُ البرامكة على العُفَاة! وذَمّ آخر رج ً‬
‫وال ّذبَاب‪.‬‬
‫وقال ابن الحجاج لرجل دعاه وأخًر الطعام‪ :‬السريع‪:‬‬
‫فاقرَأ عليهمْ سورةَ المائِدَهْ‬ ‫قد جُنَ أصحابك من جُوعِهمْ‬
‫ولبعض أهل العصر يذم رجلً‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ض مثل مِ ْندِيل الخِوَان‬ ‫وعِر ٌ‬ ‫ن ل يِلِ ّم بـه ضـيوفٌ‬ ‫خوَا ٌ‬
‫جدْي كأنما ُندِف على‬ ‫حمَل‪َ .‬‬ ‫حمَلُ‪ ،‬إذا حلًت الشمس ال َ‬ ‫طيَبُ ما يكون الْ َ‬ ‫ل ذهبي الدَثار‪ِ ،‬فضَيُ الشعار‪ .‬أ ْ‬ ‫حمَ ٌ‬‫رغْفَانٌ كالبدور الممنطقة بالنّجوم‪َ .‬‬
‫س ْكبَاجة تفتقُ الشهوة‪ ،‬واسفيذباجة ُتغَذي القَرِم‪ ،‬وطَباهِجَة َيتَ َفكّه بها‪،‬‬ ‫جَبينه القَز‪ِ .‬زيْربَاجة‪ ،‬هي للمائدة دِيباجة‪ ،‬تَشفِي السّقام‪ ،‬ولونها لونُ السقيم‪ِ .‬‬
‫ف الديوك‪ ،‬وقَِليّة كالعود المُطرَى‪ .‬مغمومة تفرج غَمّ الجائع‪ .‬هريس ٌة نَفِيسة‪ ،‬كأنها خيوط‬ ‫طبَاهِجَة من شرط الملوك‪ ،‬كأَعْرَا ِ‬ ‫وخَبيص يختم بخير‪َ .‬‬

‫‪82‬‬
‫طيَا ِهجَة‬
‫قَ ّز مشتبكة‪ ،‬كأَنَ المُرّي عليها عُصَارَةُ المسك على سبيكة ال ِفضَة‪ .‬أرزة مَلبونة‪ ،‬في السكر مدفونة‪ .‬شِواء رشراش‪ ،‬وفالوذج رَجْرَاج‪َ .‬‬
‫تغذى‪ ،‬وفالوذجة تعزى‪ ،‬واسفيذباجة تصفع قَفا الجوع‪ .‬ول فِراشَ للنبيذ‪ ،‬كالحمَل الحنِيذ‪ .‬دجاجةٌ سميطة‪ ،‬لها من الفضة جسم‪ ،‬ومن الذهب‬
‫قشرة‪ .‬دجاجة دِينارية ثمناً ولوناً‪.‬‬
‫وهذا محلول من قول علي بن العباس الرومي يصف طعامًا أكله عند أبي بكر الباقطاني‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ثمناً ولَوْناً زَفـهـا لَـك حَـ ْزوَرُ‬ ‫وَسَـمِـيطةٍ صـفـرا َء دينـارية‬
‫وغلت فكاد إهَابُهـا يتـفـطّـر‬ ‫عظمت فكادَتْ أن تـكـونَ إِ َوزّةً‬
‫فأتى لباب اللَوز فيها الـسـكـرُ‬ ‫طفقت تجودُ بـذَوْبـهـا جَـ ْوذَابَة‬
‫فكأن ِتبْراً عن لـجَـيْن ُيقْـشَـرُ‬ ‫ظَ ْلنَا نقشّر جِ ْلدَها عن لحـمـهـا‬
‫ض بمثل ذاك تُـصَـدّرُ‬ ‫مثل الرّيا ِ‬ ‫وت َق َدمَـتْـهَـا قـبـل ذَاك ثَـرَائِدٌ‬
‫بالبيض منها مُلْـبَـس ومُـ َدثَـرُ‬ ‫ن مـزخـرفٌ‬ ‫ومرقّقات كلُـهُـ ّ‬
‫ترضَى اللهَا ُة بها ويَرْضَى الحنجَر‬ ‫ف َبعْ َد ذاك لـطـائفٌ‬ ‫ت قطائِ ُ‬ ‫وأت ْ‬
‫دمع العيان مِنَ الدّهان يُعَـصـرُ‬ ‫ضحك الوجوه من الطبرزد فوقها‬

‫لزَاذَ‪ ،‬وأنا ب َبغْداذَ ‪ ،‬وليس َمعِي عَقْد‪ ،‬عَلَى نَقْد‪ ،‬فخرجتُ أَنتهِزُ محالة‪ ،‬حتى أحَلَني الكَرْخَ؛ فإذا‬ ‫ش َتهَيْتُ ا َ‬
‫قال البديع‪ :‬حدّثني عيسى بن هشام قال‪ :‬ا ْ‬
‫ن نَزلْتَ؟ ومتى‬ ‫ن أقبلْتَ؟ وأي َ‬‫ج ْهدِ حمارَه‪ ،‬ويُطَ َرفُ با ْلعَ ْقدِ إزارَه؛ فقلت‪ :‬ظَفرْنا والّ بصَيدٍ ‪ ،‬وحَياكَ الُّ أبا َزيْد! مِنْ أيْ َ‬ ‫حدُو با ْل َ‬
‫ي يَ ْ‬
‫أنا بسَوَادِ ّ‬
‫ع َبيْد! فقلتُ‪ :‬نعم‪َ ،‬لعَنَ الُّ الشيطانَ‪ ،‬وأ ْب َعدَ النسيانَ‪ ،‬أنْسَاني طول ال َع ْهدِ ِبكَ‪،‬‬ ‫وا َفيْتْ‪ ،‬فهَلُمَ إلى البيتْ‪ .‬فقال السوادي‪ :‬لستُ بأبي زيد‪ ،‬وإنما أبو ُ‬
‫جنّتِه‪ ،‬فقُ ْلتُ‪ :‬إنّا لَِ‪ ،‬ول قوة إلَ بالّ‪،‬‬
‫صيّرَه الَُ إلى َ‬ ‫ب َب ْعدِي‪ .‬قَالَ‪ :‬قد َنبَتَ المَرْعى على ِد ْمنَتِه‪ ،‬وأرجو أن يُ َ‬ ‫َكيْفَ أبوك‪ ،‬أشَاب َك َع ْهدِي ‪ ،‬أم شا َ‬
‫جمْعه‪ .‬وقال‪ :‬نَشَد ُتكَ بالّ ل م ّز ْقتَه‪ ،‬فقلت‪ :‬فهلّم‬ ‫صدَار أريد تمزيقه‪ ،‬وأُحاول تخريقه‪ ،‬فقبض السواديّ على خَصرِي ب ُ‬ ‫ومددت يدَ البِدار‪ ،‬إلى ال ّ‬
‫عطَفَته عطفة النّهم‪ ،‬وطمِع‪ ،‬ولم‬ ‫حمَةُ القَرَم‪ ،‬و َ‬ ‫إلى البيت نُصِبْ غداء‪ ،‬أو إلى السوق نشتري شِوَاء؛ والسوقُ أقرب‪ ،‬وطعامه أطيب‪ ،‬فاستفزّته ُ‬
‫يعلم أنه وقع‪ ،‬ثم أتيت شَوّاءً يتقاطرُ شِوَاؤه عرقَاً‪ ،‬ويتسايل جُوذابه مر َقاً فقلت‪ :‬أبرز لبي زيد من هذا الشّواء‪ ،‬ثم زِن له من تلك الحَلواء‪ ،‬واختر‬
‫من تلك الطباق ونضد علي أوراق الرقاق‪ ،‬وشيئًَا من ماء السمّاق‪ ،‬ليأكلَه أبو زيد هنياً‪ .‬فأنحى الشًوّاء بساطُوره‪ ،‬على زُبدَة تنورِه‪ ،‬فجعلها‬
‫كالكحل سَحقاً‪ ،‬وكالطين دَقاً‪ ،‬ثم جلس وجلست‪ ،‬ول نبَس ول نبست‪ ،‬حتى استوفيناه‪ ،‬وقلت لصاحب الحلواء‪ :‬زِن لبي زيد من اللوزِينَج‬
‫رطلين‪ ،‬فإنه أجرى في الحلوق‪ ،‬وأسرَى في العروق‪ ،‬وليكن ليليَ العُمر‪ ،‬يوميّ النشر‪ ،‬رقيق القشر‪ ،‬كثيف الحَشو‪ ،‬لؤلؤيّ الدهن كَوكبي اللون‪،‬‬
‫يذوب كالصّمغ‪ ،‬قبل المضغ‪ ،‬ليأكله أبو زيد هنيّا‪ .‬فوزنه‪ ،‬ثم قعد وقعدت‪ ،‬وجردَ وجرَدت‪ ،‬واستوفيناه‪ ،‬ثم قلت‪ :‬يا أبا زيد‪ ،‬ما أحوجنا إلى ماء‬
‫يَشَعشَع بالثلج‪ ،‬ليقمَع هذه الصّارة‪ ،‬ويَفثَأ هذه اللقم الحارة؛ أجلس أبا زيد حتى آتيك بسقاء‪ ،‬يحيِينا بشَربَة من ماء‪ ،‬ثم خرجت‪ ،‬وجلست بحيث‬
‫أراه ول يراني‪ ،‬أنظر ما يَصنع به‪ .‬فلّما أبطأتُ عليه قام السّوَادي إلى حماره‪ ،‬فاعتلق الشَوَاء بإزاره‪ ،‬وقال‪ :‬أين ثمن ما أكلتَ؟ قال‪ :‬ما أكلته إلَ‬
‫ي يبكي ويمسح دموعه بأردانه‪،‬‬ ‫ل أكلت ثلثاً وتسعين! فجعل السواد ّ‬ ‫ضيفاً! قال الشواء‪ :‬هاك وآك متى دعوناك؟ زِن يا أخا القحبة عشرين‪ ،‬وإ َ‬
‫ويحُلّ عقدَة بأَسنانه‪ ،‬ويقول‪ :‬كم قلت لذلك القرَيد‪ ،‬أنا أبو عبيد‪ ،‬وهو يقول‪ :‬أنت أبو زيد!؟ فأنشدت‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫ل تَقعدَنّ بذُلّ حـالـه‬ ‫اعمَل لرزقك كل آلَـه‬
‫فالمرء يَعج ُز ل المَحَاله‬ ‫وانهض بكـلّ عـزيمة‬
‫ي بن يحيى بن أبي منصور المنجم‪ :‬الرجز‪:‬‬ ‫ومن مليح ما قيل في القطائف قول عل ّ‬
‫سكّر الماذِيّ حَشوَ المـوزِ‬ ‫وال ُ‬ ‫ف قَد حُشيَتْ بـالـلّـوْزِ‬ ‫قطائِ ٌ‬
‫سرِرت لما و َقعَت في حَوزيَ‬ ‫ي دهن الـجَـوز‬ ‫يسبح في آذِ َ‬
‫سرور عَباس بقـرب فَـوزِ‬
‫ومن ألفاظ أهل العصر في الحلواء‪ :‬فالوذج بلبَاب البُرّ‪ ،‬ولعَاب النّخل‪ ،‬كأنَ اللوز فيه كواكب دُر‪ ،‬في سماء عَقيق‪.‬‬
‫ولم يقل أحد في صفة اللوزِينَج أَحسن من قول ابن الرومي‪ :‬السريع‪:‬‬
‫إذا بدا أعجَبَ أو عـجًـبـا‬ ‫ط َئنّي مِنك لـوزِينـج‬ ‫ل يُخ ِ‬
‫لسهّل الطّيبُ له مَذهَـبـا‬ ‫لو شاء أن يَذهَبَ في صَخرَة‬
‫ل أبَت زلفَاه أن يحجَـبـا‬ ‫إّ‬ ‫لم تَغلِق الشهوَةَ أبـوابـهـا‬
‫دَوراً ترَى الذهنَ له لولبـا‬ ‫يَدور بالنّفحَة فـي جـامِـه‬
‫ع َد مستعـذَبـا‬‫مستَحسَن سا َ‬ ‫عاوَن فيه مَنظَر مَخـبَـرَا‬
‫أرَقُ جِلداً عن نَسِيمِ الصبـا‬ ‫مَستكثف الحَشوِ ولـكـنـه‬
‫حبّبـا‬
‫من نقطة القَطرِ إذا َ‬ ‫كأنمـا قـدّت جَـلبـيبـه‬
‫شارَك في الجنِحَة الجُندبـا‬ ‫ل مـن ِرقّة خـرشـائِه‬ ‫يخا ُ‬
‫ثَغر لكان الواضحَ الشنَبَـا‬ ‫لو أنّه صُوّرَ مـن خَـبـ ِزهِ‬
‫أن يجعلَ الكفَ لها مَركَبـا‬ ‫ل بيضاء يَ َودّ الفـتَـى‬ ‫من ك ّ‬

‫صَهباء تحكي الزرَق الشهَبا‬ ‫مَدهـونَة زَرقـا َء مَـدقـوقة‬


‫طيّبَتْ حتى صَبا مَن صبـا‬ ‫وُ‬ ‫قرّة عَـينٍ وفَـمٍ حُـسّـنَـت‬
‫مَرّت على الـذائق إلَ َأبَـى‬ ‫ديفَ له اللوز؛ فـمـا مـرّة‬
‫وشا َورُوا في َن ْقدِهِ المذهـبـا‬ ‫وانتقَـدَ الـسُـكَـ َر نُـقـاده‬

‫‪83‬‬
‫ول إذا الضرْسُ عَله نَـبَـا‬ ‫فل إذا العَـيْنُ رَأَتـه نَـبَـتْ‬
‫َوجَه تلقا َءكُمُ الـمـطْـلَـبـا‬ ‫ل من وامِـق‬ ‫ل تُنكِروا الدل َ‬
‫ل بن بشر المرثدي‪ ،‬ويهنيه بابن ولده‪ ،‬وأولها‪:‬‬ ‫هذه البيات يقولها في قصيدة طويلة يمدح فيها أبا العباس أحمد بن محمد ابن عبد ا ّ‬
‫َأقْسمتُ بالِّ َل َقدْ َأنْجبا‬ ‫شمسّ وبدر وََلدَا كَ ْوكَبا‬
‫قال أبو عثمان سعيد بن محمد الناجم‪ :‬دخلت على أبي الحسن وهو يعمل هذه القصيدة‪ ،‬فقّلت‪ :‬لو َتفَاءَلْتَ فيها لبي العباس بسبعة من الولد؛ لن‬
‫أبا العباس منكوساً سابعٌ‪ ،‬لجاء المعنى ظريفاً‪ ،‬فقال‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ك ْنيَته‪ ،‬ل زاجِرًا ثَـعْـلَـبـا‬ ‫وقد تفـاءَلـتُ لـه زاجِـراً‬
‫إذا بدا َمقْلوبُهـا أعْـجَـبـا‬ ‫إنّي تـأمّـلْـتُ لـه كُـنْـيَةً‬
‫ل َكذّب الـلـ ُه ول‪ ،‬خـيبـا‬ ‫س أبـا سـابـع‬ ‫يَصُوغُها العكْ ُ‬
‫ت مَ ْرقَبا‬ ‫ِمثْلَ الصّقور استْش َر َف ْ‬ ‫بل ذاكَ فألٌ ضامِـنٌ سَـبْـعَة‬
‫وذاك ف ْألٌ لم َي ُعدْ َمعْـطَـبـا‬ ‫ب فتًى مَـاجِـدٍ‬ ‫يأتون من صلْ ِ‬
‫فلننتظـرهُـمْ سِـتةً غُـيبـا‬ ‫وقد أتـانـا مـنـهـمُ واحِـد‬
‫يجعلها اللَـهُ لـه تُـرْتـبـا‬ ‫في مُدةٍ َت ْغمُـرهـا نِـعْـمةٌ‬
‫ضوَى ومن َك ْبكَبـا‬ ‫أجَلّ من رَ ْ‬ ‫حتى نراهُ جالسـًا بـينـهُـمْ‬
‫بين نجو ٍم سبعَ ٍة فاحْـتَـبـى‬ ‫ض من نُورهِ‬ ‫كالبدر وَافَى الر َ‬
‫فإنها من بَعضِ مـا بَـ ّوبَـا‬ ‫شكَرِ النّـاجِـ ُم عـن هـذِهِ‬ ‫و ْليُ ْ‬
‫سدَى وما سَـبـبـا‬ ‫شكُر ما أ ْ‬ ‫أْ‬ ‫حمْـتُ أخ لـم أزَلْ‬ ‫سدَى وأ ْل َ‬ ‫َ‬
‫وكان ابنُ الرومي منهوماً في المآَكل‪ ،‬وهي التي قتََلتْهُ‪ ،‬وكان ُمعْجَبًا بالسمك‪ ،‬فوعده أبو العباس المرثدي أن يبعثَ إليه كل يوم بوظيفة ل‬
‫سبْتٍ‪ ،‬ثم قطعه‪ ،‬فقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫َتنْقَطِع‪ ،‬فبعث إليه يومَ َ‬
‫أخلَفَ الزائرونَ منتظريهـمْ‬ ‫ما لِحيتا ِننَا جَفَـتْـنَـا وأنَـى‬
‫ظ عليه ما يَكفِيهِـمْ‬ ‫حفَا ِ‬
‫من ِ‬ ‫جاء في السبت زَورُهُمْ فأتينا‬
‫فكَأنّا اليهودُ أو نَحْـكِـيهـمْ‬ ‫وجعلناه يوم عـيد عـظـيمٍ‬
‫خطُون مَن يُرْضيهمْ‬ ‫ِر فَلِ ْم يُسْ ِ‬ ‫ص َممِينَ على الهَج‬ ‫وأراهُ ْم مُ َ‬
‫س ِبتُون ل تـأْتـيهـمْ‬ ‫يوم ل يَ ْ‬ ‫سبْتنا وما أتتْنـا وكـانُـوا‬ ‫قد َ‬
‫فاتصل ذلك بالناجم‪ ،‬فكتب إلى الرومي‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ضلِ رُجْحانَهُ‬ ‫حمَدُ في الفَ ْ‬ ‫ل َن ْ‬ ‫ُ‬ ‫ن ل تـزا‬ ‫ت مَـ ْ‬‫أبا حسنٍ‪ ،‬أ ْن َ‬
‫وقد قلَلَ اللَـهُ إحـسـانَـهُ‬ ‫فكم تُحْسِنُ الظن بالمرثـدي‬
‫عدَ الْوَعْـدَ إخـوانَـهُ‬ ‫إذا وَ َ‬ ‫ألم َتدْرِ أنَ الفتى كالسَـرَاب‬
‫َفقُل في طِلبك حيتـانَـهُ‬ ‫ب يَفُوتُ الطلوبَ‬ ‫فبَحْرُ السرا ِ‬
‫شعْره‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن كان ما ُتنْشِدنا‬
‫وخرج ابنُ الرومي إلى بعض المتنزهات وقصدوا كَرْماً رازِقيّا‪ ،‬فشربوا هناك عامَة يومهم‪ ،‬وكانوا يتهمونه في ِ‬
‫لكَ فقُلْ في هذا شيئاً‪ ،‬فقال‪ :‬ل تَرِيموا حتى أقول فيه‪ ،‬وأنشدهم لوقته‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫كأنه مَـخـازِنُ الـبـلُـورٍ‬ ‫ورازقي مُخْطَفِ الخـصُـورِ‬
‫وفي العالي ماء وَرْد خوري‬ ‫ضمّنت مِسْكاً إلى الشطور‬ ‫قد ُ‬
‫له مَذاق العَسَل الـمَـشُـورِ‬ ‫بل فَـريد وبـل شُـــذُورِ‬
‫ون ْكهَة المِسْك مع الكـافـورِ‬ ‫وبَ ْر ُد مَمنَ الخَصِر المقْـروِر‬
‫باكَ ْرتُه والطيْرُ في ال ُوكُـورِ‬ ‫ورقة الماء على الـصـدورِ‬
‫أملُ للعَـيْنِ مـن الـبُـدورِ‬ ‫بِف ْتيَ ٍة من وََلدِ الـمـنـصـورِ‬
‫قبل ارتفاع الشمس للـذّرورِ‬ ‫خ ْيمَة الـنـاطـور‬ ‫حتى أ َتيْنا َ‬
‫ب ل المقهـورِ‬ ‫بطاعةِ الرّاغ ِ‬ ‫فانحَطّ كالطّاوِي من الصقـور‬
‫حتى أتانا بِـضُـروع حـورِ‬ ‫عبْد الحََلبِ المشطـورِ‬ ‫والحرُ َ‬
‫والطَلّ مثل اللؤلؤ المنـثـورِ‬ ‫عسَلِ محـصـورِ‬ ‫مملوء ٍة من َ‬
‫بين حِفافَي جَدوَل مَسـجـورِ‬ ‫ثمّ جلَسْنا جِلْسَة المـحـبـورِ‬
‫أو مثل متن المُنصل المشهورِ‬ ‫أبيض مثل المُهرق المنشـورِ‬
‫سمَاطَي شَج ٍر مَسطـورِ‬ ‫بَين ِ‬ ‫ب مثل الحيّةِ المـذعـورِ‬ ‫َينْسَا ُ‬
‫فنِيلَت الوطار فـي سُـرُورِ‬ ‫ناهيك للعقود مـن ظُـهـورِ‬
‫َتعِلَة من يَومِنا المـنـظـورِ‬ ‫وكل ما يُقضَى مِـنَ الُمـورِ‬
‫و ُمتْع ٌة منَ ُمتَعِ الـغُـرورِ‬
‫ألفاظ تناسب هذا النحو لهل العصر‬
‫في صفات الفواكه والثمار‬

‫‪84‬‬
‫ب كمخازن البلّور‪ ،‬وضروبِ النُور‪ ،‬وأوعيةِ السرور‪ .‬أمّهات الرحيق‪ ،‬في‬ ‫عنَ ٌ‬
‫كَرْم نُسْلِفه الماء القَرَاح‪ ،‬و َيقْضِينا ُأمَهات الرّاح‪ .‬عنقود كالثريّا‪ ،‬و ِ‬
‫صرَر الياقوت الحمر‪ .‬سَفرجل‬ ‫شهْدة بالعقيق م َقنّعة‪ ،‬بال ِعقْيان مُ َقمّعة‪ُ .‬رمَان كأنه ُ‬ ‫سلِفه الماء‪ ،‬ويقضينا العسل‪ .‬رُطَب كأنها ُ‬ ‫مخازن العَقِيق‪ .‬نَخْل نُ ْ‬
‫خجِل‪،‬‬‫صفَ العاشق ال َوجِل‪ ،‬والمعشوق الْ َ‬ ‫ح ‪ ،‬يجمع وَ ْ‬ ‫ح نَفّا ٌ‬
‫جمَع طيباً‪ ،‬ومنظراً حسناً عجيباً‪ ،‬كأنه زِئبر الخزّ الغبر‪ ،‬على الديباج الصفر‪ .‬تفّا ٌ‬ ‫يَ ْ‬
‫طعْمُ الكرّ‪ ،‬رسولُ المحب‪ ،‬وشبيه الحبيب‪ .‬تِين كأنه سُفر مضمومة على عَسَل‪ .‬مشمش كأنه الشّهد في َبيَادِق الذهب‪.‬‬ ‫له نسي ُم العبير‪ ،‬و َ‬
‫ما قيل في وصف الليل والصيد واللهو‬
‫قال بعضُ الرواة‪ :‬أنشدت أعرابيًا قولَ جرير بن عطية بن الْخَطَفي‪:‬‬
‫حيْرَانا؟‬‫أمْ طال حتى حسبت النجمَ َ‬ ‫ل ل تَسْـرِي كـواكـبُـهُ‬ ‫أبدل اللي ُ‬
‫ل من مثله؛ ولكني أنشدك في ضدّه من قولي‪ ،‬وأنشدني‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫فقال‪ :‬هذا حسَنٌ في معناه‪ ،‬وأعوذ با ّ‬
‫وقصّر طولَه وَصْلُ الحبيبِ‬ ‫وليل ثـم يُقَـصَـ ْرهُ رُقـادٌ‬
‫تناوَلَنا جَنـا ُه مـن قـريبِ‬ ‫حتّـى‬ ‫نَعيمُ الحبّ أوْرق فيه َ‬
‫عدّ الذنوبِ‬ ‫على شكْوَى ول َ‬ ‫بمجلس لذّةٍ لم نَـقْـ َو فـيه‬
‫ت العيونُ عن القُلوبِ‬ ‫جمَ ِ‬ ‫فتَ ْر َ‬ ‫بَخِلْنا أن نقطّعـه بـلَـفْـظٍ‬
‫فقلت له‪ :‬زدني فما رأيت أظرفَ منك شعراً؛ فقال‪ :‬أمّا هذا الباب فحسبك‪ ،‬ولكن أنشدك من غيره‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ح ْب ُتهُمُ وَشِيمَتيَ الـوفـاءُ‬ ‫صَ ِ‬ ‫ل قـوم‬ ‫وكنت إذا عَلِقْت حبا َ‬
‫وأجتنب الساءَة إن أساءوا‬ ‫ن محسنوهُمْ‬ ‫ن حين يُحْسِ ُ‬ ‫فأحسِ ُ‬
‫مشيئتهمْ وأتركُ مـا أشـاء‬ ‫أشاء سوى مشيئته ْم فـآتـي‬
‫قال الصمعي‪ :‬قرأت على أبي مُحْذر خلف بن حيّان الحمر شعرَ جرير‪ ،‬فلمّا بلغت إلى قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي باطِـلُـهْ‬ ‫إليّ صباهُ غالبٌ ل َ‬ ‫ويوم كإبهامِ القَطا ِة مـحـبّـب‬
‫حرُومةٌ وحبَـائِلُـهْ‬ ‫كمن نَبْلُ ُه مَ ْ‬ ‫رُ ِزقْنا به الصّيد العزيزَ ولم نكن‬
‫تغيّب واشيه وأقْصرَ عـاذِلُـهْ‬ ‫خيْرُه قـبـل شـرّهِ‬ ‫فيا لك يومٌ َ‬
‫فقال خلف‪َ :‬ويْحَه! فما ينفعه خيرٌ يؤول إلى شرّ؟ فقلت له‪ :‬كذا قرأته على أبي عمرو بن العلء‪ ،‬فقال لي‪ :‬وكذا قال جَرير‪ ،‬وما كان أبو عمرو‬
‫ب أن يكونَ؟ قال‪ :‬الجْوَد أن يقولَ‪ :‬خيرُ ُه دون شرّه‪ ،‬فا ْروِه كذلك‪ ،‬فقد كانت الروا ُة قديمًا ُتصْلِحُ أشعارَ‬ ‫ليقرئك إلّ ما سمعَ‪ ،‬قلت‪ :‬فكيف كان يَج ُ‬
‫ل كذا‪.‬‬ ‫ل ل أرويه بعدها إ َ‬ ‫الوائل‪ ،‬فقلت‪ :‬وا ّ‬
‫ومن أجود ما قيل في ِقصَر الليل قول إبراهيم بن العباس‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫ت فيها بَدْرَها بـبَـدْرِي‬ ‫قابل ُ‬ ‫وليلةٍ من اللـيالـي الـغُـرّ‬
‫حتى تَقَضّت وهي ِبكْ ُر الدَهْرِ‬ ‫لم َتكُ غير شفَـق وفَـجْـرِ‬
‫وقال محمد بن أحمد الصبهاني فيما يتعلّق بهذا المعنى وإن كان في ذكر النهار‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫عدُوّ؟‬ ‫عيْني َ‬ ‫طرْفِ َ‬ ‫ورُقادي ل َ‬ ‫كيف يُرْجَى لمقلتـيّ هُـدُو‬
‫لم يَزَلْ للسرو ِر فيه نمُـو‬ ‫ت منه بِـيَوْم‬ ‫ن َن ِعمْ ُ‬‫بأبي مَ ْ‬
‫فكأنَ العَشِي فـيه غُـدُوُ‬ ‫يوم ل ْه ٍو قَدِ ا ْلتَقَى طرفـاهُ‬
‫ولبَدْرِ السَماء منـي ُدنُـوُ‬ ‫شخْصِ الرقيب فيه ثناءٌ‬ ‫إذ ل َ‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬السريع‪:‬‬
‫مفتضَح البدْرِ عليل النسيمْ‬ ‫يا رب ليل سَحَر كـلّـه‬
‫فيه فنهديه ِلحَر الهُمـومْ‬ ‫س بَرد النّـدَى‬ ‫ط النفا ُ‬ ‫تلتق ُ‬
‫سكْر الندِيمْ‬ ‫ل بِ ُ‬
‫في ضوئه إ َ‬ ‫ح لمَا بدا‬ ‫ل أعرفُ الصبا َ‬
‫ولذّة الرَاح ثيابَ النعـيمْ‬ ‫ت فيه بالتذاذ الهـوى‬ ‫لبس ُ‬
‫وصف منبج‬
‫أخذ قوله‪ :‬سَحَر كله من قول عبد الملك بن صالح بن علي‪ ،‬وقد قال له الرشيد لما دخل منبج‪ :‬أهَذا منزلك؟ قال‪ :‬هو لك‪ ،‬ولي بك يا أميْرَ‬
‫المؤمنين‪ ،‬قال‪ :‬كيف بناؤه؟ قال‪ :‬دون منازل أهْلي‪ ،‬وفوق منازل الناس‪ ،‬قال‪ :‬وكيف ذلك و َقدْرُك فوق أقدارهم؟ قال‪ :‬ذلك خُلق أمي ِر المؤمنين‬
‫عذْبَة الماء‪ ،‬قليلة الدْوَاء‪ ،‬قال‪ :‬فكيف َليْلُها؟ قال‪ :‬سحر كله؟ وأخذ هذا‬ ‫ب َمنْبج؟ قال‪َ :‬‬‫حذْوَهُ‪ ،‬قال‪ :‬فكيف طِي ُ‬ ‫أتأسَى به‪ ،‬وَأقْفُو أَثره‪ ،‬وأخذوا َ‬
‫الطائي فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫بك‪ ،‬والليالي كلُها أسحارُ‬ ‫أيامنا مصقولة أطرافهـا‬
‫ولهل العصر‪ ،‬قال أبو علي محمد بن الحسين بن المظفر الحاتمي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫كعارضِ البَرْقِ في ُأفْق الدُجَا بَرَقا‬ ‫يا رب ليل سُرور خِلْته قِـصَـراً‬
‫وكادَ يسبق منه ًفجْرُه الشَـفَـقـا‬ ‫قد كَـادَ يعـثـر أولَه بـآخــرهِ‬
‫طبَاق وا ْفتَرَقـا‬ ‫ن ِمنْهُ على ال ْ‬ ‫جَ ْفنَا ِ‬ ‫ف اتـفـق الْ‬ ‫كأنَما ط َرفَاه طَـرْ ٌ‬
‫ألفاظ في هذا المعنى لهل العصر‬
‫ليلة من حسنات الدهر‪ ،‬هواؤها صحيح‪ ،‬ونسيمُها عليل‪ ،‬ليلة كبُ ْردِ الشباب‪ ،‬وبَ ْردِ الشراب‪ .‬ليلة من ليالي الشباب‪ ،‬فِضيَة الديم‪ ،‬مِس ِكيّة النسيم‪.‬‬
‫ليلة هي ل ْمعَةُ العمر‪ ،‬وغُرةُ الدهر‪ .‬ليلة ِمسْكيّة الديم‪ ،‬كافورية النجوم‪ .‬ليلة َرقَد الدّهر عنها‪ ،‬وطلعت سعودُها‪ ،‬وغابت عُذالُها‪ .‬ليلة كالمسك‬
‫خبَرُها‪ .‬ليلة هي باكورةُ ال ُعمْر‪ ،‬و ِبكْرُ الدهر‪ :‬ليلة ظلماتها أنوار‪ ،‬وطِوال أوقاتها ِقصَار‪.‬‬ ‫منظَرُها و َم ْ‬
‫الفضل بن سهل‬

‫‪85‬‬
‫كان سبب اتصال سعيد بن هُ َريْم بذي الرياستين الفَضلِ ‪ -‬وسمي ذا الرياستين؛ لنه جمع بين رياسة القلم ورياسة التدبير للَمأمون ‪ -‬أنه دخل‬
‫خرُ الَبد‪ ،‬والبِ ُر غنيمة الحازم‪ ،‬والتفريط مصيبةُ أخي القدرة‪ ،‬وإنا لم نَصُنْ وجوهَنا عن‬ ‫عليه يوماً‪ ،‬فقال‪ :‬الَجَل آفَةُ المل‪ ،‬والمعروف ذُ ْ‬
‫ض ْعنَا أنْ ُفسَنا من تأميلك‪.‬‬
‫ضعْنا من إحسانك بحيث و َ‬ ‫سؤالك‪ ،‬فصُنْ وجهك عن ردّنا‪ ،‬و َ‬
‫فأمر أن ُي ْكتَب كلمُه‪ ،‬وسماه سعيداً الناطق‪ ،‬ووصله المأمون فخص به‪.‬‬
‫سيَ نصيبه منه‪ ،‬ليس كتابي إذا كتبتُ‬ ‫ن نَ ِ‬‫ن يَضع نفسَه عنده‪ ،‬ويا ذَاكِرَ مَ ْ‬ ‫ظ مَ ْ‬ ‫فلحقته في بعض الوقات جَفْوَة من الفضل‪ ،‬فكتب إليه‪ :‬يا حاف َ‬
‫حسَن إليه‪.‬‬ ‫استبطاءً‪ ،‬وما إمساكي إذا أمسكتُ استغناء‪ ،‬فكتبت مذكّرًا ل مستقصرًا ِفعْلَك‪ .‬فوصله وأَ ْ‬
‫وقد رُوِي بعضُ هذا الكلم المنسوب إلى سعيد بن هريم لبي حفص الكرماني مع ذِي الرّياستين‪.‬‬
‫ويقول أبو محمد عبد الّ بن أيوب التميمي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صنَائِعُ‬ ‫ظمُوا لِلَفضْل إلَ َ‬ ‫عُ‬‫وإنْ َ‬ ‫ل بَلْدة‬ ‫ل َعمْ ُركَ ما الَشْرَافُ في ك ّ‬
‫إذا ما َبدَا‪ ،‬وال َفضْلُ لٍَِ خاشـعُ‬ ‫تَرَى عُظَماءَ الناس لِ ْلفَضْل خُشَعاً‬
‫وكلّ جليل عنده مُـتَـواضِـعُ‬ ‫تَوَاضَ َع لمّا زاده الـلَـهُ رِفـعةً‬
‫وقال إبراهيم بن العباس‪ :‬مجزوء المتقارب‪:‬‬
‫عنْهَا ال َمثَلْ‬ ‫تقاصرَ َ‬ ‫سهْل يد‬ ‫لفضل بن َ‬
‫وظاهِرُها لل ُقبَـلْ‬ ‫طنُها لـلـنـدى‬ ‫فبا ِ‬
‫لجَـلْ‬ ‫وسَطْ َوتُها لِ َ‬ ‫طتُها لِ ْلغِـنَـى‬‫وبَسْ َ‬
‫أخذه ابنُ الرومي فقال لبراهيم بن المدبر‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫والمر ُء بينهما يموتُ هزيل‬ ‫ت بين ضَرَاع ٍة وتَجمل‬ ‫صبَحْ ُ‬ ‫أ ْ‬
‫ظهْرُها التقبيل‬ ‫َبذْلَ النوالِ و َ‬ ‫طنُـهـا‬ ‫ي يداً تع ّو َد بَ ْ‬ ‫فامددْ إل ّ‬
‫ل بن عبد ال بن طاهر‪ ،‬وزاد في هذا المعنى تشبيهاً ظريفاً‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقال يمدح عبيد ا ّ‬
‫لها راح ٌة فيها الحطيمُ و َزمْزَمُ‬ ‫ظهْرِ الكفّ وَهّاب بَطْنها‬ ‫مقبّل َ‬
‫عيْنٌ من العُرْف عَيلَمُ‬ ‫وباطنها َ‬ ‫فظا ِهرُها للناسِ ُركْنٌ م َقبّـلٌ‬
‫صفَاءَ الغريزة‪ ،‬وجَودَة النّحيزة‪ ،‬فهو كما قال أبو الطيب‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫وكان ذو الرياستين يَ ْقبَلُ صوابَ القائلين بما في قوَته من َ‬
‫ي بَزّازِ‬
‫يضع الثوبَ في َيدَ ْ‬ ‫شدُ القَرِيض لَـ َديْهِ‬ ‫مَلك ُمنْ ِ‬
‫طنَاعِك‪ ،‬قال‪ :‬فأسلم على‬ ‫وكانت مخايل فَضلِه‪ ،‬ودلئل عَقله‪ ،‬ظهرت ليحيى بن خالد وهو على دِين المجوسية‪ ،‬فقال له‪َ :‬أسْلِم أجِد السبيلَ إلى اصْ ِ‬
‫ج ْنبَته‪ ،‬إلى أنْ ُرقّي إلى ُرتْبته‪.‬‬ ‫يَدِ المأمون‪ ،‬ولم يزل في َ‬
‫ن من أدلّ‬ ‫جمَل الثناء‪ ،‬فأمر بإحضاره‪ ،‬فلمّا رآه ُأفْحِمَ؛ فنَظَرَ الرشيد إلى يحيى كالمستفهم؛ فقال‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬إ ّ‬ ‫وذكره يحيى عند الرشيد فأ ْ‬
‫سنْت‪ ،‬ولئن كان هذا شيئاً اعتراك‬ ‫حَ‬‫دليل على فَرَاهَةِ المملوك أن تمْلك ه ْيبَةُ موله لسانَه وقلبَه‪ ،‬فقال الرشيد‪ :‬لئن كنت سكتّ لكي تقولَ هذا فقد أ ْ‬
‫عند ا ْلحَصَر لقد أجدْتَ؛ وزاد في إكرامه وتقريبه‪ ،‬وجعل ل يسأله بعد ذلك عن شيء إلّ أجابه بأ ْفصَحِ لسان‪ ،‬وأجود بَيانِ‪.‬‬
‫ل حكمته‪ ،‬قولُه‪ :‬مَن تركَ حقّا فقد غبن‬ ‫قال سهل بنُ هارون‪ :‬وممّا حُفظ من كلم ذي الرياستين ممّا رأينا تَخْلِيدَه في الكتب‪ ،‬ليُ ْؤ َت ّم به‪ ،‬و ُي ْنتَفَعَ بمقْوَ ِ‬
‫جدْ لِما‬‫غنْماً‪ ،‬ومَن أتَى فَضلً فقد أوْجَب شكراً‪ ،‬ومن أحْسَن توكّل لم يعدم مِنَ الّ صنْعاً‪ ،‬ومَن ترك ل شيئاً لم يَ ِ‬ ‫حظًا‪ ،‬ومَن ْقضَى حقّا فقد أحْ َرزَ ُ‬
‫ق له دَرَكًا عاد ما أدرك من ذلك له مُوبقاً؛ وذلك‬ ‫حمْداً عا َد ذلك على مُ ْلتَمِسِه ذمّا‪ ،‬ومن طلب بخلف الح ّ‬ ‫س بمعصية الَِ َ‬ ‫ك فَقْداً‪ ،‬ومَنِ التم َ‬ ‫تَر َ‬
‫أَوْجَب الفَلح للمحسنين‪ ،‬وجعل سوءَ العاقبة للمسيئين المقصَرينَ‪.‬‬
‫ووقّع في رَقعَة ساعٍ‪ :‬نحن نرى قبولَ السعاية شَرّا منها‪ ،‬لنّ السّعاية دللةٌ‪ ،‬والقبول إجازة‪ ،‬وليس مَن دَل على شيءٍ وأخبر به كمن قبِلَه‬
‫سعَا َيتِه صَادِقاً لكان في صدقه آثماً؛ إذ لم يحفظ الحرمة‪ ،‬ولم يستر العورَة‪.‬‬ ‫وأجازهُ؛ فاتّقوا الساعِي‪ ،‬فإنهُ لو كان في ِ‬
‫والشي ُء يُقرَنُ مع جِنسِه‪ :‬كتب محمد بن علي إلى محمد بن يحيى بن خالد‪ ،‬وكان والياً على أرمينية للرشيد‪ :‬إن قوماً صاروا إلى سبيل النّصح‬
‫عفَت ودَرَسَت‪ ،‬يرجع منها إلى السلطان مَال عظيم‪ ،‬وإني وقفتُ عن المطالبةِ حتى أَع ِرفَ رأيَك‪.‬‬ ‫ضيَاعاً بأرمينية قْد َ‬ ‫فذكروا ِ‬
‫سنَة السّعاةِ في أيامنا كَلِيلة خاسئة؛ فإذا قَرَأْتَ‬ ‫سدَة‪ ،‬وأ ْل ِ‬ ‫حمْد الّ في أيامنا كا ِ‬ ‫فكتب إليه‪ :‬قرأتُ هذه الرقع َة المذمومة‪ ،‬و َف ِه ْمتُها‪ ،‬وشوقُ السعاية ب َ‬
‫خذْهم بما في ديوانِك؛ فإنا لم نولّك الناحية‪ ،‬لِتتبعَ الرسوم العافية‪ ،‬ول لحياء العْلم الداثرة‪ ،‬وجنّبني‬ ‫حمِل الناسَ على قانونك‪ ،‬و ُ‬ ‫كتابي هذا فا ْ‬
‫وتجنب بيتَ جريرٍ يخاطبُ الفرزدق‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ت بِخً ْزيَ ٍة وتَ َركْتَ عَارَا‬ ‫رَحَ ْل َ‬ ‫وكنتَ إذا حَلَ ْلتَ بدا ِر قـوْم‬
‫جرِ أمورَك على ما يكسب الدّعاء لنا ل علينا‪ ،‬واعلم أنها مدّة تنتهي‪ ،‬وأيا ٌم تَنْقَضي‪ ،‬فإمَا ذِكْرٌ جميلٌ‪ ،‬وإما خِ ْزيٌ طَوِيل‪.‬‬ ‫وأ ْ‬
‫وقال رجلٌ للمَهدي‪ :‬عندي نصيح ٌة يا أمير المؤمنين‪ ،‬فقال‪ِ :‬لمَنْ نَصيحتك هذه؟ لنا‪ ،‬أمْ لِعامَةِ المسلمين‪ ،‬أم لنفسك؟ قال‪ :‬لك يا أمير المؤمنين‪،‬‬
‫عدُوًا فل نعاقب لك‬ ‫غيْظك‪ ،‬أَوْ َ‬ ‫شفِي َ‬ ‫س َد نعمة‪ ،‬فل نَ ْ‬ ‫سعَايته‪ ،‬ول تخلو من أن تكونَ حا ِ‬ ‫ل ممّن َقبِل ِ‬ ‫قال‪ :‬ليس الساعي بأعظم عور ًة ول أقبَحَ حا ً‬
‫عدوَك؛ ثم أقبل على الناس فقال‪ :‬ل َينْصَحْ لنا نَاصِح إلّ بما فيه ل رضاً‪ ،‬وللمسلمين صَلَح‪ ،‬فإنما لنا البدانُ وليس لنا القلوبُ؛ ومن اس َتتَر عنّا‬
‫ح أبْل َغ منه بالعقوبة‪ ،‬والسلمة مع العفو أكْثر منها مع‬ ‫عثْرَته؛ فإني أرى التأديبَ بالصفْ ِ‬ ‫لم نكشفه‪ ،‬ومن بادَانا طلبْنا تَوْبته‪ ،‬ومن أخطأ أقَ ْلنَا َ‬
‫ل ل يَ ْنعَطِف إذا اس ُتعْطِفَ‪ ،‬ول يعفو إذا َقدَر‪ ،‬ول يغفر إذا ظفر‪ ،‬ول يَ ْرحَ ُم إذا استُرحم‪.‬‬ ‫المُعاجَلة‪ ،‬والقلوب ل تبقى لِوا ٍ‬
‫ووقّع ذو الرياستين إلى تميم بن خزيمة‪ :‬المور بتمامها‪ ،‬والعمال بخَوَاتمها‪ ،‬والصنائعُ باستدامتها‪ ،‬وإلى الغاية يَجْرِي الجواد؛ فهناك كش َفتِ‬
‫شكّ؛ فحمد السابق‪ ،‬وذم الساقط‪.‬‬ ‫خبْ َر ُة قِناعَ ال ّ‬
‫الْ ِ‬
‫وذو الرياستين هوِ القائل‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫فحوّلي رَحْلَها عنّا إلـى نَـعَـم‬ ‫ت بها‬ ‫أنضيتِ أحرف ل ممَا َلفَظْ ِ‬
‫خفّة ا ْلكَلِم‬‫إن كنتِ حاولت فيها ِ‬ ‫صيّريها إليها منك منـعـمةً‬ ‫أو َ‬
‫س من قَرْن إلى َقدَمِ‬ ‫يا أَحْسَن النا ِ‬ ‫ضنَا قـياسَـكُـمُ‬ ‫ستُم علينا فعا َر ْ‬ ‫قِ ْ‬
‫س َبنِي ابنًا ِمثَْلكَ؟‬
‫ولما قتل ذُو الرياستين دخَل المأمون على أمّه فقال‪ :‬ل تَجْزَعِي فإني ا ْبنُك بعد ابنك‪ .‬فقالت‪ :‬أفل َأبْكي على ابنٍ أَك َ‬

‫‪86‬‬
‫في وصف الخيل‬
‫صفَ‪.‬‬‫ووصف ابن ال ِقرّية فرساً أَ ْهدَاه الحجاجُ إلى عبد الملك بن مروان فقال‪ :‬حَسَنُ ال َقدَ‪ ،‬أسِيلُ الخَد‪ ،‬يسبق الطّ ْرفَ‪ ،‬ويستَغرِقُ الوَ ْ‬
‫صعْداء‪ ،‬ويجا ٍوزُ الظّباءَ في‬ ‫وأهدى عبد ال بن طاهر إلى المأمون فرساً وكتب إليه‪ :‬قد بعثتُ إلى أمير المؤمنين بفرسٍ يلحق الرانب في ال ّ‬
‫الستواء‪ ،‬ويسبق في الْحَدور جَ ْريَ الماء‪ ،‬فهو كما قال تأبّط شرّا‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شدَهِ الـمُـتَـدا ِركِ‬‫ب ُمنْخَرِقٍ من َ‬ ‫سبِقُ َو ْفدَ الرّيح من حيث يَنتحِي‬ ‫ويَ ْ‬
‫صبِ‪ ،‬يُشيرُ بُأذُنيه‪ ،‬و َي ْندِسُ برجْلِيه‪ ،‬كأنه‬ ‫شتَرِ لي فرساً جَيدَ ال َقمِيص‪ ،‬حسَنَ الفُصوص‪ ،‬وثيق القَصَبِ‪ ،‬نقيَ العَ َ‬ ‫وقال رجل لبعض النخاسين‪ :‬ا ْ‬
‫حدُور‪.‬‬ ‫سيْلٌ في َ‬ ‫موجٌ في لُجة‪ ،‬أو َ‬
‫جمع محمد بن الحسين‪َ ،‬ه َذيْنِ الكلمين وزاد فقال يصف فرساً‪ :‬هو حَسَنُ القميص‪ ،‬جَيد الفصوص‪ ،‬وثيق القَصَب‪ ،‬نقيُ ال َعصَب‪ُ ،‬يبْصِ ُر بأذنيه‪،‬‬
‫حدُور‪ ،‬يناهبُ المشي قبل أن ُيبْعث‪ ،‬ويلحق الرانب في الصعداء‪ ،‬ويجا ِوزُ‬ ‫َويَتنوّع بيديه؛ و ُيدَاخِل برجْلَيه‪ ،‬كأنه موجٌ في لجة‪ ،‬أو سيلٌ في َ‬
‫صفَن‪،‬‬
‫حدُور جَ ْريً الماء‪ ،‬إنْ عُطِف جَارَ‪ ،‬وإن أرسِل طار‪ ،‬وإنْ كلّف السير َأ ْمعَن وسار‪ ،‬وإن حُبس َ‬ ‫جواري الظباء في الستواء‪ ،‬ويسبِق في ال َ‬
‫وإن استوقف فطن‪ ،‬وإنْ رعَى أبنَ‪ ،‬فهو كما قال تأبّط شرّا‪ ،‬وذكر البيت‪.‬‬
‫وأول هذه البيات‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صدْقِ شَمس بن مالكِ‬ ‫به لبْنِ عمّ ال َ‬ ‫وإني َل ُم ْهدٍ من ثَنـائي فَـقَـاصِـد‬
‫كما هز عِطْفي بالهِجانِ الوَا ِركِ‬ ‫أه ُز به في َندْوَةِ الحيّ عِـطْـفَـهُ‬
‫كثيرُ الهوَى شَت النَوَى والمسَالِك‬ ‫شكَي ِللْـمُـلَـم يُصـيبُـهُ‬ ‫قليل الت َ‬
‫جَحِيشًا و َيعْرَوْرِي ظُهورَ المهالِك‬ ‫يظَل ِبمَوْما ٍة و ُيمْسِـي بِـغَـيرِهـا‬
‫ق مِنْ شَـدّه الـمـتـدارك‬ ‫ب ُمنْخَرِ ٍ‬ ‫سبِقُ َو ْفدَ الرّيح من حيث ينتحـي‬ ‫ويَ ْ‬
‫ن فـاتِـكِ‬ ‫شيْحَا ِ‬‫له كالئٌ من قلب َ‬ ‫إذا خاط عينيه كرَى النوم لـم يَزًل‬
‫إلى سَلّ ٍة من صارم الغَرْب باتِـك‬ ‫إذا طََلعَتْ أُولى العد ًو فَـنَـفْـرُهُ‬
‫حدَ أخلقَ صـا ِئكِ‬ ‫إلى ضربة من َ‬ ‫ويجعل عـينـيه ربَـيئة قـلـبـه‬
‫نواجذُ أَفواهِ المنايا الـضّـوَاحِـكِ‬ ‫ن َتهَـلَـلـت‬ ‫إذا هَزَهُ في عظم قِرْ ٍ‬
‫بحيث ا ْهتَدَتْ أمُ النجوم الشَوابِـك‬ ‫يرى الوحشة النس النيس ويهتدي‬
‫خيْل مِصْر‪ ،‬فعُرِضت عليه‪ ،‬وعنده عقبة بن سنان بن يزيد الحارثي‪ ،‬فقال له‬ ‫وأهدى عمرو بن العاص إلى معاوية ثلثين فرساً من سَوابِق َ‬
‫خيّلة بكل‬ ‫طنَبَ في َوصْفها‪ ،‬فقال‪ :‬أراها يا أميرَ المؤمنين على ما وصف‪ ،‬وإنها لمُ َ‬ ‫عمْرًا قد َأ ْ‬
‫معاوية‪ :‬كيف تَرَى هدايانا يا أَبا سعيد؟ فإن أخَاك َ‬
‫خير؛ إنها لسَا ِميَةُ العُيون‪ ،‬لحقة البطون‪ ،‬مصغية الذان‪َ ،‬قبّاء السنان‪ ،‬ضِخَام الرّكبات‪ ،‬مشرفات الحجبات‪ ،‬رِحَاب المَناخِرِ‪ ،‬صِلب الحوافر‪،‬‬
‫غنًى‪ ،‬وبفتيانك إليها‬ ‫ن ِبنَا عنها ِ‬‫طلَبت لَحِقتَ‪ .‬قال له معاوية‪ :‬اصرفها إلى رَحْلك؛ فإ ّ‬ ‫وقعُها تحليل‪ ،‬ورفعها تعليل‪ ،‬فهذه إن طلِبت سبقت‪ ،‬وان َ‬
‫حاجة‪.‬‬
‫وقال النابغة الجعديّ‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا ما التقَينَا أن تَحِي َد وتَنفرَا‬ ‫خيْلَـنَـا‬
‫س ل ُنعَ ّودُ َ‬ ‫وإنا أنَا ٌ‬
‫من الطعن حتى نحسب الجَونَ َأشْقَرا‬ ‫ونُنكر يوم الرَ ْوعِ ألـوانَ خَـيْلِـنـا‬
‫ستَنكَر أن تـعَـقـرا‬ ‫صِحَاحاً‪ ،‬ول مُ ْ‬ ‫ن نَـ ُردّهَـا‬ ‫فليس بمعروفٍ لـنَـا أ ْ‬
‫وقال بعض العرب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ظفَهِ ال َقوَائِم هَـيْكـلِ‬
‫بسليم أَوْ ِ‬ ‫ش ِهدْتُ الخيلَ يوم طرادها‬ ‫ولقد َ‬
‫ل َم أركبه إذا لم أنـزلِ؟‬ ‫وعَ َ‬ ‫فدعَوا‪ :‬نزالِ! فكنت أوّل نازلٍ‬
‫ووصف أعرابي فرساً فقال‪ :‬لما أرسلت الخيل جَاءوا بشيطان في َأشْطَان‪ ،‬فأرسلوه‪ ،‬فلمع َلمْعَ البَرْقِ‪ ،‬واستهل استهللَ ال َودْقِ‪ ،‬فكان َأ ْقرَبهم إليه‬
‫الذي يق ُع عينه من ُبعْ ٍد عليه‪.‬‬
‫ل فقال‪ :‬عنده فرسٌ طويل ال ِعذَار‪ ،‬أمِينُ العِثَار؛ فكنت إذا رأيته عليه ظننته بَازِياً على مَرْبأ‪ ،‬عليه ُرمْحٌ طويل يقص ُر به‬ ‫وذكر أعرابي رج ً‬
‫الجال‪.‬‬
‫وقال بعض المحدثِينَ في هذا التطابق‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫تبُشرُ ُهمْ بأعما ٍر ِقصَارِ‬ ‫لَقينا ُهمْ بأَرْماح طـوالٍ‬
‫ووصف أعرابي خيلً لبني يربوع فقال‪ :‬خرجَتْ علينا خيل من مستطير نَقْعٍ‪ ،‬كأن َهوَادِيهَا أعْلم؟ وآذانَها أقلم‪ ،‬وفرسانها أُسود آجام‪.‬‬
‫ولما أنشد العمّاني الرشيد يصف فرساً‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫قادِمَةً أو قَلَمًا مُحَرفا‬ ‫ن أ ْذنَيْ ِه إذا تَشَ ّوفَـا‬
‫كأ ً‬
‫ولحن‪ ،‬ففهم ذَلك أ ْكثَرَ من حضر؛ فقال الرشيد‪ :‬اجعل مكان كأَن يَخَال‪ ،‬فعِجبوا لسُرْعَة َتهَدَيه‪.‬‬
‫وللطائيين في هذا النوع أشعار كثيرة منعني من اختبارها كثرةُ اشتهارها‪ ،‬وسأنشد بعض ذلك‪ ،‬قال أبو تمام‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ف به وتَلَـهْـوُق‬ ‫ن مِنْ صَلَ ٍ‬ ‫مل ُ‬ ‫ختَالُ في أَشْـطَـانِـه‬ ‫ب يَ ْ‬
‫ما مُ ْقرَ ٌ‬
‫شعْرٍ وخلـق َأخْـلَـقِ‬ ‫عرٍ ُ‬ ‫وأَشَا ِ‬ ‫بحَوافرِ حُفرٍ وصَلْـتٍ أَصـلـتٍ‬
‫ط ذاك الَوْلـق‬ ‫من صحةٍ إفـرا ُ‬ ‫حتَ العجاج‪ ،‬وإنـمـا‬ ‫ذو أولقٍ ت ْ‬
‫ستَـبْـرَق‬ ‫من س ْندُس بُرْداً ومن إ ْ‬ ‫صافي الديم كأنما ألـبـسـتـهُ‬
‫صهْوتيهِ العينُ لم تتعـلّـقِ‬ ‫في َ‬ ‫إمْلِيس ٌة إملـيدةٌ لـو عُـلّـقـت‬
‫مبيضّ شَطْرٍ كابيضاض ال ُمهْرَقِ‬ ‫مُسْ َودُ شَطْ ٍر مثل ما اسْ َودَ الدجى‬
‫وقال أبو عبادة‪ :‬الكامل‪:‬‬

‫‪87‬‬
‫ت عنه على أغ َر مُحَجـل‬ ‫ح ُ‬‫قد رُ ْ‬ ‫ن البهيم مُحَـجّـل‬ ‫وأغَرّ في الزمَ ِ‬
‫يوم اللقاء على ُمعِـ ّم مُـخْـولِ‬ ‫وَافي الضْلوع يَشُد عَ ْقدَ حِزامـه‬
‫ب انتِصَابَ الجـدَلِ‬ ‫صيدًا ويَنتصِ ُ‬ ‫يهوي كما هَوَتِ العُقابُ إذا رََأتْ‬
‫ق عليه مُـوَصَـلِ‬ ‫ن من وَر ٍ‬ ‫تُ َريَا ِ‬ ‫متوحّش بدقـيقـتـين كـأنـمـا‬
‫عَرْض على السنَن البعيد الطْوَل‬ ‫كالرائح النَشْوان أ ْكثَـ ُر مَـشـيهِ‬
‫من نَشْـوَةٍ أو جِـنة أو َأفْـكَـل‬ ‫ويظن َر ْيعَان الشـبـاب يَرُوعُـه‬
‫ت َم ْعبَدَ في الثـقـيلِ الوَل‬ ‫نغما ِ‬ ‫هَزج الصهيل كأنّ في َنبَـراتِـهِ‬
‫جهِهِ المتـهـلـلِ‬ ‫والبَدْرُ غُرةُ وَ ْ‬ ‫جوْزاء فـي أرْسَـاغِـه‬ ‫تتوَهمُ الْ َ‬
‫بصفا َء نُ ْقبَته مَـدَا ِوكُ صَـ ْيقَـلِ‬ ‫صافي الديم كأنَما عُـنِـيَتْ لـه‬
‫مهما تلحِظْها بَلحْـظٍ يخْـجَـل‬ ‫سيَ الخدودَ نَـوَاعِـمـاً‬ ‫وكأنما كُ ِ‬
‫ص ْهبَاءُ للبَرَدانِ أو قُـطْـ َربّـلِ‬ ‫َ‬ ‫صبْـغَـهـا‬ ‫وكأنما نَ َفضْتُ عليه ِ‬
‫نَظَرَ المُحب إلى الحبيبِ المُقْبـلِ‬ ‫مََلكَ العيون؛ فإن َبدَا أعْـطَـينـهُ‬
‫س أدهم يسميه غراباً‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وقال إسحاق بنُ خلف النهرواني لبي دُلَف‪ ،‬وكان له فر ٌ‬
‫شكَا إليك لَهُ الفـمُ‬ ‫لو يستطيعُ َ‬ ‫كم كم تجرَعه المنونُ ويسلـمُ‬
‫خَط ينمّقه الْحُسامُ المِـخْـذَمُ‬ ‫من كل منبت شعرة من جِ ْلدِهِ‬
‫حتى يَفُوتَ الريحَ وهو مقدَمُ‬ ‫جرْيهِ‬ ‫ما ُتدْ ِركُ الرواح أ ْدنَى َ‬
‫ضرّجه الدَمُ‬ ‫واللون أدْهَمُ حين َ‬ ‫طرَافُ السِنة أشْقراً‬ ‫ج َعتْه أَ ْ‬
‫رَ َ‬
‫وكأنَه ِبعُرَى المجرَة مُ ْلجَـمُ‬ ‫وكأنما عقد النجُو َم بِطَـ ْرفِـهِ‬
‫وقال أبو الطيب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شهْبُ في صُوَر الدُهْمِ‬ ‫ط َعنَهمْ وال ُ‬‫وأ ْ‬ ‫ق قَ ْومِـهـا‬ ‫ج َفتْني كأني لَسْت أنْطَ َ‬ ‫َ‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫إذ لح في السّرْج المحلّى الدْهَمُ‬ ‫ح ليْل مظلـم‬ ‫صبْ ِ‬
‫قد راح تحت ال ّ‬
‫ليُخَص بالـديبـاج إل الكْـ َرمُ‬ ‫ديباجُ أَلْوانِ الجـيادِ‪ ،‬ولـم يكـن‬
‫وكذا الظل ُم تنِيرُ فـيه النـجـمُ‬ ‫جيْنُ على سَوا ِد أدِيمـه‬ ‫حكَ الل َ‬ ‫ضِ‬ ‫َ‬
‫وكأنما هُوَ بالـثـريا مُـلـجَـمُ‬ ‫فكأنه ببنات نـعْـشٍ مـلـبـب‬
‫قلت‪ :‬هذا من قول ابن المعتز‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ونَجْم الدُجَى تحت المغارب يَ ْركُض‬ ‫َألَ فاسقياني والظـل ُم مُـقَـوّض‬
‫تَفتّح نَوْرٍ أو لِجـا ٌم مـفـضـض‬ ‫كأنّ الثريا فـي أواخـرِ لَـيلِـهـا‬
‫وقال أبو الفتح‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫في ُه وبين يقينهِ الـمِـضْـمـارُ‬ ‫مَنْ شَك في فضلِ ال ُكمَيْت فبينـه‬
‫أخبَارُه إذ ُتبْـتَـلـى الخـبـارُ‬ ‫في منظَ ٍر مستحسَنٍ محـمـودة‬
‫ض ُر فيه فـنَـار‬ ‫ستُدرَ الْحُ ْ‬ ‫فإذا أ ْ‬ ‫ماء تَـ َدفّـق طَـاعَةً وسَـلَسَة‬
‫لتُـدِيرَه فـكـأنّـه بِـركَــارُ‬ ‫ت به عـلـى نَـاوَ ْردِه‬ ‫وإذا عَطَ ْف َ‬
‫أَ ْهدَى الْخَلوق لجلـدِه عَـطّـار‬ ‫وصف الخَلوقَ أَديِمه فكَـأنـمـا‬
‫ي من ال ِعتَاق قِصَارُ‬ ‫والرُسْغ‪ ،‬وه َ‬ ‫لدَةُ نحْـرِهِ وعِـذَارِه‬ ‫ت قِ َ‬‫قص َر ْ‬
‫وكأنما للضـبـع فـيه وِجـارُ‬ ‫ع مُـشْـ ِرفٌ‬ ‫وكأنما هاديه جِـذ ٌ‬
‫طرْفك خَلْفَه فـتـحـارُ‬ ‫ويَرُودُ َ‬ ‫سنْبـكٍ‬ ‫يَ ِردُ الضحَاضِحَ غير ثاني ُ‬
‫حَا َكتْه من َأشْكالِـهـا الطْـيَارُ‬ ‫لو لم تكن للخيل نسبة خَـلْـقـهِ‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ط ُذبّـــل‬
‫أنـابـيبُ سُـمـ ٌر مـن قَـنَـا الــخَـــ ّ‬ ‫وخَـيْل طَـواهـا الـقَـ ْودُ حـتـى كــأنّـــهـــا‬
‫ت بها أيدٍ سِرَاعّ وأرْجُلُ‬ ‫سيَاطنافطارَ ْ‬ ‫صببْنا عليها ظالمين ِ‬
‫ن ابن المعتز أشار إلى قول أعرابي مولد‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫شوٍ جرى في بيت‪ ،‬وكأ ّ‬ ‫قولُهُ‪ :‬ظالمين من َأبْدَع حَ ْ‬
‫إذا هـاج شَـ ْوقِـي مـن مـعـــاهـــدهـــا ذِكـــر‬ ‫وعَـ ْودٍ قـلـيل الـــذنـــب عـــا َودْتُ ضـــربَـــه‬
‫سبّبتْلك الضّ ْربَ‪ ،‬فاصبر إنّ عادتَك الصّبر‬ ‫فقلت له‪ :‬ذَلفا ُء ويْحَك! َ‬
‫قال ابن المعتز‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫كقدْح النّبع في الرّيش اللُؤامِ‬ ‫أراجعتي ِفدَاك بأعـ َوجِـيّ‬
‫بغُ ّرتِ ِه دَياجِـيرَ الـظّـلم‬ ‫لمِ أغ ّر يَجْـلُـو‬
‫بأدهمَ كالظّ َ‬
‫جوّ ال َغمَام‬ ‫صُعودَ البَ ْرقِ في َ‬ ‫صعَـدْنَ فـيه‬ ‫تَرَى أحْجَاله يَ ْ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫ل مَدَاكِ الطّيبِ‬ ‫ق ِمثْ ِ‬
‫في ُأفُ ٍ‬ ‫صبْحُ كالمَشيبِ‬ ‫غتَدي وال ّ‬ ‫قد أَ ْ‬

‫‪88‬‬
‫ذي أُذن كخُوصَةِ العَسي ِ‬
‫ب‬ ‫بقارح مـسَـوّم َيعْـبُـو ِ‬
‫ب‬
‫سبِقُ شأَوَ النظرِ الرّحيب‬
‫يَ ْ‬ ‫أو أسةٍ أ ْوفَتْ على قَضِيب‬
‫ومن رُجوع لحظة المُرِيبِ‬ ‫سرَع من ماءً إلى َتصْوِيب‬ ‫أَ ْ‬
‫وقال‪ :‬المديد‪:‬‬
‫شدَ ِرحَـا ِ‬
‫ل‬ ‫نحو إسْرَاجٍ و َ‬ ‫رُب َركْب عرّسوا ثم َهبّوا‬
‫عجَالِ‬‫تَ ْأكُلُ الرْضَ بَأ ْيدٍ ِ‬ ‫عدَوْنـا بـأعِـنة خـيل‬ ‫وَ‬
‫كبدورٍ في ُوجُـوهٍ لـيال‬ ‫زينتها غررّ ضَاحِـكـاتّ‬
‫وقال علي بن محمد الياديَ‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫جهَهُ ال َبدْرُ‬
‫ومَشَى فقبّل َو ْ‬ ‫مسحَ الظلم بعرفه يدَهُ‬
‫وقال الناشئ أبو العباس عبد ال بن محمد‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫شرِ ساقه‬ ‫شهب تسيل على نَوَا ِ‬ ‫ح من لِـيطَةٍ‬ ‫أحْوَى عليه مَسائ ٌ‬
‫أَثنَاؤُها مشدودةٌ بِنـطَـاقـهِ‬ ‫فكأَنه مُتَـلـفـع قـبـطِـية‬
‫صبْح في إشراقه‬ ‫و َبيَاضه كال ُ‬ ‫لمِـهِ‬ ‫فَسَوادُه كالَليْل في إظـ َ‬
‫عيْنٌ على أعْـرَاقِـهِ‬ ‫أخْلَقه َ‬ ‫صافي الدِيم كريمةٌ أنسَابـهُ‬
‫ل بن أحمد بن ميكال‪ ،‬وقد زاره الميرُ في داره‪:‬‬ ‫كتب أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي إلى المير أبي الفضل عبد ا ّ‬
‫الكامل‪:‬‬
‫ج ّدكَ بالخـلـود كَـفِـيل‬ ‫وعلوّ َ‬ ‫جدُك للسّـمَـاك رَسِـيل‬ ‫ل زال مَ ْ‬
‫أهلُ العُلَ لزمانهـم تَـحْـجِـيلَ‬ ‫يا غُرَةَ الزمنِ البـهـيم إذا غَـدَا‬
‫ي مِنَ الجَمـال ظـلـيل‬ ‫ظِلّ عل َ‬ ‫يا زائرًا مَدّت سَحَـائبُ طَـوْلـه‬
‫ظمْنَ لمفْرقـي إكْـلِـيلَ‬ ‫حتى انت َ‬ ‫وأتت بصَ ْوبِ جواه ٍر من لَفْظِـه‬
‫يس َتعْجِلُ التسبيحَ والـتـهـلـيل‬ ‫ل نُـورُهُ‬ ‫بأبي وغَـيْر أبـي هِـل ٌ‬
‫حوْتُ رسومَه تَـقْـبِـيل‬ ‫نَقْشًا مَ َ‬ ‫نقشت حوا ِفرُ طِرفِه في عَرصَتي‬
‫ن ل تَرَى التـكْـحِـيلَ‬ ‫بعيون عِي ٍ‬ ‫ت مَس َقطَ خَطوه‬ ‫ولو استطعت فرَش ُ‬
‫ت بين َيدَيْ هَوا ُه قَـتـيل‬ ‫وخَرَ ْر ُ‬ ‫ونثرتُ رُوحي بعدما مََلكَـت يَدِي‬
‫وقال أبو القاسم بن هانئ يصف خيل المعزّ‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عتْ هَامَ الكُماةِ السنَا ِبكُ‬ ‫إذا فَرَ َ‬ ‫له المُ ْقرَبات الْجُ ْر ُد ُي ْنعِلُها دمـاً‬
‫ك فيها ذائبَ ال ّتبْرِ سابِـكُ‬ ‫س ِب ُ‬
‫ويَ ْ‬ ‫ب مَاءه‬ ‫يُرِيق عليها اللؤلؤُ ال َرطْ ُ‬
‫ُأمّ َرتْ عليها بالشموس ال َمدَا ِوكُ‬ ‫صقيلت أجْسامِ البرُوق كأنمـا‬
‫وقال يصف فرساً لجعفر بن علي بن حمدون‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل ماءُ ا ْلحُسن فيه غريقُ‬ ‫إذا جا َ‬ ‫ل مَصْقُولَ النواحي كـأنـه‬ ‫تهلَ َ‬
‫كما شِيبَ بالمسكِ الفتيق خَلوقُ‬ ‫ب بِ ُك ْمتَةٍ‬ ‫مِنَ ال ُبهْم وَ ْردُ اللون شِي َ‬
‫سبَجٌ منه وذَابَ عَقِـيق‬ ‫جَرَى َ‬ ‫فلو مِي َز منه كبنُ لون بـذاتـه‬
‫وقال في قصيدة يمدح بها أبا الفرج الشيباني‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫وأم َدكُ ْم فَلَقُ الصَباح المسـفِـرِ‬ ‫ل ِد بعَـنْـبَـرِ‬ ‫َفتَقَتْ لكم رِيحُ الجِ َ‬
‫خضَرِ‬ ‫بالنص ِر من وَرَق الحديد ال ْ‬ ‫وجنيتمُ ثمـرَ الـوقـائع يانـعـاً‬
‫ف المَشْرَفية والعديد الكْـثَـرِ‬ ‫س ْمهَرِية والـسـيو‬ ‫أبني العوالي ال َ‬
‫تحت السَوابغِ تبعٌ في حـمـيَرِ‬ ‫مَنْ منكم الملكُ المطـاعُ كـأنَـهُ‬
‫خُزْراً إلى لحظ السنان الخْـزَر‬ ‫القائدَ الخيل العِـتـاق شـوازبـاً‬
‫قُب الياطل دامِـيات النْـسُـرِ‬ ‫شعْثَ النَوَاصِي حَسْـرَ ًة آذانُـهـا‬ ‫ُ‬
‫صعَـرِ‬ ‫فيَطَأنَ في خد العزيز ال ْ‬ ‫عفَرِ الـثـرى‬ ‫تنبَو سناب ُكهُن عن َ‬
‫وخَلوقهم عََلقُ النَجيع الحـمـر‬ ‫في فتية صدَأُ الحديدِ عَـبِـيرُهُـمْ‬
‫مما عليه من القَنا المتـكَـسـر‬ ‫ل يأكلُ السرحانُ شِلْوَ عقـيرهـم‬
‫وقال في قصيدة يمدح بها إبراهيم بن جعفر بن علي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫صهواته والحسن والتطهـيمُ‬ ‫فخرٌ لِطْرفٍ أعوجي أنْتَ في‬
‫مَلك تَدينُ له الملوكُ عَظـيمُ‬ ‫ُيبْدِي لعزَك نَخْوَةً‪ ،‬فكـأنّـهُ‬
‫صرِيمُ‬ ‫جنّة والصباحِ َ‬ ‫بين الدُ ُ‬ ‫هادٍ على الخيلِ العِتاق‪ ،‬كأنَهُ‬
‫تحت الدُجَى ولطَرْفه َتنْجِـيمُ‬ ‫س َم َعيْه عيافَةٌ‬ ‫سامي القَذال بمِ ْ‬
‫وحَشاً أقب‪ ،‬وكَ ْلكَل ملمـومُ‬ ‫أذُن مُؤَللةٌ‪ ،‬وقلب أصْـمَـع‬
‫ش من أنْفَاسِه َمهْـزُومُ‬ ‫والجي ُ‬ ‫صهَواته ُمتَزَلْ ِزلٌ‬ ‫فالطّ ْودُ من َ‬
‫وصفَا فقُ ْلنَا ما عـلـيه أديمُ‬ ‫ن فَضَل عنها لونُه‬ ‫ق العيو َ‬
‫خَ َر َ‬

‫‪89‬‬
‫ض مَرْكومُ‬ ‫عنْه عارِ ٌ‬ ‫ب َ‬ ‫وانْجا َ‬ ‫ت علـيه مُـ ْزنَة‬‫ج َمدَ ْ‬‫فكأنما َ‬
‫ت عليه نُـجـومُ‬ ‫وكأنما كُسِ َف ْ‬ ‫ت عليه بَـوارِقٌ‬ ‫وكأنما نُحِ َر ْ‬
‫حمُـومُ‬ ‫ق سَراته‪ ،‬وكأنه اليَ ْ‬ ‫ك ابنُ المنذِرِ النعمانُ فو‬ ‫وكأن َ‬
‫وقال علي بن محمد اليادي يصف فرس أبي عبد الّ جعفر بن أبي القاسم القائم‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عدَ ر ْكنُه من ركْـنِـهِ‬ ‫َقصْ ٌر تبا َ‬ ‫وأقب من لَحْق الجـيادِ‪ ،‬كـأنـه‬
‫سمْرِ صفَا المسيل و ُد ْكنِهِ‬ ‫غدَتْ ب ُ‬ ‫وَ‬ ‫ب فِـضّةٍ‬ ‫ت قوائمهُ عصـائ َ‬ ‫س ْ‬‫َلبِ َ‬
‫حتَبس الظل ُم بمتْـنِـهِ‬ ‫حُسناً‪ ،‬أو ا ْ‬ ‫وكأنما انفجرَ الصَباحُ بـوجـهـهِ‬
‫ض ْغنِه‬ ‫ورضا القلوب إذا اصطليْنَ ب ِ‬ ‫شخْـصـه‬ ‫َق ْيدُ العيون إذا بصرْنَ ب َ‬
‫بَازٍ تروح به الْجَنوب لـ َوكْـنِـهِ‬ ‫سيْطِر بالـراكـبـينَ‪ ،‬كـأنّـهُ‬ ‫ُمتَ َ‬
‫بكمال خِ ْلقَـتِـه و ِدقّة حُـسـنِـهِ‬ ‫يستوقف اللحَظَاتِ في خَطَـراتِـه‬
‫غ بدائعًا مـن لـحـنِـه‬ ‫حا ٍد يَصُو ُ‬ ‫حُلْوُ الصَهيل تخال في لَـهَـواتِـه‬
‫ف كـاهِـلِـ ِه و ِدقّ ُة أ ْذنِـه‬ ‫إشـرا ُ‬ ‫متجبّر ُي ْنبِـي بـعِـتْـق نِـجـارهِ‬
‫وشهامةٍ طمحت به عن قِـ ْرنِـه‬ ‫ت بـه عـن نِـدهِ‬ ‫ذو نَخْوَةٍ شمخـ ْ‬
‫سهْل البلدِ وحَـزْنـه‬ ‫جارٍ على َ‬ ‫وكـأنـهُ فـلـكٌ إذا حـركـتَـهُ‬
‫حمْلَ النسيم لوابل مـن مُـزْنـه‬ ‫َ‬ ‫قد راح يحمِلُ جعف َر بن محـمـدٍ‬
‫وما أحسن ما قال أبو الطيب المتنبي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن َتغْـرُبُ‬ ‫أُراقِبُ فيه الشّمسَ أيا َ‬ ‫ويوم كَلَوْنِ العاشقينَ كَـمَـنـتـه‬
‫ق بين عينيه كَ ْوكَـب‬ ‫ل با ٍ‬ ‫مِنَ اللي ِ‬ ‫عيْني إلى ُأ ْذنَـي أغـرَ كـأنـهُ‬ ‫وَ‬
‫تجيءُ على صدْرٍ رحيب وتذْهَبُ‬ ‫له فَضْلةٌ عن جسمِه في إهَـابـه‬
‫طغَى‪ ،‬وأرْخيه مِرارًًا في ْلعَـبُ‬ ‫فيَ ْ‬ ‫عنَـانَـهُ‬ ‫ت به الظ ْلمَاءَ‪ُ ،‬أدْني ِ‬ ‫شقَقْ ُ‬
‫ل عنه ِمثْلَـه حـينَ أ ْركَـبُ‬ ‫وأنْزِ ُ‬ ‫ص َرعُ أي الوَحْش َقفّـ ْيتُـه بـهِ‬ ‫وأ ْ‬
‫ن ل يُجَرّبُ‬ ‫عيْنِ مَ ْ‬ ‫وإنْ َكثُ َرتْ في َ‬ ‫وما الخيلُ إلّ كالصَـدَيقِ قـلـيلة‬
‫وأعْضائها فالْحُسنُ عنك مُغـيبُ‬ ‫حسْنِ شِياتِـهـا‬ ‫إذا لم تُشَا ِهدْ غيْرَ ُ‬
‫وينخرط في سِلْك هذا المعنى مقامة من مقامات السكندري في الكُدْية‪ ،‬ممّا أنشأه بديعُ الزمان وأمله في شهور سنة خمس وثمانين وثلثمائة‪.‬‬
‫ض عليه فَرسٌ‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫قال البديع‪ :‬حدّثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬حضرْنا مجلسَ سيف الدولة يومًا وقد عُرِ َ‬
‫متى ما تَرَق العين فيه تَسهّل‬
‫ل المير! رأيْتُ‬ ‫صلَح ا ّ‬ ‫خ َدمِه‪ :‬أ ْ‬
‫ع ْندَه؛ فقال أحد َ‬ ‫ج ْهدَه‪ ،‬وبذل ما ِ‬ ‫ظتْهُ الجماعة؛ فقال سيف الدولة‪ :‬أيكم أحْسَنَ صفته‪ ،‬جعلته صِلَته؛ فكلّ جَهد َ‬ ‫فلحَ َ‬
‫حضَاره‪.‬‬ ‫ف البصا ُر عليه‪ ،‬يُسَلَي الناس‪ ،‬ويشفي الياس‪ ،‬ولو أمر المي ُر بإحضاره‪ ،‬لفضَلَهم ب ِ‬ ‫ل يَطأُ الفَصاحَة ب َنعْلَيْه‪ ،‬وتَق ُ‬ ‫بالمْس رج ً‬
‫ي به‪ ،‬ث ّم ُقرّب واستُدْني‪ ،‬وهو في‬ ‫ل دُعِ َ‬ ‫فقال سيفُ الدولة‪ :‬علي به في هيئته‪ ،‬فصار الخدمُ في طلبه‪ ،‬فجاءوا للوقت به‪ ،‬ولم ُيعْلِموه ليّ حا ٍ‬
‫ن قد أكل الدهرُ عليهما وشرب‪ ،‬وحين حضر السّماط‪ ،‬لثمَ البساطَ‪ ،‬ووقف‪ .‬فقال سيف الدولة‪ :‬بل َغتْنا عنك عارِضة‪ ،‬فأعرِضْها في هذا‬ ‫طمْ َريْ ِ‬
‫ِ‬
‫غيُوبهِ؟ فقال‪ :‬ار َكبْه‪ ،‬فركبه وأَجْراه‪ ،‬ثم قال‪ :‬أصلح الُّ‬ ‫ف عيوبه و ُ‬ ‫الفرس وصِفْه‪ .‬فقال‪ :‬أصلح ال المير! كيف به قبْلَ ركوبه و ُوثُوبه‪ ،‬وكَشْ ِ‬
‫خمْس‪ ،‬ضيق القَلْبِ‪،‬‬ ‫الميرَ! هو طويل الُذنين‪ ،‬قليل الثنين‪ ،‬واسع ا ْلمَراثِ‪ ،‬لين الثلث‪ ،‬غَليظَ الكرُع‪ ،‬غامض الربع‪ ،‬شَديد النّفس‪ ،‬لطيف ا ْل َ‬
‫سمْع‪ ،‬غليظ السَبع‪ ،‬رقيق اللسان‪ ،‬عريض الثمان‪ ،‬شديد الضّلع‪ ،‬قصير التّسع‪ ،‬واسع السحْر‪ ،‬بعيد العَشْر‪ ،‬يأخذ بالسابح‪،‬‬ ‫رقيق الست‪ ،‬حديد ال َ‬
‫ك عن قَارح‪ ،‬يحز َوجْ َه الكديد‪ ،‬بمداقّ الحديد‪ ،‬يُحْضِر كالبَحر إذا ماجَ‪ ،‬والسيل إذا هاج‪.‬‬ ‫حُ‬ ‫ق بالرّامح‪ ،‬ويَطلُع بلئِح‪ ،‬ويَضْ َ‬ ‫ويُطلِ ُ‬
‫ق بهذا‬ ‫فقال سيفُ الدولة‪ :‬لك الفرس مُباركًا فيه‪ .‬فقال‪ :‬ل زِلت تأخذُ النفاس‪ ،‬و َت ْمنَحُ الفراس‪ ،‬ثم انصرف‪ ،‬وتبعتُه‪ ،‬وقلت‪ :‬لك عليَ ما يلي ُ‬
‫الفرس من خِلعَة إن فسرْتَ ما وصفْتَ‪ ،‬فقال‪ :‬سَلْ عما أحببت‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬ما معنى قولك‪ :‬بَعيدُ العَشْر؟ فقال‪ :‬بَعيد النظر‪ ،‬والْخَطْو‪ ،‬وأعالي الْجَن َبيْن‪ ،‬وما بين ال َو ْق َبيْنِ والْجَاعِرتَين‪ ،‬وما بين الغُرَا َبيْنِ‪ ،‬والمنخرين‪،‬‬
‫وما بين الرُجلين‪ ،‬وما بين النقبة والصفاق‪ ،‬وبعيد القامة في السباق‪.‬‬
‫طرَة‪ ،‬قصير العَسيب‪َ ،‬قصِير القضيب‪ ،‬قصير‬ ‫ض فُوك! فما معنى قولك‪ :‬قصير التسْع؟ قال‪ :‬هاك‪ :‬قصير الشّعرة‪ ،‬قصير الُ ْ‬ ‫فقلت‪ :‬ل فُ ّ‬
‫س َغيْن‪ ،‬قصير النسَا‪ ،‬قصير الطهْر‪ ،‬قصير الوَظيفِ‪.‬‬ ‫العَضُدين‪ ،‬قصير الرُ ْ‬
‫فقلت‪ :‬ل أنت! فما معنى قولك‪ :‬عريض الثمان؟ قال‪ :‬عريض الْجَبهة‪ ،‬عريض الصهْوَة‪ ،‬عريض الكتف‪ ،‬عريض الْجنْب‪ ،‬عريض الورك‪،‬‬
‫عريض العَصَب‪ ،‬عريض البَلْدة‪ ،‬عريض صَفْحة العنق‪.‬‬
‫خ َذيْنِ‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬أحسنت‪ ،‬فما معنى قولك‪ :‬غليظ السبع؟ قال‪ :‬غليظ الذراع‪ ،‬غليظ المحْ ِزمِ‪ ،‬غليظ ال ُعكْوَة‪ ،‬غليظ الشوَى‪ ،‬غليظ الرُسْغِ‪ ،‬غليظُ الفَ ِ‬
‫حبَالِ‪.‬‬
‫غليظ الْ ِ‬
‫حفَلة‪ ،‬رقيق الديم‪ ،‬رقيق أَعْلَى الُذنين‪ ،‬رقيق‬ ‫فقلت‪ :‬ل درك! فما معنى قولك‪ :‬رقيق الست؟ فقال‪ :‬رقيق الجَفْن‪ ،‬رقيق السَالِفة‪ ،‬رقيق الجَ ْ‬
‫ضيْن‪.‬‬ ‫الغَر َ‬
‫جبّة‪ ،‬لطيف العُجَايَة‪ ،‬لطيف الر ْكبَة‪.‬‬ ‫جدْتَ‪ ،‬فما معنى قولك‪ :‬لطيف الخمس؟ قال‪ :‬لطيف الزور‪ ،‬لطيف النسْر‪ ،‬لطيف ال ُ‬ ‫فقلت‪ :‬أ َ‬
‫جيْن‪ ،‬غامض الشّظَى‪.‬‬ ‫حجَا َ‬
‫فقلت‪ :‬حياك ال! فما معنى قولك‪ :‬غامِض الربع؟ قال‪ :‬غامض أعالي ال َكتِ َفيْن‪ ،‬غامض المَ ْر ِف َقيْن‪ ،‬غامض ال ِ‬
‫غتَيْنِ‪ ،‬لَين العُرْفِ‪ ،‬لين العِنان‪.‬‬‫قلت‪ :‬فما معنى قولك‪ :‬لَين الثلث؟ قال‪ :‬لين المَ ْردَ َ‬
‫قلت‪ :‬فما معنى قولك‪ :‬قليل ال ْثنَين؟ قال‪ :‬قيل لَحم الوجه‪ ،‬قليل لحم ال َمتْنَين‪.‬‬
‫ت هذا العلم؟ قال‪ :‬من الثغور الموية‪ ،‬وبلد السكندرية‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬فمن أين َنبَا ُ‬
‫ك لهذا البَذْلِ؟! فأنشأ يقول‪ :‬المجتث‪:‬‬ ‫فقلت له‪ :‬أنت مع هذا الفضل‪ُ ،‬تعَرضُ وجه َ‬

‫‪90‬‬
‫فالدهر جِد سَخي ِ‬
‫ف‬ ‫جدّا‬‫ساخِفْ زمانك ِ‬
‫خيْرٍ ورِيفِ‬ ‫عشْ ب َ‬ ‫وِ‬ ‫دَعِ الحميةَ نِـسْـياً‬
‫يَجئ لنا بِرَغِـيفِ‬ ‫ل لعبـدك هَـذا‬ ‫وقُ ْ‬
‫سقط عنا تفسيره في لين الثلث‪ ،‬وأكث ُر هذا التفسير يحتاجُ إلى تفسير‪ ،‬ولم يُ ِردْ بما أورد إفْهام العَوامّ‪ ،‬والبلغة لمحة دالة‪ ،‬وبلغة النثر أخت‬
‫بلغة الشعر؛ وقد قال البحتري‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫طبُهُ‬ ‫وليس بالهَذر طُولتْ خُ َ‬ ‫والشعْرُ َلمْح يخفي إشارتُهُ‬
‫وسأقول في شرحه بكلم وجيز زيادة في الفادة‪ :‬ال َوقْبان‪ :‬نُقْرتان فوق العينين‪ .‬والجاعِرتان من الفرس‪ :‬موضع الرّقمتين من الحمار‪ ،‬وهما‬
‫سرّة حيث ينقب‬ ‫ضرْبه ب َذنَبه إذا حرَكه‪ .‬والغرابان‪ :‬الناتئان من أعلى الوركين‪ ،‬وفكر النقبة هنا‪ ،‬وهو الذي ُيعْرف بالمنْ َقبِ‪ ،‬وهو من ال ُ‬ ‫منتهى َ‬
‫البيطار‪ .‬والصَفاق‪ :‬الخاصرة‪ ،‬وقد قيل‪ :‬جلد البطن كفه صفاق‪ ،‬والذي أراده الخاصرة‪ .‬وأراد ِب ُبعْد القامة في السباق امتدادَهُ إذا جَرَى مع‬
‫الرض‪ .‬والُطرَة هنا‪ :‬طرف البْهر‪ ،‬وهي طِفطفة غلِيظة‪ .‬والبهر‪ :‬عِرْق يستبطن الظّهر‪ ،‬فيتّصل بالقلب‪ ،‬وقيل‪ :‬هو الكحل‪ .‬والعسيب‪ :‬عظم‬
‫الذنب‪ .‬والرّسْغ من الفرس‪ :‬موضع القيد‪ .‬والنّسَا‪ :‬عرق مستبطن الفخذين‪ ،‬وقصَره محمود في جرْي الفرس‪ ،‬ولكنه ل يسمح بالمشي‪ .‬والوظيف‬
‫لكل ذي أربع‪ :‬ما فوق الرُسْغ إلى الساق‪ .‬والصَهوة‪ :‬الظهر‪ .‬والبَلْدة‪ :‬ما بين عينيه‪ .‬وال ُعكْوَة‪ :‬مغرز الذّنب‪ .‬والشّوى‪ :‬الطراف‪ .‬والحبال‪ :‬حبل‬
‫ن من الفرس‪ :‬ما انحدر من قَصَبة النف من جانبيها‪ .‬والزور‪:‬‬ ‫حفَلة من ذوات الحافر‪ :‬كالشفة من النسان‪ .‬والغُرْضَا ْ‬ ‫العاتق والظهْر‪ .‬والجَ ْ‬
‫عصَب‬ ‫الصدر‪ .‬والنّسْر في الحافر‪ :‬لحمة يابسة أَسفَله يشبهها الشعراء بالنّوى‪ .‬والجبّة‪ :‬التي فيها الحوشب‪ ،‬والحَوْشب‪ :‬حشو الحافر‪ .‬والعُجَاية‪َ :‬‬
‫في قوائم الفرس والبعير مركب فيه فصوص من عظام كأمثال ال ِكعَاب تكون عند الرّسغ‪ .‬والحِجَاجان‪ :‬العظمان المُطِيفان بالعين‪ .‬والشّظَى‪:‬‬
‫عظم لصق بالذراع‪ .‬والمتنان‪ :‬جانبا الظهر؛ وسقط عنّا تفسير الثلث من نفس المقامة‪.‬‬
‫ما قيل في المواعد‬
‫ت منك منذ‬ ‫ت بك ُمنْذُ عرفتُك‪ ،‬ول إلى خيرٍ وصل ُ‬ ‫قال الجاحظ‪ :‬قال أبو القاسم بن معن المسعودي لعيسى بن موسى‪ :‬أيها المير‪ ،‬ما انتفع ُ‬
‫ت دون ذلك‬ ‫عدْت‪ ،‬وعاودت ما ابتَدَأْت؟ فقال‪ :‬حاَل ْ‬ ‫حبْتُك‪ ،‬فقال‪ :‬ولم؟ ألم أُكَلمْ لك أميرَ المؤمنين في كذا وكذا؟ قال‪ :‬بلى! فهل استنجزتَ ما و ِ‬ ‫صِ‬‫َ‬
‫حبْه‬‫ن من َربْضتِه‪ ،‬إنَ الوعدَ إذا لم يص َ‬ ‫ن نبهْتَ الهمّ من َر ْق َدتِه‪ ،‬وأث ْرتَ الحُزْ َ‬ ‫أمورٌ قاطعة‪ ،‬وأحوال عاذرة‪ .‬قال‪ :‬أيها المير‪ ،‬فما ِز ْدتَني على أ ْ‬
‫عدْه َقضَاءَها‪ .‬قال‪ :‬فقلت‪:‬‬ ‫ح فيه‪ .‬وكلّم منصو ُر بن زيادٍ يحيى بن خالدٍ في حاجةٍ لرجل‪ ،‬فقال‪ِ :‬‬ ‫ظ ل َم ْعنَى له‪ ،‬وجس ٍم ل رو َ‬ ‫إنجازٌ يحقّقُه كان كلف ٍ‬
‫ف موضِعَ الصّنائع من القلوب‪ ،‬إنّ الحاج َة إذا لم يتقدمها مَوْعد‬ ‫ل من ل يعر ُ‬ ‫أصلحك الّ! وما َيدْعُوك إلى العِدَة مع وجود القدرة؟ فقال‪ :‬هذا قو ُ‬
‫جدَ رائِحته؛ وتمطَق به‪ ،‬وتطعَمه ثم‬ ‫طعَام؛ وليس من فَاجأ ُه طعا ٌم كمن َو َ‬ ‫عدَ تطعُم والنجاز َ‬ ‫يُنتظر به نُجْحُها لم تتجاذَب النفس سرورها؛ إن الوَ ْ‬
‫حلّ‪.‬‬ ‫ف مَ َ‬‫ن مَوْقع‪ ،‬ولُطْ ُ‬ ‫حسْ ُ‬
‫ختَ ْم بالوَعد؛ ليكونَ بها عند المصطنع ُ‬ ‫طعِمه؛ ف َدعِ الحاجَة تُ ْ‬‫َ‬
‫ل بن مُصْعب الزبيري معرَضاً بقول مضرس السدي‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ي عيسى بن دَأْب جَارِيةً‪ ،‬ثم وهبها له‪ ،‬فأنشده عبد ا ّ‬ ‫ووعد المهد ُ‬
‫ن قِدمًا بين أي ٍد تبادرُه‬ ‫وإن كَا َ‬ ‫ن مِنْ صالحٍ أَن َتنَالَهُ‬ ‫فل تيأسَ ْ‬
‫ل فلنة‪ ،‬لجاريةٍ أخرى؛ فقال عبد ال بن مصعب‪ :‬الرجز‪:‬‬ ‫فضَحك المهدي‪ ،‬وقال‪ :‬ادفعوا إلى عبد ا ّ‬
‫أراح من مَطْل وطُول َكدّه‬ ‫خيْرُ الناس قبل وَعدِهِ‬ ‫أنجز َ‬
‫فقال ابن دأب‪ :‬ما قلت شيئاً‪ ،‬هل قلت‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫ب ُي ْنهَزُ‬ ‫ف َكنَه ٍ‬ ‫خيْرَ في العُرْ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫حَلَوَةُ الفضل بوعْـدٍ ُينْـجَـزُ‬
‫فقال المهدي‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫ضمَانُ‬
‫ن إذا تَ َقدّمه َ‬ ‫ُ‬ ‫عدُ أحْسنُ ما يكو‬ ‫الوَ ْ‬
‫وقد قال أبو قابوس النصراني يمدح يحيى بن خالد‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫عليه‪ ،‬يَأتي اَلذِي لم يَأتـه أحَـدُ‬ ‫لّ ِنعْـمَـتَـه‬ ‫حيَى‪ ،‬أتمّ ا ُ‬ ‫رأيتُ ي ْ‬
‫إلى الرَجال‪ ،‬ول َينْسَى الذي يعِدُ‬ ‫َينْسَى الّذي كان من معروفه أَبداً‬
‫وقال أبي الطيب المتنبي‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ن نُحُورِ الكُما ِة لَ ا ْلحُلُمُ‬ ‫طعْ ُ‬
‫َ‬ ‫قَوْ ٌم بُلوغُ الغُل ِم عنـدَهُـمُ‬
‫صغَرٌ عَاذرٌ ول هَـ َرمُ‬ ‫ل ِ‬ ‫كَأَنما يُوَلدُ النّدى مَـعَـهُـمْ‬
‫وإنْ تَوََلوْا صنيعَةً َك َتمُـوا‬ ‫إذا تَوَالَوا عداوَ ًة كَشَـفـوا‬
‫أ َنهُ ُم أ ْنعَموا وما عَلِـمـوا‬ ‫عتِدادَهُـمُ‬ ‫ن من َف ْقدِكَ ا ْ‬ ‫تظُ ّ‬
‫ودخل أبو عليّ البصير على الفضل بن يحيى‪ ،‬فأنشده‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫وبدا َيمْزَح بالهَجْـرِ فـجـد‬ ‫صفَ الص ّد لمَنْ أَهَوَى فصدْ‬ ‫وُ ِ‬
‫وهو ل يعدِلُهُ عِنـدي أحَـدْ؟‬ ‫عنّـي وَجْـهَـهُ‬ ‫ما لَ ُه يعدل َ‬
‫سدْ‬‫يطلب الغروّة في خِيسِ ال َ‬ ‫ل تُريدوا غِرّة ال َفضْل‪ ،‬ومـنْ‬
‫ح منَـا مـا فَـسَـدْ‬ ‫َوبِ ِه نُصْلِ ُ‬ ‫ملكٌ َن ْدفَ ُع ما نَـخْـشَـى بِـهِ‬
‫وإذا ما أ ْنجَزَ الفضـلُ وَعَـدْ‬ ‫ُينْجِزُ النـاسُ إذا مـا وَعـدُوا‬
‫وقال ابن الرومي في هذا المعنى‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ق الميعادَ بالصّـفـدِ‬ ‫سبِ ُ‬‫لكنها تَ ْ‬ ‫ت بـادِرَةٌ‬ ‫له مواعدُ بالـخَـيْرَا ِ‬
‫ضيّع َبعْدَ اليومِ حق غَـدِ‬ ‫ول يُ َ‬ ‫ُيعْطِيكَ في اليوم حق اليوم مبتدئاً‬
‫في البرّ والنعام‬
‫جهِل طريقته التي و َقعَتْ به على النَعمة كان ِبعُرْضِ‬ ‫ب َمدْخَله في الكرامة‪ ،‬و َ‬ ‫ن بن عبد الملك فقال‪ :‬أيها الناسُ‪ ،‬مَنْ لم يعلم أبْوَا َ‬ ‫خطب سليما ُ‬
‫ب بفادح خُسْران‪.‬‬ ‫رُجوعٍ إلى دارِ هَوَان‪ ،‬وانقل ٍ‬

‫‪91‬‬
‫شيْئاً‬
‫جبُه‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬كنّا كما قال الّ تعالى‪َ " .‬هلْ أتى عَلَى النْسَانِ حِين مِنَ الدَهْرِ لَ ْم َيكُنْ َ‬‫فقام إليه أبو وائلة السدوسي‪ ،‬وهو حا ِ‬
‫مَذكُوراً"‪ ،‬ثم صِرْنا كما قال زُهير‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫بإحسانٍ فليس لها مُزيلُ‬ ‫يَدُ المَِلكِ الجليل تناوَل ْتهُمْ‬
‫ورَبي بالجزاء له كَفِيلُ‬ ‫جمَعَ في يَ َديْه‬
‫لنَ الخيرَ َأ ْ‬
‫فقال سليمان‪ :‬هذه وال المعرِفةُ ب َقدْرِ النَعمة‪ ،‬والعل ُم بما يَجب للمنعم‪.‬‬
‫ب بني العباس‪ ،‬قاعداً على الرض‪ ،‬فقال الحاجبُ‪ :‬ارتفِعْ يا أَبا المعلّى إلى‬ ‫ورؤي يونس بن المختار في دار المأمون‪ ،‬ومرت َبتُه في أَعلَى مراتِ ِ‬
‫ل يَفي بها‪ ،‬فلِم ل أكرِمها عن القعود عنها إلى أن يتهيأ لي الشكر عليها؟ فبلغ‬ ‫مَرتبَ ِتكَ‪ ،‬قال‪ :‬قد رفعني الّ إليها بأمير المؤمنين‪ ،‬وليس لي عم ٌ‬
‫الكلمُ المأمونَ؛ فقال‪ :‬هذا وال غايةُ الشكر‪ ،‬وبمثله تدر ال َنعَم‪.‬‬

‫ل تباعُداً‪ .‬فقال‪ :‬يا هذا‪ ،‬إني َأصُون تقريبَه إياي‬ ‫وقال رجل للمعلى بن أيوب‪ ،‬وقد َرفَعه المعتصمُ إلى مرتبَة أَهْل بيته‪ :‬ما يزيدُك التقريبُ إ ّ‬
‫ح ْرمَتي عنده بقلّةِ الشك ِر على نعمته‪.‬‬ ‫بتباعدي منه؛ لئلَ تفسد ُ‬
‫ب عليك! قال‪ :‬يا‬ ‫ولما استعانَ المنصو ُر بالحارث بن حسان قال له‪ :‬يا حارث‪ ،‬إني قد مكنتك من حُسْنِ رَأيي فيك‪ ،‬فاحفَظْ ُه بتركِ إغفال ما يج ُ‬
‫ل ِمثْلِها‪ ،‬وانقطع رجاؤُه من الزيادة‬ ‫س من َنيْ ِ‬ ‫ل النعمة‪ ،‬وََلهَا عَن الحال التي أصارَتهُ إليها‪ ،‬استصحبَ اليأ َ‬ ‫غفَل سببَ حُلو ِ‬ ‫أمي َر المؤمنين‪ ،‬مَنْ أَ ْ‬
‫فيها‪ ،‬فقال أبو جعفر‪ :‬مَن كانت عنده هذه المعرفة دامَت النعمةُ له‪ ،‬وبقي الحسانُ إليه‪.‬‬
‫لَ منذ ولّيت الخلفةَ بشيءً عظُم موقُعه عندي‪ ،‬بعد جميل عافيةِ ال‪ ،‬هو‬ ‫ل بن طاهر عند قدومه من مصر‪ :‬ما سرَني ا ُ‬ ‫ولما قال المأمونُ لعبد ا ّ‬
‫أكثر من سروري بقدومك‪ ،‬فقال عبدُ الّ‪ :‬إيذَنْ لي يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬في تفريق َأمْوالي من طَا ِرفٍ وتالد‪ .‬قال‪ :‬ولم؟ قال‪ :‬شكراً على هذه الكلمة؛‬
‫ل ببعض‬ ‫ل قَصّر بي الحياءُ عن النظرِ إلى أمير المؤمنين‪ ،‬فقال المأمون لمَنْ حضر من أهل بيته وقوَاده‪ :‬ما شيءٌ من الخلفة يَفِي لعبد ا ّ‬ ‫وإ َ‬
‫شكره‪.‬‬
‫وقال أبو نواس‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫شكْرِيه و ُمعْتَرفـا‬ ‫عن ضعف ُ‬ ‫قد قلتُ للعبـاس مـعـتـذراً‬
‫ضعُفَا‬ ‫ت قُوى شكري فقد َ‬ ‫َأوْهَ ْ‬ ‫أنتَ امرؤٌ جَلَ ْل َتنِـي نِـعَـمـاً‬
‫تَ ْلقَاك بالتّصريح منكـشـفـا‬ ‫فإَل ْيكَ منـي الـيوم تَـقْـدِمةً‬
‫حتى أقو َم بشكر مَا سَـلَـفـا‬ ‫ل تُـسْـدِيَنَ إلـي عــارِفةً‬
‫عارضه الناشئ واعترض معناه‪ ،‬فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حتى أقومَ بشُكرِ ما سََلفَـا‬ ‫إنْ َأنْتَ لم تُحْـدِثْ إلـيَ يداً‬
‫صرِفا‬ ‫ت بالْحِرْمان مُنْ َ‬ ‫جعْ ُ‬
‫ور َ‬ ‫ظ مِنكَ بـنـائل أبـداً‬ ‫لم َأحْ َ‬
‫وقال ابن الرومي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ع ْنهَا الجزاءُ‬ ‫تَ أمورًا يَضيقُ َ‬ ‫ن نعـو َد أنَـكَ أَوْلَـي‬ ‫عاقَنا أ ْ‬
‫ما ِل ِمعْشارِها َل َديْنـا كِـفـاءُ‬ ‫غمَرتْنا مِ ْنكَ اليادي اللّواتـي‬ ‫َ‬
‫ثُ َم قد َردَنا إلَـيْك الـحـياءُ‬ ‫َفنَهانا عنك الـحـياءُ طَـوِيلً‬
‫ن بَرَزْتَ الجفـاءُ‬ ‫وَلمَا حقّ إ ْ‬ ‫ن قَ ُربْتَ التـنـائي‬ ‫وَلمَا حقّ إ ْ‬
‫و َقدِيماً أريحَـتِ النـضـاءُ‬ ‫شكْرٍ أُريحـتْ‬ ‫غيْرَ أنا أنْضاءُ ُ‬ ‫َ‬
‫ألفاظ لهل العصر‬
‫في العجز عن الشكر لتكاثر النعام والبرّ‬
‫شأْوٌ‬
‫ش ْكرُه َ‬
‫عندي من بره ما ملك العتذار بأَ ِز َمتِه‪ ،‬وقبض أَلسِنةَ أمراء الكلم وأئمته‪ .‬عندي له مبارّ أعجزني شكرها‪ ،‬كما أعوزني حَصْرها‪ُ .‬‬
‫عجْماً‪ ،‬والفُصحاء ُبكْماً‪ .‬قد زحمني من مكارِمه ما يُحصَ ُر عنه‬ ‫لفَى التفريطَ في حقَه بإفراطي‪ .‬إحسانُه يُعيد العربَ ُ‬ ‫بعيدٌ ل تبلغه أشْوَاطي‪ ،‬ول أت َ‬
‫المبين‪ ،‬ويصحبه العي وبئس القَرين‪.‬‬
‫وقال أعرابي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شكْرِي للشكو ِر مَزِيد‬ ‫وما فَوْقَ ُ‬ ‫شكْ ِر بِرّهِ‬ ‫جزِ عن ُ‬ ‫رهنت َيدِي بالعَ ْ‬
‫ولكنً ما ل يُسَتـطـاعُ شَـدِيدُ‬ ‫ولو كان شيئاً يستطاعُ استط ْعتُـهُ‬
‫ت نعمتي‪ ،‬ولم تشكر معروفي‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬ ‫عدُ فرائِصُه؛ فلمّا مثل بين يديه قال المأمونُ‪ :‬كَفَ ْر َ‬ ‫وقال يحيى بن أكثم‪ :‬كنتُ عند المأمونِ‪ ،‬فأتى برجل تُرْ َ‬
‫لّ بك عليّ‪ ،‬فنظر إليّ المأمون‪ ،‬وقال متمثلً‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫جنْبِ ما أنعم ا ُ‬ ‫أمير المؤمنين‪ ،‬وأين يقعُ شكري في َ‬
‫لرفعةِ َقدْر أو علـ ّو مَـكـانِ‬ ‫جدٌ‬ ‫ولو كان يَسْتغني عن الشكر مَا ِ‬
‫فقال‪ :‬اشكروا لي أيّها الثقَـلَن‬ ‫لما أمر الَُ العبـادَ بـشـكـرهِ‬
‫ثم التفت إلى الرجل فقال‪ :‬هلّ قلت كما قال أصرم بن حميد‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ل ثنا ًء فيك مشـتَـغِـلُ‬ ‫كُلّي بك ّ‬ ‫ملكت حمدِي حتى إنَني رَجُـلٌ‬
‫فحُرّ ُشكري‪ ،‬لما خَو ْلتَني‪ ،‬خَوَل‬ ‫خُوّلت شكري لما خَوّلت من ِنعَمٍ‬
‫وقال أبو الفتح البستي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جزُ‬
‫وأقوَى الوَرَى عن ش ْك ِر بِرّك عا ِ‬ ‫شكْ ِر بِرَك قـوّتـي‬ ‫عجَ َزتْ عن ُ‬ ‫لئن َ‬
‫لفلكِ ما أوليتِـنـيهـا مَـراكِـزُ‬ ‫فإنّ ثنائي واعتقـادي وطـاقـتـي‬
‫وقال أبو القاسم الزعفراني‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ليس ُينْبي عن ُكنْهِ ما في فؤادي‬ ‫لي لسانٌ كأنـه لـي مُـعَـادِي‬

‫‪92‬‬
‫ت َقدْرَ ودادِي‬
‫صف قلبي عَ َر ْف ُ‬ ‫حكم الَُ لي عـلـيه فـلـو أن‬
‫وقال إسماعيل بن القاسم‪ ،‬أبو العتاهية‪ ،‬يمدحُ عُمر بن العلء‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حبَـال‬‫ت من المير ِ‬ ‫لمّا عَلِ ْق ُ‬ ‫إني َأ ِمنْتُ من الزمان و َريْبـهِ‬
‫حرَ الوجُو ِه ِنعَـال‬ ‫لحذَوْا له ُ‬ ‫س من إجللِـه‬ ‫لو يستطيعُ النا ُ‬
‫عمر‪ ،‬ولو يومًا تَزُولُ لـزال‬ ‫ما كان هذا الجودُ حتى كنت يا‬
‫سبَاسِباً ورِمـال‬ ‫قط َعتْ إليك َ‬ ‫ك لنّـهَـا‬‫إنَ المطايا تشتكـي َ‬
‫صدَرْنَ ثِقال‬ ‫ن بنا َ‬ ‫وإذا صدرْ َ‬ ‫فإذا و َردْنَ بنا وَ َردْن مُـخِـفَةً‬
‫وهي قصيدة سهلةُ الطبع‪ ،‬سلسلة النظام‪ ،‬قريبة المتناول‪.‬‬
‫خدُم المالَ‪ ،‬ما وصلنا إلى بعض‬ ‫ن عمر بن العلء وصلَه عليها بسبعين ألف درهم‪ ،‬فحسدته الشعراء‪ ،‬وقالوا‪ :‬لنا بباب المير أعَوا ٌم نَ ْ‬ ‫وروي أ ّ‬
‫هذا ا فاتصل ذلك به‪ ،‬فأمر بإحضارهم‪ ،‬فقال‪ :‬بلغني الذي ُق ْلتُم؛ وإنّ أحدكم يأتي فيمدحني بالقصيدة يشبّب فيها فل يَصِلُ إلى المدح حتى تذهب‬
‫لذّة حلوته‪ ،‬ورائقُ طلوته؛ وإنّ أبا العتاهية أتى فشبّب بأبياتٍ يسيرة‪ ،‬ثم قال‪ :‬إنّ المطايا تشتكيك؛ لنّها‪ ...‬وأنشد البيات‪ .‬وكان أبو العتاهية‬
‫لمّا مدحه بهذا الشعر تأَخر عنه برّه قليلً‪ ،‬فكتب إليه يستبطِئه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فنحن لها نَ ْبغِي التمائمَ والنُشَـر‬ ‫عمَرْ‬ ‫أصابت علينا جودَك العينُ يا ُ‬
‫حجَرْ‬ ‫ويا ربّ عين صُ ْلبَ ٍة تَفِْلقُ الْ َ‬ ‫عيْنٌ في سخائك صُلـبةٌ‬ ‫أصابتك َ‬
‫فإن لم تُ ِفقْ منها ر َق ْينَاكَ بالسُوَرْ‬ ‫سنَرْقيكَ بالَشعارِ حتى تّملّـهـا‬ ‫َ‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫صحْبي وجُـلسـي‬ ‫ح ُتكَ في َ‬ ‫إني َمدَ ْ‬ ‫يا ابنَ العَلء ويا ابْنَ القَرْم مـرداس‬
‫ستَحْيي مِـنَ الـنـاسِ‬ ‫فيما أَقول فأَ ْ‬ ‫ل تُـكَـذّبـنـي‬ ‫أُثني عليك ولي حـا ٌ‬
‫طأْطأْتُ من سُوء حالي عندها رَاسي‬ ‫َ‬ ‫ك من صَـفَـدٍ‬ ‫حتى إذا قيل‪ :‬ما أوْل َ‬
‫ستَحْي منه‪.‬‬
‫فأمر حاجبه أن يدفع إليه المال‪ ،‬وقال‪ :‬ل ُتدْخِلْه عَلَيَ‪ ،‬فإني أَ ْ‬
‫ل يتغنّى من القصيدة التي مرَت منها البيات في عمر بن العلء آنفاً‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وذكر بعضُ الرواة أنّ المهدي خرج متصيداً‪ ،‬فسمِعَ رج ً‬
‫حدٍ سِـوَاهُ جَـمَـال‬ ‫عيني على أ َ‬ ‫يا مَنْ تف َردَ بالجمال فمـا تَـرَى‬
‫وض َربْتُ في شِعرِي لك المثَال‬ ‫أكثرتُ في قولي عليك من ال ُرقَى‬
‫ل نـخـــوَ ًة ودَللَ‬ ‫وأبـيت إ َ‬ ‫فأبـيتَ إل جـفـوة وقَـطِـيعة‬
‫للَ؟‬‫ت قَتلي في الكتاب حَ َ‬ ‫جدْ ِ‬ ‫أوَ َ‬ ‫بالِّ قولي إنْ سألتك واصْـدُقـي‬
‫وجعلتني للعالـمـين نـكَـالَ؟‬ ‫أ ْم لَ‪ ،‬ففِيمَ جَفَوتني وظَلمْتـنـي‬
‫قد لمني و َنهَـى وعَـدَ َوقَـالَ‬ ‫سمَـ ُع قـولـه‬ ‫كم لئم لو كنت أ ْ‬
‫ي به‪ ،‬فجاءه‪ ،‬فقال‪ِ :‬لمَنْ هذا الشعر؟ قال‪ :‬لسماعيل ابن القاسم أبي العتاهية‪ ،‬قال‪ :‬لمن يقوله؟ قال‪ :‬ل ُعتْبة جارية المهدي‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫فقال المهدي‪ :‬عََل َ‬
‫كَ َذبْتَ‪ ،‬لو كانَتْ جاريتي لوَ َه ْبتُها له‪ ،‬وكانت عُتبة لرَيطة بنت أبي العباس السفاح‪ ،‬وكان أبو العتاهية فد بلغ من أمرها كل مبلغ‪ ،‬وكل ذلك فيما‬
‫زعم الروا ُة تصنع‪ ،‬وتخلق‪ ،‬ليُذكَر بذلك‪.‬‬
‫أبو العتاهية‬
‫قال يزيد بن حوراء المغني‪ :‬كلمني أبو العتاهية أَن أكلمَ المهدي في عتبة؛ فقلت‪ :‬إن الكلم ل يمكنني‪ ،‬ولكن قل شعرًا أغنيه إياه‪ ،‬فقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ي يَكفِيهـا‬ ‫الُ والقائ ُم المهدِ ُ‬ ‫نفسي بشيء من الدنيا ُمعَلقَة‬
‫فيها احتقارُك للدنيا وما فيها‬ ‫س منها ثم يط ِمعُني‬ ‫إني ليأ ُ‬
‫خبَرَ أبي العتاهية‪ ،‬فقال‪ :‬ننظرُ في أمره‪ ،‬فأخبرت بذلك أبا العتاهية؛ فمكث أشهراً‪ ،‬ثم‬ ‫فعملت فيه َلحْنًا وغ َن ْيتُه المهدي؛ فقال‪ِ :‬لمَنْ هذا؟ فأخبرته َ‬
‫حدَثَ خبر؟ فقلت‪ :‬ل‪ ،‬فقال‪ :‬غَنه بهذا الشعر‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫أتاني فقال‪ :‬هل َ‬

‫ب لِمـرِ‬ ‫إنمـا أخـرَ الـجـوا ُ‬ ‫شعْري ما عندكم ليت شعري‬ ‫ليت ِ‬


‫ب يُ َر ُد من بَعدِ شـهـ ِر‬ ‫من جوا ٍ‬ ‫ما جواب أولى بكـل جـمـيل‬
‫ت به المهدي‪ ،‬فقال‪ :‬علي بعُتبة‪ ،‬فأحضرت‪ ،‬فقال‪ :‬إن أبا العتاهية كلمني فيك‪ ،‬وعندي لكِ وله ما تحبانِ؛ فقالت له‪ :‬قد علم مولي‬ ‫قال يزيد‪ :‬فغنَي ُ‬
‫أمير المؤمنين ما أوجَبه من حق مولتي‪ ،‬فأُريد أن أذكُرَ لها ذلك؛ قال‪ :‬فافعلي؛ فأَعلَمتُ أبا العتاهية بما جرى‪ ،‬ومضت اليام؛ فسألني معاودةَ‬
‫ق فقل ما شئت حتى أُغنيه‪ ،‬فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫ت له‪ :‬قد عرفت الطري َ‬ ‫المهدي‪ ،‬فقل ُ‬
‫ب بـي ورَسـيمُ‬ ‫ك يَخ ُ‬
‫عنَق إلي َ‬ ‫َ‬ ‫ت قَلْبي مِن رَجائك مالَـهُ‬ ‫أَشرَب َ‬
‫أرْعَى مَخَايل بَ ْرقِـهـا وأشـيمُ‬ ‫ظرِي‬ ‫ت نحو سماءً ص ْو ِبكَ نا ِ‬ ‫وأمَلْ ُ‬
‫حتَـيْك نـسِـيم‬ ‫وإذا لها من را َ‬ ‫سمْتُ الرياحَ لحاجـتـي‬ ‫ولقد تن َ‬
‫ضمِنَ النجـاحَ كـريم‬ ‫إنّ الذي َ‬ ‫ت ثـم أقـولُ‪ :‬ل‬ ‫ولربما استيأس ُ‬
‫ي بعُتبة‪ ،‬فأَتت؛ فقال‪ :‬ما صنعت؟ قالت‪ :‬ذكرت ذلك لمولتي فأبتْه وكرِ َهتْه‪ ،‬فليفعَلْ أميرُ المؤمنين ما يريد‪ ،‬فقال‪ :‬ما‬ ‫فغنيته بالشعر‪ ،‬فقال‪ :‬عَلَ َ‬
‫ت لفعل شيئاً تكرهه‪ ،‬فأعلمت أبا العتاهة بذلك‪ ،‬فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫كن ُ‬
‫ت من حلّ ومن ترحال‬ ‫ح ُ‬‫وأَرَ ْ‬ ‫ل المـالِ‬ ‫ت منك حبـائِ َ‬ ‫قَطعْ ُ‬
‫ن بِبالـي‬‫ت وعدك َي ْعتَلِجْ َ‬ ‫وبنا ُ‬ ‫ما كان أشأ َم إذْ رجاؤك قَادَني‬
‫طمَعٍ وُلمْـعَةِ آلِ‬ ‫مالَت بذِي َ‬ ‫خلَبِ‬‫طمِعتُ لَرُب بَرْقٍ ُ‬ ‫ولئن َ‬

‫‪93‬‬
‫وقد نُقِلت هذه الحكاية على غير هذا الوجه‪ ،‬وال أعلم بالحقّ في ذلك‪.‬‬
‫وضرب المهدي أبا العتاهية مائة سوط لقوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عدْوَى‬ ‫ظبْي الخليفة مِنْ َ‬ ‫ومالي على َ‬ ‫ظبْياً للـخـلـيفة صـادَنـي‬ ‫ألَ إنَ َ‬
‫وقال‪ :‬أبي يتمرَسُ‪ ،‬ولحرمي َي َتعَرَضُ‪ ،‬و ِبنِسَائي َيعْبث؟ ونَفَاهُ إلى الكوفة‪.‬‬
‫وفي ضربه يقول أبو دهمان‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ضرْبهمْ إذا عشقوا‬ ‫عُشاق من َ‬ ‫لول اَلذِي أحدَث الخليفةُ لـل‬
‫كنيّ امرْ ٌؤ قد ثنانِيَ الفَـرَقُ‬ ‫لبُحْتُ باسمِ الـذي أحِـب ول‬
‫وكان أبو العتاهية بالكوفة‪ ،‬لمَا نفي‪ ،‬يَ ْذكُرُ عُتبة‪ ،‬ويكنّي باسمها‪ ،‬فمن ذلك قوله‪ :‬مجزوء الرمل‪:‬‬
‫بأَبـي أنْـت وأمّـي‬ ‫ستُ أسمـي‬ ‫قُلْ لمن ل ْ‬
‫بحْت من أ ْكبَرِ َهمّـي‬ ‫بأبي أنْت لـقـد أص‬
‫حمِـي‬ ‫إذْ أذاب الحب َل ْ‬ ‫ولقد قلـت لهْـلـي‬
‫فاكتَفُوا منّي بعلمـي‪:‬‬ ‫وأرَادُوا لي طـبـيبـاً‬
‫س ْقمِي‬
‫قى فإنَ الحبّ ُ‬ ‫جهَلُ مـا ألْ‬ ‫من يكن يَ ْ‬
‫سمِي‬ ‫دَ‪ ،‬وفي الكوفةِ جِ ْ‬ ‫إنَ رُوحِي لبـبـغـدا‬
‫وقوله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ت إذا مـــا ذِكْـــرُه خَـــطَـــرا‬ ‫ل بَـــكَـــيْ ُ‬‫إَ‬ ‫أَمـسـى بـبـغـدادَ ظَـبْــيٌ لَـــسْـــتُ َأ ْذكُـــ ُرهُ‬
‫ن أو َذكَـــرا‬ ‫عن الـحـبـيب بـــكـــى أوْ حَـــ َ‬ ‫إن الـمـحـب إذا شـــطَـــتْ مـــنـــازِلُـــهُ‬
‫حتـى أضـا َء عـمـودُ الـصُـبْـح فـانْـفَـــجَـــرا‬ ‫يَا رب لَـــيْلـــى طـــويل بِـــتّ أ ْرقُـــبـــهُ‬
‫ت البَـــرا‬ ‫أن الـمـضَـاجِـ َع مِـمّـا تُــنْـــبِـــ ُ‬ ‫ل مُـذْ عـــرفـــتـــكُـــمْ‬ ‫ما كـنـتُ أحـسِـب إ َ‬
‫ي إذا ما نَ ْومُ ُه نَفَرا‬
‫ن يَوْمِ الحِسَابِ عَلَىعَيْنِ الشّجِ ّ‬ ‫ل مِ ْ‬‫وَالَليْلُ أطْوَ ُ‬
‫ولمَا قدمت عُتبة ب َبغْداد قدِم معها أبو العتاهية‪ ،‬وتلطَف حتى اتّصَل بالرشيد في خلفة أبيه المهدي؛ وتمكّن منه‪ ،‬وبلغ المهديّ خبرُه‪ ،‬فأحضره؛‬
‫فقال‪ :‬يا بائس‪ ،‬أنت مستقتل‪ ،‬وسأَله عن حاله؛ فأنشده قصيدته التي يقول فيها‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫بِر في المناسبِ والعَـديدِ‬ ‫أنْتَ ال ُمقَـابِـلُ والـمُـدَا‬
‫لبُـوّة والـجُـدُودِ‬ ‫لةِ وا ُ‬ ‫َبيْنَ ال ُعمُـومَةِ والـخُـؤو‬
‫جدِ المَشِيدِ‬ ‫كَ فأ ْنتَ في المَ ْ‬ ‫فَإذَا ا ْن َتمَـيْتَ إلـى أبِـي‬
‫ن يَزِيدِ‬‫ل ِبَأكْـرَ َم مِـ ْ‬
‫خا ٌ‬ ‫ل فَـمـا‬ ‫وإذا انتمَى خَـا ٌ‬
‫يريد يزيد بن منصورة وكانت أم المهديّ أم موسى بنت منصور الحميري‪ ،‬وأنشده‪ :‬المديد‪:‬‬
‫سامعاتٌ َلكَ فِيمَنْ عَصَاكا‬ ‫عَِلمَ العَالَم أنّ الـمـنَـايا‬

‫ف منه َقنَاكـا‬
‫ت تَرْعُ ُ‬
‫جعَ ْ‬
‫رَ َ‬ ‫ج ْهتَها نـحْـوَ طَـاغٍ‬ ‫فإذا و ّ‬
‫في سماحٍ قص َرتْ عن َندَاكا‬ ‫ك يَومـاً‬ ‫وَلَوَ أنّ الريحَ با َرتْـ َ‬
‫وأنشده‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫إَليْهِ تُـجَـرّ ُر أذْيالَـهـا‬ ‫لفَ ُة مُـنْـقـادَةً‬
‫أتتْهُ الخِ َ‬
‫ولم َيكُ َيصْلُحُ إلّ لَـهَـا‬ ‫ك تَصْـلُـحُ إلّ لـهُ‬ ‫فلم َت ُ‬
‫لزُلزِلَت الرضُ زِلْزالَها‬ ‫ولو رامَها أحـدٌ غـيرهُ‬
‫َلمَا َقبِل الَُ أعمالَـهـا‬ ‫طعْه بناتُ القلوبِ‬ ‫ولو لم تُ ِ‬
‫ضرْبٍ وجيع؛ لقدامك على ما نُهيت عنه‪ ،‬وأعطيناك ثلثين ألف درهم جائزةً على مَدحِك لنا‪ .‬وإن شئتَ‬ ‫فقال له المهدي‪ :‬إن شئت أدَبناك ب َ‬
‫عَفَونا عنك فقط‪.‬‬
‫فقال‪ :‬بل يضِيف أمير المؤمنين إلى كريم عفوه جميلَ معروفه؛ ومكرُمتان أكث ُر من واحدة‪ ،‬وأمير المؤمنين أولى من شَفع نعمَته وأت ّم كرمه‪.‬‬
‫فأمر له بثلثين ألف درهم وعَفا عنه‪.‬‬
‫ولمَا قدم الرشيد ال َرقّة أظهر أبو العتاهية الزهد والتصوَف وترك الغَزل‪ ،‬فأمره الرشيد أن يتغزّل‪ ،‬فأبى‪ ،‬فحبسه‪ ،‬فغنّى بقوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حتْمِ‬
‫حتْمًا من ال َ‬ ‫تكونُ على القدار َ‬ ‫خَلِيليَ ما لي ل تزال مَضَـرَتـي‬
‫فهذا مقام المستجير من الظـلـمِ‬ ‫ل ما قد ظلمتَـنـي‬ ‫كفاك بحقّ ا َ‬
‫سمِيَ‬ ‫جْ‬ ‫ل مُس ِعدٌ حتى أنوحَ على ِ‬ ‫َأ َ‬ ‫َألَ في سبيل الّ جسمي وقُوتـي‬
‫فأمر بإحضاره وقال‪ :‬بالمس َينْهاك أمير المؤمنين المهدي عن الغَزل فتأبى إلّ لجاجًا ومَحْكا؛ واليوم آمرك بالقول فتأبَى جُرْأة عليّ وإقداماً‪،‬‬
‫جدّة‪ ،‬وبي حَراك وقُوَة‪ ،‬وأنا اليوم شيخ ضعيف ل يحسن‬ ‫ت ُيذْهبنَ السيئات‪ ،‬كنتُ أقول الغزلَ ولي شبابٌ و ِ‬
‫فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن الحسنا ِ‬
‫بمثلي تَصابٍ؛ فردَه إلى حبسه؛ فكتب إليه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يَرُوح عليَ الغَ ّم منك و َيبْـكُـرُ‬ ‫أنا اليوم لي‪ ،‬والحمدُ لّ‪ ،‬أشْهـرٌ‬
‫وما كنت تُوليني‪ ،‬لعلَك َتذْكُـرُ‬ ‫تذكّر‪ ،‬أمينَ الَِ‪ ،‬حَقّي وحُ ْرمَتي‬
‫ووجهُك من ماءِ البشاشة يقطُرُ‬ ‫ي تُدني منك بالقُرب مجلسي‬ ‫ليال َ‬
‫ف الدّهْ ِر َتنْظُرُ؟‬ ‫إليّ بها من سالِ ِ‬ ‫فمَن لي بالعين التي كنتَ مـرّة‬

‫‪94‬‬
‫فبعث إليه‪ :‬ل بأس عليك‪ :‬فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫سدٌ وأنْت علـيه راسُ‬ ‫له جَ َ‬ ‫ب فيه رُوح‬ ‫كأنّ الخلقَ َر ْك ٌ‬
‫وقد وقّعت‪ :‬ليس عليك باسُ‬ ‫حبْـسَ بـأسٌ‬ ‫أمين الّ إنّ ال َ‬
‫فأخرجه‪.‬‬
‫ت الول من هذين علي بن جبلة وزاد فيه‪ ،‬فقال لبي غانم الطوسي‪ :‬السريع‪:‬‬ ‫أخذ البي َ‬
‫ن تَسْقي من النّـاسِ‬ ‫طعِ ُم مَ ْ‬
‫يُ ْ‬ ‫دجلة تَسْقـي وأبـو غـانـمٍ‬
‫رَأس‪ ،‬وأنتَ العينُ في الرَاس‬ ‫والخلْقُ جِسمٌ‪ ،‬وإمام الـهـدى‬
‫عمر بن العلء‬
‫وكان عمر بن العلء ممدّحاً‪ ،‬وفيه يقول بشار بن برد‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫عمَـراً ثـ ّم نَـمْ‬‫فَنبّه لها ُ‬ ‫ظ ْتكَ حُرُوبُ ال ِعدَى‬ ‫إذا أيق َ‬
‫خضَم‬ ‫حرٌ ِ‬ ‫وقولُ العشيرة بَ ْ‬ ‫دَعَاني إلى عُمـرٍ جـودُهُ‬
‫لمدَح ريحانةً قبل شَـم‬ ‫ولول الذي ذكروا لم أكُنْ‬
‫ول يشرب الما َء إل بـدَم‬ ‫فتًى ل يَبيتُ علـى دِمـنَةٍ‬
‫أخذ هذا البيت أبو سعيد المخزومي‪ ،‬فقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫جمْ ِر ُم ْكتَـحِـلِ‬ ‫بالليل مش َتمِل بال َ‬ ‫وما يُرِيدون‪ ،‬لول الجبن‪ ،‬من َرجُل‬
‫ول يبيتُ له جارٌ عـلـى وَجَـلِ‬ ‫ل من قلِـيبِ دم‬ ‫ل يضربُ الماء إ َ‬
‫وقال أبو الطـيب‪ :‬الـطـويل‪:‬‬
‫جنُوبَ العَلئِق‬ ‫إذا الهامُ لم تَ ْرفَعْ ُ‬ ‫ضمَ الحَب خيْلُهُ‬ ‫ل تَق َ‬ ‫تعوَدَ أ َ‬
‫ن تحتَ الشَقـائِقِ‬ ‫ن الدَ ِم كال ّريْحَا ِ‬ ‫مِ َ‬ ‫ول تَرِد الغُـدْران إل ومَـاؤُهـا‬
‫وقال أبو القاسم بن هانئ‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫أشِباً‪ ،‬ويَوْماً بالَسنة أ ْكهَـبـا‬ ‫مَنْ لَ ْم يَرَ ال َم ْيدَان َل ْم يَ َر َمعْرَكاً‬
‫وفَوَارسًا َتعْدو صوالِجها الظبا‬ ‫وكتائبًا تُ ْردِي غَوَا ِربُها العِـدَى‬

‫طحْلُبا‬‫أو يكتسي ِبدَمِ الفَوَارس ُ‬ ‫سنْ ُبكَ سَابـحٍ‬ ‫ل يورِدون الماء ُ‬


‫قال‪ :‬وبلغ عمرَ بن العلء أن أبا العتاهية عاتبٌ عليه في َهنَاتٍ نالها منه في مجلس‪ ،‬وكان كثي َر النقطاع إليه‪ ،‬فتخلّف عنه‪ ،‬فساء ذلك عمر‪،‬‬
‫فكتب إليه‪ :‬قد بلغني الذي كان من تجنبك فيما استخفك به سوءُ الدب عن عِلْمِ حقيقةٍ مني‪ ،‬فصرت ُمتَردّدا‪ .‬من العمى في يَلمِيع الشبهة؛ ولو‬
‫كان معك من علمك داع إلى لقائي لكشفت لك مَوْ ِردَ المر ومصدره‪ ،‬لترجع إلى الصلة‪ ،‬فتقال أو تأبى إل الصّريمة فتَصْرِم؛ وقد قال الول‪:‬‬
‫الطويل‪:‬‬
‫وأخرج منه المحفِظَاتِ غَليلُ‬ ‫ع ْتبَهُ‬
‫ومُستَعتب َأبْدَى على الظن َ‬
‫فعاد إلى النصافِ وهو ذَليلُ‬ ‫كشفتُ له عُذراً فَأبْصَر وجهه‬
‫سخْطِك‪ ،‬على‬ ‫ج ْز بعَتْبي الحقيقةَ إلى الشبهة‪ ،‬ولم أجد سع ًة مع عظيم قدرتك إلى حمل اللئمة‪ ،‬فقصَر بي الخوفُ من ُ‬ ‫فأجابه أبو العتاهية‪ :‬لم أَ ُ‬
‫ل من المساوِي‪ ،‬ولو رغبت عن الصلة إلى القطيعة لتقاضيتك ذلك عن طول الصُحبة‪ ،‬وسالف المدّة‪ ،‬وأنا‬ ‫ن المعاتبة ل تجتني إ ّ‬ ‫تَرْك معاتبتك‪ ،‬ل ّ‬
‫أقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ك يَدَانِ‬‫وليسَ لمثلي بالـمـلـو ِ‬ ‫ف جميعهِ‬ ‫خوْ َ‬ ‫رضِيتُ ببعض الذلّ َ‬
‫َمغَبةَ ما تَجْني يَدِي ولـسَـانـي‬ ‫ت امْرَأً أخْشَى العقابَ وأتقي‬ ‫وكن ُ‬
‫فإني امْرَؤٌ أوفي بكل ضمـانِ؟‬ ‫ضمَن تَ ْوبَتي‬ ‫فهل مِنْ شَفِيع منك يَ ْ‬
‫فتراجعا إلى أحسن ما كانا عليه‪.‬‬
‫وإنما ألّم أبو العتاهية في قوله‪ :‬إن المطايا تشتكيك‪ ...‬وما يليه بقول أبي الْحَجناء ُنصَيبٍ الكبر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫س َكتُوا َأ ْثنَت عليك الْحَقائِبُ‬ ‫ولو َ‬ ‫فعاجوا فَأ ْثنَوا بالذي َأنْتَ أ ْهلُـه‬
‫وقال أبو الطيب في أبي العشائر الحمداني‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ن مَا َلهُـنَ أفْـوَاهُ‬‫بألْسُ ٍ‬ ‫ُتنْشِ ُد أثْوَا ُبنَـا مَـدَائحَـهُ‬
‫عيْنَاهُ‬‫س َمعَيْهِ َ‬‫أَغْنتهُ عَن ِم ْ‬ ‫إذَا مَرَ ْرنَا عَلَى الصْ ّم ِبهَا‬
‫صبَةِ الدالة بذاتها التي ذكرتُها عن الجاحظ في أقسام البيان‪.‬‬ ‫وهذا المعنى من الن ْ‬
‫سبحان الخالق الكريم‬
‫ت ودَللت‪ ،‬وشواهدَ قائماتٍ‪ ،‬كل يؤدي عنك الحجّة‪ ،‬ويشهد لك بالربوبية‪.‬‬ ‫وقال بعْضُ الخطباء‪ :‬أشهد أنّ في السماوات والرض آيا ٍ‬
‫ونظي ُر هذا قولُ أبي العتاهية‪ ،‬وروى أنه جلس في دكان ورَاق‪ ،‬وأخذ كتابًا فكتب على ظهره‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫حدُ؟‬ ‫حدُهُ الْجَا ِ‬ ‫جَ‬ ‫كُ أ ْم كيف يَ ْ‬ ‫فوا عجبًا كيف ُيعْصَى المَلِي‬
‫سكِينَةٍ في ال َورَى شاهِـدُ‬ ‫وتَ ْ‬ ‫ولِّ فـي كـل تـحـريكةٍ‬
‫َتدُلُ عـلـى أنَـه وَاحِـدُ‬ ‫وفي كـلّ شـيءً لـه آيَة‬
‫شعْرِي‪ ،‬فقيل‪ :‬لسماعيل بن القاسم‪ ،‬فوقع تحتها‪:‬‬ ‫وانصرف‪ ،‬فاجتاز أبو نواس بالموضع فرأى البياتَ‪ ،‬فقال‪ :‬لمِنْ هذا؟ فلودِدْتها لي بجميع ِ‬
‫المجتث‪:‬‬

‫‪95‬‬
‫ف َمهِـينِ‬ ‫ق من ضعِي ٍ‬ ‫َ‬ ‫ن مَنْ خَلَقَ ا ْلخَـل‬‫سبحا َ‬
‫إلـى قَـرَار مـكـينِ‬ ‫فصَاغَـ ُه مـن قَـرَارٍ‬
‫ن العيونِ‬ ‫ب دو َ‬ ‫حجْ ِ‬‫في الْ ُ‬ ‫يَحُـولُ شـيئاً فـشـيئاً‬
‫مخلوق ٌة مِنْ سُـكُـونِ‬ ‫حتى بَـدَتْ حـركـات‬
‫حوَارا‪ ،‬أجا َبتْك اعتباراً‪.‬‬
‫ج ْبكَ ِ‬‫جنَى ثما َركِ‪ ،‬فإنْ لم تُ ِ‬ ‫وقال الفضل بن عيسى الرَقاشي‪ :‬سَلِ الرض مَنْ غَرس أشْجا َركِ‪ ،‬وشَق أنها َركِ‪ ،‬و َ‬
‫سرْحَة‪ ،‬فقال‪ :‬أتدرِي ما تقول هذه السّرْحة أيها الملك؟ قال‪ :‬وما تقول؟ قال‪:‬‬ ‫ن بن المنذرِ تحت َ‬ ‫ي بن زيد‪ ،‬وقد نزل النعما ُ‬ ‫وهذا شبيهٌ بقول عد ّ‬
‫تقول‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫خمْرَ بالماءِ الزُللِ‬ ‫يشربون الْ َ‬ ‫ب قد أنَاخُوا حَوْلَنـا‬ ‫رُبً َركْ ٍ‬
‫ل َب ْعدَ حالِ‬
‫وكذَاك الدّهْرُ حا ً‬ ‫ضحَوْا َلعِبَ الدّهر بهـم‬ ‫ثم أ ْ‬
‫عكَفَ الدَهْ ُر بهم فثَوَوْا‪ .‬فتكدّرَ حالُ النُعمان وما كان فيه من لذةٍ‪.‬‬ ‫ويروى َ‬
‫ألفاظ لهل العصر في الشكر بدللة الحال‬
‫حدْتُ ما أ ْولَنيه‪ ،‬كَ َفرْتُ ما‬ ‫جَ‬‫ق مَقَالِه‪ .‬إن َ‬ ‫صدْ ِ‬
‫شهِدَتْ شوا ِهدُ حاله‪ ،‬على ِ‬ ‫ب ل ْثنَت الحقائِبُ‪ ،‬وَل َ‬
‫لو سكت الشّاك ُر لنَطَقَت المآثِرُ‪ .‬لو صَمتَ المُخَاطِ ُ‬
‫أعْطَانيه‪ ،‬نطقتْ آثارُ أياديه عليّ‪ ،‬ولمعت أعلمُ عَوَارِفه لديَ‪.‬‬
‫شكْرِه على نعمِه التي ألبسه جمالَها‪ ،‬وأسحَبه أفْيالَها‪ ،‬ما لو لم يتحدّث به ناشرًا ومُثنياً‪،‬‬ ‫ن فتعاطى من ُ‬ ‫ولبي الفضل الميكالي من رسالة‪ :‬وردَ فل ٌ‬
‫ومعِيدًا و ُمبْدياً‪ ،‬لَثنَت به حَالُه‪ ،‬وش َهدَتْ به رِحَاله‪ ،‬حتى لقد امتلت بذكرِه المحافلُ‪ ،‬وسارت بحبره الر ْكبَان والقوافل‪ ،‬وصارت اللسِنةُ على‬
‫حدَ الكثار والسهاب‪ ،‬نهايتُه‬ ‫الشكر والثناء لساناً‪ ،‬والجماعة على النّشْرِ والدعاءَ أنصاراً وأعواناً‪ ،‬على أنه وإن بالغَ في هذا الباب‪ ،‬وجاوزَ َ‬
‫القصو ُر دون واجبه‪ ،‬والسقوطُ عن أدنى درجاته ومَرَاتبه‪.‬‬
‫شهْداً‪.‬‬‫جنَاه المرءُ من خيره شكراً أجناه من بِرّه َ‬ ‫حلُ الشكر‪ ،‬إن أ ْ‬ ‫ومما يقترن لهم بهذا المعنى من ِذكْرِ الشكر‪ :‬قال أبو الفتح البستي‪ :‬الح ّر نَ ْ‬
‫ن النيّةِ‪ ،‬ولسانُ الطَوَية‪ ،‬وشاهدُ الخلصِ‪ ،‬وعنوان الختصاص‪ .‬الشكرُ نسيمُ النّعَمِ‪ ،‬وهو السببُ إلى الزيادة‪ ،‬والطريقُ إلى‬ ‫غيره‪ :‬الشكر ترجما ُ‬
‫السعادة‪ .‬الشك ُر ق ْيدُ ال َن ْعمَة‪ ،‬ومفتاح المزيد‪ ،‬وثَمنُ الجنةِ‪ .‬مَنْ شك َر قليلً‪ ،‬استحقّ جزيلً‪ .‬ش ْكرُ الموْلَى‪ ،‬هو الوْلى‪ .‬الشكر َقيْد النّعم وشِكالها‪،‬‬
‫وعِقالُها‪ ،‬وهو شبيه بال َوحْشِ التي ل تقيم مع اليحاش‪ ،‬ول تَريم مع اليناس‪ .‬مَ ْوقِعُ الشك ِر من النعمة مَ ْوقِعُ ال ِقرَى من الضيفِ‪ ،‬إنْ وجده لم يَرِم‪،‬‬
‫شكْرُهُ شكرُ‬ ‫سمْع الكريم أثْمر الزيادةَ‪ ،‬وحفظَ العادة‪ .‬الشك ُر تعرّض للمزيد السائغ‪ ،‬والنّعم السَوابغ‪ُ .‬‬ ‫س إذا أُودِع َ‬ ‫وإن فَقَدهُ لم يُقِم‪ .‬الشكر غر ٌ‬
‫سبِل‪ .‬أثنى عليه ثناء لسان الزهَر‪ ،‬على راحة المطر‪.‬‬ ‫السير لمن أط ْلقَه‪ ،‬والمملوك لمن أعتْقَه‪ .‬أ ْثنَى عليه ثناء الرَوْضِ ال ُممْحِل‪ ،‬على ال َغيْثِ المُ ْ‬
‫عنَان‬‫ن الثناء والدعاء‪ ،‬وبلغ عنان الشكْرِ َ‬ ‫أْثنى عليه ثناء العطشان الوارد‪ ،‬على الزُللِ الباردِ‪ .‬شكْرُه شكر الرض للدّيم‪ ،‬وزُ َهيْر لهَرِم‪ .‬بَسَطَ لسا َ‬
‫ط أبْواعه‪ ،‬ويلذ ذكره وسماعُه‪ .‬شُكر ملَ القلبَ‬ ‫شكْرًا تَشِيع أنواعُه‪ ،‬و َتنَبس ُ‬ ‫ح له المكارم‪ ،‬وتهتز له المواسم‪ .‬لشكُرَنه ُ‬ ‫شكَره شكرًا ترتا ُ‬ ‫السماء‪َ .‬‬
‫عمِدته‪ ،‬ومذَ أرْوِقته‪ .‬شكْر كأنفاسِ الحبابِ‪ ،‬أو أنفاس السحارِ‪ ،‬أو‬ ‫حسَان لل غَسانَ‪ .‬أَطال عِنان الشكْرِ‪ ،‬وفسح مجالَه‪ ،‬ورفع أ ْ‬ ‫واللسانَ‪ ،‬كشكر َ‬
‫أنفاس الرّياض غِب القِطَار‪.‬‬
‫من أخبار ُنصَيب وشعره‬
‫ب قولِ نصيب‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫رجع إلى ما انقطع‪ :‬كان سب ُ‬
‫َفعَاجُوا فَأ ْثنَوا بالَذي أنْتَ أ ْهلُه‬
‫أنه كان مع الفرزدق عند سليمان بن عبد الملك‪ ،‬فقال سليمان بن عبد الملك‪ :‬يا فرزدق‪ ،‬مَنْ أشعر الناس؟ قال‪ :‬أنا يا أمير المؤمنين‪ ،‬قال‪ :‬لماذا؟‬
‫قال‪ :‬بقولي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جذْبها بالعصـائبِ‬ ‫لها تِرَ ًة من َ‬ ‫ب عندهُم‬ ‫و َركْبٍ كأَنَ الريحَ تطلُ ُ‬
‫شعَب الكْوارِ ذاتِ الحقائِبِ‬ ‫إلى ُ‬ ‫سرَتْ نكباءُ وَ ْهيَ تلفهـمْ‬ ‫س َروْا و َ‬
‫ت أيديهُمُ نارُ غالـبِ‬ ‫خصِرَ ْ‬ ‫وقد َ‬ ‫إذا آنسُوا ناراً يقولون‪ :‬لَيتَـهـا‪،‬‬
‫صعَ َة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان ابن مجاشع ‪ -‬فأَعرض عنه سليمان كالمغضَب؛ لنه إنما أراد أن‬ ‫صعْ َ‬ ‫يريد أباه ‪ -‬وهو غالب بن َ‬
‫صيْبٌ يقول‪:‬‬ ‫يُنشِدَ مدحًا فيه؛ ففهم نُصَيب مراده‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬قد قلتُ أبياتاً على هذا الروي ليست بدونها‪ ،‬فقال‪ :‬هَاتِها؛ فأنشأ نُ َ‬
‫الطويل‪:‬‬
‫َقفَا ذاتِ َأوْشالٍ ومـ ْولَك قَـا ِربُ‬ ‫أقولُ لركْبٍ قافلـين لَـقِـيتـهُـمْ‬
‫لمعروف ِه مـن آل َودّانَ طـالـبُ‬ ‫فقد أخبروني عن سليمـان أنـنـي‬
‫ت عليكَ الحـقـائِبُ‬ ‫ولو سكتوا أثنَ ْ‬ ‫فعاجوا فَأثْنوا بالَذي أنْـتَ أهـلُـهُ‬
‫ف به من طالبي العُرْف راكِبُ‬ ‫يُطِي ُ‬ ‫فقالوا‪ :‬تر ْكنَـاهُ وفـي كـل لَـيْلَةٍ‬
‫كفعلِك أو للفعل مـنـكَ يقـا ِربُ‬ ‫ولو كان فَ ْوقَ الناس حي فِعـالـه‬
‫سِوَاك عن المستشفعين المطالِـبُ‬ ‫ن تـعـذّ َرتْ‬ ‫شبْهُ‪ ،‬ولـكِـ ْ‬ ‫ل ُقلْنا‪ :‬له ِ‬

‫شبِه البد َر المنيرَ الكواكبُ؟‬


‫وهل تُ ْ‬ ‫هو البدرُ والناسُ الكواكبُ حَوْلَـه‬
‫فقال سليمانُ‪ :‬أحسنتَ‪ ،‬والتفتَ إلى الفرزدق فقال‪ :‬كيف تسمعُ يا أبا فِراس؟ قال‪ :‬هو أشعَرُ أهل جِ ْلدَته‪ ،‬قال‪ :‬وأهل جِ ْلدَتك؛ فخرج الفرزدق وهو‬
‫يقول‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وشَرُ الشعرِ ما قَال العبيدُ‬ ‫خيْرُ الشعر أكْ َرمُه رجالً‬
‫وَ‬
‫في باب المدائح‬

‫‪96‬‬
‫سبَق إليه‪.‬‬ ‫قال أبو العباس محمد بن يزيد‪ :‬وهذا بابٌ في المدح حسن متجاوز ُمبْتدع لم يُ ْ‬
‫قول نصيب‪ :‬من أهْل ودّان‪ .‬قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي‪ :‬ذكر محمد ابن كناسة والزبيدي أن نصَيبًا من أهل ودّان‪ ،‬وكان عبْداً لرجل من‬
‫ب شديدَ السواد‪ ،‬وهو القائل‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫بني كنانة هو وأهل بيته‪ ،‬وزعم أبو هفان أنه عبد لعبد العزيز بن مروان‪ ،‬وكان نصي ٌ‬
‫ض بنَائقُهْ‬
‫كُسيتُ ولم أمِْلكْ سَواداً‪ ،‬وتح َتهُقميصٌ من القُوهيّ بي ٌ‬
‫لكـالـمِـسْـك ل يَسْـلُـو عـن الـمـســـك ذائِقُـــهْ‬ ‫فما ض ّر أثْوابي سَوادي‪ ،‬وإنَني‬
‫وقال سُحَيم عبد بني الحسحاس‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫عند الفَخار َمقَامَ الصْل والوَرِقِ‬ ‫شعَارُ عبد بني الحسْحاس ُقمْنَ لهُ‬ ‫أْ‬
‫أو أسْ َودَ اللّونِ إني أ ْبيَضُ الخُلُقِ‬ ‫ت عبْداً فنفسي حُرّ ٌة كَرَمـاً‬ ‫إن كن ُ‬
‫وقال أبو الطيب المتنبي لكافور الخشيدي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫خيْ ٌر من ابْيضاضِ القَباءِ‬ ‫خلق َ‬ ‫إنَما الجِ ْلدُ مَ ْلبَسٌ وابيِضاضُ ال‬
‫ن من سواديَ‪ ،‬فقال‪ :‬ما أحسن ما تلطّفت لهنّ! وأمر له بصلة‪.‬‬ ‫وقال نصيب لبعض ملوك بني أمية‪ :‬إن لي بنات نفَضْت عليه ّ‬
‫ب بن أ ْوسٍ‪ ،‬لمّا مدح أبا جعفر محمد بن عبد الملك الزيات بقصيدته التي أولها‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وكان أبو تمام حبي ُ‬
‫ونذك َر بعضَ الفضل منك وتفضل‬ ‫ل وتَـفْـعـل‬ ‫َلهَان علينا أنْ نقـو َ‬
‫وهي من أحسن شعره‪ ،‬وفج له على ظهرها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ُيغَالي إذا ما ضَنّ بالشي ِء بائعُهْ‬ ‫سهْلً‪ ،‬وإنمـا‬ ‫سمْحَ البيع َ‬‫رأيتك َ‬
‫فيوشك أنْ تبقى عليه بَضَائعُـهْ‬ ‫فأما إذا هانتْ بضـائعُ بَـيْعـهِ‬
‫ح مَشَارعـه‬ ‫ن تُبا َ‬
‫ويفسد منه أَ ْ‬ ‫هو الماء إن أجْممتَهُ طابَ وِ ْردُهُ‬
‫ج عليه واعتذرَ إليه في مدحه لغيره؛ فقال في بعض ذلك‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫فأجابه بقصيدة طويلة‪ ،‬واحت ّ‬
‫فما يُصَاب دَمٌ منهـا ول سَـلَـبُ‬ ‫غرّتـهـا‬ ‫صنْتُ ُ‬ ‫أمّا القوافي فقد ح ّ‬
‫وكانَ منكَ عليها العَطْف والحدَبُ‬ ‫ل مِنَ الكـفـاء أ ّيمَـهـا‬ ‫َمنَعْت إ ّ‬
‫ولم يكن لكَ في إظهارهـا أرَبُ‬ ‫ت عن الكفاء أيمَـهـا‬ ‫عضَلْ َ‬ ‫ولو َ‬
‫على المَوالي ولم تحفل بها العَرَبُ‬ ‫كانت بناتِ نصيبٍ حين ضَن بهـا‬
‫وقد قيل إن أبا تمام أجابه بقوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫أُسامح في َب ْيعِي له من أبـايعُـهْ‬ ‫حتُ شاعراً‬ ‫أبا جعفر‪ ،‬إن كنتُ أصب ْ‬
‫ل من عادَت عليك مَنافعُـهْ‬ ‫تسَاه ُ‬ ‫فقد كنتَ قبلي شاعراً تاجـرًا بـهِ‬
‫ص به بعد اللّـذَاذة كَـارِعُـهْ‬ ‫َيغَ ُ‬ ‫فصِ ْرتَ وزيراً والوزارة مَكـرع‬
‫ت عليه مَطَالِـعُـهْ‬ ‫سدّ ْ‬‫فعادَ وقد ُ‬ ‫وكم من وزير قد رأينا مسَلّـطـاً‬
‫ل مَـقَـاطـعُـهْ‬ ‫ولِّ سيفٌ ل تق ّ‬ ‫ل قَوْسٌ ل تطيش سِهـامُـهـا‬ ‫و َ‬
‫قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي‪ :‬ويقال إن هذه البيات متحولة لحبيب‪ .‬وليس مثل أبي جعفر في جلل ِة َقدْره واصطناعه لحبيب ُيعَامَل‬
‫جهْلُ حبيب أن يقابل مأموله ومن يَ ْرتَجي جليلَ الفائدة منه بهذه البيات‪.‬‬ ‫بمثل هذا الجواب‪ ،‬ول َينْتَهي َ‬
‫وقد قيل‪ :‬بل قالها‪ ،‬ولم ينشدها أحداً؛ وإنما ظهرت بعد موته‪.‬‬
‫وكان ابنُ الزيات كما قال شاعراً‪ ،‬ومدح الحسن بن سهل في وزارته للمأمون؛ وأعطاه عشرة آلف درهم‪ ،‬فقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫لَكن ِلتُ ْلبِسني التّحْجِـيلَ والـغُـ َررَا‬ ‫لم أ ْمتَدِحكَ رجاءَ المـالِ أطْـلُـبـه‬
‫صدَرا‬‫عرِفَ ال َ‬ ‫ل أقربُ الوِردَ حتى أ ْ‬ ‫ل أنّـنـي رَجُـلٌ‬ ‫ما كـان ذلـك إ ّ‬
‫ل البيع ‪ -‬البيات قولَ أبي تمام قصيدته المشهورةَ في ابن‬ ‫سهْ َ‬‫قال الصولي‪ :‬وكان السببُ الذي أوْجد أبا جعفر على أبي تمام حتى قال‪ :‬لقد رأيتك َ‬
‫أبي دوَاد التي أولها‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ورُوّيَ حاضر منـه وبـادِ‬ ‫سبَلُ العِهادِ‬ ‫ع ْهدَ الحمى َ‬ ‫سقَى َ‬ ‫َ‬
‫خيْر العَتاد‬ ‫رأيت الدمعَ عِنْ َ‬ ‫ي الدمعِ لمـا‬‫ت به ُركِ ّ‬ ‫ح ُ‬‫نَزَ ْ‬
‫يقول فيها في مدحه‪:‬‬
‫وأهلُ الهَضب منها والنّجَـادِ‬ ‫ظمُ الثافي مـن نَـزَارٍ‬ ‫هُمُ عِ َ‬
‫ل مـكـرم ٍة وآدِ‬ ‫و َم ْنبِتُ كـ ّ‬ ‫س كل معْضَلةٍ وخَطْـبٍ‬ ‫ُمعَرَ ُ‬
‫فإنهم َبنُو المـجـد الـتَـلدِ‬ ‫إذا حدَثُ القبائلِ ساجَلُـوهـم‬
‫جِلد تحت قَسْطَلةِ الجِـلد‬ ‫ت بـيضٌ‬ ‫تُفرج عنهم الغمرا ِ‬
‫ط َردٍ وبنـو طِـرادِ‬ ‫معاقل مِ ْ‬ ‫وحشو حوادِث اليام منـهـم‬
‫تمشّتْ في الوغى وحُلُومُ عادِ‬ ‫لهم جهلُ السباع إذا المـنـايا‬
‫محاسنُ أحم َد بن أبـي دُوادِ‬ ‫لقد أنْسَتْ سُلوّي كـل دهـرٍ‬
‫رضيعاً للسواري والغَـوادِي‬ ‫متى تحْلُلْ به تحلُلْ جَـنـابـا‬
‫هَداك لِقبْلَةِ المعروفِ هـادِ‬ ‫وما اشتبهت سبيلُ المَجـدِ إلَ‬
‫جدْواك راحِلَتي وزادي‬ ‫ومِنْ َ‬ ‫وما سافرتُ في الَفـاق إلّ‬
‫وإن َقلِقَتْ ركابي في البلدِ‬ ‫مقيمُ الظنّ عندك والمـانـي‬
‫ف به عنده من هجاء مضر‪:‬‬ ‫وهذه النكَت التي أحْقَدت أبا جعفر‪ ،‬وأعتبته على أبي تمام‪ ،‬وفي هذه القصيدة يقول معتذراً إليه في الذي ُقرِ َ‬

‫‪97‬‬
‫عقاربُـ ُه بـداهـيةٍ نـآد‬ ‫أتاني عائر النباء تَسْـري‬
‫ج ُر به على شَ ْوكِ ال َقتَـادِ‬ ‫يُ َ‬ ‫ب مـنـهُ‬‫خبَرا كأنَ القل َ‬ ‫َنثَا َ‬
‫خبَب الجـوادِ‬ ‫شكِيتي َ‬‫إليكَ َ‬ ‫ت من مُضَرٍ وخَبتْ‬ ‫بأني نِلْ ُ‬
‫ى مِني ِبنَـادِ‬ ‫ول نَادى الَذ َ‬ ‫وما َربْع القطيعةِ لي ب َربْعٍ‬
‫وقَلْبي رائحٌ برِضاكَ غادِ؟‬ ‫صدٍ لساني‬ ‫وأين يجوز عن قَ ْ‬
‫ِلسَانُ المرء من خَدمِ الفُؤَادِ‬ ‫حكَماء قالَتْ‪:‬‬‫ومما كانتِ ال ُ‬
‫ومأدومَ المعاني بالـسّـدادِ‬ ‫ت معسولَ القوافي‬ ‫و ِقدْما كن ُ‬
‫ابن أبي دُوَاد‬
‫وكان ابن أبي دُوَاد غالياً في التعصُب لياد وإلحاقها بنزار‪ ،‬على مذهب نُسَاب ال َعدْنانيين‪ .‬قال‪ :‬وكل من بالعراق من إياد دخلوا في النَخَع‪،‬‬
‫ن كان بالشام فهم على نسبهم في نزار‪ ،‬وابن أبي دُوَاد يرمى بالدعوة؛ والتكثيرُ من أخباره يُخْ ِرجُ إلى ما أخَافَ ُه من تَطْويلِ‬ ‫وإليهم ُينْسَبون؛ ومَ ْ‬
‫التصرُف‪ ،‬في مملول التكلُفِ‪.‬‬
‫وكان ابن أبي داود عالمًا بضروبِ العِلم والدب‪ ،‬متصرّفا في صناعة الجِدال‪ ،‬على مذهبِ أهل العتزال‪ ،‬وكانت العداوة بينه وبين ابن الزيات‬
‫بينة‪ ،‬والنفاسة في الرياسة بينهما متمكَنة‪ ،‬وقال له بعض الشعراء‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ب من ُهذَيلِ‬ ‫فكل أبي ذؤي ٍ‬ ‫أكلّ أبـي دُوا ٍد مـن إيادِ‬
‫ل دَخِيل‪.‬‬‫قال مسلم‪ :‬ما تاه إلَ وضيع‪ ،‬ول فاخر إل سقيط‪ ،‬ول تعصَب إ ّ‬
‫عمِيّ‪ ،‬قال أبو اليقظان‪ :‬وهم‬ ‫وقال مدني لرجل‪ :‬ممن أنت؟ فقال‪ :‬من قريش‪ ،‬والحمد ل‪ ،‬قال‪ :‬بأبي أنت! التحميد هاهنا ريبة! واسم أبي دُوَاد دُ ْ‬
‫من قبيلة يقالُ لها بنو زهرة أخوة بني جدان‪ ،‬وقد ذكرهُ الطائي في قوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن من شيبانَ طَ ْودُ حديدِ‬ ‫والرك ُ‬ ‫والغيث من زهْرٍ سحابةُ رَأفةٍ‬
‫جدَتِه عليه‪.‬‬ ‫ث إليه من مَ ْو ِ‬ ‫شفَع له عند ابن أبي دُوَاد فيما ينساقُ الحدي ُ‬ ‫ذكر شيبان؛ لن خالدَ بن يزيد الشيباني َ‬
‫قال محمود الوراق‪ :‬كنتُ جالساً بطَرفِ الْجِسْر مع أصحاب لي‪ ،‬فمرَ بنا أبو تمام‪ ،‬فجلس إلينا‪ ،‬فقال له رجل منّا‪ :‬يا أبا تمّام‪ ،‬أيّ رجل أ ْنتَ لو‬
‫ت مُضَر بالنبي‪،‬‬ ‫لم تكن من ال َيمَن؟ قال‪ :‬ما أحب أني بغير الموضع الذي اختاره الَُ لي‪َ ،‬فمِفَن تحِب أن أكونَ؟ قال‪ :‬من مُضَر‪ ،‬قال‪ :‬إنما شَ ُر َف ْ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولول ذلك ما قيسوا بملوكنا وأذْوائنا‪ ،‬وفينا َكذَا‪ ،‬ومنا كذا ‪ -‬يَفْخَر؛ وذكر أشياءَ عاب بها مُضَر‪ ،‬و ُنمِي الخبرُ إلى ابن أبي‬
‫ن َيدْخُلَ عَليّ‪ ،‬فقال يعتذر إليه بقصيدة أولها‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫دُوَاد وزِي َد فيه‪ ،‬فقال‪ :‬ما ُأحِب أ ْ‬
‫في طلوع التْها ِم والنجادِ‬ ‫سعَادِ‬‫س ِعدَتْ غُرْبةُ النوَى ب ُ‬ ‫َ‬
‫يقول فيها‪:‬‬
‫ط َعتْ فيَ وَهْيَ غيرُ حِـدَادِ‬ ‫قَ َ‬ ‫سيُوفـاً‬ ‫بعد أن أصْلَت الوُشاةُ ُ‬
‫لم يكن فرضه لغيرِ السـدادِ‬ ‫َفنَفى عنكَ زُخْرف القولِ سَمعٌ‬
‫دونَ عُورِ الكلمِ بـالسْـدادِ‬ ‫ضربَ الحِلْمُ والوقارُ عـلـيه‬
‫وحـيا أ ْزمَةٍ وحـــيّة وَادِ‬ ‫ملتك الحْـسـابُ أيّ حـياةٍ‬
‫من مُقَاسا ِة َمغْرَمٍ أ ْو نِـجَـادِ‬ ‫ق ُم ْعتَـق مـن الـرقّ إلَ‬ ‫عات ٌ‬
‫كلُحوب الـمـوا ِر ِد العـدادِ‬ ‫للحَمالتِ والـحـمـائلِ فـيهِ‬
‫فما َرضِي عنه حتى تشفع إليه بخالد بن يزيد بن مزْيد الشيباني‪ ،‬فقال في قصيدة‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عمُوا‪ ،‬وليس لقوله بطَـريدِ‬ ‫زَ َ‬ ‫سرَى طريداً للحياء مِنَ التـي‬ ‫أْ‬
‫َقمَرُ القبائل خـالِـدُ بـن يزيدِ‬ ‫كنتَ الربيعَ‪ ،‬أمـامَـهَ ووراءَه‬
‫لو ق ْد نفضت تَهائمي ونجودِي‬ ‫وغداً تَبيّن ما براءة ساحـتـي‬
‫لم يُرْ َم فيه إلـيك بـالقـلـيدِ‬ ‫ب مُـلِــمَةِ‬‫ي بـا ِ‬‫للـه درُك أ ُ‬
‫تلك الشهودُ علي وهْي شُهودي‬ ‫لما أظلَتني غَمامُك أصبْـحَـتْ‬
‫يو ٌم بِزَعمهـم كـيوم عَـبـيدِ‬ ‫ن سيكونُ لي‬ ‫من بعد ما ظنُوا بأ ْ‬
‫عبِيد بن البرص السدي‪ ،‬وكان النعمان بن المنذر لقيه يوم بُؤْسِه فقتله‪.‬‬ ‫يريد َ‬
‫وكان ابن أبي دُوَاد كريماً فصيحاً جَ ْزلً‪ .‬قال أبو العيناء‪ :‬كنا عند ابن أبي دُواد ومعنا محمود الورّاق وجماعة من أهل الدب والعلم؛ فجاءه‬
‫رسول إيتاخ فقال‪ :‬إن الحاجب أبا منصور يقرأُ على القاضي السلم‪ ،‬ويقول‪ :‬القاضي يتَعنَى ويَجيء في الوقات؛ وقد تفاقم الم ُر بينه وبين‬
‫صدِه القاضي‪ ،‬وما أحِب أن يتعنى إلي لهذا السبب؛ إذ كنت ل أصِل إلى مكافأته‪.‬‬ ‫كاتب أمير المؤمنين‪ ،‬يريد ابن الزيات‪ ،‬فصار يضرُنا عند قَ ْ‬
‫فقال‪ :‬أجيبوه عن رسالته‪ ،‬فلم َندْر ما نقول‪ ،‬ونظر بعضُنا إلى بعض فقال‪ :‬أمَا عندكم جواب؟ قلنا‪ :‬القاضي ‪ -‬أعزّه الّ‪ ،‬أعل ُم بجوابه منّا‪ ،‬فقال‬
‫ل له‪ :‬ما أتيتك متكثرًا بك من قلة‪ ،‬ول متعززًا بك من ذِلَة‪ ،‬ول طالبًا منك ُرتْبة‪ ،‬ول شاكياً إليك كُ ْربَة‪ ،‬ولكنّك‬ ‫للرسول‪ :‬اقرَأْ عليه السلم‪ ،‬وق ْ‬
‫جوَابِه‪.‬‬
‫رجلٌ ساعدَك َزمَان‪ ،‬وح َركَك سلطان‪ ،‬ول علم يُؤلف‪ ،‬ول أصل ُيعْرَف؛ فإن جِئتك فبسلطانك‪ ،‬وإن تركتك فلنفسك! فعَجبْنا من َ‬
‫خالد بن عبد الّ القسْري‬
‫حمَد طاعتَه‪ ،‬وأثْنى عليه خيراً‪ ،‬فلمّا كان‬ ‫صعد خال ُد بن عبد الّ القسري المنبر يو َم جمعة‪ ،‬فخطب وهو إذْ ذاك أمي ٌر على مكة‪ ،‬فذكر الحجّاج فأ ْ‬
‫شتْم الحجّاج و ِذكْ ِر عيوبهِ‪ ،‬وإظهار البراءة منه‪ ،‬وصعد المنبر‪ ،‬فحمد الّ‬ ‫في الجمعة الثانية وردَ عليه كتابُ سليمان بن عبد الملك يأمرُه فيه بِ َ‬
‫ظهِر من طاعة ال ما كانت الملئكة ترَى له بذلك فضلً‪ ،‬وكان ال تعالى قد علم‬ ‫وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن إبليس كان مَلَكًا من الملئكة‪ ،‬وكان يُ ْ‬
‫ظهِر من‬ ‫ج كان يُ ْ‬ ‫ي عن الملئكة‪ ،‬فلّما أراد ال فضيحتَه ابتله بالسجود لدم‪ ،‬فظهر لهم ما كان يُخْفيه عنهم فلعنوه؛ وإن الحجا َ‬ ‫خفِ َ‬
‫غشّه ما َ‬‫من ِ‬
‫ي عنّا‪ ،‬فلما أراد ال‬ ‫خفِ َ‬
‫خبْثه على ما َ‬ ‫طاعة أمير المؤمنين ما كنّا نرى له بذلك فضلً‪ ،‬وكان ال عزّ وجلّ‪ ،‬أطْلَعَ أميرَ المؤمنين من غِلَه و ُ‬
‫فضيحتَه أجرى ذلك على يدي أمير المؤمنين‪ ،‬فا ْل َعنُوه‪ ،‬لعنهُ ال‪ .‬ثم نزل‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫أبو تمام والفشين‬
‫خرّميَ بلءً حمده له؛ فلما‬ ‫ل قُوَاد المعتصم‪ ،‬وأبْلَى في أمر بابك ال ُ‬ ‫وكان أبو تمام قد مدح الفشين التركي‪ ،‬واسمه خيذر بن كَاوُس‪ ،‬وكان من أج ّ‬
‫ب إليه من سوء السيرة‪ ،‬و ُقبْح السريرة‪ ،‬وأنه يخْطب درجة بابك‪ ،‬ويريد التحصن بموضع يَخْلَع فيه يدَه عن الطاعة‪،‬‬ ‫س َ‬‫خطَ المعتصمُ عليه ِلمَا نُ ِ‬ ‫سَ ِ‬
‫وأظْهر القاضي أحمد بن أبي دُواد عليه أنه على غير السلم‪ ،‬قال أبو تمام معتذرًا للمعتصم من تقديمه واجتبائه‪ ،‬ولنفسه من مدحه وإطرائه‪:‬‬
‫الكامل‪:‬‬
‫ليكونَ في السلم عا ُم فِجَـارِ‬ ‫ما كان لول فحشُ غدرة حـيدرٍ‬
‫خيْ ِر بادٍ في النـام وقـارِ‬ ‫من َ‬ ‫هذا الرسول وكان صفوةَ ربّـهِ‬
‫وهم أش ُد أذًى من الـكُـفـارِ‬ ‫ص من أهل النفاق عصابةً‬ ‫قد خ َ‬
‫سَرْح لعمر الّ غـيرَ خـيار‬ ‫ن بني أبـي‬ ‫واختار من سعدٍ َلعِي َ‬
‫رفَعت له سترًا من السـتـار‬ ‫سوَرِ التي‬ ‫حتى استضاءَ بشعلةِ ال ُ‬
‫صدْق بصيرة‪ ،‬ول لصحة سريرة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ثم ذكر في هذه القصيدة أنّ قتل الفشين لبابك لم يكن ب ِ‬
‫عن كَربلءَ بَأ ْثقَل الوزار‬ ‫والهاشمون المستقلة ظُعنهم‬
‫في دينهِ المختارُ بالمختـارِ‬ ‫فشفاهم المختا ُر منهُ ولم يكن‬
‫أهل النفاق‬
‫غيْ َر ما يُسِرّون‪ ،‬حتى أَطلع ال نبيّه عليه السلم على أخبارهم‪ ،‬ونَشَرَ له مَطْوِفي أسرارهم‪.‬‬ ‫أما من ُذكِر من أهل النفاق‪ ،‬فقد كانوا يظهرون َ‬
‫وأما ابنُ أبي سَرْح فهو عبدُ ال بن سعد بن أبي سَرْح بن الحسام بن الحارث بن حبيب بن خزيمة بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤيٌ‪،‬‬
‫ب موضِعَ الغفورِ الرحيم العزيزِ الحكيم‪ ،‬وأشباه ذلك؛ فأطْلَع الَُ عليه النبيّ عليه السلم‪،‬‬ ‫أسلم قبل ال َفتْح‪ ،‬واستكتبه النبيّ عليه السلم؛ فكان يكت ُ‬
‫ل ِمثْلَ ما َأنْزَلَ الَُ"‪ .‬فأَ ْهدَر النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يوم الفتح َدمَه‪ ،‬فهرب من مكة‪،‬‬ ‫فهرب إلى مكة مرتداً؛ وأُنزل فيه‪" :‬ومَنْ قالَ سأ ْنزِ ُ‬
‫ل عنه؛ فأمَنه رسولُ ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو أخو عثمان من الرَضاعة‪ ،‬وأسلم فحسُنَ إسلمُه‪ ،‬وولّي مصر‬ ‫فاستَأمن له عثمانُ رضي ا ّ‬
‫حصِر عثمان‪ ،‬ومات بقيسارية الشام‪ ،‬ولم يدخل في شيء من الفتَن الحجازية في ذلك الوقت‪.‬‬ ‫سنة أربع وعشرين‪ ،‬فأقام عليها إلى أنْ ُ‬
‫وأما المختارُ الذي ذكره فهو المختار بن أبي عُبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير ابن عوف بن عَفدة بن عروة بن عَوف بن قَسي وهو ثقيف؛‬
‫وكانت لبيه في السلم آَثارٌ جميلة‪ ،‬وأختُ المختار صفية بنت أبي عبيد زوجُ ابن عمر‪ ،‬والمختار هو كذاب ثقيف الذي جاء فيه الحديث‪،‬‬
‫ص َنعُها‪ ،‬وألفاظ يبتدعها‪ ،‬ويزعم أنها تنزل‬ ‫وكان يَزْعُم أنه يُوحَى إليه في قتَلَةِ الحسين؛ فقتلهم بكل موضع‪ ،‬وقتل عبيد ال بن زياد‪ ،‬وله أسْجاع يَ ْ‬
‫عليه‪ ،‬وتُوحَى إليه‪.‬‬
‫شيَاطِينَ َليُوحِي َبعْضُهم إلى َبعْضٍ"‪ .‬وأخبارُه كثيرة ليس‬ ‫وقيل للحنف بن قيس‪ :‬إنّ المختارَ يزعم أنه يُوحَى إليه! فقال‪ :‬صدق‪ ،‬وتل‪" :‬وَإنّ ال َ‬
‫هذا موضعها‪.‬‬
‫سيْدٍ لم َيدْرِ الناس كيف يقولون له‪ ،‬فدخل عبدُ ال بن الهتم عليه‪ ،‬فقال‪ :‬الحمد لّ الذي نظر لنا أيها المير عليك‪ ،‬ولم‬ ‫لما هُزم أمية بن خالد بن ُأ َ‬
‫ن معك‪ .‬فصدر الناسُ عن كلمه‪.‬‬ ‫ج ْهدِك‪ ،‬إلَ أن الّ علم حاجةَ أهل السلم إليك‪ ،‬فأبقاك لهم بخذلن مَ ْ‬ ‫ينظرْ لك علينا‪ ،‬فقد تعرَضت للشهادة ب َ‬
‫ويتعلّق بهذه المقامة‬
‫فصل في غرائب التكاتب‬
‫ظعْهُ‬
‫ستَفْ ِ‬‫سرِرْت بذلك‪ ،‬ولم أ ْ‬ ‫عكَ إلى منزلك؛ ف ُ‬ ‫عمَله‪ :‬بلغني‪ ،‬أعزّك ال‪ ،‬ا ْنصِرافك عن عملك‪ ،‬ورجو ُ‬ ‫كتب حمدون بن َنهْران إلى عامل عُزِل عن َ‬
‫ف وتُرِد العتزالَ لكان‬ ‫ل عنه؛ ووال لو لم تختَر النصرا َ‬ ‫عزْ ٌ‬
‫ل تتولَه‪ ،‬أو يضعَك َ‬ ‫ن يرفعَك عم ٌ‬ ‫ن قدرَك أجلّ وأعْلى من أ ْ‬ ‫جزَع له؛ لعلمي بأَ ّ‬ ‫وأ ْ‬
‫طفِ تدبيرك‪ ،‬وثُقوبِ َروِيتك‪ ،‬وحُسْنِ تأتيك‪ ،‬ما تُزِيل به السببَ الداعي إلى عَزْلك‪ ،‬والباعثَ على صَ ْرفِك؛ ونحن إلى أن نهنئك بهذه الحال‬ ‫في لُ ْ‬
‫ت النصرافَ فأوتيته‪ ،‬وأح َببْتَ العتزالَ فأُعْطِيته‪ ،‬فبارك الَُ لك في ُمنْقَلَبك‪ ،‬وهنّاكَ النع َم بدَوامها‪ ،‬ورزقك‬ ‫أوْلى بنا من أن نعزيك؛ إذ أردْ َ‬
‫الشُكرَ الموجِب لها الزائ َد فيها‪.‬‬
‫وكتب ابن مكرم إلى نصراني أسْلَم‪:‬‬
‫لَ فيك‪ ،‬حتى‬ ‫أمَا بعد‪ ،‬فالحمدُ ل الذي وفقك لشكره‪ ،‬وعرّفك هدايتَه‪ ،‬وطهر من الرتياب قلبَك‪ ،‬وما زالت مَخَايِلُك ممثلةً لنا حقيقةَ ما وهب ا ُ‬
‫ت إليه‪ ،‬مُشْفِقين مما كنتَ عليه‪ ،‬حتى إذا كاد إشفاقُنا أن‬ ‫صرْ ً‬‫كأنّك لم تزل بالسلم مَوْسُوماً‪ ،‬وإن كنت على غيره مُقيماً‪ ،‬وكنا مؤملين لما ِ‬
‫ن يؤتيك في الدنيا‬ ‫س تع ّد منْكَ؛ فأسأل الَ الذي أضاءَ لك سبيلَ رُشدِك أن يوفقَك لصالح العمل‪ ،‬وأ ْ‬ ‫يَس َتعْلي رجاءنا أتت السعادةُ بما لم تَزَل النف ُ‬
‫حسنةً وفي الخرة حسنةً‪ ،‬ويَ ِقيَك عذابَ النار‪.‬‬
‫حلّه الشرع‪ ،‬ويكرهه الدباء؛ وكثير ممن يغلبُ على‬ ‫ن عملُه‪ ،‬وقد يقع من ذلك فيما ي ِ‬ ‫ق ما يُستْحَسن تَ ْركُه‪ ،‬ويستهجَ ُ‬ ‫ض الكتاب‪ :‬من الح ّ‬ ‫قال بع ُ‬
‫طبعه هذا المعنى يراه سم َو نَفْس‪ ،‬وعلوَ همة‪ ،‬حتى رأينا من ل يحضر تزويج كريمتِهِ‪ ،‬ويولّي أمرَها غير نفسه‪ ،‬ورأينا من يُجَاوِ َز ذلك إلى أل‬
‫ح مستنكحاً‪ ،‬وزاد به العلوُ إلى تَ ْركِ ما ذكره أوْلى‪ ،‬وكنّا عرفنَا حال إنسان تزوجَتْ ُأمّه‪ ،‬فعظُ َم لذلك همُه‪ ،‬وانفرد عن أ ِودّائه‪ ،‬وتوارَى عن‬ ‫يُنكِ َ‬
‫سكَة في تحامي خطابه فيما اجتنب‬ ‫ن به منهم الم ْ‬ ‫ص ِد من ظ ّ‬‫أصفيائه؛ حيا ًء من لقّائهم‪ ،‬وكُرْهًا لتهنئتهم له أو عَزائهم‪ ،‬واضطرته ال َوحْشَة إلى قَ ْ‬
‫خيّل ذلك المقصودُ أنه إنما لجأَ إليه ليسلّيه؛ فأَفاض معه فيما قدَر أنه قصد له من المعنى الذي جعله وحيداً‬ ‫لجله خُلنَه‪ ،‬وفارق بسببه إخوانه‪ ،‬وت َ‬
‫خوف المفاوضة‪.‬‬
‫طبْه أحْظَى‪ ،‬وفي نفسه أوْفى‪ ،‬وعلى قلبه أخفّ‪ ،‬وفي‬ ‫ثم مضت اليامُ واختلف الحال‪ ،‬ورجع إلى العِشرَة وأبناء المودَة؛ فكان عنده من لم يخا ِ‬
‫حتِدُه وطالَ سؤدده ‪ -‬حالٌ من اللف والرغبة تحسن المساوي‪ ،‬ثم‬ ‫ل من طاب َم ْ‬ ‫نفسه أشفت‪ ،‬و َنقَم على ذلك الصديق وعَتب؛ إ ْذ لكل من الناس ‪ -‬إ ّ‬
‫حال من المَلَلِ والزَهادة تقبحُ المحاسن؛ واعتذر المتكلَف من التسلية بما لم يلزمه‪ ،‬ولم يُ ِردْه صفيه‪ ،‬فإنه فعل ما أوجبته الخوّة‪ ،‬وحقوق الخلطة‪،‬‬
‫وأسبابُ العشرة‪ ،‬وانبساط المفاوَضة؛ ودبَت عقارب الظنون والوشاية‪ ،‬إلى أن خرجَا بالمُلحاةِ إلى ال ُمعَاداة؛ فلمّا وقع بعضُ الناس بينهما من‬
‫معا َودَة الحسنى‪ ،‬ومراجعة الوْلى؛ جاه َر هذا الماقِتُ ب َف ْرعِ سِنَ السَفِ على تخيل النهى والوقار من الممقوت‪ ،‬وظاهر الممقوت بتقريع‬
‫الماقت‪ ،‬بتزويج أمّه‪ ،‬الذي تجشّم من كلمِه فيه فضَلً‪ ،‬وتكلّف من خطابه عليه ما من حَسْرة خَلَ؛ فأفضى الم ُر بينهما إلى ال ْوتَار‪ ،‬وطلب‬
‫الثأر‪.‬‬
‫جدْ‬
‫فإن اضطر إلى القول في هذا المعنى أحدٌ بأَمرٍ قاهر من السلطان‪ ،‬أو حوادثِ الزمان‪ ،‬أو تطا ُرحِ الخوان‪ ،‬فليقل وليكتُبْ ما مثّلنا إن لم يَ ِ‬
‫‪99‬‬
‫ل عليك وإحسانِ تبصيره إياك ‪ -‬حق أهْل الدّين‪ ،‬وخلوصِ اليقين‪ ،‬فكما ل تتبع الشهوة في محظوَر تُبيحه‪ ،‬فكذا ل تتبَ ُع‬ ‫عنه بدّا‪ :‬أنت ‪ -‬بِفَضْلِ ا ّ‬
‫لنَفَة في مُباح تحظره؛ وقد اتّصل بنا ما اختاره الُّ والقّضاء لذات الحق عليك‪ ،‬المنسوب ِة ‪ -‬بعد نسبك إليها ‪ -‬إليك‪ ،‬ممّا كرهه إباؤك الدنيوي لك‬ ‫اَ‬
‫ل الديني له ولها‪ ،‬فنحن نعزيك عن فائت محبوبك‪ ،‬ونهنئك في الخيرة في اختيارِ ال َقدَر لك‪ ،‬ونسألُ ال أن يجعلها أبدًا معك‬ ‫ضيَه الحل ُ‬
‫ولها‪ ،‬ورَ ِ‬
‫فيما رضيت و َكرِهْتَ‪ ،‬وأبيت وأتيْتَ‪.‬‬
‫فهذا‪ ،‬ونحوه أصْ َوبُ وأسلم‪ ،‬إن اضطررت إليه‪ ،‬وتركهُ أحْسن وأحزم‪ ،‬إن ملكت رأيك فيه؛ والتلطف للكتابة عمّا يُستهْجن ول يستحسن التواجه‬
‫به من أحْسنِ الشياء وأَسدها‪.‬‬

‫جدَع بما شرع من الحلل أنْفَ ال َغيْرَة‪ ،‬و َمنَع‬ ‫حيْرة‪ ،‬وهدانا لسَترِ العَورَة‪ ،‬و َ‬ ‫ستْرَ اَل َ‬
‫وكتب أبو الفضل بن العميد في بابه‪ :‬الحمدُ لّ الذي كشف عنًا ِ‬
‫ح ِميّةِ الجاهلية‪ .‬ثم عرّض للجزيل من الحر من استسلم لمواقع‬ ‫ل المهات‪ ،‬كما منع من وَأ ِد البنات‪ ،‬استِنزالً للنفوس البيّة‪ ،‬عن َ‬ ‫عضْ ِ‬
‫من َ‬
‫ل بلئِه؛ وهناك ال‪ ،‬الذي شرح للتقوى صَدرك‪ ،‬ووسع في البَلْوى صبرَك‪ ،‬ما ألهمك من‬ ‫قضائه؛ وعوض جزيلَ الثواب لمنْ صبر على ناز ِ‬
‫حدَه ما تجرّعتَه من‬ ‫التسليم بمشيئته‪ ،‬والرضا بقضيته‪ ،‬ووفّقك له من قضاء الواجب في أَحد أبويك‪ ،‬ومن عظم حقه عليك؛ وجعل الّ تعالى َ‬
‫ل عليه أجرك‪ ،‬ويجزل به ذُخرك؛ و َقرَن بالحاضر من ام ِتعَاضك لِفعْلها المنتظَ َر من ارتماضِك لدَفنِها‪،‬‬ ‫ظ ْمتَه من أَسفٍ‪ ،‬معدوداً يعظم ا ُ‬ ‫أَنفٍ‪ ،‬وك َ‬
‫سرَة فرشِها أعواد َنعْشِها؛ وجعل ما ُي ْنعِ ُم به عليك من بعدها من نعمة ُمعَرّى من نِقمة‪ ،‬وما يوليك بعد َقبْضها من منحة مبرًأ من‬ ‫وعوّضك من أ ِ‬
‫حنَةٍ‪.‬‬
‫مِ ْ‬
‫ألفاظ لهل العصر في التهاني بالبنات‬
‫هنأ الّ سيدي ِو ْردَ الكريمة عليه‪ ،‬وثمّر بها أعداد النسل الطيّب لديه؛ وجعَلَها مُؤْذِنةً بأخوة برَرَة‪َ ،‬يعْمُرون أ ْندِية ال َفضْل‪ ،‬و َيغْبُرون بقيّة الدّهْرِ‪.‬‬
‫غرّتها وأنْبتها نباتاً حسناً‪ ،‬وما كان من َت َغيّرِك بعد اتّضَاحِ الخبَر‪ ،‬وإنكارك ما اختاره الُّ لك في سابقِ ال َقدَر‪،‬‬ ‫خبَر المولودة‪ ،‬كرّم ال ُ‬ ‫اتصل بي َ‬
‫ن يَشَا ُء ال ُذكُورَ"‪ .‬وما‬‫ت أنهن أقربُ من القلوب‪ ،‬وأنّ ال تعالى بدأ بهن في الترتيب‪ ،‬فقال جلى من قائل‪" :‬يَهَبُ ِلمَنْ يشاءُ إناثًا و َيهَبُ ِلمَ ْ‬ ‫وقد علم َ‬
‫سمّاه هبة فهو بالشكر أوْلَى‪ ،‬وبحُسْنِ التقبل أحرَى‪ .‬أهلً وسهلً بعقيلة النساء‪ ،‬وأُ ّم البناء‪ ،‬وجالبة الصهار‪ ،‬وأولد الطهار‪ ،‬والمبشّرة بأخوة‬
‫يتناسقون‪ ،‬ونُجَباء يتلحقون‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫َلفُضَّلتِ النَسَاءُ على الرّجَالِ‬ ‫ل هـذِي‬ ‫فَلَوْ كانَ النّسَا ُء َك ِمثْ ِ‬
‫ل الت ْذكِيرُ َفخْرٌ لِلـهـلَلِ‬
‫وَ‬ ‫عيْبٌ‬ ‫شمْس َ‬ ‫سمِ ال ّ‬ ‫فما الت ْأنِيثُ ل ْ‬
‫وال يعر ُفكَ البركةَ في مَطْلعها‪ ،‬والسعادةَ في موقعها‪ ،‬فأدَرع اغتباطاً‪ ،‬واستأنِف نشاطاً‪ .‬الدنيا مؤنثة‪ ،‬والرجال يخدمونها‪ .‬والنا ُر مؤنثة‪،‬‬
‫والذكور َي ْعبُدونها‪ .‬والرض مؤّنثة‪ ،‬ومنها خُلِقت البرية‪ ،‬وفيها كثرت الذريّة‪ .‬والسما ُء مؤنثة‪ ،‬وقد حُلّيت بالكواكب‪ ،‬وزينت بالنجوم الثواقب‪.‬‬
‫عدَ‬‫ف النام‪ .‬والجنّة مؤنّثة‪ ،‬وبها وُ ِ‬ ‫س مؤنثة‪ ،‬وهي قوام البدان‪ ،‬ومِلَك الحيوان‪ .‬والحيا ُة مؤنثة‪ ،‬ولولها لم تتصرّف الَجسامُ ول عُرِ َ‬ ‫والنف ُ‬
‫ش ْكرَ ما أُعطيت‪ ،‬وأطَالَ الُّ بقاءك ما عُرِفَ النَسْل والوَلد‪ ،‬وما بقي ال َعصْرُ‬ ‫المتقون‪ ،‬وفيها َينْعَم المرسلون؛ فهنأك الّ ما أُوليت‪ ،‬وأوْزَعك ُ‬
‫والبد؛ إنه فعّال لما يشاء‪.‬‬
‫مديح النساء‬
‫خنَاق‪ ،‬وأكث ُر ما ُيمْدح به الرجال ذ ّم لهنّ‪َ ،‬ووَصْمٌ عليهنّ‪ ،‬قال ابن الرومي‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫والتصرّف في النساء ضيّقُ النطاق‪ ،‬شديدُ ال ِ‬
‫إلى المسيئات طولَ الدَهْرِ تَحنْاَنُ‬ ‫ت ِبنَـا‪ ،‬ولـنـا‬ ‫ما للحِسان مسيئا ٍ‬
‫إنا نسينا‪ ،‬وفي النسوان نَـسـيانُ‬ ‫ن بعَهدٍ قُلـن‪ :‬مـعـذرةً‬ ‫فإن َيبُحْ َ‬
‫حنَاه‪ ،‬بل للذكـر ُذكْـرَانُ‬ ‫ول ُمنِ ْ‬ ‫ل نُلزَم الذكْرَ‪ ،‬إنا َل ْم نُـسَـ َم بـه‬
‫جودٌ وبـأس وأحـلمٌ وأذْهـان‬ ‫فَضْلُ الرجالِ علينا أنّ شيمتـهـم‬
‫وهل يكون مع النقصان رُجحَانُ؟‬ ‫وأن منهم وفـاءً ل نـقـوم لـه‬
‫وقال أبو الطيب المتنبي‪ :‬الطويلَ‪:‬‬
‫طعَمُ‬ ‫ض تَ ْ‬‫وقَوْلته لي‪ :‬بَ ْعدَنا ال ُغمْ َ‬ ‫بنَفْسي الخيالُ الزائِرِي َبعْدَ هَجعَةٍ‬
‫َلقُلْنا أبو حَفْصٍ عََليْنا المسَـلَـمُ‬ ‫ع ْندَهُ‬
‫سَلم فلول البخْلُ والخَوْف ِ‬
‫أل ترى أَن الجود‪ ،‬والوفاء بالعهود‪ ،‬والشجاعة والفطَن‪ ،‬وما جرى في هذا السنن‪ ،‬من فضائل الرجال‪ ،‬لو مُدِح النسا ُء به لكان نَقْصًا عليهن‪،‬‬
‫وذمًّا لهنَ؟ ولمديح النساء أبواب تفرقت في الكتاب‪ :‬أنشد رجل زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫طُوبَى لزائرك المثَابِ‬ ‫أزُبيدةُ ابنةُ جَـعْـفَـرٍ‬

‫ُتعْطِي الكف من الرَغابِ‬ ‫تُعطِينَ من رِجْـلَـيك مـا‬


‫فوثب إليه الخدم يضربونه‪ ،‬فمنعتهم من ذلك‪ ،‬وقالت‪ :‬أراد خيراً وأخطأ‪ ،‬وهو أحب إلينا ممن أراد شرًا فأصاب‪ ،‬سمم قولهم شِمالك أ ْندَى من‬
‫يمين غيرك ففته أنه إذا قال هكذا كان أبلغ‪ ،‬أعطوه ما أمّل‪ ،‬وعرَفوه ما جهل‪.‬‬
‫وقال كثير‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن مَن هو مـاسِـحُ‬ ‫ومَسًحَ بالركا ِ‬ ‫ولمّا قضَينا من منَى كـل حـاجة‬
‫ول يعلم الغادي الذَي هـو رَائِحُ‬ ‫وشُدت على حدبِ المَطَايا رحالنـا‬
‫عنَاقِ المَطِيَ الباطِـحُ‬ ‫وسَاَلتْ بأَ ْ‬ ‫ث بـينـنـا‬
‫طرَافِ الحادي ِ‬ ‫خ ْذنَا بأ ْ‬
‫أَ‬
‫ت قَـرَائِح‬
‫بذاك صدُورّ منضجـا ٌ‬ ‫نَ َقعْنا قلوباً بالحاديثِ واشـتَـفَـت‬
‫ول رَاعَنا مِنه سَـنِـيح وبَـارحُ‬ ‫ولم َنخْشَ َريْبَ الدهرِ في كلّ حالة‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وشتّتهم شَحْط النوى مَشْيَ أربعِ‬ ‫تفرّق ُألّفُ الحجيج على ِمنَـى‬

‫‪100‬‬
‫وآخرُ منهم جازع ظَهر تَضرُع‬ ‫فريقان منهم سَالك بطن نَخـلَةٍ‬
‫ولهْوٍ إذا التفَ الحجيج بمجمع‬ ‫فلم أر دارًا مثلها دَار غِـبـطة‬
‫وأكثرَ جَاراً ظاعنـاً لـم يُ َودَع‬ ‫أقلّ مقيماً رَاضِيًا بـمـكـانِـهِ‬
‫بمَضْربه أوْتـادهُ لـم تُـنـزع‬ ‫فأصبح ل تلقى خباءً عَهـدْتـهُ‬
‫فبانُوا وخلّوا عن مَنازِل بَلقـع‬ ‫فشاقُوك لما وجّهوا كل وجـهةٍ‬
‫ودخل كثير على عزّة يوماً‪ ،‬فقالت‪ :‬ما ينبغي أن نَأذَن لك في الجلوس‪ ،‬فقال‪ :‬ولم ذلك؟ قالت‪ :‬لني رأيت الحوص أَلينَ جانباً عند الغواني منك‬
‫في شعره‪ ،‬وأضرعَ خدّا للنساء‪ ،‬وأنه الذي يقول‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫أ ْكثَ ْرتَ لو كان ُي ْغنِي عنك إكثارُ‬ ‫يا أيها اللئمي فيها لِصْ ِرمَهـا‬
‫ل القَلْبُ سَالٍ ول في حبها عارُ‬ ‫ت بها‬ ‫شيْ َ‬ ‫ت مُطاعًا إذ َو َ‬ ‫أكثِر فلسْ َ‬
‫ويعجبني قولُه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ث أدُورُ‬ ‫بأَبيا ِتكُ ْم مـا دُ ْرتُ حَـيْ ُ‬ ‫جعْفَـرٍ‬ ‫أدُورُ ولَ ْولَ أنْ أرَى ُأمّ َ‬
‫إذَا لم يُز ْر ل بـدّ أنْ سَـيزُورُ‬ ‫وما كنتُ زوّاراً‪ ،‬ولكنّ ذا الهوى‬
‫وإني إلى معروفِها لَـفَـقـيرُ‬ ‫لقد َم َنعَتْ معروفَها أمُ جَعـفـرٍ‬
‫ويعجبني قوله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ب عنها كان لي َت َبعَـا‬ ‫ولو صحا القَلْ ُ‬ ‫ت أتـبَـعُـهُ‬ ‫كم من دني لها قد كنـ ُ‬
‫أ ْو يصنع الحبّ بي فوق الذي صنَعا‬ ‫ل أستطيع نُزوعًا عن مَحـبّـتِـهـا‬
‫ق نَـزَعَـا‬ ‫حتى إذا قلتُ هذا صاد ٌ‬ ‫أدْعُو إلى َهجْرِها قلبي َفيْتبـعـنـي‬
‫شهَى إلى المرء من دُنياه ما مُنعَـا‬ ‫أْ‬ ‫ب أن منَعتْ‪،‬‬ ‫وزادني رغبةً في الح ّ‬
‫وقوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فكُنْ حجَراً من يابس الصّخْر جَ ْلمَدا‬ ‫إذا أنت لم َتعْشَق ولم َتدْرِ ما الهـوى‬
‫وإن لم فيه ذو الشّـنـانِ وفَـنَـدا‬ ‫وما ال َعيْش إلّ ما تَل ّد وتَـشْـتَـهِـي‬
‫ب المبَ ّردَا‬ ‫كما يشتهي الصّادِي الشرا َ‬ ‫وإني لهْوَاها وأَهـوى لـقـاءَهـا‬
‫فَأبْـلَـى‪ ،‬ومـا يزدادُ إلّ تـجـدُدا‬ ‫علقة حبّ لجّ في سنن الـصّـبـا‬
‫هذان البيتان ألحقهما العُتبي وغيره بشعر الحوص‪ ،‬وأنشدها أبو بكر بن دريد لعرابي‪ ،‬فقال كثير‪ :‬قد وال أجادَ فما استقبحت من قولي؟ قالت‪:‬‬
‫قولك‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن مِني هيبة ل تجهُمـا‬ ‫ظهَر َ‬‫وأ ْ‬ ‫ن مَجْلسي‬ ‫جئْت أجْلَلْ َ‬ ‫وكنت إذا ما ِ‬
‫ل تبسُمـا‬ ‫قديماً‪ ،‬فل يضحكْنَ إ ّ‬ ‫ع َرفْنهـا‬ ‫ن منّي غير ًة قد َ‬ ‫يُحَاذِرْ َ‬
‫صمَـا‬ ‫عيْنٍ أو يقّلبْنَ ِمعْ َ‬ ‫خرِ َ‬‫بمؤْ ِ‬ ‫تراهنّ إلّ أن يخالِسْنَ نـظـرةً‬
‫رَجيعَة قول بعد أن يتَفهّـمـا‬ ‫ل مَـحُـوَرَة‬ ‫كواظِ َم ل َينْطِقن إ َ‬
‫أسر الرضَا في نَفْسِه وتَح ّرمَـا‬ ‫وكن إذا ما قُلْـنَ شـيئاً يسـرّهُ‬
‫وقولك‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ص َعبٌ ثم َنهْرُبُ‬ ‫هِجانٌ‪ ،‬وأني مُ ْ‬ ‫لَ أنك بَـكْـرَةٌ‬ ‫َو ِددْتُ َو َبيْتِ ا ِ‬
‫على حُسْنها جَ ْربَا ُء ُتعْدِي وأجْ َربُ‬ ‫ن يَرَنـا يَقُـلْ‬ ‫كِلَنا به عُ ّر فَـمَـ ْ‬
‫ن نُطْلَـبُ‬ ‫فل هو يَرْعَانا ول نَحْ ُ‬ ‫ل كثـير مـغَـفَـل‬ ‫نكون لذِي ما ٍ‬
‫ى ونُضْـ َربُ‬ ‫علينا فما ننفك نُؤْذ َ‬ ‫إذا ما و َردْنا منهلً صاح أهْـلُـه‬
‫َويْحك! لقد أردتَ بي الشقاءَ‪ ،‬أفما وجدت أمنية أوْطَأ من هذه؟ فخرج خَجلً‪.‬‬
‫صخْر الهذلي‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقد تمنّى بمثل هذه الُمنية الفرزدق‪ .‬وأغرب من هذا قول أبي َ‬
‫على َرمَثٍ في البحر ليس لنا َوفْرُ‬ ‫َتمَنَيتُ من حُبـي عُـلَـيةَ أنّـنـا‬
‫ضرُ‬ ‫ومِنْ دوننا الهوال واللُجَج الخُ ْ‬ ‫ك مَـ ْوجَـهُ‬ ‫على دائ ٍم ل يعبر الفلـ ُ‬
‫ن نَخْشَى نميمتَه البَحْـرُ‬ ‫و ُيغْرِق مَ ْ‬ ‫فنقضيَ همّ النفسِ في غير ِرقْـبةٍ‬
‫وقيل‪ :‬المل رفيق مُ ْؤنِس؛ إن لم يُبلغك فقد ألهاكَ‪.‬‬
‫وقال مسلم بن الوليد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأكثرُ ما تَلْقَى الماني كَوَاذِبا‬ ‫وأكثرُ أفعال الليالـي إسـاءةٌ‬
‫وقال آخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وإل فقد عِشْنا بها زمنـاً رَغْـدَا‬ ‫مُنى إن تكُن حَقاً تكن أحْسنَ ال ُمنَى‬
‫ظمَإ بَـرْدا‬ ‫سقتني بها َليْلَى على َ‬ ‫ي من َليْلَى حِسَانٌ كـأنـمـا‬ ‫أمان ّ‬
‫وقال آَخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فل أسأل الدنيا ول أستـزيدُهـا‬ ‫ت عن الدنيا ال ُمنَى غير حبّها‬ ‫َر َفعْ ُ‬
‫وقيل لعرابي‪ :‬ما أمتع لذّات الدنيا؟ فقال‪ :‬ممازحةُ المحبّ‪ ،‬ومحادثةُ الصديق‪ ،‬وأماني تقطَع بها أيامك‪ ،‬وأنشد‪ :‬مجزوء الخفيف‪:‬‬
‫ت بِهْ‬
‫حيِي ِ‬
‫وامْطُلِي ما َ‬ ‫علَلِينـي بـمَـوْعـدٍ‬

‫‪101‬‬
‫ك بنَجْوَى تطلـبـهْ‬ ‫ودَعِيني أفـو ُز مـن‬
‫ن بخطَي فينتـبِـهْ‬ ‫فعسى يعثر الـ ّزمَـا‬
‫كثير عزة‬
‫حمَقَ الناس‪.‬‬ ‫جمْعة الخزاعي ‪ -‬ويعرف بعزّة‪ ،‬على حدَةِ خاطرِه‪ ،‬وجَ ْودَةِ شعره ‪ -‬أ ْ‬ ‫وكان كثير بن عبد الرحمن بن أبي ُ‬
‫دخل عليه نفرٌ من قريش وهو عليل يهزأون به‪ ،‬قال بعضهم‪ :‬فقلت له‪ :‬كيف تجدُك؟ قال‪ :‬بخير‪ ،‬هل سمعتُم الناسَ يقولون شيئاً‪ .‬فقلت‪ :‬نعم‪،‬‬
‫ضعْفًا منذ أيام‪.‬‬ ‫جدُ في عيني اليمنى َ‬ ‫ت ذلك إني ل ِ‬
‫سمعتُهم يقولون‪ :‬إنك الدجّال‪ .‬فقال‪ :‬وال لئن قل َ‬
‫شعْب باليمن في أربعين من أصحابه‪ ،‬ول بدَ‬ ‫جعَة‪ ،‬ويقول بإمامة محمد بن الحنفية‪ ،‬والروافض يزعمون أنه دخل في ِ‬ ‫وكان رافضيًا َيدِين بالرّ ْ‬
‫من ظهوره‪ ،‬وفي ذلك يقول‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ُولَةَ الْحَقّ أ ْر َبعَةٌ سَـوَاءُ‬ ‫ن قُـرَيشٍ‬ ‫ن الئمة مِ ْ‬ ‫ألَ إ َ‬
‫سبَاطُ َل ْيسَ بهمْ خَفَاءُ‬ ‫هم ال ْ‬ ‫ن بَـنِـيهِ‬
‫عَليٌ والثلثَ ُة مِـ ْ‬
‫سبْطٌ غَيبتْـ ُه كَـربَـلءُ‬ ‫َو ِ‬ ‫ن وبِـر‬ ‫ط إيمَـا ٍ‬ ‫سبْط سِب ُ‬‫فَ ِ‬
‫ل يَ ْق ُدمُها اللَـواء‬‫خيْ َ‬
‫يَقُودَ ا ْل َ‬ ‫ط ل َيذُوق ا ْلمَوْتَ حتى‬ ‫وَسِب ٌ‬
‫عسَل ومَاء‬ ‫ع ْندَهُ َ‬ ‫برَضوَى ِ‬ ‫ب ل يُرَى عنهم زَمانـاً‬ ‫َتغَيّ َ‬
‫وكان خلفا ُء بني أمية يعلمون ذلك منه‪ ،‬ويَ ْلبَسُونه عليه‪.‬‬
‫دخل يومًا على عبد الملك بن مروان فقال‪ :‬نشدتك بحقّ علي بن أبي طالب‪ ،‬هل رأيت أعْشَق منك؟ فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬لو سألتَني بحقّك‬
‫حبَائِلَه‪ ،‬فقلت له‪ :‬ما أَجْلَسك هاهنا؟ قال‪ :‬أهلكني وأهلي الجوع‪ ،‬فنصبت‬ ‫لخبرتُك‪ ،‬نعم‪ ،‬بينما أنا أسيرُ في بعض الفَلَوات إذا أنا برجل قد نَصَب َ‬
‫جعَلُ لي منه جزءًا؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فبينما نحن كذلك‬ ‫صبْنا صيدا‪ ،‬أت ْ‬ ‫ت معك َفأَ َ‬ ‫حبَائلي لُصِيبَ لهم ولنفسي ما يكفينا سحابة يَوْمنا‪ ،‬قلت‪ :‬أرأيتَ إن أقم ُ‬ ‫َ‬
‫جنَا ُمبْتدِرِين‪ ،‬فأسرع إليها فحلها وأطلقها؛ فقلت‪ :‬ما حملك على هذا؟ قال‪ :‬دخلتني لها ِرقَةٌ لشبهها بَليْلَى‪ ،‬وأنشأ يقول‪:‬‬ ‫ت ظبيةٌ‪ ،‬فخر ْ‬ ‫إذْ و َق َع ْ‬
‫الطويل‪:‬‬
‫لك الـيوم مـن وَحْـــشِـــيّةٍ لَـــصَـــدِيقُ‬ ‫أيا شِـبْـهَ لَـيْلَـى ل تُـرَاعِـي فــإنَـــنـــي‬
‫أقول وقد أطل ْقتُها من وَثاقهالنْتَ لليلى ما حَييت طليقُ‬
‫وروى الكلبي وابن دَاب أنه لمّا حَلَها قال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ت مني فـي ِذمَة وأَمـانِ‬ ‫أنْ ِ‬ ‫اذهبي في كِلءة الرّحْـمـنِ‬
‫حمَام في الغصانِ‬ ‫ما َت َغنّى ال َ‬ ‫ل تخافي بأن تُهاجي بسـوءً‬

‫والحَشَا وال ُبغَام والعينانِ؟‬ ‫ترهبيني والجيدُ منك لَِليْلَى‬


‫وقال قيس بن الملوّح‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حرَاما‬ ‫صيّدها عليّ َ‬ ‫لرى تَ َ‬ ‫راحوا يَصِيدون الظباء وإنني‬
‫ي لها بذاك ِذمَامـا‬ ‫فأرى عل َ‬ ‫ن مِ ْنكِ محاجراً وسوَالِفاً‬ ‫ش َبهْ َ‬
‫أْ‬
‫حمَاما‬ ‫ن يَ ُذقْنَ على َيدَيَ ِ‬ ‫أو أ ْ‬ ‫أعْزِزْ عليَ بأنْ أرُوع شبيهها‬
‫ومن جيد شعر كثير‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫كنا ذرة َنذْراً فأ ْو َفتْ وحَـلـتِ‬ ‫حبْل بيني وبينهـا‬ ‫وكانت لِقطْعِ ا ْل َ‬
‫س ذَلَتِ‬ ‫ت يَوْماً لها ال َنفْ ُ‬‫إذا وُط َن ْ‬ ‫فقلتُ لها‪ :‬يا عزُ‪ ،‬كل مُصـيبة‬
‫ل تَـجَـلَـت‬ ‫تعم ول غمـاء إ َ‬ ‫ب مَـ ْيعَةً‬ ‫ولم يَ ْلقَ إنسان من الح ّ‬
‫وحَلًت تِلَعاً لم تكن َقبْلُ حُلّـتِ‬ ‫حمَى لم يَرْعَهُ الناسُ قبلها‬ ‫حتْ ِ‬ ‫أبا َ‬
‫عرَاضنا ما استحَلتِ‬ ‫لع َز َة من أ ْ‬ ‫غيْ َر دَا ًء مُخَـامـر‬ ‫هنيئاً مريئاً َ‬
‫ن تَـقَـلَـتِ‬‫َل َديْنا ول مَقْلـية إ ْ‬ ‫أسِيئي ِبنَا أوْ احْسِني ل مَلُـومة‬
‫بهَجْر‪ ،‬ول استكثرت إلّ أقلّـت‬ ‫ووالِّ ما قاربْتُ إلّ تبـاعـدتْ‬
‫جلَتِ‬ ‫ت أيام أخرى و َ‬ ‫ظمَ ْ‬ ‫عُ‬ ‫وإن َ‬ ‫ي كيومـهـا‬ ‫وما مرّ من يوم عل ّ‬
‫وللنفس لما وُطّنت كيف ذَلَـتِ‬ ‫ب كيف اعتـرافُـه‬ ‫فيا عجباً للقَ ْل ِ‬
‫ت ممّا بَ ْينَنـا وتَـخَـلّـتِ‬ ‫تخّل ْي ُ‬ ‫وإنّي وتَهيامي بعزّة بـعـدمـا‬
‫ضمَـحـلّـتِ‬ ‫تبوّأ منها للمَقِيلِ ا ْ‬ ‫لكالمرتَجِي ظلّ الغمامة‪ ،‬كلمـا‬
‫وكان كثير قصيرًا دميماً‪ ،‬ولذلك قال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا ما َو َزنْتُ القو َم بالقومِ وَازِنُ‬ ‫فإنْ أكُ معروقَ العِظام فإننـي‬
‫ن تَراه؛ فقال‪ :‬يا أميرَ‬
‫سمَع بالم َعيْدي ل أ ْ‬ ‫ودخل كثير على عبد الملك بن مروان في أول خلفته‪ ،‬فقال‪ :‬أنت كثير؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فاقتحمه‪ ،‬وقال‪ :‬تَ ْ‬
‫حبُ الفِناء‪ ،‬شامخُ البناء‪ ،‬عَالي السناء‪ ،‬وأنشد يقول‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫المؤمنين‪ ،‬كلّ إنسان عند محلّه رَ ْ‬
‫وفي أثوابه أسَـد هَـصُـورُ‬ ‫ف فتَـ ْزدَرِيه‬ ‫ترى الرجل النحي َ‬
‫فيُخِْلفَ ظنك الرجلُ الطـريرُ‬ ‫جبُك الـطّـرِي ُر إذا تـراهُ‬ ‫َو ُيعْ ِ‬
‫ولم تَطُلِ البُزاة ول القصـور‬ ‫ُبغَاثُ الطير أطولهـا رِقـابـاً‬
‫وأم البـاز مِـقْـلَة نَـزُورُ‬ ‫خَشاشُ الطيرِ أكثرُها فِراخـاً‬
‫وأصْ َرمُها اللَواتـي ل تَـزيرُ‬ ‫سدِ أكثـرُهـا زئيراً‬ ‫ضِعافُ الُ ْ‬

‫‪102‬‬
‫فلم يس َتغْنِ بالعِظَم الـبـعـي ُر‬ ‫ظ َم البعي ُر بـغـير لُـب‬ ‫وقد عَ ُ‬
‫فل عُرْف لـديه ول نـكـيرُ‬ ‫ُينَوّخُ ثم يُضْ َربُ بالـهَـراوَى‬
‫جنْبِ الصغير‬ ‫صرَعُه على الْ َ‬ ‫وي ْ‬ ‫يُقَ ّودُه الصبـيُ بـكـلّ أرْضٍ‬
‫ولكنْ َزيْنهُمْ حَـسَـبٌ وخِـيرُ‬ ‫فما عِظَمُ الرجال لهـم بـ َزيْنٍ‬
‫عنَانه‪ ،‬وأَوْسع جَنانه؛ إني لحسبه كما وصف نفسه‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬قاتله الّ! ما أطْوَلَ لسانَه‪ ،‬وأمدّ ِ‬
‫في الطول والقصَر‬
‫وأنشد أحمد بن عبيد الّ الشاعر قديم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل ذاك عَـذولُ‬ ‫ولم يغتمرني َقبْـ َ‬ ‫ت بليل تَـلُـومُـنـي‬ ‫وعاذلةٍ هبّ ْ‬
‫وتُ ْزرِي بمَنْ يا ابْنَ الكرام تَعولُ؟‬ ‫س ُممْلِقـاً‬ ‫تقول‪ :‬اتئدْ ل َيدْعُك النا ُ‬
‫ك يَقُـولُ‬ ‫وطارقُ ليل عـنـد ذا َ‬ ‫ي كـريمةٌ‬ ‫ت نفس علـ ّ‬ ‫فقلتُ‪ :‬أبَ ْ‬
‫كريمٌ على حين الكرامُ قـلـيلُ‬ ‫عمْ َركِ الّ أنـنـي‬ ‫ألم تعلمي يا َ‬
‫ن يُقالَ بـخـيلُ‬ ‫سَخِي‪ ،‬وأخْزَى أ ْ‬ ‫وأني ل أخْزَى إذا قيل ُممْـلِـق‬
‫عنْصُرِ الحساب كيف يَؤُولُ‬ ‫إلى ُ‬ ‫س الغويةَ وانظرِي‬ ‫فل َت ْتبَعي النف َ‬
‫له َقصَبٌ جُوفُ العِظـام أسـيلُ‬ ‫ول َتذْهَبْن عيناكِ في كل شَ ْرمَـحٍ‬
‫به‪ ،‬حين يشتدّ الـزمـانُ‪ ،‬بَـدِيلُ‬ ‫عسى أن َت َمنَى عرسُه أنني لهـا‬
‫بعارفةٍ حـتـى يقـال طـويلُ‬ ‫إذا كنتُ في القوم الطوال فطُ ْل ُتهُمْ‬
‫إذا لم تَزِنْ حُسْن الجُسوم عقـولُ‬ ‫حسْنِ الجسوم وطولها‬ ‫ول خيرَ في ُ‬
‫تموت إذا لم تُحـ ِيهِـنّ أصـول‬ ‫فكائنْ رأينا مـن فـروع طـويلة‬
‫له بال ِفعَال الصالحـاتِ وَصـول‬ ‫فإلّ َيكُنْ جسمي طويلً فإنـنـي‬
‫جهُـهُ فـجـمـيلُ‬ ‫فحُلوٌ‪ ،‬وأماّ َو ْ‬ ‫ولم أرَ كالمعروفِ‪ :‬أمّا مَـذاقُـه‬
‫وقال ابن الرومي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫رَاجح الوَزِن عند وَزنِ الرجال‬ ‫ونَصِيفٍ من الرجال نـحـيفٍ‬
‫ر فلم تُغنِهِم جسوم الـبِـغَـالِ‬ ‫في أُناسٍ أوتوا حلومَ العَصافي‬
‫أخذه من قول حسان بن ثابت؟ وقال له بنو الديان الحارثيون‪ :‬قد كنّا نحن نَطول بأجسامنا على العرب حتى قلت‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫إنَ الرجال ذوو قـ َد وتَـذْكـير‬ ‫دَعوا التّخاجؤَ وامشوا مشيَةً سجحاً‬
‫جِسمُ البغالِ وأحْلَمُ العَصـافـيرِ‬ ‫ل ومن عِظمٍ‬ ‫ل بأسَ بالقو ِم من طو ٍ‬
‫فتركتنا ل نرى أجسامَنا شيئاً‪.‬‬
‫ب تمدح الطول‪ ،‬وتثني عليه‪ ،‬وقال عنترة بن شداد‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫والعر ُ‬
‫حذَى ِنعَالَ السبْت لَيس بتَوْأمِ‬ ‫يُ ْ‬ ‫ن ِثيَابَه في سَـرحَة‬ ‫بَطَلٌ كأ ّ‬
‫قوله‪ :‬ليس بتوأم يريد ليس ممن زوحم في الرّحم فضعف‪ ،‬كما قال الشعبي‪ ،‬وقد دخل على عبد الملك بن مروان‪ ،‬فجعل ينظُرُ إليه‪ ،‬وكان‬
‫الشعبي قد وُلد توأمًا مع أخيه‪ ،‬فكان نحيفاً‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إني زُوحمت في الرحم‪ ،‬وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ِنهَالً‪ ،‬وأسبابُ المنايا نِهالـهـا‬ ‫ولمّا التقى الصفّانِ واختلف ال َقنَا‬
‫وأنّ أعزاء الرجال طِوالُـهـا‬ ‫تبين لـي أنّ الـقـمـاء َة ذِلّة‬
‫وقال أبو نواس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سنَى بَرْقِ غادٍ أو ضجيجُ رِعَـادِ‬ ‫َ‬ ‫وكنّا إذا ما الحائنُ الْـجَـدّ غـرّهُ‬
‫ل نجادِ‬ ‫بماضي الظبَى يَزْهاه طو ُ‬ ‫ت َردّى له الفضلُ بن يحيى بن خالدٍ‬
‫قَميص مَحُوكٌ من قنـاً وجِـيَادٍ‬ ‫ن كـأنـهُ‬ ‫أمام خمـيس أرجـوا ٍ‬
‫ومن هذا البيت أخذ أبو الطيب المتنبي قوله‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫وَلكِنهُ بالقَنا مخمَل‬ ‫ومَلموَمة زرد ثَوبهَا‬
‫رجع إلى كثير عزة‬
‫ن يتبسًم‪ ،‬فقال‪ :‬لول أنّ سرورك ل يت ّم بأن تَسلَم وأسقم لدعوت الَ أن‬ ‫ودخل كثير على عبد العزيز بن مروان وهو عَليل‪ ،‬وأهلُه يتمنون أ ْ‬
‫يصرف ما بك إلي‪ ،‬ولكني أسألُ ال أيها المير العافيةَ لك ولي في كنَفك؛ فضحك وأمر له بمال فخرج وهو يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن بـالـعُـوَادِ‬‫ليت التشكّي كا َ‬ ‫ونعودُ سيدنـا وسـّيدَ غـيرنـا‬
‫بالمصطَفى من طارِفي وتِلَدي‬ ‫ل فِـدْيةٌ لـفـديتـهُ‬ ‫لو كان تُ ْقبَ ُ‬
‫طرِيه‬
‫حفْصة شِعرَ جرير والفرزدق وكثير‪ ،‬فذهب إلى تقديم كثير‪ ،‬وجعل يُ ْ‬ ‫قال محمد بن سلم الجمحي‪ :‬قال أبي‪ :‬ذاكرتُ مروان بن أبي َ‬
‫ويقول‪ :‬هو أمدحهم للخلفاء‪ ،‬فقلت‪ :‬أمِنْ جودة مدحه للخلفاء قوله لعبد الملك بن مروان‪ :‬الطويلَ‪:‬‬
‫ت كـمـولـهـا‬ ‫ثمانون ألفًا قد تَوافَ ْ‬ ‫ف دونهُ‬ ‫ترى ابنَ أبي العاصي وقد صُ ّ‬
‫إذا أمكَنـتـه شَـدّة ل يُقـيلـهـا؟‬ ‫يقلّـب عـينَـي حـية بـمـفَـازَةٍ‬
‫فقال هذا للخليفة ودونه ثمانون ألفاً‪ ،‬وجعله يقلّب عيني حية‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫غَزَا كامناتِ الودّ مني فنالها‬ ‫وإنَ أمي َر المؤمنين هو الذي‬

‫‪103‬‬
‫صدْره‪.‬‬
‫زعم أن أمير المؤمنين استعطفَه حتى غَزَا كامناتِ َ‬
‫وقوله لعبد العزيز بن مروان‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ضبَابي‬‫ج من َمكَامنها ِ‬ ‫خرِ ُ‬‫وت ُ‬ ‫ضغْني‬ ‫ك تَسُل ِ‬ ‫وما زالَتْ رُقا َ‬
‫حيّة تحت الحجـابِ‬ ‫أجابَك َ‬ ‫ويَرْقيني لك الحاوون حتـى‬
‫سكَته‪.‬‬‫زعم أن عبد العزيز تَرَضّاه‪ ،‬واحتال له ورقَاه‪ ،‬حتى أجابه؛ أ َكذَا تُمدَح الملوك؟ فأ ْ‬
‫فصول قصار‬
‫خدَعك‪ ،‬وعند الحقائق تَدَعك‪ .‬إذا كان‬ ‫من كان له من َنفْسِه واعظ‪ ،‬كان من ال عليه حافظ‪ .‬العبد ح ٌر إذا َقنَع‪ ،‬والحُ ُر عب ٌد إذا طمع‪ .‬الماني تَ ْ‬
‫حتَه‪ .‬تج َرعْ‬ ‫خصِيماً‪ .‬تعزَ عن الشيء إذا ُم ِن ْعتَه‪ ،‬بقلة ما يصحبك إذا مُن ْ‬ ‫الطمعُ هلكاً‪ ،‬كان اليأسُ إدراكاً‪ .‬ليس ُيعَدٌ حكيماً‪ ،‬من لم يكن لنفسه َ‬
‫صبْرُ عن محارِم الّ‪ ،‬أيْسر من الصبر على عذاب الّ‪.‬‬ ‫مَضَض الصبر تطفئ نار الضر‪ .‬الحكمة حفظُ ما كلفت‪ ،‬وتَ ْركُ ما كفيت‪ .‬ال ّ‬
‫شذور لهل الصّرّ في معانٍ شتّى‬
‫شمَكير شمس المعالي في أثناء رَسائِله‪ :‬ب َزنْد الشفيع تُورِي نار النجاح‪ ،‬ومن كفّ المفيض يُنتظر فوز القِداح‪،‬‬ ‫قطعة من كلم المير قابوس بن َو ْ‬
‫شيَم‪ .‬وبالقوادم‬ ‫الوسائل أقدام ذوي الحاجات‪ ،‬والشفاعات مفاتيحُ الطِلبَات‪ .‬العفو عن المجرم من مُوجبات الكرم‪ ،‬و َقبُول المعذرة من محاسن ال َ‬
‫والخوافي قُ َوةُ النجاح‪ ،‬وبالسنّة والعًوَالي عمل الرماح‪ .‬الدنيا دار تغرير وخداع‪ ،‬وملتقى ساعة لوداع‪ ،‬والناس ُمتَصرّفون بين كلّ وِرد وصدَر‪،‬‬
‫عنَاء‪ ،‬وإذا كان‬ ‫ل يكون‪ ،‬وآّخر الحياء فناء والجزع على الموات َ‬ ‫وصائرون خبَرًا بعد أثر‪ .‬غايةُ كل متحرك إلى سكون‪ ،‬ونهاية كل متكون َأ َ‬
‫حبَاء‪ ،‬فأبْشر بوشْك النقضاء‪،‬‬ ‫صفْوُه من غير كدر معدوم‪ .‬إذا سمح الدهر با ْل ِ‬ ‫ذلك كذلك‪ ،‬فِلمَ التهالك على الهالك؟ حشْوُ الدهر أحزان وهموم‪ ،‬و َ‬
‫وإذا أعار‪ ،‬فاحسبه قد أغار‪ .‬الدهر طعمان؛ حلو ومر‪ ،‬واليام ضربان؛ عُسْر ويسر‪ .‬لكل شيء غاية ومنتهى‪ ،‬وانقطاع وإن بلغ المدى‪ .‬تَ ْركُ‬
‫الجواب‪ ،‬داعيةُ الرتياب‪ ،‬والحاجة إلى القتضاء‪ ،‬كسوف في وجه الرجاء‪ .‬هم المنتظر للجواب ثقيل‪ ،‬والمدى فيه وَإن كان قصيراً طويل‪.‬‬
‫النجيب إذا جرى لم يشق غباره‪ ،‬وإذا سرى لم تلحق آثاره‪ .‬ومن أيْنَ للضباب صَوْب السحاب‪ ،‬وللغراب هُ ِويّ العقاب‪ ،‬وهيهات أن يكتسب‬
‫الرض لطافة الهواء‪ ،‬ويصير البدر كالشمس في الضياء‪.‬‬
‫شمس المعالي ابن وشمكير‬
‫ل كتابه‪ ،‬وآخرُ دعوى ساكني‬ ‫وقد ترجم عن شمس المعالي أبو منصور الثعالبي في كتاب ألفه له؛ قال في أوله‪ :‬أما على أثر حَمدِ ال الذي هو أو ُ‬
‫دَار ثَوابه‪ ،‬والصلةِ على خيرته من بريتِه‪ ،‬وعلى الصَفْو ِة من ذريته‪ ،‬فإن خيرَ الكلم ما شغل بخِدمَة مَن جمع الُ له عِزَةَ المُ ْلكِ إلى بَسْطَةِ‬
‫ل من‬ ‫ك العصر‪ ،‬ومدبّرِي الرضِ ووُلة المر‪ ،‬بخصائص من ال َعدْلِ‪ ،‬وجلئ َ‬ ‫جعَلَه مميّزاً على ملو ِ‬ ‫العلم‪ ،‬ونورَ الحكمة إلى نفوذِ الحكم‪ ،‬و َ‬
‫سنّة القلم‪،‬‬ ‫سيَرِ النام‪ ،‬تَحْرُسها أ ِ‬ ‫الفضل‪ ،‬ودقائقَ من الكرَمِ المَحْضِ‪ ،‬ل يدخلُ أيسرُها تحت العادات‪ ،‬ول ُيدْرَك أقلُها بالعبارات؛ ومحاسنُ ِ‬
‫وتدرسها ألسنةُ الليالي واليام‪ ،‬وهذه صفة تُغني عن تشبيه الموصوف لختصاصه بمعناها‪ ،‬واستحقاقه إياها‪ ،‬واستئثاره على جميع الملوك بها‪،‬‬
‫س المعالي‪ ،‬خالص ًة وعليه مقصورة‪ ،‬وبه لئقة‪ ،‬وعن غيره نَافِرة؛ إذ هو ‪ِ -‬ب ُمعَاينة الثار‪ ،‬وشهادة‬ ‫ولعِلْم سامعها ببديهة السّماع أنها للميرِ‪ ،‬شم ِ‬
‫غرّة الدنيا‪ ،‬ومفزَع الوَرَى‪ ،‬وحسنَةُ العالم‪ ،‬ون ْكتَةُ الفَلكِ‬ ‫الخيار‪ ،‬وإجماع الولياء‪ ،‬واتفَاقِ العداء ‪ -‬كافلُ المجد‪ ،‬وكافي الخَلق‪ ،‬وواحدُ الدهر‪ ،‬و ُ‬
‫عنَة الفضل؛ وأدام حُسْنَ النظر للعباد والبلد‪،‬‬ ‫الدائر؛ فبلّغه ال أقصى نهاي ِة العمر‪ ،‬كما بلّغه أقصى غايةِ الفخر؛ وملكه أ ِزمَة المر‪ ،‬كلّما ملّكه أ ِ‬
‫س ْعدِ‪ ،‬وزاد دوَلتَهُ شبابًا ونموّا‪ ،‬كما زادهُ في الشرف عُلوّا‪ ،‬حتى‬ ‫بإدامة أيامه التي هي أعيا ُد الدّهْرِ‪ ،‬ومواسم اليُمن والمْنِ‪ ،‬ومطالع الخير وال ّ‬
‫طعَه أجل‪.‬‬ ‫غذَا َء نفسه‪ ،‬ويترامَى به القبالُ إلى حيث ل يبلُغه أمل‪ ،‬ول يَق َ‬ ‫س ْمعِهِ‪ ،‬والمسارّ ِ‬ ‫تكون السعاداتُ َو ْف َد بابه‪ ،‬والبشائر ِقرَى َ‬
‫نَحَا في قوله‪ :‬وهذه صفة تُغني عن الموصوف إلى قول أبي الطيب يَرْثي أُختَ سيف الدولة‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫كناي ًة بهمَا عن أشْرَفِ النَسَـبِ‬ ‫خيْرِ أبِ‬ ‫خ يا بنْتَ َ‬ ‫خيْرِ أ ٍ‬
‫ختَ َ‬ ‫يا أ ْ‬
‫سمَاكِ لِ ْل َعرَبِ‬‫ك فَ َقدْ َ‬
‫ن دعَا ِ‬ ‫ومَ ْ‬ ‫ي مُـؤَثـثةً‬ ‫سمَ ْ‬‫ك أن تُ ْ‬ ‫ل قَدْ َر ِ‬
‫أج ُ‬
‫ومن شمس المعالي يقول المير أبو الفضل الميكالي‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫فمن عَصَى قابوسَ لقى بوسا‬ ‫شمْسَ العُلَ قابوساً‬ ‫صيَنْ َ‬‫ل َتعْ ِ‬
‫وله يقولُ بديعُ الزمان في قصيدة نظمها في تضاعيف رسال ٍة موشحة‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫وتعـدّاك سـيّء القـتـراحِ‬ ‫إن مَنْ كنت من مُناه بـمَـرْأَى‬
‫ل يُعيد رِيشَ جـنـاحِـي‬ ‫و َقبُو ٍ‬ ‫بين بِشْ ٍر يَ ُردّ غـائِضَ جـاهـي‬
‫ت بُرْد النـجـاحِ‬ ‫س به وادرَع ُ‬ ‫ت مَـشْـرَعة الُن‬ ‫وبساطِ و َردْ ُ‬
‫في نظام من ال ُنهَى وتَـصـاحِ‬ ‫فاقْض أوْطَاراً التَقتْ وال َمعَالـي‬
‫ر الليالي يَ ْومَا نَـدى وكِـفَـاحِ‬ ‫ملك دُونَه تـقـطّـعُ أبـصـا‬
‫م رِوَاقـاً و َردّ وفْـدَ الــريَاح‬ ‫ملك لو يشا ُء مَد علـى الـنّـج‬
‫حسْنِ ذات الوِشَاحِ‬ ‫ه وطوراً في ُ‬ ‫تارةً في خُشونَةِ الدّهْرِ تَـلْـقـا‬
‫لك عُجبًا به وفَـرْطَ ا ْرتِـيَاحِ‬ ‫ملك كلّمـا بَـدَا نـقـفُ الف‬
‫طرْقِ المزاحِ‬ ‫غيْرُ ُ‬‫طرُقُ الجدّ َ‬ ‫ُ‬ ‫هكذا هكذا تكونُ الـمـعـالـي‬
‫وهي طويلةٌ‪ ،‬كتبتها على طريق الختيار‪.‬‬
‫لَ بقاء المير السيد شمس المعالي‪ ،‬وأدام سلطانه ‪َ -‬ت ِعدُني هذا‬ ‫رقعة لبديع الزمان إلى شمس المعالي‪ ،‬وقد ورد حضرته‪ :‬لم تَزَلِ المالُ ‪ -‬أطال ا ُ‬
‫ف صنوفها‪ ،‬بين حُلْوٍ استرقَني‪ ،‬ومرّ استخفني‪ ،‬وشرّ صار إليّ‪ ،‬وخيرٍ صِ ْرتُ إليه‪ ،‬وأنا في‬ ‫اليوم‪ ،‬واليا ُم تمطُلني بأَلسنةِ صروفِها‪ ،‬على اختل ِ‬
‫سدَتُه‬‫شرِقاً للمشرق القصى‪ ،‬وطورًا َمغْرِباً للمغرب‪ ،‬ول مطمح إل حضرته الرفيعةْ‪ ،‬و ُ‬ ‫خلل هذه الحوال أذْ َرعُ الفاقَ فأكون طورًا مَ ْ‬
‫شمْت هَوْلَ‬ ‫المريعة‪ ،‬ول وسيلة إلّ المنزع الشّاسع‪ ،‬والمل الواسع؛ وقد صرت ‪ -‬أطال الُّ بقاء المير مولنا ‪ -‬بين أنياب النوائب‪ ،‬وتج ّ‬
‫حضْرَة البهيّة أو كِدتُ‪ ،‬وبلغت الُمنية‬ ‫الموارد‪ ،‬وركبت أ ْكتَافَ المكاره‪ ،‬ورضعْتُ أخْلَفَ العوائق‪ ،‬ومسحت أطْراف المراحل‪ ،‬حتى حضرت ال َ‬
‫ط من عنان الفَضل‪ ،‬بتمكين خادِمه من المجلس يَلْقَاه ب َقدَمه‪ ،‬والبساط ي ْل ِثمُه بفمه‪ ،‬تَفضّله‪،‬‬ ‫سِ‬‫أو ِزدْت‪ ،‬وللمير السيد في الصغاء إلى المجد‪ ،‬والبَ ْ‬
‫فلهُ الرأي العالي إن شاء ال‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫وله إلى بعض الرؤساء وقد وعد بحضور مجلسه بالغداة وأمره أنْ يزف إليه ما أنشأه‪ ،‬فبعث به وكتب إليه‪ :‬مَ ْرحَباً بسلمِ الشيخ سيّدي ومولي‬
‫ع َدتُه الجميلةُ بالحضو ِر غدا فانتظرتها؛ ودعوتُ ال أن يَطْوي ساعاتِ‬ ‫ب بِطَ ْل َعتِه؛ وقد وصَلت تح ّيتُه فشكرتها‪ ،‬و ِ‬ ‫لَ بقاه‪ ،‬ول كالمَ ْرحَ ِ‬ ‫أطال ا ُ‬
‫ك الدّوَار‪ ،‬ويَ ْرفَع البركة من سيره‪ ،‬ويجهز الحركة إلى دوره؛ ويُسِرّني بو ْفدِ الظلم وقد‬ ‫النهار‪ ،‬ويزجّ الشمسَ في ال َمغَار‪ ،‬و ُيقَرَب مسافَة الفَل ِ‬
‫نزل‪ ،‬ثم لم يَ ْلبَثْ إل ريثما َرحَل؛ وقد بعثتُ بما طلب سمعاً لمره وطاعة‪ ،‬والنسخة أسقمُ من أجْفان ال َغضْبان‪ ،‬والشيخ سيدي ‪ -‬أدام الُّ عزه ‪-‬‬
‫يُ ْركِضُ قلمه في إصلحها‪ ،‬وحبّذا هو في غدٍ‪ ،‬وقد طلع كالصبح إذا سطع‪ ،‬والبرق إذا لمع‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫إن كان إلمامُ الحبةِ في غدِ‬ ‫ل بـهِ‬‫يا مرحباً ب َغدٍ ويا أه ً‬
‫وله إلى أبي الطيب سهل بن محمد يسأله أن يصله بأبي إبراهيم إسماعيل بن أحمد‪:‬‬
‫ب غيره‬ ‫حرَفت‪ ،‬أو للنجح بابٌ سواه لَوَلجت‪ ،‬أو للفضل خاط ٌ‬ ‫ف لنْصَ َرفْت‪ ،‬أو للمل مُنحَرَف إلى سواه نْ َ‬ ‫لو كان للكرم عن جَنابِ الشيخ ُمنْصَ َر ٌ‬
‫سمَته‪ ،‬ويجذب العل َء بهمته‪ ،‬ويُسعِدُ‬ ‫لزوجت‪ ،‬ولكِن أبى ال أنْ يعقدَ إلّ عليه الخنصر‪ ،‬أو يتحلى إل بفواضله الدهر‪ ،‬ول يزال كذا يتسِم المج ُد بِ ِ‬
‫الدينَ بنظره‪ ،‬والدنيا بجماله‪ ،‬وغلمُه أنا لو استعار الدهر لسانا‪ ،‬واتّخذ الريح تَرجُمانا‪ ،‬ليُشِيع إنعامَه حقّ الشاعة‪ ،‬ل َقصُرَت به َيدُ الستطاعة‪،‬‬
‫فليس إل أن يلبس مكارمه صافيةً سابغة‪ ،‬و َي ِردَ مشارِعَه صافيةً سائغة‪ ،‬ويحيل الجزاء على يد قصور‪ ،‬والشكر على لسان قَصِير؛ ثم إنَ‬
‫ل من حَلْي المجدِ صَدرُها‪ ،‬كبر َمهْرُها‪ ،‬وَعَز كفؤها‪ ،‬ولم أجد لها إل واحداً أخْضَر الجلدة‬ ‫حرُها‪ ،‬ولم َيعْطَ ْ‬ ‫حاجاتي‪ ،‬إذا لم َيعْ َر من قلئدِ المجدِ ن ْ‬
‫لّ مُهجَته‪ ،‬وأَسوقها منظومة من الصدْرِ‬ ‫في بيت العرب‪ ،‬أو ماجدًا يملُ الدَلْو إلى عقد الكَرَب‪ .‬وهذه حاجة أنا أزفها إلى الشيخ المام حرَص ا ُ‬
‫إلى العجزِ‪ ،‬كما يساقُ الماءُ إلى الرض الجُرُز؛ وأنا من مفتًتح اليوم إلى مخ َتتِمه‪ ،‬ومن قَرْنِ النهار إلى َقدَمِهِ‪ ،‬قاعد كالكُ ْركِي‪ ،‬أو الديك الهنْدِي‪،‬‬
‫لدْحِي‪ ،‬يمرّ بي أولو الحلى والحلل‪ ،‬ويجتاز ذوو الخَيل والخَول‪ ،‬ومَا أنا والنظر إلى ما ل يَليني‪ ،‬والسؤال عما ل يَعنِيني‪ ،‬واليوم‪ ،‬لما‬ ‫في هذا ا ُ‬
‫عيْنَ كمالِه‪ ،‬عن جماله‪ ،‬فقلت لمن حضر‪ :‬مَنْ هذا؟ فأخذوا‬ ‫ب يَصْرِفُ َ‬‫افتضضنا عُذرة الصباح‪ ،‬ملتُ جفوني من مَنظَرٍ ما أحْ َوجَه إلى عَي ٍ‬
‫يحركون الرؤوسَ استظرافاً لحالي‪ ،‬ويتغامزون تعجباً من سؤالي‪ ،‬وقالوا‪ :‬هذا الشيخُ الفاضلُ أبو إبراهيمَ إسماعيلُ بن أحمد‪ ،‬فقلت‪ :‬حَرَسَ الُ‬
‫خ ْدمَته‪ ،‬وأنى مَأتى معرفته؟ قالوا‪ :‬إن الشيخ المام ‪ -‬أدام ال تأييده ‪ -‬يضربُ في مَودته بال ِقدْحِ‬ ‫غبْطته؛ فكيف الوصولُ إلى ِ‬ ‫مُهجَته‪ ،‬وأدام ِ‬
‫ال ُمعَلَى‪ ،‬ويَأخُذ في معرفته بالحظ العلى‪ ،‬فإن رأى الشيخ ‪ -‬أطال ال بقاه ‪ -‬أن تُجعَل عنايتُه حَرْفَ الصلة‪ ،‬وتفضّله لَمَ المع ِرفَة‪َ ،‬فعَلَ‪ ،‬إن شاء‬
‫ال‪.‬‬
‫البرامكة‬
‫قال الرشيد ليحيى بن خالد‪ :‬يا أبتِ‪ ،‬إني أردتُ أن أجعل الخاتم الذي في يد الفَضل إلى جعفر‪ ،‬وقد احتشمت منه فاك ِفنِيه‪.‬‬
‫فكتب إليه يحيى‪ :‬قد أمر أمي ُر المؤمنين ‪ -‬أَعلَى ال أمره ‪ -‬أن يحول الخاتم من يمينك إلى شمالك‪.‬‬
‫ت عني نعمةٌ صارت إليه‪ ،‬ول غَرَبت عني رتبة‬ ‫فأجاب الفضل‪ :‬قد سَمعتُ ما قاله أمير المؤمنين في أخي‪ ،‬وقد اطلعت على أمره‪ ،‬وما انقَلبَ ْ‬
‫ت عليه‪.‬‬‫طلعَ ْ‬
‫فقال جعفر‪ :‬ل أخي! ما َأنْ َفسَ نفسه‪ ،‬وأَبيَن دلئل الفضل عليه‪ ،‬وأقوى ُمنَة العَقْل فيه‪ ،‬وَأوْسع في البلغة ذَرْعَه‪ ،‬وأَ ْرحَبَ بها جنابه‪ .‬يُوجب على‬
‫حمِلُ بكرمه فوق طاقته‪.‬‬ ‫نفسه ما يجب له‪ ،‬ويَ ْ‬
‫و ُذكِر جعفرُ بن يحيى في مجلس ثُمامَة بن أشرس فقال‪ :‬ما رأيت أحدًا من خَلْق ال كان أبْسَطَ لساناً‪ ،‬ول أَ ْلحَن بحجّة‪ ،‬ول أقدر على كلم‪ ،‬بنَظْمٍ‬
‫حشْ ِو من الكلم‪ ،‬ول يُعِيدُ لفظاً ول‬ ‫ل كلمه بِ َ‬ ‫حَسَنٍ‪ ،‬وألفاظٍ عذبة‪ ،‬و َمنْطق فصيح‪ ،‬من جعفر بن يحيى‪ ،‬كان ل يتوقف‪ ،‬ول يتحبس‪ ،‬ول َيصِ ُ‬
‫ل كان أكثر منه‪ ،‬ول يمُرُ بذهنه شيء‬ ‫خ َر ما فيه؛ وكان ل يرى شيئاً إل حكاه‪ ،‬ول َيحْكي شيئاً إ ّ‬ ‫ج من فنّ إلى غيره‪ ،‬حتى يبلغ آ ِ‬ ‫معنى‪ ،‬ول يَخْر ُ‬
‫إلّ حفظه‪ ،‬وكان إذا شاء أضحك الثكْلَى‪ ،‬وَأذْهَل الزاهد‪ ،‬وخشَن قَلْبَ العابد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف كانت معرفته؟ قال‪ :‬كان من أعلم الناس بالخبر الباهر‪ ،‬والشعر النادر‪ ،‬والمثل السائر‪ ،‬والفصاحة التامة‪ ،‬واللسان البسيط‪.‬‬
‫جوْهَراً‪ ،‬لكان كل َم ُهمَا‪ ،‬والمنتقى من‬ ‫قال سهل بن هارون‪ ،‬وذكر يحيى بن خالد وابنه جعفراً‪ ،‬فقال‪ :‬لو كان الكلم مُتصوَرًا دُرّاً‪ ،‬ويُلْقيه المنطق َ‬
‫ل عليهما‪ ،‬ول‬ ‫ن مقصورةً إ ّ‬ ‫ل فيهما‪ ،‬ولم تكُ ْ‬ ‫س َت ْكمَلْ إ ّ‬
‫ت طبقة المتكلمين في أيامهما‪ ،‬وهم يَرَوْن البلغة لم تُ ْ‬ ‫غبَرت معهما‪ ،‬وأد َركْ ُ‬ ‫ألفاظهما‪ .‬ولقد َ‬
‫عتْقَ منظرٍ‪ ،‬وجود َة مَخْبرٍ‪ ،‬وسهولَةَ لفظِ‪ ،‬وجزالة منطق‪ ،‬ونزاهة نفس‪ ،‬وكمال خصال؛ حتى لو فاخرت‬ ‫ل لهما‪ .‬وإنهما للُبابُ الكرم‪ِ ،‬‬ ‫انقادت إ ّ‬
‫الدنيا بقليل أيامهما‪ ،‬والمأثو ِر من خصائصها جميعَ أيا ِم مَنْ سواهما من لدُنْ آدم إلى أن ُينْفَخَ في الصور‪ ،‬ويبْعث أهل القبور ‪ -‬حاشا أنبياء الّ‬
‫ل عليهما‪ ،‬ولقد كنا ‪ -‬مع تهذيب أخلقهما‪ ،‬و َمعْسُول َمذَاقهما‪ ،‬وسنا‬ ‫الكرام‪ ،‬وسَلَفِ عباده الصالحين ‪ -‬لما باهت إلّ بهما‪ ،‬ول عَوَلت في الفخر إ ّ‬
‫إشراقهما‪ ،‬وكمالِ الخي ِر فيهما ‪ -‬في محاسن المأمونِ كالن ْقطَة في البحر‪ ،‬والخَردَلِ في القَفْرِ‪.‬‬
‫ووقع جعفرُ بن يحيى لرجو اعتذر عنده من ذنب‪ :‬قد قدمَتْ طاعَتك‪ ،‬وظهرت نصيحتك‪ ،‬ول تغلب سيئة حسنتين‪.‬‬
‫خيْطُ ا ْلحِكمة‪ُ ،‬ينْظَ ُم فيه منثورُها‪ ،‬ويفصل فيه شذُورُها‪.‬‬ ‫و َوقَع ‪ -‬وقد قرأ كتابًا فاستحسن خطّه ‪ :-‬الخطُ َ‬
‫واختصم رجلن بحضرته‪ ،‬فقال لحدهما‪ :‬أنت خِليّ‪ ،‬وهذا شَجِي؛ فكلمك يجْرِي على بَ ْردِ العافية‪ ،‬وجوابُه يَجْرِي على حَ ّر المصيبة‪.‬‬
‫ودخل مروان بن أبي حفصة على جعفر بن يحيى فأنشده‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جعْفَرُ‬‫سبّاقُ الضامِيم َ‬ ‫أبو الفضل َ‬ ‫اب ُر فما تَرْجُو الْجِيادُ لـحَـاقـهُ‬
‫أشار بما عنه الخلف ُة تَـصْـدُرُ‬ ‫وزي ٌر إذا ناب الخـلفةَ حـادِثٌ‬
‫شدَهُ‪ :‬الوافر‪:‬‬‫ن بن زائدة‪ ،‬فأنْ َ‬ ‫فقال جعفر‪ :‬أنشدني مرثيتك في َمعْ ِ‬
‫مقـامـــاً مـــا نُـــرِيدُ بـــه زَوال‬ ‫أقَـمْـنَـا بـالـيمـامة أو نَــســـينـــا‬
‫وقـد ذهـب الـنَـوَالُ فـــل نَـــوَال؟‬ ‫ب بـعـد مَــعْـــنٍ‬ ‫وقـلـنـا‪ :‬أينَ نـذهـ ُ‬
‫عيَال‬
‫س كلُهم ل َم ْعنٍإلى أن زار حُ ْف َرتَهُ ِ‬ ‫وكان النا ُ‬
‫حتى فرغ من القصيدة‪ ،‬وجعفر يُ ْرسِل دموعه على خدّيه‪ ،‬فقال‪ :‬هل أثابك على هذه المرثية أح ٌد من أهْ ِل بيته وولده؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فلو كان معن‬
‫ن أنه ل يَرْضَى لك بذلك‪ ،‬وقد أمرنا لك عن َمعْن ‪ -‬رحمه ال‬ ‫حيّا‪ ،‬ثم سمعَها منك‪ ،‬كم كان يُثنيك عليها؟ قال‪ :‬أربعمائة دينار‪ ،‬قال‪ :‬فإنَما كنّا نظ ّ‬
‫ل ذلك؛ فا ْقبِض من الخازن ألفاً وستمائة دينار قبل أن تخرج‪ ،‬فقال مروان ‪ -‬يذكر جعفراً وما سمح به عن‬ ‫‪ -‬بالضّعف مما ظننته‪ ،‬و ِزدْناك مث َ‬
‫معن ‪ :-‬الوافر‪:‬‬
‫لنا فيما تَجُودُ به سِـجَـال‬ ‫ت مُكافِئاً عن جُو ِد َمعْنٍ‬ ‫ح َ‬
‫نَفَ ْ‬

‫‪105‬‬
‫لنادِبهِ ولم تُ ِردِ المِـطَـال‬ ‫فعجلْتَ العطية يا ابْنَ يحيى‬
‫ت نَـوَال‬‫بَأجْ َودِ راح ٍة َبذَل ْ‬ ‫صدَى معْنٍ جَوَادٌ‬ ‫فكافأ عن َ‬
‫ن يُنـال‬
‫بناءً في المكارمِ لَ ْ‬ ‫َبنَى لك خالدٌ وأبوك يحـيى‬
‫تجو ُد به يداه يُفـيد مَـال‬ ‫كأن البرمكيّ لكـل مـالٍ‬
‫أخذ هذا من قول زهير‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ك ُتعْطِيه اَلذِي أنْتَ سائِلُهْ‬
‫كأن َ‬ ‫جئْتَه ُمتَـهَـلَـلً‬
‫تَرَاه إذَا ما ِ‬
‫وهذا البيت لزهير من قصيدة يقول فيها‪:‬‬
‫ص ِم يكادُ يغِلبُ الحقّ باطـلُـهْ‬ ‫وخَ ْ‬ ‫َوذِي ِن ْعمَةٍ َت ّممْتها وشـكـرتـهـا‬
‫إذا ما أضَلّ القائلين مَفَـاصِـلُـهُ‬ ‫ف من الحق صائبٍ‬ ‫ت بمعرو ٍ‬ ‫دفع ُ‬
‫ب فما يُ ْلمِ ْم به فهو قـائِلُـهْ‬ ‫مُصي ٌ‬ ‫سبُ أنـه‬ ‫وذي خطل في القول يَحْ َ‬
‫ت عنهُ وهو بادٍ مَقاتِلُـهُ‬ ‫وأعرض ُ‬ ‫عبَ ْأتُ له حلماً‪ ،‬وأكرمـت غـيرهُ‬ ‫َ‬
‫ب نَـوافِـلُـهْ‬
‫على ُمعْتَفي ِه ما ُتغِ ّ‬ ‫وأبـيضَ فـيّاض يَدَاهُ غَـمـامَةٌ‬
‫ُقعُوداً َل َديْهِ بالصَـريمِ عَـواذِلُـه‬ ‫غدَوْتُ عـلـيه غَـدْوَ ًة فـرأ ْيتُـهُ‬ ‫َ‬
‫ن مَخـاتـلـهْ‬ ‫ن أي َ‬
‫وأعْيا فما يَدْرِي َ‬ ‫طوْراً‪ ،‬وطَـوْرًا يَلُـمْـنَـهُ‬ ‫يُ َفدّينَهُ َ‬
‫جمُوح على المرِ الذي هو فاعلُهْ‬ ‫َ‬ ‫فأعْرَضْنَ عنه عن كـريم مُـ َرزّإ‬

‫ل نائِلُـهْ‬‫ولكنّه قد ُيذْهِبْ الما َ‬ ‫أخِي ثِقَ ٍة ل يُذْهِبُ الخم ُر مَالَهُ‬


‫قال أبو الفرج قُدامةُ بن جعفر‪ ،‬في معنى أبيات زهير الولى‪ :‬لما كانت فضائلُ الناسِ من حيث هم ناس‪ ،‬ل من طريقِ ما هم مشترِكون فيه مع‬
‫ل اللباب من التّفاق في ذلك‪ ،‬إنما هي العقلُ والعفةُ وال َعدْلُ والشجاعة‪ ،‬كان القاصد لل َمدْح بهذه الربعة مُصِيباً‪،‬‬ ‫سائر الحيوان‪ ،‬على ما عليه أه ُ‬
‫وبما سواها مخطئاً؛ وقد قال زهير‪:‬‬
‫ل نائِلُـهْ‬
‫ولكنه قد ُيهِْلكُ الما َ‬ ‫أخي ثق ٍة ل يُتْلِفُ الخمرُ مالَهُ‬
‫فوصفه بالعفَة لقلّة إمعانه في اللذات‪ ،‬وأنه ل ُينْفد فيها ماله‪ ،‬وبالسخاء لهلك ماله في النوال‪ ،‬وانحرافه إلى ذلك عن اللذّات‪ ،‬وذلك هو العدل‪،‬‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫كأنّك ُتعْطِيه الذي أنتَ سائِلُهْ‬ ‫جئْتَه ُمتَـهَـلّـلً‬
‫تراه إذا ما ِ‬
‫فزاد في َوصْفِ السخاء بأنه َيهَش ول يلحقه مضَض ول تكَرّهٌ لِفعْله ثم قال‪:‬‬
‫ضيْم أو لمْـ ٍر يُحـاوِلُـه‬ ‫لنكار َ‬ ‫حصْنٍ في الحروب و ِمثْلهُ‬ ‫َفمَنْ مثلُ ِ‬
‫ح الربعة‪ ،‬التي هي فضائلُ النسان على الحقيقة‪ ،‬وزاد الوفاءَ‪،‬‬ ‫فأتى في هذا البيت بالوصف من جهة الشجاعة والعقل؛ فاستوفى ضروبَ المد ِ‬
‫وإن كان داخلً في الربعة؛ فكثير من الناس ل يعلم وَجْهَ دخوله فيها حيث قال‪ :‬أخي ثقة فوصفه بالوفاء؛ والوفاءُ داخل في هذه الفضائل التي‬
‫قدّمناها‪.‬‬
‫ل ذلك داخل في جملتها؛ مثل أن يذكروا ثقابَةَ المعرفة‪ ،‬والحياءَ‪ ،‬والبيانَ‪،‬‬ ‫وقد يتفنن الشعراء فيعدّون أنواعَ الفضائل الربع وأقسامها‪ ،‬وك ّ‬
‫جرِي هذا المجرى‪ ،‬وهو من أقسام العقل‪ .‬وكذكرهم القناعة‪،‬‬ ‫جهَلةِ؛ وغير ذلك ممّا يَ ْ‬ ‫والسياسة‪ ،‬والصدْعَ بالحجة‪ ،‬والعلم‪ ،‬والحلم عن سفاهة ا ْل َ‬
‫خذَ بالثّار‪ ،‬والدفاع‪ ،‬والنكايةَ‪ ،‬والمهابة‪ ،‬و َقتْلَ القران‪،‬‬ ‫وقلّة الشَرهَ‪ ،‬وطهارة الزار؛ وغير ذلك أيضاً من أقسام العِفة‪ .‬وك ِذكْرِهم الحماية‪ ،‬وال ْ‬
‫ل ذلك‪ ،‬وهو من أقسام الشجاعة؛ وكذِكرهم السماحة‪ ،‬والتغابن‪ ،‬والنظلم‪ ،‬والتبرّع بالنائل‪ ،‬وإجابة السائل‬ ‫والسير في ال َمهَامِه والقفار؛ وما يشاك ُ‬
‫وقِرَى الضياف؛ وما جانس هذه الشياء‪ ،‬وهو من أقسام العدل‪.‬‬
‫فأمّا تركيب بعضها على بعض فتحدث منها ستة أقسام‪ :‬يحدث من تركيب العقل مع الشجاعة‪ :‬الصبرُ على الملمات‪ ،‬ونوازِلِ الخطوب‪ ،‬والوفاءُ‬
‫بالوعود‪ .‬وعن تركيب العقل مع السخاء‪ :‬إنجازُ الوعد‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ .‬وعن تركيب العقل مع العفة‪ :‬التنزه والرغبةُ عن المسألة‪ ،‬والقتصار‬
‫على أدنى معيشة‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ .‬وعن تركيب الشجاعة مع السخاء‪ :‬الخلف‪ ،‬والتلف‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ .‬وعن تركيب الشجاعة مع العفة‪:‬‬
‫ل ذلك‪ .‬وكل واحدة من هذه‬ ‫إنكارُ الفواحش‪ ،‬والغيرةُ على الحُرَم‪ .‬ومن السخاء مع العفة‪ :‬السعاف بالقوت‪ ،‬واليثارُ على النفس‪ ،‬وما شاكَ َ‬
‫الفضائل الربع َوسَط بين طرفين مذمومين‪.‬‬
‫وقد قال أبو جعفر محمد بن مناذر لمّا حجَ الرشيد مع البرامكة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫خبَارٍ‪ ،‬ويا حُسنَ مَنظرِ‬ ‫فيا طِيبَ أ ْ‬ ‫ل بَـ ْرمَـكٍ‬ ‫أتانا بنو الملكِ مِنْ آ ِ‬
‫شهّر‬‫وأُخْرى إلى البيتِ العتيقِ المُ َ‬ ‫لهم ِرحْلة في كلّ عام إلى العِـدا‬
‫بمكةَ ما حَجـوا ثـلثةُ أقـمُـرِ‬ ‫فتُظلِم بغداد‪ ،‬و َيجْلو لنا الـدّجَـى‬
‫حيَى وبالفضل بن يحيى وجعفرِ‬ ‫بيَ ْ‬ ‫إذا نزلوا بطحا َء مكة أشـرقَـتْ‬
‫وأقدامُهم إل لغـوَا ِد مِـنـبَـرِ‬ ‫فما خُِلقَتْ إل لجـودٍ أكـفُـهـم‬
‫سبُك مِن راعِ لـه ومـدبـرِ‬ ‫وحَ ْ‬ ‫صعَابهُ‬ ‫إذا راضَ يحيى الم َر ذََلتْ ِ‬
‫ق ماءً تحت با ٍز مُصَرصِرِ‬ ‫غَرانِي ُ‬ ‫ترى الناسَ إجللً له وكـأنـهـم‬
‫مذهب التجنيس في الغزل‬
‫قطعة من شعر المير أبي الفضل الميكالي في طَرف أخذ بطرف من التجنيس مستطرف في ضروب من الغزل‪ ،‬قال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫و َوكّلَ أجفاني بِرَعي كـواكِـبِـهْ‬ ‫ح ُر الدّجَى بـصُـدُودهِ‬ ‫لقد راعني بَ ْ‬
‫ك بِهْ‬‫صبْراً على ما كَوا َ‬ ‫ويا كَبِدي‪َ ،‬‬ ‫جزَعي‪َ ،‬مهْلً عَسا ُه يَعودُ لـي‬ ‫فيا َ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫‪106‬‬
‫شّبهُهَا بال َقفْرِ أو بِسَـرَابِـهِ‬
‫أَ‬ ‫مواعيده في ال َفضْل أحلمُ نائم‬

‫غيْمٍ سَرَى بِهِ‬


‫سفَرٍ في ليل َ‬
‫أخُو َ‬ ‫فمَنْ لي بوَجْهٍ لو َتحَيرَ في الدُجَى‬
‫وقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫فضَناه َينُوبُ عن ترُجمانِـه‬ ‫صِل محبّا أعياه َوصْف هواهُ‬
‫مُ ْقلَتا ُه بدمع ِة تَرْجُـمـانِـه‬ ‫ك تَـصَـدَتْ‬ ‫كلّما راقهُ سِوا َ‬
‫وقال‪ :‬السريع‪:‬‬
‫سيْفًا قْدني لو فَـرَا‬
‫عليّ َ‬ ‫يا ذا الذي أرسل من طَ ْرفِه‬
‫َتغْرِسُ في خدّك َنيْلَ ْوفَـرا‬ ‫شفاءُ نفسي منك تخمـيشةٌ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ك يشفيه من أوْصـابـهِ‬‫من مال ٍ‬ ‫يا ُمبْتَلًى بضنـاه يَ ْرجُـو رحـمةً‬
‫وتبلّد‪ ،‬فقبلت مـا أوْصَـى بـه‬ ‫سحْرُ جفونه بتـسـهُـد‬ ‫أوصاك ِ‬
‫تَحلُو مرارةُ صبرهِ أوصـابـه‬ ‫صبِر على مَضَضِ الهوى فلرَبما‬ ‫ا ْ‬
‫وقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫عدِ فـي الـجـوا ِ‬
‫ب‬ ‫فعلَلني بوَ ْ‬ ‫كتبْتُ إليه أستـهـدي وِصـالً‬
‫فيطفئ ما أحاط من الجوَى بي‬ ‫ب يكـون خـيراً‬ ‫أل ليت الجوا َ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فاصْبر على حُكمِ الرقيبِ ودارِهِ‬ ‫ت تأنَسُ بالحبيبِ وقُـربـه‬ ‫ن كن َ‬ ‫إْ‬
‫ب ودَارِهِ‬
‫بَواكَ في َمثْوَى الحبـي ِ‬ ‫إن الرقيبَ إذا صبرت لحكمـه‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت مُؤتلي‬
‫رُوَيداً‪ ،‬ففي حُكم الهوَى أنْ َ‬ ‫شكوتُ إليه ما ألقي فقـال لـي‪:‬‬
‫لقل بما تلقَى إذاَ أن تمـوتَ لـي‬ ‫فلو كان حقًا ما ادّعيت مِنَ الهـوى‬
‫وقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ن يُسامحَ بالـنـوَا ِ‬
‫ل‬ ‫حبيب أ ْ‬ ‫نَوى لي بعد إكثارِ الـسـؤال‬
‫عليه أبى الوفا َء بما نَوَى لي‬ ‫فلما ُر ْمتُ إنجازاً لـوعـدي‬
‫ب بالنّوَى لي‬‫فقد قضتِ النوائ ُ‬ ‫ب منه شفاءَ نفسي‬ ‫وكان القر ُ‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ن نحكِي عِناقاً شكل َتنْـوينِ‬
‫ونح ُ‬ ‫ل يج َمعُنَا‬ ‫سقياً لدهرٍ مضَى والوص ُ‬
‫س ْهمُ هجرك تَ ْرمِي ثم َتنْوينـي‬
‫فَ‬ ‫حبَائِلكُـم‬ ‫علِقَتْ كفّي َ‬ ‫فص ْرتُ إذ َ‬
‫وقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫فجفَا ُرقَادِي إذْ صَـدَ ْ‬
‫ف‬ ‫صدَفَ الحبيبُ ب َوصْلـهِ‬ ‫َ‬
‫جفْني صَدفْ‬ ‫أضْحَى لها َ‬ ‫ونثـرت لـؤلـؤ أدمُـع‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ويَسُومُني التعذيبَ في تهذيبـهِ‬ ‫غيْ َر مهـذّب‬ ‫يا مَنْ يقولُ الشعرَ َ‬
‫ب ما َت ْهذِي بهِ‬
‫لعجزت عن تهذي ِ‬ ‫لو أنّ كل النّاس فيك ُمسَاعِـدِي‬
‫وقال‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ن َم بما تُـخْـفـي أسَـاريرُ ُه‬ ‫خفِـي هَـوَاهُ وقَـدْ‬ ‫أراد أن يُ ْ‬
‫قد ذاب من فرْط السَى رِيرُهُ‬ ‫ف يُخْفـي داءَه مُـ ْدنَـفٌ‬ ‫وكي َ‬
‫وقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫شمَائِلُ‬ ‫ب المرء منْه َ‬ ‫ومهفهف تهفُو بِـل‬
‫وال َقدُ غُصنٌ مـائلُ‬ ‫فال ّردْفُ دِعْصٌ هائلٌ‬
‫ق عنه خمـائلُ‬ ‫تنش ّ‬ ‫والخدّ نورُ شـقـائق‬
‫تمّت بهن شـمـائل‬ ‫ف نَشْرُ حَدائق‬ ‫والعَ ْر ُ‬
‫إلّ العِذار حَـمـائِلُ‬ ‫سيْف ما لهُ‬ ‫والطّرْفُ َ‬
‫ولبي الفتح البستي في هذا المذهب‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫وجَنانًا يخفي حَرِيقَ جَـواهُ‬ ‫إن لي في الهوى لِسَانًا كَتُوماً‬
‫ستَرَا ُه يُفْشِي الذي ستَـرَاهُ‬
‫َ‬ ‫غير أني أخاف َد ْمعِي عليهِ‬
‫ولبي الفتح البستي في مذهب هذا البيت الخير‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫أ ْودَعاني َأمُتْ بما أَ ْودَعاني‬ ‫جنَى نَاظِـرَاهُ‬ ‫نَاظِرَاه فيما َ‬
‫وله‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ُأمِ ْرتَ وأعْ ِرضْ عن الجاهلينْ‬ ‫خذِ العفوَ وأمُ ْر بعَرْفٍ كـمـا‬ ‫ُ‬
‫‪107‬‬
‫حسَن من ذوي الجاه لِينْ‬
‫فمستَ ْ‬ ‫ل النـام‬ ‫ولنْ في الكلم لـكـ ّ‬
‫وله‪ :‬مجزوء الوافر‪:‬‬
‫ق دَمِي‬
‫َأرَى َق َدمِي أرا َ‬ ‫سعَى َق َدمِي‬ ‫حتْفِي َ‬
‫إلى َ‬
‫وليس بنافعي نَ َدمِـي‬ ‫ك من نَـدَمِـي‬
‫َفمَا أن َف ّ‬
‫وله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ل كميّ هزّ عامِلَهُ‬ ‫أنساك ك ّ‬ ‫إنْ هز أقلمَه يومًا ل ُي ْعمِلَها‬
‫أقرّ بالرّق كتّابُ النامِ لهُ‬ ‫وإن أقرّ على رَق أنامِلـهُ‬
‫وقال لمن استدعاه إلى مودّته‪ :‬المتقارب‪:‬‬

‫وقلّ الْخَليلُ الْحَفيّ الـوفـي‬ ‫َفدَ ْي ُتكَ قلّ الصديقُ الصـدُوق‬


‫ن تَفِي؟‬
‫فهل راغبٌ أنت في أ ْ‬ ‫ولي راغب فيك إمّـا وفـيت‬
‫وللمير أبي الفضل‪ :‬مخلع البسيط‪:‬‬
‫ت َنعِيمـا‬ ‫كجنّ ٍة قد حَوَ ْ‬ ‫ظبِي حوا ُه قَصْر‬ ‫ل بَ ْ‬
‫أه ً‬
‫أبَاحَني حبّه الحريمـا‬ ‫طَ َر ْقتُه ل أهاب سوءًا‬
‫َتنْفي حريقًا به قديمـا‬ ‫ن فيه لي برَاحٍ‬ ‫فجاد مَ ْ‬
‫حرِيماً أباح رِيمَا‬ ‫ل بَلْ َ‬ ‫أ ْفدِي حريقًا أباح رِيقـا‬
‫وله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫بشادنٍ حَل فيه الحسْنُ أجـمـعُـهُ‬ ‫جمًعهُ‬
‫لنْس أ ْ‬ ‫شمْل ال ُمنَى وا ُ‬ ‫مَنْ لي ب َ‬
‫فالن قد لَنَ بعد الصدّ أخْـدعُـهُ‬ ‫خدَعُهُ‬‫ما زال ُيعْرِضُ عن وَصْلي وأَ ْ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫صبِيبِهِ‬
‫ق َدمْعي للنّوَى و َ‬ ‫ومُرا ِ‬ ‫بأبي غَزال نام عَن ًوصَبي به‬
‫لغرا ِم قَلْبي في الهَوَى ولَهيبه‬ ‫يا لَيته يَرْثي على وَلَهي بـهِ‬
‫وله في هذا الباب من غير هذا النمط يصف غلماً مخموراً خمش وجهه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ورَمى فُؤادي بالصدود فَأزْعَجَا‬ ‫َهبْهُ ْت َغيّرَ حائلً عـن عَـهْـدِه‬
‫والور ُد في خديه عاد بَنَ ْفسَجـا‬ ‫ل نَ ْرجِس ِه تـحـوَل وردةً‬ ‫ما با ُ‬
‫وله في هذا المعنى‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ب َقرْص بعارضهِ أثـرا‬ ‫شتُهُ‬
‫س ْكرِ خمّ ْ‬ ‫وريمٍ على ال ُ‬
‫ووردةُ خ َديْهِ َنيْلَـوفَـرا‬ ‫فأصبح نرْجـسُـه وردةً‬
‫وقال في وصف العِذار‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫نَمَ العِذا ُر بحافَـتـيه فَـلَحـا‬ ‫ي كَسَا رَأسَ الشبابِ بعارضٍ‬ ‫ظبْ ٌ‬
‫َ‬
‫صبَاحا‬ ‫شعري ظَلماً واستعاضَ َ‬ ‫فكأنما أ ْهدَى لـعـارضِ خـدّهِ‬
‫وقال في غلم افتصد‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫لُ بخده رَوْضًا مَرِيعا‬ ‫ومُهفْهفِ غرس الجما‬
‫فجرى له دَمعِي ذريعا‬ ‫ب ذِراعَـهُ‬ ‫صدً الطبي ُ‬ ‫فً َ‬
‫د بعِرقِة ألماً وَجيعـاً‬ ‫وأمسني وقعُ الحـدي‬
‫ما سال من َدمِهِ نجيعَا‬ ‫عبْـرتـي‬ ‫فأريته من َ‬
‫فِقرٌ في ذكر العلم والعلماء‬
‫العلماء ورث ُة النبياء‪ .‬والعلماءُ أعلمُ السلم‪ .‬العلماء في الرض كالنجوم في السماء‪.‬‬
‫جفَى‪ .‬وله‪ :‬زَلَةُ العالم كانكِسَار سفين ٍة َتغْرق و َيغْرق معها خَ ْلقٌ‬ ‫ل ل يخفى‪ ،‬ونَسَب ل يُ ْ‬
‫ابن المعتز ‪ -‬العلماءُ غرباء‪ ،‬ل َكثْرَةِ الجهل‪ .‬وله‪ :‬العلمُ جما ٌ‬
‫كثير‪.‬‬
‫ل التعلّم ساعة‪ ،‬بقي في ذلّ‬ ‫غيره ‪ -‬إذا زلّ العالم‪ ،‬زَل بزَلتِه عالَم‪ .‬غيره‪ :‬الملوك حُكامٌ على الناس‪ ،‬والعلماء حكام على الملوك‪ .‬من لم يحتمل ذ ّ‬
‫الجهل أبداً‪ .‬مَا صِينَ العلم بمثل َبذْلِهِ لهله‪ .‬من كتم علمًا فكأنه جاهلُه‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫أن يمنعوه أهلُه‬ ‫العل ُم يمنعَ أهله‬
‫أبو الفتح كشاجم‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫والعل ُم يمنعُ جانـبَـهْ‬ ‫ل تمنع العـلـم أمـرأً‬
‫طفَهُ وغَـرائبـهْ‬ ‫هم ل ْ‬ ‫أمّا الغبي فـلـيس يف‬
‫ئد عنده كالـغـائبـهْ‬ ‫وتكون حاضرةُ الفـوا‬
‫ل مَـطَـالـبـهْ‬‫أَن ينا َ‬ ‫ستَحِق‬ ‫وأخو الحصافة مُ ْ‬
‫جبَهْ‬‫ن فَضْلِ علمك وَا ِ‬ ‫مِ ْ‬ ‫فبحـقَـه أعـطـيتـهُ‬
‫صخْرَ‪ ،‬كذلك ل ينفعُ البليدَ‬
‫ومن رق وجْهه عند السؤال‪ ،‬رقّ عِلمُه عند الرجال‪ .‬عِلْم بل عمل‪ ،‬كشجرة بل ثمر‪ .‬كما ل ُينْبِتُ المط ُر الكثيرُ ال َ‬
‫لَ بعملِهِ‪ .‬الجاهلُ صغيرٌ وإن كان كبيراً‪ ،‬والعالم كبيرٌ وإن كان صغيراً‪ .‬من أكثر مذاكر َة العلماء‪ ،‬لم ينس‬ ‫كثرة التعلّم‪ .‬من ترفّع بعلمه وضَعه ا ُ‬

‫‪108‬‬
‫ما علم‪ ،‬واستفاد ما لم يعلم‪.‬‬
‫ن دونك من الجهال‪ ،‬واذكُرْ‬ ‫ابن المعتز‪ :‬المتواضعُ في طلب العلم أكثرهم عِلْماً‪ ،‬كما أن المكان المنخفضَ أكثر البقاع ماء‪ .‬إذا علمت فل َتذْكُ ْر مَ ْ‬
‫ب عدمه‪.‬‬‫مَنْ فوقَك من العلماء‪ .‬النا ُر ل يُن ِقصُها ما أخذَ منها‪ ،‬ولكن ُينْقِصُها َألّ تجد حطباً‪ ،‬كذلك العل ُم ل يُ ْفنِيه القتباس منه‪ ،‬وفَ ْقدُ الحاملين له سب ُ‬
‫مات خَزَنة الموال وهم أحياء‪ ،‬وعاش خُزانُ العلم وهم أموات‪ .‬مثَلُ عِلم ل ينفع ككنز ل ينفَق منه‪ .‬أزْ َهدُ الناس في عالم جيرانُه‪.‬‬

‫وقيل للصلْتِ بن عطاء‪ ،‬وكان مقدماً عند البرامكة‪ :‬كيف غَلَبت عليهم وعندهم مَنْ هو آدبُ منك؟ قال‪ :‬ليس للقُرَباء طَرافة الغُرَباء‪ ،‬وكنت أمرأَ‬
‫بعيدَ الدار‪ ،‬نائي المَزار‪ ،‬غريبَ السم‪ ،‬قليلَ الجرم‪ ،‬كثير ال ْلتِواء‪ ،‬شحيحاً بالملء؛ فرغَبهم فيَ رغبتي عنهم‪ ،‬وزهَدني فيهم رغبتُهم في‪.‬‬
‫ن ل يعلم لسقط الختلَف‪ .‬إذا ازدحمَ الجوابُ خَفِي الصواب‪ .‬الغلط تحت اللَغط‪ .‬خَرقُ‬ ‫علم ل َي ْعبُر معك الوادي‪ ،‬ل يعمر بك النادي‪ .‬لو سكت مَ ْ‬
‫خرْق‪ .‬المحجوج بكل شيء ينطق‪.‬‬ ‫الجماع ُ‬
‫استعارات فقهية تليق بهذا المكان‬
‫دخل أبو تمام الطائي على أحمد بن أبي دُوَاد في مجلس حكمه‪ ،‬وأنشده أبياتًا يس َتمْطِ ُر نائِله‪ ،‬وينشر فضائله‪ ،‬فقال‪ :‬سيأتيك ثوابُها يا أبا تمام‪ ،‬ثم‬
‫جتَمِعْ فإنك مفترق‪ ،‬ثم أنشده‪ :‬المنسرح‪:‬‬ ‫ظ ذلك أبا تمام‪ ،‬فقال‪ :‬احضرْ‪ ،‬أيّدك الّ‪ ،‬فإنك غائب‪ ،‬وا ْ‬ ‫اشتغل بتوقيعات في يده؛ فأحْ َف َ‬
‫ك ما نَ ْرتَجي من الصّ َفدِ‬ ‫وتَ ْر ُ‬ ‫ل ِمدْحَـتِـنـا‬ ‫حرَاماً قبو ُ‬ ‫إنّ َ‬
‫ل يَدًا بـ َيدِ‬
‫صّرْف حـرام إ َ‬ ‫كما الدنانير والدراهمُ في ال‬
‫حبَائه‪ ،‬وتعجيلِ عطائه‪.‬‬ ‫فأمر بتوفير ِ‬
‫ولمّا ولي طاهر بن عبد الّ بن طاهر خراسان دخل الشعراء يهنئونه‪ ،‬وفيهم تمام بن أبي تمام فأنشده‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ما من جزيل الملك أعطاكا‬ ‫َهنَاك رَبّ الناس هـنَـاكـا‬
‫والبأسِ والنعامِ عَـيْنـاكـا‬ ‫حجَى‬ ‫قرّت بما أعطِيت يا ذَا ال ِ‬
‫وأوْرَقَ العودُ بـجَـدْوَاكـا‬ ‫ض ِبمَا نِلْـتَـهُ‬‫أشرقتِ الر ُ‬
‫فاستضعف الجماعةُ شعره‪ ،‬وقالوا‪ :‬يا بُع َد ما بينه وبين أبيه! فقال طاهر لبعض الشعراء‪ :‬أجبه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إنّ الذي أمّلْتَ أخطاكـا‬ ‫حياك ربّ الناس حـيّاكـا‬
‫ولو رأى مَدْحاً لسـاكـا‬ ‫ل فيه مـا زانـهُ‬ ‫ت قو ً‬ ‫فقل َ‬
‫مثل الذي أعطيتَ أعْطاكا‬ ‫ت بها مـدحةً‬ ‫فهاك إن شئ َ‬
‫ل بينهما صنجًا من الدراهم‪ ،‬حتى يحلّ لي ولك! فضحك وقال‪ :‬إل يكن معه شع ُر أبيه‪،‬‬ ‫شعْرَ بالشعر رِباً‪ ،‬فاجع ْ‬ ‫فقال تمام‪ :‬أعز الّ المير‪ ،‬وإنَ ال ّ‬
‫ل ‪ -‬يريد عبد ال‬ ‫فمعه ظرف أبيه؛ أعطوه ثلثة آلف درهم! فقال عبد ال بن إسحاق‪ :‬لو لم يعط إلّ لقول أبيه في المير أبي العباس ‪ -‬رحمه ا ّ‬
‫بن طاهر‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫منا السّرَى وخُطَا ال َمهْرِيةِ القُـودِ‬ ‫صحْبي وقد أخذَتْ‬ ‫يقولُ في قَ ْومَسٍ َ‬
‫فقلتُ‪ :‬كلّ‪ ،‬ولكن مطلعَ الجـودِ‬ ‫أمطلع الشمس تبغي أن تَ ُؤمّ بنـا؟‬
‫فقال‪ :‬ويعطى بهذا ثلثة آلف‪.‬‬
‫ولية طاهر بن عبد ال بن طاهر خراسان‬
‫ب ولية طاهر خراسان بعد أبيه ما حدّث به أبو العيناء قال‪ :‬كنّا عند أحمد بن أبي دواد‪ ،‬فجاء الخبر أنّ الكتبَ وردت على الواثق من‬ ‫وكان سب ُ‬
‫س ْلكِ‬‫خراسان بوفاة عبد ال بن طاهر‪ ،‬وأن الواثق ُيعَزّى عنه‪ ،‬وأنه قد ولّي مكانه خراسان إسحاق ابن إبراهيم‪ ،‬وكان عدوّا له لنخراطِه في ِ‬
‫ابن الزيات؛ فلبس ثيابَه ومضى‪ ،‬وقال‪ :‬ل تبرحوا حتى أعودَ إليكم‪ ،‬فلبث قليلً‪ ،‬ثم عاد إلينا فحدّثنا أنه دخل على الواثق فعزّاه عن عبد الّ‬
‫ل ما عندك في هذا‪ .‬قلت‪ :‬أمر‬ ‫ل أمير المؤمنين ول نذمّه‪ .‬قال‪ :‬ق ْ‬ ‫وجلس‪ ،‬قال‪ :‬فقال لي الواثق‪ :‬قد وَلّينا إسحاق خراسان‪ ،‬فما عندك؟ قلت‪ :‬وفق ا ّ‬
‫ل مَن بها صنائعهُم‪،‬‬ ‫ن منذ ثلثين سنة في يد طاهر وابنه‪ ،‬وك ّ‬ ‫ل فيه‪ .‬قال‪َ :‬لتَ ْفعَلنّ‪ .‬فقلت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬خراسا ُ‬ ‫قد أُمضِي‪ ،‬فما عسيت أن أقو َ‬
‫صنَائع‪ ،‬وسيقولون‪ :‬أما كان فينا مُصْطَنع؟ وكان يجب‬ ‫ف عبدُ ال عش َر بنين أكثرهم رجال‪ ،‬وجميعُ جيش خراسان لهم عبيد أو مَوَالٍ أو َ‬ ‫وقد خَلّ َ‬
‫عذْ ٍر فينا؛ ويقدم خراسانَ إسحاقُ وهو رجل غريب‬ ‫ل استبدل منّا بعد ُ‬
‫أن يجرّبنا أمي ُر المؤمنين‪ ،‬فإن َو َفيْنا بما كان يَفي به أبونا وج ّدنَا‪ ،‬وإ ّ‬
‫فينافسه هؤلء‪ ،‬ويتعصّب أهلُها لهم؛ فينتقض ما ُأبْرِمَ‪ ،‬ويفسد ما أُصلح‪.‬‬
‫قال‪ :‬صدقت يا أبا عبد الّ‪ ،‬والرأي ما قلت‪ ،‬اكتبوا بعهد طاهر بن عبد الّ على خراسان‪ .‬فكتبت كتبُ طاهر‪ ،‬وحُرِقت كتب إسحاق‪ ،‬فخرجت‬
‫الزنج تطيرُ بها‪ ،‬ثم لقيني إسحاق داخلً‪ ،‬فقلت‪ :‬يا أبا الحسن‪ ،‬ل عدمت عداوة رجل أزال عنك ولية خراسان بكلمة‪.‬‬
‫ومدح ابن الرومي أبا العباس بن ثوابة‪ ،‬فعارضه أخوه أبو الحسن بقصيدة يمدح أخاه بها‪ ،‬فقال ابن الرومي‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫إذا صورَةُ الحق لم ُتمْسَخِ‬ ‫أَليْسَ ا ْلقَوافي بَنَاتِ ا ْلفَتى‬
‫حَرا ٌم نِكاحُ بنـاتِ الخِ‬ ‫فل تَـقـبَـلَـنّ أَمـادِيهُ‬
‫ولما أنشد أبو تمام قصيدته في المعتصم‪:‬‬
‫السيف أصدق أنباء من الكتب‬
‫حسْنُ إصغائك إليها من‬ ‫قال له‪ :‬لقد جَلَ ْوتَ عروسك يا أبا تمام فأحسنت جلءَها‪ .‬قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬وال لو كانت من الحورِ العين لكان ُ‬
‫أ ْوفَى ُمهُورِها‪.‬‬
‫وقال المير أبو الفضل الميكالي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫يَصِيدُ بَلحْظِ ِه قَلبَ الكَـمـي‬ ‫أقول لشَادِنَ في الحُسْنِ أضْحَى‬
‫فأدّ زكاةَ منظرك الـبَـهـيّ‬ ‫ملكت الحسنَ أجمعَ في قـوام‬
‫بريق من مُقَبلِك الـشَـهِـي‬ ‫وذلك أن تجودَ لمُـسْـتَـهـام‬
‫فعندي ل زكاةَ على الصَبـيّ‬ ‫فقال‪ :‬أبو حنـيفة لـي إمـامٌ‬

‫‪109‬‬
‫وربما أنشد هذه البيات على قافية أخرى فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫يصيد بلحظِ ِه قَلْبَ الجـلـيدِ‬ ‫أقول لشَادنِ في الحسن فَـ ْردٍ‬
‫فل َت ْمنَع وجوباً عن وجُـودِ‬ ‫ملكتَ الحسن أجمعَ في قـوام‬
‫ب َرشْفِ ُرضَابك العذْبِ البَرودِ‬ ‫وذلك أنْ تجودَ لمـسـتـهـام‬
‫فعندي ل زَكاة على الولـيدِ‬ ‫فقال‪ :‬أبو حنـيفة لـي إمـام‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يُحَج من البيت العتـيق ويُقـصَـدُ‬ ‫بنَفْسِي غَزال صار للحُسْنِ قـبـلةً‬
‫ش َهدُ‬
‫سعْي يَ ْ‬ ‫وأحْ َرمْتُ بالخلص وال َ‬ ‫دعاني الهوى فيه فلبّـيتُ طـائعـاً‬
‫وقلبي عليْه بالصـبـابة مُـفـ ِردُ‬ ‫فطرفيَ بالتسهيد والـ َدمْـعِ قـارِنٌ‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫والهَجْرُ في غفلة من ذلك الخبـرِ‬ ‫َفدَيْتُ زائرةً في الـعـيد واصِـلةً‬
‫والخالُ في خدّها ُيغْني عن الحجَرِ‬ ‫فلم يزل خذُها ُركْناً أطـوف بِـه‬
‫وينضاف إلى هذا النظم قطعة من رسالة طويلة كتبها بديع الزمان إلى أبي نصر بن المرزبان‪ :‬كتابي‪ ،‬أطال ال بقاء الشيخ وأنا سالم‪ ،‬والحمد‬
‫ل رب العالمين‪ ،‬كيف تقلبُ الشيخ في درع العافية‪ ،‬وأحوالُه بتلك الناحية؛ فإني ببعده مُنغصُ شِرْعة العيش‪ ،‬مقصوص أجنحة النس‪ .‬ورد‬
‫ت إليه بعد انزعاجي لتأخُره؛ وقد كان رَسَمَ أن أعرفه سببَ خروجي‬ ‫كتابه المشتملُ من خبر سلمته‪ ،‬على ما أرغب إلى ال في إدامَته‪ ،‬وسكن ُ‬
‫ت من ذلك السلطان حضرتَه‪ ،‬التي هي َك ْعبَةُ المحتاج‪،‬‬ ‫من جرجان‪ ،‬ووُقوعي بخُراسان‪ ،‬وسببَ غضبِ السلطان؟ وقد كانت القصة أني لما ورد ُ‬
‫خيْفِ‪ ،‬وجدت بها نُدَماء من َنبَات‬
‫ل كعبة الحجاج‪ ،‬ومستقرُ الكرم‪ ،‬ل مَشعَر الحرم‪ ،‬و ِقبْلة الصلَتِ‪ ،‬ل قبلة الصلة‪ ،‬و ُمنَى الضّيف‪ ،‬ل ِمنَى ال َ‬
‫صنْعه‪ ،‬وحسن دفعه؛‬ ‫العام‪ ،‬اجتمعوا قيضَةَ كلب على تلفيق خطب‪ ،‬أزعجني عن ذلك ال ِفنَاء‪ ،‬وأِشرف بي على ال َفنَاء‪ ،‬لول ما تدارك الّ بجميل ُ‬
‫غيّروا رأيَ السلطان‪ ،‬وأشار علي إخواني‪ ،‬بمفارقةِ مكاني‪ ،‬وبقيت ل أعلم أيمنةً أضرِب أم‬ ‫ول أعلم كيف احتالوا‪ ،‬ول ما الَذي قالوا؛ وبالجملة َ‬
‫شآمة‪ ،‬ونَجْدا أقصد أم تهامة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي دلـيلُ‬
‫لكان لِحَجـاجٍ عـلـ َ‬ ‫ولو كنت في سَلْمى أجد وشِعابِها‬

‫صفْوُه‪ ،‬وملك إذا سَخِط لم يُنتظر عفوه‪ ،‬وليس بين‬ ‫حوُه‪ ،‬وماء إذا تغيّر لم يُشرب َ‬ ‫وقد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماءٌ إذا تغيم لم يُرْجع صَ ْ‬
‫سخْطِ ِه مجاز‪ ،‬كما ليس بين الحياة والموت معه حِجاز؛ فهو سيدٌ‬ ‫غضَبه والسيف فَرْجة‪ ،‬وليس من وراء ُ‬ ‫رضاه والسخط عَوْجَة‪ ،‬كما ليس بين َ‬
‫خفِيّ‪ ،‬ول يُرْضِيه العذر الجلي؛ وتكفيه الجناية وهي إرجاف‪ ،‬ثم ل تشفيه العقوبة وهي إجحاف‪ ،‬حتى إنه ليرى الذنب وهو‬ ‫ُيغْضبه الْجُرم الْ َ‬
‫صبْح؛ وهو ذو أذنين يسمع بهذهِ القول وهو بهتان‪ ،‬ويحجب عن هذه العذر وله‬ ‫أضيق من ظلّ الرمح‪ ،‬و َي ْعمَى عن العذر وهو أبين من عمود ال ُ‬
‫برهان؛ وذو يدين يبسط إحداهما إلى السفك والسفح‪ ،‬ويقبض الخرى عن العفو والصفح؛ وذو عينين يفتح إحداهما إلى الجرم‪ ،‬ويغمض‬
‫الخرى عن الحلم‪ ،‬فمزحه بين ال َقدّ والقَطْع‪ ،‬وجدّه بين السيف والنّطْع‪ ،‬ومراده بين الظهور والكمون‪ ،‬وأمره بين الكاف والنون؛ ثم ل يعرف‬
‫من العقاب‪ ،‬غير ضرب الرقاب‪ ،‬ول يهتدي من التأنيب إلَ لزالة النعم‪ ،‬ول يعلم من التأديب غير إراقة الدم‪ ،‬ول يحتمل ال َهنَة على حجم الذرة‪،‬‬
‫ودقة الشعرة‪ ،‬ول يحلم عن الهَفْوَة‪ ،‬كوزن الهَبْوَة‪ ،‬ول ُيغْضي عن السقطة‪ ،‬كجرم النقطة؛ ثم إن النقم بين لفظه وقلمه‪ ،‬والرض تحت يده‬
‫حبْسه وإطلقه‪ ،‬كما أنّ الجسام بين حله ووَثاقِه؛ فنظرتُ فإذا أنا بين جُودَين؛‬ ‫وقدمه‪ ،‬ل يلقاه الولي إلَ بفمه‪ ،‬ول العدو إلَ بدمه؛ والرواح بين َ‬
‫جنَازة‪ ،‬وبين طريقين؛ إما الغُرْبة‪ ،‬وإمَا التربة‪ ،‬وبين فِرا َقيْنِ؛ إمّا‬ ‫إما أن أجودَ ببأسي‪ ،‬وإمّا أن أجود برأسي‪ ،‬وبين ُركُوَبين؛ إما المفازة‪ ،‬وإمّا ال ِ‬
‫عنَاق الرجال‪ ،‬فاخترتُ السماح بالوَطَن‪ ،‬على السماح بالبَدَن؛‬ ‫أن أُفارق أَرْضي‪ ،‬أو أُفارق عرضي‪ ،‬وبين راحلتين؛ إمّا ظهور الجِمال‪ ،‬وإمَا أَ ْ‬
‫وأنشدت‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فل رَأيَ للمحمول إل ركوبُها‬ ‫إذا لم يكُنْ إل المنية مَ ْركَـبٌ‬
‫وََل َد ما ذكر من كعبة المحتاج‪ ،‬ل كعبة ا ْلحُجّاج‪ ،‬من قول أبي تمام‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حجُ ال َغنِيَ‪ ،‬وتِلكمُ لِ ْل ُمعْدِم‬ ‫بيتان حجهُما النامُ؛ فهذه‬
‫أبو عليّ البصير‬
‫ج ُز عن مَسَابّك؛ ولكنّا نكونُ خيراً‬ ‫وشتم بعضُ الطالبيين أبا عليّ الفضلَ بن جعفر البصيرَ‪ ،‬فقال أبو عليّ‪ :‬وال ما َن ْعيَا عن جوابك‪ ،‬ول نَعْ ِ‬
‫ح ْلمُنا عنك‪.‬‬ ‫ضعْتَ؛ فاشكُرْ توفيرَنا ما وفّرْنا منك‪ ،‬ول َيغُرّنك بالجهل علينا ِ‬ ‫سبِك منك‪ ،‬ونحفظ منه ما َأ َ‬ ‫ِلنَ َ‬
‫شكْرِ ما تقدّم من إحسانك شاغلٌ من استبطاء ما‬ ‫وسأل أبو علي البصير بعض الرؤساء حاجةً ولقيه؛ فاعتذر إليه من تأخرها؛ فقال أبو عليّ‪ :‬في ُ‬
‫تأخر منه‪.‬‬
‫حدُ مَنْ جمع له حظُ البلغة في الموزون والمنثور‪ ،‬وهو القائلُ‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وأبو عليً أ َ‬
‫فأض َرمَ نيرانَ الهَوى النّظَرُ الخَلْسُ‬ ‫ألمَت بنا يَوْمَ الـرحـيل اخـتـلسَةً‬
‫كما تتأتّى حين َت ْعتَدِل الـشـمـسُ‬ ‫ت قليلً وهـي تُـرعَـدُ خِـيفةً‬ ‫تأب ْ‬
‫سمَع لي حِـسُ‬ ‫ستُ حتى ليس يُ ْ‬ ‫وَأنْبَ ْ‬ ‫صمْتي بما أنا مُـضْـمِـرٌ‬ ‫فخاطبها َ‬
‫ت دونها كَشْحاً على يَأسها النفسُ‬ ‫طوَ ْ‬ ‫وولَت كما ولّى الشـبـاب لِـطِـيّة‬
‫وقال يصف بلغةَ الفتح بن خاقان وشعره‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ف تـــأ َودَا‬
‫ض مَـتْــنَـــيْه الـــثـــقـــا ُ‬ ‫إذا عَـ َ‬ ‫سمِـعـنـا بـأشـعـار الـمـلـوكِ؛ فـكـــلُـــهـــا‬ ‫َ‬
‫شعُر ال َفتْحُ أوْحَدا‬
‫سوى ما رأينا لمْرِئ القيس؛ إننانراه متى لم يَ ْ‬
‫ونـحــســـبـــه إن رام أكْـــدَى وأصْـــلَـــدا‬ ‫سمَعُ القولَ صامتاً‬ ‫أقام زمانًا يَ ْ‬

‫‪110‬‬
‫وسـار فـأضـحــى قـــد أغـــار وأنـــجَـــدَا‬ ‫فلـمـا امـتـطـاه راكــبـــًا ذل صـــعـــبُـــه‬
‫والفتح بن خاقان يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫متى يستَطِع منهـا الـزيادةَ يَ ْز َددِ‬ ‫خمْرِ‪ ،‬والـفـتـى‬ ‫وإني وإياها لكالْ َ‬
‫فكيف احتراسِي مِنْ هوًى متجددِ؟‬ ‫جدِي بقُرْبها‬ ‫إذا از َددْتُ منها زاد َو ْ‬
‫وكتب إلى أبي الحسن عبيد ال بن يحيى‪ :‬وإن أميرَ المؤمنين لمَا استْخلَصك لنفسه‪ ،‬وائتمنك على رعيته؛ فنطق بلسانك‪ ،‬وأخذَ وأعطى بيدك‪،‬‬
‫وأ ْو َردَ وأصدْرَ عن رأيك‪ ،‬وكان تفويضُه إليك بعد امتحانه إياك‪ ،‬وتَسلِيطه الحقّ على الهوى فيك‪ ،‬وبعد أن مثل بينك وبين الذين سمَوا لم ْرتَبتك‪،‬‬
‫ت له هيب ًة وتعظيماً‪ ،‬ول تسليطاً‬ ‫وجرَوْا إلى غايتك‪ ،‬فأسقطهم مَضَاؤُك‪ ،‬وخَفُوا في ميزانك‪ ،‬ولم يزدك ‪ -‬أكرمك ال ‪ -‬رفعة وتشريفاً إل ازدد َ‬
‫وتمكيناً‪ ،‬إل ِزدْتَ نفسك عن الدنيا عُزوفاً وتنزيهاً‪ ،‬ول تقريباً واختصاصاً‪ ،‬إل ازددتَ بالعامة رأفةً وعليها حدَبا‪ ،‬ل يخرجك فَرطُ النصح له عن‬
‫النظر لرعيته‪ ،‬ول إيثار حقه عن الخذ بحقّها عنده‪ ،‬ول القيا ُم بما هو له عن تضمين ما هو عليه‪ ،‬ول يشغلك ُمعَاناةُ كبار المور عن تفقُد‬
‫جئُ ما كان الحَ ْزمُ في إرجائه‪،‬‬ ‫شدُ في إمضائه‪ ،‬وتُرْ ِ‬ ‫ح منها عن النظر في عواقبها‪ ،‬تمْضي ما كان الرّ َ‬ ‫جدّ في صلح ما َيصْلُ ُ‬ ‫صغارِها‪ ،‬ول ا ْل ِ‬
‫وتبذُلُ ما كان الفضلُ في َبذْله‪ ،‬وتمنعُ ما كانت المصلحةُ في مَ ْنعِه‪ ،‬وتَلِين في غير تكبر‪ ،‬و َتخُص في خير مَيل‪ ،‬وتعمُ في غير تصنّع‪ ،‬ل يَشْقَى‬
‫س َعدُ بك المبطلُ وإن كان وليّا؛ فالسلطان يعت ّد لك من الغَناء والكِفاية‪ ،‬والذّبّ والحياطة‪ ،‬والنُصح والمانة‪،‬‬ ‫بك المحق وإن كان عدواً‪ ،‬ول يَ ْ‬
‫ط منهم‬ ‫غمِ َ‬ ‫ل من َ‬‫والعِفة والنزاهة‪ ،‬والنصب فيما أدَى إلى الراحة‪ ،‬بما يراك معه ‪ -‬حيث انتهى إحسانُه إليك ‪ -‬مستوجباً للزيادة‪ ،‬وكافةُ الرعية ‪ -‬إ ّ‬
‫ال َنعْمة ‪ُ -‬م ْثنُونَ عليك بحُسْنِ السيرة‪ ،‬و ُيمْنِ النقيبة‪ ،‬و َي ُعدُونَ من مآثرك أنك لم ُتدْحِض لحدٍ حُجة؛ ولم تدفع حقاً لش ْبهَة؛ وهذا يسي ٌر من كثير‪ ،‬لو‬
‫ف دون الغاية منه‪.‬‬ ‫صدُنا الوقو َ‬ ‫قصدنا لتفصيله‪ ،‬لنْ َفدْنا الزمان قبل تحصيله‪ ،‬ثم كان قَ ْ‬
‫شكْ ِر إنعامك‪ ،‬وإفرادي إياك بالتأميل دونَ غيرك‪،‬‬ ‫خذِ بحظّي من لقائك‪ ،‬وتعريفك ما أنا عليه عن ُ‬ ‫وله إلى عبيد ال بن يحيى‪ :‬يقطعني عن ال ْ‬
‫خ ْدمَة ول الملزمة‪ ،‬ول قويّا على المغَادَاةِ والمُرَاوَحة؛ فَلَ‬ ‫ت معتاداً لل ِ‬‫تخلفي عن منزلة الخاصة‪ ،‬ورغبتي عن الحلول محل العامة‪ ،‬وأني لسْ ُ‬
‫ن تتطوَل بتجديد ذكري‪ ،‬والصغاء إلى مَنْ يحضك على‬ ‫يم َنعْك ارتفاعُ َقدْرك‪ ،‬وعلو أمرك‪ ،‬وما تعانيه من جلئل الحوال الشاغلة‪ ،‬من أ ْ‬
‫حسْنِ الصنيعة عندي‪.‬‬ ‫وَصْلي وبري‪ ،‬ويرغَبك في إسداء ُ‬
‫ن افتقا ٍر منهم إليك‪ ،‬أن ُيعِيذهم من َف ْقدِك‪ ،‬ول يُعيدهم إلى المكاره التي‬ ‫وله إليه آخِ َر فصل من كتاب‪ :‬وأنا أسألُ ال الذي رَحِم العبادَ بك‪ ،‬على حي ِ‬
‫استنقذتهم منها بيدك‪.‬‬
‫السفر‬
‫طرَ‪ ،‬وتَدُع مَجْرى السيول؟ فقال‪ :‬أخرجني من مصر حَق مُضَاع‪،‬‬ ‫ولقي رجلٌ رجلً خارجًا من ِمصْر يريد المغْرِب‪ ،‬فقال‪ :‬يا أخي‪ ،‬أتتَبعُ القَ ْ‬
‫وشُكى مُطَاع‪ ،‬وإقتار الكريم‪ ،‬وحركة اللئيم‪ ،‬وتغير الصديق‪ ،‬بين السعة والضيق‪ ،‬والهربُ إلى النز ِر بالعز‪ ،‬خير من طلب ال َوفْ ِر بذلُ العَجزِ‪.‬‬
‫ي تنفق بها فيه؛ عليك بحُسن الشمائل‬ ‫ل بلدًا ل َيعْ ِرفُك أهلُه‪ ،‬فتمسّك بوصيت َ‬ ‫خُ‬‫وأوصى بعضُ الحكماء صديقاً له‪ ،‬وقد أرادَ سفراً‪ ،‬فقال‪ :‬إنك تد ُ‬
‫فإنها تدكُ على الحرية‪ ،‬ونَقَاء ‪ -‬الطراف فإنها تشهد بالمُلوكية؛ ونظافة البِزة فإنها تنبئ عن النَشء في النعمة؛ وطيب الرائحة فإنها تظهرُ‬
‫ن َقدْرِك‪ ،‬والزمِ الحياءَ والنفَة؛ فإنك إن‬ ‫المروءة‪ ،‬والدب الجميل فإنه يكسب المحبة‪ ،‬ول َيكُن عقلُك دون دينك‪ ،‬وقولُك دون ِفعْلك‪ ،‬ولباسُك دو َ‬
‫ت عن الغلبة‪ ،‬لم يتقد ْمكَ نظيرٌ في مرتبة‪.‬‬ ‫استحييت من الغضاضة اجتنبتْ الخساسة‪ ،‬وإن أنِ ْف َ‬
‫شهْ َو ِتكَ رَشادَك‪ ،‬وليكُنْ عقلُك وزيرَك الذي يَدْعُوك‬ ‫قال الصمعي‪ :‬سمعتُ أعرابيًا يُوصِي آخرَ أراد سفراً‪ ،‬فقال‪ :‬آثر بعملك َمعَادَك‪ ،‬ول َتدَع لِ َ‬
‫حبِس هواك عن الفواحش‪ ،‬وأطْلِقه في المكارم؛ فإنك تب ّر بذلك سلَفك‪ ،‬وتَشِيد به شرفَك‪.‬‬ ‫إلى الهدى‪ ،‬ويجنّبك من الرَدى‪ ،‬وا ْ‬
‫س بجميل‬ ‫وأوصت أعرابية ابنَها في سفر‪ ،‬فقالت‪ :‬يا بني‪ ،‬إنك تجاورُ الغرباء‪ ،‬و َترْحَلُ عن الصدقاء‪ ،‬ولعلك ل تَ ْلقَى غيرَ العداء؛ فخالِط النا َ‬
‫البِشْر‪ ،‬واتّقِ الَّ في العَلَنية والسرّ‪.‬‬
‫عمَلْ بها في سفري‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫حكْمتك أ ْ‬ ‫وقال بعضُ الملوك لحكيم وقد أراد سفراً‪ :‬قِفْني على أشياء من ِ‬

‫ب رعيتك‪ ،‬ما لم تُحْ ِرجْهم بالشدّة عليهم‪ ،‬أو‬ ‫ك قدرتك‪ ،‬وأنا ضامن لك قلو َ‬ ‫شدّتك‪ ،‬وعفوَك ماِل َ‬
‫ل تأنيك أمام عَجََلتِك‪ ،‬وحِ ْلمَك رسولَ ِ‬ ‫اجع ْ‬
‫ُتبْطِرْهم بالحسان إليهم‪.‬‬
‫س أ ْمنَحك وصيتي‪ ،‬وبالّ توفيقك‪ ،‬قال أبان‪:‬‬ ‫وقال أبان بن تغلب‪ :‬شهدت أعرابيةً لُوصِي ولداً لها أراد سفراً وهي تقول‪ :‬أي بني‪ ،‬اجل ْ‬
‫ع الضغينة‪ ،‬وتفرَق بين المحبّين‪ ،‬وإياك‬ ‫فوقفت مستمعًا لكلمها‪ ،‬مستحسناً لوصيتها‪ ،‬فإذا هي تقول‪ :‬أي بني‪ ،‬إياك وال ّنمِيمة‪ ،‬فإنها تَزْ َر ُ‬
‫ل كََل َمتْه‪ ،‬حتى يَهيَ ما اشتدَ‬
‫ل َيثْبُتَ الغَرضُ على كثرة السهام؛ وقلَما اعتَوَرَتِ السهامُ غَرَضاً إ َ‬ ‫ب فتُتخذ غَرَضاً‪ ،‬وخليقٌ أ َ‬ ‫والتعرض للعيو ِ‬
‫ل بمالك؛ وإذا هززت فاهزز كريمًا يَلِنْ ِل َمهَزتك؛ ول َتهْزُز اللئيم فإنه صخر ٌة ل يتفجّرُ ماؤها‪،‬‬ ‫من قُوَته؛ وإياك والجودَ بدينك‪ ،‬والبخ َ‬
‫ب نفسه؛ ومن كانت مودته‬ ‫ت من غيرك فاجتنبه؛ فإن المر َء ل يرى عيْ َ‬ ‫ومثّل بنفسك مثال ما استحسنتَ من غيرك فاعمل به‪ ،‬وما استقبح َ‬
‫ف منه ذلك فعلُهُ‪ ،‬كان صديقه منه على ِمثْل الريح من تصرفها‪.‬‬ ‫بشره‪ ،‬وخَالَ َ‬
‫جبَك كلمُ العرب يا حَضَري؟ قلت‪ :‬نعم!‬ ‫ثم أمسكت‪ ،‬فدنوتُ منها‪ ،‬فقلت لها‪ :‬بال يا أعرابية‪ ،‬إل ما ِزدْته في الوصية؛ قالت‪ :‬أو قد أعْ َ‬
‫س بينهم‪ ،‬ومَنْ جمع ا ْلحِلْمَ والسخاءَ فقد أجادَ الحُلّة َريْطَتها وسِ ْربَالها‪.‬‬ ‫ل به النا ُ‬‫قالت‪ :‬الغَد ُر أقبح ما تعام َ‬
‫فقر في مدح السفر‬
‫أبو القاسم بن عباد الصاحب‪ :‬الخبر المنقول أنَ المقبوضَ غريباً شهيد‪ .‬وفي الحديث‪ :‬سافروا َتغْنَموا‪ .‬السفرُ أحدُ أسباب العيش التي بها‬
‫قِوامه‪ ،‬وعليها نِظَامه‪ .‬إن ال لم يجمَ ْع منافعَ الدنيا في الرض؛ بل فرّقها وأحوجَ بعضها إلى بعض‪ .‬المساف ُر يسمع العجائب‪ ،‬و َيكْسبُ‬
‫حكْمته‪ ،‬وتدعوكُ إلى شكر نعمته‪ .‬ليس بينك وبين بلدٍ نَسب؛ فخيرُ البلد‬ ‫التجاربَ‪ ،‬ويَجْلِبُ المكاسب‪ .‬السفا ُر مما تَزِيدك علماً بقدرة الّ و ِ‬
‫ت عنه نفسك‪ .‬ربما أسفر السفر‬ ‫حشْ أهلَك إذا كان في إيحاشهم ُأنْسُك‪ ،‬وا ْهجُرْ وطنَك إذا نبَ ْ‬ ‫سفِر عن أخلق الرجال‪ .‬أو ِ‬ ‫ما حملك‪ .‬السف ُر يُ ْ‬
‫عن الظفَر‪ ،‬وتعذر في الوطن قضاءُ الوطَر‪ ،‬وأنشد‪ :‬البسيط‬
‫وهذا كقول الطائي‪ :‬الطويل‬ ‫ر‬
‫ُ‬ ‫السف‬ ‫هو‬ ‫ٍ‬
‫ف‬ ‫ْ‬
‫س‬ ‫َ‬
‫خ‬ ‫على‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫َا‬ ‫ق‬‫م‬‫ُ‬ ‫ال‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫بَ‬ ‫ك تَ ْرتَادُ الغِنَى سفراً‬
‫ليس ارتحاُل َ‬
‫أخذه المتنبي فقال‪ :‬البسيط‬ ‫نَبتْ بي وفيها سا ِكنُوها هِي ال َقفْرُ‬ ‫وما القفْ ُر بالبيدِ الفضاء‪َ ،‬بكِ الَتي‬
‫نقيض ذلك في ذمّ السفر‬ ‫ل تُفا ِر َقهُمْ فالرَاحِلونَ هُـمُ‬‫أَ‬ ‫حلْتَ عن قوم وقد قَدرُوا‬ ‫إذا تَرَ َ‬

‫‪111‬‬
‫والغربة‬
‫في الحديث إن المسافرَ وماله لعَلَى‪ ،‬قلت‪ :‬إلّ ما وَقى ال؛ أي على هلك‪ .‬شيئان ل يعرفهما إل من ا ْبتُلِي بهما‪ :‬السفرُ الشاسع‪ ،‬والبنا ُء‬
‫ل مَنبتُ المنايا‪ .‬إذا كنتَ في غير بلدك فل‬ ‫الواسع‪ .‬السفرُ والسقَمُ والقتال ثلث متقاربة؛ فالسفرُ سفينة الذى‪ ،‬والسقَمُ حَريقُ الجسد‪ ،‬والقتا ُ‬
‫ش ْربَه؛ فهو ذَا ٍو ل ُي ْثمِر‪ ،‬وذابلٌ ل ينضر‪.‬‬
‫س نصيبك من الذل‪ .‬الغربةُ كرْبة‪ .‬النّقلة ُمثْلة‪ .‬الغريب كالغرسِ الذي زايل أرْضَه‪ ،‬وفَقَد ِ‬ ‫تَن َ‬
‫سبُعٍ َفرِيسة‪ ،‬ولكل رام رَمية؛ وأنشد‪ :‬الوافر‬
‫الغريب كال َوحْشِ النائي عن وطنه؛ فهو لكل َ‬
‫وقال أبو الفتح البُسْتي‪:‬‬ ‫منْ العيش الموسع في اغترابِ‬ ‫لَقربُ الدار في القتـار خَـيْرٌ‬
‫البسيط‬
‫ومنعه بين أهليه وأصحـابـه‬ ‫ل يعدم المرء شيئًا يستعينُ بـه‬
‫العزل بعد المؤانسة‬ ‫كالليثِ يحقر ُلما غاب عن غابِهْ‬ ‫ت مهـابـتـهُ‬‫ومن نأى عنهمُ قلّ ْ‬
‫عزْلِه إيّاه عن الدواوين‪ :‬لم يُنكِر أمي ُر المؤمنين حالي في قُرْب المؤانسة وخصوص الخلطة‪ ،‬وحالي‬ ‫كتب أبو عبيد ال إلى المهدي بعد َ‬
‫عنده َقبْلَ ذلك في قيامي بواجب خِدمَته‪ ،‬التي أدنتني من نعِمته‪ ،‬فلم أبدّل ‪ -‬أعز الّ أمي َر المؤمنين ‪ -‬حال التبعيد‪ ،‬ويقرّب في محل‬
‫القصاء‪ ،‬وما يعلمُ الّ مني فيما قلت إلّ ما علمه أمي ُر المؤمنين‪ ،‬فإن رأى أكرمه الّ أن يُعَارِض قولي بعلمه بدءًا وعاقبةً فعل إن شاء‬
‫الّ‪.‬‬
‫فلمّا قرأ كتابه شهد بتصديقه قلبُه‪ ،‬فقال‪ :‬ظلمنا أبا عبيد الّ‪ ،‬فيردّ إلى حاله‪ ،‬و ُيعْلَم ما تجدّد له من حُسْنِ رأيي فيه‪.‬‬

‫حجَب عنه الفضلُ بن الربيع لسبب تألَ َم قلبُه منه كتب إليه‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬لم ُينْسِني التقريبُ حالي أيامَ التبعيد‪ ،‬ول‬ ‫ن أن يُ ْ‬ ‫ولما أمر المأمو ُ‬
‫أغفلتني المُؤانسة عن شكر البتداء‪ ،‬فعلى أيّ الحالين أبعد من أمير المؤمنين‪ ،‬ويَلْحَقُني ذمُ التقصيرِ في واجب خدمته؟ وأمي ُر المؤمنين أعْدلُ‬
‫صدْق فيما وَصْفت؛ فإن رأى أمي ُر المؤمنين أل يكتم شهادتي فَعل إن شاء الّ‪.‬‬ ‫شهودي على ال َ‬
‫عبْدين؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬يا أمير المؤمنين‪ .‬قال‪ :‬فِلمَ لَمْ‬ ‫وقال أبو جعفر المنصور لبي مسلم حين أ ْزمَع َقتْله‪ :‬هل كنتَ قبل قيامك بدولتنا جائ َز المْرِ على َ‬
‫عنَان الطمأنينة؟ قال‪ :‬قد‬ ‫َتعْرِض حالَيْ عُسرتك ومَهانتك على أيامنا‪ ،‬وتعرِف لنا ما َيعْرِفُ غيرُك من إجللنا وإعظامنا‪ ،‬حتى ل ينازعك الحين ِ‬
‫خلَفٌ‬
‫ف عليك‪ ،‬وفي الّ َ‬ ‫ب فيك‪ ،‬ول مأسو َ‬ ‫ن صنيعتي‪ ،‬قال‪ :‬فل مرغو َ‬ ‫حسْ ِ‬
‫كان ذلك يا أميرَ المؤمنين‪ ،‬ولكنَ الزمانَ وإساءتَه قََلبَا ما كان من ُ‬
‫منك! وأَمر بقتله‪.‬‬
‫جملة من شعر أبي الفتح‬
‫كشاجم في الوصاف‬
‫قال يصف أجزاء من القرآن‪ :‬الخفيف‬
‫ت أنْسًا بـهـذهِ الجـزاء‬ ‫ُتبْ ُ‬ ‫مَنْ َيتُبْ خشيةَ العقابِ فإنـي‬
‫ك وما خِ ْلتُني مِنَ الـقـرَاء‬ ‫َبعَثَتني على القراءة والـنُـس‬
‫من قدود وصيغَةٍ واسـتـواء‬ ‫حين جاءت تَرُوقني باعتـدال‬
‫جم ذاتَ النوار والضـواء‬ ‫ش َبهَت ليَ السبـعةَ الن‬ ‫سبعة أ ْ‬
‫غشَـاء‬ ‫ن غِشاءً أحبب به من ِ‬ ‫كُسيت من أديمِها الحالِك اللَـو‬
‫ت العَذارى ولبْسَةَ الخطبـاءِ‬ ‫شبَابِ ولَـمَـا‬‫شبِهاً صبغة ال ّ‬ ‫مُ ْ‬
‫َفتَا َهتْ بـحِـلْـية بـيضـاء‬ ‫ن بـالـضـدّ‬ ‫ورأت أنها تحس ُ‬
‫نورُ حق يَجْلُو دُجَى الظلمـاءَ‬ ‫فهي مسودّة الظهور‪ ،‬وفيهـا‬
‫ط تخيرنّ من مُسُوك الظبـاء‬ ‫مطبقات على صحائفَ كالرّي‬
‫شَاكِرات صـنـيع َة النْـواء‬ ‫وكأنّ الخطوط فـيهـا رياض‬
‫عبِيرٌ رشَشْتهُ فـي مُـلء‬ ‫دَ َ‬ ‫وكأنّ البياض والنّقَطَ الـسّـو‬
‫طع فيها كواكب في سمـاءِ‬ ‫وكأن العشورَ والذّهب الـسـا‬
‫لٍ ومقروءةٌ علـى أنـحـاءِ‬ ‫وهي مشكول ٌة بعـدّةِ أشـكـا‬
‫وإذا شئت كان فيها الكِسَـائي‬ ‫فإذا شئتَ كان حمزةُ فـيهـا‬
‫ضعَاف والثنـاء‬ ‫بين تلك ال ْ‬ ‫خضْرة في خللِ حُمرٍ وصفْر‬ ‫ُ‬
‫على جـلـد ِبَـضَةٍ عَـذْراء‬ ‫ب مـن الـذرّ‬ ‫مثل ما أثَر الدّبي ُ‬
‫ه ذي المـكـرُمـات واللء‬ ‫ضمّنت مُحكَم الكتابِ كتاب الل‬ ‫ُ‬
‫صبَحِي ومَسـائي‬ ‫ن مُ ْ‬ ‫ن فيه ّ‬‫آَ‬ ‫فحقيقٌ عليّ أنْ أتلـوَ الـقـر‬
‫وقال يصفُ التخت الذي يُضْرَب عليه حساب الهند‪ :‬الرجز‬
‫حفٍ سُطُورها حِسابُ‬ ‫في صُ ُ‬ ‫وقـلـ ٍم مِـدادُهُ تـــرَابُ‬
‫من غير أن يُسَوّد الكـتـابُ‬ ‫حوُ والضرابُ‬ ‫َيكْثُر فيها المَ ْ‬
‫وليس إعجـامٌ ول إعـرابُ‬ ‫حتى يبينَ الحقّ والصـواب‬
‫ك ول ارتـيابُ‬ ‫فيه ول شـ َ‬
‫وقال يصف برْكارًا استهداه‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫فيه يَدًَا قَـيْنةِ العـاجـيبـا‬ ‫ص َنعَتْ‬ ‫جدْ لي ببركارك الذي َ‬ ‫ُ‬

‫‪112‬‬
‫عيَبـا‬
‫ماشِينَ من جانبٍ ول ِ‬ ‫ملتئم الشُعبتَـيْن مـعـتـدلٌ‬
‫ورُكبا بالعقولِ تـركـيبـا‬ ‫شخصان في شكْل واحدٍ ُقدَرا‬
‫ب ل يزالُ مصحوبـا‬ ‫بصاح ٍ‬ ‫أشبه شيئين في اشتكالهـمـا‬
‫نواظر الناقـدين تَـغْـييبـا‬ ‫ق مسمارُهُ وغُـيّب عـن‬ ‫أُوثِ َ‬
‫في قالب العتدال مَصْبوبـا‬ ‫ن يجتَلِيه يحـسـبُـهُ‬ ‫ن مَ ْ‬ ‫ف َعيْ ُ‬
‫ضَ َم مُحِب إليه محـبـوبـا‬ ‫حكِمًا لهمـا‬‫قد ضَ َم قُطْ َريْه مُ ْ‬
‫ن تَـقْـلِـيبـا‬
‫ما زَاده بالبَنا ِ‬ ‫حرْصًا عليه مُبصِـره‬ ‫يزداد ِ‬
‫لم تَـألُـهُ رِق ًة وتـهـذيبـا‬ ‫ذو ُمقْلَة بصَ َرتْ ُه مَـذهـبـه‬
‫بها يزالُ الصوابُ مطلوبـا‬ ‫ينظ ُر فيها إلى الصواب فمـا‬

‫جدْنَا الحسابَ محسوبا‬ ‫ول َو َ‬ ‫ط دَائرة‬


‫لوله ما صحّ خـ ُ‬
‫ب تقريبـا‬ ‫سواه كان الحسا ُ‬ ‫عدَلت إلـى‬ ‫ق فيه فإن َ‬ ‫الح ّ‬
‫خرَ لهُ بالسجو ِد مكبـوبـا‬ ‫س به بَصُرَت‬ ‫عيْنُ إقليد ٍ‬ ‫لَوْ َ‬
‫جنُوبا‬
‫تُلْفِ الهوَى بالثناء مَ ْ‬ ‫فاب َعثْهُ واجْنبه لي بمسْطَرة‬
‫وقال يصف بيكاتا‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫مولد بلطـيف الـحِـسَ والـنـظـرِ‬ ‫سمٍ من الصُـفْـر‬ ‫روح من الماء في جِ ْ‬
‫ضغْن علـى حَـذَرِ‬ ‫ت من ذَوِي ِ‬ ‫ولم َيبِ ْ‬ ‫مستعبر لم َيغِبْ عن طَـ ْرفِـهِ سـكـن‬
‫و ُمقْلة دمْعُـهـا جَـارٍ عـلـى قَـدَرِ‬ ‫له على الظهر أجـفـان مـحـجـرةٌ‬
‫كأنها حركاتُ الماء فـي الـشـجـرِ‬ ‫تنْشَا لـه حـركـاتٌ مـن أسـافـلِـه‬
‫للنـاظـرين بـل ذهـنٍ ول فِـكَـرِ‬ ‫وفي أعالـيه حُـسْـبـان يُفَـصّـلُـه‬
‫خافي المسـير وإن لـم يبـكِ لـم يدُرِ‬ ‫إذا بكـى دارَ فـي أحـشـائه فـلَـك‬
‫جدُ فـيهـا صـادق الـخـبـر‬ ‫بها فيو َ‬ ‫ُمتْرجـم عـن مَـواقـيتٍ يخـبـرُنـا‬
‫ستْرُ ال َغيْم والمَطَرِ‬ ‫غطى على الشمس ِ‬ ‫تُقْضَى به الخمسُ في َوقْتِ الوجوب وإن‬
‫عرفتُ مقدارَ ما ألقى من الـسّـهَـرِ‬ ‫ت لوقـاتٍ تـؤرقـنـي‬ ‫وإن سَـهِـرْ ُ‬
‫ذَوو التخَيرِ للسـفـار والـحَـضَـرِ‬ ‫ت تــخـــيرَه‬ ‫مُحَـدد كـل مـيقـا ٍ‬
‫من النهار وقوسُ اللـيلِ والـسـحَـرِ‬ ‫ومخرج لكَ بـالجـزاء ألْـطَـفَـهـا‬
‫يا حبذا أبدع الفكـار فـي الـصـور‬ ‫نتيجة العلمِ والـتـفـكـير صـو َرتُـه‬
‫وقال يصفُ أسطَرلباً‪ :‬البسيط‬
‫صفُـوح‬ ‫عن كلّ رافعةِ الشكال مَ ْ‬ ‫جرْم البد ِر مَـسْـطـوح‬ ‫ومستدير ك ِ‬
‫ق مَكبُـوحِ‬ ‫تمثالُ طرفٍ بشكر الحذ ِ‬ ‫ب يُدَارُ على قُطْـبٍ يثـبـتـه‬ ‫صُ ْل ٌ‬
‫على القاليم من أقطارهَا الـفِـيح‬ ‫ن وقد أو َفتْ صـفـائحُـه‬ ‫ملء البنَا ِ‬
‫بالماء والنارِ والرْضِـينَ والـريحِ‬ ‫ك مُـحْـدِقةً‬ ‫تُلْفى به السبعةَ الفـل َ‬
‫بالشمس طَوراً‪ ،‬وطَوْراً بالمصابـيح‬ ‫ج هـيئتُـه‬ ‫ُتنْبيك عن طائح البـرَا ِ‬
‫ت ذاك بعلم فـيه مَـشـرُوح‬ ‫عر ْف َ‬ ‫ضتْ ساعة أو بعض ثـانـية‬ ‫وإن م َ‬
‫لك التشككُ جَـلَهُ بـتـصـحـيحِ‬ ‫ت يُقَـدره‬ ‫وإنْ تعـرَض فـي وقـ ٍ‬
‫بين المشائم منهـا والـمـنَـاجِـيحِ‬ ‫مميز في قياساتِ الـضـلـوع بـهِ‬
‫يَحْوِي الضياء و ُتنْجِيه من الـلـوح‬ ‫ع ْينَا حِكمةٍ بـهـمـا‬ ‫له على الظهر َ‬
‫ي تَـنْـقـيح‬‫تنقح العقلُ فـيهـا أ َ‬ ‫وفي الدواوين من أشكالـه حِـكـم‬
‫إلَ الخصيف اللطيفُ ا ْلحِسّ والرُوحِ‬ ‫ل يستقل لـمـا فـيه بـمـعـرفةٍ‬
‫ب عمن سواهُ جـدّ مـفـتـوح‬ ‫أبوَا ِ‬ ‫حتى ترى الغيب فيه وهو منغلق ال‬
‫ذَوُو العقولِ الصحيحاتِ المَرَاجِـيحِ‬ ‫نتيجة الذهنِ والتـفـكـير صَـوره‬
‫ضدُ الدولة قد نكب أبا إسحاق الصابي‪ ،‬على تقدمه في الكتابة‪ ،‬ومكانه في البلغة‪ ،‬واستصفى أمواله من غير إيقا ِ‬
‫ع‬ ‫ع ُ‬ ‫وكان أبو شجاع َفنَاخَسْرو َ‬
‫به في نفسه‪ ،‬فأهدى إليه في يوم مهرجان أسطرلبًا في دَور الدرهم‪ ،‬وكتب إليه‪ :‬البسيط‬
‫ت ُتعْـلِـيهِ‬
‫في ِمهْرَجانٍ عظي ٍم أ ْن َ‬ ‫حتَشَدوا‬ ‫أهدَى إليكَ بنو الحاجاتِ وا ْ‬
‫سمُو َ َقدْ ِركَ عن شي ًء يُسَـامِـيهِ‬ ‫ُ‬ ‫لكنَ عبدَك إبـراهـيم حـين رأى‬
‫أفدَى لك الفََلكَ العْلَى بمـا فـيه‬ ‫لَ ْم يرضَ بالرض ُيهْدِيها إليك‪ ،‬فقد‬
‫وصف المرأة‬
‫وقولُ أبي الفتح‪ :‬ملء البنان‪......‬البيت نظيرُ قولِ علي ابن العباس الرومي يصف هَنَ امرأة‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫وهو في أصبعين من إقليم‬ ‫يَسَعُ السبعة القاليم طُـراً‬
‫يا وتحويهِ دَفتـا حَـيْزُومِ‬ ‫كضميرِ الفؤادِ يَلتَهمُ الـدن‬

‫‪113‬‬
‫وإنما أخذه ابن الرومي من قول بعض الشعراء يذكر كاتباً‪ :‬السريع‬
‫بقافهِ والـلم والـمـيمِ‬ ‫خرَس ذُو منطق‬ ‫ْ‬
‫في فعل ِه مِثلُ القـالـيمِ‬ ‫يسَ‪ ،‬ولكـنـه‬
‫وهذا البيت الخير مقلوب م‬ ‫ق منَ الـرَيمِ‬ ‫كإبرةِ الرَوْ ِ‬ ‫س و ُمسْـودُه‬‫رّأ ِ‬
‫الرقاع العاملي‪ ،‬وقد وصف قًرْنَ ريم‪ ،‬وشبّهه بقلم عليه مداد‪ ،‬وذكر ظبية‪ :‬الكامل‬
‫وقلب المعنى إذا تمكن الشاع‬ ‫ب منَ الدَوَا ِة مِدَادَهَا‬ ‫قلمٌ أصا َ‬ ‫نَ كأنَ إب َرةَ رَ ْوقِه‬
‫جرَى السرقةِ‪.‬‬ ‫جرِي مَ ْ‬‫يَ ْ‬
‫تكثيرَ الشعراء من تشبيه أوراك النسوان بالرَملِ والكُثبان‪ ،‬قال الشاعر‪ :‬الطويل‬
‫تأ َزرْنَ دُون ال ْزرِ َرمْـــــــــــلَتِ عـــــــــــــــالـــــــــــــــ‬ ‫نـــضـــيرَاتِ الــــــوجـــــــوه كـــــــأنـــــــمـــــــا‬
‫ن دون الــــمَـــــــنَـــــــافِـــــ‬
‫إذا الـــرُســـحُ لـــم يصـــبـــر َ‬ ‫ـشَـــوى ل تـــحـــتـــشـــي غـــير خَـــلـــقــــــهـــــــا‬
‫ت بِـــــــأيدِي الـــــــنـــــــوَاسِـــــــ‬
‫قِصَـــار وإنْ طـــالَـــــــ ْ‬ ‫ـرُوط الــــخـــــــ ّز مَـــــــلى كـــــــأنـــــــهـــــــا‬
‫عنى متداوَل متناقَل في الجاهلية والسلم‪ ،‬فأغرب ذو الرمة في قلبه وأحسن‪ ،‬فقال يصف رمل‪ :‬الطويل‬
‫وقـــد جـــلَـــلَـــتـــهُ الـــمـــظـــلـــمـــاتُ الْـــخَـــنــــــادِسُ‬ ‫وْرَاكِ العذارى قط ْعتُه‬
‫خدَام من المَجَال؛ قال خالد بن يزيد بن معاوية‪ ،‬وذكر رملة بنت الزبير بن العوام‪ :‬الطويل‬ ‫ضمُورَ ال َكشْح‪ ،‬وجولن الوُشُح‪ ،‬وصمُوت القُلْب والخلخال‪ ،‬وامتناع ال ِ‬ ‫دحهم ُ‬
‫ل ول قُلْبـا‬ ‫لِرملَةَ خلخالً يجو ُ‬ ‫لخيلُ النساءَ‪ ،‬ول أرَى‬
‫وقال النابغة‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ومن أجلها أحببتُ أخوالها كَلْبا‬ ‫العوّام طُرّا لحبّـهـا‬
‫وقال الطائي‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫صمُوتانِ من ملءً وقلّة منطقِ‬ ‫حجَْل ْيهَا وإن قلتَ أوسعا‬ ‫ِ‬
‫ن تـلـك ذَوَابِـلُ‬ ‫َقنَا الخـط إلَ أ َ‬ ‫شِ إلَ أنَ هَاتَـا أوانِـسٌ‬
‫وقال ابن أبي زرعة الدمشقي‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫ِـ‬‫خ‬ ‫الخل‬ ‫عليها‬ ‫جالت‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫ُح‬
‫ش‬ ‫و‬
‫ُ‬ ‫لها‬ ‫َت‬ ‫ر‬ ‫صيّ‬
‫ف لو أن الخلخيلَ ُ‬

‫تحتَ الظلم به فما نطقا‬ ‫خلخالها ومَشَـ ْ‬


‫ت‬
‫وقال المتنبي‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫ط ُرقَا‬
‫مل العبيرُ بسيرها ال ُ‬ ‫صبَا نَسَمت‬ ‫ريحُ ال ّ‬
‫ب هذا كلّه أبو عثمان الناج‬
‫قَل َ‬ ‫ن عليه من حَدقِ نِطَاقا‬‫كأ َ‬ ‫ثبُتُ البصا ُر فيه‬
‫ة‪ ،‬مخلع البسيط‪:‬‬
‫مثقل فهي عـنـكـبـوتُ‬ ‫ل غـيْر َبَـطْـن‬
‫كّ‬
‫وقال أبو عثمان يمدح َقيْنة‪:‬‬ ‫حهَا كظـم صُـمُـو ُ‬
‫ت‬ ‫شُ‬‫ووُ ْ‬ ‫لدهْرَ في اصْطِخَابٍ‬
‫ثم قلبه في هجاء‪ ،‬فقال‪ :‬السر‬ ‫ل كالتي تحسن في الندْرَة‬ ‫ي كل ألْحَانـهـا‬
‫وهذا مأخوذ من قول محمد‬ ‫تُخْطِئ بالحسان في الندرَهْ‬ ‫نها َو ْيحَها كيف ل‬
‫د بن طليق‪ ،‬وكان قد تقلد قضاء البصرة‪ :‬السريع‪:‬‬
‫يخطئ فينا مرَةً بالصـواب‬ ‫من خالـدِ كـيف ل‬
‫وهذا أيضًا من قلب الهجاء‬ ‫مِنْ رحمَةِ الّ‪ ،‬وهذا عَذابْ‬ ‫س فيما مضى‬ ‫ةُ النا ِ‬
‫هجاء؛ كما قال مسلم بن الوليد يهجو قوماً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫قلبه أبو الطيب المتنبي فقال‬ ‫س َنتْ مناظرهُمْ بقبح المخبَرِ‬
‫حَ ُ‬ ‫خبَ ْرتُهم‬
‫اظِرُ ُهمْ فحين َ‬

‫وقال أبو تمام‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫فَلما ال َتقَينا صَغر الخبَر الخبرُ‬ ‫خبَا َر َقبْلَ لِـقـائه‬
‫ال ْ‬
‫قلبه البحتري فقال‪ :‬المنسرح‬ ‫وكمينُه المخفي عليه كمينُ‬ ‫نَ له فَضَل لحينه‬
‫وقال أبو تمام‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫طبُهْ‬
‫س أنه عَ َ‬‫سبُ النا ُ‬
‫ما يَح ِ‬ ‫لمر ُء أن يُنجـيَهُ‬
‫قلبه البحتري فقال‪ :‬الطويل‬ ‫غيْرَ الصيدِ‬ ‫سنَى فما َتصْطَادُ َ‬‫وَ ْ‬ ‫غدَت‬ ‫ب إذا َ‬ ‫رمِي القلو َ‬
‫وقال أبو تمام‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫فوارس يصطاد الفوارسَ صِيدُها‬ ‫أخشَى على دا ِر أ ْمنِهـا‬

‫رب حَزام ِبغْضِ ِة الموموقِ‬ ‫ثُ وهو جدُ حبـيب‬


‫قلبه البحتري فقال‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫نوَ َه يَوْمًا بِخامِل لقـبُـه‬ ‫يَسرُني الشيء قد يسوءكُم‬
‫قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر‪ :‬المعنى في المصراع الول أ ْبيَنُ منه في الثاني؛ أل ترى أنه لو قال‪ :‬إنه ليسوءك الشيء قد يسر‪ ،‬كان مثل‬
‫ل أنه قلبه لحاجته‪.‬‬ ‫ذلك المعنى مستوياً‪ ،‬إ ّ‬
‫قال ابن الرومي يهجو مغنية‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫ر َفضَ اللهو َمعًا مَن رَفضَهْ‬ ‫قينة ملعونة من أجـلـهـا‬

‫‪114‬‬
‫ق مثل بَيتِ ال َرضَة‬
‫كل عِ ْر ٍ‬ ‫فإذَا غَنت ترى في حَلقـهـا‬
‫فقلبَهُ ابن المعتز فقال يصف أرَضة أكلت له كتاباً‪ :‬الرجز‬
‫مثل العروق ل ترَى فيها خََللْ‬ ‫َتثْني أنابيبَ لها فيهـا سـبـل‬
‫وهذا كثير ُي ْكتَفى منه باليسير‪.‬‬
‫ما ل ينقلب من المعاني‬
‫ومن المعاني ما ل ينقلب‪ :‬أل تَرَى أنك تقول‪ :‬نام القوم حتى كأنهم موتى‪ ،‬ول يحسن أن تقول‪ :‬ماتوا حتى كأنهم نيام؛ وقد أخذ على أبي نواس‬
‫قوله يصف داراً وقف بها‪ :‬السريع‪:‬‬
‫بين َيدَي تفنيده مُطرِقُ‬ ‫كأنها إذ خَرستْ جارم‬
‫قالوا‪ :‬إنما يجب أن يشبه الجارم إذا عذلوه فسكت وانقطعت حجتُه بالدار الخالية التي ل تُجِيب‪.‬‬
‫وأخذوا عليه قوله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ن َقصَارِ‬ ‫معصفرات على أرسَا ِ‬ ‫كأن نيراننا في جنبِ حصنهـمُ‬
‫وقد تبعه أبو تمام الطائي فقال في الفشين لما أحرق‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫صطَلى سرَ الزنادِ الوَارِي‬ ‫حتى ا ْ‬ ‫ما زالَ سرُ الكُفْر بينَ ضُلُوعِـه‬
‫لَهب كما عصفرتَ شِـق إزارِ‬ ‫نا ٌر يساورُ جسمَه من حـرهـا‬
‫أركانَهُ َهدْمًا بـغـي ِر غـبَـارِ‬ ‫شعَل يهدّم لفـحـهـا‬ ‫طارت له ُ‬
‫ل فَـقَـارِ‬
‫وفعَلْنَ فاقرة بـكُـ ّ‬ ‫ل مجمَع َمفْـصِـل‬ ‫ن منه ك ّ‬‫فصّلْ َ‬
‫مَيتاً‪ ،‬ويدخُلها مـع الـكـفـارِ‬ ‫صلّى لها حيّاً‪ ،‬وكان وقُـودهـا‬
‫يومَ القيامة جلُ أهْـلِ الـنّـارِ‬ ‫وكذاك أهلُ النارِ في الدنيا هـم‬
‫أردت البيت الثاني‪ ،‬قالوا‪ :‬وإنما تشبه الثيابُ المعصفرة بالنار؛ فهذا وما أشبهه ل يتوازنُ انعكاسه‪ ،‬وتتضادّ قضاياه؛ وإنما يصح القلْب فيما‬
‫يتحقّق تضادّه أو يتقارب‪.‬‬
‫قطعة من شعر أهل العصر في ذكر النجوم‬
‫قال أبو الفتح البستي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫حمَلِ‬
‫أقْوَى من المشتري في أوَلِ ال َ‬ ‫ض مِن أملي أني أرى عملي‬ ‫قد غ ّ‬
‫كأنني أسْتدرّ الحـظ مـن زُحَـلِ‬ ‫وأنني راحِـل عـمّـا أُحـاوِلـه‬
‫وقال‪ :‬البسيط‬
‫فاحكم على مُ ْلكِه بال َويْلِ والحَربِ‬ ‫إذا غدا ملكٌ بالّلهْ ِو مـشـتـغـلً‬
‫لمّا غدا برج نجمِ الّلهْو والطّرَبِ؟‬ ‫ألم تر الشمس في الميزان هابطةً‬
‫وقال‪ :‬الوافر‬
‫و ُت ْبعِدُ حين تحتقدُ احتـقـادا‬ ‫وقد ُتدْني الملوكُ لدى ِرضَاها‬
‫سلُبُ ما أفَـادا‬ ‫وفي التربيع يَ ْ‬ ‫كما المرَيخ في التثليث ُيعْطي‬
‫وقـال‪ :‬الـمـتـقـارب‬
‫تمدَحت فَلْيمتحن من يُحـبْ‬ ‫أل فثقوا بي فإني كما‬
‫ول بُ ْرجُ قلبيَ بالمنقـلـبْ‬ ‫فما كوكبي راجعاً في الوفاء‬
‫وقال‪ :‬المتقارب‬
‫حهُمُ بـالـظـفَـرْ‬ ‫وفازت قِدا ُ‬ ‫لئن كـسَـفُـونـا بـل عـلّة‬
‫كما َيكْسِفُ الشمسَ جِرمُ ال َقمَر‬ ‫فقد َيكْسِفُ المر َء مَـنْ دونـه‬
‫وقال‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫ما فـيهِ بـزيغٍ وخَـلَــلْ‬ ‫شَ َرفُ الوَغْد بوغد مـثـلـهِ‬
‫شرفُ المرّيخ في بيت زُحَلْ‬ ‫ق فيما قُـلْـتُـه‬
‫ودليل الصد ِ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حتى أخَل بطاعةِ النـصـحـاءِ‬ ‫قل للذي غَرّتهُ عِـزّ ُة مُـلْـكِـه‬
‫وكذاك أوْجُ الشمسِ في الجوزاء‬ ‫ك بعلمهم وبـرأيهـم‬ ‫شرفُ الملو ِ‬
‫وقال‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫فساد الماكن‪ ،‬والشر ُيعْـدِي‬ ‫وقد يفسدُ المرء بعد الصلح‬
‫س ْعدِ‬ ‫غيْر َ‬ ‫إذا كان في موضعٍ َ‬ ‫كما السّعد يَقبل طبع النحوس‬
‫وقال‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫من َبعْدِ طولِ العهد بالمواردِ‬ ‫ما أنْسُ ظمآنٍ بمـا ًء بـاردِ‬
‫جدِ‬‫من سيدٍ َمحْضِ النّجار ما ِ‬ ‫إلّ كُأنْسِي بـكـتـابٍ وارد‬
‫كأنما استمله من عُطـارِد‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫لرياسةٍ‪ ،‬وتصاغرُوَا وتخادَموا‬ ‫يا معش َر الكتاب ل تتعرضوا‬

‫‪115‬‬
‫إلّ عطارد حين صُـوَر آدمُ‬ ‫إن الكواكب كُن في أشرافها‬
‫وقال‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫له الْخُلق الشرفُ الظرفُ‬ ‫دعانـي إلـى بـيتـه سـيّد‬
‫بعذر هو الظرف الطرفُ‬ ‫ت بيتي ولطَـفْـتُـهُ‬ ‫فل َزمْ ُ‬
‫عطار َد في بيتـه أشـرفُ‬ ‫جمِي‪ ،‬ول شـكّ أن‬ ‫عُطَا ِردُ نَ ْ‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وصِ ْرتُ بعد ثَوَاء رَهْنَ أسفـارِ‬ ‫ت مِـنْ دارٍ إلـى دارِ‬ ‫لئن تنقلْـ ُ‬
‫شمْسُ في كل بُرْج ذاتُ أنوار‬ ‫وال َ‬ ‫فالحر حرٌ عزيزُ النفس حيث ثَوَى‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وللدهر حكم للجمـيع صَـدُوعُ‬ ‫لئن صدع الدهرُ المشتتُ شملنـا‬
‫وللشمس من بعد الغروب طلوع‬ ‫فللنَجْ ِم من بعد الرجوع استقـامةٌ‬
‫وقال لمحبوس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تضي ُء به الَفاقُ للبدر والشمـسِ‬ ‫ت ومن بعد الكسوف تـبـلّـج‬ ‫س َ‬ ‫حُب ْ‬
‫ضيَق الحبْسِ‬ ‫فأول كون المرء في أ ْ‬ ‫فل تعتقدْ للحبس غـمـاً و َوحْـشَة‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حاشاك أن تنقادَ للمـريخِ‬ ‫يا من تولى المشتري تدبيرَهُ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ما ك ّل تدبير البروج بضـائِرِ‬ ‫ن من كل شيء مُفْزعٍ‬ ‫ل تفزعَ ْ‬
‫وقال يرثي أبا القاسم الصاحب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫كذاك كسوفُ البدر عند تمامِهِ‬ ‫فَ َقدْناهُ لما تمَ واعتمَ بـالـعُـلَ‬
‫وقال أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن درست لبي الفضل الميكالي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫فَوَج ُهكَ عِندَنا البَدرُ المُقـيمُ‬ ‫إذا ما غاب وَجْهُ البَدْرِ عنـا‬
‫فوجهك نج ُم سعدٍ مستقـيمُ‬ ‫جعَت نُجومُ السع ِد يَوماً‬ ‫فإن َر َ‬
‫وقال مسكويه الخالدي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫فضيلة الشمس ليست في منازلها‬ ‫ل يعجبنكَ حسنُ القصر تنـزلـه‬
‫ما زاد ذلك شيئاً في فضائلـهـا‬ ‫لو زيدت الشمسُ في أبراجها مائةً‬
‫وقال أبو بكر الخوارزمي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لزاماً‪ ،‬وإن أعسَرت زُرْتَ لماما‬ ‫رأيتك إن أيسرْتَ خيمتَ عندنـا‬
‫أغَب‪ ،‬وإن زاد الضياء أقـامـا‬ ‫فما أنت إل البدر‪ :‬إن قل ضوؤه‬
‫وهذا كقول إبراهيم بن العباس الصولي في محمد بن عبد الملك الزيات‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫وأبٌ بـرٌ إذا مـا قـدرا‬ ‫سدٌ ضَا ٍر إذا مانَـعْـتَـهُ‬ ‫أَ‬
‫يعرف الدنى إذا ما افتقرا‬ ‫يعرف البعد إن أثرى‪ ،‬ول‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بناهُ إلهٌ غالبُ الـعـز قـاهـ ُرهْ‬ ‫إذا ما أراد الحاسدون انـهـدامَـه‬
‫تزينهـمُ أخـلقُـهُ ومـَآثِـرُه؟‬ ‫وماذا يريد الحاسدون من امـرئً‬
‫ول تهتدي يَوْماً إليهم مَـفَـاقِـرُهْ‬ ‫إذا ما هو استغنى اهتدى لفتقارهمْ‬
‫ف ُردَ عليهم َوبْـلـه ومَـوَاطِـ ُرهْ‬ ‫وكانوا كَرَام كوكبا بـبـصـاقِـهِ‬
‫وهذا البيت كما قال بعض العرب في إحدى الروايات‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بريًا ومِنْ جالِ الط ِويَ َرمَاني‬ ‫رَماني بأمر كنتُ منه وَوَالدي‬
‫الجُول والجَال‪ :‬الناحية‪ ،‬والطوي‪ :‬البئر؛ يريد رماني بما عاد عليه‪ ،‬والرواية المشهورة‪ :‬من أجل الطّوِي‪ ،‬فعلى هذا تسقط المناسبة بينه وبين‬
‫قول ابن المعتز‪.‬‬
‫من أخبار الصمعي‬
‫ضنَا في ذكر أبي سعيد‬‫جتَني ثمارَها‪ ،‬ونَجتَلي أنوارَها‪ ،‬إلى أن أفَ ْ‬ ‫ض من المذاكرة نَ ْ‬‫قال بعضُ الرواة‪ :‬كنّا مع أبي نصر رَاوية الصمعي في ريا ٍ‬
‫عبد الملك بن قرَيب الصمعي؛ فقال‪ :‬رحم الَُ الصمعي! إنه لمَعدِنُ حِكم‪ ،‬وبَحرُ عِلْم‪ ،‬غي َر أنه لم نر قط مثلَ أعرابي وقف بنا فسلم‪ ،‬فقال‪ :‬أيكم‬
‫الصمعي؟ فقال‪ :‬أنا ذاك‪ ،‬فقال‪ :‬أتأذنون بالجلوس؟ فأذِنا له‪ ،‬وعجبنا من حُسن أدبه مع جفاء أدب العراب‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا أصمعي‪ ،‬أنتَ الذي يزعمُ هؤلء النَفر أنك أثقبهُم معرفة بالشعر والعربية‪ ،‬وحكايات العراب؟ قال الصمعي‪ :‬فيهم مَنْ هو أعلم مني‪،‬‬
‫ومَنْ هُ َو دوني‪ ،‬قال‪ :‬تنشدونني من بعض شعر أهل الحضر حتى أقيسَهُ على شعر أصحابنا؟ فأنشده شعراً لرجل امتدح به مسلمة بن عبدَ الملك‪:‬‬
‫الطويل‪:‬‬
‫وليث إذا ما الحربُ طارَ عُقابُها‬ ‫أمَسلمَ‪ ،‬أنتَ البحرُ إن جاءَ واردٌ‬
‫ب يعب عُبابهـا‬ ‫حوادثُ من حر ٍ‬ ‫ي إن غدَت‬ ‫وأنت كسيف اله ْندُوَانِ ّ‬
‫ول غاية إلّ إلـيك مَـَآبُـهـا‬ ‫وما خُلِقت ُأكْرومَةٌ في امرئٍ له‬

‫‪116‬‬
‫بها‪ ،‬وعلى كفيك يَجرِي حِسابُها‬ ‫ن عـلـيهـا مُـ َوكّـلٌ‬ ‫كأنك ديّا ٌ‬
‫أخا ثقة يرجَى لديه ثـوابُـهَـا‬ ‫إليك رح ْلنَا العِيسَ إذ لم نجد لهـا‬
‫قال‪ :‬فتبسّم العرابي‪ ،‬وهزّ رأسه‪ ،‬فظننا أن ذلك لستحِسانه الشعر‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا أصمعيّ‪ ،‬هذا شع ٌر مهَلهل خَلَق النسج‪ ،‬خطْؤه أكثر من صوابه‪،‬‬
‫يغطي عيوبَه حسن الرَوِيّ‪ ،‬ورواية المنشد؛ يشبّهون الملك إذا امتُدح بالسد‪ ،‬والسد أبْخَر شَتيم المَنظَر‪ ،‬وربما طرده شِ ْر ِذمَة من إما ِئنَا‪،‬‬
‫صعْبٌ على مَن رَكبه‪ ،‬مُرّ على من شربه‪ ،‬وبالسيف وربما خان في الحقيقة‪ ،‬و َنبَا عند‬ ‫وتلعَب به صبياننا‪ ،‬ويشبّهونه بالبحر‪ ،‬والبحرُ َ‬
‫ي من حيّنا! قال الصمعي‪ :‬وماذا قال صاحبكم؟ فأنشده‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫الضّريبة! أل أنشدتني كما قال صب ّ‬
‫لم ُيعْزَ إكرامها إلّ إلى الـهـولِ‬ ‫إذا سألت ال َورَى عن كل مكـرمة‬
‫فالنّيل يشك ُر منه كثْـرَةَ الـنّـيْلِ‬ ‫ل نَـائِلـهُ‬ ‫فتًى جَوادٌ أذابَ الـمـا َ‬
‫في كرّهِ عند لفّ الخيل بالخـيلِ‬ ‫ت يكره أن يلقـى مَـنِـيّتـهُ‬ ‫المو ُ‬
‫أو زاحم الصّمّ أ ْلجَاها إلى المـيْل‬ ‫س أبقى الشمسَ كاسِفة‬ ‫وزاحم الشم َ‬
‫جرَى من الـسّـيْلِ‬ ‫وعند أعدائه أ ْ‬ ‫أمضَى من النجم إن نا َبتْـه نـائبةٌ‬
‫ب الـذيْلِ‬ ‫ول تراه إليها سـاحـ َ‬ ‫ل يستريح إلى الدنيا وزينـتـهـا‬
‫كما يقصّر عن أفعاله قَـوْلـي!‬ ‫صرُ المج ُد عنه في مكـارمِـهِ‬ ‫يق َ‬
‫قال أبو نصر‪ :‬فَأ ْبهَتَنا وال ما سمعنا من قوله‪ ،‬قال‪ :‬فتأنّى العرابي‪ ،‬ثم قال للصمعي‪ :‬أل تنشدني شعراً ترتاحُ إليه النفس‪ ،‬ويسكن إليه القلب؟‬
‫فأنشده لبن الرّقاع العاملي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫مؤشّرَة يَسْبي المُعانِق طِيبُهـا‬ ‫وناعمة تجْلُـو بـعـود أراكةٍ‬
‫ت بعد الرّقاد غُروبُها‬ ‫إذا ارتشِفَ ْ‬ ‫كأنّ بها خمرًا بماءِ غـمـامةٍ‬
‫ث كان حبيبُها‬ ‫ل نفس حي ُ‬ ‫ُمنَى ك ّ‬ ‫ج ٍد تَحِـنّ‪ ،‬وإنـمـا‬ ‫أراك إلى نَ ْ‬
‫فتبسَم العرابي وقال‪ :‬يا أصمعي‪ ،‬ما هذا بدون الول‪ ،‬ول فوقه‪ ،‬أل أنشدتني كما قلت؟ قال الصمعي‪ :‬وما قلت؟ جعلت فداك! فأنشده‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي عن كلّ الورَى فارغٌ بِـكْـرُ‬ ‫فقلب َ‬ ‫تَعلّ ْقتُها بِكراً‪ ،‬وعُـلّـقْـت حـبّـهـا‬
‫حجِبَ البَـدْرُ‬ ‫وتكفيك ضوءَ البدر إن ُ‬ ‫جبَتْ لم يكفكِ البدرُ ضـوءَهـا‬ ‫إذا احت َ‬
‫صبْرُ؟‬‫حسُن ال ّ‬ ‫جميلً‪ ،‬وهل في مثلها يَ ْ‬ ‫وما الصب ُر عنها‪ ،‬إن صبرتَ‪ ،‬وجدتُه‬
‫س ُبكَ الخـمـرُ‬ ‫ووالّ ما من ريقها حَ ْ‬ ‫وحسبُك من خمر يفـوتُـك ريقُـهـا‬
‫لكان لمسَ الذر في جِلْـدِهـا أثْـرُ‬ ‫ولو أن جلد الذر لمَـسَ جِـلْـدَهـا‬
‫سنِها لصفـا الـبَـدْرُ‬ ‫وتفضله في حُ ْ‬ ‫ضدّا جـمـالُـهـا‬ ‫ولو لم يكُنْ لل َبدْرِ ِ‬
‫قال أبو نصر‪ :‬قال لنا الصمعي‪ :‬اكتبوا ما سمعتم ولو بأطرافِ ال ُمدَى في رِقاق الكباد! قال‪ :‬وأقا َم عندنا شهراً‪ ،‬فجمَع له الصمعيّ خمسمائة‬
‫دينار‪ ،‬وكان يتعاهدنا في ا ْلحِين بعد الْحِين‪ ،‬حتى مات الصمعي وتفرّق أصحابنا!‬
‫فِقَرٌ من كلم العراب‬
‫في ضروب مختلفة‬
‫قال الجاحظ‪ :‬ليس في الرض كلمٌ هو أ ْمتَع‪ ،‬ول أنْفَع‪ ،‬ول آنقُ‪ ،‬ول ألذّ في السماع‪ ،‬ول أشد اتّصال بالعقول السليمة‪ ،‬ول أ ْفتَق لِلسان‪ ،‬ول‬
‫أجود تقويماً للبيان‪ ،‬من طُولِ استماع حديث العراب العقلءِ الفصحاءَ‪.‬‬

‫قال ابنُ المقفع‪ ،‬وقد جرى ذِكْرُ الشعرِ وفضيلته‪ :‬أي حكمة تكون أبلغ‪ ،‬أو أحسن‪ ،‬أو أغرب‪ ،‬أو أعجب‪ ،‬من غلم بدوي لم ير رِيفاً‪ ،‬ولم يشبع‬
‫س بالجانِ؛ فإذا قال الشعر وصف‬ ‫ش من الكلم‪ ،‬ويَفْزَع من البشر‪ ،‬ويَأوِي إلى القَفْرِ واليرابيع والظَباء‪ ،‬وقد خالط الغِيلَن‪ ،‬وأن َ‬ ‫من طعام؛ يستوح ُ‬
‫ما لم يَرَه‪ ،‬ولم يغذ به‪ ،‬ولم يعرفه‪ ،‬ثم يذكر محاسن الخلق ومساويها‪ ،‬ويمدح ويهجو‪ ،‬ويذمّ ويعاتب‪ ،‬ويشبب ويقول ما يُكتب عنه‪ ،‬ويروى له‪،‬‬
‫ويبقى عليه‪.‬‬
‫وقال بعض العراب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وإني بأطراف ال َقنَا للَـعـوبُ‬ ‫وإني لهدَى بالوانس كالدُمـى‬
‫ولُـوثَة أعـرابـيتـي لدِيبُ‬ ‫عنْجُهيتي‬ ‫وإني على ما كان من ُ‬
‫كأن الدب غريب من العراب‪ ،‬فافتخر بما عنده منه‪.‬‬
‫وقال الطائي في فطنتهم‪ ،‬يستعطف مالك بن طَوْق على قومه بني تغلب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫طنَةِ العرابِ‬ ‫وتباعدوا عن ف ْ‬ ‫غ َذتْهُمُ‬‫خصْرِ اللطيف َ‬ ‫ل رِقة ال َ‬
‫كرَم النفـوس وقـلّة الَدابِ‬ ‫فإذا كَشَ ْف ُتهُمُ وجدْت لـديهـمُ‬
‫ووصف أعرابي رجلً فقال‪ :‬هو أطه ُر من الماء‪ ،‬وأرق طباعاً من الهواء‪ ،‬وأمضى من السيل‪ ،‬وأهدى من النجم‪.‬‬
‫ستَمرَأ ظُلْمه‪.‬‬
‫ووصف أعرابيّ رجلً فقال‪ :‬ذاك وال من ينفع سِلمه‪ ،‬ويتَواصَفُ حِلمه‪ ،‬ول يُ ْ‬
‫ش من أقلمهم‪.‬‬ ‫وقال أعرابي‪ :‬جلستُ إلى قوم من أهل بغداد فما رأيتُ أرجَح من أحلمهم‪ ،‬ول أطيً َ‬
‫وذكر أعرابي من بني كلب رجلً فقال‪ :‬كان وال الفه ُم منه ذا أذنين‪ ،‬والجواب ذا لِسَانين‪ ،‬ولم أرَ أحداً أرتقَ لخَللِ رَأي‪ ،‬ول أبعد مسافة روية‪،‬‬
‫ومَرادَ طَ ْرفٍ منه؛ إنما كان يرمي بهمّته حيث أشار إليه الكرم‪ ،‬وما زال يتحسى مرارة أخلق الخوان‪ ،‬ويسقيهم عذوبةَ أخلقه‪.‬‬
‫ت له‪ ،‬فما ُتعْ َقدُ إل على وُده‪ ،‬ول تنطق إلّ بحمده‪.‬‬ ‫ل فقال‪ :‬وال لكأن القلوب واللسُن ريِض ْ‬ ‫وذكر أعرابي رج ً‬
‫ب بمثل المشاوَرة‪ ،‬ول اكتُسِبت البغضا ُء بمثل الكبر‪.‬‬ ‫وقال أعرابي‪ :‬أقبحُ أعمال المقتدرين النتقامُ‪ ،‬وما استنبط الصوا ُ‬
‫ن الدنيا دارُ مفر‪ ،‬والَخرة دار مقَر؛ فخذوا من مفركم لمقَركم‪ ،‬ول تهتكوا أستاركم‬ ‫قال الصمعي‪ :‬وخطَبنا أعرابي بالبادية‪ ،‬فقال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬إ ّ‬
‫عند من ل تخفى عليه أسرارُكم‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫قال المعافر بن نعيم‪ :‬وقفتُ أنا ومعبد بن طوق العنبري على مجلس لبني العنبري‪ ،‬وأنا على ناقة وهو على حمار‪ ،‬فقاموا فبدأوني فَسَلموا علي؛‬
‫ثم انكفَأوا على معبد‪ ،‬فقبض يده عنهم؛ وقال‪ :‬ل‪ ،‬ول كَرَامة! بدأتم بالصغير قبل الكبير‪ ،‬وبالمولَى قبل العربي‪ ،‬وبالمُفْحَم قبل الشاعر‪ ،‬فأسكت‬
‫القومُ‪ ،‬فانبرى إليه غلم‪ ،‬فقال‪ :‬بدَأنا بالكاتب قبل الُمي‪ ،‬وبالمهاجر قبل العْرابي‪ ،‬وبراكب الراحلة قبل راكب الحمار‪.‬‬
‫غنَوْا‪.‬‬
‫ن بذلوا أ ْ‬ ‫جدْب‪ ،‬إنْ قاتلوا أبْلَوْا‪ ،‬وإ ْ‬ ‫ووصف أعرابي قومَه فقال‪ :‬ليوثُ حَرْب‪ ،‬وغُيوث َ‬
‫ت بينهم السهام‪ ،‬وإذا تصافَحُوا بالسيوف َفغَر َفمَه الْحِمامُ‪.‬‬ ‫سفَ َر ْ‬‫ووصف أعرابي قومًا فقال‪ :‬إذا اصطفُوا َ‬
‫عيَابُ الود بيني وبينه بعد امتلئها‪ ،‬واكفهّرت وجوهٌ كانت بمائها‪.‬‬ ‫وُسئل أعرابي عن صديق له‪ ،‬فقال‪ :‬صَفِرت ِ‬
‫ل والنهار‬ ‫وقال الصمعي‪ :‬وسمعت أعرابيًا يقول‪ :‬إن المال قَطَعتْ أعناقَ الرجال‪ ،‬كالسراب غَ َر مَنْ رآه‪ ،‬وأخلف من رَجاه‪ ،‬ومَنْ كان اللي ُ‬
‫مَطِيته أسرعا السير والبلوغ به‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ل يوم مضى ُيدْني من الجَل‬ ‫وك ّ‬ ‫طعُـهـا‬ ‫والمرءُ يفرح باليام يق َ‬
‫وذكر أعرابي مصيبة ناَلتْه‪ ،‬فقال‪ :‬إنها‪ ،‬وال‪ ،‬مصيبة جعلت سُودَ الرؤوس بيضاً‪ ،‬وبيضَ الوجوه سوداً‪ ،‬وهونت المصائب‪ ،‬وشَيبت الذوائب‪.‬‬
‫وهذا كقول عبد ال بن الزَبير السدي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫س َمدْنَ له سُـمُـودا‬ ‫بمقدارٍ َ‬ ‫ن نِسْوَةَ آل حَرْبٍ‬ ‫ح ْدثَا ُ‬
‫َرمَى ال ِ‬
‫ورد وجو َههُن البيضَ سُودا‬ ‫فرد شعورهنَ السُود بيضـاً‬
‫صكَانِ الخـدُودا‬ ‫و َرمْلَة إذ تَ ُ‬ ‫وإنكُ لو رأيت بكاءَ هِـنْـدٍ‬
‫أصابَ الدهرُ واحدَها الفقيدا‬ ‫ت بُكا َء ُمعْـوِلةٍ حَـزين‬ ‫َبكَي َ‬
‫ل ابن الرومي‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫ونظي ُر هذا التطابق بين السواد والبياض‪ ،‬وإن لم يكن من هذا المعنى‪ ،‬قو ُ‬
‫عند بيضِ الوجوه سُودِ القرونِ‬ ‫يا بياضَ المَشِيبِ سَ ّودْتَ وَجْهي‬
‫عن عِياني وعن عِيان العيونِ‬ ‫فلعمري لخفينَـك جَـهْـدِي‬
‫حك في رَأسِ آسفٍ محزون‬ ‫ولعمري لمنعنـك أن تَـض‬
‫ج ِهكَ المَـلْـعُـونِ‬‫وسوادٌ لوَ ْ‬ ‫بسوادِ فيه ابيضَاضٌ لوجهـي‬
‫سأل أعرابيان رجلً‪ ،‬فحرمهما‪ ،‬فقال أحدُهما لصاحبه‪ :‬نزلتَ وال بوا ٍد غير ممطور‪ ،‬وأتيتَ رجلً بك غير مسرور‪ ،‬فلم تّدرك ما سألت‪ ،‬ول‬
‫عدَم‪.‬‬ ‫نِلْتَ ما أمّلْت؛ فارتحِل بندم‪ ،‬أو أَقمْ على َ‬
‫غفَلنا ولم َيغْفُلِ الده ُر عنّا‪ ،‬فلم نتعظ بغيرنا حتى وُعِظ غيرُنا بنا‪ ،‬فقد أدركتِ السعاد ُة من تَنبه‪ ،‬وأدركت‬ ‫قال الصمعي‪ :‬وسمعتُ أعرابياً يقول‪َ :‬‬
‫الشقاوة من غفَل‪ ،‬وكَفى بالتجربة واعظاً‪.‬‬
‫وقال أعرابي لرجل‪ :‬أشكر للمنعم عليك‪ ،‬وأنْعم على الشاكر لك‪ ،‬تستَوْجب من ربك زيادته‪ ،‬ومن أخيك ُمنَاصحته‪.‬‬
‫حكِم السبب‪ ،‬من أيّ أقطاره أتيته تُثْني عليه بكرم فعال‪ ،‬وحُسْن مقال‪.‬‬ ‫ستَ ْ‬
‫ل فقال‪ :‬ذلك وال فَسيح الدب‪ ،‬مُ ْ‬ ‫ومدح أعرابي رج ً‬
‫غيْ َر منتقل عنه‪ ،‬ولو صدق رجلٌ نفسه‬ ‫وذمّ أعرابي رجلً فقال‪ :‬أفسد آخِرتَه بصلح ُدنْياه‪ ،‬ففارقَ ما أصْلح غيرَ راجعِ إليه‪ ،‬وقدم على ما أفسد َ‬
‫ما َكذَبتهّ‪ ،‬ولو ألقى زمامه أوْطأه رَاحِلتَهُ‪.‬‬
‫وقال أعرابي‪ :‬خرجت حين انحدرَتْ أيدي النجوم‪ ،‬وشالَتْ أرجلها‪ ،‬فما زلّت أصدع الليلَ حتى انصدَع الفجر‪.‬‬
‫وقال أعرابي‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫بالسّوْطِ في دَ ْيمُومة كالتّرس‬ ‫ت َذمِيلَ الـعَـنْـسِ‬
‫وقد َتعَاَللْ ُ‬
‫شمْسِ‬ ‫عرّج الليلُ بُرُوجَ ال َ‬ ‫إذ َ‬
‫ومن مليح الستعارة في نحو هذا قولُ الحسن بن وهب‪ :‬شربت البارحة على وَجْهِ الجوزاء؛ فلما انتبه ال َفجْ ُر ِنمْت‪ ،‬فما عقلت حتى َلحَفَني‬
‫شمْسِ‪.‬‬
‫َقمِيصُ ال َ‬
‫حنْثَ‪ ،‬وتَقْضي الحاجة‪.‬‬ ‫سخِط الشيطان‪ ،‬وتُذْهِب ال ِ‬ ‫وقال أعرابي لصاحبه في شيء ذكره‪ :‬قل إن شاء ال‪ ،‬فإنها تُ ْرضِي الربّ‪ ،‬وتُ ْ‬
‫ب يوم كتَنّور الطاهي‪ ،‬رقّاص بالحمامة‪ ،‬قد رميتُ‬ ‫ت بينهما‪ :‬أما وال ل ُر ً‬ ‫وروى العتبيُ عن أبيه قال‪ :‬سمعت أعرابيَاً يقول لخيه في معاتبة جرَ ْ‬
‫سمُومِه‪ ،‬أح َتمِلُ منه ما أكره لما أحبّ‪.‬‬ ‫نَفْسي في أجِيج َ‬
‫قال أبو العباس محمد بن يِزيد‪ :‬وأحسب العتبي صنع هذا الكلم‪ ،‬وأخذه من قول بَشَار‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جزْل حتى تَضرّما‬ ‫وأوقَدنَ فيه الْ َ‬ ‫ويوم َكتَنورِ الماء سَـجَـرنَـه‬
‫ض َمنْخَرها دَمَا‬ ‫وبالعيس حتى بَ ّ‬ ‫سمُومـه‬ ‫رميتُ بنفسي في أجيج َ‬
‫أخذ هذا المعنى بعضُ أصحاب أبي العباس ثعلب فقال يهجو المبرد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫على أنه منه أحَرّ وأوقـدُ‬ ‫ج ْرتُه‬‫ويوم كتنّور الطّهاة سَ َ‬
‫فما زلت في ألفاظِهِ أتب َردُ‬ ‫ظللت به عند المبرّد جالِساً‬
‫غذَ ْوتُك رضيعاً‪،‬‬ ‫جعَة فقالت‪ :‬والّ يا بنيّ لقد َ‬ ‫قال الصمعي‪ :‬حجت أعرابيةٌ ومعها ابنٌ لها‪ ،‬فأصيبت به‪ ،‬فلمّا ُدفِن قامت على قبره‪ ،‬وهي مُو َ‬
‫ت بعد النّضارة والغَضَارة ورونق الحياة والتنسّم في طِيب روائحها‪،‬‬ ‫وفقدتُك سريعاً‪ ،‬وكأنه لم يكن بين الحالين مدةٌ ألت ُذ بعيشك فيها‪ ،‬فأصبح َ‬
‫ت الدنيا عليك أذيال الفناء‪ ،‬وأسكنتك دارَ البِلَى‪ ،‬ورمتني بعدك‬ ‫حبَ ِ‬
‫جرُزاً؛ أي بني! لقد سَ َ‬ ‫تحت أطباق الثرَى جَسداً هامداً‪ ،‬و ُرفَاتاً سحيقاً‪ ،‬وصعيداً ُ‬
‫نكْبَةُ ال ّردَى‪ ،‬أي بني‪ ،‬لقد أسفر لي وج ُه الدنيا عن صباح دَاجٍ ظلمُه‪.‬‬
‫عدْتني‬ ‫ب ومنك العدل‪ ،‬ومن خَ ْلقِك الجَوْر‪ ،‬و َه ْبتَه لي قُرَةَ عين فلم ُت َمتّعني به كثيراً‪ ،‬بل سَلَبتنِيه َوشِيكاً؛ ثم أمرتني بالصبر‪ ،‬وَوَ َ‬ ‫ثم قالت‪ :‬أي ر ّ‬
‫سدْتُه الثّرَى؛ اللهم ارحم غربته‪ ،‬وآنِس‬ ‫عتُه ال ّردْم‪ ،‬وو َ‬ ‫عدَك‪ ،‬ورضيت قضاءك‪ ،‬فرحم ال من ترحّم على من استودَ ْ‬ ‫عليه الجر‪ ،‬فصدقت وَ ْ‬
‫وحشَته‪ ،‬وأسترْ عَوْرَته‪ ،‬يوم ُتكْشَف ال َهنَات والسوءات‪.‬‬
‫فلما أرادت الرجوعَ إلى أهلها وقفت على قبره‪ ،‬فقالت! أي بني‪ ،‬إني قد تز ّودْت لسفري‪ ،‬فليت شعري ما زادُك ل ُب ْعدِ طريقك‪ ،‬ويوم َمعَادِك؟ اللهم‬
‫عنِيك في أحْشَائي جنيناً؛ وأثكلَ الوالدات! ما أمض حرار َة قلوبهنّ‪ ،‬وَأقْلَق‬ ‫عتُك مَن استودَ َ‬ ‫ي عنه‪ .‬ثم قالت‪ :‬استودَ ْ‬ ‫إني أسألُك له الرضا برضائ ِ‬
‫ن من الحزان‪.‬‬ ‫ن من السرور‪ ،‬وأقربه ّ‬ ‫ل ليلهن‪ ،‬وأقص َر نهارهن‪ ،‬وأقلّ أنسهنّ‪ ،‬وأشدّ وحشتهن‪ ،‬وأبعده ّ‬ ‫مضْاجِعهن‪ ،‬وأطو َ‬

‫‪118‬‬
‫ت كل مَنْ سمِعها‪ .‬وحمدت ال عزّ وجلّ واسترجعَتْ وصلت ركعات عند َقبْره وانطلقت‪.‬‬ ‫لم تزلْ تقولُ هذا ونحوه حتى أبك ْ‬
‫وأنشد المُفضلُ الضبيُ لمرأ ٍة من العرب ترثي ابناً لها‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عمْرِو‬ ‫عمْرو يا أسَفي على َ‬ ‫يا َ‬ ‫يا عمرُو مالي عنك من صبرِ‬
‫ض ْعتَ في القبرِ؟‬ ‫ك ّفنْت يوم وُ ِ‬ ‫ل يا عـمـرو‪ ،‬وأيَ فـتـىً‬
‫وعلى غَضَارة وجهه النضْرِ‬ ‫أحْثوا الترابَ على مَفَـارقـهِ‬
‫وبدا ُمنِيرَ الوجه كـالـبـدر‬ ‫ب بـهِ‬ ‫حين استوى وعَل الشبا ُ‬
‫ورأوا شمائل سَـيّد غَـمْـرِ‬ ‫ورجا أقاربُـه مـنـافَـعـهُ‬
‫غدَا مع الغادِينَ في السفـر‬ ‫وَ‬ ‫وأهمَه هَـمَـي فـسـاوَرَهُ‬
‫مَ َرطَى ا ْلجِراء شَديدةُ السْر‬ ‫تغدُو به شَـقـراء سـامـية‬
‫ب مُقْلتـي صَـقْـرِ‬ ‫ج يقل ُ‬ ‫فَلِ ٌ‬ ‫جنَان به‪ ،‬ويقـدمـهـا‬ ‫ثبت ال َ‬
‫غذُوه وفي العُسْرِ‬ ‫في اليُسْر أ ْ‬ ‫ربـيتُـه دَهْـراً أفـتَـقُـهُ‬
‫فيه ق َبيْلَ تلحُـقِ الـثـغـر‬ ‫ل أمكـنـنـي‬ ‫حتى إذا التأمي ُ‬
‫غبْـرِ‬ ‫في الرض بين َتنَائِفٍ ُ‬ ‫ت من شغفي أُنـقـلـهُ‬ ‫وجعل ُ‬
‫وأُحِلُه في الم ْهمَهِ الـقَـفْـرِ‬ ‫ن بـهِ‬ ‫أدَع المَزارعَ والحصو َ‬
‫من ُقتْر مَ ْومَاةِ إلـى قُـتْـرِ‬ ‫ما ز ْلتُ أُصْـعِـده وأُحْـدِرُهُ‬
‫ت بـه ول أدْري‬ ‫حيث انتـويْ ُ‬ ‫هربًا به والمَ ْوتُ يطـلـبُـه‬
‫سَوقَ المُعيز تُسَاق للعَـتْـرِ‬ ‫ت به لمَـصْـرَعِـه‬ ‫حتى د َفعْ ُ‬
‫غفَى مطلع الفجـر‬ ‫ورمى فأ ْ‬ ‫ما كان إلَ أن َهجَـعْـتُ لـه‬
‫س يُسَاوِر منه كالسُـكْـرِ‬ ‫رم ٌ‬ ‫ورمى الكَرَى رَأسي ومال به‬
‫وذُعِ ْرتُ منـه أيّمـا ذُعْـرِ‬ ‫إذ راعني صوت هببـت بـه‬
‫قد كدَحت في الوَجْه وال َنحْرِ‬ ‫وإذا مـنـيتُـه تـســاوِرُه‬
‫ش به من الـصَـدْرِ‬ ‫مما يَجِي ُ‬ ‫وإذا له عَـلَـقٌ وحَـشْـرَجة‬
‫كالثوبِ عند الطيّ والنـشْـرِ‬ ‫ت يَ ْقبِضُه و َيبْـسُـطـه‬ ‫والمو ُ‬
‫من قبل ذلك حاضرَ النصْـر‬ ‫صرَه وكُـنْـتُ لـه‬ ‫فدَعَا لنْ ُ‬
‫بين الوريد و َم ْدفَعِ السـحْـرِ‬ ‫ت عنه وهـي زَاهِـقة‬ ‫فعجز ُ‬
‫جَلَت مصيبتُه عـن الـقَـدْرِ‬ ‫ت بـه‬ ‫فمَضى وأي فتى فُجعْ ُ‬
‫ت من َوفْـرِ‬ ‫مالي وما جمّع َ‬ ‫لو قيل تَفـدِيه بـذلـتُ لـه‬
‫آثرتُه بالشّطْ ِر من عُـمْـرِي‬ ‫عمُـري‬ ‫أو كنت مقتدراً على ُ‬
‫و َرمَى عليّ وقد رأى فَ ْقرِي‬ ‫ت ذا فَقْرٍ لـه‪ ،‬فَـعَـدا‬ ‫قد كن ُ‬
‫بابْنـي وشـد بـأزْرِه أزْري‬ ‫لو شاء َربّي كان متـعـنـي‬
‫كنّا إليك‪ ،‬صفائحُ الصَـخْـر‬ ‫ت عليك ُبنَي‪ ،‬أحـوج مـا‬ ‫بُنيَ ْ‬
‫ن بـالثْـر‬ ‫ضيْتُ فنحـ ُ‬ ‫إمَا مَ َ‬ ‫ل يبعدنكَ اللـه يا عـمـري‬
‫ل بد سالكها علـى سَـفْـرِ‬ ‫هذي سبيلُ النـاس كـلـهـم‬
‫يتوقعون وهم علـى ذُعْـرِ‬ ‫أوَ ل تراهـم فـي ديارهـم‬
‫قَسراً؛ فقد ذَلُوا على القَسْـرِ‬ ‫ت يُورِدهم مـواردهـم‬ ‫والمو ُ‬
‫وقال أعرابي يمدح رجلً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ج َيتَـطَـ َوحُ‬ ‫بأعلى سنا َميْ فالـ ٍ‬ ‫يمُ ُد نِـجـادَ الـسـيف كـأنـه‬
‫ويُوري كريماتِ الندى حين يقدحُ‬ ‫ت مَنْ هـو نـائم‬ ‫ويُدلجُ في حاجا ِ‬
‫ق يَ ْلمَـحُ‬ ‫ل َبدَا في جانب الفْ ِ‬ ‫هل ً‬ ‫إذا اعتمّ بالبُ ْردِ اليماني حسبـتـه‬
‫ح مَنْ يتـمـدَحُ‬ ‫وَيقصُر عنه َمدْ ُ‬ ‫يزيدُ على َفضْل الرجال فضـيلة‬
‫وأنشد ابنُ أبي طاهر لعرابي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫َهتُوفُ البواكي والديارُ البَلقِـعُ‬ ‫وقبليَ أبكىَ كل من كان ذا هوى‬
‫ل منها ال َمدَامِـعُ‬ ‫خضَ ّ‬ ‫نَوَائح ما تَ ْ‬ ‫وهن على الطلل من كلّ جانبٍ‬

‫مخطّمة بالدّرّ خـضـر َروَائع‬ ‫مُ َزبْرَجَ ُة العناق نمْرٌ ظهورُهـا‬


‫ي بُ ْردٍ َزيّنتهـا الـوَشـائعُ‬
‫شّ‬‫حَوَا ِ‬ ‫تَرَى طرُزًا َبيْنَ الخَوَافي كأنهـا‬
‫حنّاء منها الصابـع‬ ‫خواضب بال ِ‬ ‫عيُونُها‬
‫ت صيغَتْ ُ‬ ‫ومن قِطَع الياقو ِ‬
‫ومن جيد ما قيل في الحمام قول ابن الرومي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سجُـمُ‬‫ظلْتُ أسُحّ الدمع مني وأ ْ‬
‫فَ‬ ‫ضحَى‬ ‫ت بمِطْرَاب العشياتِ وال ُ‬ ‫وقَ ْف ُ‬
‫تباريح شوق يشتكيها الـمـتـيّم‬ ‫حليفة شَجْوٍ هَاجَ ما بي وما بهـا‬
‫‪119‬‬
‫ت به عَيني وكتّمـه الـفَـم‬ ‫وباحَ ْ‬ ‫خ َفتْه عـينـهـا‬ ‫ح به فُوها وأ ْ‬ ‫فبا َ‬
‫ودخل أعرابي على الرشيد‪ ،‬فأنشده أرجوز ًة مدحه بها‪ ،‬وإسماعيل بن صبيح يكتبُ كتابًا بين يديه ‪ -‬وكان من أحسن الناس خطّا‪ ،‬وأسرعهم يدا‬
‫‪ -‬فقال الرشيد للعرابي‪ :‬صف الكاتب فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يُرِيك الهُوينا والُمو ُر تَطِـيرُ‬ ‫رقيقُ حَواشي العلم حينَ تبورهُ‬
‫ن ذَرُورُ‬ ‫سحا َبتُه في الحالتَـيْ ِ‬ ‫له قََلمَا بؤسى و ُنعْمى كلهما‬
‫و َي ْفتَحُ باب النّجْحِ وهو عسيرُ‬ ‫خطّه‬ ‫ُينَاجِيك عمّا في ضميرك َ‬
‫فقال الرشيد‪ :‬قد وجب لك يا أعرابي عليه حقّ‪ ،‬كما وجب لك علينا يا غلم؛ ادفَ ْع له دِية ا ْلحُرّ‪ ،‬فقال إسماعيل‪ :‬وعلى عبدِك دية ال َعبْد‪.‬‬
‫وقال أعرابي من بني عقيل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ف يَ ْقصُرُ‬ ‫جدٍ دونها الطّرْ ُ‬ ‫خِيا ٌم بنَ ْ‬ ‫أَحِنّ إلى أرضِ الحجاز‪ ،‬وحاجَتي‬
‫فتيلً‪ ،‬ولكني على ذَاك أنْـظُـر‬ ‫وما نَظَرِي نحو الحِجازِ بنافعـي‬
‫لع َينْيك يجرِي ماؤُهـا يتـحَـدَرُ‬ ‫ظرَةٌ ثـم عَـبـرةٌ‬ ‫أفي كلّ يوم نَ ْ‬
‫حزينٌ وإمَـا نـازح يتـ َذكَـرُ‬ ‫متى يستريح القلب إمَا مجـاورٌ‬
‫وقال أعرابي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأ ْلبَسُ ثوبَ الصبْ ِر أ ْبيَض أبْلَجـا‬ ‫وإني لُغْضِي مقلتيّ على ال َقذَى‬
‫ن يتـفـرجـا‬ ‫عليَ‪ ،‬فما ينفك أ ْ‬ ‫وإنّي لدْعو الَّ والمـرُ ضَـيّق‬
‫لَ مَخْرَجا‬ ‫أصاب لها من دَعْوَةِ ا ِ‬ ‫وكم من فتًى ضاقَتْ عليه وجوهُهُ‬
‫وقال آخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إليك أمانيه وإن لم يكُنْ َوصْلُ‬ ‫ذكرتُك ِذكْرى هائ ٍم بك تَنتهِـي‬
‫ولكنها موصولةٌ ما َلهَا فَصْلُ‬ ‫ت ِبذِكرى ساع ٍة بعد ساعةٍ‬ ‫وليسَ ْ‬
‫وقال آخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حمَى ومرا ِبعُهْ‬ ‫ك مُصْطَافُ ال ِ‬ ‫وعَاَل َ‬ ‫ت بك العـا َم نِـية‬ ‫أري ُتكِ إنْ شط ْ‬
‫إذا ما نَأى هَانَتْ علـيك ودَا ِئعُـهْ‬ ‫عيْنَ ما استُودعت أم أنت كالذي‬ ‫أتر َ‬
‫ُمنَى النفسِ لو كانت تُنَالُ شَرَائِعُهْ‬ ‫أل إنّ حَسْيًا دونه قُلَةُ الـحِـمَـى‬
‫أخذت أ ْزدُ العتيك شاعرًا من َقيْس بن ثعلبة اسمه المعذل في دَم‪ ،‬فأتاه ال َب ْيهَس بن ربيعة فحمله‪ ،‬وأمره أن َينْجُوَ بنفسه‪ ،‬وأسلم نفسه مكانه‪ ،‬فقال‬
‫ح قومه فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫له المعذل‪ :‬أُخيرك بين أن أ ْمدَحَك أو أمدح قومَك؛ فاختار مد َ‬
‫بيَ الدّارُ عنهم‪ ،‬خيرَ ما كان جازِيا‬ ‫جزى ال فتْيانَ العَتـيك‪ ،‬وإن نَـأَتْ‬
‫ابة لـمـا حُـمَ مـا كـان آتــيا‬ ‫هُمُ خَلَطُوني بالنفوس وأحسنوا الصّح‬
‫ول يحسنُون الـشَـ َر إل تـبَـادِيا‬ ‫عهُ ُم فَوْضى فَضاً في رحالِـهِـمْ‬ ‫َمتَا ُ‬
‫إذا الموتُ في البطال كان تحامـيا‬ ‫ن دنانيراً على قَـسَـمَـاتِـهِـمْ‬ ‫كأ ّ‬
‫جنَده بخراسان‪ ،‬فعرض جيش بكر بن وائل‪ ،‬فم ّر به المعذّل فقال‪ :‬هذا المعذل القيسي الذي‬ ‫وذكرت الرواة أن المهلب بن أبي صُ ْفرَة عرض ُ‬
‫عطِه هذا وليعذرنا‪.‬‬ ‫يقولُ‪ ،‬وأنشد البيات‪ ،‬فقالوا‪ :‬أيها المير‪ ،‬أحسبه علينا‪ ،‬فانطلق مائة منهم‪ ،‬فجاءوا بمائة وصيف ووصيفة‪ ،‬فقالوا‪ :‬أَ ْ‬
‫قوله‪ :‬كأن دنانيراً على قسماتهم نظيرُ قول أبي العباس العمى‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫خيْف إنسْي؟‬ ‫ك وما إن إخال بال َ‬ ‫شعْرِي من أيْنَ رائحة الْمس‬ ‫ليت ِ‬
‫ل من بني عبد شـمـس‬ ‫والبهالي ُ‬ ‫حين غابت بنـو أمـية عـنـهُ‬
‫نٌ عليها‪َ ،‬وقَالة غـيرُ خُـرسِ‬ ‫خطباء على المنابـر‪ ،‬فُـرسَـا‬
‫ووجوه مثل الدنانير مُلْـسِ‬ ‫في حلوم إذا الحلوم استُفزَتْ‬
‫من أخبار أبي نواس‬
‫ولما خلع المأمونُ أخاه محمد بن زُبيده ووجّه بطاهر بن الحسين لمحاربته‪ ،‬كان يعملُ كتبًا بعيوبِ أخيه تُقْرأ على المنابر بخراسان؛ فكان مما‬
‫عابه به أن قال‪ :‬إنه استخلص رجلً شاعراً ماجِناً كافراً‪ ،‬يقال له الحسن بن هانئ‪ ،‬واستخلصه ليَشرَبَ معه الخمر‪ ،‬ويرتكبَ المآثم‪ ،‬و َيهْ ِتكَ‬
‫المحارم‪ ،‬وهو الذي يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ول تسقني س َرًا إذا أ ْمكَنَ الجَـهـرُ‬ ‫خمْراً وقُل لي هي الخمرُ‬ ‫أل فاسقِني َ‬
‫ستْـرُ‬ ‫ت من دونها ِ‬ ‫فل خَيرَ في اللَذا ِ‬ ‫ن تهوى ودَعْني عن ال ُكنَى‬ ‫وُبحْ باسم مَ ْ‬
‫ل بين يديه ف ُينْشِد أشعار أبي نواس في المجون؛ فاتصل ذلك بابن‬ ‫ويذكر أهلَ العراق فيقول‪ :‬أهل فسوق وخمور‪ ،‬ومَاخُور وفجور؛ ويقوم رَج ٌ‬
‫زبيدة؛ فنهى الحسنَ عن الخمر‪ ،‬وحبسه ابنُ أبي الفضل بن الربيع؛ ثم كلمه فيه الفضل‪ ،‬فأخرجه بعد أن أخذ عليه أل يشربَ خمراً‪ ،‬ول يقول‬
‫فيها شعراً‪ ،‬فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫س مَولَهـا‬ ‫َك َيدٍ أبو العبا ِ‬ ‫ما مِنْ يدٍ في الناس واحدةٍ‬
‫وسَرَى إلى نفسي فأحياها‬ ‫نامَ الثقاتُ على مضاجعهم‬
‫من أن أخافك‪ ،‬خَ ْو ُفكَ ال‬ ‫خ ْف ُتكَ‪ ،‬ثم آمننـي‬‫قد كنتُ ِ‬
‫جبَت ل ُه نِقَم فألغـاهـا‬ ‫وَ‬ ‫فَعفوتَ عني عَق َو مُقتـدرٍ‬
‫ومن قوله في ترْك الشراب‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ل أذوقُ ال ُمدَامَ إل شَـمِـيمـا‬ ‫أيها الرائحان باللّـومِ‪ ،‬لُـومـا‬

‫‪120‬‬
‫ل أرى لي خلفَ ُه مُستقـيمـا‬ ‫نَالَني بالـمَـلم فـيهـا إمـام‬
‫لست إل على الحديث نديمـا‬ ‫فاصرِفاها إلى سِوَايَ؛ فـإنـي‬
‫أن أراها وأن أشم النسـيمـا‬ ‫جُل حظي منها إذا هي دارت‬
‫َق َعدِي يُ َزيًن الـتـحـكـيمـا‬ ‫فكأنـي ومـا أزينُ مـنـهـا‬
‫ل يُقيمـا‬ ‫ب فأوصى المُطِيقَ أ ّ‬ ‫حمْلِهِ السلح إلى الحر‬ ‫كَل عَنْ َ‬
‫سبَقْ إلى هذا المعنى‪.‬‬ ‫ال َقعَ ِديّة‪ :‬فرقة من الخوارج‪ ،‬يَأمرون بالخروج ول يخرجون؛ وزعم المبرد أنه لم يُ ْ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ع َقدَ الحِذارُ بطَ ْرفِها طَرْفي‬
‫َ‬ ‫عيْن الخليف ِة بـي مُـوَكـلة‬ ‫َ‬
‫دِينَ الضمير له على حَ ْرفِ‬ ‫صحَتْ عَلَنيتي لـه‪ ،‬وأرى‬ ‫َ‬
‫إني عليك لخائف خُلْـفـي‬ ‫ك تَ ْركَهـا عِـدَةً‬
‫عدْ ُت َ‬
‫ولئن وَ َ‬
‫حتْفِ‬‫حي الحيا ِة مُشَارِفِ ال َ‬ ‫سلبوا قِناعَ الدن عن رَمـق‬
‫كتنفُس الريْحانِ في النْفِ‬ ‫فْتنفسَتْ في البيت إذ مُ ِزجَتْ‬
‫أخذْ قوله‪ :‬ولئن وعدتك تركها عدة الحسنُ بن علي بن وكيع فقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫عدَتي بالزورِ وال َكذِبِ‬ ‫ش َهدْ على ِ‬ ‫فا ْ‬ ‫عدْتُك في تركِ الصَبا عِـدَةً‬ ‫متى وَ َ‬
‫وأقبل الصبحُ في جيش له لَجِـبِ‬ ‫أمَا تَرى الليل قد ولَت عَسـاكِـرُهُ‬
‫ل دائمُ الطلب‬ ‫في الجو َركْضاً هِل ٌ‬ ‫وجدَ في أثر الجوزْاء يطلُـبُـهـا‬
‫أدناه من كُرَ ٍة صيغَتْ من الذهب‬ ‫كصولَجانِ ُلجَين في يدَيْ مـلـك‬
‫كالنار لكنها نَـار بـل لَـهَـبِ‬ ‫طبِحْ صفراءَ صـافـيةً‬ ‫صَ‬ ‫فقُم بنا نَ ْ‬
‫حبَبِ‬‫ج من ال َ‬ ‫صُفْرٍ على رأسها تا ٌ‬ ‫س كَرْم تختالُ فـي حُـلَـل‬ ‫عرو ُ‬
‫وقال أبو الفضل الميكالي في اقتران الهلل بالزهرة‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫تحت هلل لونُه يَحكِي الَلهَبْ‬ ‫حتْ لنـا‬ ‫أما ترى الزُهر َة قد ل َ‬
‫وافَى عليها صَولَجانٌ من ذَهَبْ‬ ‫ككُرة من فِـض ٍة مَـجـلـوة‬
‫وعلى قول أبي نواس‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫دِينَ الضمير له على حَ ْرفِ‬ ‫صَحت عَلنيتي لـه‪ ،‬وأرى‬
‫كتب أبو العباس بن المعتز إلى أبي الطيب القاسم بن محمد النميري‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ليس تجنيك من الـظـرفِ‬ ‫يا أيها الجافي ويستجـفـي‬
‫يُ ْؤمِنُ بالّ علـى حَـرْفِ‬ ‫إنّك في الشوقِ إلينا كـمَـنْ‬
‫صحْفِ‬ ‫غير أساطيرك في ال ُ‬ ‫ك مـن ودّنـا‬ ‫حوْتَ آثـا َر َ‬ ‫مَ َ‬

‫ضعْفِ‬ ‫يومًا تحاملت على َ‬ ‫فإن تحامَلْتَ لـنـا زَوْ َرةً‬


‫صدْغه‪،‬‬
‫ج ْب َهتَهُ ِبتُوْمٍ وعصبها‪ ،‬ونام ليصْبح بها كأثر السجود‪ ،‬فانحرفت العِصابة إلى ُ‬
‫وحدث أبو عمر الزاهد قال‪ :‬دَلَك بعضُ الزهاد المرائين َ‬
‫فأخَذ الثر هناك‪ ،‬فقال له ابنُه‪ :‬ما هذا يا أبت؟ فقال‪ :‬أصبح أبوك ممن َي ْعبُدُ الّ على حرف! وقال أبو نواس في الباب الول‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ك الثنا َء الثمـينـا‬ ‫طَ‬ ‫واسْ ِقنَا نُعْ ِ‬ ‫ل كـيف بَـلِـينـا‬ ‫غنَنا بالطلو ِ‬ ‫َ‬
‫ن يَكـونـا‬ ‫يتمنّى مُـخَـيّرٌ أ ْ‬ ‫من سُلَفٍ كأنها كـلّ شـيءً‬
‫وتبقّى لُبابها الـمـكْـنُـونَـا‬ ‫أكَلَ الده ُر ما تجسَم مـنـهـا‬
‫ف ما ُيبِيحُ العـيونـا‬ ‫يمنع الكَ ّ‬ ‫جتََليْتَـهـا فَـهَـبـاء‬
‫فإذا ما ا ْ‬
‫ج َمعْنَ في ي ٍد لقْـتـينـا‬ ‫لو تَ َ‬ ‫ت فاستضحكتْ عن للٍ‬ ‫ثم شُج ْ‬
‫ت بُـرُوجُـهـا أ ْيدِينـا‬ ‫دائرا ٌ‬ ‫في كؤوس كأنهـن نـجـومٌ‬
‫فإذا ما غَ َربْنَ َيغْربْنَ فـينـا‬ ‫طالعات مع السُقَاةِ عـلـينـا‬
‫قُ ْلتَ قومًا من قِرة يصَطلُونـا‬ ‫لو ترى الشربَ حولَها من بعيد‬
‫ت يَزِيدُها ال َغمْز لِـينَـا‬ ‫ناعما ِ‬ ‫وغـزال يُدِيرُهـا بـبَـنَـانِ‬
‫َيتْرُك القلبَ للسرور قـرينـا‬ ‫شئْتُ عَلنِـي بِـرُضَـاب‬ ‫كلما ِ‬
‫ت المِينـا‬ ‫خفْ ُ‬‫ع ْفتُه ُمكْرهاً و ِ‬ ‫ِ‬ ‫ذاك عيشٌ‪ ،‬لو دَامَ لي غيرَ أني‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت عمَا في الضمير وأعْرَبا‬ ‫وأعْ َربْ ُ‬ ‫أعاذلَ‪ ،‬أعتبْت المامَ‪ ،‬وأعْـتـبـا‬
‫ليأبى أمي ُر المؤمنـين وأشْـرَبـا‬ ‫وقلتُ لساقيها‪ :‬أجزْها فلـم أكـن‬
‫طنَبا‬
‫لدى الشّ َرفِ العلى شُعاعا مُ َ‬ ‫فجوّزَها عنّي سُلَفًا تَرَى لـهـا‬
‫ج من الليل كوكـبـا‬ ‫يُقَبلَُ في دا ٍ‬ ‫إذا عَبّ فيها شاربُ القوم خِلـتـه‬
‫وما لم تكن فيه من البيت َمغْرِبـا‬ ‫شرِقاً‬‫ت من البيت مَ ْ‬ ‫ترى حيثما كانَ ْ‬
‫صدْغًا ُمعَقْرَبا‬ ‫ستَدار الخدّ ُ‬ ‫على مُ ْ‬ ‫يَدُور بها رَطْبُ البنان تـرى لـهُ‬

‫‪121‬‬
‫فكانت إلى قلبي ألـذ وأطَـيبـا‬ ‫سقاهُ ْم ومَنانِي بعـ ْينَـيْهِ مُـنْـيَ ًة‬
‫قال الحسين بن الضحاك الخليع‪ :‬أنشدت أبا نواس قولي‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫سكِ‬ ‫كْرِيه شابَ المُجُونَ بالنّ ُ‬ ‫وشاطريَ اللسانِ مختلق التّ‬
‫ت فيه‪:‬‬
‫فلما بلغْ ُ‬
‫ض أنْجُم الفََلكِ‬ ‫ع في بعْ ِ‬ ‫َيكْ َر ُ‬ ‫ب كَأسِ ِه قَـمَـر‬ ‫كأنما نُصْ َ‬
‫ق به منك؛ ولكن سترى لمن يُرْوَى! ثم أنشد بعد أيام‪:‬‬ ‫نَعرَ َنعْرَ ًة منكرةً‪ ،‬فقلت‪ :‬ما لكَ‪ ،‬فقد رعتني؟ قال‪ :‬هذا المعنى أنا أح ّ‬
‫ج من الليل كوكبا‬ ‫يُ ْقبّلُ في دا ٍ‬ ‫إذا عبّ فيها شاربُ القوم خِ ْلتَهُ‬
‫ن أنه يُرْوى لك معنى مليح وأنا في الحياة؟ وقال ابن الرومي فكان أحسن منهما‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫فقلت‪ :‬هذه مطالبة يا أبا علي! فقال‪ :‬أتظ ّ‬
‫حتى تجاو َز ُمنْيَةَ النّفْـسِ‬ ‫سنُـهُ‬
‫ت مَحَا ِ‬ ‫ومهفهف َكمُلَ ْ‬
‫ح ْبسِ‬ ‫وتَضِجّ في يده من ال َ‬ ‫صبُو الكؤوس إلى مَرَاشِفِه‬ ‫تَ ْ‬
‫منه وبين أنامِل خَـمْـسِ‬ ‫أبص ْرتُها والكأسُ بين فـمٍ‬
‫قمرٌ يقتل عَارِضَ الشمسِ‬ ‫فكأنهّا وكـأن شَـارِبـهـا‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫طرَفٍ َزرَهُ على الرض زَرا‬ ‫مُ ْ‬ ‫وسحاب يجرُ في الرض ذَيْلَـيْ‬
‫د بطيءٌ يكسو المسامِعَ َوقْـرا‬ ‫بَ ْرقُه َلمْـحةٌ‪ ،‬ولـكـن لـه رَع‬
‫ضحَك سِـرا‬ ‫جهْرًا ويَ ْ‬ ‫وا ُه َيبْكي َ‬ ‫كخَلِـي مـنـافـق لِـلّـذي يه‬
‫سحَ َرتْني وليس ُتحْسِنُ سِـحْـرا‬ ‫قد سقتني المُدام فـيهـا فـتـاةٌ‬
‫ل بَـدْرا‬ ‫شمْسًا تُقـبـ ُ‬ ‫حَ أرَتني َ‬ ‫فإذَا ما رأيتُهـا تـشـربُ الـرا‬
‫بشار بن برد‬
‫وإنما احتذَى أبو نواس في هذه الشعار التي وصف فيها تَرْك الشراب وطاعته لمْ ِر المين مثالَ بشار بن بُرْد‪ ،‬وصبّ على قالبه؛ وذاك أن‬
‫بشاراً لما قال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫قَول تُغَلظُهُ وإن جَـرَحـا‬ ‫ل يُ ْؤيَسَنكَ مـن مـخـبـأةِ‬
‫جمَحَا‬ ‫ب يُمكِنُ بعدما َ‬ ‫والصع ُ‬ ‫عُسرُ النساء إلى مُـياسـرة‬
‫بلغ ذلك المهدي فغاظه؛ وقال‪ :‬يحرض النساء على الفجور‪ ،‬ويسهل السبيل إليه! فقال له خال ُه يزيد بن منصور الحميري‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬قد‬
‫صبُو إلى مثل قوله‪ :‬الرمل‪:‬‬ ‫فتن النساء بشعره‪ ،‬وأي امرأة ل تَ ْ‬
‫هل ُيجِيد النعتَ مكفوفُ النظَر؟‬ ‫طمَ ُة من َنعْتِـي لـهـا‬ ‫ت فَ ْ‬
‫جبَ ْ‬‫عَ ِ‬
‫غصْنٍ وكـثـيبٍ وقَـمَـرْ‬ ‫بين ُ‬ ‫ِبنْتُ عَشرٍ وثـلث قـسـمَـتْ‬
‫مازَها التاجر من بـين الـدُرَرْ‬ ‫درّة بَـحْـرِي ٌة مـكـنـــونة‬
‫خطَر‬ ‫من وَلُوعِ الكف ركابِ ال َ‬ ‫ت الدمعَ وقالـت‪ :‬ويلَـتـي‬ ‫أذْرَ ِ‬
‫ووِشاحِي حله حتى انـتـثَـرْ‬ ‫أمَـتـي بـددَ هـذا لُـعـبَـي‬
‫علنا في خَلْو ٍة نَقْضِي الوَطَـرْ‬ ‫َفدَعـينـي مـعـه يا أمـتـي‬
‫ن مُسْـتَـعِـرْ‬ ‫واعتراها كجنو ٍ‬ ‫أ ْقبَلَتْ في خَلْوَة تـضـربـهـا‬
‫ل قَـطَـرْ‬ ‫َدمْعُ عين غَسلَ الكُحْ َ‬ ‫بِأَبي والـلـهِ مـا أحـسـنَـه‬
‫طعْمُ السهَـر‬ ‫وسَلُوني اليومَ ما َ‬ ‫أيها النّـوَامُ هـبـوا َويْحَـكُـم‬
‫فأمره المهدي أل يتغزل‪ ،‬فقال أشعاراً في ذلك‪ ،‬منها‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫من وجه جارية فدَيتُـه‬ ‫يا منظراً حسنـاً رأيْتُـه‬
‫ثَوْبَ الشباب وقد طو ْيتُه‬ ‫لمعتْ إلي تَسُـومـنـي‬
‫ت ول نَ َو ْيتُه‬ ‫غمَز ُ‬ ‫ما إن َ‬ ‫والـلـهِ رب مـحـمـدٍ‬
‫عَرض البلءُ وما ابتغ ْيتُهْ‬ ‫ت عنكِ‪ ،‬وربـمـا‬ ‫سكْ ُ‬‫أمْ َ‬
‫وإذا أبى شـيئًا أبـ ْيتُـه‬ ‫إن الخـلـيفة قـد أبـى‬
‫غدَوتُ‪ ،‬وأين بيتهْ‬ ‫ب إذا َ‬ ‫ويَشُوقني بيتُ الحـبـي‬
‫فصبَرت عنه وما قََل ْيتُـهْ‬ ‫قام الـخـلـيف ُة دونَــهُ‬
‫مُ عن النساء فما عص ْيتُه‬ ‫ونهانيَ المَِلكُ الـهُـمـا‬
‫عهْـداً‪ ،‬ول رأياً رأيْتُـه‬ ‫َ‬ ‫بل قد وفيتُ ولـم ُأضِـع‬
‫وقال أيضاً‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫أعطيتُ ضَيماً عليَ في شجَـن‬ ‫وال لول رِضَا الخـلـيفةِ مـا‬
‫مِزْهر في ظل َمجْلسٍ حَسَـنِ‬ ‫ت بين ال َندْمان والرّاح وال‬ ‫ش ُ‬ ‫قد عِ ْ‬
‫صنْعَ الموفَق الـلَـقِـن‬ ‫نفسيَ‪ُ ،‬‬ ‫ثم نهاني المهديُ فانـصـرفَـتْ‬
‫وقال‪ :‬السريع‪:‬‬
‫بين الحمَيا والجَوَاري ال ِعذَابْ‬ ‫أفنيتُ عمري وتَقَضى الشبابْ‬

‫‪122‬‬
‫طبْتُ لحـب وطَـا ْ‬
‫ب‬ ‫وربما ِ‬ ‫فالن شفعتُ إمـام الـهُـدَى‬
‫ت أمير المؤمنين المُجَابْ‬ ‫صو ُ‬ ‫لهوتُ حتى رَاعَـنـي دَاعـياً‬
‫ونَام عُذالي وماتَ العِـتَـاب‬ ‫لَبيكَ لبيك! َهجَرتُ الصّـبـا‬
‫وربما ذلًتْ لهـن الـ َرقَـابْ‬ ‫أبصرت رُشدِي وتركتُ ال ُمنَى‬
‫في كلمة طويلة يقول فيها‪:‬‬
‫ل مَسَاك السَحَـابْ‬‫سيْ ِ‬
‫سبَقْتَ بال َ‬
‫َ‬ ‫يا حامد الـقـول‪ ،‬ولـم يَبـلُـه‬
‫ما جاءه من خطإ أوْ صَـوَابْ‬ ‫الفعلُ أَوْلَى بثـنـاء الـفـتـى‬
‫يثْني على الل ْقحَةِ ما في الحِلَبْ‬ ‫دعْ قولَ وَاءً وانتظر فـعـلـه‬
‫ورَاحَ في آلِ الرسول الغِضَابْ‬ ‫ي فـي جُـنْـدِهِ‬‫إذا غدا المهـد ّ‬
‫كالظّلْم َيجْرِي في الثنايا ال ِعذَابْ‬ ‫بدَا لك المعروف في وجـهِـه‬
‫ومن شعر بشار في الغزل‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫واسقياني من ريق بيضاءَ رُودِ‬ ‫صبّـا شَـرَابـي‬ ‫أيها الساقيان ُ‬
‫ب َثغْ ٍر بَـرُودِ‬
‫شَ ْربَ ٌة من رُضَا ِ‬ ‫إن دائي الصّدى‪ ،‬وإنّ شفـائي‬
‫َزفَراتٌ يأكُلْنَ قَ ْلبَ الـجَـلِـيدِ‬ ‫عندها الصبرُ عن لقائي‪ ،‬وعندي‬
‫وحديثٌ كالوَشْي وَشْي البُـرُودِ‬ ‫ولها َمبْسِ ٌم كـغُـ ّر القـاحـي‬
‫ب ونالت زيادةَ المـسـتـزيد‬ ‫نزلَت في السواد من حبّة القـل‬

‫والليالي يُبْـلِـينَ كـلّ جـديد‬ ‫ثم قالت‪ :‬نَلقَـاك بـعـد لَـيا ٍ‬


‫ل‬
‫ن َقضَى ال منك لي يَوْم جودِ‬ ‫إْ‬ ‫ل أُبالي مَنْ ضَنَ عني ب َوصْـل‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫حشَا الرَائي بـإرْعَـادِ‬ ‫وتستفزّ َ‬ ‫تُلْقَى بتسبيحةٍ من حسن ما خُِلقَتْ‬
‫فكلّ جارحةٍ وَجْ ٌه بمِـ ْرصَـادِ‬ ‫ت من ماءِ لـؤلـؤةٍ‬
‫كأنما صُ َورَ ْ‬
‫وقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ب َثنِـيتَـيْ ِ‬
‫ك‬ ‫فطابَ له بطي ِ‬ ‫وهبْتِ له على المسواك رِيقاّ‬
‫ك ومُقْـلَـتَـ ْيكِ‬
‫أقبّلُ فيه فا ِ‬ ‫أقبله على الذكرى كـأنّـي‬
‫وقال‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫قلبي ضعيفٌ وقَ ْلبُها حَـجَـرُ‬ ‫ل أستطيعُ الهوى و ِهجْ َرتَـهـا‬
‫سكُرُ‬ ‫في الرأس والعين وا ْلحَشَا ُ‬ ‫جدِي بها وقد حـجـبـت‬ ‫كأنّ و ْ‬
‫وأنشد له أبو تمام‪ ،‬وكان يقول‪ :‬ما رأيتُ شعراً أغزل منه‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫بتلقِ‪ ،‬وكيف لي بالـتّـلَق؟‬ ‫عبْ َد قبْـلَ الـفـراق‬
‫زوَدينا يا َ‬
‫ك وأخْشَى مصارعَ العشّـاق‬ ‫سحْرَ عـينـي‬ ‫أنا وال أشتهي ِ‬
‫موضعَ الس ْلكِ في طُلَ العناق‬ ‫ُأمّتي من بني عُقيل بن َكعْـبٍ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عشَـقُ‬ ‫رَخيماً‪ ،‬وقَلْبي للمليحةِ أ ْ‬ ‫ت أذْني كلمًا سم ْعتُـه‬ ‫شقَ ْ‬‫لقد عَ ِ‬
‫كريماً سقاهُ الخم َر بَدْ ٌر مُحَلّق‬ ‫ولو عايَنُوها لم يَلومُوا على البُكا‬
‫ط ُمعَلَـقٌ‬‫بأذني وإن عنيت قُرْ ٌ‬ ‫وكيف تناسِي مَنْ كأنّ حـديثـه‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫أزا ُر و َيدْعُوني الـهـوَى فـَأزُورُ‬ ‫وقد كنت في ذاك الشبابِ الذي مضى‬
‫يُديرُ حـياتـي فـي يديه مُــدِيرُ‬ ‫ت كـأنـمـا‬ ‫فإن فاتني إلْفٌ ظَلِـلْـ ُ‬
‫سحْـرٍ عَـ ْينُـهـا وتَـدُورُ‬‫َتمُورُ ب ِ‬ ‫ومُرْتجةِ الرْداف مهضومةِ الحشَـا‬
‫وكادَتْ قلوبُ العالـمـين تَـطِـيرُ‬ ‫إذا نظرتْ صبّتْ علـيك صَـبـابة‬
‫جبٌ وسُـتُـورُ‬ ‫صبْح دوني حَا ِ‬ ‫إلى ال ُ‬ ‫ت بها ل يَخْلصُ الما ُء بـينـنـا‬ ‫خَلَ ْو ُ‬
‫ومن هذا أخذ علي بن الجهم قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لبِ‬ ‫ول تهجري أ ْفدِيك بالُم وا ْ‬ ‫حبْلُ الوصل لم يتشعَبِ‬ ‫صِليني و َ‬
‫وأدْنَى فؤادًا من فؤادٍ ُمعَـذبِ‬ ‫ض َمنَا بعد فُرقَةٍ‬ ‫رَعَى الُّ دهراً َ‬
‫يرى جَسدَانَا جسم روح مركبِ‬ ‫عناقاً وضماً والتزاماً كـأنـمـا‬
‫خمْ ِر فيما بيننا لم تَسَـربِ‬ ‫من ا ْل َ‬ ‫َفبِ ْتنَا وإنا لـو تُـرَاق زجـاجة‬
‫وشعره في هذا المعنى كثير‪.‬‬
‫ف قصيدة‪ ،‬فلو اختير من كل قصيدة بيت لستندر‪ ،‬ومن ندرت له اثنا عشر ألف بيت فهو‬ ‫شعَرُ الناسِ؛ لن لي اثني عشر أل َ‬ ‫وروى أنه قال‪ :‬أنا أ ْ‬
‫ظمَه في أضعاف الكتاب استدعا ًء لنشاط القارئ وكراهة في إملله‪.‬‬ ‫ت نَ ْ‬
‫أشعرُ الناس؛ وقد نثر ُ‬

‫‪123‬‬
‫وكان بشار أرقّ المحدَثين ديباجةَ كلم‪ ،‬وسُمي أبا المحدثين؛ لنه َفتَقَ لهم أكمام المعاني‪ ،‬ونهَج لهم سبيل البديع‪ ،‬فاتَبعوه؛ وكان ابن الرومي‬
‫يُقَدمه‪ ،‬ويزع ُم أنه أشع ُر من تقدّم وتأخر‪.‬‬
‫وهو يتعلّق في شعره بولء عَقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة‪ ،‬ويفتخرُ بالمضرية‪ .‬قال له المهدي‪ :‬فيمن َتعْتَزِي؟ قال‪ :‬أمَا اللسان‬
‫فعربيّ‪ ،‬أما الصل فكما قلت في شعري! قال‪ :‬وما قلت؟ فأنشده‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫يقولون مَنْ ذا و َكنْتُ العَـلـمْ‬ ‫ت قـومـاً لـهـمْ إحـنة‬
‫ونبئْ ُ‬
‫ل َيعْ ِرفَني أنا إلْـفُ الـكَـرَمْ‬ ‫أل أيها السـائلـي جَـاهِـلً‬
‫جمْ‬
‫فُرُوعي وأصلي قُريشُ العَ َ‬ ‫نمَتْ في المكارمِ بي عامـر‬
‫وأُصْبي الفتاة فل َت ْعتَـصِـمْ‬ ‫وإني لُغني مَقامَ الـفـتـى‬
‫البيت الول من هذه البيات ينظرُ إلى قول جميل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يقولون مَنْ هذا وقد عَرَفوني‬ ‫إذا ما رأوني طالعًا من ثنـيّة‬
‫وفي هذه القصيدة يقول بشار‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ب في وجهها لك إذ تبتسم‬ ‫ك ماءُ الشبا‬ ‫وبيضاءَ يضح ُ‬
‫صنَمْ‬
‫ن بَحَوْرا َء ِمثْلِ ال َ‬
‫أطَفْ َ‬ ‫دُوا ُر العذَارى إذا زُ ْرنَهـا‬

‫كما َيمْسَحُ الحجَرَ المستَلِم‬ ‫ن َف َيمْسَحْنَ أركانَـهـا‬ ‫يَرُحْ َ‬


‫ولكنه نُصبُ هَـمّ وغَـمّ‬ ‫صخْرَةً‬ ‫أصفراء ليس الفتى َ‬
‫فضاق وأعْلَنَ ما قد َكتَـم‬ ‫ص َببْتِ هواكِ على قلـبـهِ‬ ‫َ‬
‫ل بن عطاء الغزال رئيس المعتزلة لمّا هجاه بشار‪ :‬أمَا لهذا العمى الملحِد‬ ‫حذَيفة واصِ ُ‬‫سدُوسية‪ ،‬ولذلك قال أبو ُ‬ ‫ويقال‪ :‬إنه مولى لم الظباء ال َ‬
‫سيّا‪،‬‬
‫سدُو ِ‬
‫ت إليه من َي ْبعَجُ بطنه في جوف منزله‪ ،‬ول يكون إلَ َ‬ ‫ن يَ ْقتُله؟ والّ لول أنَ الغِيلة من سجَايَا الغَالِية‪ ،‬لبعث ُ‬ ‫شنَف المكتني بأبي معاذ مَ ْ‬ ‫الم َ‬
‫أو عُ َقيْلِياً‪.‬‬
‫وكان واصلُ بن عطاء أحَد أعاجيب الدنيا؛ لنه كان ألثغ في الراء‪ ،‬فأسقطها من جميع كلمه وخطبه؛ إذ كان إما َم َمذْهَب‪ ،‬وداعيَ نحِلْة‪ ،‬وكان‬
‫محتاجاً إلى جَ ْودَةِ ال َبيَانِ‪ ،‬وفصَاحَةِ اللَسَان‪ .‬قال الجاحظ‪ :‬فانظر كثر َة ترداد الراء في هذا الكلم وكيف أسقطها؟ قال‪ :‬العمى‪ ،‬ولم يقل الضرير‪،‬‬
‫وقال‪ :‬الملحد ولم يقل الكافر‪ ،‬وقال‪ :‬المشنَف‪ ،‬ولم يقل المرعَث‪ ،‬وقال‪ :‬المكتَني‪ :‬بأبي معاذ‪ ،‬ولم يقل بشاراً ول ابن برد‪ ،‬وقال‪ :‬الغالية‪ ،‬ولم يقل‬
‫المغيرية‪ ،‬ول المنصورية‪ ،‬وهم الذين أراد‪ ،‬وقال‪ :‬لبعثت‪ ،‬ولم يقل لْرْسلت‪ ،‬وقال‪ :‬يبعَج‪ ،‬ولم يقل َيبْقُر‪ ،‬وقال‪ :‬في جوف منزله‪ ،‬ولم يقل في‬
‫ع َقيْل وسدُوس ما ذكر من اعتزائه إليهم‪.‬‬ ‫داره‪ ،‬وأراد بذكر ُ‬
‫وزعم الجاحظ أن بشارًا كان يَدِين بالرَجعة‪ ،‬و ُيكَفر جميعَ المة؛ وأنشد له أشعاراً صوب بها رَأيَ إبليس في تقديم النار على الطين‪ ،‬منها قولُه‪:‬‬
‫البسيط‬
‫والنا ُر معبودةٌ ُمذْ كانتِ النـارُ‬ ‫الرض مُظِْلمَةٌ ‪ ،‬والنا ُر مُشْرِقةٌ‬
‫عنَا إلى الطعام‪ ،‬ثم جلسنا فحضر الظهر والعصر والمغرب فلم يصل‪ ،‬ودعا‬ ‫وقال داود بن رَزِين‪ :‬أتينا بشاراً‪ ،‬فأذِنَ لنا والمائد ُة بين يديه‪ ،‬فلم َيدْ ُ‬
‫بطسْت فَبالَ بحضرتنا‪ ،‬فقلنا له‪ :‬أنت أستاذُنا‪ ،‬وقد رأينا منك أشياءَ أنكرناها‪ ،‬قال‪ :‬ما هي؟ قلنا‪ :‬دخ ْلنَا والطعامُ بين يديك فلم َتدْعُنَا‪ ،‬قال‪ :‬إنما‬
‫أ ِذنْتُ لتَأكلوا‪ ،‬ولو لم نُ ِردْ ذلك لم نأذن لكم‪ ،‬قلنا له‪ :‬ودعوت بالطست ونحن حضور‪ ،‬قال‪ :‬أنا مكفوف‪ ،‬وأنتم مأمورون بغض البصار دوني‪،‬‬
‫قلنا‪ :‬وحضرت الصلة فلم تصلّ! قال‪ :‬الذي يقبلها تفارِيقَ يقبلها جملة! هذا وهو القائل‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫س يَوم طويلِ‬ ‫حبْ ِ‬‫سيُ ْفضِي ِل َ‬ ‫من َ‬ ‫حبَس في طُلُول‬ ‫كيف يبكي لمَ ْ‬
‫عن وقوفٍ برَسْ ِم دَار محـيل‬ ‫إن في البعث والحساب لشغلً‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫كأن لم يكُنْ ما كان حـينَ يزولُ‬ ‫ذكرتُ بها عيشًا فقلت لصاحبي‪:‬‬
‫ِكعَابٌ عليها لؤلـؤٌ وشُـكـولُ‬ ‫وما حاجتي لو ساعد الده ُر با ْلمُنى‬
‫ت قَـلِـيلُ‬ ‫وأن َبقَـائي إن حَـيِي ُ‬ ‫بدا ليَ أن الده َر يَ ْقدَحُ في الصّفا‬
‫على كلّ نفس للحـمـا ِم دَلِـيل‬ ‫فعِشْ خائفاً للموتِ أو غيرَ خَائِفٍ‬
‫وليس ليام المَـنُـون خَـلـيلُ‬ ‫ت من عمل الثُقَـى‬ ‫خليلك ما ق َدمْ َ‬
‫ب منثور ومُ ْزدَوج ورَجز ورسائل مختارة على كثير من الكلم‪ ،‬ودخل على عُقْبة بن مسلم‬ ‫وكان بشَارٌ حاضرَ الجواب‪ ،‬سجّاعاً‪ ،‬خطيباً‪ ،‬صاح َ‬
‫بن قتيبة‪ ،‬فأنشده مديحًا وعنده عقبة بن رُؤْبة‪ ،‬فأنشده أرجوزة‪ ،‬ثم أقبل على بشار فقال‪ :‬هذا طِراز ل تحسنه يا أبا معاذ فقال‪ :‬والّ لنا أرجز‬
‫منك ومن أبيك؛ ثم غدا على عقبة من الغَد‪ ،‬فأنشده أرجوزته‪ :‬رجز‪:‬‬
‫خبّر ْكيف كنتَ بعدي‬ ‫بالّ َ‬ ‫صمْد‬‫يا طَلَل الحيّ بذات ال ّ‬
‫يقول فيها‪:‬‬
‫ثم ان َثنَتْ كالنّفَـس الـمُـ ْرتَـد‬ ‫ت بخدً وجلَـتْ عـن خَـد‬ ‫صدّ ْ‬‫َ‬
‫حم ْلتُه في ُر ْقعَة من جِـلـدي‬ ‫وصاحبٍ كالدمـل الـمُـمِـدّ‬
‫غبَتي من زهدي‬ ‫وما درى ما رَ ْ‬ ‫حتى اغتدى غيرَ فقيد الفَـقْـد‬
‫وهذا كقول الخر‪ :‬الطويل‬
‫ول َيدْفع الموتَ النفوسُ الشحائحُ‬ ‫يودون لو خَاطُوا عليك جلودَهـم‬
‫وفيها يقول‪:‬‬
‫ف ِمثْلُ الردَ‬ ‫ح ِ‬‫وليس لِ ْلمُلْ ِ‬ ‫الح ّر يُلْحَى والعصا لِ ْل َعبْد‬

‫‪124‬‬
‫حدَث ال ُمنْسَدّ‬
‫ح باب الْ َ‬
‫مفتا َ‬ ‫حيّيتَ أبا المِـلَـدّ‬
‫اسَْلمْ و ُ‬

‫لِّ أيامُـك فـي مَـعَـد‬ ‫ستَرَد‬ ‫والبَسْ طِرَازي غي َر مُ ْ‬


‫حنَا الغريبَ للناس؛ وإني لخليق أن أسدّه عليهم‪ ،‬فقال‬ ‫هي طويلة‪ ،‬فأجزلَ صلته‪ ،‬فلمّا سمع ابن رُؤبة ما فيها من الغريب قال‪ :‬أنا وأبي وجدي فت ْ‬
‫بشار‪ :‬ارحمهمْ‪ ،‬رحمك الّ! قال‪ :‬تستخفّ بي وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟ قال‪ :‬إذاً أنت من أهل البيت الذين أذهب الّ عنهم الرّجْس‬
‫ل مَنْ حضر‪.‬‬ ‫وطهّرهم تطهيراً! فضحك ك ّ‬
‫ودخل على المهدي وعنده خالُه يزيد بن منصور الحميري‪ ،‬فأنشده قصيدة‪ ،‬فلمّا أتمها قال له يزيد‪ :‬ما صناعتك يا شيخ‪ .‬قال‪ :‬أثْقُبُ اللُؤلُؤَ‪ ،‬فقال‬
‫جوَاري‬ ‫صنَاعته؟ وقْال َ‬‫شدُ شعرًا فيسأله عن ِ‬ ‫شيْخاً أعمى يُنْ ِ‬‫له المهدي‪ :‬أتهْزَأُ بخَالي؟‪ .‬فقال‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬فما يكونُ جَوَابي لمن يَرَى َ‬
‫المهدي للمهدي‪ :‬لو أ ِذنْتَ لبشّار يدخل إلينا يؤانسنا و ُينُشِدنا فهو محجوب البَصَرِ‪ ،‬ل غيرة عليك منه‪ ،‬وأكمره فدخل إليهنّ واستظر ْفنَه‪ ،‬وقلْن له‪:‬‬
‫ل يدخل عليهن‪.‬‬ ‫وددْنا والِّ يا أبا معاذ أنك أبونا حتى ل نفارقِك‪ ،‬قال‪ :‬ونحن على دينِ كسرى! فأمر المهدي أ ّ‬
‫وكأن المتنبي نظر إلى هذا فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫لخُوكِ ثَمّ أرَق مِـنْـكِ وأ ْرحَـمُ‬ ‫ت ُم ْعتَنِقِ الفوارسِ في الوَغَى‬ ‫خ َ‬‫يا أ ْ‬
‫ب فيما تَحْـكُـم‬ ‫أنَ المجوسَ تصِي ُ‬ ‫يَ ْرنُو إليك مع العَفـافِ وعِـنْـدَه‬
‫في المودة والعتاب والصدق والكذب‬
‫طفُ القلوب‪ ،‬وائتلفُ الرواح‪ ،‬وحَنين النفوس إلى َمثَابة السرائر‪ ،‬والسترواحُ بالمستكنات في‬ ‫قال علي بن عبيدة الريحاني‪ :‬المودَةُ َتعَا ُ‬
‫الغرائز‪ ،‬ووحشة الشخاص عند تَبَايُن اللقاء‪ ،‬وظاهر السرور بكثرة التزوار‪ ،‬وعلى حسب مشاكلة الجواهر يكون اتفَاقُ الخصَال‪.‬‬
‫ق المتحابّين‪ ،‬وثمارُ الوداء ‪ ،‬ودليل الظنّ‪ ،‬وحركات الشَوق‪ ،‬وراحةُ الوَاجد‪ ،‬ولسان المُشْفق‪.‬‬ ‫وقال‪ :‬العِتابُ حدائ ُ‬
‫ح الكفاء‪.‬‬‫قال بعض الكتاب‪ :‬العِتاب عَلَمةُ الوَفاء‪ ،‬وحاصَة الْجَفاء‪ ،‬وسل ُ‬
‫وقال علي بن عبيدة‪ :‬التجنّي رسولُ القطيعة‪ ،‬وداعي القلَى‪ ،‬وسبب السلو‪ ،‬وأولُ التجافي‪ ،‬ومنزل التهاجر‪.‬‬
‫ق ربيعُ القلب‪ ،‬وزكاة الْخَ ْلقِ‪ ،‬وثمرة المروءة‪ ،‬وشُعاعُ الضمير‪ ،‬وعن جللة القدر عبارته‪ ،‬وإلى اعتدالِ وزْن العقل ُينْسَب صاحبه‪،‬‬ ‫وقال‪ :‬الصد ُ‬
‫وشهادتُه قاطعةٌ في الختلف‪ ،‬وإليه ترجع الحكومات‪.‬‬
‫وقال‪ :‬الكذبُ شِعارُ الخيانة‪ ،‬وتحريفُ العلم‪ ،‬وخواطر الزور‪ ،‬وتسويلُ أضغاث النفس‪ ،‬واعوجاج التركيب‪ ،‬واختلفُ البنية‪ ،‬وعن خمول الذكر‬
‫ما يكون صاحبه‪.‬‬
‫غيْرُه قد استثَارَه‪.‬‬
‫وعلي بن عبيدة كثير الغاْرة‪ ،‬عَلَى ما كان َ‬
‫فقر في الكذب لغير واحد‬
‫بعض الفلسفة‪ :‬الكذاب والميتُ سواء؛ لن فضيلة الحي النّطق‪ ،‬فإذا لم يُوثَق بكلمه فقد بطلت حياته‪.‬‬
‫ن يَكذِب عليك‪ ،‬ومن اغتاب غيرَك عندك‬ ‫ن كذب لك أ ْ‬ ‫الحسن بن سهل‪ :‬الكذاب لِصّ؛ لن اللص يسرقُ مالك‪ ،‬والكذاب يسرقُ عقلك؛ ول تأمن مَ ْ‬
‫فل تأمَنْ أن يغتابَك عند غيرك‪.‬‬
‫قال إبراهيم بن العباس في هذا النحو‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫دك ل أضُـر بــه سِـــوَاكـــا‬ ‫إنـي مـتـى أحـقِـدُ بـــحـــق‬
‫ت فـيك غـداً أخـاكـــا‬ ‫ك أطـعـ ُ‬ ‫ومـتـى أطـعـتُـك فـي أخـــي‬
‫يَ ْومِـي لـذا‪ ،‬وغَــداً لِـــذَاكـــا‬ ‫حتـى أرى مـتـقـــســـمـــاً‬
‫حَسبُ الكاذب بعقله سَقَماً وبقلبه خصماً‪.‬‬
‫ابن المعتز‪ :‬علمةُ الكذاب جُوْده باليمين لغير مستحلف‪ ،‬وقال‪ :‬البسيط‬
‫ما دلّ أنك في الميعا ِد ُمتّهَـمُ‬ ‫وفي اليمين على ما أنت فاعلهُ‬
‫وقال‪ :‬اجتنِبْ مصاحبة الكذاب‪ ،‬فإن اضطررت إليه فل تصدّقه‪ ،‬ول تُعلِمه أنك تكذبه‪ ،‬فينتقل عن وده‪ ،‬ول ينتقل عن طبعه‪ .‬يعترِي حديثَ‬
‫الكذّاب من الختلف ما ل يعتري الْجَبانَ من الرتعاد عند الحَرْب‪ .‬ل تَصِحُ للكذاب رُؤْيا‪ ،‬لنه يُخْبر عن نفسه في اليقظة بما لم يَرَ‪ ،‬فتريه في‬
‫النوم ما ل يكون‪ ،‬وأنشد‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ن قِلَ ِة الدَبِ‬ ‫أو عادة السوء‪ ،‬أو مِ ْ‬ ‫ل مِنْ َمهَانَـتـه‬ ‫ل يكذب المرءُ إ ّ‬
‫جيْبِه‪ ،‬يقول بهْتاً‪ ،‬وزُورًا بَحْتاً‪ ،‬قد مل قلبه َريْناً‪ ،‬وقوله َميْناً؛ يدين بالكذب َمذْهباً‪،‬‬ ‫ولهل العصر‪ :‬فلن ُم ْن َغمِس في عيبه‪ ،‬يكذب لذيله على َ‬
‫ويستثير الزور مركباً‪.‬‬
‫ن في مذاهبها‪.‬‬ ‫أقاويلُ يتمشى الزُورُ في مناكِبها‪ ،‬و َيبْرُزُ البهتا ُ‬
‫ع ْيبِه‪ ،‬ويتعرّضُ للعقاب من َربّه؛ فالثامُ له عادة‪،‬‬ ‫ت من الكذّاب المُشِيد بكَذبه‪ ،‬وإنما يدكُ على َ‬ ‫وقال أعرابي لبنه وسمعه َي ْكذِب‪ :‬يا بني‪ ،‬عجب ُ‬
‫ح من‬ ‫صدَق‪ ،‬وإن أراد خيراً لم يوفّق‪ ،‬فهو الجاني على نفسه بفعاله‪ ،‬والدّال على فضيحته بمقَالِه‪ .‬فما ص ّ‬ ‫والخبا ُر عنه متضادة‪ ،‬إن قال حقاً لم يُ َ‬
‫غيْرِه نُسِب إليه‪ ،‬فهو كما قال الشاعر‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬ ‫ح من كذب َ‬ ‫صدقه نُسِب إلى غيره‪ ،‬وما ص ّ‬
‫نة َبعْضُ ما يحكى عليهِ‬ ‫حَسْب الكذوب من ال َمهَا‬
‫غيْرِه نسبَـتْ إلـيهِ‬‫من َ‬ ‫ما إن سمعت بـكـذبة‬
‫ما قيل في الزفاف‬
‫كتب الحسن بن سهل إلى المأمون‪ ،‬بعد أن ُزفّت إليه بوران وتوهّم القوادُ أن هذا التزويجَ قد أنْسَى الحسَن حالَه قبل ذلك؛ قد تولّى أمي ُر المؤمنين‬
‫ل بمعونة أميرِ المؤمنين‪ ،‬أدام ال عزَه‪ ،‬في إخراج توقيعه بتزيين حَالي في العامة‬ ‫من َتعْظِيم عبده في قبول أ َمتِه شيئًا ل يتسعُ له الشك ُر عنه إ َ‬
‫والخاصة‪ ،‬بما يراه فيه صواباً إن شاء الّ‪.‬‬
‫ج والبريدُ‬ ‫فخرج التوقيع‪ :‬الحسنُ بن سهل زمامٌ على ما جمع أُمور الخاصة‪ ،‬و َكنَف أسباب العامة‪ ،‬وأحاط بالنفقات‪ ،‬ونفذ بالولة‪ ،‬وإليه الخرا ُ‬
‫واختيارُ ال ُقضَاة‪ ،‬جزا ًء بمعرفته بالحالِ التي قَر َبتْهُ منا‪ ،‬وإثابةً لشكره إيانا على ما أولينا‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫قال يحيى بن أكثم‪ :‬أراد المأمون أن يزوج ابنته من الرضا فقال‪ :‬يا يحيى تكلّم‪ ،‬فأجل ْلتُه أن أقولَ‪ :‬أنكحت‪ ،‬فقلت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أنت الحاكم‬
‫الكبر‪ ،‬والمام العظم‪ ،‬وأ ْنتَ أوْلى بالكلم‪ ،‬فقال‪ :‬الحمدُ لّ الذي تصاغرت المور بمشيئته‪ ،‬ول إلهَ إل هو إقرارًا بربوبيته‪ ،‬وصلّى ال على‬
‫محمد عند ذكره‪.‬‬
‫حكْماً‪ ،‬وأنزله وحياً؛ ليكونَ سببَ المناسبة؛ ألَ وإني قد زوجت ابنة المأمون من عليّ بن موسى‪،‬‬ ‫ضيَه ُ‬
‫أمّا بعد‪ ،‬فإن ال قد جعل النكاح دِيناً‪ ،‬و َر ِ‬
‫وأمهرتها أ ْر َب َعمِائَةِ درهمٍ‪ ،‬اقتدا ًء بسنةِ رسول ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وانتهاء إلى ما دَرَج إليه السلفُ‪ ،‬والحمدُ ل ربّ العالمين‪.‬‬
‫قال الصمعي‪ :‬كانوا يستحبّون من الخاطب إلى الرجل حُرمته الطالة‪ ،‬لتدل على الرغبة‪ ،‬ومن المخطوب إليه اليجاز‪ ،‬ليدلّ على الجابة‪.‬‬
‫وخطب رجل من بني أمية إلى عمر بن عبد العزيز أخته‪ ،‬فأطال؛ فقال عمر‪ :‬الحمدُ ل في الكبرياء‪ ،‬وصلّى ال على محمد خاتم النبياء؛ أما‬
‫عتْك إلينا‪ ،‬والرغبة منّا فيك أجابَتْ‪ ،‬وقد زوّجناك على كتاب ال‪ :‬إمساكٌ بمعروف‪ ،‬أو تسريحٌ بإحسان‪.‬‬ ‫بعد‪ ،‬فإن الرغب َة منك دَ َ‬
‫وخطب رجل إلى قوم فأتى بمن تَخْطُب له‪ ،‬فاستفتح بحمد ال وأطال‪ ،‬وصلّى على النبي عليه السلم وأطال‪ ،‬ثم ذكر البَدء وخلْقَ السماوات‬
‫والرض‪ ،‬واقتص ذِكر القرون حتى ضَجِر مَنْ حضر‪ ،‬والتفت إلى الخاطب‪ ،‬فقال‪ :‬ما اس ُمكَ أعزّك ال؟ فقال‪ :‬وال قد أنسيت اسمي من طول‬
‫ع َقدُوا في مجلس آخر‪.‬‬ ‫خطبتك‪ ،‬وهي طالقٌ إن لزوجتها بهذه الخطبة؛ فضحك القوم‪ ،‬و َ‬
‫فقر في الكتاب والقلم والسيف والخطّ‬
‫ق ل يتكلم‪ ،‬به يشخص المشتاقُ‪ ،‬إذا أقعده الفراق‪ ،‬والقلم‬ ‫وقال ابن المعتز‪ :‬الكتاب وَالِجُ البواب‪ ،‬جريءٌ على الحجاب‪ ،‬مُ ْفهِم ل يَ ْفهَم‪ ،‬وناط ٌ‬
‫ضهَا مُظْلِم‪ ،‬وسوادها مُضِيء‪ ،‬وكأنه يقبل‬‫مجهزٌ لجيوش الكلم‪ ،‬يخدم الرادة‪ ،‬ل يمل الستزادة‪ ،‬ويسكتُ واقفاً‪ ،‬و َينْطِقُ سائراً‪ ،‬على أرض بيا ُ‬
‫بِسَاط سلطان أو يفتح نُوَار بستان‪.‬‬
‫وهذا كقوله في القاسم بن عبيد ال‪ ،‬قال الصولي‪ :‬لما عُرض القاسم بن عبيد ال ليخلف أباه‪ :‬قال ابن المعتز‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ري بما شاء قاسـم ويسـيرُ‬ ‫قلـم مـا أراهُ أم فـلـك يَج‬
‫سًا كما قتل البساطَ شكـورُ‬ ‫خاش ٌع في ي َديْه يَ ْلثِ ُم قِـرْطـا‬
‫وكبير الفعال وَهْوَ صغـيرُ‬ ‫ل نَحِـيفٌ‬ ‫ولَطِيفُ المعنى جَلي ٌ‬
‫ش تَضُ ّم تلك السُطُورُ‬‫فٍ وعي ٍ‬ ‫كم منايا وكم عطايا وكم حت‬
‫ط فيهن أم تَصْـويرُ‬‫ري أخ ٌ‬ ‫نقشت بالدُجا نهاراً فـمـا أدْ‬
‫ل ويَصِـير‬ ‫له ينمى إلى العُ َ‬ ‫عبَـيْدِ ال‬
‫ن أبوه ِمثْلُ ُ‬ ‫هكذا مَ ْ‬

‫فهناك الوزيرُ وهْوَ الوَزِيرُ‬ ‫ت ِمنّة الله عـلـيْ ِه‬ ‫ظمَ ْ‬ ‫عَ ُ‬
‫وقال بعض البلغاء‪ :‬صورةُ الخطّ في البصار سواد‪ ،‬وفي البصائر َبيَاض‪.‬‬
‫وقال أبو الطيب المتنبي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل النثْـرُ‬ ‫وهذا الكلمُ النَظْمُ والنّائ ُ‬ ‫دَعاني إليكَ العلمُ والحِ ْلمُ والحِجَى‬
‫حبْرُ‬ ‫ض مِنْ نورِها ال ِ‬ ‫ت يَ ْبيَ ُ‬
‫إذا ُك ِتبَ ْ‬ ‫شعْ ٍر تكَادُ بُـيوتـهُ‬ ‫ت مِنْ ِ‬ ‫وما قُ ْل ُ‬
‫وقال ابن المعتز في عبيد ال بن سليمان بن وهب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بمختلسات الظن يسمعُ أو يرى‬ ‫عليمٌ بأعْقَاب المور‪ ،‬كـأنـه‬
‫يُفتَح نَوْراً أو يُنَظمُ جـوهـرا‬ ‫ت يمينـهُ‬ ‫خلْ َ‬‫إذا أخذ القرطاس ِ‬
‫ل بل غَرَر‪ ،‬وأنت تقتلُ على خَطَر‪ .‬فقال صاحب السيف‪ :‬القلمُ خا ِدمُ السيف‪ ،‬إن تَمَ‬ ‫فاخرَ صاحبُ سيفٍ صاحبَ قلم‪ ،‬فقال صاحب القلم‪ :‬أنا أقت ُ‬
‫مرادُه وإلَ فإلى السيف مَعاده؛ أما سمعت قول أبي تمام‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫في حده الح ُد َبيْنَ الجِد واللَـعـبِ‬ ‫السيفُ أصدَقُ إنبا َء من الـكـتُـبِ‬
‫ُمتُونِهنَ جَـلَءُ الـشًـكّ والـ َريَبِ‬ ‫بِيضُ الصفائح ل سُودُ الصحائفِ في‬
‫وقال أبو الطيب‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ضنَتْ أخْفافُها بـدَمِ‬ ‫إلى مَن احتَ َ‬ ‫حكُ إبلي كُلما نظرَتْ‬ ‫ضِ‬‫ما زِ ْلتُ أُ ْ‬
‫ول أشا ِه ُد فيها عِفةَ الـصَـنَـمِ‬ ‫أسِيرُها َبيْنَ اصنام أشـاهِـدهـا‬
‫المجد للسيف ليسَ المَجدُ لِلقَلِـم‬ ‫جعْتُ وأقلمِي قوائِلُ لي‬ ‫حتى رَ َ‬
‫ف كـالـخَـدم‬ ‫فإنما نَحنُ للسيا ِ‬ ‫ب بـه‬‫أكتُب بنا أبدًا بعدَ الكِـتَـا ِ‬
‫هذا مقلوبٌ من قول علي بن العباس النوبختي‪ ،‬وقد رواه أبو القاسم الزجاجي لبن الرومي‪ ،‬وإنما وهم لتّفاق السمين‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ب ودانَـــتْ خـــوفـــه المـــمُ‬ ‫له الــرقـــا ُ‬ ‫إن يَخْـدُمِ الـقـلـم الـسـيف الـذي خــضـــعَـــتْ‬
‫فالموتُ والموت ل شيء ُيغَالبه ما زال َي ْتبَع ما َيجْرِي به القلم‬
‫خدَم‬
‫ل للقلم م ْذ بُ ِريَتْأنّ السيوفَ لها مذْ أرهِفت َ‬ ‫بذا قَضَى ا َ‬
‫وقال ابن الرومي‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ن قَـلـمِ الـكـاتِـبِ‬‫فم ْ‬‫بأخْوَ َ‬ ‫سيْف الكَـمِـي‬ ‫َل َعمْ ُركَ ما السيْفُ َ‬
‫ظ َهرْتَ علـى سِـرّهِ الْـغَـائِبِ‬ ‫َ‬ ‫لَهُ شـاهـد إنْ تـأمَـلْـتَـــهُ‬
‫ن ِمثْلِـه رَهْـبَةُ الـرّاهِـبِ‬ ‫فمِ ْ‬ ‫أدا ُة الـمـنـيّةِ فـي جـانـبـيه‬
‫حدّ الـمـنِـيةِ فـي جَـانِـبِ‬ ‫وَ‬ ‫سنَانُ الـمـنـية فـي جـانِـبِ‬ ‫ِ‬
‫ف كالمُرْهَفِ ا ْلقَاضِبِ؟‬ ‫وفي ال ّردْ ِ‬ ‫صدْرِ ِه كـالـسـنَـانِ‬ ‫ألم تَرَ في َ‬
‫وقال أبو الفتح البستي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وعدّوه ممّا ُيكْسِبُ المجدَ والكرمْ‬ ‫إذا أقسم البطالُ يوماً بسيفـهـم‬
‫‪126‬‬
‫مدَى الدّهرِ أنّ الَ أ ْقسَم بالقَلَـمْ‬ ‫كفى قََل ُم الكتاب مَجْـداً ورفـع ًة‬
‫وقد قيل‪ :‬صريرُ القلم‪ ،‬أشدّ من صليل الحُسام‪.‬‬
‫قال الصولي‪ :‬أنشدني طلحة بن عبيد‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حمِلْنَ شَخْتا مُرْهَفا‬‫بأنامل يَ ْ‬ ‫ق َكفّهُ‬ ‫وإذا أمرَ على المهارِ ِ‬
‫وموصلً ومشتتًا ومُؤلفـا‬ ‫متقاصرًا ُمتَطا ِولً ومفصلً‬
‫وقِلَعَها قِلَعاً هناِلكَ ُرجَفا‬ ‫ترك العُداة رَواجفاً أحشاؤُها‬
‫يستنزل ال ْروَى إليه تلطفا‬ ‫كالحيّة ال ّرقْـشَـاء إلّ أنـه‬
‫فيعود سيفاً صارِماً ومثقّفا‬ ‫يرمي به قلمًا يمجّ لُعـابـه‬
‫وقال محمود بن أحمد الصبهاني‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ت منَ المـ ِر‬ ‫عن كل ما شئ َ‬ ‫س ُينْبـيك بـإطْـرَاقِـهِ‬
‫أخر ُ‬
‫ُي ْبدِي بها السـرّ ومـا َيدْرِي‬ ‫يُذْرِي على قِرْطاس ِه َدمْـعَةً‬
‫عبْـرَة تـجْـرِي‬‫نفَت عليه َ‬ ‫كعاشق أخْفَـى هـواه وقـد‬
‫عُرْيانَ يكسُو الناس أو ُيعْرِي‬ ‫ُتبْصِرُه في كـلّ أحـوالـهِ‬
‫أطلَق أقواماً مـن السْـرِ‬ ‫يُرَى أسيراً فـي دوَاةٍ وقـد‬
‫يَ ْرشُقُ أقواماً ومـا َيبْـرِي‬ ‫أخرق لو لم َتبْرِه لـم َيكُـنْ‬

‫َيغْشَى‪ ،‬وكالصارم إ ْذ يَ ْفرِي‬ ‫كالبَحْر إذْ يجري‪ ،‬وكالليل إذْ‬


‫جرَار‪ :‬السريع‪:‬‬ ‫وقال أحمد بن ِ‬
‫يحل عقدَ السّـرَ إعـلنُ‬ ‫أهيفُ ممشوقٌ بتحريكـهِ‬
‫من رِيقَة الكُرْسُـف رَيانُ‬ ‫ن مُـرْهَـفٌ حـدُهُ‬‫له لسا ٌ‬
‫جثْـمَـانُ‬
‫شخْصاً له حدٌ و ُ‬ ‫ظمِهِ‬‫تَرَى بسيطَ الفكر في نَ ْ‬
‫حبَـانُ‬
‫َذيْلً من الحِكمَة سَ ْ‬ ‫كأنما يَسْحَـبُ فـي إثـرهِ‬
‫ك ديوانُ‬ ‫سمَا لِلْـمُـلْـ ِ‬‫ل َ‬ ‫لوله ما قام مَنارُ الهـدى‬
‫ومن أجود ما قيل في صفة القلم قول تمام لمحمد بن عبد الملك الزيات‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ب من المرِ الكُلى والمفاصِلُ‬ ‫تُصا ُ‬ ‫َلكَ القَلَمُ العْلَى الّذي بِشَـبـاتـهِ‬
‫بآثارِه في الشَ ْرقِ والغَ ْربِ وَابِـلُ‬ ‫له رِيقة طَلّ ولـكِـن َوقْـعَـهـا‬
‫شتَا َرتْ ُه أ ْيدٍ عَوَاسِـلُ‬‫جنَى ا ْ‬ ‫وَأرْيُ الْ َ‬ ‫لُعابُ الفاعِي القاتِلَتِ لُـعَـابُـهُ‬
‫لما اختلفتِ للمُلك تِ ْلكَ المَحَـافـل‬ ‫له الخلوات اللء لول نَـجِـيّهـا‬
‫وقال المير تميم بن المعز‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫أُلقي مـن الرْزَاءِ وَهْـوَ جـلـيلُ‬ ‫صبْرِي على الذي‬ ‫ب من طول َ‬ ‫ج ٍ‬‫وذي عَ َ‬
‫صقِـيل؟‬ ‫شبَا السيفِ عَضبُ الشفرتَيْنِ َ‬ ‫َ‬ ‫يقولون‪ :‬ما تَشْكو؟ فقلت‪َ :‬متَى شَـكَـا‬
‫ويَسْخو بما في نفـسـهِ لـجَـهـول‬ ‫وإن أمرأ يشكـو إلـى غـير نـافـع‬
‫ل ومَـنْ أشـكـو إلـيه عـلـيل‬ ‫علي ٌ‬ ‫عذابيَ أنْ أشكو إلى الـنـاس أنـنـي‬
‫بجمْـلَة مـا ألْـقـاه قَـبْـلَ أقـولُ‬ ‫ويمنعني الشكوى إلى اللّـه عِـلْـمُـهُ‬
‫أرى الصبْرَ سيفاً ليس فـيه فُـلُـولُ‬ ‫صبْراً واحتسـابـًا فـإنـنـي‬ ‫سأسكتُ َ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫في حاَلتَيك‪ ،‬وما أقلّك ُمنْصِفَـا‬ ‫ن ُمتَـلـون‬ ‫يا دَهْرُ‪ ،‬ما أقساك مِ ْ‬
‫وعلى اللبيب الحُرّ سيفًا مُرْهَفا؟‬ ‫أتروح للنكْس الجهول ممـهّـدا‬
‫ت َنقَضْتَ أسباب الوَفـا‬ ‫وإذا َوفَي َ‬ ‫ت َكدُرْتَ‪ ،‬شيمةَ باخل‪،‬‬ ‫صفَوْ َ‬‫وإذا َ‬
‫أدري بأنك ل تدومُ على الصّفـا‬ ‫ل أرتضيك‪ ،‬وإن كرمْتَ؛ لنني‬
‫وإذا استقام بَدَا له فتـحـرّفـا‬ ‫زمنٌ إذا أعطى استرد عَطـاءَهُ‬
‫أوْلَى بنا ما قل منك وما كَفَـى‬ ‫ما قام خيرك يا زمانُ بـشـرّه‬
‫من أخبار الكاتب أحمد بن يوسف‬
‫ضرَةِ المأمون‪ ،‬فقال يومًا بحضرة خاصّة أصحابه‪ :‬أخبروني عن‬ ‫ت بينهما َهنَات بحَ ْ‬
‫وكان أحم ُد بن يوسف منصرفاً عن غسّان بن عباد‪ ،‬وجرَ ْ‬
‫ش ِر بن داود؛ فتكلّم كلّ فريق بما عنده في َمدْحِه؛ فقال أحمد بن‬ ‫ن بِ ْ‬
‫غسَان بن عباد؛ فإني أُريده لمرٍ جسيم؛ وكان قد عَزم على تقليده السند مكا َ‬
‫ل تقدَم فيه‪ ،‬ومهما تخوف عليه فإنه لن يَأْتي أمرًا َيعْتذر‬ ‫سنُه أكثرُ من مساويه‪ ،‬ل يتطرّفُ به أمرٌ إ ّ‬ ‫ل محا ِ‬ ‫يوسف‪ :‬هو‪ ،‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬رج ٌ‬
‫منه؛ لنه قسم أيامه بين أفعال الفَضْل؛ فجعل لكلّ خُلُق نَوبة‪ ،‬إذا نظرتَ في أمْرِه لم تَدْرِ أيّ حالته أعجب؛ أمَا َهدَاهُ إليه عَقْلُه أ ْم ما اكتسبه‬
‫بأدبه؟ فقال له المأمون‪ :‬لقد مدحته على سوء رَأيك فيه! قال‪ :‬لني في أمير المؤمنين كما قال الشاعر‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫عدَائي‬ ‫نصحتُك في الصديق وفي ِ‬ ‫كفَى ثمنا لِـمَـا أسْـ َديْت أنـي‬
‫ب مِنْ هَـوائي‬ ‫يكون هَواكَ أغَْل َ‬ ‫وأني حين تَـنْـدُبُـنـي لمـرٍ‬

‫‪127‬‬
‫قال الصولي‪ :‬وقد روي هذا لغير أحمد‪ ،‬ولعل أحمد استعاره؛ فأعجب المأمون ذلك منه‪ ،‬وشكره غسان بن عبّاد له‪ ،‬وتأكّدت الحا ُل بينهما‪.‬‬
‫وكان أحم َد بن يوسف بن القاسم بن صبيح‪ ،‬مولى عِجْل بن لجيم‪ ،‬عَاليَ الطبقة في البلغة‪ ،‬ولم يكن في زمانه أكْتب منه‪ ،‬وله شعرٌ جيد مرتفع‬
‫عن أشعار الكتّاب‪ ،‬ووزر للمأمون بعد أحمد بن أبي خالد‪ ،‬وكان أول ما ارتفع به أحمد أن المخلوعَ محمد بن الرشيد لمّا قتِل أمر طاهر بن‬
‫الحسين ال ُكتّاب أن يكتبوا إلى المأمون؛ فأطالوا‪ ،‬فقال طاهر‪ :‬أريد أخصر من هذا‪ ،‬فوُصِفَ له أحمد بن يوسف وموضعه من البلغة‪ ،‬فأحضره‬
‫حمَة‪ ،‬فقد فرّق بينهما حك ُم الكتاب في الولية والخدمة‪ ،‬بمفارقته‬ ‫لذلك‪ ،‬فكتب‪ :‬أمَا بعد‪ ،‬فإنْ كان المخلوع قَسي َم أمير المؤمنين في النّسَب واللّ ْ‬
‫غيْرُ‬
‫عمَلٌ َ‬ ‫س مِنْ أهْلِك إنّه َ‬ ‫عِصمة الدين‪ ،‬وخروجه عن المْرِ الجامع للمسلمين؛ لقول الّ عزّ وجلّ فيما اقتص علينا من نبإ نوح وابنه‪" :‬إنّه لي َ‬
‫صالحٍ"‪ ،‬ول طاعة لح ٍد في معصية ال‪ ،‬ول قطيعةَ ما كانت القطيعةُ في ذاتِ الّ؛ وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد أنجز الُّ له ما كان ينتظ ُر من‬
‫ع ْهدَه‪ ،‬ونَ َقضَ عَقدَه‪ ،‬حتى َر ّد به الُ ْلفَ َة بعد فُ ْر َقتِها‪ ،‬وجَمع به‬ ‫ختَر َ‬
‫سابقِ وَغدِه‪ ،‬والحمد لّ الراجع إلى أمير المؤمنين معلوم حقّه‪ ،‬الكائد له فيمن َ‬
‫شتَاتِها‪ ،‬وأضاء به أعْلم الدين بعد درُوسِها؛ وقد بعثتُ إليك بالدنيا وهي رَأسُ المخلوع‪ ،‬وبالخرة وهي البُ ْردَةُ والقَضيب؛ والحمدُ ل‬ ‫المة بعد َ‬
‫الخ ِذ لمير المؤمنين حقَه‪ ،‬الراجع إليه تُرَاثَ آبائه الراشدين‪.‬‬
‫صفُ أحمد للمأمون ويحثه عليه‪ ،‬فأمره المأمون بإحضاره‪ ،‬فلمّا وقف بين يديه قال‪ :‬الحمدُ لّ يا أميرَ‬ ‫وكان أحمد بن أبي خالد كثيرًا ما يَ ِ‬
‫ك من تيسير كلّ عسيرٍ حاولك عليه‬ ‫سمِه‪ ،‬وع َر َف َ‬ ‫المؤمنين الذي استخصّك فيما استحفظَك من دينه‪ ،‬وقلدَك من خلفته‪ ،‬بسوابغ نعَمه‪ ،‬وفضائل قِ َ‬
‫خرَاه‪ ،‬وأنَا‬‫حمْداً نامياً زائداً ل َينْقَطِعُ أُوله‪ ،‬ول َينْقَضِي أُ ْ‬ ‫حبَاك به من مواردِ أمورِه بنُجْح مصادرها‪َ ،‬‬ ‫متمرّد‪ ،‬حتى ذلّ لك ما جعله تكملة لما َ‬
‫أسأَلُ ال يا أميرَ المؤمنين من إتمام بلئه لديك‪ ،‬و ِم َننِه عليك‪ ،‬وكفا َيتِه ما ولّك واسترعاك‪ ،‬وتحصين ما حا َز لك‪ ،‬والتمكين من بل ِد عدوّك‪ ،‬مما‬
‫عدَهُ؛ إنه سميع‬ ‫حمَى الشّ ْركِ‪ ،‬ويجمع لك ُمتَباين الُ ْلفَة‪ ،‬و ُينْجِز بكَ في أهل العِنادِ والضللة وَ ْ‬ ‫يمن ُع به َبيْضَةَ السلم‪ ،‬و ُيعِز بك أهْلَه‪ ،‬و ُيبِيحُ بك ِ‬
‫الدعاء‪ ،‬فعّال لما يشاء‪.‬‬
‫فقال المأمون‪ :‬أحسنتَ‪ ،‬بُورك عليك ناطقاً وساكتاً! ثم قال بعد أن بَله واختبره‪ :‬يا عجباً لحمد بن يوسف! كيف استطاع أن ي ْكتُم نَفْسَه؟ وكتب‬
‫جمَعاً ببابك الوُفود‪ ،‬يرجون نائَلكَ العَتيد‪ ،‬فمنهم من َيمُتُ بحُرْمة‪،‬‬ ‫جدْوَاك‪َ ،‬‬
‫جدِي لزوار على بابه‪ :‬إن داعِي َندَاك‪ ،‬و ُمنَادِي َ‬ ‫إلى المأمون يستَ ْ‬
‫جحَفَ بهم المقام؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين أن َينْعَشهم بسِيبِه‪ ،‬ويحقق ظ َنهُم بطَوْله‪َ ،‬فعَلَ‪.‬‬ ‫خ ْدمَة‪ ،‬وقد أَ ْ‬ ‫ومنهم من ُيدْلي بسالفِ ِ‬
‫فوقعَ المأمون في عرض كتابه‪ :‬الخي ُر متبع‪ ،‬وأموال الملوك مَظَان لطلب الحاجات؛ فاكتُب أسماءَهم‪ ،‬وبيّنْ مرتبةَ كل واحد منهم‪ ،‬ليصيرَ إليه‬
‫على قَدرِ استحقاقه؛ ول تكدرَن معروفنا بالمَطْلِ والحجاب؛ فقد قال الشاعر‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫كإلصاق به طرف الهَوَانِ‬ ‫طرْداً لحُـرّ‬ ‫ن تَرَى َ‬ ‫فإنك لَ ْ‬
‫بمثل ال ُودّ أو بَذلِ اللسَـانِ‬ ‫ب مودَ ُة ذِي َوفَـاءً‬ ‫ولم ُتجْلَ ْ‬
‫حتَذِي عليه؛ فبت مغموماً‪ ،‬فأتاني آتٍ‬ ‫جدْ مثالً أ ْ‬ ‫قال أحمد بن يوسف‪ :‬أمرني المأمون أن كتب في زيادة قناديل شهر رمضان؛ فأعْيا علي‪ ،‬ولم أ ِ‬
‫في النوم فقال‪ :‬اكتب‪ :‬فإنَ فيها إضاءة للمتهجدين‪ ،‬ونفياً لمكان الريب‪ ،‬وأنْسَا للسابِلة‪ ،‬وتنزيهاً لبيوت ال من َوحْشَةِ الظلم‪ ،‬فأخبرت بذلك‬
‫المأمون‪ ،‬فاستظرفه‪ ،‬وأمر أن تمضي ال ُكتُب عليه‪.‬‬
‫وأهدى إلى المأمون في يوم نوروز طبقَ جَزع عليه ميلِ من ذَهب‪ ،‬فيه اسمه منقوش‪ ،‬وكتب إليه‪ :‬هذا يوم جَرَت فيه العادةُ‪ ،‬بإلطاف العبيد‬
‫السادة‪ ،‬وقد بعثتُ إلى أمير المؤمنين طبق جزع فيه ميل‪.‬‬
‫فلمّا قرأ المأمون الرقعة قال‪ :‬أجاءت هدي ُة أحمد بن يوسف؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬هي في داري أ ًم داري فيها؟ فلمّا رفع المنديل استظرف الهدية‬
‫واسترجح مُهدِيها‪.‬‬
‫ت هديةَ من ل يَحتَشِم إلى من ل َي ْغ َتنِم‪.‬‬ ‫ل إليك‪ ،‬فأ ْهدَيْ ُ‬ ‫وأهدى إلى إبراهيم بن المهدي هدية وكتب إليه‪ :‬الثق ُة بك قد سهلت السبي َ‬
‫ي نِ ْقمَة‪ ،‬وأنزل فيكم‬ ‫وكتب إلى بني سعيد بن سلم‪ :‬لول أن ال‪ ،‬عز وجلّ‪ ،‬ختم نبوته بمحمد‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكتبَه بالقرآن‪ ،‬لنزَل فيكم نب َ‬
‫سفْل‪ ،‬ومساويهم فَضَائحُ المم‪ ،‬وألسنتُهم معقولة بالعِيّ‪ ،‬وأيديهم معقودة بالبخْل‪،‬‬ ‫غدْر؛ وما عَسيت أن أقولَ في قومٍ محاسنهم مساوي ال ُ‬ ‫قرآن َ‬
‫وهم كما قال الشاعر‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ول َتبِيد مَخَازِيهم وإن بَادُوا‬ ‫ل يكبرون وإن طَاَلتْ حياتهُمُ‬
‫وغنّى ُمغَن بحضرة أحمد بن يوسف ولم يكن مُحسناً‪ ،‬فلم ُينْصِتوا له‪ ،‬وتحدَثوا مع غِنائه‪ ،‬فغضب المغنّي‪ ،‬فقال أحمد بن يوسف‪ :‬أنت‪ ،‬عافاك‬
‫ال‪ ،‬تحمَل السماع ثقلً‪ ،‬والقلوب مَلَل‪ ،‬والعْيُن َقبَاحة‪ ،‬والنف نتَانة‪ ،‬ثم تقولُ‪ :‬اسمعوا مني‪ ،‬وأنصِتوا إلي! هذا إذا كانت أفهامُنا مُ ْقفَلة‪ ،‬وآذاننا‬
‫ص ِدئِة‪ ،‬فإمّا رضيت بالعَفْو منا‪ ،‬وإل قمت مذمومًا عنّا‪.‬‬ ‫َ‬
‫ألفاظ لهل العصر في ذم المغنين‬
‫ضرْبه‪ .‬من عجائب غِنائه أنه يُورِد الشتاء‬ ‫ب ول يُطْرِب‪ .‬إذا غنى عَنى‪ ،‬وإذا أدَى آذى‪ .‬يميت الطّرَب‪ ،‬ويحيي ال ُكرَب‪ .‬ض ْربُه يُوجِب َ‬ ‫يترنَم ف ُي ْتعِ ُ‬
‫في الصيف‪ .‬ما رؤي قطّ في دارٍ مرتين‪ ،‬وحضر جحظة مجلساً فيه علي بن بسام‪ ،‬فتفرق القومُ المخادّ‪ ،‬فقال جحظة‪ :‬فما لي لم تعطوني مخدّة؟‬
‫فقال علي بن بسام‪ :‬غنّ فالمخاد كلّها إليك تصير! وفيه يقول ابن بسام‪ :‬السريع‪:‬‬
‫أنت‪ ،‬وبيتِ الَ‪ ،‬أهجانا‬ ‫يا مَنْ هَجَوْناه َف َغنّـانـا‬
‫أو مرَ مجنون فزنانـا‬ ‫سِيان إن غنّى لنا جحظةٌ‬
‫حمْل!‬ ‫وكان خالد يُستَبرد‪ ،‬فبعث بعضُ الظرفاء غلمه يشتري له خمسة أرطال ثلج‪ ،‬فأتاه بخالدٍ وقال‪ :‬يا مولي‪ ،‬طلبت خمسة أرطال‪ ،‬وهذا ِ‬
‫حضْرة محموم‪ ،‬فقال‪ :‬ويحك! دَعْنا نعرق! وقال بعض المحدثين في قريس المغني‪ :‬المتقارب‪:‬‬ ‫وتغنى ب َ‬
‫ُيعِينُ على البَ ْلغَمِ الهائجِ‬ ‫ألَ فاسقني قدحاً وافـراً‬
‫فنحنُ على شرف الفالجِ‬ ‫أكلنا قَرِيساً وغَنى قريس‬
‫ولقي أبو العباس المبرد بردَ الخيار المغنّي في يوم ثَلْج بالجسر‪ ،‬فقال‪ :‬أنت المبّرد وأنا برد الخيار‪ ،‬واليوم كما تَرى‪ ،‬اعبُر بنا ل يهلك الناس‬
‫بالفالج بسببنا‪.‬‬
‫وقال ابن عباد الصاحب في مغن يعرف بابن عذاب‪ :‬مخلع البسيط‪:‬‬
‫ل مَن يَعيهِ‬ ‫يعقله ك ّ‬ ‫أقول قولً بل احتشام‬
‫فإنني منه في أبـيه‬ ‫ب إذا تغنّـى‬ ‫ابن عذا ٍ‬

‫‪128‬‬
‫رجع إلى أحمد بن يوسف‬
‫ومن شعر أحمد بن يوسف‪ :‬مخلع البسيط‪:‬‬
‫شاَعـا‬ ‫تَرجَ َم دَمعِي بِ ِه فَ َ‬ ‫ضمِيرُ وَجدٍ بقَلبِ صَـب‬
‫ي به فَـذاعـا‬ ‫ضيّع سِرَ ً‬ ‫فصار َدمْعي لِسانَ وَخدِي‬
‫ما كان سِرّي كذا مضاعا‬ ‫لول دموعي وفَرط حُبي‬
‫وقال‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫بِ ّر كهادٍ يخوضُ في الظَلمِ‬ ‫وعامل بالفجو ِر يَأمُر بـال‬
‫سقَمِ‬
‫وَهْو يُدَاوي من ذلك ال َ‬ ‫أو كطبيب قد شفّه سَـقَـم‬
‫طهّرْ أوْل فل تَلُـمِ‬ ‫ثَ ْو َبكَ َ‬ ‫س غير متّعظٍ‬ ‫يا واعظَ النا ِ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حرْبٌ وأبصارنا سَلْمُ‬ ‫سنُنا َ‬ ‫فألْ ُ‬ ‫إذا ما التقينا والعيون نواظرٌ‬
‫وقال في الحزن‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عليه سرورُ العالَمين حَـرَامُ‬ ‫كثير همومِ القلبِ حتى كأنمـا‬
‫فأخبر ما يلقي وليس كـلمُ‬ ‫سبَل دَ ْمعَهُ‬ ‫ضنَاك! أ ْ‬ ‫إذا قيلَ ما أ ْ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سنَنَ ال ِكبْرِ‬ ‫لير َدعَ عَنْ سلطانِهِ ُ‬ ‫كريم له نفس يَلينُ بلِـينـهـا‬
‫دعاه إلى تسكينها عظم ال َقدْرِ‬ ‫ظ َم َقدْرهـا‬ ‫إذا ذكّ َرتْه نفسه عَ ْ‬
‫عدّل َزيْغها‪ ،‬وأقام أوَدها‪ ،‬صيانةً لمعروفِه‪ ،‬ونصرةً لرأيه؛ فإن أول‬ ‫ووقّع في كتاب رجل يحثه على استتمام صنائعه عنده‪ :‬مستتمّ الصنيع ِة من َ‬
‫المعروف مستخفّ‪ ،‬وآخره مس َتثْقَل‪ ،‬يكاد أول الصنيعة يكون للهوى‪ ،‬وآخرها للرّأي‪ ،‬ولذلك قيل‪ :‬رَبّ الصنيعة أشدّ من ابتدائها‪.‬‬
‫وكان أبو العتاهية له صديقاً قبل ارتفاع حالِه‪ ،‬فأحس منه في حين وزارته تغيراً‪ ،‬فكتب إليه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن بالنّظَرِ الشزْرِ‬ ‫ت تَرَى الخوا َ‬ ‫فصر َ‬ ‫ت من سورةِ ال َفقْـرِ‬ ‫ت إذا استغنيْ َ‬ ‫أمنْ َ‬
‫تتَايُهـه دونَ الخـلّء بـالـ َوفْـرِ‬ ‫ف يُهـينـهُ‬ ‫أبا جعفـر إن الـشـري َ‬
‫فإن عنائي بالتجمّـل والـصَـبْـرِ‬ ‫ن تِهْتَ يوماً بالذي نِلْتَ من غنـى‬ ‫فإ ْ‬
‫ى أبو بكر يموت بن‬ ‫ورو َ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ْـ‬‫ق‬ ‫َـ‬‫ف‬ ‫ال‬ ‫من‬ ‫عليه‬ ‫َى‬ ‫ش‬ ‫ْ‬
‫خ‬ ‫ُ‬
‫ي‬ ‫ِنى‬
‫غ‬ ‫ال‬ ‫وأن‬ ‫َـى‬ ‫ن‬ ‫ِـ‬
‫غ‬ ‫الـ‬ ‫له‬ ‫َى‬ ‫ج‬ ‫ْ‬
‫ر‬ ‫ُ‬
‫ي‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫الفق‬ ‫ّ‬
‫ن‬ ‫أ‬ ‫تر‬ ‫ألم‬
‫المزرع عن خاله الجاحظ قال‪ :‬حجب أحمد بن يوسف أبا العتاهية‪ ،‬ثم عاد‪ ،‬فقيل‪ :‬هو نائم‪ ،‬فكتب إليه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ث ُت ْبغَى المكارِمُ‬ ‫صرِف وجهي حي ُ‬ ‫سأ ْ‬ ‫ت بعد اليوم إنـي لـظـالـمٌ‬ ‫لئن عد ُ‬
‫وقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫صفُك محجوب ونِصْـفُـك نـائمُ‬ ‫ونِ ْ‬ ‫متى يظفر الغادي إلـيك بـحـاجةٍ‬
‫يا أبو جعفر أخي وخَـلِـيلـي‬ ‫في عداد الموتى وفي ساكني الدن‬
‫عيْش ظلـيلِ‬ ‫شِ مقيماً في ظِل َ‬ ‫ميت مات وهو في ورق العَـي‬
‫وخاصم أحمدُ بن يوسف‬ ‫ِـيل‬ ‫م‬ ‫َـ‬
‫ج‬ ‫و‬ ‫ٍ‬
‫ح‬ ‫صال‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ك‬ ‫عن‬ ‫مات‬ ‫لم يمت ميتةَ الـوَفـاةِ‪ ،‬ولَـكِـنْ‬
‫س َتمْلي من عينيك ما يَلْقَاني به‪،‬‬
‫صغَا المأمون إليه على أحمد‪ ،‬ففطن لذلك‪ ،‬فقال‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪ ،‬إنه يَ ْ‬ ‫ل بين يدي المأمون‪ ،‬وكان َ‬ ‫رج ً‬
‫ي من بلوغ أملي‪ ،‬ولذّة إجابتك أمتَعُ عندي من لذة ظفري؛ وقد تركتُ له ما نازعني‬ ‫جنّه له‪ ،‬وبلوغُ إرادتك أحب إل ّ‬ ‫ويس َتبِينُ بحركته ما تُ ِ‬
‫فيه‪ ،‬وسلَمتُ له ما طالبني به‪ ،‬فاستحسن ذلك المأمون‪.‬‬
‫ومن كلم أحمد بن يوسف‪ :‬مجالسةُ ال ُبغَضَاء ُتثِيرُ الهمومَ‪ ،‬وتَجْلِبُ الغموم‪ ،‬وتُؤْلم القَ ْلبَ‪ ،‬وتقدح في النّشاط‪ ،‬وتَطْوي النبساط‪.‬‬
‫ألفاظ لهل العصر في صفات الثقلء‬
‫ت اليمين إلى ذات الشمال‪.‬‬ ‫حرَكةِ؛ قد خرج عن حد العتدال‪ ،‬وذهب مِن ذا ِ‬ ‫جمْلة‪ ،‬باردُ السكونِ وال َ‬‫فلن ثقيل الطّ ْلعَة‪ ،‬بَغيضُ التفصيل وال ُ‬
‫حمََلتْهُ؟ وكيف احتاجت إلى الجبال بعد ما‬ ‫يحكي ثقل الحديث المعَاد‪ ،‬و َيمْشي في القلوب والكباد‪ ،‬ول أدْرِي كيف لم تحمل المانةَ أرضٌ َ‬
‫أقّلتْه؟ كأن وجهَه أيامُ المصائب‪ ،‬وليالي النوائب‪ ،‬وكأنما قُرّ به ف ْقدُ الحبائب‪ ،‬وسوء العواقب‪ .‬وكأنما وصلُه عدمُ الحياة‪ ،‬وموتُ الفجأة‪،‬‬
‫ح كالجبال‪ ،‬كأنه ثقل الدينِ‪ ،‬على وَج ِع العين‪ .‬هو ثقيلُ السكون‪،‬‬ ‫جسْ ٍم كالخيال‪ ،‬ورو ٍ‬ ‫وكأنما هَجره قوة المنّة‪ ،‬وريحُ الجنة‪ .‬يا عجبي من ِ‬
‫ل البركة‪ .‬هو بين ا ْلجَفن والعين َقذَاة‪ ،‬وبين الخمص والنّعلِ حصاة‪ .‬ما هو إل غداةُ الفراق‪ ،‬وكتابُ‬ ‫بغيضُ الح َركَة‪ ،‬كثيرُ الشؤم‪ ،‬قلي ُ‬
‫ج بل غلّة‪،‬‬ ‫خرَا ٍ‬
‫الطلق‪ ،‬وموتُ الحبيب‪ ،‬وطلوعُ الرقيب‪ .‬ما هو إل أربعاء ل تَدُور في صفَر‪ ،‬والكابوسُ في َوقْتِ السحَر‪ ،‬وأثْقَل من َ‬
‫جمَع للعيوب من بغلة أبي دُلمة‪ ،‬وحمار طيّار‪ ،‬وطيلسان ابْن حَرْب‪ ،‬وأير أبي حكيمة‪،‬‬ ‫ودَوَا ًء بل عِلَة‪ ،‬وأ ْبغَض من مثل غير سائر‪ ،‬وأ ْ‬
‫وأنشد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأنشد‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫ض ثا ِنيَهْ‬‫وقال‪ :‬إلَهي زِيدَتِ الر ُ‬ ‫مشى فدعا من ثقلِهِ الحوتُ ربّهُ‬
‫إليه َلحْظًا مُقْلَة الرَامِـقِ‬ ‫مش َتمِل بال ُبغْض ل َتنْثَنـي‬
‫وقال الحمدوني‪ :‬المتقارب‪:‬‬ ‫شقِ‬‫أ ْثقَل من وَاشٍ على عا ِ‬ ‫يظل في مجلسنا قـاعـداً‬
‫وعِلْمي بأنَك ل تصدقُ‬ ‫سألتك بالِّ إل صدقْتَ‬
‫وكتب أبو عبد الرحمن‬ ‫حمَـقُ‬ ‫وإل فأنت إذاً أ ْ‬ ‫أتبغضُ نفسَك من ثقلها‬
‫العطوي إلى بعض إخوانه‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫‪129‬‬
‫سمْعَ لـبـي ِ‬
‫ب‬ ‫مَلت بعذْرٍ منك َ‬ ‫ت فلم أصل‬ ‫إذا أنت لم تُرْسِل وجئ َ‬
‫ول صاحباً إل بوجهٍ قـطـوبِ‬ ‫أتيتك مشتاقاً فلـم أرَ حـاجـبـاً‬
‫وكان أبو عبيدة معمر بن‬ ‫طلوعُ رَقيبٍ أو نهوضُ حبـيبِ‬ ‫كأني غري ٌم مُ ْقتَضٍ‪ ،‬أو كأنـنـي‬
‫سمَي جليسُنا زنباعاً‪.‬‬
‫المثنى يستثقلُ جليساً اسمه زنباع‪ ،‬فقال له رجل يوماً‪ :‬ما الزنبعة في كلم العرب؟ قال‪ :‬التثاقلُ‪ ،‬ولذلك ُ‬
‫وقد كَثر الناس في الثقلء‪ ،‬وأنا أستحسن قول جحظة‪ ،‬وإن كان غيره قد تقدمه في مثله‪ :‬السريع‪:‬‬
‫حمُولْ‬‫يا وقفة التّوْديع بين ال ُ‬ ‫يا لفظةَ ال ّنعْي بمَوْتِ الخليلْ‬

‫ال َمنْزِل يا َوجْهَ العَذولِ الثقيل‬ ‫يا شـربةَ الـيا َرجِ يا أُجـرة‬
‫أقفَر منٍ بعد النيس ا ْلحُلُولْ‬ ‫يا طلعة النعْش ويا مـنـزلً‬
‫ت بالـرَحـيلْ‬ ‫يا نعمة قد آ َذنَ ْ‬ ‫غضْبةِ‬ ‫يا نهضة المحبوب عن َ‬
‫للوعد مملوءا بعذرٍ طـويلْ‬ ‫يا كتاباً جاء من مُـخْـلِـفٍ‬
‫مستودعٍ فيها عزي ُز الثكُـولْ‬ ‫يا بُكرة الثكْلَى إلى حُـفْـرةٍ‬
‫ت عند الصيلْ‬ ‫بصَ ْرفِه ال َقيْنا ِ‬ ‫ظ مستَـعْـجِـلً‬ ‫يا وثبةَ الحاف ِ‬
‫على أخي سُقْ ٍم بماءِ البقـول‬ ‫ويا طبيباً قـد أتـى بـاكـراً‬
‫ليس إلى إخراجها من سبيل‬ ‫يا شوكةً في قـدم رخْـصَةٍ‬
‫سعْر عند ال ُمعِيل‬ ‫ويا صُعود ال ّ‬ ‫يا عِشْ َرةَ المجذوم في رَحْلـه‬
‫ونكسَ ًة من بعد بُ ْرءِ العلـيل‬ ‫يا َردّة الحاجب عن قَـسْـوةٍ‬
‫جحْظَة هذا هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك‪ ،‬وقال أبو الحسن علي بن محمد بن مُقْلة الوزيرُ‪ :‬سألتُ‬ ‫وَ‬
‫ن نكّسُوه أتانا آلة للمراكب البحرية‪ ،‬فقلت‪ :‬عَلَقٌ‪ ،‬إذا نكَس صارَ‬ ‫جحْظَة مَنْ لقبه بهذا اللقب؟ فقال‪ :‬ابنُ المعتز‪ ،‬لقيني يوماً‪ ،‬فقال لي‪ :‬ما حيوان إ ْ‬ ‫َ‬
‫قِلْعاً‪ ،‬قال‪ :‬أحسنت يا جحظة؛ فلزمني هذا اللقب‪ ،‬وكان ناتئ العينين جدّا‪ ،‬قبيحَ الوجه‪ ،‬ولذلك قال ابن الرومي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن فِـيل شِـطْـ َرنْـجٍ ومـن سـرطــان‬ ‫مِ ْ‬ ‫نبـئت جَـحْـظَة يسـتـعـيرُ جُـحـوظَـهُ‬
‫يا رحمتي لمُنادميهتحمَلواألمَ العيونِ للذّ ِة الذان‬
‫ل أنه كان ثقيلَ اليد في الضرب؛ وكان حُلْوَ النادرة‪ ،‬كثير الحكاية‪ ،‬صالح الشعْرِ‪ ،‬ول تزال‬ ‫وكان طيبَ الغناء‪ ،‬ممتدَ النفَس‪ ،‬حسنَ المسموع؛ إ ّ‬
‫تندر له البيات الجيدة‪ ،‬وهو القائل‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫وهجرت بعدك عامداً أصحابي‬ ‫طيَب لذتي وشـرابـي‬ ‫جانبت أ ْ‬
‫جدْ بجوابِ‬ ‫في حُسْنِ لفظك لم تَ ُ‬ ‫فإذا كتبتُ لكي أنزّه نـاظـري‬
‫عذَابي‬ ‫ونُحُولَ جسمي وامتدادَ َ‬ ‫إن كنت تنكر ذِلَتي وتذلّـلـي‬
‫للناظرين بكَـثْـرة الثـوابِ‬ ‫فانظر إلى َبدَنيِ الذي موّهتُـه‬
‫وقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫طعَهْ‬
‫ت قَ ْ‬‫جزْ ما عِش ُ‬ ‫لم أستَ ِ‬ ‫وإذا جفانـي صـاحِـبٌ‬
‫ج ْمعَه‬
‫رِ أزورها في كُلّ ُ‬ ‫وتركتُه ِمثْـلَ الـقُـبُـو‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫يَ ْلقَوْن بالْجَحدِ والكُفْرَان إحساني‬ ‫ضاقت عليَ وجوهُ الرأي في نَفَر‬
‫فما أُقابل إنساناً بـإنـسـانـي‬ ‫ف تصعيداً ومنحـدراً‬ ‫أقلَب الط ْر َ‬
‫وقال‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫فما لي صديقٌ وما لي عمادُ‬ ‫لقد مات إخواني الصالحون‬
‫وإن أقبل الليل ولى الرقـاد‬ ‫إذا أقبل الصبحُ وَلَى السرور‬
‫وقال يهجو رجلً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫خوفاً على نفسي مِنَ المأكولِ‬ ‫جرْتُ طعامه‬ ‫ل تعذلوني إن هَ َ‬
‫ت ُقتِلت بالمقتـولِ‬ ‫ومتى َقتَلْ ُ‬ ‫ت قتلتُه من بُخْـلِـه‬ ‫فمتى أ َكلْ ُ‬
‫ل إبراهيم ابن المهدي‪ ،‬فصرت إليه‪ ،‬فرأيتُ رجلً أسْودَ على فُرُش فد غاص فيها‪،‬‬ ‫ومن حكاياته ما حدّثني خالد الكاتبُ قال‪ :‬جاءني يوماً رسو ُ‬
‫فاستجلسني وقال‪ :‬أنشدني من شعرك‪ ،‬فأنشدته‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫من الشمس والبد ِر المنير على الرضِ‬ ‫ت منه عيني منظَ َريْنِ كـمـا رأتْ‬ ‫رأ ْ‬

‫‪130‬‬
‫ت بعضهُنً إلى بـعـ ِ‬
‫ض‬ ‫خدودٌ أضِيفَ ْ‬ ‫عشـيّة حـيّانـي بـوَرْد كـأنـــهُ‬
‫صدّ عن مقلتي غمضـي‬ ‫دموعيَ لما َ‬ ‫ونازعني كـأْسـاً كـأنّ حـبَـابَـهـا‬
‫كفعْل نسيم الريح بالغُصُـنِ الـغـضّ‬ ‫ح فـي حَـرَكـاتِـهِ‬ ‫وراح و ِفعْلُ الرا ِ‬
‫فزحف حتى صار في ثلثي الفراش‪ ،‬وقال‪ :‬يا فتى‪ ،‬شبهوا الخدودَ بالوَ ْردِ‪ ،‬وأنت شبهْتَ الورد بالخدود‪ِ ،‬زدْني فأنشدته‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫ك فلم أجدْها تَقْـبَـلُ‬ ‫عاتبتُ نفسي في هوا‬
‫ك فلم أطِ ْع من َيعْذُلُ‬ ‫ت داعيَها إلـي‬ ‫وأطع ُ‬
‫جهِك َت ْمثُلُ‬ ‫ه لحُسنِ َو ْ‬ ‫ل والذي جعل ال ُوجُو‬
‫جمَلُ‬ ‫ك من التّصَابي أ ْ‬ ‫ل قلتُ إنّ الصبرَ عن‬
‫فزحف حتى انحدر عن الفرش ثم قال لي‪ :‬زدْني‪ ،‬فأنشدته‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫والضّنى إن لم تَصلني وَاصلي‬ ‫حبّيك سَريعًا قـاتـلـي‬ ‫عِش ف ُ‬
‫سقْ ُم بجسـ ٍم نـاحـلِ‬ ‫فيك وال ّ‬ ‫ظَفرَ الحبّ بـقَـلَـب َدنِـفٍ‬
‫ترَكاني كالقضـيب الـذّابـل‬ ‫فهما بين اكتـئابٍ وضَـنًـى‬
‫فبكائي لـبـكـاء الـعـاذِل‬ ‫وبكى العاذِلُ لي مـن رحـمة‬
‫ي نصفها‪.‬‬ ‫فنَعر طربَاً وقال‪ :‬يَلبَق؛ كم معك لنفقتنا؟ قال‪ .‬ثمانمائة وخمسون ديناراً‪ .‬قال‪ :‬أقسمها بيني وبين خالد‪ ،‬فدفع إل َ‬
‫وأنشد جحظة أو غيره ولم يسمّ قائله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫حدَثان الدهر والبدُ‬ ‫أفناهم َ‬ ‫ل يبعد الّ إخواناً لنا سلفوا‬
‫حدُ‬‫ول يَوؤوب إلينا ِم ْنهُمُ أ َ‬ ‫نمِدّهمْ كل يو ٍم من بقيّتنـا‬
‫ما قيل في السكّين‬
‫وكان أحمد بن يوسف جالسًا بين يدي المأمون‪ ،‬فسأل المأمون عن السكّين فناوله أحمد السكين‪ ،‬وقد أمسك بنِصَابها‪ ،‬وأشار إليه بالحدّ‪ ،‬فنظر‬
‫خذِي النّصاب؛ وإشارتي إليه بالحدّ؛ وإنما تفاءلت بذلك أن يكونَ له الحدّ على‬ ‫إليه المأمون نظر مُنكِر؛ فقال‪ :‬لعل أمي َر المؤمنين أنكر عليّ أ ْ‬
‫أعدائه‪ ،‬فعجب المأمون من سرْعَ ِة فطنته‪ ،‬ولطيف جوابه‪.‬‬
‫صدْرُه‪،‬‬
‫عرُضَ َ‬ ‫سنُها ما َ‬
‫شعِثت‪ ،‬وأحْ َ‬ ‫صقُلُها إذا َنبَتْ‪ ،‬ويطْلِقُها إذا وقفت‪ ،‬ويلمّها إذا َ‬ ‫وقال بعض الكتاب‪ :‬السكين مسّ القلم يشحذها إذا كلّت‪ ،‬ويَ ْ‬
‫حدّه‪ ،‬ولم يفصل على القبضة نِصَابُه‪.‬‬ ‫وأُرْ ِهفَ َ‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم يرثي سكيناً سرقت له‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ما يستحثُونَ من أخذِ السـكـاكـينِ‬ ‫يا قاتـل الـلّـه كـتـابَ الـدواوين‬
‫ف مَسْـنُـونِ‬ ‫في ذات ح ّد كحدّ السي ِ‬ ‫لقد دهاني لطيفٌ مـنـهـمُ خَـتِـلٌ‬
‫ب مَـفْـتُـون‬ ‫منها دوا ُة فتًى بال ُكتْـ ِ‬ ‫عمْرانٍ بمـوقـعـهـا‬ ‫ت بعد ُ‬ ‫فأ َقفْرَ ْ‬
‫كانت على جائرِ القلم تُـعْـدِينـي‬ ‫تبكي على مُديَةٍ أودى الزمان بـهـا‬
‫نحتاً وتسْخِطها بَرْيًا فـتُـرْضـينـي‬ ‫كانت تقدّمُ أقلمـي وتَـنْـحَـتُـهـا‬
‫ينوب للعين من نَ ْورِ الـبـسـاتـين‬ ‫وأضحك الطرس والقرطاس عن حَلل‬
‫خ ّردِ الـعِـين‬ ‫عادت كبعض خدودِ الْ ُ‬ ‫فإن قَشَرت بها سودا َء من صُحـفـي‬
‫محسَنات بأصنـاف الـتّـحـاسـين‬ ‫ج ْزعُ النصاب لطيفات شَـعَـائرُهـا‬
‫قال الله لها سبحـانـه‪ :‬كُـونـي‬ ‫هيفاء مُرْهَـفَةٌ بـيضـاء مُـذْهَـبة‬
‫وكان في ذِلَةٍ منـهـا وفـي هُـونِ‬ ‫لكن مقطيَ أمسى شـامـتـاً جَـ ِذلً‬
‫عمّـنْ ل ُيدَانـينـي‬ ‫جَاهي لصَ ْونِيهِ َ‬ ‫فَصِين حتى يُضاهي في صـيانـتـه‬
‫جدٍ عِوَضًا مـنـهـا يُسـلـينـي‬ ‫بوا ِ‬ ‫ولستُ عنها بسَـالٍ مـا حَـيِيتُ‪ ،‬ول‬
‫منها فدينـاه بـالـدنـيا وبـالـدين‬ ‫ت بِـهِ‬
‫ولو يَر ُد فِـدَاء مـا فَـجِـعـ ُ‬
‫ألفاظ لهل العصر في صفات السكاكين‬
‫ن المنية تبرق‬ ‫صدْرِ‪ ،‬مُخْطَفة الخصْر‪ ،‬يجولُ عليها فِرند ال ِعتْق‪ ،‬ويموج فيها ماء الْجَوهر؛ كأ ّ‬ ‫سكّين كأنّ القدرَ سائقُها‪ ،‬أو الجَل سابقها‪ ،‬مُرْ َهفَة ال َ‬
‫ص ْبغَها‪ ،‬وحَبّ القلوب كستهْ لباسها‪ .‬أخذ لها حديدها‬ ‫حدَق نفضَت عليه ِ‬ ‫من حدها‪ ،‬والجل يَلْمع من متنها‪ ،‬رَكبَتْ في نِصَاب آبنوس‪ ،‬كأنَ ال َ‬
‫سنَا نَار‪ ،‬ذات غِرار ماضٍ‪،‬‬ ‫ت نَهار‪ ،‬أو مجمر أ ْبدَى َ‬ ‫الناصح بخط من الروم‪ ،‬وضرب لها نصابها الحالِك بسهم من الزنج‪ ،‬فكأنها ليل من تح ِ‬
‫ت بنابِ الُفعوان‪.‬‬ ‫ت اتَقَ ْ‬
‫ط ْ‬‫وذبَاب قاض‪ .‬سكيِن ذات ِمنْسَر بازِيّ‪ ،‬وجَوْهر هوائي‪ ،‬و ِنصَاب زنجي‪ ،‬إن أُرضِيت أولت َمتْناً كالدهان؛ وان ُأسْخِ َ‬
‫عدَاء‪ ،‬وتنف ُع نَفْعَ الصدقاء‪ .‬هي أ ْمضَى من القَضَاء‪ ،‬وأنْ َفذُ من ال َقدَر المتَاح‪ ،‬وأقْطَ ُع من‬ ‫ن من التلَقْ‪ ،‬وأقْطَع من الفراقْ‪ ،‬تفعل ِفعْلَ ال ْ‬ ‫سكين أحْسَ ُ‬
‫خبَر‪ ،‬وتملَكتْ عِنان القلب والبصر‪ ،‬ولم يُحْوجهَا عتْقُ ا ْلجَوهَر‬ ‫حسْن المنظر‪ ،‬وكَرَمَ الم ْ‬ ‫ظبَةِ السيف الحُسام‪ ،‬وألمع من البَ ْرقِ في الغَمام‪ .‬جمعت ُ‬ ‫ُ‬
‫إلى إمهاء الحجر‪.‬‬
‫الستدعاء إلى المؤانسة والمنادمة‬
‫صلُ فصولَه بتشوقك‪ ،‬فيذهِب ِذكْرُك مَلَلَ السامر‪ ،‬و َنعْسَة الساهر‪ .‬فقال القاسم‪ :‬مثلك ذكر‬ ‫سمَ ٍر نَ ِ‬
‫قال محمد بن أنس للقاسم بن صبيح‪ :‬ما زِلنا في َ‬
‫ضتُم‪.‬‬
‫صديقه فأطراه‪ ،‬واعتذر إليه فأرضاه‪ ،‬ولو كنتم آ َذنُتمُوني كنت أحدكم‪ ،‬مسروراً بما به سُررتم‪ ،‬مفيضًا فيما فيه أفَ ْ‬
‫قال بعض الظرفاء‪ :‬شَرْطُ المنادمة قِلّة الخلف‪ ،‬والمعامل ُة بالنصاف‪ ،‬والمسامحة في الشراب‪ ،‬والتغافل عن ردّ الجواب‪ ،‬وإدمان الرضا‪،‬‬
‫ستْر ال َعيْبِ‪ ،‬وحفظ الغيب‪.‬‬ ‫واطّرَاح ما َمضَى‪ ،‬وإسقاط التحيات‪ ،‬واجتناب اقتراح الصوات‪ ،‬وأكل ما حضر‪ ،‬وإحضار ما تيسر‪ ،‬و َ‬
‫وقد أحسن أبو عبد الرحمن العطوي في قوله‪ :‬الوافر‪:‬‬

‫‪131‬‬
‫فأوّلها التـزين بـالـ َوقَـا ِر‬ ‫حقوقُ الكأس والنّدْمانِ خمس‬
‫ن ذِمارِ‬ ‫حمَتِ السماحة مِ ْ‬ ‫فكَمْ َ‬ ‫وثانيها مسامَحَةُ الـنَـدَامَـى‬
‫برية مَح ْتدِاً‪ ،‬ت ْركُ الفَـخَـارِ‬ ‫خيْرِ الْ‬ ‫ت ابنَ َ‬ ‫وثالثها‪ ،‬وإن كن َ‬
‫سوى حقّ القرابة والجـوارِ‬ ‫ورابعها وللـنـدْمـان حـق‬
‫ذي حدّثته ثَ ْوبَ اختـصـارِ‬ ‫إذا حدَثته فاكْسُ الحـديث ال‬
‫غَاني والحاديثِ القِـصـار‬ ‫ث النبيذُ بمثل حسن ال‬ ‫ح َ‬ ‫فما ُ‬
‫على كرم الطبيعةِ والنَجـار‬ ‫وخامس ٌة يدكُ بهـا أخـوهـا‬
‫ن الذنْب فيه لِلْـعُـقَـارِ‬
‫فإ ّ‬ ‫حديث المس ننساه جمـيعـاً‬
‫عنْـدَ الـعِـثـار‬
‫له بإقالة ِ‬ ‫ومن حكَمتَ كاسَك فيه فاحْكمْ‬
‫وقال حسان بن ثابت‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫إذا ما كان َمغْثٌ أو لِحَاء‬ ‫نُوََليْها الملمةَ إنْ أَل ْمنَـا‬
‫سكْرِه عُرَف ما جرى‪ ،‬فلبِس‬ ‫ت منه الكأس أقبل يعتز عليه بتعليمه إياه‪ ،‬وأساء مُخاطبته‪ ،‬فلما أفاق من ُ‬ ‫وشرب اليزيدي عند المأمون فلما أخذَ ْ‬
‫أكفانه‪ ،‬ووقف بين يديَ المأمون فأنشده‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ولو لم يكن ذنبٌ لما عُرِف الـعـفـوُ‬ ‫أنا المذنبُ الخطَاءُ والـعـفـوُ واسـعٌ‬
‫سكْرُ والصّحو‬ ‫كَرِ ْهتَ وما إن يستوي ال ّ‬ ‫ت منّيَ الكاسُ بـعـضَ مـا‬ ‫َثمِلْتُ فأ ْبدَ ْ‬
‫وفي مجلسٍ ما إنْ يجوز به اللَـغْـوُ‬ ‫ول سيما إن كنـتُ عـنـد خـلـيفةٍ‬
‫وإل يكن عَفْوٌ فقد قَصُر الْـخَـطْـوُ‬ ‫فإن َتعْفُ عني أُلْفِ خَطويَ واسـعـاً‬
‫فقال المأمون‪ :‬ل تثريبَ عليك‪ ،‬فالنبيذ بساط يُطوَى بما عليه‪.‬‬
‫ت أن النبيذ بِساط‬
‫وشرب كورَان المغني عند الشريف الرضي‪ ،‬فافتقد رِداءَه‪ ،‬وزعم أنه سرق‪ .‬فقال له الشريف‪ :‬ويحك! مَنْ تتهم منا؟ أما علم َ‬
‫يطوى بما عليه؟ قال‪ :‬انشروا هذا البساط حتى أخذَ ردائي واطوَوه إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫جدَار‪ ،‬كاتب العباس بن أحمد بن طولون‪ ،‬ينقل أخبارَ أبي حفص عمر بن أيوب‪ ،‬كاتب أحمد بن طولون‪ ،‬على الشراب‬ ‫وكان أبو جعفر أحمد بن َ‬
‫إلى العباس‪ ،‬فصار إليه أبو حفص فقال‪ :‬يا أبا جعفر‪ ،‬إنما مجلس المدام مجلس حرمة‪ ،‬وداعية أنس‪ ،‬ومسرح لبانة‪ ،‬و َمذَاد هَمّ‪ ،‬ومَرتع لهو‪،‬‬
‫ومعهد سرور‪ ،‬وإنما توسطته عند من ل يتهم غَيبَه‪ ،‬ول يخشى عتبه‪ ،‬وقد أتصل بي ما تنهيه إلى أميرنا أبي الفضل أعز ال أمره‪ ،‬من أخبار‬
‫مجالستي‪ ،‬فل تفعَل‪ ،‬وأنشده‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫قولَ ساعٍ بالنصحِ لو سمعوه‬ ‫ولقد قلت لـلخـلّء يومـاً‬
‫للمودات بينهم وضَـعُـوهُ‬ ‫س المدَام بِـسـاطٌ‬ ‫إنما مَجِل ُ‬
‫من نعيمٍ ولـذّة رفـعـوه‬ ‫فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا‬
‫حافظٌ‪ ،‬ما أتوه أن يمنعـوهُ‬ ‫وهمُ أحْرياء‪ ،‬إنْ كان منهـم‬
‫فاعتذر ابن جدار وحلف ما فعل‪ ،‬وقام من مجلسه‪.‬‬
‫وأنشد أبو حفص‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فأنْسِت بعدَ ِودَادِهِ بفـراقِـهِ‬ ‫ت منه سجيّة‬ ‫كم من أخٍ أ ْوجَس ُ‬
‫فتركتُه مستمتعاً بخـلَقـهِ‬ ‫لم أحمد اليام منه خـلـيقَةَ‬
‫عوّل أبو حفص في أكثر كلمه على َنقْل كلم أبي العباس الناشئ في الشراب‪ ،‬والبيات التي أنشد أولً له‪.‬‬
‫سكْرِ‪ ،‬على ظهور الخمر‪ ،‬وطوي بساطُ الشراب‪ ،‬على ما فيه من خطإ أو صواب‪ .‬متابعة العُقار‪،‬‬ ‫حمِلَتْ أ ْوزَارُ ال ُ‬ ‫أبو القاسم الصاحب‪ :‬قدماً ُ‬
‫تعذر في خَلْع ال ِعذَار‪ ،‬و ُتغْني عن العتذار‪ .‬متابعة الرطال‪ ،‬تبطل سورة البطال‪ ،‬و َت َدعُ الشيوخ كالطفال‪.‬‬
‫كتب إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى بعض الجِلّة يستدعيه‪ :‬ي ْومُنا يوم َليّنٌ الحواشي‪ ،‬وَطِيءُ النواحي؛ وسماؤنا قد أقبلت‪ ،‬ورعدت بالخير‬
‫وبَ َرقَتْ‪ ،‬وأنت ُقطْب السرور‪ ،‬ونظام المور؛ فل تف ِردْنا فنقلّ‪ ،‬ول تنفرد عنا فنذلّ‪.‬‬
‫وكتب بعض أهل العصر ‪ -‬وهو السّرِي الموصلي ‪ -‬إلى أخ له يستدعيه إلى مؤانسته‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وبِشرك ما هبّت رِياح‪ ،‬مَوَاهِـب‬ ‫خِلَلك‪ ،‬ما اختل الصديق‪ ،‬سحَـائِبُ‬
‫جرِ خِل وصاحِـبُ‬ ‫إذا رَاعَها بالهَ ْ‬ ‫ح تُؤثِر وَصلَـهـا‬ ‫وأنت شقيق الرُو ِ‬
‫ثما َر مَـلَ ٍه كـلـهـنّ أطَـايبُ‬ ‫ف نجتَني‬ ‫ونحن خلل ال َقصْفِ ولعَ ْز ِ‬
‫بزَ ْهرٍ كما زانَتْ سما ًء كَـوَاكِـبُ‬ ‫وعندي لك الرّيحان زِين بِسَـاطُـهُ‬
‫مُص ْندَلةً تختالُ فيها الـكَـوَاعِـب‬ ‫جيْشٌ كما انجـرَت ذيولُ غَـلئِل‬ ‫وَ‬
‫مُ َفنّدة عن جانبيهـا الْـجَـنـائِب‬ ‫وقد أطلِقَت فيه الشمائِل‪ ،‬وانثـنَـتْ‬
‫حياتهم أن تستلـذ الـمـشـارِبُ‬ ‫وحافظة ماءَ الـحـياةِ لـفِـتـيَةٍ‬
‫يلَفُ بها أ ْفوَاهُـه والَـسـبـائِبُ‬ ‫نُسَ ْربِلُها أخفَى اللـبـاس‪ ،‬وإنـمـا‬
‫تشاكله في لـونـه وتُـنـاسِـبُ‬ ‫جدِ لـم تـزل‬ ‫سدٍ مثل الزّبرْ َ‬ ‫على جَ َ‬
‫تَص ّوبَه في أحشائهـا وَهْـ َو ذَائِبُ‬ ‫جيْن سبـائكـاً‬ ‫إذا استودعت حُرّ اللُ َ‬
‫جرِي ول هو ذاهِـب‬ ‫من النّد ل يَ ْ‬ ‫وشوق رؤوس القوم غَي ٌم معـلًـق‬
‫أناملُ بيضٌ للطـبـول تـلَعِـب‬ ‫خمْرُ الـكـؤوس ورَعْـدُهُ‬ ‫بوارقُهُ َ‬
‫رَغَى جانب منه وأ ْومَضَ جانـبُ‬ ‫ول عائق يثْني عِنا َنكَ عَـنْ هـوًى‬

‫‪132‬‬
‫ب يو ٍم بـادَرتْـهُ الـنـوَائب‬
‫ويا رُ ّ‬ ‫ف من القَـذَى‬ ‫فبادِرْ؛ فإن اليوم صا ٍ‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫تَدمَى عـلـيه أ ْودَاج إبـرِيقِ‬ ‫ل شَيْء يسلي همَي سوَى َقدَحٍ‬
‫عدُ تصـفـيقِ‬ ‫ق ابتسامٍ ورَ ْ‬ ‫بَرْ ُ‬ ‫في غيْ ِم َندّ يُزجِي سَـحـائبَـهُ‬
‫وقال الحسن بن محمدٍ الكاتب يصف طبلً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫سدِ‬
‫جَ‬ ‫تُلْهى بشيءً له رَأْسان في َ‬ ‫يا حّبذَا يومنا نَ ْلهُو بـمُـلْـهِـيَةٍ‬
‫شدّة الشدّ مقرونَانِ في صَ َفدِ‬ ‫من ِ‬ ‫شدّ هذا إلى هذا كأنـهـمـا‬ ‫قد َ‬
‫بكل طاقتها لطمـاً بـل حَـرَد‬ ‫خدّيهِ إذا ضـ َربَـتْ‬ ‫نَظَل نلطم َ‬
‫ضغَيْ أسَـد‬ ‫ج من ما ِ‬ ‫كأنه خار ٌ‬ ‫ض ِربُه‬
‫ت منه حين تَ ْ‬ ‫فتسمعُ الصو َ‬
‫ومن ألفاظهم في الستدعاء‬
‫غنَاؤه ل طاب أو َتعِيَه أذنَاك‪ ،‬فأمَا خدودُ نارنجه فقد احمرَت خَجَلً‬ ‫س قد أبت رَاحه أن تصفوَ لنا أو تتناولَها ُيمْناك‪ ،‬وأقسم ِ‬ ‫نحن في مجِل ٍ‬
‫لبطائك‪ ،‬وعيون نَرْجِسه قد حدقَت َت ْأمِيلً للقائك‪ ،‬فبحياتي عليك إل تعجلت‪ ،‬وما تمهلت‪.‬‬
‫جدَتُه‪ ،‬وإذ قد غابت شمس السماء عنّا‪ ،‬فل بد أن تدنُوَ الرض منّا‪ .‬أنت من ينتظم به شمْل‬ ‫ب قد أخَلقَت ِ‬ ‫نحن بغيبتك كعِقد تغيبَتْ وَاسِطتَه‪ ،‬وشبا ٍ‬
‫سهْمِ‪ ،‬واطلع علينا طلوعَ النجم‪ .‬ثِبْ إلينا وثوبَ الغزال‪ ،‬واطلُعْ علينا طلوعَ الهِلل‪ ،‬في غرّة‬ ‫طيَرانَ ال ّ‬ ‫الطرَب‪ ،‬وبلقائه يبلغُ كل أرَب‪ .‬طِر إلينا َ‬
‫ت أن تحضرنا لتتصِل الواسِطة‬ ‫شوّال‪ .‬كنْ إلينا أسرعَ من السهم إلى ممرّه‪ ،‬والماء إلى مقره‪ .‬جش ْم إلينا قدمك‪ ،‬واخلَع علينا كَرمَك‪ ،‬وإن رأي َ‬
‫بالعِقد‪ ،‬ونَحْصل بقُ ْربُك في جَنةِ ا ْلخُ ْلدِ‪ ،‬وتُسْهم لنا في قربِك الذي هو قوت النفس‪ ،‬ومادةُ النْس‪.‬‬
‫ولهم في استدعاء الشراب‬
‫قد تألّف لي شَمل إخوانٍ كان يفترق لعَوَز المشروب‪ ،‬واعتدنا فضلَك المعهود‪ ،‬وو َردْنا بَحْرَك المورود‪ ،‬وأنا ومَن سامحني الدهرُ بزيارته من‬
‫ف بنا اختيارُك من النشاط والفتور‪ ،‬ويَرتَضِيه لنا إيثارك من الهم والسرور‪ ،‬والمرُ في ذلك إليك‪ ،‬والعتمادُ‬ ‫إخواني وأوليائك وقوفُ بحيث يق ُ‬
‫عمَرَ أوْطانَ‬‫ت أن تكِلَني إلى أولى الظنيْن بك فعلت‪ .‬ألطف المنَن مَوقعاً‪ ،‬وأجَلُها في النفوس موضعاً‪ ،‬ما َ‬ ‫جمْعِ ش ْملِ السمرَةِ عليك‪ ،‬فإن رأي َ‬ ‫في َ‬
‫سمْط الثريا‪ ،‬فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء‬ ‫ل المودةِ والُلفة‪ .‬قد انتظمتُ في رُفقَةٍ لي في ِ‬ ‫شمْ َ‬
‫المس ًرةِ‪ ،‬وطرد عوارض الهمَ والفكرة‪ ،‬وجمع َ‬
‫ال ُمدَام عُذنا كبنات َنعْش‪ ،‬والسلم‪ .‬فرأيك في إرواء غلّتنا بما ينقعها‪ ،‬والطَول على جماعتنا بما يجمعها‪.‬‬
‫ولهم في الكتابة عن الشراب‬
‫ط لتناول ما يستمد البِشر‪ ،‬ويشرح الَصدْر‪ ،‬قد استمطر سحابةَ النس‪ ،‬واستدرّ حلُوبة السرور‪ ،‬و َقدَح زَن َد اللهو‪ ،‬فهو يَمْرِي دِما َء العناقيد‪،‬‬ ‫قد نَشِ َ‬
‫ق الدَنان‪ ،‬و َينْظم ع ْقدَ النَ ْدمَان‪.‬‬ ‫ويَفْصِد عرو َ‬
‫كتب الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب وقد اصطبح في يوم دجْنٍ لم يمطر‪ :‬أما ترى تكافؤ هذا الطمع واليَأس في يومنا هذا بقرْب المطر‬
‫وبعده‪ ،‬كأنه قول كثير‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت مما بيننا وتَـخَـلّـت‬ ‫تَخَلي ُ‬ ‫وإني َو َتهْيامي بعزة بعـدمـا‬
‫َتبَوَأ منها للمَقيل اضمحلـتِ‬ ‫لكالمرتَجِي ظل الغمامةِ‪ ،‬كلّما‬
‫ت أمنيتي إلَ في لقائك‪ ،‬فليت حِجاب النأي هتك بيني وبينك! رقعَتي هذه وقد دارت زجاجاتٌ أوقعَتْ بعقلي ولم َتتَحيّفه‪ ،‬وبعثَت نشاطاً‬ ‫وما أصبحَ ْ‬
‫حركني للكتاب؛ فرأيك في إمطاري سروراً بسار خَبرك؛ إذ حُرِمت السرور بمَطَر هذا اليوم‪ ،‬موفّقا إن شاء ال‪.‬‬
‫ن بن وهب‪ :‬وصل كتاب المير أيّده الّ و َفمِي طاعِم ويدي عامِلة‪ ،‬ولذلك تأخرّ الجواب قليلً‪ ،‬وقد رأيت تكافؤ إحسان هذا اليوم‬ ‫وكتب الحس ُ‬
‫ق به دماً؛ لنه إذا أشمس حكى حُس َنكَ وضياءك‪ ،‬وإن أمطر حكى جودك وسخاءك‪ ،‬وإن غام أشبه ظِلَك‬ ‫وإساءته‪ ،‬وما استوجب ذنباً استح ّ‬
‫ل المير عني نعمة من نعم الّ‪ ،‬عز وجل‪ ،‬أُعفَي بها آثارَ الزمان السيئ عندي! وأنا كما يحِب المير صرف الُ الحوادث عنه‪،‬‬ ‫وفِناءَك‪ ،‬وسؤا ُ‬
‫وعَن حَظي منه‪.‬‬
‫وذم رجل رجلً فقال‪ :‬دعواته ولئم‪ ،‬وأ ْقدَاحه مَحَاجم‪ ،‬وكؤوسُه محابر‪ ،‬ونوادره بوادر‪.‬‬
‫ل ذِكرُه في وسط الطعامِ لشيءٍ خطر ببالي من ِنعَم ال‬ ‫ن من النبيذيين‪ ،‬فسمعني وأنا أحمدُ ال ج ّ‬ ‫وقال أبو الفتح كشاجم‪ :‬كان عندي بعض المجّا ِ‬
‫التي ل تُحْصَى‪ ،‬فنهض وقال‪ :‬أُعْطِي الّ عهداً إن عاودْتُ! وما معنى التحميد هنا؟ كأنك ُتعِْلمُنا أنا قد شبعنا‪ .‬ثم مال إلى الدواة والقرطاس‪،‬‬
‫وكتب ارتجالً‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وَلكِنْ ليس في أولَى الطعام‬ ‫ح ْم ُد ال يَحْسُنُ كلّ وقـتٍ‬ ‫وَ‬
‫وتأمرُهم بإسراع الـقِـيَام‬ ‫ف فـيهِ‬
‫شمُ الضيا َ‬ ‫لنك تُحْ ِ‬
‫وذلك ليس من خُُلقِ الكِرَامِ‬ ‫شبْـعٍ‬‫شبِعُوا ب َ‬
‫وتؤذِنهم‪ ،‬وما َ‬
‫وكتب المَرِيمي إلى بعض إخوانه وقد ترك النبيذ‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ن بِرّ وإحـسـانِ‬ ‫نُسْكًا فما تُبْتَ عَ ْ‬ ‫ش َربُها‬
‫ت تُبْتَ عن الصهبا ِء تَ ْ‬ ‫ن كُن َ‬
‫إْ‬
‫ل ما تاب إخوانـي‬ ‫فيما فعلت فق ْ‬ ‫عذَلوا‬‫تُب راشداً‪ ،‬واسقِنا منها‪ ،‬وإن َ‬
‫وقال بعض النبيذيين‪ ،‬وقد ترك الشرب‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ت مكانَها الماءَ ال َقرَاحـا‬ ‫أ َقمْ ُ‬ ‫تحامَوْني لتَ ْركِي شُرْب راح‬
‫ت أكثَرَهم ِمرَاحَـا‬ ‫إذَا ما كُن ُ‬ ‫وما ان َفرَدوا بها دُوني ِلفَضلٍ‬
‫وأطرفهُم وأظرَفهم‪ ،‬مزاحا‬ ‫وأرفعهم على وتر وصَنـجٍ‬
‫صيَاحا‬ ‫وإن صاحَوا عَلَوتهم ِ‬ ‫إذا شقّوا الجيوبَ شَققت جَيبِي‬
‫فِقر للنبيذيين‬

‫‪133‬‬
‫ف من النبيذ‪ ،‬ما للعقَارِ وال َوقَارِ‪ .‬إنما العيش في الطيش‪ ،‬الراح ترياق سمَ الهَمّ‪ .‬النبيذ ستر فانظر مع مَن تهتكه‪ .‬اشرب‬ ‫ما جمِشَت الدنيا بأَط َر َ‬
‫النبيذ ما استبشعته‪ ،‬فإذا استطَبتَه فدَعه‪ .‬لول أنّ المخمور يعلم قصَته لقدم وصيته‪ .‬الصاحِي بين السكارى كالحي بين الموتى؛ يضحك من‬
‫عَقلِهم‪ ،‬ويَأكل من نَقلهم‪ .‬أحمق ما يكون السكرَان إذا تعاقل‪ .‬التبذل على النبيذ ظَرف‪ ،‬والوقار عليه سخف‪ ،‬حد السكران أن تَغرب الهموم‪،‬‬
‫ويظهر السرّ المكتوم‪.‬‬
‫وقال الحسن بن وهب لرجل رآه يعبس عند الشراب‪ :‬ما أنصَفتها‪ ،‬تَضحك في وجهك‪ ،‬وتَعبس في وَجهها‪.‬‬
‫وقال الطائي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ُي َعبّس تعبيسَ المقدّمِ للِقَتـل‬ ‫إذا ذاقها‪ ،‬وَهيَ الحياة‪ ،‬رأيتَه‬
‫وقد أحسن الشيخ صدر الدين حيث قال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫فعند بَسْطِ المَوالي يحفظ الدب‬ ‫سمُ لي‬ ‫وأن ُأقَطَب وَجْهي حينَ َتبْ ِ‬
‫ف فيذهب إلى الرأس‪.‬‬ ‫س يُبعَثُ إلى الْجَو ِ‬ ‫ل النبيذَ‪ ،‬فقيل له‪ :‬لم تركتَه‪ ،‬وهو رسولُ السرورِ إلى القلب؟ قال‪ :‬ولكنه رسولُ بأ ٍ‬ ‫وترك رج ٌ‬
‫وقيل لبعضهم‪ :‬ما أصبّك بالخمر! فقال‪ :‬إنها تُسْرج في يَدِي بنورها‪ ،‬وفي قلبي بسرورها‪ ،‬كأنّ الناشئ نظر إلى هذا الكلم فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فكأنها من دونها فـي الـرّاحِ‬ ‫ف كؤُوسُهـا‬ ‫ح إذا عَلتِ الك ّ‬ ‫را ٌ‬
‫ضحْضَاحِ‬ ‫سبَحنَ في َ‬ ‫من نورِها يَ ْ‬ ‫ت ممّا حـولـهـا‬ ‫وكأنما الكَاسَا ُ‬
‫طَلع المسا ُء بغُرّةِ الصـبـاحِ‬ ‫غسَق الظلم ضِياؤُها‬ ‫لو بُثّ في َ‬
‫ت بلذتهـا إلـى الرواح‬ ‫وسَرَ ْ‬ ‫ضتْ على الجسام ناصعَ لَ ْونَها‬ ‫نف َ‬
‫البيت الول كقول البحتري‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ف قائم ٌة بغـيرِ إنـاء‬ ‫في الك َ‬ ‫يخفي الزجاجةَ ضوءَها‪ ،‬فكَأنها‬
‫وللناشئ في هذا المعنى‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ونَذل أكنافَ الـدجـا لـضـيائهـا‬ ‫ومُدامة يخفى النـهـار لـنـورهـا‬
‫فكأنهـا جـعـلـت إنـاءَ إنـائهـا‬ ‫صبت فأحدق نورها بـزجـاجـهـا‬
‫متقاصرَ الرجَاء عـن أرْجـائهـا‬ ‫وترىَ إذا صبت بَدَت في كـأسـهـا‬
‫جهَـا مـن مَـائهـا‬ ‫تَمتَاز عند مِزا ِ‬ ‫ن مُ ِزجَـتْ لـرقةِ لـونِـهـا‬ ‫وتكادُ إ ْ‬
‫في ضوئها‪ ،‬كاللَيلِ‪ ،‬في أضْـوائهـا‬ ‫ستْ بها‬ ‫صفراء تُضْحِي الشمسُ‪ ،‬إن قِي َ‬
‫َكدِر الدِيمة عند حُسْن صـفـائهـا‬ ‫وإذا تصـفـحْـتَ الـهـواءَ رأيتـهُ‬
‫تودِي بـه اليام مِـن أجْـزَائهــا‬ ‫تَزدَاد مِن كرمِ الطبـاعِ بـقَـدرِ مـا‬
‫ن دَائهـا‬ ‫من سقمهـا‪ ،‬ودَوَائهـا مِـ ْ‬ ‫ل شيء أعجَب من تَـوَلُـدِ بُـرئِهـا‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فيها من الوْصاف من قُـ ْربِ‬ ‫ت بما‬ ‫إن رمتَ وصفَ الراجِ فأ ِ‬
‫في كَأسِها بالبـاردِ الـعَـذْبِ‬ ‫هي ماء ياقوتٍ‪ ،‬وإن مُزِجَـتْ‬
‫كللتَه بالـلـؤلـؤ الـ َرطْـبِ‬ ‫فكأنهـا وحـبَـابُـهـا ذهَـبٌ‬
‫ولهل العصر‪ :‬الدنيا معشوقةٌ رِيقُها الراح‪ .‬أخذ هذا المعنى من قول ابن الرومي في صاعد بن مخلد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وهل رِي ُقهَا إلَ الرحيقُ الموَ َردُ؟‬ ‫فتًى هاجرَ الدنيا وحرَم رِيقَـهـا‬
‫أبَاحته منها مَ ْرشَفـًا ل يُصَـرّد‬ ‫طمِعت في عَطْفِهِ ووصالِه‬ ‫ولو َ‬
‫الخمرُ أشبهُ شيء بالدنيا؛ لجتماع اللذات والمرارة فيها‪ .‬الخمر مصباحُ السرور‪ ،‬ولكنها مفتاح الشرور‪ .‬لكل شيء سر‪ ،‬وسرُ الراحِ السرور‪ .‬ل‬
‫ل مع النديم الُصَافي‪.‬‬ ‫يطيبُ ال ُمدَام الصافي‪ ،‬إ ّ‬
‫ومن ألفاظهم في صفات‬
‫مجالس النس وآلت اللهو وذكر الخمر‬
‫شمَائِلك‬
‫مَجْلِس رَاحُه ياقوت‪ ،‬ونَوْره ورد‪ ،‬ونَارنْجُه ذَهَبٌ‪ ،‬ونرجِسه دينار ودرهم‪ ،‬يحملهما زبرجَد‪ .‬عندنا ُأتْرُج كأنه من خَ ْلقِك خُلِق‪ ،‬ومن َ‬
‫لنْسِ خافقةٌ‪ ،‬وأَلْسُن‬
‫ت فيه الوتار تتجاوب‪ ،‬والقداح تتناوب‪ .‬أعلمُ ا ُ‬ ‫خذَ ْ‬
‫سُرِق‪ ،‬ونَارَنج ككُرَاتِ من سفَن ذهّبت‪ ،‬أو ثدي أبكار خلّقت‪ .‬مجلس أَ َ‬
‫ت تَدور‪ ،‬وبروقِ رَاح‪ ،‬وشموس أ ْقدَاح‪ .‬قد نشأت غَمامة الندّ‪ ،‬على بساط ال َو ْردِ‪ .‬مجلس قد تفتحت فيه‬ ‫الملهي ناطقة‪ .‬ونحن بين بدور‪ ،‬وكاسا ٍ‬
‫ن العيدان‪ ،‬وقامَت خطبا ُء الوتار‪ ،‬وهبت رياحُ القداح‪ ،‬وطَلعَتْ‬ ‫عيونُ النرْجِس‪ ،‬وفاحت مَجامِير الُترُج‪ ،‬وفتقت فَارَات النّارَنج‪ ،‬ونطقت ألسُ ُ‬
‫ت عيو ُنهَا‪ ،‬فجعلت في قدر من الرض‪ ،‬وتخيّرت فصوصها‪ ،‬فنُقِلَت‬ ‫كواكبُ ال ًندْمان‪ ،‬وامتدَتْ سماء الّندّ‪ .‬مجلس مَنْ رآه حسب الجنَان قد اصْطَ َف ْ‬
‫لنْس أعلمه‪ .‬قد َهبّت للنْس ريح بَرْقها الراح‪ ،‬وسحابها القداح‪ ،‬ورعودها الوتار‪،‬‬ ‫لنْس والَلهْوِ‪ .‬قد فضّ الَلهْوُ ختامه‪ ،‬ونشر ا ُ‬ ‫إلى مجلس ا ُ‬
‫ورياضها القمار‪ .‬قد فرغنا للهو والده ُر عنّا في شغل‪.‬‬
‫جُل هذا من قولِ بعض أهل العصر‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫ودم قد طُل أثناء طَـلَـلْ‬ ‫كم جوًى مثّله رَسْم مَـثَـل‬
‫لعب البين بربّات الكِلَـلْ‬ ‫وللٍ كلل الـخـدّ بـهـا‬
‫لو تجافَى الدّهْرُ عنا وغَ َفلْ‬ ‫حبذا عيشُ الليالي باللّـوى‬
‫شغُلْ‬ ‫ت ال ْقدَا ُر عنَا في ُ‬ ‫باتَ ِ‬ ‫إذ َفرَغْنا فيه للّهـو وقـد‬
‫خ ِمدَ بالماء اش َتعَـلْ‬
‫كلّما أُ ْ‬ ‫وأدَ ْرنَا ذهباً فـي لَـهـبٍ‬
‫طيْناها‪ .‬قد امتطينا غوا ِربَ السرور‬ ‫لنْسِ‪ ،‬وجرينا في َم ْيدَانِ اللهو‪ .‬عمدنا إلى أ ْقدَاحِ اللهو فأجَ ْلنَاها‪ ،‬ولمراكبِ السرور فامت َ‬ ‫قد اقتَعدنا غاربَ ا ُ‬
‫حكِي نارَ إبراهيم في اللَون والبَ ْردِ‪ ،‬ولستُ أدري أشقيق أم عقيق‪ ،‬أم رحيق أم حريق‪ .‬راحٌ كأن الدُيوكَ‬ ‫بالقداح‪ .‬مُدَامة تُورِد ريحَ الو ْردِ‪ ،‬و َت ْ‬
‫‪134‬‬
‫صبت أحداقَها فيها‪ .‬راح كأنما اشتقت من الروح والراحة‪.‬‬
‫قال ابن الرومي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫سمِ الراحِ‬ ‫َيدْعُونَهَا في الرَاحِ با ْ‬ ‫واللـه مـا نَـدْرِي ليةِ عِـلَة‬
‫ح نَديمها المُرْتـاحِ؟‬ ‫أمْ لرْتيَا ِ‬ ‫ألِرِيحهَا أمْ روحها تحْتً الحَشَى‬
‫راحٌ كالنار والنُورِ والنوْرِ‪ ،‬أَصفَى من البَلور‪ ،‬ومن َدمْع المهجور‪ .‬روح نور لها من الكَأْس جسم‪ ،‬كأنها شمس في غِللة سَراب‪ .‬شراب أكادُ‬
‫ب من إسعافِ الزمان بلقائك‪ .‬مُدَامة قد سبك الده ُر ِتبْرَها فصَفا‪ .‬كأسٌ كأنها نورٌ‬ ‫طيَ ُ‬
‫ي فيك‪ ،‬وَأ ْ‬
‫لَ عند ً‬
‫أَقولُ‪ :‬هو َأصْفَى من مودَتي لك‪ ،‬ومِنْ نعم ا ِ‬
‫ضمير ُه نَارٌ‪ .‬راح كياقوتة في دُرة‪َ ،‬أصْفَى من ماء السماء‪ ،‬و َدمْعِ العاشقة ال َمرْهاء‪ ،‬أحسن من الدنيا المُ ْقبِلة‪ ،‬والنعم المكملة‪ .‬أَحْسن من العافية‬
‫ق من دموع العشاق‪،‬‬ ‫صبّ‪ .‬أر ّ‬
‫شكْوَى َ‬ ‫عهْدِ الصَبا‪ .‬أرق من دَفع محب‪ ،‬و َ‬ ‫طيَب من الحياة في السرور‪ .‬أرقّ من نسيمِ الصبا‪ ،‬و َ‬ ‫في ال َبدَن‪ ،‬وأَ ْ‬
‫س كأنها مخروطة من فِلْقَة البَدْرِ‪ .‬كأسها مِلْء‬ ‫جنَةِ الشمس‪ ،‬في كَأ ٍ‬ ‫ج نَارُ الرَاح بنُورِ الماء‪ .‬راح كأنها معصورة من َو ْ‬ ‫مَرَتها لَوْعَةُ الفراق‪ .‬مُزِ َ‬
‫خدّه معصورة‪ ،‬وملحَةُ‬ ‫اليدِ‪ ،‬وريحها ملء البَلَد‪ ،‬تصب على الليل ثَوْبَ النهار‪ ،‬كأنها في الكأس معنى دقيق في ذِهْنٍ لطيف‪ .‬كأنّ الراح من َ‬
‫خدّهِ ُتعْصَر وقال عبد السلم بن رَغْبان الملقب بديك الجن الشاعر المشهور‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫الصور ِة عليها مقصورة‪ .‬وهذا من قول الطائي كأنها من َ‬
‫خدَه فَأدَارَهـا‬
‫تَناوَلها من َ‬ ‫ظبْي كأنما‬ ‫ن كَفَ َ‬ ‫معتّقه مِ ْ‬
‫ت فيهم الكُؤُوس‪ ،‬ونالَتْ عنهم سَ ْورَةُ الخَندَريس‪.‬‬ ‫تمشَت الصهباءُ في عِظامهم‪ ،‬وتَ َرقَت إلى ها ِمهِمْ‪ ،‬وماسَتْ في أعْطافِهم‪ ،‬ومالَتْ بَأطْرَافهم‪ .‬سا َر ْ‬
‫شربت عقولَهم‪ ،‬وملكت قلوبَهم‪.‬‬
‫وقال أبو نُوَاس‪ ،‬وهو أستاذ الناس في هذا الشأن‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فاجعلْ صفاتك لبنَةِ الكَـرْمِ‬ ‫ل بَلَغَةُ الـفَـدْمِ‬
‫صفَةُ الطلو ِ‬‫ِ‬
‫َأ َفذُو العِيان كثابتِ العـلْـمِ؟‬ ‫تصفُ الطلولَ على السماع بها‬
‫ل من غَلَطٍ ومن وَهْـمِ‬ ‫لم تَخْ ُ‬ ‫صفْتَ الشي َء متّبـعـا‬ ‫وإذا وَ َ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬

‫ت فَضْلي‬ ‫بُلَ َغ المعاش وقلَّل ْ‬ ‫الكأس أهواها وإن َرزَأت‬


‫جَلّتْ عن النظَراء وال ِمثْلِ‬ ‫جدَها مَرَا ِزبُهـا‬ ‫صفرا ُء مَ ّ‬
‫َفتَ َق ّد َمتْهُ بخطوةِ الـقَـبْـلِ‬ ‫لدَم قبل خِ ْلقَـتِـهِ‬
‫ت َ‬ ‫ذُخِرَ ْ‬
‫ت مَسا ِمعُه على ال َعذْلِ‬ ‫مَرنَ ْ‬ ‫فاعذِرْ أخاك فإنـه رجـلٌ‬
‫وقال‪ :‬المديد‪:‬‬
‫جرِ أُمّ الزمان‬‫نشأتْ في حِ ْ‬ ‫فتسَليْتُ بشُـرْب عُـقَـا ٍر‬
‫هي أنصافُ شطو ِر ال َدنَان‬ ‫فتناساها الجديدان حـتـى‬
‫نزَقُ ال ِبكْر ولينُ العَـوَان‬ ‫عنَا مُرة الطعْم بهـا‬ ‫وافتر ْ‬
‫وشديد كامل فـي لِـيان‬ ‫واحتسينا من رحيق عتـيق‬
‫ت مثلَ نجومِ السّنـان‬ ‫نجمَ ْ‬ ‫لم يُج ْفهَا ِمبْزَلُ القوم حتى‬
‫ب مثلَ انفراج البنـان‬ ‫شعَ ٌ‬
‫ُ‬ ‫ق منه‬ ‫أو كعِرْقِ السام تنش ّ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ت منه فـكـاه ًة ومُـزَاحـا‬
‫يَقْتا ُ‬ ‫ت ُمعَـلَـلِ صـاحـ ٍ‬
‫ب‬ ‫خدِين لذَا ٍ‬‫وَ‬
‫حَسْبي وحسبُك ضَ ْوءُها مصباحا‬ ‫ت له‪ :‬ائتدْ‬ ‫قال‪ :‬ابغِني المصباح‪ ،‬قل ُ‬
‫صبَـاحَـا‬
‫كانت له حتى الصباح َ‬ ‫ت منها في الزجاجة شَـ ْربَةً‬ ‫فسكبْ ُ‬
‫وهذا كقوله‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ص قد َت ِعبْن من السّـفـار‬ ‫قلئ َ‬ ‫خمّا ٍر أنَـخـتُ عـلـيه لـيلً‬ ‫وَ‬
‫كمخمورٍ شكا ألم الـخُـمَـارِ‬ ‫فترجم والكَرَى في مُقْـلَـتـيهِ‬
‫ل مكتـحـل بـقَـارِ‬ ‫وجَفْنُ اللي ِ‬ ‫صرْتَ إلى حريمي‬ ‫أبِنْ لي كيف ِ‬
‫رأيتُ الصبحَ من خََللِ الـديارِ‬ ‫فقلت له‪ :‬تَرفّق بـي‪ ،‬فـإنـي‬
‫وما صبح سوى ضوء العُقَـار‬ ‫فكان جـوابُـه أنْ قـال‪ :‬كـلّ‬
‫فعاد اللـيلُ مـسـدولَ الزارِ‬ ‫ن فـسـدَ فَـاهـا‬ ‫وقام إلى الدّنا ِ‬
‫وقال بعض المحدَثين‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫خبل‪ ،‬وتُ ْؤذِنُ رُوحه بَرَوَاحِ‬ ‫ما زال يَشْربُها وتُشْ ِربُ عَقْلَهُ‬
‫سكَراً‪ ،‬وأَسَْلمَ رُوحَه للرَاحِ‬
‫َ‬ ‫حتى انثنَى متوسَداً بيمـينـهِ‬
‫وقال الصنوبري وذكر شَرْباً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عتِيقَا‬
‫مِسْكاً تض َوعَ في الناء َ‬ ‫ل نَسِيمَـهـا‬ ‫نازعته ْم كأسا تخا ُ‬
‫شقُـوقـا‬
‫كف النديم قناعَها مَ ْ‬ ‫ت قِناعَ الفَجْرِ لما غادرَتْ‬ ‫شق ْ‬
‫سبَجٌ أُعِـيد عـقـيقـا‬
‫فكأنه َ‬ ‫صبغت سوادَ دُجَاهُ حمرةُ لونها‬
‫وقال أبو الشَيص‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حَواشِيها ما مجَ من ريقة ال ِعنَبْ‬ ‫وكأس كَسَا الساقي لنا بعد هَجْعةٍ‬

‫‪135‬‬
‫سبُك الذهَ ْ‬
‫ب‬ ‫تربع ماء الدرّ في ُ‬ ‫جنَباتـهـا‬‫كأنَ اطرادَ الماءَ في َ‬
‫ل بحنَاء الزجاج ِة مختَضِبْ‬
‫غزا ٌ‬ ‫ل قد شابَ رَأسُهُ‬ ‫سقاني بها‪ ،‬والَليْ ُ‬
‫وقال أبو عدي الكاتب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لغاتٌ‪ ،‬ول جِسْم يباشره َلمْـسُ‬ ‫وليس لها حدّ ُتحِيطُ بـ َوصْـفِـهِ‬
‫فلم َيبْقَ منه غي ُر ما تَذكُرُ النفْسُ‬ ‫ض مـاضـياً‬ ‫ولكنه كالبرقِ أَ ْومَ َ‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عقَارًا كمثل النارِ حمرا َء قَـ ْرقَـفـا‬ ‫ُ‬ ‫أل فاس ِقنِيهَا قد مشى الصبح في الدُجَى‬
‫َتدَفـقُ ياقـوتـًا ودُرًا مُـجـوَفــا‬ ‫فناولني كـأسـاً أضـاءت بَـنَـانـهُ‬
‫سنَاهَا بارقا قـد تـكَـشـفـا‬ ‫وخِلْت َ‬ ‫ولمّا أريناها الـمـزاج تـسـعَـرت‬
‫ظ مُـ ْدنَـفـا‬‫طرْفًا فاسقَ الَلحْ ِ‬
‫يقلّب َ‬ ‫ظبْيٌ من النـس شـادِنٌ‬ ‫يطوف بها َ‬
‫بتسليم عـينـيهِ إذا مـا تـخـوفـا‬ ‫عليم بأسرار الـمـحـبـين حـاذق‬
‫جوَى الماني وأَلطَـفـا‬ ‫بأطيَب من نَ ْ‬ ‫فظل ُينَاجـينـي ُيقَـلّـب طَـ ْرفَـهُ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن لذّاتي وأين تكلـمـي؟‬ ‫وقل‪ :‬أي َ‬ ‫أَل عُجْ على دار السرور فسـلّـمِ‬
‫سواكِ‪ ،‬وإنْ لم تعلمي ذاك فاعلمي‬ ‫ت بالعين بعـدك لـذة‬ ‫حلَ ْ‬
‫وقل‪ :‬ما َ‬
‫ل دُرّ مـنـظـم‬
‫إذا مُزِجت‪ ،‬إكلي ُ‬ ‫وصفرا َء من صبغ المِزَاج برأسها‪،‬‬

‫ظلمية الحشاء نـوريّة الـدَم‬ ‫عمْ َر الدُجى وشر ْبتُها‬ ‫ت بها ُ‬


‫قطع ُ‬
‫من إنشاء بديع الزمان الهمذاني‬
‫كتب أبو الفضل بديع الزمان إلى أبي عدنان بن محمد الضبي يعزيه عن بعض أقاربه‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫خ بـآخـرينـا‬ ‫حوا ِدثَه أنا َ‬ ‫إذا ما الدهرُ جر على أُناسٍ‬
‫سيَ ْلقَى الشامتون كما لقينا‬ ‫فقلْ للشامتين بنا أفِـيقـوا‬
‫ص بالنعمة إذا شاء‪ ،‬فليفكر الشامت؛ فإن كان‬ ‫جفَلى إذا ساء‪ ،‬ويخ ّ‬ ‫حسَنُ ما في الدهر عمومُه بالنوائب‪ ،‬وخصوصه بالرغائب‪ ،‬فهو َيدْعو ال َ‬ ‫أْ‬
‫عمْرِه؛ هل يجدُ لنَفسه‪ ،‬أثراً في نَفسِه؟‬ ‫ن يَشْمت‪ ،‬ولينظر النسانُ في الدهر وصُروفِه‪ ،‬والموتِ وصنوفِه‪ ،‬من فاتح ِة أمْرِه‪ ،‬إلى خاتمة ُ‬ ‫أفلت‪ ،‬فله أ ْ‬
‫أم لتدبيره‪ ،‬عَوْناً على تَصْويره‪ ،‬أم لعمله‪ ،‬تقديمًا لمله‪ ،‬أم لِحيله‪ ،‬تأخيراً لجَلِه؟ كل‪ ،‬بل هو ال َع ْبدُ لم يكن شيئًا مذكوراً‪ ،‬خُلق َمقْهوراً‪ ،‬و ُرزِق‬
‫عدْلً؛ فالعاقل من‬ ‫صبْراً‪ ،‬وليتأمَل المرءُ كيف كان قَبلً‪ ،‬فإن كان ال َعدَمُ أصلً‪ ،‬والوجودُ فضلً‪ ،‬فليعلم الموت َ‬ ‫جبْراً‪ ،‬ويهلك َ‬ ‫حيَا َ‬‫مقدوراً‪ ،‬فهو يَ ْ‬
‫ل مِحْنة‪ ،‬ثم ليعطف يَسْرَة‪ ،‬هل‬ ‫ل يرى إ ّ‬ ‫َرقَع من جوانب الدهر ما ساءَ بما سترّ‪ ،‬ليذهب ما نَفَع بما ضر؛ فإن أحب ألّ يحزن فلينظر يَمنة‪ ،‬هَ ْ‬
‫صدْراً ل يملؤه فرحاً‪،‬‬ ‫حسْرَة؟ ومثلُ الشيخ الرئيس ‪ -‬أطال ال بقاءه! ‪ -‬من فَطن لهذه الشرار‪ ،‬وعَرف هذه الديار‪ ،‬فأعدّ لنعيمها َ‬ ‫يرى إلّ َ‬
‫ن للمتعة حدّا‪ ،‬وللعارِية َردّا‪ ،‬ولقد ُنعِي إلي أبو قبيصة‪ ،‬قدّس ال رُوحه‪ ،‬وبرّد‬ ‫ولبؤسها َقلْبًا ل يطيره تَرَحاً‪ ،‬وصحت البريّة برأي من يعلم أ ّ‬
‫ضحِك‪ ،‬وعضضت الصبع‬ ‫ضريحه‪ ،‬فعُرِضت عليّ آمالي قُعوداً‪ ،‬وأمانيَ سوداً‪ ،‬وبكيت‪ ،‬والسخيُ جودُه بما يملك؛ وضحكت‪ ،‬وشرُ الشدائد ما يُ ْ‬
‫عمَ‬
‫ب قد عظُم حتى هان‪ ،‬وأمر قد خشن حتى لَنَ‪ ،‬ونكْ ٌر قد َ‬ ‫ط ٌ‬
‫ت حتى تمنيته؛ والموتُ أطال ال بقاء الشيخ الرئيس خَ ْ‬ ‫حتى أ ْد َميْتُه‪ ،‬وذممت المو َ‬
‫حتى عادَ عرْفا؛ والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخفّ خطوبها‪ ،‬وقد خبثت حتى صار أقل عيوبِها‪ ،‬ولعلّ هذا السهم قد صاب آخر ما في‬
‫ن معاشِ َر التبَع نتعلمُ الدبَ من أخلقه‪ ،‬والجميلَ من أفعاله‪ ،‬فل نحثّه على الجميل وهو الصبر‪ ،‬ول نرغَبه‬ ‫ِكنَانتها‪ ،‬وأنكأ ما في خزانتها‪ ،‬ونح ُ‬
‫في الجزيل وهو الجر؛ فَليَ َر فيهما رأيه إن شاء ال‪.‬‬
‫وله إلى بعض إخوانه جوابًا عن كتاب كتبه يهنّيه بمرض أبي بكر الخَوارزمي وكانت بينهما مُقارَعة‪ ،‬ومنازعة‪ ،‬ومنافَرة‪ ،‬ومهاتَرة؛ ولهما‬
‫ت بينهما؛ إذ‬ ‫س َكتَه‪ ،‬ليس هذا موضعها‪ ،‬لكني أ ْذكُر بعد هذه الرسالة بعضَ مكاتبات ج َر ْ‬ ‫مجالس مستظرفة قهره البدي ُع فيها و َبهَره‪ ،‬وبكته حتى أ ْ‬
‫صلِ الخطاب‪ :‬الحر أطال ال بقاءك ‪ -‬ل سيما إذا عرف الدهرَ معرفتي‪ ،‬ووصف‬ ‫كان ما لهما من البتداء‪ ،‬والجواب آخذًا بوَصلِ الحكمة وفَ ْ‬
‫أحوالَه صفتي ‪ -‬إذا نظر علم أن ِنعَمَ الدَهْرِ ما دامت معدومة فهي أماني‪ ،‬وإن ُوجِدت فهي عَوَاري‪ ،‬وأن مِحَنَ اليام وإن طالت فستنفد‪ ،‬وإن لم‬
‫حنَة مَن ل يأمنها في نَ ْفسِه‪ ،‬ول َي ْعدَمها في جنْسِه‪ ،‬والشامت إن أقَلتَ فليس يَفُوت‪ ،‬وإن لم َيمُتْ فسيموت؛ وما‬ ‫تُصب فكأن قَد‪ ،‬فكيف يشمت بالمِ ْ‬
‫ش ْربُه الحرار‪ ،‬فهل‬ ‫خيَار‪ ،‬وظمآن ِ‬ ‫عقِبَ كل لفظة‪ ،‬والدَهرُ غًرثَان طُعمُه ال ِ‬ ‫أقبَح الشماتة‪ ،‬بمن أمِن الماتة‪ ،‬فكيف بمَنْ يتوقعها بعد كلّ لحظة‪ ،‬و َ‬
‫طنّاهُ وُدًا جميلً‪ ،‬والحرّ عند‬ ‫يشمت المرءُ بأنياب آكِلِه‪ ،‬أم يُسَرُ العاقل بسلح قاتله؟ وهذا الفاضل شفاه الّ وإن ظاهرْناه بالعداوة قليلً‪ ،‬فقد با َ‬
‫الحميةِ ل يصطادُ‪ ،‬ولكنه عند الكرم َينْفَادُ‪ ،‬وعند الشدائد تَذْهَبُ الحقاد‪ ،‬فل تتصور حالتي إل بصورتها من التوجّع لعلَته‪ ،‬والتحزّن لمرضته‪،‬‬
‫طوْله‪.‬‬
‫طفِه و َ‬‫وقَاهُ والَُ المكروه‪ ،‬ووقاني سماعَ المحذور فيه‪ ،‬ب َمنّه وحَوْله‪ ،‬ولُ ْ‬
‫قال البديع في سياقة أخباره مع أبي بكر الخوارزمي‪:‬‬
‫طنُبَ‪ ،‬وقديمًا كنّا‬ ‫ططْنا بها الرّحْلَ؛ ومدَدْنا عليها ال ُ‬ ‫خرَاسان‪ ،‬فما اختَرْنا إلّ نيسابور داراً‪ ،‬وإلّ جوار السادة جَوَارا‪ ،‬ل جرم أنا حَ َ‬ ‫أولها أنّا وطئنا ُ‬
‫ب فنتعشّقه‪ ،‬ونقذّر أنا إذا وطئْنا أرْضَه‪ ،‬وورَدنا بلدَه‪ ،‬يخرج لنا في العِشرة عن القشْرَة‪،‬‬ ‫سمَعُ بحديث هذا الفاضل فنتشوَقه‪ ،‬وبخبرِه على ال َغيْ ِ‬ ‫نْ‬
‫حمَةُ الدب نَظَم ْتنَا‪ ،‬وقد قال شاعر القوم غير مدافع‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ج َمعَتْنا‪ ،‬وُل ْ‬
‫وفي المودّةِ عن الجلدة‪ ،‬فقد كانت كلمةُ الغُرْبة َ‬
‫ب نَسِيبُ‬ ‫وكلّ غريبٍ للغري ِ‬ ‫أجَا َرتَنا إنّا غريبانِ ها هُنـا‬
‫فأخلف ذلك الظن كل الخلف‪ ،‬واختلف ذلك التقدير كل الختلف‪ ،‬وكان قد اتفق علينا في الطريق من العرب اتفاق‪ ،‬لم يوجبه استحقاق‪ ،‬من‬
‫ش من طلْعة‬ ‫ح َ‬‫بزّة بَزّوها‪ ،‬و ِفضّة فضّوها‪ ،‬وذهب ذهبوا به‪ ،‬ووردنا نيسابور برَاحَةٍ‪ ،‬أنْقَى من الراحة‪ ،‬وكيس أخْلى من جَ ْوفِ حمار‪ ،‬وزي أوْ َ‬
‫طئْنا إل عتَبة دَارِه؛ وهذا بعد ُر ْقعَةٍ ق َد ْمنَاها‪ ،‬وأحوالِ ُأنْسٍ نظمناها‪.‬‬ ‫المعلَم‪ ،‬بل اطلعة الرقيب‪ ،‬فما حَلَ ْلنَا إلّ قصبة جواره‪ ،‬ول وَ ِ‬
‫ت به الخمرُ‪ ،‬ومن الرتياح للقائه كما انتفض العُصفور بلّله ال َقطْرُ‪ ،‬ومن‬ ‫لّ بقاه كما طَرِب النّشْوَان مالَ ْ‬ ‫ونسخة الرقعة‪ :‬أنا بقُرْب الستاذ أطال ا ُ‬

‫‪136‬‬
‫طبُ‪ ،‬فكيف نَشَاطُ الستاذ سيدي‬ ‫المتزاج بولئه كما التقَت الصَهباءُ والبارد ال َعذْبُ‪ ،‬ومن البتهاج ل َمزَاره كما اهت ّز تحت البارح ال ُغصُنُ الرَ ْ‬
‫خرَاسان‪ ،‬بل عتبتي نيسابور وجرجان؟ وكيف اهتزازه لضيف‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫لصديق طرأ إليه ممَا بين قَصبتي العراق و ُ‬
‫ت عليه مُغيرَةُ العْرَابِ‬ ‫َبكَرَ ْ‬ ‫خلَق الثْوَابِ‬ ‫رثّ الشمائل مُ ْ‬
‫ي إنعامه‪ ،‬بإنفاذ غُلَمه‪ ،‬إلى مستقري‪ ،‬لُفضي إليه بما عندي ‪ -‬إن شاء ال ‪.-‬‬ ‫وهو ‪ -‬أيّده ال! ‪ -‬ول ُ‬
‫صدْرِه‪ ،‬وصديق‬ ‫شطْرِه‪ ،‬وقيام دَفَع في َ‬ ‫ف نَظَر ب َ‬ ‫طرْ ٍ‬‫جنَانا سوءَ العِشرة من باكورة فنّه‪ ،‬من َ‬ ‫ل َدنّه‪ ،‬وأ ْ‬ ‫ي من أوَ ِ‬ ‫ع ْينُه سقانا الدّ ْردِ ّ‬
‫فلمّا أخذتنا َ‬
‫استهان ب َقدْرِه‪ ،‬وضيف استخفّ بأمره؛ لكنّا أقطعناه جانب أخلقه‪ ،‬وولَيناه خُطَة نفاقه؛ فواصلناه إذ جَانَب‪ ،‬وقا َر ْبنَاه إذ جاذب‪ ،‬وشَرِبنَاه على‬
‫خشُونته‪ ،‬و َردَدْنا المر في ذلك إلى زيّ استغثّه‪ ،‬ولباس استرثّه‪ ،‬وكاتبناه نستمدّ وِداده‪ ،‬ونستلِينُ قيادَه‪ ،‬ونُقي ُم منْآدَه‪ ،‬بما‬ ‫كُدُورته‪ ،‬ولَبسْناه على ُ‬
‫هذه نسخته‪.‬‬
‫ضرِب إليه آبَاط القلّة‪ ،‬في أطمار الغُرْبة‪ ،‬فأعمل في ُرتْ َبتِه أعمالَ المصارفة‪ ،‬وفي‬ ‫لّ يطيل بقاءه‪ ،‬أزْرَى بضيفه أن وجده يَ ْ‬ ‫الستاذ أبو بكر‪ ،‬وا ُ‬
‫طرِ الكفّ‪ ،‬و َدفْعٍ في صدر القيام عن التمام‪ ،‬ومَضْغٍ للكلم‪ ،‬وتكلُفٍ لردّ‬ ‫الهتزاز إليه أصناف المضايقة‪ ،‬من إيماء بنِصْفِ الطرْف‪ ،‬وإشارة بشَ ْ‬
‫ت مع هذه‬ ‫عذْراً؛ فإن المرءَ بالمال وثياب الجمال‪ ،‬ولس ُ‬ ‫ضنْته نكراً‪ ،‬وتأبطته شرّا‪ ،‬ولم آلهُ ُ‬ ‫صعَراً‪ ،‬واحتملته وزراً‪ ،‬واحت َ‬ ‫السلم؛ وقد قبلت ترتيبه َ‬
‫ن بوادِينا ثاغية صباح‪ ،‬ورَاغية َروَاح‪ ،‬وناساً‬ ‫صفّ النعال‪ ،‬فلو صدَقتُه العتَاب‪ ،‬وناقشته الحساب‪ ،‬لقلت‪ :‬إ ّ‬ ‫الحال وفي السمال‪ ،‬أتقزّز من َ‬
‫يجرّون المَطارِف‪ ،‬ول يمنعون المعارف‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأنْ ِديَة يَنتابُها القَوْلُ وال ِفعْـلُ‬ ‫حسَان وجوهُهمْ‬ ‫وفيهمْ مقاماتٌ ِ‬
‫فلو طوّحت بأبي بكر ‪ -‬أيدَه الُّ ‪ -‬إليهم مطارحُ الغُرَبة‪ ،‬لوجد منزلَ البشْرِ رحيباً‪ ،‬ومحطّ الرَحْل قريباً‪ ،‬ووَجه المُضِيف خصيباً؛ فرأي الُستاذ‬
‫شهْد‪ ،‬موفقٌ إن شاء ال‪.‬‬ ‫أبي بكر‪ ،‬أيّده الّ‪ ،‬في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه وُد‪ ،‬والمرَ الذي َيتْلُوه َ‬
‫عتَابه‪ ،‬وصرفت‬ ‫فأجاب بما نسخته‪ :‬وصلتْ ُر ْقعَةُ سيدي ورئيسي أطال ال بقاه إلى آخر الس ْكبَاج‪ ،‬وعَرَفت ما تضمّنه من خَشِنِ خطابه‪ ،‬ومُؤْلم ِ‬
‫ذلك منه إلى الضجْرةِ التي ل يخلو منها مَنْ مسّه عُسر أو َنبَا به دهر؛ والحمد ل الذي جعلني موضعَ ُأنْسِه‪ ،‬ومظنّةَ مشتكى ما في نفسه‪ ،‬أما ما‬
‫شكاه سيدي ورئيسي مِنْ مضايقتي إياه في القيام‪ ،‬فقد وفيته حقّه ‪ -‬أيدَه الُّ ‪ -‬سلماً وقياماً‪ ،‬على َقدْ ِر ما قدَرْت عليه‪ ،‬ووصلت إليه‪ ،‬ولم أ ْرفَعْ‬
‫عليه إلّ السيد أبا البركات العلوي أدام ال عزّه‪ ،‬وما كنتُ لرفع أحداً على مَنْ أبوه الرسول‪ ،‬وأمهُ ال َبتُول‪ ،‬وشاهداه التوراة والنجيل‪ ،‬وناصراه‬
‫التأويل والتنزيل‪ ،‬والبشير به جبريل ميكائيل؛ فأما القوم الذين صدر عنهم سيدي فكما وصفَ‪ :‬حسن عشرة‪ ،‬وسداد طريقة‪ ،‬جمال تفصيل‬
‫وجملة‪ ،‬ولقد جا َو ْرتُهم فأحمدت المَراد‪ ،‬ونلت المرَاد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فما عهد نجدٍ عندنـا بـذمـيمِ‬ ‫فإن كنت قد فارقت نجداً وأهلَه‬
‫ل يعلم نيّتي للحرار كافة‪ ،‬ولسيدي من بينهم خاصة؛ فإن أعانني الدهرُ على ما في نفسي بلغتُ له ما في النية‪ ،‬وجاوزْتُ به مسافةَ ال َقدْر‬ ‫وا ّ‬
‫عنَاني عن طريق الختيار‪ ،‬بيد الضطرار‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫والمنية‪ ،‬وإن قطع علي طريقَ عزْمي بالمعارضة‪ ،‬وسوء المناقضة‪ ،‬صرفتُ ِ‬
‫غدِيرُها‬ ‫إذا لم تكدر كان صفواً َ‬ ‫فما النفسُ إلّ نطفة بـقَـرارة‬
‫ج ْبنَا عَتبا‪ ،‬وا ْقتَر ْفنَا ذنْبا؛ فأما أن يسلفنا العَربَدة فنحن نَصُونُ ُه عن ذلك‪ ،‬ونَصُونُ أنفسنا عن احتماله‪ ،‬ولست‬ ‫ب سيدي إذا استو َ‬ ‫وبعد‪ ،‬فحبذا عتا ُ‬
‫حمِينَ"‪.‬‬‫س َتغْفِرْ لنا ذنُو َبنَا إنا كُنا خاطِئينَ"‪ ،‬ولكن أسأله أن يقول‪" :‬ل َتثْرِيبَ عََليْكمُ اليو َم َيغْفِرُ الَُ َلكُمْ وهُوَ أَ ْرحَمُ الرا ِ‬ ‫أسومه أن يقول‪" :‬أ ْ‬
‫ن العذْر َر ِمدَة تركناه بِعُرَه‪ ،‬وطوَينَاهُ عَلَى غَره‪ ،‬وعمدنا إلى ذكره فسحَوْناه‪ ،‬ومن صحيفتنا مَحَوْناه‪ ،‬وصِرْنا إلى اسمه‬ ‫فحين وَ َردَ الجواب وعي ُ‬
‫فأخذناه ونبذناه‪ ،‬وتنك ْبنَا خطته‪ ،‬وتجنبنا حِطّته‪ ،‬فل طرنا إليه‪ ،‬ول صِرنا به‪ ،‬ومضى على ذلك السبوع‪ ،‬ودبّت اليام‪ ،‬ودرَجت الليالي‪،‬‬
‫ع ذِكْرَهُ‪ ،‬ول نودعُ الصدورَ حَديثَه؛ وجعل هذا الفاضل يستزيد‪ ،‬ويستعيد‪ ،‬بألفاظ تقطعها‬ ‫وتطاولَتِ المُدة‪ ،‬وتصرم الشهرُ‪ ،‬وصِرْنا ل ُنعِيرُ السما َ‬
‫السماع من لسانه‪ ،‬وتؤديها إليٌ‪ ،‬وكلمات تحفظها اللسنة من فمه‪ ،‬و ُتعِيدها علي؛ فكاتبناه بما هذه نسخته‪ :‬أنا أ ِر ُد من الستاذ سيدي ‪ -‬أطال الّ‬
‫ت في الدب دَعِي النسب‪،‬‬ ‫ن كن ُ‬ ‫بقاه ‪ -‬شِرعَة وُده وإن لم تَصفُ‪ ،‬وأل َبسُ خلعة بره وإن لم تَضْفُ‪ ،‬وقَصارَاي أن أكيله صاعًا عن مد؛ فإني وإ ْ‬
‫ط مُنصِفاً في الوداد‪،‬‬ ‫ضيق المضْطَرب‪ ،‬سيئ المنقلَب‪ ،‬أمتُ إلى عشرة أهله بنيِقَة‪ ،‬وأنزع إلى خدمَة أصحابه بطريقة‪ ،‬ولكن بقي أن يكون الخلي ُ‬
‫عدْت عاد‪ ،‬وسيدي ‪ -‬أبقاه ال ‪ -‬ناقشني في القبول أولً‪ ،‬وصا َرمَني في القبال آخراً؛ فأما حديثُ الستقبال‪ ،‬وأمرُ النزال‬ ‫إذا زرْت زَارَ‪ ،‬وإنْ ُ‬
‫ل بينة‪ ،‬وفروض الودّ متعيّنة‪ ،‬وأ ْرضُ العشرة ليّنة‪ ،‬وطرقها هينة‪،‬‬ ‫والنزال‪ ،‬فنِطَاقُ الطمع ضيق عنه‪ ،‬غيرُ متسع لتوقعه منه‪ ،‬وبعد فكلفة الفَض ِ‬
‫حلْ َو من ثمرها؛ فقد علم الّ أن شوقي إليه قد‬ ‫شرَة‪ ،‬وذاق ال ُ‬ ‫فلمَ اختار قَعود التعالي مركباً‪ ،‬وصعودَ التغالي َمذْهَبا؛ وهل ذاد الطير عن شجر العِ ْ‬
‫قدّ الفؤا َد بَرْحاً إلى برح‪ ،‬ونكَأَه قَرْحاً إلى قرح‪ ،‬ولكنها مِرّة مُرة‪ ،‬و َنفْسٌ حرّه‪ ،‬لم ُتقَد إل بالعظام‪ ،‬ولم تُلْقَ إلّ بالجْلَلِ والكرام‪ ،‬وإذا استعفاني‬
‫من معاتبته‪ ،‬فأعْفَى نفسه من كُلَفِ الفَضْلِ يتجشّمها‪ ،‬فليس إلَ غصص الشوق أتجَرَعُها‪ ،‬وحُلل الصبْر أتدرَعها‪ ،‬ولم أعره من نفسي‪ ،‬وأنا لو‬
‫ل عليه‪ :‬الطويل‪:‬‬‫طرْت إل إليه‪ ،‬ول وقعت إ ّ‬ ‫أُعِ ْرتُ جناحَيْ طائر لما ِ‬
‫وإنْ لمني فيك السها وال َفرَا ِقدُ‬ ‫شمْسَ النهار وبَـدْرَهُ‬ ‫أحبك يا َ‬
‫وليس لنّ العيشَ عندك بـا ِردُ‬ ‫وذاك لنّ الفضلَ عندك باهـر‬
‫خدَمه‪ ،‬وجَشِم لليجاب قدمه‪ ،‬وطَلَع علينا مع الفجر طلوعُه‪ ،‬ونظمتنا حاشيتا دار المير أبي الطيب؛‬ ‫فلمّا وردت عليه الرّقعة حشَد تلميذَه و َ‬
‫جدُ في العشرة و ُنغَوَر‪ ،‬وقصدناه شاكرين لمّا أتاه‪ ،‬وانتظرْنا عاد َة بره‪ ،‬وتوقعْنا مادَةَ فضله؛ فكان خُلبا‬ ‫فقلْنا‪ :‬الن تُشْرِق الحشمةُ وتنور‪ ،‬ونن ِ‬
‫ش ْمنَاه‪ ،‬وآل و َر ْدنَاه‪ ،‬وصرفنا في تأخّره وتأخّرنا عنه إلى ما قاله ابن المعتز‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫لنلْتقِي بالذكْرِ إنْ لم نَ ْلتَقِ‬ ‫إنا على البعاد والتفـ ُرقِ‬
‫وأنشدنا قول ابن عصرنا‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫حبّك من بـعـيدِ‬ ‫ولكني أُ ِ‬ ‫أُحبك في البتول وفي أبيها‬
‫وبقينا نَ ْلتَقي خيالً‪ ،‬ونقنع بالذكر وصالً‪ ،‬حتى جعلت عواصفه تهُب‪ ،‬وعقاربه َتدِب‪.‬‬
‫والمجلس طويل جداً‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن كنتُ خرجتُ لطولِ هذا الكلم عن ضبط الشرط‪ ،‬فلعلي أسامَح فيه لفضله‪ ،‬وعدم مثله‪ ،‬وهو وإن كان في باب التصال‪ ،‬فهو بتقدير‬
‫النفصال‪ ،‬لقيامِ كل رسال ِة بذاتها‪ ،‬وانفرادها بصفاتها‪.‬‬
‫ن بن محمد يصفُ ما جرى بينه وبين الخوارزمي‪ :‬ما ألوم هذا الفاضل على بساط شَرّ طواه‪ ،‬وموقد حَرْبٍ اجتواه‪،‬‬ ‫وكتب إلى رئيس هَرَا َة عدنا َ‬

‫‪137‬‬
‫ولكني ألُومُه على ما نواه؛ ثم لم يتبع هواه‪ ،‬ورامَه‪ ،‬ثم لم يبلغ آثَامه‪ ،‬وأقولُ‪ :‬قد ضرب فأيْنَ اليجَاع؟ وأنْذَر فأين اليقاع؟ وهذه بَوارِقه‪ ،‬فأيْنَ‬
‫صواعقه؟ وذلك وعيدُه‪ ،‬فأين عديده؟ وتلك بنودُه‪ ،‬فأين جنودُه؟ وأنشد‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫هذي معاهده فأين عهودُهُ؟‬
‫ن كان قصد هذا‬ ‫ظهِرَ عَوارَه‪ ،‬وإن طارَ طَوارَه‪ ،‬وإ ْ‬ ‫عدَه‪ ،‬لو أمطر بعده! الله َم ل كُفْرانَ‪ ،‬ولعن الَُ الشيطان‪ ،‬فإنه أشفق لغريب أن يُ ْ‬ ‫وما أهْول رَ ْ‬
‫سدَ أن‬ ‫ف بفضله من حيث أبْقَى عليَ‪ ،‬وَأوْهم الناس أنه هاب البَحْر أن يخوضه‪ ،‬وال َ‬ ‫جحَ َ‬‫صدَ فقد أساء إلى نفسه من حيث أحْسَنَ إليّ‪ ،‬وأَ ْ‬ ‫القَ ْ‬
‫يَرُوضَه‪ ،‬وشجّعني على لقائه‪ ،‬بعدما بَرَعني بإيمائه‪ ،‬فبينما كنت أُنشد‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫إنَ جنْبي على الفراش لناب‬
‫إذ أنشدت‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫طاب َليْلِي وطاب فيه شَرَابِي‬
‫وبينما أنا أقول‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ما لقلبي كأنه ليس مني‬
‫إذْ قلت‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫أين مَنْ كان موعِداً لي بأني‬
‫فلو أن هذا الفاضلَ قضى حقنا بالزيارة عند قدومِنا أو الستزارة‪ ،‬لكان في الضرب أحسن‪ ،‬وفي طريق المعاشرة أذهب‪ ،‬ل‪ ،‬ولكنه وعدَ‬
‫ل له إن كنت ندمت على النضال‪ ،‬فل‬ ‫جدِي إليه‪ ،‬واعْرِض شوقي عليه‪ ،‬وق ْ‬ ‫بالمُباراة أولً‪ ،‬وهددنا بالمسائل ثانياً‪ ،‬وأخلف بالتخلف ثالثاً؛ فأبْلِغْ َو ْ‬
‫ث الوداد‪ ،‬وإن لم تلْقَنا في باب المكاشرة‪ ،‬فأْتنا من بابِ المعاشرة‪.‬‬ ‫تندَمْ على الفضال‪ ،‬فإن طَوَيتنا حيث الجهاد‪ ،‬فانشُرْنا حي ُ‬
‫عدَاتٍ أشمّ لها النف‪ ،‬ل ذهابًا بتلك الفواضل عنها‪ ،‬لكن‬ ‫وله إلى المام أبي الطيب سهل بن محمد‪ :‬قد كان الشيخُ َي ِعدُني عن هذه الحضرة ِ‬
‫ضرَة ماجَتْ إليّ أمواجُ الشرف منها‪ ،‬وخلص إليّ نسيمُ الكَرَم عنها‪ ،‬وأتْحَفني على‬ ‫استحال ًة من هذا الزمان أن يجودَ بها؛ فحين أسر ْفتُ على الْحَ ْ‬
‫ت بحمد الّ محفوفاً بأعيانِ الكتّاب‪ ،‬وعيونِ الرجال‪ ،‬حتى شا َفهْتُ‬ ‫رسم الجلل بمركوب شامخ‪ ،‬ومركب ذهبٍ سابغ‪ ،‬وجنيبِ شرف زائد؛ وسر ُ‬
‫لّ مكانه‪ ،‬فاهتزّ اهتزازاً فات‬ ‫ض ْبعَيّ عن أرْضِ الخدمة‪ ،‬إلى جوارِ وليّ النعمة‪ ،‬حرس ا ُ‬ ‫بِسَاطَ العز‪ ،‬مستقبَلَ مَِلكَ الشرق أدام ال عُلُوَه‪ ،‬فجذب ب َ‬
‫ت من يُمْناه ِم ْفتَاح الرزاق‪ ،‬وفتاح الفاق‪ ،‬ولحقت منه بقاب العُقاب‪ ،‬وخاطبني بمخَاطبات‬ ‫سمَة الكرام‪ ،‬وتجاوز اسْمَ العظامِ إلى القيام‪ ،‬فقبل ُ‬ ‫ِ‬
‫شدْتُ بها ضالَةَ الكِرام‪ ،‬وهلمّ جرّا إلى ما تبعها من جميل النزال‪ ،‬وسَنيّ الجْزَال‪.‬‬ ‫نَ َ‬
‫سعُه الخاتم‪ ،‬ول يَسعُه العالَم‪ ،‬ويهتز عند المكارم كالغُصن‪ ،‬ويثبت عند الشدائد كال ُركْن‪ ،‬وسلطانٍ يحلم‬ ‫وطرأت من الشيخ العميد على شَخْصِ ي َ‬
‫حتِه‪ ،‬وعند السياسةْ خشِنٌ كشَفْرته‪ ،‬وملك يَأْتي الكر َم نيّة‪ ،‬والفضلَ سجيّة‪ ،‬ويفعل‬ ‫صفْ َ‬‫ف ُمغْمداً‪ ،‬ويغضب مجرداً‪ ،‬فهو عند الكرم َليّنٌ ك َ‬ ‫حِ ْلمَ السي ِ‬
‫عيْن الكمال‬ ‫ب فيه‪ ،‬فيصرف َ‬ ‫عيْ َ‬‫نل َ‬ ‫سيْفُه و َقنَاتُه‪ ،‬ع ْيبُه أ ْ‬
‫الش ّر كُلْفَة أو خطيّة‪ ،‬فهو ضَرُور بآلته‪ ،‬نَفُوع بذاته‪ ،‬عطارد قََلمُه ودَوَاتُه‪ ،‬والمرّيخ َ‬
‫عن معاليه‪.‬‬
‫سمّي إنساناً‪ ،‬وحسنًا قد مُلِئ إحساناً‪ ،‬وأسداً قد لقَبَ سلطاناً‪ ،‬وبَحْرًا قد أمسكَ‬ ‫عيَاناً‪ ،‬وجبلً قد ُ‬ ‫وصادفت من الشيخ الموفق‪ ،‬أيده ال‪ ،‬مَلكًا يُشا َهدُ ِ‬
‫غنَاه أ ْوفَر من َقسْمه‪،‬‬ ‫سمِي من ِ‬ ‫عِنانا‪ ،‬وحطَطْتُ رَحْلِي بفناء المير الفاضل أبي جعفر أدام ال عِزّه‪ ،‬فوجدت حكمي في ماله أ ْن َفذَ من حكمه‪ ،‬وقَ ْ‬
‫ع من يَده‪ ،‬وإن قصدت أنْ ُأفْ ِردَ لكل مدحاً‪ ،‬وأعبر الجملة شرحاً‪ ،‬أطَلْت‪ ،‬فهلم جرّا‬ ‫سمِه‪ ،‬و َيدِي إلى خزانته أسْ َر َ‬ ‫سمِي في ذات يده مقدّماً على ا ْ‬ ‫وا ْ‬
‫إلى ما افتتحت الكتاب لجله‪.‬‬
‫جمْر الضجَر‪ ،‬ويتأوه من خُمار الخجل‪ ،‬ويتعثرُ في َأذْيالِ الكَلَل‪ ،‬ويذكر أنّ‬ ‫جنْبِ الحردِ‪ ،‬ويتقلّى على َ‬ ‫ورد للخوارزمي كتاب يتقلّب فيه على َ‬
‫صدَقُ‪ ،‬وحَلْبة‬ ‫الخاصة قد علمت لينا كان الفَلْج‪ ،‬فقلت‪ :‬است البائن أعلم‪ ،‬والخوارزمي أعْرَف‪ ،‬والخبار المتظاهرة أعدل‪ ،‬والَثار الظاهرة‪ ،‬أ ْ‬
‫عدْنا‪ ،‬وله عندي إذا ما شاءَ‪ ،‬كل مَا شَاء!‬ ‫حمَد‪ ،‬ومتى استزاد ِزدْنا‪ ،‬وإن عادت العقرب ُ‬ ‫حكَم‪ ،‬وما مضى بيننا أشهد‪ ،‬والعَ ْو ُد إن نَشِط أ ْ‬ ‫السباق أ ْ‬
‫ب عنها‪ ،‬وقد أعادَ البديع معنى قوله في صدر حكايته مع الخوارزمي‪ ،‬فقال في رقعة كتبها إلى سعيد‬ ‫صنْتُ الكتا َ‬‫وهي طويلة فيها هَنات ُ‬
‫ي ُمغِيرَةُ‬ ‫السماعيلي‪ ،‬وقد وقفت به الضرورةُ على تلك الصورة من سلب العرب ماله‪ :‬كتابي‪ ،‬بل ُرقْعتي‪ ،‬أطال ال بقاءَ الشيخ‪ ،‬وقد بكرت عل َ‬
‫العراب‪ ،‬كمهلهل‪ ،‬وربيعة بن مُكدَم‪ ،‬وعتيبة بن الحارث بن هشام‪ ،‬وأنا أحمد ال‪ ،‬إلى الشيخ الفاضل‪ ،‬وأذمُ الدهر؛ فما ترك لي من ِفضَةٍ إلَ‬
‫س َبدٍ إل استبدّ به‪ ،‬ول‬ ‫ض ْيعَة إلّ أضاعها‪ ،‬ول مال إلّ مال إليه‪ ،‬ول َ‬ ‫ب إل ذَهب به‪ ،‬ول عِلْق إل عَلَقه‪ ،‬ول عَقَار إلّ عَقَرَه‪ ،‬ول َ‬ ‫فضها‪ ،‬ول ذه ِ‬
‫خلْعة إلّ خلعها‪ ،‬وأنا داخل نيسابور ول حِلْية إل الجلدة‪،‬‬ ‫ل بَزّها‪ ،‬ول عارية إل ارتجعها‪ ،‬ول َودِيعة إلّ انتزعها‪ ،‬ول ِ‬ ‫َلبَد إل َلبَد فيه‪ ،‬ول بِزّة إ َ‬
‫شرَة‪ ،‬والّ وليّ الخلف يعجّله‪ ،‬والفرج يسهّلة‪ ،‬وهو حَسْبي ونعمْ الوكيل‪.‬‬ ‫ول بُ ْردَ إل الق ْ‬
‫وليس البديع بأبي عذرة هذا الخطاب‪ ،‬وسترى نظير هذا المعنى في هذا الكتاب‪.‬‬
‫ومن إنشائه في مقامات أبي الفتح السكندري‬
‫سبْحا‪ ،‬وأنا أهيم بالوطن‪ ،‬فل الليل َيثْنيني‬ ‫جنِيبَة‪ ،‬يَسْبحانِ َ‬ ‫ل نَجيبة‪ ،‬وقائداً َ‬‫ت في بعض بلد بني فَزارة مرتح ً‬ ‫قال‪ :‬حدّثني عيسى بن هشام قال‪ :‬كن ُ‬
‫ل بها‬ ‫ض بَطْنَ الليل‪ ،‬بحوافر الخيلِ‪ ،‬فبينما أنا في ليلةٍ يض ّ‬ ‫خبِط ورقَ النّهار‪ ،‬بعصا التسيار‪ ،‬وأخو ُ‬ ‫بوعيده‪ ،‬ول ال ُبعْد يُدْنيني بِبيدِه‪ ،‬وظَلِ ْلتُ أ ْ‬
‫سبَحُ ول سانح إلّ السبع‪ ،‬ول بارح إل الضّبع‪ ،‬إذ عنّ لي راكب تامّ اللت‪ ،‬يطوي منشور الفَلوات‪ ،‬فأخذني‬ ‫الغَطَاط‪ ،‬ول ُيبْصر بها الوَطْوَاط‪ ،‬أ ْ‬
‫خرْطُ ال َقتَاد‪ ،‬وخَصْم ضخم‪ ،‬وحمية أ ْزدِية‪،‬‬ ‫ضكَ ل أُ ّم لك! فدونك شَرْطُ الحِداد‪ ،‬و َ‬ ‫عزَلَ من شاكي السلح‪ ،‬لكني تجلَدت فقلت‪ :‬أر َ‬ ‫منه ما يأخذُ ال ْ‬
‫وأنا سِلْم إن شئت‪ ،‬وحَ ْربٌ إن أردت‪ ،‬من أنت؟ قال‪ :‬سلماً أصبت‪ ،‬قلت‪ :‬خيراً أجبت‪ ،‬قلت‪ :‬فمن أنت؟ قال‪ :‬نصيح إن شاورت‪ ،‬فصيح إنْ‬
‫خدُمه لسان‪،‬‬ ‫حاوَرْت‪ ،‬ودون اسمي لِثام‪ ،‬ل ُتمِيطه العلم‪ .‬قلت‪ :‬فما الطُعمة؟ قال‪ :‬أجُوت جُيوبَ البلد‪ ،‬حتى أقع على جَ ْفنَة جَوَاد‪ ،‬ولي فؤاد يَ ْ‬
‫جنِيبته‪ ،‬كابن حُرّة طلع إلي بالمس‪ ،‬طُلوع الشمس‪ ،‬وغرب عني بغُروبها؛‬ ‫وبيان يَرْقمه َبنَان‪ ،‬وقصارَايَ كريمٌ ينفض إليّ حقيبته‪ ،‬ويخفف لي َ‬
‫ب الكعبة أخاذ‪ ،‬له في‬ ‫عنْها أقرَبُ منها‪ ،‬وأومأ إلى ما كان يَلْبسه‪ ،‬فقلت‪ :‬شحاذ ور َ‬ ‫لكنه غاب ولم َيغِبْ تذكارُه‪ ،‬وودّع وشيّعتْني آثارُه‪ ،‬ول ينبئك َ‬
‫صنْعة نَفَاذ‪ ،‬بل هو فيها أستاذ‪ ،‬ول ب ّد أن تَرْشَح له وتَسِخَ عليه‪ ،‬وقلت له‪ :‬يا فتى‪ ،‬قد أجليت عبارتك‪ ،‬فأَين شعرُك من كلمك؟ فقال‪ :‬وأين‬ ‫ال َ‬
‫كلمي من شعري! ثم استمدّ غريزته‪ ،‬ورفع عقيرته‪ ،‬بصوت مل الوادي‪ ،‬وأنشأ يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫س تمسُ الرْض لكن كل َولَ‬ ‫خمْ ٌ‬‫وَ‬ ‫وأ َروَع أهداه ليَ اللـيلُ والـفَـلَ‬
‫ن مُعمّا في السوابق مُـخْـول‬ ‫فكا َ‬ ‫ضتُ على نارِ المكارمِ عُـودَهُ‬ ‫عَرَ ْ‬

‫‪138‬‬
‫وسَاهَ ْلتُه في بِـرّه فـتـسـهَـل‬ ‫وخادَعْتُه عن ماله فـخَـدَعْـتُـه‬

‫ض بما بَلَ‬ ‫ظمِ القري ِ‬ ‫بَلَني في نَ ْ‬ ‫ولما تجالينا وأحم َد َمنْـطِـقـي‬


‫سبْـقِ أَوَل‬ ‫ولم يَلْقني إل إلى ال َ‬ ‫فما هَزَ إل صارماً حين هزّني‬
‫غرَ مـحـجـلَ‬ ‫وما تحتَه إل أ َ‬ ‫فلم َأرَه إلّ أغَ َر مـحـجّـبـا‬
‫فقلت‪ :‬على ِرسْلك يا فتى‪ ،‬ولك مما يصحبني حكمك‪ .‬فقال‪ :‬الجنيبة‪ ،‬قلت‪ :‬إن وما عليها‪ .‬ثم قبضت بجُمعي عليه‪ ،‬وقلت‪ :‬ل وال الذي ألهمها‬
‫خمْسا‪ ،‬ل تُزايلنا أو نَعْلَم عِلْمك‪ ،‬فحدَر لِثامه عن وَجهه‪ ،‬فإذا والّ شيخنا أبو الفتح السكندري‪ ،‬فما لبثت أن قلت‪ :‬الهزج‪:‬‬ ‫لَمسا‪ ،‬وشقّها من واحدة َ‬
‫ف مُخْتال‬‫بهذا السي ِ‬ ‫توشحتَ أبا الفتـح‬
‫إذا لم َتكُ قتـال؟‬ ‫وما تصنعُ بالسيف‬
‫به سيفَك خلخَـال‬ ‫فصُغْ ما أنت حليت‬
‫وعلى ذكر قوله‪ :‬إنّ وما عليها‪ ،‬قال أبو عبيدة‪َ :‬وفَ َد عبدُ ال بن الزبير السدي على عبد ال بن ال ّز َبيْ ِر بن العوام فقال‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪ ،‬إنَ بيني‬
‫وبينك رَحِمًا من ِقبَل فلنة الكاهلية؛ هي أُختنا‪ ،‬وقد ولدتكم‪ ،‬وأن ابنُ فلن؛ فلنة عمّتي‪ .‬فقال ابنُ الزبير‪ :‬هذا كما ذكرت‪ ،‬وإن فكّرت في هذا‬
‫س كلّهم يرجعون إلى أبٍ واحدٍ‪ ،‬وأم واحدة‪.‬‬ ‫أصبت‪ ،‬النا ُ‬
‫ن تَ ْرجِع إليهم‪ .‬قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن ناقتي قد نَقِبت‬ ‫ن نَفَقتي قد ذَ َهبَتْ‪ .‬قال‪ :‬ما كنت ضمنت لهلك أنها تكفيك إلى أ ْ‬ ‫فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إ ّ‬
‫حمِلً‪ ،‬ولم‬ ‫صفْها بهُلْب‪ ،‬وسِرْ عليها البريدين‪ .‬قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إنما جئتك مستَ ْ‬ ‫سبْت‪ ،‬واخْ ِ‬ ‫جدْ بها َيبْ ُردْ خفّها‪ ،‬وار َقعْها ب ِ‬ ‫و َدبَرتِ‪ .‬فقال له‪ :‬أنْ ِ‬
‫آتِك مستوصفاً‪ ،‬لعن الُّ ناقةً حملتني إليك‪ .‬قال ابنُ الزبير‪ :‬إنَ ورا ِكبَها! فخرج وهو يقول‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ن ِكدْنَ‪ ،‬ول ُأمَيةَ في الـبـلدِ‬ ‫خ َبيْب‬ ‫ت عند أبي ُ‬ ‫أرَى الحاجا ِ‬
‫أغ ّر كغُرّةِ الفرس الـجـوادِ‬ ‫حرْبٍ‬ ‫من العياص أو مِنْ آل َ‬
‫ن الكاهلية من مَعـاد‬ ‫إلى اب ِ‬ ‫وما لي حين أقْطَع ذاتَ عِ ْرقٍ‬
‫ن مكّةَ في سَـوَادِ‬ ‫ق بَطْ َ‬
‫أفارِ ْ‬ ‫وقلت لصحبتي أ ْدنُوا ركابـي‬
‫خ َبيْب‪.‬‬
‫س من عمّته الكاهلية لنسبني إليها‪ ،‬وكان ابنُ الزبير يكنى أبا بكر وأبا ُ‬ ‫فبلغ شعره هذا عبد ال بن الزبير‪ ،‬فقال‪ :‬لو علم أنّ لي ُأمّا أخَ َ‬
‫قال الصولي‪ :‬أخذ المعتصم من محمد بن عبد الملك الزيات فرساً أشهب أحم‪ ،‬كان عنده َمكِيناً‪ ،‬وكان به ضَنيناً‪ ،‬فقال يَرْثيه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫جلّت رز ّيتُها‪ ،‬وضاق المذهـبُ‬ ‫ن مصيبةٌ‬ ‫قالوا‪ :‬جزعت‪ ،‬فقلتُ‪ :‬إ ّ‬
‫قال أبو بكر‪ :‬هكذا أنشدنيه ابنُ المعتز على أن إن بمعنى نعم‪ ،‬وأنشد النحويون‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫َذكَ َر الكبيرُ شبابَه فتَـطـرّبـا‬ ‫قالوا‪ :‬كبرتَ‪ ،‬فقلتُ‪ :‬إن‪ ،‬وربما‬
‫الكامل‪:‬‬
‫عنا فودّعـنـا الحـم الشْـهَـبْ‬ ‫كيف العَزاء وقد مضى لسـبـيلـه‬
‫ب القْـ َربُ‬ ‫َب ُعدَ الفتى وهو الحبـي ُ‬ ‫دب الوُشاة فـبـاعـدوه‪ ،‬وربـمـا‬
‫وسُِلبْتُ ق ْربَك‪ ،‬أيّ عِلْق أُسْـلَـب؟‬ ‫لّ يومَ غـدوت فـيه ظـاعـنـاً‬
‫ومضى لطيّتـه فـريق يُجْـنَـبُ‬ ‫نفسي مقسّـمة أقـام فَـرِيقُـهـا‬
‫حسْن ُمعْـجِـبُ‬ ‫ودعا العيونَ إليك ُ‬ ‫ت أداتـك كـلّـهـا‬ ‫الن إذْ َكمُـلَـ ْ‬
‫ج يُضْـرَبُ‬ ‫في كل عُضْو منك صنْ ٌ‬ ‫وغدوت طَنان اللّـجـام كـأنـمـا‬
‫وكأنما تحت الغـمـامة كَـ ْوكَـبُ‬ ‫سرْجك‪ ،‬إذْ عَلَك‪ ،‬غَـمـامةٌ‬ ‫وكأنّ َ‬
‫ت بمثلك تنـكـب‬ ‫ح ْ‬‫نفسي‪ ،‬ول بَرِ َ‬ ‫ت إذاٌ مـنـسـيةً‬ ‫أنْسـاك؟ ل زَالـ ْ‬
‫حبَالك تُقْـضَـب‬ ‫وقُوَى حبالي مِنْ ِ‬ ‫ت منك ال َيأْس حين رأيتـنـي‬ ‫ضمَ ْر ُ‬‫أ ْ‬
‫صحَبُ‬ ‫صَحبَ الفتى فْي دَهْرِه من يَ ْ‬ ‫ي لمـثـل ذَا مـن أمـرِه‬ ‫يا صاحب َ‬
‫خذُل فصـنـيع ٌة ل تَـذهـبُ‬ ‫أو تَ ْ‬ ‫سعِدا فصنـيعةٌ مـشـكـورةٌ‬ ‫ن تُ ْ‬
‫إْ‬
‫ل لمن تُحِب المـرحَـبُ‬ ‫نظراً‪ ،‬وق ّ‬ ‫عُوَجاَ فقول‪ :‬مـرحـبـا‪ ،‬وتـزوّدا‬
‫ممّا أكـابـده وهَـ ٌم مُـنْـصِـب‬ ‫منعَ الرقادَ جَوًى تض ّمنَه الـحَـشَـا‬
‫ما قيل في المزاح‬
‫قال الحجاج بن يوسف لبن القرّية‪ :‬ما زالت الحكماء َتكْرَه المُزَاح‪ ،‬و َتنْهى عنه‪ ،‬فقال‪ :‬المُزاح من أدْنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب‪:‬‬
‫المُزاح أوله فَرَح‪ ،‬وآَخره تَرَح‪ .‬المزاح نقائض السفهاء‪ ،‬كالشعْرِ نقائض الشعراء‪ .‬والمزاح يُوغِر صدْرَ الصديق‪ ،‬وينفَر الرفيق‪ .‬والمزاح ُيبْدي‬
‫جرَ المزح خيراً‪ ،‬وكثيراً ما جَرَ شرًا‪ .‬الغالب بالمزاح وَاتِر‪ ،‬والمغلوب‬ ‫السرائر؛ لنه يظهر ال َمعَاير‪ .‬والمزاح يُسْقطُ المروءة‪ ،‬و ُي ْبدِي الخنى‪ .‬لم ي ُ‬
‫ب كبيرُه‪ ،‬وليس بعد الحرب إلّ عف ٌو بعد قدرة‪.‬‬ ‫به ثائر‪ .‬والمزاح يجلب الشتمَ صغيرُه والحر َ‬
‫عفْو معه قدرة‪.‬‬ ‫فقال الحجاج‪ :‬حسبك‪ ،‬الموت خي ٌر من َ‬
‫غ عليه مثل ال ِمرْجل‪ ،‬ويَرْميه بمثل ا ْلجَندل‪ .‬ثم يقول‪ :‬إنما‬ ‫و ُذكِر المزاح بحضرة خالد بن صفوان فقال‪ :‬يُنْشِق أحدُكم أخاه مثل الخ ْردَل‪ ،‬و ُيفْر ُ‬
‫كنت أمزح! أخذ هذا المعنى محمود بن الحسين الوراق فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫في لَحْن َمنْطِقه بما ل ُيغْـفَـرُ‬ ‫تَلْقَى الفتى يَ ْلقَى أخاهُ وخِـ ْدنَـهُ‬
‫هيهات نارُك في الحشا تَتسعَر!‬ ‫ويقول‪ :‬كنت مِمازحًا ومُلعـبـاً‬
‫صغَر؟‬ ‫أنّ المُزَاحَ هو السبابُ ال ْ‬ ‫أو ما علمت وكان جهلك غالبـاً‬
‫فقر في هذا النحو لهل العصر وغيرهم‬

‫‪139‬‬
‫ظرْف‪ ،‬والتقصير عنه نَدامة‪ .‬أوكد أسباب القطيعة المِرَاء‬ ‫ب بالمهابة‪ ،‬وتُو ِرثُ الضغينة‪ .‬الفراط في المُزاح مُجون‪ ،‬والقتصاد فيه َ‬ ‫المَزَاحة تَذْهَ ُ‬
‫والمُزاح‪.‬‬
‫ح ْقدٍ عليه‪.‬‬
‫ف به أَو ِ‬
‫ابن المعتز ‪ -‬من َكثُر مُزاحُه لم يَخْلُ من استخفا ٍ‬
‫قال أيوب بن ال ِقرّية‪ :‬الناس ثلثة‪ :‬عاقل‪ ،‬وأحمق‪ ،‬وفاجر؛ فالعاقل الدَينُ شريعته‪ ،‬والحلم طبيعته‪ ،‬والرأيُ الحسنُ سجيته؛ إن سُئل أجاب‪ ،‬وإن‬
‫حمِل على‬ ‫سمِعَ العلم وَعَى‪ ،‬وإن حدّث روى‪ .‬وأمّا الحمق فإنْ تكلم عجِل‪ ،‬وإن حدّث وَهِل‪ ،‬وإن اس ُتنْزِل عن رأيه نزل‪ ،‬فإن ُ‬ ‫نطق أصاب‪ ،‬وإن َ‬
‫حدّث لم يفهم‪،‬‬‫ت به لم يرعَك‪ ،‬وإن استُكتِم لم يكتُم‪ ،‬وإن عُلم لم يعلم‪ ،‬وإن ُ‬ ‫القبيح حَمل‪ .‬وأمَا الفاجر فإن ائتمنته خانك‪ ،‬وإن حدثته شَانَك‪ ،‬وإن وثق َ‬
‫وإن فقَه لم يَ ْفقَه‪.‬‬
‫الطيرة وال ّزجْر‬
‫قال أبو حية النميري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سَنيح‪ ،‬فقال القومُ‪ :‬مَرّ سَـنـيحُ‬ ‫جَرَى يَوْمَ ُرحْنا عامدين لرضنا‬
‫فقلت لهم‪ :‬جاري إلـي ربـيحُ‬ ‫فهابَ رجال منهمُ فتـغـيفـوا‬
‫نَأت نَأْية بالظاعـنـين طَـرِيحُ‬ ‫ب من الدار بعدمـا‬ ‫عُقَابٌ بأعقا ٍ‬
‫وطَلْح فنِيَلتْ والمطي طَـلِـيحُ‬ ‫وقالوا‪ :‬حمامات‪ ،‬فحُمّ ِلقَـاؤهـا‬
‫ُهدَى وبيانٌ بالنـجـاح يَلُـوحُ‬ ‫وقال صحابي‪ُ :‬هدْهُد فوق بَانةٍ‪،‬‬
‫ودام لنا حُلوُ الصفـاء صَـرِيحُ‬ ‫ت مواثيقُ بيننـا‬ ‫وقالوا‪ :‬دمٌ‪ ،‬دَامَ ْ‬
‫من ال َفنَنِ المَمطُور وهو مَرُوحُ‬ ‫َل َعيْناك يو َم البين أسْ َرعُ واكـفـاً‬
‫أخي ثقة يَلهُونَ وهو مُـشـيحُ‬ ‫خفْـنَـه‬
‫غيُو ٍر يَ َ‬‫ونسوةِ شَحْشاح َ‬
‫وهنَ بأبوابِ الخِيام جُـنُـوح‪:‬‬ ‫يقلْن‪ ،‬وما َيدْرِين أنّي سمعـتُـهُ‬
‫أتاحَ له حُسْنَ الغِناء مُـتِـيحُ؟‬ ‫أهذا الذي غنّى بسمراء مَوْهِنـاً‬
‫كما أن من حَر السلح جَرِيحُ‬ ‫ن َبعْد َزفْـرَةٍ‬ ‫ن مِ ْ‬
‫إذا ما تغنَى أ َ‬
‫على ما به من عُنةٍ لـمـلـيحُ‬ ‫وقائلةٍ‪ :‬يا دَهْـمٌ َويْحَـكِ! إنـهُ‬
‫بجِلدِيَ من قول الوُشاة قـروحُ‬ ‫فلو أن قولً يجرحُ الجلدَ قد بـدا‬
‫وهذا من غريب الزّجْ ِر مليحُ التفاؤل‪.‬‬
‫قال أبو العباس محمد بن يزيد‪ :‬أنشدني أعرابيّ في قصيدة ذي الرمة التي أولها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫طرُ‬ ‫ل ُم ْنهَلّ بجَزعا ِئكِ الْقَ ْ‬ ‫ول زَا َ‬ ‫أل يا اسْلَمى يا دَارَميّ عَلَى البِلَى‬
‫بيتين لم يروهما الرواة في ديوانه‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫خضْرُ‬ ‫ضبِ لم َي ْنبُتْ لها وَ َرقٌ ُ‬ ‫من القَ ْ‬ ‫رأيتُ غراباً ساقطًا فوف قَـضْـبةٍ‬
‫ضبِ النوى هذي العيافةُ والزّجْرُ‬ ‫لق ْ‬ ‫فقلت‪ :‬غرابٌ لغترابٍ‪ ،‬وقَـضْـبَةٌ‬
‫وقال آخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وصاح بذات البين منها غُرَابُها‬ ‫ن بانةٍ‬ ‫غصْ ِ‬ ‫دعا صُ َردٌ يوماً على ُ‬
‫غتِرابُهـا‬ ‫فهذا لعمري نَأيُها وا ْ‬ ‫غرْبةٌ؟‬ ‫فقلت‪ :‬أتصْرِيدٌ وشَحْطٌ و ُ‬
‫جرِ‪ ،‬وكانت تقتدي بذلك وتجري على حكمه‪ ،‬حتى ورد ال ّنهْيُ في سنة رسول الّ‪ ،‬صلى ال عليه‬ ‫وقد أكثرت العرب من ذكر الطَيرَة‪ ،‬والزّ ْ‬
‫عدْوَى ول طِيرَة‪ ،‬وقد قال الول‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬ل َ‬
‫ول زَاجِراتُ الطيْرِ ما الَُ صانـعُ‬ ‫لعمرك ما تَدْرِي الضوَا ِربُ بالحصى‬
‫وقال ضابئ بن الحارث البرجمي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫نجاحًا ول عن َريْثـهـنَ يخـيبُ‬ ‫وما عاجلت الطير‪ ،‬تُدْني مِنَ الفتى‬
‫ت الدَهْرِ حـين تـنـوبُ‬ ‫على نائبا ِ‬ ‫ن نـفـسـهُ‬ ‫ول خي َر فيمن ل يوطَ ُ‬
‫وللقلب من َمخْشاتِـهـنَ َوجِـيبُ‬ ‫ورب أمو ِر ل تَـضِـيرك ضَـيْرةً‬
‫وقال الكميت بن زيد السدي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫أصاح غرابٌ أم َتعَرّضَ ثعلبُ‬ ‫ول أنا ممن يَ ْزجُرُ الطي َر همّه‬
‫ضبُ‬ ‫أمرّ سَليم القَرْن أم مرَ أعْ َ‬ ‫ول السانحات البارحات عشـية‬
‫وقال شاعر قديم‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫ء الخير َتعْقادُ التّمـائمْ‬ ‫ل يمنعنّك مـن بُـغـا‬
‫س ول التّيامُنُ بالمقاسِمْ‬ ‫ول التشاؤم بالـعُـطَـا‬
‫أغدو على واقٍ وحاتم‬ ‫غدَوت وكنـت ل‬ ‫فلقد َ‬
‫من واليامنُ كالشـائمْ‬ ‫فإذا الشـائمُ كــاليا‬
‫شرّ على أحـ ٍد بـدائمْ‬ ‫وكـذاك ل خـي ٌر ول‬
‫ر الوّليات الـقـدائمْ‬ ‫ط ذِلكَ في ال ّزبُـو‬ ‫قد خ ّ‬
‫ولقد أحسن ابن كناسة في رثاء ولده يحيى‪ ،‬أنشده أبو العباس ثعلب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ولم أدْرِ أنّ الفال فيه يَفِـيلُ‬ ‫تيمّمت فيه الفأل حتى رُزِئتهُ‬
‫لَ فيه سبيلُ‬ ‫إلى ردَ أمرِ ا ِ‬ ‫فس ّميْته يَحيَى ليَحيَا؛ فلم يَكن‬

‫‪140‬‬
‫ن َي ْنتِف ريشَه َو َينْعَبُ؛‬
‫ب منها نزل بمنزل‪ ،‬فإذا هو بغُرَاب على شجرة بَا ٍ‬ ‫وروى المدائني قال‪ :‬خرج كثير من الحجاز يريدُ مصر‪ ،‬فلما قَرُ َ‬
‫سفَ اللون؟ قال‪ :‬ما علمت إلّ خيراً‪ ،‬قال‪ :‬فهل‬ ‫ل من بني َنهْد‪ ،‬فقال‪ :‬يا أخا الحجاز‪ ،‬ما لي أراكَ كا ِ‬ ‫فأسرع الرحيل‪ ،‬ومضى لوجهه؛ فلقيه رج ٌ‬
‫رأيت في طريقك شيئًا أنكَرْته؟ قال‪ :‬ل وال إل في منزلي هذا‪ ،‬فإني رأيتُ غرابًا َي ْنتِف رِيشَه على بانة وَي ْنعَبُ‪ .‬قال‪ :‬أما إنك تطلب حاج ًة ل‬
‫تدركها‪.‬‬
‫فقدم مصر والناسُ منصرفون من جنازة عزة‪ ،‬فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ُينْـــتّـــفُ أعْـــلـــى رِيشـــه ويطـــايرُهْ‬ ‫رأيتُ غـرابـاً ســـاقـــطـــًا فَـــوْقَ بـــانةٍ‬
‫ي للنهديّ‪ :‬هل أنت زاجره؟‬ ‫فقلت ولو أني أشاء َزجَ ْر ُتهُبنفس َ‬
‫وفـي الـبـان بَـيْنٌ مـن حـبـــيب تـــجـــاورهْ‬ ‫فقال‪ :‬غراب لغتراب من النوى‬
‫وأزجـرَه لـلــطـــير‪ ،‬ل عَـــز نـــاصِـــرُه‬ ‫فمـــا أعـــيفَ الـــنـــهــــديّ‪ ،‬ل دَ ّر دَرّه!‬
‫ثم أتى قبر عزة فأناخ به ساعة ثم رحل‪ ،‬وهو يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن تَسفَـحُ‬ ‫عََل ْيكِ سلمُ الِّ وال َعيْ ُ‬ ‫أقول ونِضْويَ واقف عند رأسها‬
‫بلدَك فَتلءُ الذراعين صَـيْدحُ‬ ‫ق ل أن تُزيرني‬ ‫فهذا فراق الح ّ‬
‫وأنت لعمري اليومَ أَنأَى وأنْزَحُ‬ ‫وقد كنت أبكي من فرا ِقكِ حية‬
‫وقال جرير‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن تَـجْـ َزعُ‬ ‫أ َو كُلّما نعبوا ل َبيْ ٍ‬ ‫بَانَ الخليطُ برا َمتَيْن ف َودّعُـوا‬
‫في دارِ َز ْينَبَ والحمامُ ال ُوقّع‬ ‫جنَني‬ ‫إن السّوانح بالضّحَى هَي ْ‬
‫وقال عوف الراهب خلف هذا‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن كُلهُمُ غرابًا َينْـعَـقُ‬ ‫حوْ َ‬‫يَلْ َ‬ ‫غلط الذين رأيتهمْ بجـهـالةٍ‬
‫ت جميعَهمْ ويفـرّق‬ ‫ش ّ‬
‫ممّا يُ ِ‬ ‫ما الذنبُ إلّ للَباعر؛ إنهـا‬
‫شتَتُ الشملَ الجميعَ ال ْينُق‬ ‫وتُ َ‬ ‫ب بيُمْن ِه تَ ْدنُو النَوى‬
‫إنّ الغرا َ‬
‫وقد تبعه في هذا المذهب أبو الشيص فقال‪ :‬مجزوء الرجز‪:‬‬
‫د اللّـهِ إلّ البـلُ‬ ‫ما فرق الحباب بَع‬
‫ب البينِ َلمّا جهلوا‬ ‫َ‬ ‫والناس يَلْحَوْن غُرا‬

‫ب ال َبيْن تُطوى الرّحُلُ‬ ‫ظهْر غُـرا‬


‫وما على َ‬
‫بٌ في الديار احتملوا‬ ‫ول إذا صـاح غُـرا‬
‫لَ نـاقةٌ أو جَـمَـلُ‬ ‫وما غرابُ البـين إلْ‬
‫وما أملح ما قال القائل‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫والم ْؤذِناتُ بفُرْقةِ الحبـابِ‬ ‫ن مَط ّيهُمْ عَوْنُ النوى‬ ‫زعموا بأ ّ‬
‫ب من السبـابِ‬ ‫ولها بهم سب ٌ‬ ‫حتْفي لما أ ْبغَضتُهـا‬‫وَلَوَ أنها َ‬
‫وكان علي بن العباس الرومي مُفْ ِرطَ الطّيرَة‪ ،‬شديدَ الغل ّو فيها‪ .‬قال علي بن عبد ال بن المسيب‪ :‬وكان يحتجُ لها‪ ،‬ويقول‪ :‬إن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬كان ُيحِبّ الفأل‪ ،‬و َيكْرهْ الطيرَة؛ أفتراه كان يتفاءلُ بالشيء‪ ،‬ول يتطيّر من ضدّه؟ ويقول‪ :‬إن النبيّ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مرّ برجل‬
‫ل عنه‪ ،‬كان ل َيغْزُو غَزاة والقمرُ في العقرب‪ ،‬ويزعم أن‬ ‫حبُنا ملعون‪ ،‬وإن علياً‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫صَ‬‫وهو يَرْحَل ناقةً ويقول‪ :‬يا ملعونة‪ ،‬فقال‪ :‬ل يَ ْ‬
‫الطيرة موجودةٌ في الطباع قائمةٌ فيها‪ ،‬وأن بعضَ الناس هي في طباعهم أظهر منها في بعض‪ ،‬وأن الكثرَ في الناس إذا لقي ما يكرهُه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ح ْولَء‪،‬‬
‫على َوجْ ِه من أصبحت اليوم؟ فدخل علينا يوم مهرجان سنة ثمان وسبعين وقد أهدي إلي عد ٌة من جواري القيان‪ ،‬وكانت فيهنّ صبيةٌ َ‬
‫ظهِرْ لي أمره‪ ،‬وأقام باقي يومه؛ فلمّا كان بعد مدة يسيرة سقطت ابنة لي من بعض‬ ‫وعجوزٌ في إحدى عينيها نكتة‪ ،‬فتطير من ذلك‪ ،‬ولم يُ ْ‬
‫السطوح‪ ،‬وجفاه لقاسم بن عبيد الّ‪ ،‬فجعل سَبب ذلك المعنيين المغنيتين‪ ،‬وكتب إليّ‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫أين كانت عنك الوجوهُ الحسانُ؟‬ ‫أيها ا ْل ُمتْحِفِي بـحُـولٍ وعُـورٍ‬
‫ساءني فيك أيها الخُـلْـصَـانُ‬ ‫قد َل َعمْري ر ِكبْتَ أمرًا مهـينـاً‬
‫رِ أرانا ما أعْقَب المهـرجـانُ‬ ‫حكَ المهرجان بالحُول والعُـو‬ ‫َفتْ ُ‬
‫رة مصبوغ ًة بهـا الكْـفـانُ‬ ‫كان من ذاك فقدُك ابنتَـك الْـحُ‬
‫لج فيه الجفاءُ والـهِـجْـرانُ‬ ‫وتَجافي مؤمّـل لـي جَـلـيل‬
‫ل يُدانيه عـنـديَ الـخُـلَنُ‬ ‫وعزيز علـيّ تـقـريع خـل‬
‫مَ وإشعارهُ شِـعـارًا ُيصَـانُ‬ ‫غير أني رأيت إذكارَهُ الـحـز‬
‫ار واعَْلمْ بـأنـهـا عُـنْـوانُ‬ ‫ل َتهَاوَنْ بطيرة أيّهـا الـنـظ‬
‫واستمع ثمَ ما يقول الـزَمـانُ‬ ‫قف إذا طيرة تلقّتك وانْـظُـرْ‬
‫ن مبين وللـزَمـانِ لِـسَـانُ‬ ‫قلما غاب من أمورك عـنـوا‬
‫با ِر حتى تهـين مـا ل يُهـان‬ ‫ل تكن بالهوى تـكَـذب بـالخ‬
‫بارِ حتى يقـدّم الـبـرهـانُ‬ ‫ل َي ُقدْكَ الهوى إلى نصرة الخ‬
‫طول تلك المهوَنـات هَـوان‬ ‫إن عُقْبى الهوى هُ ِويٌ‪ ،‬وُعقْبـى‬
‫بحديث يلـوحُ فـيه الـبـيان‬ ‫ل تصدق عـن الـنـبـيين إل‬

‫‪141‬‬
‫نت لقوم وخـبّـر الـقـرآن‬ ‫خبّر الـلَـه أنّ مـشـأمَةً كـا‬
‫قاله ذُو الجلل والفُـرْقـانُ؟‬ ‫أفَزُورَ الحديثِ تقـبـل أم مـا‬
‫َي ْمتَري في النذير يا َوسْـنـانُ‬ ‫أترى من يرى البشيرُ بـشـيرا‬
‫رة والنصح مُثمـن مـجـانُ‬ ‫فدع الهزل والتضاحك بالطـي‬
‫وقد فرّق حُذاق أهل النظر في المقال‪ ،‬بين الطيرة والفال‪ ،‬فقالوا‪ :‬الطيرة كانت العرب ترجعُ إلى ما تمضيها‪ ،‬وتجري على تقضيها‪ ،‬وكان الذي‬
‫يهُمُ بهم إذا ما رأى ما يتطير منه رجع عنه؛ وفي ذلك ما يصرف عن الحالة على المقادير الجارية بيد ُممْضيها‪ ،‬النازلة على حكم قاضيها‪،‬‬
‫س ُر مهجته؛ وليس هذا موضع تطويل‪ ،‬في إيراد الدليل‪.‬‬
‫والفَأْل ل يردّ المريد عمّا يريد إنما يُقَوَي مُنته‪ ،‬ويَ ُ‬
‫وفي جفاء القاسم بن عبيد ال إياه يقول معاتباً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ولم تر قبلي مُعسِراً قط أقْرَضا‬ ‫ضتُك الودَ طـائعـاً‬‫ألم ترني أقر ْ‬
‫فَِل ْم ل تُرِيني َوجْ َه نُعماك أبيضا؟‬ ‫لعمري لقد صوّرت أبيض مشرقاً‬
‫فأشرق فاستشفى شفاء فأفرضا‬ ‫فيا ويح مولك استغاث بمشـربٍ‬

‫ت توديعاً‪ ،‬قضى الّ ما َقضَى‬ ‫ل ْز َمعْ ُ‬ ‫ولول اعتقادي أنك الـخـي ُر كـلـ ُه‬
‫عرَضـا‬‫صدَ عني وأ ْ‬ ‫لُعْرِض عمّنْ َ‬ ‫وإنـي وإن دارَتْ عـلـــي دوائرٌ‬
‫ث وعيّافا إذا الماءُ عَـ ْرمَـضـا‬‫بخب ٍ‬ ‫وما زلت عَرَافاً إذا الـزاد رانَـنـي‬
‫وهذا البيت كقول الخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا كثرت ُورَادُهُ َل ُعيُوفُ‬ ‫وإنيَ للمَاء المخالط لل َقذَى‬
‫وفي ابنة المسيبي يقول ابن الرومي يعزّيه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صرْفُ القضاءِ المقـدَرُ‬ ‫َمنَاك بها َ‬ ‫ي بـنـكـبةٍ‬ ‫أخا ثقتي أعْ ِززْ علـ َ‬
‫محيدٌ‪ ،‬وأمرُ الَِ أعلى وأقـهـرُ‬ ‫ح ْكمِ ربّـه‬ ‫صبْتَ‪ ،‬وما للمرء من ُ‬ ‫ِ‬
‫ق َي ْبهَـرُ‬ ‫عليك من السلف والح ّ‬ ‫وقد مات من ل يخلف الدهر مثلَهُ‬
‫جدَرُ‬ ‫ووَشك التعزي عن ثمارك أ ْ‬ ‫تعزيت عمّن أثمـرتـك حـياتـهُ‬
‫يسير وكرُ الدهر شيخيك أعسَـرُ‬ ‫لن اختيال الدهر في ابنٍ وفي ابنةٍ‬
‫ل ل يتـعـذّر‬ ‫وآبائنا‪ ،‬والـنـسـ ُ‬ ‫تعذر أن نعتاض من أمهـاتـنـا‬
‫حبَرُ‬ ‫مضت وهي عند الِّ تحيا وتُ ْ‬ ‫حزْناً على ابـنة جـنةٍ‬ ‫فل تهِلكَنْ ُ‬
‫ستَـرُ‬ ‫حدِ الذي هو ا ْ‬ ‫كساها من الل ْ‬ ‫لعل الذي أعطاك ستر حـياتـهـا‬
‫صهَرُ‬ ‫بنارِ ذوي الصهار يكوى و ُي ْ‬ ‫فكم من أخي حـرية قـد رأيتـهُ‬
‫ول نظراً فالّ للعـبـد أنـظـر‬ ‫فل تتـهـم لـلّـه فـيهـا وليةً‬
‫فذو النظر العلى برشدك أبصَر‬ ‫وأنت وإن أبصرت رشدك مـرةً‬
‫ومن مليح تعازيه عن ابنَةٍ قوله لعلي بن يحيى‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫صِفرًا من الصهار ل يخزيكا‬ ‫ن كريمة أودعـتـهـا‬ ‫ل تبعد ّ‬
‫من جنّة الفردوس ما يرضيكا‬ ‫ن يكونَ صَداقهـا‬ ‫إني لرجو أ ْ‬
‫ق مليكـا‬ ‫كفؤا وضمّنتَ الصّدا َ‬ ‫ل تيأسنّ لها فقد زوّجـتـهـا‬
‫في موت البنت‬
‫ل بن طاهر‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ل بن عبد ا ّ‬ ‫وقال عبيد ا ّ‬
‫ثلثة أصهار إذا ذكر الصهر‬ ‫لكل أبي بنت يرجّي بقاؤهـا‬
‫وقبر يُوَارِيها‪ ،‬وخيرهما القبرُ‬ ‫ل يَصونُهـا‬ ‫ت يغطيها‪ ،‬و َبعْ ٌ‬ ‫فبي ٌ‬
‫وقال عقيل بن علفَةَ وكان أغير الرب‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫ألفٌ وعُبدانٌ وذَود عشـرُ‬ ‫وإني وإن سِيق إليّ المهرُ‬
‫حبُ أصهاري إليّ القبرُ‬ ‫أَ‬
‫ومنه أخذ عبيد الّ‪ ،‬قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد‪ :‬دخل علينا ابن خلف البهراني فأنشدنا‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ح ْندِسَ الظلمِ‬ ‫ولم أجُبْ في الليالي ِ‬ ‫ج َزعْ من الـعـدمِ‬ ‫لول ُأ َم ْيمَةُ لم أ ْ‬
‫أنَ اليتيمة يَحفُوها ذوو الـرّحـمِ‬ ‫وزادني رغبةً في العيش معرفتي‬
‫حمٍ على َوضَمِ‬ ‫فيهتك الستر عن لَ ْ‬ ‫أُحاذِرُ الفقر يومًا أن يُلـمّ بـهـا‬
‫حرَمِ‬ ‫ت أكرمُ نزّال على ال ُ‬ ‫والمو ُ‬ ‫تهوى حياتي وأهوى موتها شفقـا‬
‫وكانت أميمة بنت أخته‪ ،‬وكان قد تبنّاها‪ ،‬ثم غابت غيبة‪ ،‬فسألناه عنها‪ ،‬فأنشد‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ب مُرْتكـمُ‬ ‫لدى صعي ٍد عليه التُر ُ‬ ‫ت أميمة مغموراً بها الرّجَمُ‬ ‫أمس ْ‬
‫حرّى عليك‪ ،‬و َدمْع العين ُمنْسَجم‬ ‫شقّة النفس‪ ،‬إن النفسَ والـهةٌ‬ ‫يا ِ‬
‫عني الحِمام فيُ ْبدِي وجهَها العُدُم‬ ‫قد كنت أخشى عليها أن يؤخّرها‬
‫حرَمُ‬ ‫َت ْهدَا العيونُ إذا ما أ ْودَت ال ُ‬ ‫فالن نمت فل هـ ّم يُؤَ ّرقُـنـي‬

‫‪142‬‬
‫حلُـم‬
‫بعد الهدوء‪ ،‬ول َوجْد ول ُ‬ ‫فالن نمت‪ ،‬فل ه ٌم يُؤَرقُـنـي‬
‫أحيا سروراً وبي ممّا أتى ألـم‬ ‫للموت عندي أيادٍ لست أنكرهـا‬
‫من أخبار ابن الرومي‬
‫عادَ ذكر ابن الرومي ‪ -‬وكانَ أبو الحسن علي بن سليمان الخفش غلم أبي العباس المبرد في عصر ابن الرومي شابّا مترفاً‪ ،‬ومليحاً‬
‫مستظرَفاً‪ ،‬وكان يعبث به‪ ،‬فيأتيه بسَحَر؛ فيقرع الباب‪ ،‬فيقال له‪ :‬مَن؟ فيقول‪ :‬قولوا لبي الحسن مُرّة بن حنظلة‪ ،‬فيتطيّر لقوله‪ ،‬ويقيم اليام ل‬
‫ج من داره‪ ،‬وذلك كان سبب هجائه إياه‪ ،‬فمن أول ما عاتبه به‪ :‬المنسرح‪:‬‬ ‫يخر ُ‬
‫ت مَضى‬ ‫إن حسامي متى ضَ َربْ ُ‬ ‫قولوا ِل َنحْـ ِويّنـا أبـي حـسـن‬
‫جمْـرِ غَـضـا‬ ‫ي نَضَ ْلتُها ب َ‬
‫أ ْرمِ َ‬ ‫ت بـأنْ‬ ‫وإنّ نبلـي إذا هـمـمـ ُ‬
‫خفَضـا‬ ‫رفع ول خَ ْفضَ خافضٍ َ‬ ‫ل تحسبنّ الهجاء يحـفـل بـال‬
‫حضَضا‬ ‫سعِطُ الس ّم مَن أسبى ال ُ‬ ‫سَأُ ْ‬ ‫ول تَخَل عـودتـي كـبـاديتـي‬
‫ل يَنتهي أو يصير لي غَرَضـا‬ ‫أعرف في الشقياء بـي رجـلً‬
‫سلم ويخفي في قلبه مَـرَضـا‬ ‫صفْحَةَ الـسـلمة وال‬ ‫يُليح لي َ‬
‫ت مـنـه رضـا‬ ‫لّه عليه‪ ،‬ونِلْـ ُ‬ ‫أضحى مغيظاً عليّ أنْ غضب ال‬
‫إن قدّر الَ حَـ ْينَـهُ وقـضـى‬ ‫جدِي عليه موعـظـتـي‬ ‫وليس ت ْ‬
‫إنّ القوافي أ َذ ْقنَهُ المَـضَـضـا‬ ‫ي مـعـتـذرا‬ ‫كأنني بالـشـقـ ّ‬
‫عهدُ خضاب إذا لـه قـبـضـا‬ ‫ينشدني العـهـد يوم ذلـك والْ‬
‫فإنني عارِضٌ ِلمَـنْ عَـرَضـا‬ ‫ل يأمننَ الـسـفـيهُ بَـادِرَتـي‬
‫سير وعندي اللّجام إن َركَـضـا‬ ‫عندي له السوط إن تلوّم فـي ال‬
‫ح ل شكّ نصحُ من محضَا‬ ‫والصف ُ‬ ‫ت إ ْنبَاضتـي أبـا حـسـن‬ ‫أسمع ُ‬
‫يحمل فيمسي فراشه قَضَـضَـا‬ ‫وهو معافى من السـهـاد فـل‬
‫إنْ واح ٌد من عُروقِه نَـبـضَـا‬ ‫أقسمت باللّـه ل غـفـرت لـهُ‬
‫فاعتذر إليه‪ ،‬وتشفّع عنده بجماعة من أهل بغداد ‪ -‬وكان الخفش أكثر الناس إخواناً ‪ -‬فقبل عذره‪ ،‬ومدحه بقصيدته التي يقول فيها‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫إن لـلخـفـش الـحـــديثِ لـــفَـــضْـــلَ‬ ‫ذُكِـرَ الخـفـش الـقـديمُ فـــقـــلْـــنـــا‪:‬‬
‫عدْل‬‫وإذا ما حكمت والرومُ قومي في كلم مُعرّب كنتُ َ‬
‫ل أرى الـزّور لـلـمُـــحـــابـــاة أهْـــل‬ ‫أنا بين الخصوم فيه غريبٌ‬
‫فيلـســوفـــاً ولـــم أســـمَ هِـــرَقـــل‬ ‫ومـتـى قـلـت بـاطـــلً لـــم ألـــقـــب‬
‫الخفش القديم هو أبو الخطاب‪ ،‬وكان أستاذ سيبويه‪ ،‬وهو من المتقدمين في النحو‪ ،‬و ُيعْرَف بالخفش الكبير‪ ،‬وكان في عصر سيبويه أيضاً أبو‬
‫الحسن سعيد بن مسعدة‪ ،‬وهو الخْفش الصغير‪ ،‬وهو الذي قال‪ :‬كان سيبويه َيعْرِض ما وَضَع من النحو عليَ‪ ،‬ويَرى أني أعلَ ُم منه‪ ،‬وكان في‬
‫وقته ذلك أعلم مني‪.‬‬
‫ل فيها‪ :‬المنسرح‪:‬‬ ‫ثم عاد علي بن سليمان إلى أذاه‪ ،‬واتصل به أنّ رجلً عرض عليه قصيدة من شعره فطعَن عليها‪ ،‬فقال قصيدته التي يقو ُ‬
‫عبدةَ وال َفحْل من بنـي عَـبَـدهْ‬ ‫ت عبديَ في القريض مـعـا‬ ‫أعتق ُ‬
‫زَاغَ عن ال َقصْد أو أبـى سـددَهْ‬ ‫إن أنا لـم أرم بـالسـاءة مَـن‬
‫أخفش ما قلتـه فـمـا حَـمِـدَهْ‬ ‫قلت لمن قال لي عرضت على الْ‬
‫على مبين العمى إذا انـتـقـدهْ‬ ‫قصرت بالشعر حين تعـرضـه‬
‫فغاب عنه عمًى ومـا شَـهِـدَه‬ ‫أنشدته َمنْـطِـقـي لـيشـهـدَه‬
‫تَف َه ُم عنه الـكـلبُ والـقِـ َردَهْ‬ ‫ما بلغتْ بي الخطوب رتـبة مـنْ‬
‫طير سُليمانُ قـاهـرُ الـمَـرَدهْ‬ ‫ول أنَا المفـهـم الـبـهـائم وال‬
‫جهْلً بكلّ مـا اعـتْـقَـدَهْ‬ ‫فتر َ‬ ‫فإن يقل إنني حفظـت فـكـالـد‬
‫ح ْمدَ مَـنْ حَـمـده‬ ‫ما سَمع الَُ َ‬ ‫س َذمّـ ُه أبـداً‬‫سأُسـمـع الـنـا َ‬
‫عبْدة بن الطيب‪ ،‬وعلقمة بن عبدة الفحل‪ ،‬وكانا شاعرين مجيدين‪ ،‬وقال علقمة ابنَ عبَدة لرجل ورأى آخر يعتذرُ إليه وهو معبس في وجهه‪ :‬إذا‬ ‫َ‬
‫اعتذر إليك المعتذر فتلقه بوجه مُشْرِق‪ ،‬و ِبشْر مطلَق؛ لينبسط المتذلل‪ ،‬ويؤمّن المتنصّل‪.‬‬
‫ب عنه‪.‬‬‫صنْتُ الكتا َ‬ ‫ولبن الرومي في الخفش إفحاش ُ‬
‫قال علي بن إبراهيم كاتب مسروق البلخي‪ :‬كنت بداري جالساً فإذا حجارة سقطَتْ بالقرب مني‪ ،‬فبادرتُ هارباً‪ ،‬وأمرتُ الغلم بالصعود إلى‬
‫السطْح‪ ،‬والنظر إلى كل ناحية؛ من أين تأتينا الحجارة‪ ،‬فقال‪ :‬امرأ ٌة من دارِ ابن الرومي الشاعر! قد تشوّفتْ وقالت‪ :‬اتّقوا ال فينا‪ ،‬واسقونا جَرَة‬
‫ن عندنا عطشاً‪.‬‬ ‫من ماء‪ ،‬وإلّ هََلكْنا‪ ،‬فقد مات مَ ْ‬
‫ن تصعدَ إليها وتخاطبها‪ ،‬ففعَلتْ وبادرتْ بالجرة‪ ،‬وأ ْتبَ َعتْها شيئاً من المأكول؛ ثم عادت إليّ فقالت‪:‬‬ ‫عقْل ومعرفة أ ْ‬ ‫فتقدمتُ إلى امرأة عندنا ذات َ‬
‫ح معه‪،‬‬ ‫ل يوم‪ ،‬ويتعوّذُ ثم يصيرُ إلى الباب‪ ،‬والمِ ْفتَا ُ‬ ‫طيَرة ابن الرومي‪ ،‬وذلك أنه يَ ْلبَس ثيابَه ك ّ‬ ‫ذكرت المرأةُ أنّ الباب عليها ُمقْفَل من ثلث بسببِ ِ‬
‫حدَب يقُعد كل يوم على بابه‪ ،‬فإذا نظر إليه رجع وخلع‬ ‫فيضعُ عينَه على َثقْبِ في خشب الباب‪ ،‬فتقعُ عينه على جارٍ له كان نازلً بازائه‪ ،‬وكان أ ْ‬
‫ثيابه‪ ،‬وقال‪ :‬ل يفتح أحدٌ البابَ‪.‬‬
‫ت بخادم كان يعرفه‪ ،‬فأم ْرتُه بأن يجلس بازائه ‪ -‬وكانت العينُ َتمِيلُ إليه ‪ -‬وتقدّمت إلى بعض أعواني أن يَدْعُوَ الجار‬ ‫ت لحديثها‪ ،‬وبعث ُ‬‫فعجب ُ‬
‫الحدب؛ فلّما حضر عندي أرسلتُ وراء غلمي؛ لينهض إلى ابن الرومي‪ ،‬ويس َتدْعيه الحضور؛ فإني لجالس ومعي الحدب إذْ وافى أبو حذيفة‬

‫‪143‬‬
‫عثَر فانقطع شِس ُع َنعْله‪ ،‬فدخل‬ ‫ب المعتضد‪ ،‬ودخل ابن الرومي‪ ،‬فلما تخطى عتبة باب الصَحْن َ‬ ‫الطرَسوسي ومعه بِ ْرذَعة الموسوس صاح ُ‬
‫مذعوراً؛ وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظراً يدل على تغيرِ حالٍ؛ فدخل وهو ل يَرَى جارَه المتطير منه‪ ،‬فقلت له‪ :‬يا أبا الحسن‪ ،‬أيكون‬
‫شيءٌ في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم‪ ،‬ونظرك إلى وجهه الجميل؟ فقال‪ :‬وقد لحقني ما رَأيت من ال َعثْرَة؛ لني فكرت أنّ به عاهة!‬
‫وهي قطع انث َييْه‪ ،‬قال بِرذَعَة‪ :‬وشيخُنا يتطير؟ قلت‪ :‬نعم وُيفْرط‪ ،‬قال‪ :‬ومن هو؟ قلت‪ :‬علي بن العباس‪ ،‬قال‪ :‬الشاعر؟ قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فأقبل عليه‬
‫وأنشده‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بتَفْرِيق ما بيني وبـين الـحـبـائب‬ ‫ولما رأيت الدهـ َر يُؤذنُ صَـرفُـه‬
‫ركوبِ جميلِ الصبْرِ عند النـوائبِ‬ ‫رجعتُ إلى نفسي فوطّنتها عـلـى‬
‫فأيامُه مَحفـوفة بـالـمـصـائبِ‬ ‫ح ْكمِها‬ ‫ومَنْ صَحِب الدنيا على جَور ُ‬
‫حذِرًا من كا ِمنَاتِ العـواقـب‬ ‫وكُن َ‬ ‫خذْ خُلْسَ ًة من كـل يوم تـعـيشُـه‬ ‫فُ‬
‫تطيّرَ جار أو تَـفَـاؤُل صَـاحِـبِ‬ ‫ودعْ عنك ذِكْرَ الفأل والزّجْرِ واطرح‬
‫ل قَ ْلبَه بحفظ ما أنشده‪ ،‬ثم قام أبو حذيفْة وبرذعة معه‪ ،‬فحلف ابنُ الرومي ل يتطير أبدًا من هذا‬ ‫شغَ َ‬ ‫فبقي ابن الرومي باهتاً ينظرُ إليه ولم أدْرِ أنه َ‬
‫ول مِنْ غيره‪ ،‬وأومأ إلى جاره‪ ،‬فقلت‪ :‬وهذا الفكر أيضًا من التطيّر‪ ،‬فأمسك‪ ،‬وعجب من جودة الشعر ومعناه‪ ،‬وحُسن مَأتاهُ‪ ،‬فقلت له‪ :‬ليتنا‬
‫كتَ ْبنَاه؟ قال‪ :‬اكتبه فقد حفظته‪ ،‬وأمله علي‪.‬‬
‫ومن شدة حذره‪ ،‬وعظيم تطيّره‪ ،‬قوله لبي العباس بن ثوابة‪ ،‬وقد َن َدبَه إلى الخروج إليه وركوب دجلة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫طبِ‬ ‫حذِيري شُرُورَ المَحا ِ‬ ‫خيْرُ‪ ،‬تَ ْ‬ ‫لك الْ َ‬ ‫ل تَ َدعْ‬
‫حطْبي ِلنَاري فَ َ‬ ‫حضضْتَ على َ‬
‫ك يَزْ َهدْ في الثمار الطَايبِ‬ ‫من الشَ ْو ِ‬ ‫ل مُجْتـنـى‬ ‫ن يَلْقَ ما ل َقيْتُ في كُ ّ‬ ‫ومَ ْ‬
‫إليّ‪ ،‬وأغْرَاني بِ َرفْضِ المَـطَـالِـبِ‬ ‫أذا َقتْنِي السفَا ُر مَا كَـرّهَ الـغـنَـى‬
‫ت المناكِب‬ ‫ت اعتِسافَ الرْضِ ذا ِ‬ ‫رَ ِهبْ ُ‬ ‫َومِنْ ن ْكبَ ٍة لَقـيتـهـا يعـد نـكْـبَةٍ‬
‫ي من ال ّتغْرِيرِ بعد الـتّـجَـا ِربِ‬ ‫عل ّ‬ ‫س ُر مَطْـلَـبـاً‬ ‫صبْرِي على ال ْقتَار أيْ َ‬ ‫فَ َ‬
‫لَقيت منَ البَحْ ِر ابْيضـاضَ الـذّوائبِ‬ ‫ح بـعـدمـا‬ ‫لقِيتُ من البرّ التـبَـارِي َ‬
‫حبّ الـمَـجَـادِبِ‬ ‫ت لبغْضيها ب ُ‬ ‫شغِفْ ُ‬‫ُ‬ ‫سُقيتُ على ري بـه ألْـفَ مـطَـرةٍ‬
‫جدَ بي كالـمُـلعـبِ‬ ‫ب دَهْرِ َ‬ ‫تلعُ ُ‬ ‫ولم أبْغها‪ ،‬بل ساقَهـا لـمـكـيدَتـي‬
‫برَحلْي أتاهَا بالغُيوثِ الـسـواكـبِ‬ ‫ن يُغيثَ الرضَ حتى إذا رمَـتَ‬ ‫أبى أ ْ‬
‫تمايَلَ صاحِـيهـا تـمـايُلَ شـارب‬ ‫ت مَزلَة‬ ‫ضحَ ْ‬ ‫ض من أجْلي فأَ ْ‬ ‫سَقى الر َ‬
‫ن لغِـبِ‬ ‫َممِيلَ غريقِ الثوبِ َلهْـفَـا َ‬ ‫ث بـنِـاؤُهُ‬‫فملـتُ إلـى خَـان مُـ ِر ّ‬
‫س َتغْرِقُ اللـيلَ وَاصِـبِ‬ ‫وفي سهَ ٍر يَ ْ‬ ‫فما زِ ْلتُ في جوعٍ وخَـ ْوفٍ وَوَحْـشَةٍ‬
‫ضبِ‬ ‫من ال َوكْفِ تحْتَ ال ُمدْجنَاتِ الهَوَا ِ‬ ‫يُؤْرّقني سَـقْـف كـأنـيّ تـحـتـه‬

‫تص ّر نَواحـيهِ صَـرِيرَ الـجـنـادِ ِ‬


‫ب‬ ‫ل مـتـنَـ ُه‬ ‫يظل إذا ما الطـيّن أثْـقَـ َ‬
‫صقْ ُر الدّجْن فَ ْوقَ الرانبِ‬ ‫كما ا ْنقَضّ َ‬ ‫سفْرِ خَانَ فانْقضَ فـوقـهـمْ‬ ‫وكم خَانِ َ‬
‫بِسَ ْوطَيْ عذابِ جـامِـ ٍد بـعـ ُد ذائبٍ‬ ‫وما زالَ ضاحِي ا ْلبَ ّر يَضْ ِربُ أهْـلَـهُ‬
‫ف تـارةً وبـحـاصـبِ‬ ‫رهِينٌ بسَـا ٍ‬ ‫ن فـاتـهُ قَـطْـر وثـلـجٌ فـإنـه‬ ‫فإ ْ‬
‫ف به ذي مَـثَـالِـبِ‬ ‫صيْ ٍ‬ ‫وكم لِيَ من َ‬ ‫فذاكَ بـلءُ الـبَـر عِـنـديَ شـاتـياً‬
‫ح يُودي َلفْحُها بالـحـواجِـبِ‬ ‫من الض َ‬ ‫أل ربّ نارٍ بالفَضاء اصْطَـلـ ْيتُـهـا‬
‫ِلمَنْ خاف هَ ْولَ البحرِ ش َر المهـارِب‬ ‫ع عنكَ ِذكْـرَ الـبَـرَ إنـي رأيْتُـهُ‬ ‫َفدَ ْ‬
‫يَحُومُ على َقتْـلِـي وغـي َر مُـوَارِبِ‬ ‫ف مُـوَارِبـاً‬ ‫ل َيبْغِيني الْحُـتُـو َ‬
‫وما زا َ‬
‫وطورًا ُيمَسّينـي بِـوِ ْردِ الـشّـوارِب‬ ‫فطَوْرًا يُغادِيني بِـلـص مُـصـلّـتٍ‬
‫ع مع الرّوح واقِـبِ‬ ‫طَواني على رَ ْو ٍ‬ ‫وََأمّا بَلءُ البـحـرِ عـنـدي فـإنـهَ‬
‫ولكنّـه مـن هَـوْلـه غـيرُ ثـائِبِ‬ ‫ع ِذكْرَ بـعـضِـهِ‬ ‫ولو ثابَ عقلي لم أ َد ْ‬
‫ت منه الـقَـعْـرَ أوَلَ راسـبِ‬ ‫َلوَا َفيْ ُ‬ ‫ول ْم ل ولو أُلـقـيتُ فـيه وصـخْـ َرةً‬
‫ف غير مُغالِبِ‬ ‫سِوَى الغوصِ والمضعُو ُ‬ ‫ولم أتعـلّـ ْم قَـطُ مـن ذي سِـبـاحَةٍ‬
‫أمُرّ به في الكو ِز مَرَ الـمُـجـانِـبِ‬ ‫وأيْسَرُ إشْفاقي مـن الـمـاء أنـنـي‬
‫فكيف بأ ْمنِيهِ علـى نَـفْـسِ راكـب؟‬ ‫خشَى الرّدى منهُ على كـل شـا ِربٍ‬ ‫وأ ْ‬
‫أخذه من قول أبي نُواس وقد رأى التمساح بمصرَ أخذَ رجلً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ُمذْ قيلَ لي إنما التمساحُ في النـيلِ‬ ‫ضمَ ْرتُ للنيل هِجرانًا ومَـقْـلِـيَةً‬ ‫أ ْ‬
‫فما أرى النيل إلّ في البـراقـيل‬ ‫ن عن كَثَبٍ‬ ‫فمن رأى النيل رأي العي ِ‬
‫رجع‬
‫الطويل‪:‬‬
‫س أمْواجاً طوالَ الغَوارِب‬
‫لهُ الشم ُ‬ ‫أظـل إذا هَـزَتــه ريحٌ وَللَتْ‬
‫ضبِ‬
‫يُلِيحُونَ نحوي بالسيوفِ القَوا ِ‬ ‫ن بُـهْـمَةٍ‬
‫كأني أرَى فيهنّ فُرْسـا َ‬

‫‪144‬‬
‫ودِجْلَ ُة عند اليَ ّم بعضُ المَـذَانِـ ِ‬
‫ب‬ ‫ت لي قد يُ ْركَبُ اليَمُ طامِـياً‬ ‫ن قل َ‬ ‫فإ ْ‬
‫عذْرٌ ِلهَـائِبِ‬‫وفي اللجةِ الخضْرَاء ُ‬ ‫ب ِمثْلَهـا‬ ‫فل عُذْ َر فيها لمْرِئً هَا َ‬
‫جهْـلُ وَاثِـبِ‬ ‫حتَهُ َ‬
‫تَرَاىء بِحلْيم تَ ْ‬ ‫لدِجْلَةَ خِب لَـيْسَ لـلَـيمّ؛ إنـهَـا‬
‫ب من مَ ْزحِ الرَياحِ اللَوَاعِبِ‬ ‫ض ُ‬‫وتَغ َ‬ ‫طمَـئِن قـلـوبُـنـا‬ ‫حتّى تَ ْ‬‫تَطَامَنُ َ‬
‫وما فيه من آذيه الـمـتـراكِـبِ‬ ‫ص مُـتُـونِـه‬ ‫ول ْليَ ّم إ ْنذَا ٌر بـغَـوْ ِ‬
‫غرَضِ الكتاب‪.‬‬‫ت عن َ‬ ‫وهي طويلة‪ ،‬وفيما مرّ كفاية تنبئ عنه وتدل عليه‪ ،‬ولو مددت أطناب الختيار لتَتبع هذا النحو من شعره لخرج ُ‬
‫في العيافة والزجر‬
‫ن ل يفا ِرقُهم‪ ،‬فاجتمعوا يوماً في موضع أخْ َفوْه عنه‪ ،‬ووجّهوا إليه‬ ‫ومن مليح العيافة والزجر ما رواه الصُولي‪ ،‬قال‪ :‬كان لبي نواس إخْوا ٌ‬
‫ل معه ظهرُ قرطاس أبيض‪ ،‬لم يكتبوا فيه شيئاً‪ ،‬فخ َزمُوه بزير‪ ،‬وختموه بقار‪ ،‬وتقدموا إلى رسولهم ليرميَ كتاب من وراء الباب؛ فلما رآه‬ ‫برسو ٍ‬
‫ضعَهم وآثَارَهم‪ ،‬فأتاهم فأنشدهم‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ن ِفعِْلهِم‪ ،‬فتعرَفَ مو ِ‬ ‫استعلم خ َبرَهُم‪ ،‬وعلم أنه مِ ْ‬
‫يمرُ بسانح الطيرِ الجوَارِي‬ ‫ت كتابَك ْم لمّـا أتـانـي‬ ‫وجد ُ‬
‫ظهْرٍ‪ ،‬ومختومًا بِقَارِ‬ ‫على َ‬ ‫نظرتُ إليه مخزوماً بـزيرٍ‬
‫وخِلْتُ القا َر من دَنَ العُقار‬ ‫فقلت‪ :‬الزير مُلْهية وَلَـهْـو‬
‫ل منه باحْـ ِورَار‬ ‫يحيل العق َ‬ ‫ف قُرْطَقيّاً‬ ‫وخِلْت الظ ْهرَ أ ْهيَ َ‬
‫فما أخطأت دَارَكـم بـدار‬ ‫فهمْتُ إليكم طَرَباً وشَـوْقـاً‬
‫ت من الفلسفة الكبَار؟‬ ‫ألَسْ ُ‬ ‫جدِي‬ ‫فكيف ترونني وترون وَ ْ‬
‫وقال الطائي‪ :‬الكامل‪:‬‬

‫لمُ؟‬
‫و ْرقَاءُ حين تضعضعَ الظْـ َ‬ ‫ن دَعَتْ‬‫عيْنك أ ْ‬ ‫أتضعضعتْ عبراتُ َ‬
‫ضَحِك‪ ،‬وإن بكاءَك اسـتـغـرام‬ ‫ل تنشجنٌ لها؛ فـإن بـكـاءهـا‬
‫مِنْ حَائهـنَ فـإنـهـنّ حِـمَـامُ‬ ‫ن كَسَـرْتَ عِـيَافةَ‬ ‫هنَ الْحَمامُ وإ ْ‬
‫شعْرَه لغلمه‪ :‬امْض به إلى المَسْجِد الجامع فل تفا ِرقْه حتى‬ ‫وروى يموت ابن المزرع قال‪ :‬كان أحمدُ بن المدبر إذا مدحه شاع ٌر فلم يَرْضَ ِ‬
‫ل الفرادَ المجيدين؛ فجاءه أبو عبد ال الحسين بن عبد السلم المصري المعروف بالجمل‪،‬‬ ‫خلَهِ؛ فتحاماه الشعراءُ‪ ،‬إ ّ‬ ‫يُصلي مائةَ ركعة‪ ،‬ثم َ‬
‫فاستأذنه في النشيد‪ ،‬فقال‪ :‬قد عرفت الشَرْط؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬وأنشده‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ح يُنـتـجَـعُ الـوُلةُ‬ ‫كما بالمَدْ ِ‬ ‫أ َردْنا في أبي حـسَـن مـديحـاً‬
‫ومَنْ كفـاه دجـلةُ والـفـراتُ‬ ‫فقلنا‪ :‬أكَرمُ الـثـقَـلَـيْنِ طُـرّا‬
‫جوائزهُ عـلـيهـن الـصّـلةُ‬ ‫فقالوا‪ :‬يقبل المـدحـات لـكِـن‬
‫عيالي! إنما الـشـأْنُ الـ َزكَـاةُ‬ ‫فقلت لهم‪ :‬وما ُتغْني صَـلَتـي‬
‫وعاقتني الهموم الـشـاغـلتُ‬ ‫فأمـا إذْ أبـى إلّ صَـلَتــي‬
‫فتصبح لي الصَلةُ هي الصلتُ‬ ‫سرِ الصادِ مـنـهـا‬ ‫فيأمر لي بكَ ْ‬
‫فضحك واستظرفه‪ ،‬وقال‪ :‬من أين أخذت هذا؟ قال‪ :‬من قول أبي تمام الطائي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫مِنْ حَا ِئهِن فإنهـنّ حِـمَـامُ‬ ‫عيَافةً‬ ‫سرْتَ ِ‬ ‫هُنَ الحمامُ فإن كَ َ‬
‫فأحسن صلته‪.‬‬
‫وقال المير أبو الفضل الميكالي لقوم من أهل مَرو انخلعوا عن طاعته‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ليؤم مَروَ على الطريق المَهيَع‬ ‫يا راكباً أضْحَى يَخُب ِب َعنْـسـهِ‬
‫ن تَقطـعِ‬ ‫ظلت لها الكبَادُ رَهْ َ‬ ‫أبلِ ْغ بها قَوْمـًا أثـارُوا فِـتْـنَةً‬
‫بالغَدرِ والخَلعِ الذميم المفظِـع‬ ‫إذ أقدموا ظُلْماً على سُلْطانـهـم‬
‫حرِيمِه المـتـمـنـع‬ ‫لجنَابه و َ‬ ‫وبحل عـقْـدِ لـوائِهِ وإبـاحة‬
‫َف ْألً‪ ،‬له في القوم أسوَأ مَوقِـع‬ ‫أبلغهمُ أني اتخذت لفـعـلـهـم‬
‫عن حَل عقدٍ بينهم مُستَجـمِـع‬ ‫أما اللّواءُ وحلّـه فـمـخـبـر‬
‫أرواحُ بالقَتل الشد الشْـنَـعِ‬ ‫والخلعُ يخبر أن ستُخلَعُ عنهم ال‬
‫أشلؤهم لنُسورِه والضْـبُـع‬ ‫والغدر يُنبئ أن ُتغَادَرَ في الوَغى‬
‫بتف ُرقٍ لجميعـهـم وتَـصَـ ّدعِ‬ ‫والفرقتان فشاهدٌ معنـاهـمـا‬
‫بذميم بَغيكُم لشرّ الـمَـصْـ َرعِ‬ ‫فتسمّعوا لمقالتـي وتَـأَهَـبُـوا‬
‫حتى تحلّ بكم عقوب ُة مُـوجِـع‬ ‫فالَُ ليس بغافل عن أمـرِكـم‬
‫جدْب‪،‬‬ ‫قال أبو عثمان الجاحظ‪ :‬سمعت النظام‪ ،‬وذكر عبد الوهاب الثّقفي‪ ،‬قال‪ :‬هو أحْلى من أمْنٍ بعد خوف‪ ،‬وبُر ًء بعد سَقَم‪ ،‬ومن خِصْب بعد َ‬
‫وغنًى بعد فَقْر‪ ،‬ومن طاعة المحبوب‪ ،‬وفرج المكروب‪ ،‬ومن الوصال الدائم‪ ،‬والشبابِ الناعِم‪.‬‬
‫من أخبار الجاحظ‬
‫ن أبي دُواد مقيّدا‪،‬‬ ‫ل عن ابن أبي دُواد إلى محمد بن عبد الملك الزيات‪ ،‬فلّما نكِب محمد بن عبد الملك ُأدْخِل الجاحظُ على اب ِ‬ ‫وكان الجاحظ مائ ً‬
‫ح منك؛ لفسادِ‬ ‫ستِصلحي لك‪ ،‬ولكنّ اليام ل تُصْلِ ُ‬ ‫ل مُتناسِيًا للنعمة‪ ،‬كفوراً للصنّيعة‪ ،‬معدداً للمساوي‪ ،‬وما فتني با ْ‬ ‫فقال له أحمد‪ :‬والّ ما عَْلمُك إ ّ‬
‫طوّيتك‪ ،‬ورداءة دَخِيلتك‪ ،‬وسوء اختيارك‪ ،‬و َتغَالُب طباعك‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫حدُوثة‬ ‫ن يكونَ لك المر عليّ خير من أن يكونَ لي عليك‪ ،‬ولنْ أُسِيء وتحسن أحسنُ في ال ْ‬ ‫فقال الجاحظ‪ :‬خفّض عليك‪ ،‬أصلحك الّ‪ ،‬فوال ل ْ‬
‫ل بك من النتقام مني‪ ،‬فعفَا عنه‪.‬‬ ‫جمَ ُ‬
‫ل قدرتِك عليّ أ ْ‬ ‫ن فتسيء‪ ،‬ولن تعفوَ عني على حا ِ‬ ‫من أن أحس َ‬
‫من أخبار عتبة بن أْبي سفْيان‬
‫ع ْهدٍ بالفتنة؛ فقال‪ :‬قد وَلينا هذا‬ ‫عتْبة الناسَ في الموسم سنة إحدى وأربعين‪ ،‬والناسُ إذ ذاك حديثو َ‬ ‫عتْبة بن أبي سفيان‪ :‬خطب ُ‬ ‫قال سعد مولى ُ‬
‫ب ُم َتمَن‬‫ف فيه للمحسن الجْرُ‪ ،‬وللمُسِيء الوِزْر؛ ونحن على سبيل قَصْد‪ ،‬فل تمدّوا العناقَ إلى غيرنا؛ فإنها تُقْطَع دوننا؛ فر ّ‬ ‫المقام الذي يُضاعَ ُ‬
‫حتْفُه في أمنيته؛ فاقبلوا منّا العافية ما قبلْنَاها منكم؛ وأنا أسأل ال أن يُعين كل على كل‪.‬‬ ‫أمراً َ‬
‫ستُ به ولم ُت ْبعِد‪ ،‬قال‪ :‬يا أخاه‪ ،‬قال‪ :‬سمعتُ فقلْ‪ ،‬فقال‪ :‬وال لنْ تحسنوا وقد أسأْنا خي ٌر من‬ ‫فناداه أعرابي من ناحية المسجد‪ :‬أيها الخليفة‪ ،‬فقال‪ :‬ل ْ‬
‫ل من بني عامر بن صعصعة‬ ‫أن تسيئوا وقد أحسنّا‪ ،‬فإن كان الحسان منكم فما أوْلكم بإتمامه‪ ،‬وإن كان منا فما أوْلكم بمكافأتنا عليه‪ ،‬وأنا رج ٌ‬
‫شكْر‪.‬‬ ‫عيَاله‪ ،‬ووَطِئه زمانُه‪ ،‬وبه فقر وفيه أجر‪ ،‬وعنده ُ‬ ‫ت بالعمومة ويختصُ بالخؤولة‪َ ،‬كثُرَ ِ‬ ‫يم ّ‬
‫ت لك بغناك‪ ،‬فليت إسراعي إليك يقوم بإبطائي عنك!‬ ‫ل منك‪ ،‬وأستعين به عليك‪ ،‬وقد أمَ ْر ُ‬ ‫فقال له عتبة‪ :‬أستغفر ا ّ‬
‫عود إلى الجاحظ‬
‫خبِر باتصالِ‬ ‫ب النبيذ أياماً‪ ،‬فطلبني محم ُد بن عبد الملك لمؤانسته‪ ،‬فأُ ْ‬ ‫شرْ ِ‬
‫قال الجاحظ‪ :‬تشاغلت مع الحسن بن وَهْب أخي سليمان بن وهب ب ُ‬
‫سرَفِ الهوى‪،‬‬ ‫صمَك مِن َ‬ ‫ع َ‬‫ل من سُوء الغَضَب‪ ،‬و َ‬ ‫شغْلي مع الحسن ابن وهب‪ ،‬فتنكَر لي‪ ،‬وتلوّن عليّ؛ فكتبتُ إليه رقعة نسختها‪ :‬أعاذك ا ّ‬
‫ت ‪ -‬أيّدك الّ! ‪ -‬أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزقِ‬ ‫خفْ ُ‬‫صرَف ما أعارَك من القوة إلى حث النصاف‪ ،‬ورجح في قلبك إيثار الناة‪ ،‬فقد ِ‬ ‫و َ‬
‫سبُلِ الحكماء‪ ،‬وبعدُ‪ ،‬فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫السفهاء‪ ،‬ومُجانبة ُ‬
‫جنَى لَسَعيدُ‬ ‫من الناس إلَ ما َ‬ ‫وإن أمرأً أمسى وأصبح سالماً‬
‫وقال الخر‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ذموهُ بالحقّ وبالْباطِـل‬ ‫ومن دعا الناس إلى َذمَهِ‬
‫ن ِمنَ‬ ‫ل لنّ دوامَ تغافلك عني شبيه بالهمال‪ ،‬الذي يُو ِرثُ الغفال‪ ،‬والعفو المتتابع يؤم ُ‬ ‫فإن كنتُ اجترأتُ عليك ‪ -‬أصلحك ال ‪ -‬فلم أجترئْ إ ّ‬
‫ع َييْنة بن حِصْن بن حذيفة لعثمان رحمه ال‪ :‬عمر كان خيرًا لي منك‪ ،‬أرْهَبني فأتْقاني‪ ،‬وأعطاني فأغناني‪ ،‬فإن كنت ل َتهَبُ‬ ‫المكافأة‪ ،‬ولذلك قال ُ‬
‫ل ذلك لحُسْن‬ ‫عقابي ‪ -‬أيدّك ال! ‪ -‬لخدْمَة فهبْه لياديك عندي؛ فإن النعمةَ تشفع في النقمة‪ ،‬وإلّ تفع ْل ذلك لذلك فعُدْ إلى حُسْن العادة‪ ،‬وإلّ فا ْفعَ ْ‬
‫ن مَن جعلك َتعْفُو عن المتعمّد‪ ،‬وتتجافى عن عقاب‬ ‫الحدوثة؛ وإلّ فأتِ ما أ ْنتَ أهلُه من العفو دون ما أنا أهلُه من استحقاق العقوبة‪ ،‬فسبحا َ‬
‫ل منك هجمتَ عليه بالعقوبة‪ .‬وأعل ْم ‪ -‬أيدك‬ ‫المُصر‪ ،‬حتى إذا صرت إلى مَنْ َهفْوَته ذِكْر‪ ،‬و َذنْبه نسيان‪ ،‬ومن ل يعرف الشكرَ إلّ لك‪ ،‬والنعامَ إ ّ‬
‫ك فطنة‬ ‫ن موت ِذكْري مع انقطاع سببي منك كحيا ِة ذكرك مع اتصال سببي بك‪ ،‬واعلمْ أنّ ل َ‬ ‫صفْحِك عني‪ ،‬وأ ٌ‬ ‫شيْنَ غَضبك علي كَ َزيْنِ َ‬ ‫ال! ‪ -‬أنّ َ‬
‫عليم‪ ،‬وغفلة كريم‪ ،‬والسلم‪.‬‬
‫من حكم علي بن أبي طالب‬
‫عليه الصلة والسلم‬
‫سنَح له الرجا ُء أذَلَه الطمع‪،‬‬ ‫ضدَاد من خِلَفها؛ فإنْ َ‬ ‫ل عنه‪ :‬أعْجَبُ ما في النسان قَ ْلبُه‪ ،‬وله مواد من الحكمة‪ ،‬وأ ْ‬ ‫ي بن أبي طالب‪ ،‬رضي ا ّ‬ ‫قال عل ّ‬
‫س قتَله السَف‪ ،‬وإن عرض له الغضب اشت َد به ال َغيْظ‪ ،‬وإنْ أُسعد بالرضا نِسِي التحفظ‪ ،‬وإن أتاه‬ ‫ن مَلَكه اليَأْ ُ‬ ‫وإن هاجه الطمَعُ أهلكه الحِرص‪ ،‬وإ ْ‬
‫جزَع‪ ،‬وإن استفاد مالً أطْغاه ال ِغنَى‪ ،‬وإن عضتْه فاقة بلغ‬ ‫الخوفُ شغلَه الحذَر‪ ،‬وإن اتسَع له المن استلبته العِزة‪ ،‬وإن أصابته مصيبة فَضَحه ال َ‬
‫طنَة‪ ،‬فكل تقصيرٍ مضِرّ‪ ،‬وكلّ إفراطٍ له قَاتِل‪.‬‬ ‫ع قعد به الضعْف‪ ،‬وإن أفرط في الشبع كَظته البِ ْ‬ ‫به البلء‪ ،‬وإن جَهد به الجو ُ‬
‫البيت الذي أنشده الجاحظ لعبد الرحمن بن حسان في أبيات يقول فيها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فقيرٌ يقولوا‪ :‬عـاجـز وجَـلِـيدُ‬ ‫متى ما يَرَى الناس الغني وجـاره‬
‫ولكِن أحاظ قسـمَـتْ وجُـدُودُ‬ ‫وليس ال ِغنَى والفَقرُ من حيلة الفتى‬
‫جنَى لَـسَـعـيدُ‬ ‫من الناسِ إل ما َ‬ ‫وإن امرأ يمسي ويُصبحُ سالـمـاً‬
‫والبيت الذي أنشده بعده لمحمد بن حازم الباهلي في أبياتٍ يقول فيها‪ :‬السريع‪:‬‬
‫صفْحِي عن الجاهل‬ ‫تعلم مِنْ َ‬ ‫ب َذمَي لمـا‬ ‫ت ل تَرْ َه ُ‬‫ن كن َ‬‫إْ‬
‫خنَى الْـقَـائل‬ ‫فيك لمسموع َ‬ ‫فاخْشَ سكوتي آذِنًا ُمنْصِـتـا‬
‫طعِم المأكُول كـالكـل‬ ‫َومُ ْ‬ ‫فسامعُ الشـر شَـرِيك لـه‬
‫ع مِن ُمنْحَـدَرٍ سـائل‬ ‫أسْ َر ُ‬ ‫مقالة السوء إلى أهـلـهـا‬
‫َذمُوه بالحق وبالـبـاطـلِ‬ ‫ومَنْ دعا الناسَ إلـى ذَمـه‬
‫حَربَ أخِي التجربةِ الغَافِـل‬ ‫فل تهِجْ‪ ،‬إن كُـنْـتَ ذا إ ْربَةٍ‬
‫ت به ذا خبَـل خـابِـل‬ ‫هِج َ‬ ‫فإن ذا العقل إذا هِـجـتَـهُ‬
‫عليك غِب الضَ َررِ الجـل‬ ‫ُتبْصِرُ في عاجـلِ شًـدّاتِـه‬
‫وفي ابن الزيات يقول الجاحظ‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ففللَ منهم شَباةَ الـعَـدَمْ‬ ‫بَدَا حين أثْرى لخـوانـه‬
‫ف قبل النـدَمْ‬ ‫فبادرَ بالعر ِ‬ ‫وأبصر كيف انتقالُ الزمانِ‬
‫الجاحظ ورجل من البرامكة في مرضه‬
‫سعَى إليه‬ ‫خفْت أن يَفْجأَني الصارف‪ ،‬ويُ ْ‬ ‫ت ثلثين ألف دينار‪ ،‬فَ ُ‬ ‫قال بعضُ البرامكة‪ :‬كنتُ أتقلّد السندَ‪ ،‬فاتصل بي أني صُ ِرفْتُ عنها‪ ،‬وكنت كسب ُ‬
‫حدَرْتُ إلى‬ ‫ص ْغتُه عشرة آلف إهْليَلجَة في كل إهليَلجَة ثلث ُة مثاقيل‪ ،‬وجعلتها في َرحْلي‪ ،‬ولم أبعد أن جاء الصارف؛ فركبْتُ البحرَ‪ ،‬وانْ َ‬ ‫بالمال‪ ،‬ف ُ‬
‫جتْ إليَ‬ ‫عتُه‪ ،‬فخر َ‬ ‫صرْتُ إليه‪ ،‬فأفضيتُ إلى بابِ دار لطيف‪ ،‬فَ َقرَ ْ‬ ‫البصرةِ؛ فخبّرْتُ أنّ بها الجاحظ‪ ،‬وأنه عليل؛ فأحببت أن أراه قبل وفاته‪ ،‬ف ِ‬
‫سرّ بالنظر إليه‪ ،‬فأَدت ما قلت‪ ،‬وكانت المسافة قريبة لصغر‬ ‫ن أنت؟ فقلت‪ :‬رجل غريب أحَب أن يدخل إلى الشيخ فيُ َ‬ ‫خادمٌ صفراء‪ ،‬فقالت‪ :‬مَ ْ‬
‫الدهليز والحجرة‪ ،‬فسمعته يقول‪ :‬قولي له‪ :‬وما تصنع بشق مائل‪ ،‬ولعاب سائل‪ ،‬ولون حائل؟ فأخيرتني‪ ،‬فقلت‪ :‬ل ب ّد من الوصال إليه‪ ،‬فقال‪ :‬هذا‬

‫‪146‬‬
‫رجل قد اجتاز بالبَصْرَة‪ ،‬فسمع بي وبعِلّتي‪ ،‬فقال‪ :‬أراه قبل موته؛ لقول‪ :‬قد رأيت الجاحظ‪.‬‬
‫فدخلت فسلمت فردَ ردّا جميلً واس َتدْناني‪ ،‬وقال‪ :‬مَنْ تكون؟ أعزك الّ! فانتَسَبتُ له‪ ،‬فقال‪ :‬رحم الّ أباك وقومك السخياء الجواد‪ ،‬الكرام‬
‫شدَني شيئًا من الشعر‬ ‫ض الزمنة‪ ،‬ولقد انجبر بهم خلق‪ ،‬فسقياً لهم ورعياً؛ فدعوت له‪ ،‬وقلت‪ :‬أنا أسألُ الشيخ أن ُينْ ِ‬ ‫المجاد‪ ،‬لقد كانت أيامُهم رَوْ َ‬
‫أذكره به‪ ،‬فأنشدني‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شيْتُ على ِرسْلي فكنت المقدَما‬ ‫مَ َ‬ ‫لئن ُقدّمتْ قبلي رِجال فطالـمـا‬
‫ض ُمبْرمـا‬ ‫ف ُتبْرِمُ منقوضاً‪ ،‬وتنق ُ‬ ‫ن هذا الدهرَ تأتي صروفُـه‬ ‫ولك َ‬
‫ثم نهضتُ‪ ،‬فلمّا قاربتُ الدهليز صاحَ بي فقال‪ :‬يا فتى‪ ،‬أرأيتَ مفلوجًا ينَ ْفعَه الهليلج؟ فقلت‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فأنا ينفعني الهليلج الذي معك‪ ،‬فأنْفذْ إليّ‬
‫ص ْغتُه‪ ،‬فأنْ َفذْتُ إليه‬
‫خبَري‪ ،‬حتى كأن بعضَ أحبابي كاتبَه بخبَرِي حين ُ‬ ‫منه‪ ،‬فقلت‪ :‬السمع والطاعة‪ ،‬وخرجت مُفْرط التعجب من وقوعه على َ‬
‫مائة إهليلجة‪.‬‬
‫المقامة الجاحظية‬
‫مقامة من إنشاء البديع تتعلق بذكر الجاحظ‬
‫قال‪ :‬حدثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬جمعتني مع ِرفْقَة وَليمةٌ‪ ،‬وأجبْتُ إليها للحديث المأثور فيها عن رسول ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪" :‬لو دُعيت‬
‫إلى ُكرَاع لجبْتُ‪ ،‬ولو أُ ْهدِيَ إليّ ذراع لقبلت"‪ ،‬فأفْضَى بنا المسيرُ إلى دار قد فُرش بساطُها‪ ،‬وبُسِطت أنماطها‪ ،‬و ُمدَ سِماطُها‪ ،‬وقوم قد أخذوا‬
‫صرْنا إليهم وصاروا إلينا‪ ،‬ثم عكفنا على خِوَان قد مُِلئَتْ حياضُه‪،‬‬ ‫الوقت بين آسٍ مخضود‪ ،‬ووَ ْردٍ منضود‪ ،‬ودَن َمفْصود‪ ،‬ونَايَ وعود؛ مح ِ‬
‫ل تُسَاف ُر َيدُه على‬ ‫جفَانُه‪ ،‬واختلفت ألوانُه؛ فمن حالِك بازائه نَاصع‪ ،‬ومن قانٍ في تلقائه فاقعٌ‪ ،‬معنا على الطعام رَج ٌ‬ ‫ونوّرَت رِياضُه‪ ،‬واصطفّت ِ‬
‫ضغَة‬‫خوَان‪ ،‬و َتسْف ُر بين اللوان‪ ،‬وتأخذُ وجوهَ الرُغفان‪ ،‬و َتفْقَأ عيونَ الجِفَان‪ ،‬وتَرْعَى َأرْضَ الجيران؛ يَ ْزحَم الل ْقمَة باللقمة‪ ،‬ويهزِمُ المَ ْ‬ ‫ال ِ‬
‫ت ل َي ْنبِس‪ ،‬ونحن في الحديث نجري معه حتى وقف بنا على ذِكْرِ الجاحظ وخَطَابته‪ ،‬ووَصف ابن المقفّع وذَرابته‪،‬‬ ‫بالمضغة‪ ،‬وهو مع ذلك ساك ٌ‬
‫سنِه‪،‬‬‫ث الذي فيه كنتم‪ ،‬فأخذنا في وصف الجاحظ ولَ َ‬ ‫ووافق أول الحديث آخِرَ الخِوَان‪ ،‬وزُلنا عن ذَلِك المكان‪ ،‬فقال الرجلُ‪ :‬أين أنتم من الحدي ِ‬
‫سكّان‪ ،‬ولكل زمان جاحظ‪ ،‬ولو‬ ‫سنَنه فيما عرفناه؛ فقال‪ :‬يا قومُ‪ ،‬لكلّ عمل رجال‪ ،‬ولكل مقام مَقالٌ‪ ،‬ولكل دارٍ ُ‬ ‫سنَنه في الفصاحة و ُ‬ ‫حسْنِ َ‬
‫وُ‬
‫ب ما ل َديْه‪ ،‬وقلت‪ :‬أ ِفدْنا و ِزدْنا‪ ،‬فقال‪ :‬إنّ‬ ‫حكْتُ إليه‪ ،‬لجل َ‬ ‫انتقدتم‪ ،‬لبطَلَ ما اعتقدتُمْ‪ ،‬فكل كشرَ له عن ناب النكار‪ ،‬وش َم بأنْفِ الكبار‪ ،‬وضَ ِ‬
‫الجاحظَ في أحدِ شقي البلغة يقطِف‪ ،‬وفي الخر يَقِف‪ ،‬والبليغُ من لم يُ َقصّر نظمُه عن نثره‪ ،‬ولم يُزْ ِر كلمُه بشعرِه‪ ،‬فهل تروُونَ للجاحظ شعراً‬
‫ب العبارات‪ ،‬قليل الستعارات‪ ،‬منقادٌ لعريان الكلم يستَعْمله‪ ،‬نَفو ٌر من ُمعْتاصِهِ‬ ‫رائعاً؟ قلنا‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فهلمّوا إلى كلمه؛ فهو بعيدُ الشارات‪ ،‬قري ُ‬
‫سمَع من الكلم ما يخفّف عن َمنْ َك َبيْك‪ ،‬وَينمّ‬ ‫ب أن تَ ْ‬‫يهمله‪ ،‬فهل سمعتم له بكلمةٍ غير مسموعة‪ ،‬أو لفظة غير مصنوعة؟ فقلت‪ :‬ل‪ ،‬فقال‪ :‬هل تح ّ‬
‫صرِك ما يعين على شكرك‪ ،‬فأنلته ردائي‪ ،‬فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫خنْ َ‬ ‫على ما في يَدَيك؟ فقلت‪ :‬إي وال‪ ،‬قال‪ :‬فأطلق لي عن ِ‬
‫ب بـه مَـجـدا‬ ‫ت تلك الثيا ُ‬ ‫لقد كسب ْ‬ ‫ل َعمْر الـذي ألْـقَـى إلـيَ ثـيابـهُ‬
‫ت نَـ ْردَا‬ ‫ت ِقدْحاً ول نصب ْ‬ ‫فما ضربَ ْ‬ ‫وقد َقمَرَتـهُ راحة الـجـود بِـزّة‬
‫ول َت َدعِ اليا َم تَـهْـ ِدمُـنـي هَـداً‬ ‫ن كَسَـانـي ثِـيابَـهُ‬ ‫عدْ نظرًا يا مَ ْ‬ ‫أِ‬
‫وإن طلعوا في غُمة طلعـوا و ْردَا‬ ‫سفَرُوا أَسْ َفرُوا ضُحًى‬ ‫وقل للُلى إنْ أ ْ‬
‫خيْ ُر الندَى ما سَحَ وابلُـه نَـقْـدَا‬ ‫َف َ‬ ‫حمَ العَ ْليَا وبُلوا لـهَـاتَـهـا‬ ‫صِلُوا رَ ِ‬
‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فارتاحت الجماعة إليه‪ ،‬وانثالت الصّلتُ عليه‪ ،‬وقلت لما تآنسنا‪ :‬من أين مطلع هذا البدر؟ فقال‪ :‬المجتث‪:‬‬
‫لو ق ّر فيها قَرارِي‬ ‫إسكـنـدريةُ دَارِي‬
‫وبالحجا ِز َنهَـارِي‬ ‫َلكِن ليلي بنَـجْـدٍ‬
‫ما قالته الملوك‬
‫تظلمت رعية أردشير بن بابك إليه في سنة مُجْدبة لعَجْزهم عن الخراجِ‪ ،‬وسألته أن يخففه عنهم؛ فكتب لهم ما نسخته‪ :‬من أردشير المزيد‬
‫حفَظةُ البيضة‪ ،‬والكُتاب الذين هم سَاسة المملكة‪ ،‬وذوي الحرث الذين هم عمرَة البلد‪ ،‬أما‬ ‫بالبهاء‪ ،‬ابن الملوك العظماء‪ ،‬إلى الفقهاء الذين هم َ‬
‫ح ْمدَ الصالحين‪ ،‬وقد وضعنا عن رعيّتنا بفَضْل رأفتنا إتاوَتنا الموظّفة عليهم سنتنا هذه‪ ،‬ونحن كاتبون مع ذلك نُمليهم‬ ‫َبعْدُ‪ ،‬فإنا نحمدُ ال تعالى َ‬
‫ب عليكم العدوّ‪ ،‬ول تحتوا الحتكار لئلّ يشملكم القَحْط‪ ،‬وكونوا للغرباء مُؤْوِين‪ ،‬لتؤووا غداً في‬ ‫ل َيغْلِ َ‬ ‫ح ْقدَ لئ َ‬
‫بوصية تنفعُ الكل‪ :‬ل تستشعروا ال ِ‬
‫سبِ‪ ،‬ول تعدُوا هذه الدنيا شيئاً فإنها ل ُتبْقي على أحد‪ ،‬ول تَ ْرفُضُوها مع ذلك؛ فإن‬ ‫حسَنُ للرحم‪ ،‬وأثبتُ للنَ َ‬ ‫المعاد‪ ،‬وتزوَجُوا في القرابة فإنه أ ْ‬
‫ل بها‪.‬‬
‫الخرة ل ُتنَالُ إ َ‬
‫ن ل َينْفَدان‪ ،‬وسِرَاجان ل يُطْفآن‪ ،‬وحُفَتان ل َتبْلَيان؛ مَنْ نالهما نَالَ أسبَاب‬ ‫وقيل لبزر جمهر‪ :‬أيّ الكتساب أفضل؟ قال‪ :‬العلمُ والدب كنْزَا ِ‬
‫الرشاد وعَرَفَ طريق ال َمعَاد‪ ،‬وعاش رفيعًا بين ال ِعبَاد‪.‬‬
‫وقال أنوشروان لبزر جمهر لمّا ظفر به‪ :‬الحمد ل الذي أظْفَرني بك‪ ،‬قال له‪ :‬فكا ِفئْه بما يحبّ كما أعطاك ما تحب‪ .‬قال‪ :‬وبم أُكافِئه يا فاسق؟‬
‫قال‪ :‬بالعفو عمَنْ أظفرك به اليوم كما تحبّ أَنْ يعف َو عنك غداً‪.‬‬
‫ونظي ُر هذا الكلم قد تقدم لعلي‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫ج ْدتَه عليماً‪ ،‬وإذا خبرته وجدتَه حكيماً‪ ،‬وإذا أغضب كان حليماً‪ ،‬وإذا ظفر كان‬ ‫وقيل لكسرى؛ أيُ الملوك أفضل؟ قال‪ :‬الذي إذا جاوَرْته و َ‬
‫شكِي إليه وُجد رحيماً‪.‬‬ ‫كريماً‪ ،‬وإذا استمنح منح جسيماً‪ ،‬وإذا وعدَ وفى‪ ،‬وإن كان الوعد عظيماً‪ ،‬وإذا ُ‬
‫من إنشاء الميكالي‬
‫كتب المير أبو الفضل الميكالي إلى أبي منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي؛ كتابي وأنا أشكو إليك شَوْقاً لو عالجه العرابي لما‬
‫ق فل يحسن جمعاً‪ ،‬ويخْرق فل ينوي َرقْعاً‪ ،‬ويُوجِعُ‬ ‫ي لنثنَى على كَ ِبدٍ ذاتِ حُ َرقِ ولَوَاعِج؛ وأذمُ زماناً يف َر ُ‬ ‫صبَا إلى َرمْل عالج‪ ،‬أو كابَده الخَل ُ‬ ‫َ‬
‫حكْ ِم فل يميلُ إلى‬ ‫ب فل يلينُ لستعطاف‪ ،‬جائر ال ُ‬ ‫ل عليهم بما يَشْفِي الصدور وال ْكبَاد؛ قاسِي القل ِ‬ ‫شمْلِ ذوي الْوِداد‪ ،‬ثم يبخ ُ‬ ‫القلب بتفريق َ‬
‫س َت ْعدِي على صَ ْرفِه وأستَنْجِد‪ ،‬وأتلَظّى غيظًا عليه وأُنشد‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫إنصاف‪ ،‬وكم أ ْ‬
‫ن عثُـورُ‬ ‫ب َعثْرَة حالٍ والزَما ُ‬ ‫عنَانَه‬ ‫متى وعسى َيثْني الزمانُ ِ‬
‫وتحدُث من بعد الُمور أُمور‬ ‫فتُدْرَك آمال وتُقْضَى مـآرِبٌ‬

‫‪147‬‬
‫جرِيها‪ ،‬و َتنْفُذ كالسهام إلى مَرَاميها؛ فهي تدو ُر بالمكروه‬ ‫عتْب‪ ،‬ول له على أهْلِه ذَنْب؛ وإنما هي أقدار تَجْري كما شاء مُ ْ‬ ‫وكَلً‪ ،‬فما على الدهر َ‬
‫والمحبوب‪ ،‬على الحُكم المقدور والمكتوب‪ ،‬ل على شهوات النفوس وإرادات القلوب؛ وإذا أراد ال تعالى أذن في تقريب البعيد النازح‪ ،‬وتسهيل‬
‫س بلقائِك الخوان كأتمّ ما لم يزل معهوداً‪ ،‬ويجدّد للمذاكرة والمؤانسة رسومًا وعهوداً‪ ،‬إنه الملبي به‪ ،‬والقادِ ُر عليه‪.‬‬ ‫الصّعب الجامح‪ ،‬فيعود الُن ُ‬
‫ت عن حضرته ‪ -‬انسها ال! ‪ -‬ساع ًة من دهري‪ ،‬كما‬ ‫غبْ ُ‬‫وله إلى أبيه‪ :‬ولو مََل ْكتُ عِنان اختياري‪ ،‬وأسعفني ببعض ما أقترحه ال َقدَرُ الجاري‪ ،‬لما ِ‬
‫ت ُبعْدِي عنها وإخلئي لبابها من أيام عمري؛ ولقنت أبدًا ماثِلً بها في زمرة الخدم والعبيد‪ ،‬جامعًا بها بين حاشيتي العزّ المديد‪،‬‬ ‫ل أعد ساعا ِ‬
‫والشرف العتيد؛ ل سيما في هذا الوقت وقد أشرقت البلد بنور طلعته التي هي في ظلمة الدَهر صباح‪ ،‬وع ّز مطالعته التي فيها لصدور ذوي‬
‫س من حساده‪ ،‬والزمان من عدد ساكنيه وعتاده‪ ،‬إلَ أن الحريص ‪ -‬كما علمه‬ ‫حتِ الشم ُ‬ ‫الشّنإ شجاً ول َز ْندِ المال اقتداح‪ ،‬ومعاودة ظلَهِ التي أضْ َ‬
‫مولنا ‪ -‬مُخلى عن أعذب موارده‪ ،‬وممنوع بالعوائق عن أكرم مطالعه ومقاصده‪.‬‬
‫وله يستفتح مكاتبة بعض إخوانه‪ :‬أنا وإن لم تتقدّم بيني وبينه المكاتبة‪ ،‬وعادة المساجلة والمفاوضة‪ ،‬من فرط حِرْصي على افتتاحها وتعاطيها‪،‬‬
‫واعتراض العوائق دون المرادِ والغرض فيها‪ ،‬فإن قلبي بودّه َم ْغمُور‪ ،‬وضميري على مُصَافاته مقصور‪ ،‬فاعتداده لفضائله التي أصبح فيها‬
‫حدِي ال ِعنَان‪ ،‬وزاحم فيها مَنكِب العَنَان‪ ،‬واستأثر فيها بالغُرَر والوضاح‪ ،‬ما أوْفى بها على غُ َرةَ الصباح‪ ،‬حتى تشاهدَتْ بها ضمائرُ القلوب‪،‬‬ ‫أوْ َ‬
‫ل َقدْرِها صفقة إسرارِه‬ ‫جمَعُ بالعتداد لها بين شهادةِ قلبه ولسانه‪ ،‬ومَنْ ينظم في إجل ِ‬ ‫سنَة البعيد والقريب‪ ،‬اعتدادَ من يَ ْ‬ ‫وتهادَتْ أنباءَها أل ِ‬
‫س َتمْلي الوارد والصادِرَ خبرَ سلمته انصياعاً بالود إليه وانقطاعاً‪.‬‬ ‫وإعلنه‪ ،‬فهو يتنسمُ الريح إذا هبّتْ من ناحيته شوقاً ونزاعاً‪ ،‬ويَ ْ‬
‫عفْوها وانثِيالها‪ ،‬تناولت فيها ال ُمنَى‬ ‫سجَالُها‪ ،‬واتسَع عندي مَجالها‪ ،‬وأعيَا شكري َ‬ ‫شذور من كلمه في أثناء رسائل شتى‪ :‬أياديه التي غمرتني ِ‬
‫دانيةَ القطوف‪ ،‬واجتليت أنوار العيش مأمونة الكسوف‪ ،‬ليس يكادُ يبرد غليلُ شوقي وحنيني‪ ،‬أو ترجع نافرة أنسي وسكوني‪ ،‬أو تَخْلو من‬
‫عدُه‪ ،‬وتعلو على الفراق يَدُه‪ ،‬فنعاوِد العيشَ طَلْقاً غزيراً‪ ،‬ونجتني ثمرَ‬ ‫الهتمام والفكرة فيه خواطري وظنوني‪ ،‬إلّ بالتقا ًء يدنو أمدُه‪ ،‬و َيقْرُب مَوْ ِ‬
‫حضْرَته‬ ‫سمَاكِ أو أرفع‪ .‬حالي في مفارقة َ‬ ‫جتَلي وجهَ الزمان مُشْرِقًا منيراً‪ .‬فوائده لها عندي أثرُ الغَمام أو أنفع‪ ،‬ومحلّ ال ّ‬ ‫ال ُمنَى غَضّاً نضيراً‪ ،‬ونَ ْ‬
‫حالُ بنات الماء قد نَضَب عنها الغَدير‪ ،‬ونبات الرض أخطأها النَ ْوءُ المِطيرُ‪ .‬لهفي على دهر الحداثة إذ غُصْنُ شبابي غض وَرِيق‪ ،‬ونَ ْقلُ‬
‫شرابي عضٌ ورِيق‪ .‬كلمٌ أحلى من ريق النّحل‪ ،‬وأصْفى من رَيق الوبل‪ .‬من تسود قبل وقته وآلته‪ ،‬فقد تعرّض ِلمَ ْقتِه وإذالته‪ .‬نظمُه له‪ :‬مجزوء‬
‫الرمل‪:‬‬
‫َر بل َو ْقتِ وآلَـهْ‬ ‫إن مَنْ يلتمس الصد‬
‫ت وإذَالـهْ‬‫كل مَ ْق ٍ‬ ‫ن يُلَـقـى‬
‫لحقيق أ ْ‬
‫س مهرُها الشكر‪ ،‬وثوبٌ صَ ْونُه النشر‪ .‬الخضاب تذكرة‬ ‫ب فِضة لكان الشيبُ له خبثاً‪ .‬النعمة عرو ٌ‬ ‫الشكلُ للكِتاب‪ ،‬كالحلي للكِعاب‪ .‬لو كان الشبا ُ‬
‫الشباب‪ .‬ل تقاسُ المَهاوي بالمَرَاقي‪ ،‬ول القدام بالتَراقي‪ ،‬ول البحورُ بالسواقي‪ .‬كم أبلني من عُرْفٍ جزيل ل يُبلِي الدهرُ جدةَ رِدائه‪ ،‬وقضاني‬
‫من َديْن تأميل ل يَقْضي الشكرُ حقَ نعمائه‪ .‬الشكر للنعمة نتاج‪ ،‬والكُفْران لها رِتاج‪ ،‬وكلما زدت النعمة شكراً‪ ،‬زادت طيبًا ونَشْراً‪.‬‬
‫قطعة من شعره في تجنيس القوافي‬
‫قال في أبيه‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫خذِهِ واقتباسِـهْ‬ ‫ما اهت َد ْينَا ل ْ‬ ‫مبدعاً في شمائل المجدِ خِيماً‬
‫وجواد بالعفو في وقت باسه‬ ‫فهو فظ بالمال وقـت نـداه‬
‫وقال فيه‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ولم تدركه في الجود الندامه‬ ‫إذا ما جادَ بالموال ثـنـى‬
‫لريب حوادث قال الندى مه‬ ‫وإن هَجَست خواطِرُه بجمع‬
‫وقال فيه‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫فزِعْنا إلى سـيدٍ نـابِـه‬ ‫ولما تنازع صَرْفُ الزمان‬
‫عنّـابِـه‬
‫كش ْفنَا الحوادثَ َ‬ ‫ن نابِـهِ‬ ‫إذا كشّرَ الدهرُ ع ْ‬
‫وقيل فيه‪ :‬السريع‪:‬‬
‫تغني عن الجيش وتَسريبه‬ ‫ب فـآراؤه‬ ‫إنْ نابنا خَـطْـ ٌ‬
‫ب نَجْمًا فهو يسري بهِ‬ ‫لل ّركْ ِ‬ ‫ل بَـدَا نـورهُ‬
‫وإن دَجَا لـي ٌ‬
‫وقال يفتخر‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫شجَاها‬ ‫ِل َعضّة نَفْس شجاها َ‬ ‫وكم حاسد لي ا ْنبَرى فا ْن َثنَـى‬
‫وما بَثّ مالً ول رَاشَ جَاها‬ ‫سمُو ل َنيْلِ الـعُـلَ‬‫ومن أينَ يَ ْ‬
‫ومنها قوله‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫جمَالي‬ ‫وعمّا حازَ في الدنيا َ‬ ‫وسائل ٍة تُسَائِلُ عن فعـالـي‬
‫ج مَالي‬ ‫سبُل المكارم ل ّ‬ ‫وفي ُ‬ ‫فقلت‪ :‬إلى المعالي حَن قلبي‬
‫فما لي تاركًا ذَا ال ّنهْجَ مَا لي‬ ‫وللعلياء َنهْجٌ مـسـتـقـيمٌ‬
‫فَعالي والنّجَارُ فألْجَما لـي‬ ‫إذا أسرجْتُ في فخرٍ سَما بي‬
‫وقال في نوع من هذا الجنس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جمَةِ النَسْرِ‬‫ج ْم ُ‬
‫من المجد يسري فوق ُ‬ ‫ن يَسْرِ فوقَ الرض يطلبُ غـايةً‬ ‫ومَ ْ‬
‫جرِي على نَـجْـرِ‬ ‫فإنّا من العلياء نَ ْ‬ ‫ومن يختلفْ في العالمـين نِـجـارهُ‬
‫فبالمال نَشْري رابحَ الحمْدِ والنّشْـر‬ ‫جرْ في المال َيكْسِب ُربْـحَـهُ‬ ‫ومن يت ِ‬
‫وعلى نحو هذا الحذو يقول أبو الفتح البستي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫شعَار عار‬ ‫لشيء من حُلَى ال ْ‬ ‫أبا العباس‪ ،‬ل تحسب بـأنـي‬

‫‪148‬‬
‫ل من ذُرَا الحجارِ جَاري‬ ‫ُزلَ ٌ‬ ‫سلْسَالِ المجـاري‬ ‫طبْع ك َ‬
‫ولي َ‬
‫فلي َز ْندٌ على الدْوَارِ وَارِي‬ ‫إذا ما أكْـبَـتِ الدوار َزنْـداً‬
‫وقال أبو الفتح البستي أيضاً‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫رأيناها ُمبَدَدةَ النّـظَـامِ‬ ‫سقَتْ ُأمُورٌ‬
‫سيْفِ الدولة اتّ َ‬
‫بَ‬
‫فليس كمثلِه سام وحـامِ‬ ‫سمَا وحمى بني سامٍ وحام‬ ‫َ‬
‫?ما قيل في الحاجب‬

‫قال بعضُ الملوكِ لحاجبه‪ :‬إنك عيني التي أنْظُ ُر بها‪ ،‬وجُنتي التي أستنيم إليها؛ وقد وليّتك بأبي‪ ،‬فما تراكَ صانعًا برعيّتي؟ قال‪ :‬أنظر إليهم‬
‫خدْمتك مواضع استحقاقهم‪ ،‬وُأرَتبهم حيث جعلهم ترتيبك‪،‬‬ ‫بعينك‪ ،‬وأحملهم على َقدْ ِر منازلهم عندك‪ ،‬وأضَعهم لك في إبطائهم عن بابك ولزومهم ِ‬
‫غكَ عنهم‪ ،‬وإبلغَهما عنك‪.‬‬ ‫ن إبل َ‬ ‫حسِ ُ‬‫وأُ ْ‬
‫ي كفايتك ومعونتك‪.‬‬ ‫ت به فعلً؛ والّ ول ّ‬ ‫ت بما عليك قولً‪ ،‬إن َو َفيْ َ‬ ‫قال‪ :‬قَد َو َفيْ َ‬
‫عبُوسِ‬‫شفَه‪ ،‬فل تجعل الستر بيني وبين خواصّي سبباً لضغنهم بِ ُقبْح ر ّدكَ‪ ،‬و ُ‬ ‫ستْرَ وجهي وكَ ْ‬ ‫قال المهدي للفضل بن الربيع‪ :‬إني قد وَلَيتُك َ‬
‫ن التمكّث‪.‬‬ ‫وَجْهك‪ ،‬وقدم أبناء الدعوة‪ ،‬فإنهم أوْلَى بالتقديم‪ ،‬وثَن بالولياء‪ ،‬واجعل للعامة َوقْتًا إذا دَخلوا أعجَلهُم ضِيقُه عن التلبّث‪ ،‬وص َرفَهم ع ِ‬
‫ن بن سهل‪ :‬إذا كان الملك محتجِباً عن الرعيّة‪ ،‬ولم ينزل الوزير نفسه منزل ًة تكون وسائلُ الناس إليه أنفسَهم واستحقاقَهم دون‬ ‫وقال الحس ُ‬
‫الشفاعات والحرمات‪ ،‬حتى يختصّ الفاضلَ دون المفضول‪ ،‬ويرتّب الناسَ على أقدارهم وأوزانهم ومعرفتهم‪ ،‬امتزج التدبير‪ ،‬واختلَت المور‪،‬‬
‫ت مَرَائِرُهُ‪ ،‬وشاعت سرائره‪ ،‬وإنّ‬ ‫ض ْ‬ ‫س فَ ْوضَى‪ ،‬ووَ َهتْ أسبابُ المُلْك‪ ،‬وانتقَ َ‬ ‫ولم يميّز بين الصدور والعْجَاز‪ ،‬والنواصي والذناب‪ ،‬وكان النا ُ‬
‫َأقْ َربَ ما أرجو به صلحَ ما أتوله استماعي من المتنسّمين بأنفسهم‪ ،‬المتوسّلين بأفهامهم‪ ،‬المتوصّلين بكفايتهم‪ ،‬وابتذالُ نفسي لهم‪ ،‬وصبري‬
‫ن ثبتت له دَعْواه أنز ْلتُه تلك المَنْزِلة‪ ،‬ولم أتَحيّفْه حقه‪ ،‬ول‬ ‫عليهم‪ ،‬وتصفحي ما توسلوا به وانتحَلوه من العقول والَداب‪ ،‬والحِماية والكفاية‪ .‬فمَ ْ‬
‫حقّه‪.‬‬‫ب أمَلَه من مقدار ما يست ِ‬ ‫صتُه حظه‪ ،‬ومن قصَر عما ادَعى كانت منزلتُه منزلَة المقصّرين‪ ،‬ولم أخي ِ‬ ‫نَق ْ‬
‫ت إليه وفودُ الذمّ‪،‬‬ ‫عمُودُ تدبيره؛ واسترخَت عليه حمائِلُ ا ْلحَزم‪ ،‬وازدلَ َف ْ‬ ‫حجَاب‪ ،‬وَهي َ‬ ‫وقاد بعضُ البلغاءِ‪ :‬إذا أَسدَل الوالي على نفسه ستْر ال ِ‬
‫س ّرعَ إليه العائبون بلواذع ألسنتهم و َدبِيب قوارضهم‪.‬‬ ‫ل النتشار‪ ،‬وآفةُ الهمال‪ ،‬وتَ َ‬ ‫وتولى عنه رشد الرّاجِي‪ ،‬ونال أمورَه خَلَ ُ‬
‫وحُجب سعيد بن عبد الملك عن عبيد الّ بن سليمان فكتب إليه‪ :‬سِرْتُ إلى بابك ‪ -‬أعزك ال ‪ -‬عندما حدث من أمرك‪ ،‬فلم يُقْضَ لقاؤك‪ ،‬وعلمت‬
‫أن ثِقَتك بما عندي‪ ،‬قد َمثّلَثْ لك حالي من السرور بنعمَةِ الَِ عندك‪ ،‬وأ َر ْتكَ موضعي من العتداد بكل ما خَصَك ووصَل إليك‪ ،‬فوكلت ال ُعذْر إلى‬
‫جبُ عنك‬ ‫ذلك‪ .‬ثم إنا نأتيك متيمَنين بطَ ْلعَتك‪ ،‬مشتاقين إلى رؤيتك‪ ،‬فيحجبنا عنك مُلحظ‪ .‬وهو كما علمت زَنيم الصنيعة‪ ،‬لَئيم الطبيعة‪ ،‬يحْ ُ‬
‫ت له يدٌ بيضاء‪ ،‬أ ْتبَعها يداً سوداء؛ فإن رأيت ‪ -‬أعزك ال ‪ -‬أن تص ِرفَه عن باب مكارمك فعلت‪ ،‬إن شاء ال‪.‬‬ ‫الكِرام‪ ،‬و َي ْأذَنُ عليك لِلئام‪ ،‬كلما نجَم ْ‬
‫وقال أبو السمط بن أبي حفصة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إلى بابه أَل تُضِيءَ الـكـواكـبُ‬ ‫ن بـنُـورِه‬ ‫فتًى ل ُيبَالي المدْلِجُـو َ‬
‫وليس له عن طالب العُرفِ حَاجِبُ‬ ‫له حاجب في كل خَـيْ ٍر يُعِـينـه‬
‫أخذْ البيت الول من قول جده مَرْوان بن أبي حفصة الكبر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫دُجَى الليل يخبِطْنَ السَريح المُخ َدمَـا‬ ‫إلى المصطفى المهديّ خاضت ركابنا‬
‫دليلً به تَسْرِي إذا الليل أظـلَـمـا‬ ‫يكون لها نـور المـامِ مـحـمـد‬
‫وقال إدريس بن أبي حفصة‪ ،‬وذكر إبلً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫عنَاقِها حَادي‬ ‫ومِنَ رجَائك في أ ْ‬ ‫لها أمامك نور تَسْتضِيء ُبـه‬
‫عن الرُتوعِ وتلهيها عن الزّادِ‬ ‫لها أحاديث من ِذكْراك تَشغَلُها‬
‫وأصله قول عمرو بن شأس السدي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫كفى لمطايَانا بوجـهِـكَ هَـادِيا‬ ‫ت أمَـامـنـا‬ ‫ن أدلَجْنا وأَن َ‬ ‫إذا نح ُ‬
‫وإنْ كُن حَسْرَى‪ ،‬أَن تكُونَ أماميا‬ ‫أليس يَزيد العِـيسَ خِـفةَ َأذْرع‬
‫وقال بعض أهل العصر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جدّ شوق مُطمْعٌ في وصاِلكِ‬ ‫وقد َ‬ ‫طرَيه بالسُـرى‬ ‫وليل َوصَ ْلنَا بين قُ ْ‬
‫عرَ المَساِلكِ‬ ‫ق النهْج وَ ْ‬
‫عدْن الطري َ‬‫أَ َ‬ ‫ت علينا من دُجَـاهُ حَـنَـادِس‬ ‫أَ َربّ ْ‬

‫‪149‬‬
‫سفَر منها كل أسودَ حَـالِـ ِ‬
‫ك‬ ‫وأَ ْ‬ ‫فناديتُ يا أسماء‪ ،‬باسمك‪ ،‬فانْجَلت‬
‫ت فينا أكُف المهـالـكِ‬ ‫شبَ ْ‬
‫وقد نَ ِ‬ ‫بنا أنت من هادِ َنجَوْنا بـذكـره‬
‫وقال القطامي‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫خطِريني بِبالِـكِ‬ ‫وإن كنت لمّا تُ ْ‬ ‫ص َفيْتك الهوى‬ ‫منحتك إخلصي وأَ ْ‬
‫عنْه دَياجِرُهْ‬ ‫دُجَى الليل حتى انجابَ َ‬ ‫ذكر ُتكُمُ لَـيْلً فـنـوَر ِذكْـ ُركُـم‬
‫وقال القيني‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫سجُر الليلَ سَاجِـره؟‬ ‫ل ِذكْرَاكم أم ي ْ‬ ‫فو ال ما أدْرِي أَضَ ْو ٌء مُـسَـجّـر‬
‫حبُـهْ‬ ‫إذا مات منهم سيدٌ قام صَا ِ‬ ‫وإني من القومِ الـذين هُـمُ هُـم‬
‫بَدا كَ ْوكَبٌ تأوي إليه كواكـبُـهْ‬ ‫نجومُ سما ًء كلّما انقضّ كوكـب‬
‫وقال الحطيئة‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫ع ثَا ِقبُهْ‬‫دُجَى الليل حتى نَظم الجَ ْز َ‬ ‫ُهـم‬ ‫أضَا َءتْ لهمْ أحسابُهمْ ووجوه‬
‫وقد ردَده في موضع آخر‬ ‫كما أَضاءت نجومُ الَليْلِ للسـارِي‬ ‫نمشي على ضَوْءِ أحْسَابٍ َأضَأْنَ لنا‬
‫فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وكلم القاسم بن حنبل ال َمدَني‬ ‫مِنَ اليا ِم مُظْلِمةٌ أضاءُوا‬ ‫هُمُ القو ُم الذين إذا ألَمـتْ‬
‫من هذا‪ ،‬حيث يقول‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫لَو أنك تستضيءُ بهمْ أَضَاءُوا‬ ‫من البيض الوجوه بَنِي سِنـان‬
‫و َمكْ ُرمَةٍ دنَتْ لهمُ السـمـاءُ‬ ‫فَلَو أنّ السما َء َدنَتْ لـمَـجْـد‬
‫وقال بعض المتقدمين‪:‬‬ ‫ُوا‬ ‫ء‬ ‫شا‬ ‫ث‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ي‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫العشيرة‬ ‫َم‬‫ر‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ومن‬ ‫المعلى‬ ‫همُ حازُوا من الشّ َرفِ‬
‫الطويل‪:‬‬
‫كَفَوْا خَابِطَ الظلما ِء فَ ْقدَ المَصَابحِ‬ ‫جنْحِ ليل وجو ُههُم‬ ‫إذا أشر َقتْ في ُ‬
‫وقال أبو بديل الوضاح بن‬ ‫فكم ث َم مِنْ آسِي جِراح وجَارح‬ ‫ت مُلـمَة‬ ‫ن نابَ خَطْب أو ألمَ ْ‬ ‫وإ ْ‬
‫محمد التيمي في المستعين‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فغطى بها ما بين سهلِ وقـردَد‬ ‫ل قد نَشَـر الـدّجَـى‬ ‫وقائلة واللي ُ‬
‫ل ِميْرَاثُ النبيّ مـحـمـدِ‬ ‫بهِ ح ّ‬ ‫سقِ الذي‬ ‫أرى بارقًا يَ ْبدُو من الجوْ َ‬
‫ل نُورَ ضحَى غدِ‬ ‫رَأ ْينَا بنصفِ اللي ِ‬ ‫أضاءت لهُ الفاقُ حتى كأنـمـا‬
‫سُلوكًا من الجَزع الذي لم يسَـرَد‬ ‫ن تَحتـه‬ ‫عذَارَى الحيّ ينظمْ َ‬ ‫فظلّ َ‬
‫??ما قيل في الشتياق‬ ‫ِ‬
‫د‬ ‫أحمـ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫وج‬ ‫من‬ ‫فالنور‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫ّ‬ ‫وإ‬ ‫تعرفـونـه‬ ‫الذي‬ ‫ُ‬
‫ر‬ ‫ْ‬
‫د‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫ال‬ ‫هو‬ ‫فقلت‪:‬‬
‫عمَر بن عبد ال بن أبي ربيعة في معنى قول عمرو بن شأس في حثً الشتياق‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقال ُ‬
‫ب بـالْـقَـو ِم تَـنْـــكُـــصُ‬ ‫تَراهـا عـلـى العْـقَـا ِ‬ ‫خلـيلـيّ‪ ،‬مـا بـالُ الـمـطـــايا كـــأنـــمـــا‬
‫فقد أ ْتعَب الحادي سُراهُنّ‪ ،‬وانحنىبهنَ فما بَالَوْا عجول مقلّص‬
‫ف تَـــشْـــخَـــصُ‬ ‫فأعْـ ُينُـهَـا مـمّـا تـكَـلّــ ُ‬ ‫صبَابَةَ‬‫طعَت أعناقُهن َ‬ ‫وقد قُ ّ‬
‫وقال بعض الرجاز‪ ،‬وذكر‬ ‫إذا ازدا َد قُـ ْربُ الـدارِ والـبُـــعـــد يَنْـــقُـــصُ‬ ‫يَ ِزدْنَ بـنـا قُــربـــًا فـــيزدادُ شَـــ ْوقُـــنَـــا‬
‫إبلً‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫يريد امرأة يحبّها فيحثه ما‬ ‫لم ُيدْلج الليل َة فيمَنْ َأدْلَجا‬ ‫خدَلـجـا‬
‫إن لها لسائقاً َ‬
‫يجدُه من الشوق على إجهاد مطاياه بالسوق‪ .‬كما أنشد إسحاق الموصلي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وليس َينْسَاكُمُ إنْ حَل أو سَارَا‬ ‫صبّ يحث مطايا ُه بذكْـ ِركُـم‬
‫حتى يبيعَ ب ُعمْرِ القُرْبِ أعمارا‬ ‫لو يستطيعَ طوَىَ اليام نحوكُمُ‬
‫هذا البيت يناسب أبيات أبن‬ ‫ب يُ ْلهِبُ في أحشائِه نَارَا‬ ‫والقر ُ‬ ‫يرجو النجا َة من البلوىَ بقربكُم‬
‫أبي ربيعة‪ .‬يقول‪ :‬كلما دنا ازدادَ حِرْصاً على اللقاء‪.‬‬
‫ع ْكبَراء‪ ،‬فلما قرب من بغداد قال‪:‬‬
‫وشخَصَ إسحاق الموصلي إلى الواثق بسُ ّر من رأى‪ ،‬وأهُلُ ُه ببغداد‪ ،‬فتصيد الواثق وهو معه إلى نواحي ُ‬
‫الوافر‪:‬‬
‫ك منهم قُ ْربُ المَزَارِ‬ ‫جَ‬ ‫وها َ‬ ‫ص ْي ِبيَة الصّغار‬ ‫طربتَ إلى ال َ‬
‫إذَا دَنَتِ الديا ُر مـن الـدَيارِ‬ ‫وكلّ مسافر يَزْداد شـوقـاً‬

‫حبّ وكان إسحاقُ قال أولً‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫ولحّنه وغناه الواثق‪ ،‬فاستحسنه وأطربه‪ ،‬فصرفه إلى بغداد على ما أ َ‬
‫إذا دَنتِ الديارُ من الديارِ‬ ‫وكل مسافر يَشْتاقُ يوماً‬
‫ضعُوا مكانها ِمثْلَها ل خيرًا منها‪ .‬فما‬‫فعابوا قوله يوماً‪ ،‬وقالوا‪ :‬هي لفظة قَلِقة في هذا الموضع‪ ،‬لم تحلّ بمركزها‪ ،‬ول لها هنا موقع‪ .‬قال‪ :‬ف َ‬
‫استطاعوا ذلك‪ ،‬فغيّرها إلى ما أنشدت أولً‪.‬‬
‫وقال أبو نواس‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫بين اشتياق العِيسِ والرّكـبـان‬ ‫أما الدّيار فقلما َلبِـثُـوا بـهـا‬

‫‪150‬‬
‫حتى طَلعْنَ بها على الوْطـانِ‬ ‫ق فوق رِقابها‬ ‫وضعوا سِياطَ الشَوْ ِ‬
‫وقال مَخْلَد بن بكار الموصلي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ظمٍ مجـلّـد‬ ‫ولم يبقِ منها غَيرَ عَ ْ‬ ‫ض ٍو أنْ َفدَ الـسَـير نـيهَـاً‬ ‫أقُولُ ِلنِ ْ‬
‫حنَانُ الحَمامِ الـمـغَـردِ‬ ‫وشَاقَك تَ ْ‬ ‫خدِي بي ابتلك ال بالشَ ْوقِ والهوَى‬
‫ل فَـ ْدفَـدِ‬‫ق ِبيَ المَوْماةَ في ك ّ‬ ‫تَشُ ّ‬ ‫ف دَعْوَةِ عاشـق‬ ‫فمرَت سريعاً خَ ْو َ‬
‫فكانت لها سَوْطاً إلى ضحْوَةِ ا ْل َغدِ‬ ‫ت دَعْوَتـي‬ ‫فلما َونَتْ في السير ث َنيْ ُ‬
‫وكان مخلد حلو الطبع‪ ،‬وهو القائل يمدحُ رجلً‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫فإذا واجَـه نـحـراً أفـل‬ ‫جمُ على صـعْـدَتـه‬ ‫يَطْلُعُ النَ ْ‬
‫َأوْ َردُهنّ مُجَاجَاتِ الطـلـى‬ ‫ظ ِمئَتْ أرماحـهُـمْ‬ ‫َمعْشرٌ إن َ‬
‫حلَـى‬ ‫عبِ ال ُ‬ ‫ستَنكر للرّ ْ‬‫حين تَ ْ‬ ‫تَحْسُنُ اللوانُ منهم في الوَغَى‬
‫ورِضَـا ُه َيتَـعَـدى الَمـلَ‬ ‫ل ُيدْني الَجـل‬ ‫سُخط عبد ا ّ‬
‫وإذا حارَب رَوْضاً َأمْـحَـلَ‬ ‫يُعشب الصّ ْلدَ إذا سـالـمـهُ‬
‫وأياديه على الليل انجـلـى‬ ‫مَلِـكٌ لـو نُـشّــرت آلؤه‬
‫ت فيه العُلَ‬ ‫طال حتى قَصُ َر ْ‬ ‫حَل بالبَأْس ابنُ عَمرو منـزلً‬
‫وتَمشَى في ندَاهُ الْخَـيْزلَـى‬ ‫حطّ رَحْلي فـي ذَرَاه جُـوده‬
‫في الخط‬
‫لمُه‪ ،‬واستقامت سطورُه‪ ،‬وضَاهَى‬ ‫سئِل بعضُ الكتاب عن الخط‪ :‬متى يستحق أن يوصفَ بالجودة؟ فقال‪ :‬إذا اعتدلَت أقسامُه‪ ،‬وطالت أِلفُه و َ‬
‫ق قِرْطاسه‪ ،‬وأظلمت أنْفاسه‪ ،‬ولم تختلف أجْناسه‪ ،‬وأسرع إلى العيون تصوُرُه‪،‬‬ ‫ت عيونُه‪ ،‬ولم تشتبه رَاؤه ونونُه‪ ،‬وأشْ َر َ‬ ‫ح ْ‬‫حدُورُه‪ ،‬وتفتّ َ‬
‫صعودَه ُ‬
‫جلِيله‪ ،‬وخرج من َنمَطِ الورّاقين‪ ،‬و َب ُعدَ عن تصنعِ المحررين‪ ،‬وقام‬ ‫جتْ وُصُوله‪ ،‬وتناسب دقيقُه و َ‬ ‫وإلى العقول تَ َثمُرُه‪ ،‬و ُقدّرت فصوله‪ ،‬وا ْندَمَ َ‬
‫لصاحبه مقام النسبة والحليَة‪ ،‬كان حينئذ كما قال صاحب هذا الوصف في صفة خط‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫وسا َورَه القلمُ ال ْرقَـشُ‬ ‫إذا ما تجلّل ِقرْطَـاسـه‬
‫ل أنْ َقشُ‬
‫كنَ ْقشِ الدنانير‪ ،‬بَ ْ‬ ‫تَضمّنَ منْ خَطّهِ حُـلّة‬
‫خفَش‬ ‫نشاطاً ويقرؤها ال ْ‬ ‫حروف ُتعِي ُد لعين الكَليل‬
‫ق من الزجاج‪ ،‬ووَجْهي عند الناس‬ ‫ق من ِمسْطرة‪ ،‬وجَاهي أر ّ‬ ‫حبَرة‪ ،‬وجسمي أد ّ‬ ‫قال أبو هفان‪ :‬سألت ورَاقاً عن حاله فقال‪ :‬عيشي أضيق من مِ ْ‬
‫شرَابي أحرّ من الحبر‪ ،‬وسوءُ‬ ‫صبَة‪ ،‬وطعامي أم ّر من العَفْص؛ و َ‬ ‫ضعَف من قَ َ‬ ‫خفَى من شقّ القلم‪ ،‬ويَدَاي أ ْ‬ ‫أشدّ سواداً من الحبر بالزّاج‪ ،‬وحظي أ ْ‬
‫صمْغ؛ فقلت له‪ :‬عبرتَ عن بلء ببلء!‪.‬‬ ‫الحال ألزمُ لي من ال َ‬
‫وقال الحمدوني‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ت مِنْ ِهمَمي‬ ‫عنَانَ شَأْوِي عما رم ُ‬ ‫ِ‬ ‫ن من أدَوَاتِ العِلْ ِم قد ثـنـتـا‬ ‫ثِنتا ِ‬
‫ف مِنَ الـقَـلـمِ‬ ‫وقلّم الحظّ تحري ٌ‬ ‫أما الدَواةُ فَأ ْدمَى ج ْرمُها جَـسَـدي‬
‫سوَامَ المالِ والـنـعـمِ‬ ‫عنّي َ‬ ‫تَذودُ َ‬ ‫حبَرة‬
‫وحَب َرتْ لي صحْف الحرف مِ ْ‬
‫لعصمتي نَافِرٌ خِ ْل ّو من العِـصَـمِ‬ ‫والعِ ْل ُم يَعْـلَـمُ أنـي حِـينَ آخـذُهُ‬
‫ح ْمدَويه‪ ،‬وحمدويه جدّه‪ ،‬وهو‬
‫وللحمدوني في الحرفة أشعار مستظرفة؛ وكان مليح الفتنان‪ ،‬حلو التصرف؛ وهو إسماعيل بن إبراهيم بن َ‬
‫صاحب الزنادقة في أيام الرشيد‪ ،‬والحمدوني القائل‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ن من نَظّارة الدنـيا‬ ‫فنَحْ ُ‬ ‫مَنْ كان في الدنيا له شَارةٌ‬

‫ظ بل َمعْنَـى‬
‫كأننا َلفْ ٌ‬ ‫سرَة‬
‫نَ ْرمُقها مِن َكثَبٍ ح ْ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل تَ ْقنَطوا واستمطِرُوا بـثـيابـي‬ ‫ت إذْ خرجوا لكي يس َتمْطِروا‪:‬‬ ‫قد قُ ْل ُ‬
‫غَطّى ضياءَ الشمس جو سَحـاب‬ ‫ت بغَسْلِـهـا‬
‫ن ه َممْ ُ‬ ‫لو في حَزيرا ٍ‬
‫عمَرٌ فيرويه ْم دُعـا ُء مُـجَـابِ‬
‫ُ‬ ‫ستَـسْـقـي بـه‬ ‫س يَ ْ‬‫فكأنها العبا ُ‬
‫صنعة الدب‬
‫وقال آخر في المعنى الول‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫عن كل حظ وجاءت حِ ْرفَ ُة الدبِ‬ ‫ح ّر َفنِـي‬
‫لما أجدْتُ حروفَ الخط َ‬
‫ط القلمِ والـكُـتُـبِ‬ ‫مخيماً سَفَ ُ‬ ‫أقْوَت منازلُ مالي حين وطّنـهـا‬
‫وقال يعقوب الخريمي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫إل تزيدْت حَرْفاً تحـتـه شُـومُ‬ ‫حرْفاً ُأسَ ّر به‬
‫ما ا ْز َددْتُ في أدَبي َ‬
‫أنّى توج َه فيها َفهْوَ مَـحْـرُومُ‬ ‫كذاك من يَدّعي حُذقاً بصنعَـتـه‬
‫ي بن محمد بن بسام‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫حتْفَ أنفه‪ ،‬قال عل ّ‬
‫ولما قتل المقتدر أبا العباس بن المعتز‪ ،‬وزعم أنه مات َ‬
‫سبِ‬
‫ناهيكَ في العلم والَداب والح َ‬ ‫ت بـمَـضْـ َيعَة‬
‫ن مَـيْ ٍ‬
‫ل دركَ مِ ْ‬
‫وإنما أدركَـتـه حـرفة الدب‬ ‫ما فيه لَوّ ول َليْتٌ فـينـقـصـهُ‬
‫قال ابن الرومي‪ :‬الكامل‪:‬‬

‫‪151‬‬
‫صمُوا من الشهوات والفتن‬ ‫ع ِ‬‫ُ‬ ‫ت إذْ حُرِمـوا‬ ‫يا ليت أهل البي ِ‬
‫فقلوبهم مَرضَى الـحـزنِ‬ ‫لكنهم حُرِموا وما عُصِمـوا‬
‫من غيرهم بمَضَاضَة الشجَن‬ ‫وهُمُ أطَبّ على بَـلِـيّتـهـمْ‬
‫ن كسب المال بالحظّ‪،‬‬ ‫ل ما فيها بعَقْل ول حيلة‪ ،‬ألَ إ ّ‬ ‫وقال جعفر بن محمد‪ :‬إن ال وسَع أرزاقَ الحَمقَى ليعتبرَ العقلء‪ ،‬ويعلموا أن الدنيا ل ُينَا ُ‬
‫وحِفظَه بالعقل‪.‬‬
‫ب لئيم؛ لنَ الشكلَ يصير إلى شَكلِه‪ ،‬وهو عند اللئام أ ْكثَرُ منه عند الكرام‪ .‬قال المتنبي ‪ -‬وأخذ هذا المعنى‪:‬‬ ‫قال إبراهيم بن سيّار النظام‪ :‬الذه ُ‬
‫الوافر‪:‬‬
‫وأشبَهنَا بِدنيَانَا الطغَـام‬ ‫جذِب إليهِ‬ ‫شبْهُ الشي ِء ُمنْ َ‬
‫وِ‬
‫حبَسَ لنفسه بُلْغة‪ ،‬وفرّق الباقيَ في‬ ‫وكان النظام له نظر بوجوهِ التصرّف‪ ،‬وكان السلطان يَصِفه بالكثير‪ ،‬وكان محظوظاً؛ فإذا اجتمع له مال َ‬
‫ن يَقِيني‬
‫أبواب المعروف؛ فقيل له في ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬مِنْ حقّ المالِ عليَ أن أطُلبَه من َمعْدنه‪ ،‬وأصيب به للفُ ْرصَةَ عند أهله؛ ومن حقّي عليه أ ْ‬
‫عرْضي بابتذاله‪ ،‬ول يفعل ذلك إلَ بأن أسمح به؛ أل ترى ذا الغنى؛ ما أدْوَم نَصبه‪ ،‬وأقلّ راحته‪ ،‬وأخ ّر من ماله حَظّه‪،‬‬ ‫السوء بنفسه‪ ،‬ويصونَ ِ‬
‫وأشد من اليام حذَره‪ ،‬وأغْرى الدهر بثَ ْلبِه ونَقْصِه‪ ،‬ثم هو بين سلطان يَرْعاه‪ ،‬وذوي حقوق يسبّونه وأكفاء ينافسونه‪ ،‬وولد يريدون فِرَاقَه‪ ،‬قد‬
‫بعث عليه ال ِغنَى من سلطانه العَناء‪ ،‬ومن أكفائه الحَسَد‪ ،‬ومن أعدائهِ ال َبغْي‪ ،‬ومن ذوي الحقوقِ الذمّ‪ ،‬ومن الولدِ المَلَلَ‪ ،‬وذو البلغة قِنعَ فدام له‬
‫السرور‪ ،‬ورفض الدنيا فسَلِمَ من المحذور‪ ،‬ورَضِي بالكفاف فتنكّبته الحقوق‪.‬‬
‫أدوات الورّاق‬
‫قال الصولي‪ :‬أنشدني محمد بن أحمد بن إسحاق‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ت ذَا هَـ ّم وذا اخـتِـرَاقِ‬ ‫ظلْ ُ‬
‫فَ‬ ‫ج ْفنَيّ والـمـآقـي‬ ‫أدْمى البُكا َ‬
‫أ ْدنَى ول أشقَى مـن الـورّاقِ‬ ‫ما إن أرى في الرض والفاقِ‬
‫رأيته مـطـيرة الـعُـشّـاقِ‬ ‫إذا أتى في ال ُقمُصِ الخْـلقِ‬
‫كفرْحَةِ الجـنـدي بـالرزاق‬ ‫يفـرح بـالقــلم والوراق‬
‫وقال بعض الوراقين‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫وطول النهار أنَا ألعـبُ‬ ‫ل ل أ ْكتُـبُ‬ ‫إذا كنتَ باللي ِ‬
‫شرَبُ‬ ‫وطورًا يبطّلني مَ ْ‬ ‫فطوراً يبطّلني مَـأكَـلٌ‬
‫فبيتيَ أوّل مـا يَخْـرب‬ ‫فإنْ دامَ هذا على ما أرى‬
‫ق نَحِيزته‪.‬‬
‫حبْرًا بَرَاقاً‪ ،‬وجلوداً ِرقَاقاً‪ .‬وكل امرئ فأمنيته على ما يطابِقُ غريزته‪ ،‬ويوا ِف ُ‬ ‫وقيل لورّاق‪ :‬ما تَشتَهي؟ فقال‪ :‬قلمًا مَشَاقاً‪ ،‬و ِ‬
‫اللذات‬
‫شحْم مكروبة‪،‬‬ ‫سئِل امرؤ القيس‪ :‬ما أطيب لذّات الدنيا؟ قال‪ :‬بيضاء رغبوبة‪ ،‬بالحسن مكبوبة‪ ،‬وبال َ‬ ‫ي بن جبلة العكوك‪ :‬قال الصمعي‪ُ :‬‬ ‫قال عل ّ‬
‫شبُوبة‪.‬‬
‫ك مَ ْ‬
‫سِ‬‫بالمِ ْ‬

‫ب غادية‪.‬‬ ‫صوْ ِ‬
‫ص ْهبَاء صافية‪ ،‬تمزُجُها سَاقية‪ ،‬من َ‬ ‫وسئل العشى عن ذلك‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫ب َبهِي‪ ،‬ومطعم شهي‪.‬‬‫وسئل طرفة عن ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬مركب وَطيّ‪ ،‬وثَ ْو ٌ‬
‫قال العكوك‪ :‬فحدَثت بهذا أبا دُلَف‪ ،‬فقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫جيَادِ‬ ‫واختيال على مُتُونِ ال ِ‬ ‫أطيبُ الطيّبات َقتْلُ العادِي‬
‫ب يَأْتي بل مـيعـادِ‬ ‫وحبي ٌ‬ ‫ورَسول يَ ْأبَى بوَعْد حبـيبٍ‬
‫وحدَثت بذلك حُميداً الطوسي‪ ،‬فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ع َودِي‬ ‫وجدّك‪ ،‬لم أحْفلْ متى قام ُ‬ ‫ن مِنْ َلذّةِ الفَـتَـى‬ ‫فلول ثلثٌ ه ّ‬
‫كُميْت‪ ،‬متى ما ُتعْل بالماء ت ْز ِبدِ‬ ‫ت بِـشَـرْبةٍ‬ ‫سبْقُ العَاذل ِ‬ ‫فمنهن َ‬
‫كَسِيد الغَضا ذي السَوْرة المتوَ َردِ‬ ‫ف مُحنَبـاً‬ ‫وكَرَي إذا نادى المُضَا ُ‬
‫خبَاء المـعَـمّـدِ‬ ‫ب َب ْهكَنَةٍ تحت ال ِ‬ ‫ن مُـعْـجِـبٌ‬ ‫وتقصي ُر يَ ْو ِم الدَجْ ُ‬
‫الشعر لطرفة بن العبد‪.‬‬
‫وحدثت بذلك يزيد بن عبد ال‪ ،‬فقال‪ :‬ما أدري ما قالوا‪ ،‬ولكني أقول‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ن قَ َر عينا ِبعَيْشِه نَ َفعَـهْ‬
‫مَ ْ‬ ‫ك بِهِ‬
‫ل من الدّهْرِ ما أتا َ‬ ‫فَا ْقبَ ْ‬
‫فكان أسدَهم‪.‬‬
‫والبيت للضبط بن قُرَيع‪ ،‬أنشده أبو العباس ثعلب‪ ،‬قال‪ :‬وبلغني أن هذه البيات قيلت قبل السلم بدَهْرٍ طويل‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ح مَعـهْ‬ ‫ي ل فل َ‬ ‫سُ‬‫والصبحُ والمُ ْ‬ ‫لكل ضيق من الُمـور سَـعَـهْ‬
‫َيمْلِك شيئًا مـن أمْـرِهِ َوزَعَـهْ‬ ‫ل مَنْ سره مـصـابُـك ل‬ ‫ما با ُ‬
‫خدَعَهْ؟‬ ‫يا قوم‪ ،‬مَن عاذِري من ال َ‬ ‫أذُود عن حَ ْوضِه و َيدْفـعُـنـي‬
‫أ ْقبَل يَلْحَى وغَـيه فَـجَـعـه‬ ‫حتى إذا ما انجلـتْ عَـمـايَتـهُ‬
‫جمَـعـهْ‬ ‫ويأكلُ المالَ غيرُ من َ‬ ‫قد يجمعُ المـالَ غـيرُ آكـلـهِ‬
‫ويلبسُ الثوبَ غي ُر مَن َقطَعـه‬ ‫ويقطعُ الثـوبَ غـيرُ لبـسـهِ‬
‫مَنْ قر عينًا بعيشـه نَـفَـعَـهْ‬ ‫ل من الدّهْرِ مـا أتَـاك بـهِ‬ ‫فا ْقبَ ْ‬
‫طعَهْ‬ ‫ن قَ َ‬ ‫حبْلَ‪ ،‬وأقْصِ القريبَ إ ْ‬ ‫َ‬ ‫صلْ حبالَ البعيد إنْ وَصَـلَ الْ‬ ‫و ِ‬
‫‪152‬‬
‫تَ ْركَعَ يوماً والدهرُ قد َرفَـعـ ْه‬ ‫ول ُتعَادِ الـفـقـيرَ عَـلـكَ أنْ‬
‫هذا البيت شبيه بما روي عن عائشة‪ ،‬رضي ال عنها‪ ،‬قالت‪ :‬كان رسول ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كثيراً ما يستنشدني قول اليهودي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫يومًا ف ُتدْ ِركَه العواقب قد نـمـا‬ ‫ارف ْع ضعيفك ل يَحُ ْر بكَ ضعفهُ‬
‫ت كمَنْ جَزَى‬ ‫أ ْثنَى عليك بما َفعَلْ َ‬ ‫يجْزِيك‪ ،‬أو ُيثْنى عليك‪ ،‬وإن مَن‬
‫فأنشده‪ ،‬فيقول‪ :‬إني فطِن لها‪.‬‬
‫وكان الضبط سيد بني سعد‪ ،‬وكانوا يشتمونه ويؤذونه‪ ،‬فانتقل إلى حي من العرب فوجدهم يؤذون سادتهم‪ ،‬فقال‪ :‬حيثما أوجّه ألق سعداً! فذهبت‬
‫مثلً‪ .‬قال الطائي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سجي ُة نَفْسٍ‪ ،‬كل غانِيةٍ هِـنـدُ‬ ‫سبَنْ هنداً لها الغَدْرُ وحدها‬ ‫فل تَحْ ِ‬
‫وصف المحبرة والقلم‬
‫ض الكتاب يصف محبرة‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫قال بع ُ‬
‫وإذا بحضْرَته ظِـبـاءٌ ُرتّـعُ‬ ‫ضيْتُ إلى المحدّث آنفـاً‬ ‫ولقد م َ‬
‫سمَعُ‬ ‫ُيمْلَى‪ ،‬وتحفظ ما يقول وتَ ْ‬ ‫ب كل مـا‬ ‫س تكتُ ُ‬ ‫ظبَا ُء النْ ِ‬ ‫وإذا ِ‬
‫بيضا َء تحمِلُها عَـلئِقُ أربـعُ‬ ‫حبْ َر من ملـمـومةٍ‬ ‫يتجاذبون ال ِ‬
‫ح ويَلْـمَـعُ‬‫ج يَلـو ُ‬‫فكأنها سبَ ٌ‬ ‫غيّر َلوْنهـا‬ ‫من خالص البَلّور ُ‬
‫طمَـعُ‬ ‫فيما ح َوتْهُ عاجلً‪ ،‬ل يَ ْ‬ ‫ن نكّسوها لم تَسِلْ‪ ،‬ومليكـهـا‬ ‫إْ‬
‫أداه فُوهَا وهي ل تتـمـنَـعُ‬ ‫ومتى أمالوها لِ َرشْفِ رُضابهـا‬
‫أبداً‪ ،‬ويكَت ُم كل ما يُسْـتـودَعُ‬ ‫وكأنها قَلْبـي يَضِـن بـسِـرَه‬
‫يجري بميْدَانِ الطّروس فيُسْرعُ‬ ‫َيمْتَاحُها ماضِي الشبَاة مُـذَلـق‬
‫حفَاهُ ساعةَ يقـطَـعُ‬ ‫يلقاه برد َ‬ ‫س عنـده لـكِـنّـه‬ ‫لهُ رأ ٌ‬ ‫رِجْ َ‬
‫صلِ خريد ٍة يتَصَـنّـع‬ ‫خ توَ ْ‬ ‫شي ٌ‬ ‫حبْ ُر يَخْضِـبُ رأسـهُ‬ ‫وكأنّه وال ِ‬
‫وبه إلى الِ الصحائفَ ترفع؟‬ ‫لِمَ ل أُلحظه بـعَـيْنِ جـللةٍ‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫خلْقِ مرتضى الخلقِ‬ ‫مستَحسَنُ ال َ‬ ‫حبَرة جَادَ لي بـهـا قَـمَـرٌ‬ ‫مِ ْ‬
‫ناطَتْ له المكرمات في عنقي‬ ‫جوهرة خَصنـي بـجـوهـرةٍ‬
‫أسْ َودُ كالمِسْك جِد منـفَـتِـقِ‬ ‫بيضاء والحِبرُ في قَرَارَاتِـهـا‬
‫مُسْ َودُ ما شَابَه مِـنَ الـحَـدَقِ‬ ‫مثل بـياضِ الـعـيون َزيّنـهُ‬
‫ظلّه عـلـى الـوَ َرقِ‬ ‫أقل ُمنَا ِ‬ ‫كأنما حِـبـرُهَـا إذا نَـثَـ َرتْ‬
‫نُجْل فأَ ْوفَت بِهِ عـلـى يَقَـقِ‬ ‫ن مِنْ مُـقَـل‬ ‫ل مَرَته ال ُعيُو ُ‬ ‫كحْ ٌ‬
‫عَونَاً على عِلم أفصح النّطُـقِ‬ ‫خَ ْرسَاء لكنّهـا تـكـون لـنَـا‬
‫وقال عبد ال بن أحمد‪ :‬القلم أ ْمرَهُ‪ ،‬ما لم يَكتَحِل بإثمِد الدّوَاة‪.‬‬
‫ل َف ْرعٌ ‪ ،‬والعلمُ أصل‪ ،‬وإنما بلَغنَا هذه‬‫وكتب إبراهيم بن العباس كتاباً فأراد مَحو حرف فلم يجد منديلً‪ ،‬فمحاه ب ُكمّه فقيل له في ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬الما ُ‬
‫الحال‪ ،‬واعتقدنا هذه الموال بهذا القلم والمداد‪ ،‬ثم قال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وأدّاه الضميرُ إلى الـعِـيانِ‬ ‫ضمَرَ حُسْنَ لَفظٍ‬ ‫إذا ما الفكرُ أ ْ‬
‫فصيحٌ بال َمقَالِ وبالـلَـسـان‬ ‫ووَشّاه و َنمْـنَـمَـه مـسَـدّ‬
‫ك بينها صوَر المعاني‬ ‫حُ‬‫تَضَا َ‬ ‫ن مـنـوّرات‬ ‫رأيت حُلَى البيا ِ‬
‫ألفاظ لهل العصر في أوصاف آلت الكتابة والدويّ والقلم‪.‬‬
‫ص ْنعَة‪ ،‬رَشيقة‬
‫غيْ ُر الفهام‪ ،‬ول يمتح بغير أَرشية القلم‪ ،‬دواة أنيقة ال ّ‬ ‫الدواة من أنفع الدوات‪ ،‬وهي للكتابة عتَاد‪ ،‬وللخاطر زنَاد‪ ،‬غدير ل ي ِردُه َ‬
‫ح ْكمَة من أقْطَاره‪ ،‬وتنشأ سُحُبُ البلغة مِنْ قراره‪ .‬دواة تداوي مرض عفاتك‪،‬‬ ‫حلْية‪ .‬غدير تفيض ينابيعُ ال ِ‬ ‫الصبغة‪ ،‬مسكيّة الجلد‪ ،‬كافُورِية ال ِ‬
‫وتدوي قلوب عداتك‪ ،‬على مرفع يؤذن بدوام رفعتك‪ ،‬وارتفاع النوائب عن ساحتك‪ ،‬ومداد كسواد ال َعيْنِ‪ ،‬وسُ َويْداءِ القلب‪ ،‬وجناح ال ُغرَاب‪،‬‬
‫ولعابِ الليل‪ ،‬وألوانِ دهمِ الخيل‪ .‬وهذا من قول ابن الرومي‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫ن دُهْمِ الـخـيلِ‬ ‫كأنه ألوا ُ‬ ‫ص لعَاب الليلِ‬ ‫حبر أبي حَف ٍ‬
‫جمَة المحاسن‪ ،‬بعيدة من المَطَاعِن‪ ،‬تعاصي الكاسي‪ ،‬وتمانِع‬ ‫شرْخِ الشباب‪ ،‬وأقلم َ‬ ‫قال العاصر‪ :‬مِدادٌ ناسب خافِية الغُرَاب‪ ،‬واستعار لونَه من َ‬
‫الغامِزَ الْقَاسِي‪ .‬أنابيب ناسبت رِماح الخطّ في أجْناسها‪ ،‬وشاكلت الذهبَ في ألوانها‪ ،‬وضاهَت الحديدَ في لمعانها؛ كأنها الميالُ استواءً‪ ،‬والجالُ‬
‫شيّةُ اللّيط‪ ،‬رائقة التخطيط‪ .‬قل ٌم معتدل ال ُكعُوب‪ ،‬طويل‬ ‫مَضاءً‪ ،‬بطيئة الحَفى‪ ،‬قوية القُوَى‪ ،‬ل يُشظيها القَطُ‪ ،‬ول يتشعّبُ بها الخطُ‪ .‬أقلم بحرية مَوْ ِ‬
‫ضيّة‪ .‬نعم‬
‫النبوب‪ ،‬باسِقُ الفروع‪ ،‬رَ ِويً ال َي ْنبُوع‪ ،‬هو أَوْلَى باليد من ال َبنَانِ‪ ،‬وَأخْفَى للس ّر من اللّسان‪ .‬هو للنامل مطيّة‪ ،‬وعلى الكتابة معونة مَ ْر ِ‬
‫ت كان مسجونًا ل يملّ السار‪ ،‬وإن شئتَ كان جواداً جارياً ل يعرفُ‬ ‫ال ُعدَة القلم‪ :‬يقلم أظافِرَ الدّهر‪ ،‬ويملك القاليم بال ّنهْي والمر‪ ،‬إن أ َردْ َ‬
‫حجِ ُم إذا أحجمت ال ّرمَاح‪.‬‬ ‫العِثار‪ ،‬ل ينْبُو إذا َنبَتِ الصّفَاح‪ ،‬ول يُ ْ‬
‫قال أبو الفتح كشاجم‪ ،‬يصف محبرة ومقلمة وأقلماً وسكيناً‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫عتَـا ٍد وثَـرَا ًء ونَـشَـبْ‬ ‫ومن َ‬ ‫جسمي من الّلهْو وآلتِ الطـ َربْ‬
‫وهمّة طمّاحة إلـى الـ ُرتَـبْ‬ ‫ن تَصْـطَـحِـبْ‬ ‫ومن مُدَام و َمثَا ٍ‬
‫معمور ٌة من كـلّ عِـلْـ ِم وأدَبْ‬ ‫س مَصُـونَة مِـنَ الـ ّريَبْ‬ ‫مَجَال ٌ‬

‫‪153‬‬
‫شعْراً وأخبارًا ونحواً يقتـضـبْ‬ ‫ِ‬ ‫ث تَلْـتَـهِـبْ‬
‫حرّ الحدي ِ‬
‫تكَادُ مِنْ َ‬
‫عدِ في قَلْبِ ال ُمحِـبْ‬
‫وفقَراً كالوَ ْ‬ ‫ولغ ًة تجمعُ ألْـفَـاظَ الـعـربْ‬
‫ي تُنتخَـبْ‬ ‫سبِي من دُ ِو ّ‬ ‫حْ‬‫أجَلْ‪ ،‬و َ‬ ‫أو كتأتّي الرزق مِنْ غيرِ طلـبْ‬
‫حبْرُ اللَـبّ‬‫حبَرَة يُزْهَى ِبهَا ال ِ‬
‫مْ‬ ‫محـلّـيات بـلُـجَـيْنٍ وذهَـبْ‬
‫شنُوفِ الخُ َردِ البيض العُرُب‬ ‫مثل ُ‬ ‫مثقوبة آذَانُها‪ ،‬وفـي الـثـقُـب‬
‫َأسْوَد يَجْري بمعانٍ كالشُـهُـبْ‬ ‫تضمن قطراً لل َكتْـب عـشُـبْ‬

‫ي بِسَـبَـ ْ‬
‫ب‬ ‫نِيطَتْ إلى يُسْرَى يَدَ ّ‬ ‫ن نَـضَـ ْ‬
‫ب‬ ‫ل َتنْضُب الحكمةُ إلَ إ ْ‬
‫ت تُصْطَحَـبْ‬ ‫تصحبها‪ ،‬والخَوا ُ‬ ‫طرَبْ‬ ‫كالقُرْطِ في الجيدِ َتدَلّى فاضْ َ‬
‫حمِلْ عَقَـبْ‬ ‫لم َيعْلُها رِيشٌ ولم تَ ْ‬ ‫كأنه يودع َنبْـلً مـن قَـصَـبْ‬
‫تَرْمي بها يمنايَ أعْراضَ ال ُكتُبْ‬ ‫حكُ الوْرَاقُ حتى يَنتحِـبْ‬ ‫ل َتضْ َ‬
‫و ُمدْية كالعَضْبِ ما مَسَ القَصَبْ‬ ‫ص ْد به السمْتَ ُأصِب‬ ‫رمياً متى أقْ ِ‬
‫ن وتَـثِـبْ‬‫تَسْطُو بها في كل حي ٍ‬ ‫ضبَى على القْلَم من غير س َببْ‬ ‫غَ ْ‬
‫فتلك آلتـي‪ ،‬وآلتـي تُـحَـبّ‬ ‫وإنما ترْضيكَ في ذاك الغَضـبْ‬
‫ل سيما ما كان ِمنْـهـا لـلدَبْ‬ ‫ستَحَبّ‬ ‫ت ممّا يُ ْ‬ ‫ظرْفُ في الل ِ‬ ‫وال ّ‬
‫من أخبار الخليفة المأمون‬
‫ل ذهب به‪ ،‬ول غلّة إل غَلّها‪ ،‬ول ضَيعَةً‬ ‫تظلم رجلٌ إلى المأمون من عامل له‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬ما ترك لي فِضة إلَ فضَها‪ ،‬ول ذهباً إ ّ‬
‫إل أضاعها‪ ،‬ول عِلْقاً إل عَلِقًه‪ ،‬ول عَرَضاً إل عَرض له‪ ،‬ول ماشية إل امْتشّها‪ ،‬ول جليلً إلَ أجْلَه‪ ،‬ول دقيقًا إل أ َدقّه‪ ،‬فعجب من فصاحته‬
‫جتَه‪.‬‬
‫وقضى حا َ‬
‫ت في نوبتي ليلةً فخرج متفقّدا مَنْ حَضَر‪ ،‬فعرفته ولم يعرفني‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫قال عمرو بن سعد بن سلم‪ :‬كانت علي نوبة أنوبها في حرس المأمون‪ ،‬فكن ُ‬
‫سعَدك ال‪ ،‬ابن سلم‪ ،‬سلمك ال‪ .‬فقال‪ :‬تكلَؤُنا منذ الليلة‪ .‬قلت‪ :‬ال َيكْلَؤُك َقبْلي‪ ،‬وهو خير حافظاً‬ ‫عمْرو‪ ،‬عمرك ال‪ ،‬ابن سعيد‪ ،‬أ ْ‬ ‫من أنت؟ قلت‪َ :‬‬
‫وهو أرحم الراحمين‪.‬‬
‫فقال المأمون‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫ومَن يَضُ ُر نَفسَه لينْـفَـعًـك‬ ‫سعَى َمعَكْ‬ ‫ق من يَ ْ‬ ‫إن أخاك الح ّ‬
‫ل نَ ْفسِهِ ليجـمَـعَـكْ‬
‫بَدد شَم َ‬ ‫صدَعَك‬ ‫ن إذا صَرفُ زمان َ‬ ‫ومَ ْ‬
‫وصف الروض والزهور‬
‫وقال علي بن العباس الرومي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل تَوَرُدها عليه شَـاهِـدُ‬ ‫خج ً‬ ‫خجِلتْ خُدودُ ال َو ْردِ من تَفْضِيله‬ ‫َ‬
‫إل وناحِلُه الفضـيلةَ عَـانِـدُ‬ ‫لم يخجل الوردُ المو َردُ لونـه‬
‫بين الرياض طريفه والتّالـدُ‬ ‫للنرجس الفَضْلُ المبين إذا بَدَا‬
‫وكان ابنُ الرومي متعصباً للنرجس‪ ،‬كثير الذمّ للورد‪ ،‬وكتب إلى أبي الحسن ابن المسيب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫س معه ا ْبنَةُ ال ِعنَـبِ‬ ‫في نَرْجِ ِ‬ ‫أدْرِك ثِقَاتكَ إنهـم وَقـعـوا‬
‫عجَبِ‬ ‫ب ومن َ‬ ‫ت من عُجْ ٍ‬ ‫سبحْ َ‬ ‫فهُمُ بحالٍ لو بَصُـرْتَ بـهـا‬
‫وشرا ُبهُ ْم دُرٌ علـى ذهَـبِ‬ ‫َريْحَا ُنهُمْ ذَهبٌ عـلـى دُرَرٍ‬
‫حلَباً على حَـلَـب‬ ‫دَرَ الحيا َ‬ ‫شتْوِية رَضعَـتْ‬ ‫في َروْضَةٍ َ‬
‫في ِه بمُطّلَ ٍع ومُـحْـتَـجـب‬ ‫ن فَـحُـ َرتُـهُ‬
‫واليو ُم َمدْجُـو ٌ‬
‫ضوءاً يلحِظنا بل لَـهَـبِ‬ ‫ظلت تسامرنا وقد بَـعَـثَـت‬
‫س َتهْتراً بالنرجس‪ ،‬وكان يقول‪ :‬هو ياقوت أصفر‪ ،‬بين در أبيض‪ ،‬على زمرد أخضر‪ ،‬نقله بعض المحدثين فقال‪:‬‬ ‫وكان كِسْرى أنو شروان مُ ْ‬
‫الطويل‪:‬‬
‫مركَبة في قائ ٍم مِن َزبَرْجَـدِ‬ ‫س دُرَة‬ ‫وياقوتة صفراء في رأ ِ‬
‫نَثي ُر فِرن ٍد قد أطاف ِبعَسْجـدِ‬ ‫كمثل بهي الدر عقد نظامهـا‬
‫بقي ُة دَمع فوق خَـدً مـو َردِ‬ ‫جنَباتِـهـا‬ ‫كأن بقايا الطلّ في َ‬
‫رجع إلى ابن الرومي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن هذا طـاردُ‬ ‫زَهَر الربيع وأ َ‬ ‫فَضلُ القضـي ِة أن هـذا قـائد‬
‫بتَص ُرمِ الدنـيا‪ ،‬وهـذا وَاعـدُ‬ ‫شتانَ بين اثنين‪ :‬هذا مُـوعـدٌ‬
‫بحياته‪ ،‬لـو أن حـيا خـالِـدُ‬ ‫ت به فأمتَعُ صاحبٍ‬ ‫فإذا احتفظ َ‬
‫عدُ‬‫ع يُسَا ِ‬ ‫وعلى ال ُمدَامَةِ والسَما ِ‬ ‫ينهى النديمَ عن القبيح بلَحظِـهِ‬
‫أبداً؛ فإنك ل مـحـالة واجِـد‬ ‫اطلب بعَقْلك في الملح سَميه‬
‫ما في الملَح له سمي واحـد‬ ‫والور ُد إن فتّشت فردٌ في اسمه‬
‫حيَا السحابِ كما يربي الوالد‬ ‫بَ‬ ‫هذي النجوم هي التي ربّينهـا‬

‫‪154‬‬
‫شبَهًا بوالده فذاك الـمـاجـد‬ ‫فانْظُرْ إلى الولدين‪ ،‬مَنْ أدناهما‬
‫ورياسةً‪ ،‬لول القياس الفاسد؟‬ ‫أين الخدود من العيون نفـاسةً‬
‫وقد ناقضه جماع َة من البغداديين وغيرهم في هذا المذهب‪ ،‬وذهبوا إلى تفضيل الوردِ؛ فما دانَوه وما استطاعوه‪.‬‬
‫قال أحمد بن يونس الكاتب رادًا عليه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن فـهـمَـك راقـد‬ ‫دُعِجِ‪ ،‬تنبه إ ّ‬ ‫شبّه نَ ْرجِسـاً بـنـواظـرٍ‬ ‫ن يُ َ‬
‫يا مَ ْ‬
‫بين العيون وبينـه مـتَـبـاعـد‬ ‫ح قـياسـهُ‪،‬‬ ‫إنّ القياسَ لمن يصـ ّ‬
‫فعل َم تَجحَد فَضلَه يا جـاحـد؟‬ ‫والوردُ أصدقُ للخـدودِ حـكـايةً‬
‫تخلـيده‪ ،‬لـو أنّ حـياً خـالـد‬ ‫عمْرُه مُسْـتَـأهِـل‬‫مَلك قصير ُ‬
‫ما في المِلح له سمـيّ واحِـد‬ ‫إنْ قلت إنّ الور َد فَرد في اسمـه‬
‫والبدر يُشرَك في اسمه وعطَارِد‬ ‫س تُفْ َردُ باسمها والمشتـرَي‬ ‫فالشم ُ‬
‫ب كما يُربّي الـوالـد‬ ‫سحَا ِ‬ ‫حيَا ال َ‬
‫بَ‬ ‫أو قلت إنّ كواكـبـا ربـينـهـا‬
‫جدْوَى هو الزّاكِي النجيبُ الرّاشد‬ ‫َ‬ ‫طبْع أبـيه فـي ال‬ ‫قلنا أحقّهما بِ َ‬
‫ولها منـافـعُ جـمة وعَـوَا ِئدُ‬ ‫زُهْرُ النجو ِم تَرُوقُنا بـضِـيائهـا‬
‫وله فـضـائلُ جَـمّةٌ وفَـوَائِدُ‬ ‫ق يَرُوقُـنَـا‬‫وكذلك الوَ ْردُ النِـي ُ‬
‫وبنفحـه أبـداً مـقـيم راكِـدُ‬ ‫وخليفه إن غاب ناب بنَـفْـعِـه‬
‫وضَحَت عليه دلئل وشَـواهِـدُ‬ ‫ت تُنكِ ُر ما َذكَرْنا بعـدمـا‬ ‫ن كنْ َ‬‫إْ‬
‫ن فما يَصْ َفرُ إلّ الحـاسِـدَ‬ ‫وافط ْ‬ ‫صفَرّ لونًا منهـمـا‬ ‫انْظُرْ إلى الم ْ‬
‫نبذ من النظم والنثر‬
‫في صفات النّور والزهر‬
‫ي بن الجهم‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫قال عل ّ‬
‫حُسنُ الرّياضِ وصوت الطائرِ الغَ ِردِ‬ ‫لم يضحَك الوردُ إل حين أعْـجَـبَـه‬
‫حتِ الرّاحُ في أثوابها الـجُـ ُددِ‬ ‫ورا َ‬ ‫بدا فَأ ْبدَتْ لنا الدنيا مـحـاسِـنَـهـا‬
‫إلى الترائب والحشـاءِ والْـكَـبـدِ‬ ‫وقابلَته يد المُـشـتَـاقِ تـسْـنِـدهُ‬
‫جفْنَ عينيه مِنَ الـسُـهُـدِ‬ ‫أو مانِعاً َ‬ ‫كأن فيه شفـا ًء مـن صَـبَـابـتِـه‬
‫وسَـيرُه مِـن َيدٍ مـوصـول ٍة بِـ َيدِ‬ ‫بين الندِيمين والخلَـين مَـصْـرَعُـه‬
‫ت فـيه ذِلّة الـحـسـدِ‬ ‫إل تبـينـ َ‬ ‫ما قابلت طَلعَة الرّيحانِ طَلـعـتـه‬
‫ب من الوْصابِ وال َك َمدِ‬ ‫تَشفي القلو َ‬ ‫قامَت بحجـتـه ريح مـعَـطَـرَة‬
‫ب نـكِـدّ‬ ‫بمسِمع باردٍ أو صَـاحـ َ‬ ‫ل مـن يعَـذّبـه‬ ‫ل عـذبَ الـلَـه إ ّ‬
‫وكان أردشير بن بابك يصف الورد ويقول‪ :‬هو د ّر أبيض‪ ،‬وياقوتٌ أحمر‪ ،‬على كراسي زَبرجَد أخضر‪ ،‬توسطه شذو ٌر من ذَهبٍ أصفر‪ ،‬له رِقة‬
‫الخمر‪ ،‬ونفحات العِطر‪ ،‬أخذه محمد بن عبد الّ بن طاهر فقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ُزمُرّد وسْطَه شَذ ٌر مِنَ الـذّهَـبِ‬ ‫ت يُطِـيفُ بـهـا‬ ‫كأنـهـن يواقـي ٌ‬
‫جمْرِ في الّلهَبِ‬ ‫خمْ َر ٍة مَزة كال َ‬
‫من َ‬ ‫شرَبْ على َمنْظَرٍ مستظْرَفٍ حَسَن‬ ‫فَا ْ‬
‫ي من ظَ ْرفِه وشهوته لما كان عليه‪،‬‬ ‫وقال يزيد المهلبي‪ :‬أحَب المتوكل أن ينادمَه الحسين بن الضحاك‪ ،‬الخليع البصري‪ ،‬وأن يَرَى ما بَق ّ‬
‫سقِه؛ فسقاه وحيّاه بوَردَة‪ ،‬وكانت على شفيع أثوابٌ‪ ،‬فمدّ الحسين يده إلى‬ ‫فأحضره وقد كبر وضعُفَ‪ ،‬فسقاه حتى سكر‪ ،‬وقال لخادمه شفيع‪ :‬ا ْ‬
‫جكَ يا حسينُ إلى أدب! وكان المتوكل غمز شفيعاً على العبث‬ ‫خلَوْتَ به! ما أحو َ‬‫دِرْع شفيع‪ ،‬فقال المتوكل‪ :‬أتخمش غُلَمي بحضرتي؟ كيف لو َ‬
‫به‪ ،‬فقال حسين‪ :‬سيدي‪ ،‬أريد دواة وقرطاساً؛ فأمر له بهما‪ ،‬فكتب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ق كالوَ ْردِ‬ ‫من الوَرْد يسعى قي قَرَاطِ َ‬ ‫وكالوردة البيضاء حَـيا بـَأحْـمَـرٍ‬
‫بِك ّفيْهِ يستَدعي الخلِيّ إلى الـوَجْـدِ‬ ‫ل تـحـيةٍ‬ ‫عبَـثَـات عـنـد كـ ّ‬ ‫له َ‬
‫ت من الـعَـهـدِ‬ ‫تذكرني ما قد نسي ُ‬ ‫تمنّيت أنْ أُسْقى بـكـفّـيه شَـربةً‬

‫ع ِد‬
‫من الدهر إلّ من حبيب على وَ ْ‬ ‫ل عيشاً لم أنَمْ فـيه لـيلةً‬
‫سقَى ا ّ‬‫َ‬
‫ثم دفع الرقعةَ إلى شفيع‪ ،‬وقال‪ :‬ا ْد َفعْها إلى مولك؛ فلمّا قرأها استملحها‪ ،‬وقال‪ :‬لو كان شفيع ممن تَجُوز ِه َبتُه لو َهبْتُه لك‪ ،‬ولكن بحياتي يا شفيع‬
‫ل كنت ساقيهُ بقيّة يومه! وأمر له بمال كثير حمل معه لما انصرف‪.‬‬ ‫إّ‬
‫قال يزيد المهلبي‪ :‬فصرتُ إلى الحسين بعد انصرافه من عند المتوكل بأيام‪ ،‬فقلت‪ :‬ويحك! أتدري ما صنعت؟ قال‪ :‬ل أ َدعُ عادتي بشيء‪ ،‬وقد‬
‫قلت بعدك‪ :‬مجزوء الخفيف‪:‬‬
‫ن ل يصـرحُ‬ ‫بَ ِة مَـ ْ‬ ‫حبْ‬‫ل رَأى عطفة ال ِ‬
‫عنْدي وأمْـلَـحُ‬ ‫كَلُ ِ‬ ‫صغَرُ الساقـيَيْن أَش‬
‫أ ْ‬
‫نح طَـوْرًا و َيبْـرَح‬ ‫لو تراه كالظبـي يَسْ‬
‫ب بـنَـوْ ٍر يُوَشـحُ‬
‫ٍ‬ ‫خِ ْلتَ غُصْناً على كثب‬
‫قال الصولي‪ :‬وكأن الول من أبيات الحسن من قول العباس بن الحنف‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫بيضاء بين شقائقِ النعـمـانِ‬ ‫ب كوَ ْردَةٍ‬
‫حمْرِ الثيا ِ‬‫بيضاء في ُ‬

‫‪155‬‬
‫مثل اهتزا ِز نَوَاعِمِ الغْصَا ِ‬
‫ن‬ ‫غ َيدِ الشباب إذا مَشَتْ‬ ‫تهتزّ في َ‬
‫قال أبو بكر الصولي‪ :‬كان عند الخصي الوزير ظبي داجن ربيب في داره‪ ،‬فعمد إلى نيلوفر فأكله‪ ،‬فاستملح الغزال وأنسه‪ ،‬وقال‪ :‬لو عمل في‬
‫ُأنْس هذا الغزال وفعله بالنيلوفر لشتمل العمل على معنًى مليح! فبلغ الخبر أبا عبد ال إبراهيم ابن محمد بن عرفة نفطويه‪ ،‬فبادر لئلّ يُسبق‪،‬‬
‫وعمل أبياتاً أولها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ش لدَى أ ْفنَانِها ورَقاً خُضْرا‬ ‫َتنُو ُ‬ ‫ظ ْبيَة غنّاء تَرْعَى ب َروْضَةٍ‬ ‫ج َرتْ َ‬
‫في أبيات غير طائلة‪ ،‬فاستبرد ما أتى‪ ،‬قال الصولي‪ :‬فقلت‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل مُـسْـعِـدِ‬ ‫تراه على اللذّات أفْضَ َ‬ ‫ك طـيبُـهُ‬ ‫ونَيلُوفرٍ يحكي لنا المِسْـ َ‬
‫تروقُ كثوبِ الراهب المـتـعـبّـدِ‬ ‫قد اجتَنَ خوفَ الحـادثـات بـجُـنَةٍ‬
‫على قُضُبٍ مخضرّةِ كال ّزبَـ ْرجَـدِ‬ ‫ت فـي ذَهـبـيّةٍ‬ ‫تُ َركَب كالكـاسَـا ِ‬
‫ن بِـخَـد مـوَ َردِ‬ ‫ت عـي ٌ‬ ‫كما ع ِبثَـ ْ‬ ‫وأُلْبس ثوبًا يفضُلُ اللَحْظَ حُـسْـنُـه‬
‫تروحُ عليه كـلّ يوم وتَـغْـتَـدي‬ ‫غَذتْهُ أهاضيبُ السـمـاء بـدَرّهـا‬
‫ل عنه الحسن في كل مَشـهَـدِ‬ ‫ففضَ َ‬ ‫تلبّـس لـلنْـوارِ ثـوْب سـمـائه‬
‫كياقوتةٍ زرقاءَ في رَأسِ عَسْـجَـدِ‬ ‫وفي وسطه منه اصـفـرا ٌر يَزينُـه‬
‫حَكى طَرْف من أهْوى وحُسن ال ُمقَّلدِ‬ ‫أطاف به أحْوَى المـدامـع شَـادِنٌ‬
‫ولم يس َتعِنْ في أخذه الكاسَ بـالـيَدِ‬ ‫كما أخذ الظمآنُ بـالـفـم كـاسـه‬
‫وقال أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ناهيك من يومٍ أغ َر مُـحـجـلِ‬ ‫جهِه الـمـتـهـلـل‬ ‫يومٌ أتاك بوَ ْ‬
‫خِلَعًا َف َبيْنَ ُممَسك ومُـصَـنْـدَلِ‬ ‫خضِرارِ سمـائهِ‬ ‫خلع الغمامُ على ا ْ‬
‫بمور ٍد و ُمعَصْفـر ومُـكَـحـل‬ ‫وكسا الرُبى حُلَل تخاَلفَ شكلهـا‬
‫ب كاساتِ العيونِ الهطلِ‬ ‫شرْ ِ‬‫من ُ‬ ‫ت فيه قـدودُ غـصُـونِـهِ‬ ‫وتمايلَ ْ‬
‫ت لعينِ الناظر المـتـأمـلِ‬ ‫فهدَ ْ‬ ‫وعَل على الشجار قَطْرُ سمائهـا‬
‫بمنظمٍ من لـؤلـؤ ومُـفَـصّـلِ‬ ‫يَحْكي ِقبَاب ُزمُردٍ قد كُـلـلَـتْ‬
‫ك بعين أكْحَـل أقْـبَـلِ‬ ‫يَرْنو إلي َ‬ ‫وأتاك نَوْرُ البَـاقِـل ِء كـأنـمـا‬
‫حمْرَ ِة مُـخـجـلِ‬ ‫وتراه مُنتقِباً ب ُ‬ ‫ال َو ْردُ يُخجلُ كـل نـورٍ طـالـع‬
‫صنْدَلي‬ ‫وجْهَ الخريدة في الخمارِ ال ّ‬ ‫وحكى بياضُ الطّلْع في كافـورهِ‬
‫جتَـلـي‬ ‫في كل أنواع الملبس ت ْ‬ ‫فكأنما الدنيا عَـرُوسٌ أقْـبـلَـتْ‬
‫من صنعة البَردَان أو قُطْـرَبـلِ‬ ‫صفَرَة القميص سُلفةً‬ ‫فاشرب ُمعَ ْ‬
‫وقال أبو الفتح البستي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫م َزجَ السَحابُ ضياءَهُ بظلمِ‬ ‫يومٌ له فَضْلٌ عـلـى اليام‬
‫وا ْلغَي ُم يَبْكي مثل طَ ْرفٍ هَامِ‬ ‫ل قَلْبٍ هائمٍ‬
‫ق يخفق ِمثْ َ‬ ‫فا ْلبَر ُ‬

‫ُوصِلت سِجَا ُم دموعِه بسِـجَـامِ‬ ‫خدُ مـتـي ٍم‬


‫وكأنّ َوجْهَ الرض َ‬
‫وبهـنَ تـصـفُـو لـذّ ُة اليام‬ ‫فاطلبْ ليومك أربعاً‪ :‬هن ال ُمنَى‬
‫س مُـدامِ‬
‫ومغنيا غَـرداً‪ ،‬وكـأ َ‬ ‫وَجْهَ الحبيب‪ ،‬ومنظراً مستشرقا‪،‬‬
‫وقال المير أبو الفضل الميكالي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫تَ َر َكتْه مجروحًا بل إغْـمَـا ِد‬ ‫سَلّ الربيعُ على الشَتاء صوارماً‬
‫حكَتْ لسَاجمها ُربَى النجاد‬ ‫ضَ ِ‬ ‫عيْنُ السماء بـأدمُـع‬ ‫وبكَتْ له َ‬
‫حمْـرَةٍ وسَـوادِ‬ ‫تُزْهى بثوبَيْ ُ‬ ‫َو َبدَتْ شقا ِئقُها خِلل رياضهـا‬
‫ل ُمصَابـه كـشـقـيقة الولدِ‬ ‫فكأنها ِبنْتُ الشتاء تـوجَـعَـتْ‬
‫وسوا ُد كُسْ َوتِها ِلبَـاسُ حِـدادِ‬ ‫ب نجيعـه‬ ‫ف َقنُوءُ حُفرَتها خِضَا ُ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سمْطِ للـي‬‫ق بين ِ‬‫عتِي ٍ‬
‫كعقد َ‬ ‫تصوغُ لنا كفّ الربيعِ حدائقا‬
‫خُدودَ عذارَى نقَطت ِبغَوَالي‬ ‫حكَت‬ ‫وفيهن أنْوَار الشقائقِ قد َ‬
‫وقال‪ :‬المتقارب‬
‫غِلَلة دادٍ وثَوبـاً أحَـ ّم‬ ‫كأنّ الشقائقَ إذ أب َرزَت‬
‫حمَم‬ ‫فأطرافُها ُلمَع مِن َ‬ ‫ع من الجَم ِر مشبوبة‬ ‫قطا ٌ‬
‫وقال في حديقة ريحان‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عيْنِ الباغـي‬‫روضاً غَدا إنسانَ َ‬ ‫أعدَدْت مُحتَفلً لـيوم فَـرَاغـي‬
‫ي مَـسَـاغِ‬
‫فيه لكأس النـسِ أ ّ‬ ‫روض يَرُوضُ هموم قلبي حُسنُهُ‬
‫حيت بمثلِ سلسـلِ الصْـداغِ‬ ‫ن بـه‬‫فإذ بدَتْ قضْبـانُ ريحـا ٍ‬

‫‪156‬‬
‫وقال في النرجس‪ :‬المجتث‪:‬‬
‫يُزْهَى بحسْنٍ وطِيبِ‬ ‫أهْلً بنرجس رَوْضٍ‬
‫على قَضِيبٍ رَطيبِ‬ ‫يَ ْرنُو بعَينَـيْ غـزال‬
‫يرِينُه للـقـلـوبِ‬ ‫وفيه مَغنًى خـفـيّ‬
‫حبِـيبِ‬ ‫ف بِرّ َ‬‫حُرُو َ‬ ‫سقْتَ ال‬ ‫ن نَ َ‬
‫تَصحِيفُه إ ْ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يقو ُم بعُذْرِ الَلهْوِ عن خالِع ال ُعذْرِ‬ ‫وما ضمَ شملَ الُنس يومًا كن ْرجِسٍ‬
‫كقامة ساقٍ في غَلَئلهِ الخُضْـرِ‬ ‫فأحداقه أحداق تِـبْـرٍ‪ ،‬وسـاقـهُ‬
‫وقال البحتري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إلى الحِقْف من َرمْل اللوى المتقاودِ‬ ‫ث أكنافَ اللّوى من محـلّة‬ ‫سقَى الغي ُ‬ ‫َ‬
‫حمَرّ من الـنـوْرِ جـاسِـد‬ ‫عليه ِبمْ ْ‬ ‫ول زال مخضر من الروض يانـع‬
‫دموع التصابي في خدودِ الخـرائد‬ ‫شقائق يَحمِلـن الـنـدَى فـكـأنـه‬
‫صفَـرَة كـالـفَـرَا ِئدِ‬ ‫ت مُ ْ‬ ‫ومن نكَ ٍ‬ ‫ومن لؤلؤ في القحـوان مـنَـظـمٍ‬
‫دناني ُر تِـبْـ ٍر مـن تُـؤام وفـا ِردِ‬ ‫جنَى الحوذان في رَونَق الضحى‬ ‫كأن َ‬
‫شآبيبُ مجتاز علـيهـا وقـاصـدِ‬ ‫إذا راوحتها مُزنَةّ بَـكَـرَت لـهـا‬
‫بكل جديد الماء عَـذْبِ الـمـوارد‬ ‫رِباع تردّت بـالـرياض مَـجُـ ْودَةً‬
‫تَليها بتلك البـارقـات الـرّواعِـد‬ ‫كأن يد الفتح بن خاقـانَ أقـبـلـتْ‬
‫ستَويه‪ :‬قال لي البحتري وقد اجتمعنا على حلوة عند المبرد وسََل ْكنَا مسلكًا من المذاكرة‪ :‬أشعرت أني‬ ‫ل بن جعفر بن دَرَ ْ‬ ‫قال أبو محمد عبد ا ّ‬
‫س كلّهم إلى قولي‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫سبقت النا َ‬
‫دموعُ التصابي في خُدودِ الخرائدِ‬ ‫ق يحمِلْنَ النّـدَى فـكـأنّـهُ‬ ‫شقائ ُ‬
‫تليها بتلك البارقات الـرّواعِـدِ‬ ‫كأن يدَ ال َفتْحِ بن خاقان أقبـلَـتْ‬
‫هكذا أنشد‪ ،‬فاستحسن ذلك المبرد استحساناً أسرف فيه‪ ،‬وقال‪ :‬ما سمعت مثل هذه اللفاظ الرّطبة‪ ،‬والعبارة ال َعذْبة‪ ،‬لحدٍ تقدّمك ول تأخّر عنك‪.‬‬
‫سبِق إلى هذا‪ ،‬بل سبقك سعيد بن‬
‫عبَادة‪ ،‬لم تَ ْ‬ ‫فاعتَ َرتْهُ أَ ْريَحِيةٌ جربها رِداء العُجب؛ فكأنه أعجبني ما ُيعْجب الناس من مراجعة القول؛ فقلت‪ :‬يا أبا ُ‬
‫حميد الكاتب إلى البيت الول بقوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ثم اجترعنا ُه كسمّ نـاقـعِ‬ ‫عذُبَ الفراقُ لنا ُقبَيل وَداعِنا‬ ‫َ‬
‫ط فوق وَ ْر ٍد يانعِ‬ ‫طلّ تساق َ‬ ‫َ‬ ‫وكأنما أثرُ الدموع بخدّهـا‬
‫وشركك فيه صديقُنا أبو العباس الناشئ بما أنشدنيه آنفاً‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫بكاءُ الحبيب ل ُب ْعدِ الديارْ‬ ‫بكَت للفراق وقد راعَني‬
‫جلَنـار‬ ‫طلً على ُ‬ ‫بقية َ‬ ‫ن الدموعَ على خدّها‬ ‫كأ ّ‬
‫وما أساء علي بن جريج‪ ،‬بل أحسن في زيادته عليك بقوله‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ن يُطْفينَ غُلّة الـوَجْـدِ‬ ‫وه َ‬ ‫لو كنتً يوم الوداع شا ِهدَنـا‬
‫سفَح من ُمقْلةٍ علـى خـدّ‬ ‫تَ ْ‬ ‫ل دمـوعَ بـاكـيةٍ‬ ‫لم تَـرَ إ ّ‬
‫يقطُر من نَرْجِس على وَردِ‬ ‫ط ُر نَـدًى‬‫كأن تلك الدموع قَ ْ‬
‫وسبقك أبو تمام إلى معنى البيتين معاً بقوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فكـأنـهـا عـينٌ إلـيه تَـحَـدرُ‬ ‫من كل زاهرةٍ ترقرَق بـالـنَـدَى‬
‫عَذراء تـبـدو تـارة وتـخـفـرُ‬ ‫تبدو ويَحجبَها الجـمـي ُم كـأنـهـا‬
‫ق المامِ و َهدْيُهُ المـتـنـشّـر‬ ‫خُلُ ُ‬ ‫خَلقٌ أطل مـن الـربـيع كـأنـهُ‬
‫ومن الربيع الغَض سَرح في يزهر‬ ‫عدْلِ المام وجُـودِهِ‬ ‫في الرض من َ‬
‫أبداً على مَـرَ الـلـيالـي يُذكَـر‬ ‫يُنسي الربـيع ومـا يروض جـودة‬
‫حبْ َوتَه ونهض‪ ،‬فكان آخر عهدي بمؤانسته وغَلُظ ذلك على محمد بن يزيد‪ ،‬وقدح ذلك في حالي عنده‪.‬‬ ‫ق ذلك عليه‪ ،‬وحلّ َ‬ ‫قال‪ :‬فش ّ‬
‫وقال البحتري يمدح الهيثم بن عثمان الغنوي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شرَوْ َرىَ جِئن في البحر عُوَما‬ ‫جبال َ‬ ‫ألست ترى َمدّ الـفُـراتِ كـأنـهُ‬
‫رَأَى شِيمَةً من جارِه فتـعـلـمَـا‬ ‫وما ذاك من عـاداتـه غـير أنـهُ‬
‫أوائلَ وَرْد كُنَ بـالمـس نُـ َومَـا‬ ‫غبَش الدّجـى‬ ‫وقد نبه النَوْرُوزُ في َ‬
‫ن مُـكَـتّـمَـا‬ ‫يبث حديثًا بينـهـ َ‬ ‫يُفَتحهـا بَـ ْردُ الـنـدى فـكـأنـهُ‬
‫ت بُرْداً ُم َنمْـنَـمَـا‬ ‫عليه كما نَشَ ْر َ‬ ‫ومن شجرٍ َردّ الربـيع لِـبَـاسـهُ‬
‫وكان قذًى للعين مذ كان محْرمَـا‬ ‫ن بَـشَـاشَةً‬ ‫حلّ فأَبدى لـلـعـيو ِ‬ ‫أَ‬
‫وما َيمْنَعُ الوتار أن تـتـرنّـمـاَ‬ ‫فما يمنع الراح التي أنت خِـلّـهـا‬
‫حثّون أنْـجُـمَـا‬ ‫وراحُوا بُدوراً يست ِ‬ ‫وما زلت خِلً للندَامى إذا اغْـتَـدَوا‬
‫ح ِدثْنَ فيك تكرمـا‬ ‫ن أن يُ ْ‬ ‫طعْ َ‬
‫فما اسْ َ‬ ‫ت مِنْ َقبْلِ الكؤوس علـيهِـمُ‬ ‫تك ّرمْ َ‬

‫‪157‬‬
‫وقال آخر‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫بجنّةٍ فجـرتْ راحـاً و َريْحَـانَـا‬ ‫ح ّيتْك عنا شمال طافَ طـائِفُـهَـا‬
‫سِرّا بها وتداعَى الطيرُ إعـلنـا‬ ‫سحَيراً فناجَى الغُصْنُ صاحبَه‬ ‫هبتْ ُ‬
‫سمُو بها وتَمسُ الرضَ أحيانـا‬ ‫تَ ْ‬ ‫ق تَغنّى على خُض ٍر مُـهَـدّلةٍ‬ ‫وُرْ ٌ‬
‫ط َفيْهِ نَشْوانَـا‬‫ن من هزّةِ عِ ْ‬ ‫والغُصْ َ‬ ‫تخالُ طائرَها نَشوانَ مـن طَـرَبٍ‬
‫ولبن المعتز في أرجوزته البستانية التي ذم فيها الصبّوح صفة جامعة‪ ،‬إذا قال رجز‪:‬‬
‫ونَشّر المنثور بُرْداً أصْفَـرا‬ ‫أمَا ترى البُسْتان كيف نَـوّرا‬
‫واعتنَقَ الورد اعتناق الوامقِ‬ ‫حكَ الوردَ إلى الشقـائق‬ ‫وض َ‬
‫خدَم كهـامةِ الـطـاووسِ‬ ‫وُ‬ ‫في َروْضَةٍ كحلية العـروسِ‬
‫منظم كقِطَـع الـعِـقْـيَانِ‬ ‫وياسمين في ذُرَى الغصـان‬
‫ب نَـدِ‬‫قد استمد الما َء من تُر ٍ‬ ‫والسرْو مثل قَصبِ ال ّزبَرْجـد‬
‫جدْوَلٍ كالبَـرَد الـحـلـيَ‬ ‫وَ‬ ‫علـى رياضٍ وثـرًى نَـدِيَ‬
‫حفٌ بيضُ الـوَرَقْ‬ ‫كأنَه مصا ِ‬ ‫ج ْيبْاً و َفتَـقْ‬
‫وفَرّج الخشْخَاش َ‬
‫تخَالها تجسمـت مِـن نـورِ‬ ‫أو مثل أقداح مِن الـبـلّـور‬
‫قد خَجل اليابس من أصحابِه‬ ‫ن من أثـوابـه‬ ‫و َبعْضه عُريا ُ‬
‫مثل الدبابيس بأيدي الجـنـد‬ ‫ُتبْصِره عند انتـشـار الـوردِ‬
‫ن قد مسه بعض بَـلـل‬ ‫كقط ٍ‬ ‫والسّوْسَن الزار مَنشور الحُلَل‬
‫ودَخل الميدان في ضَمـانـه‬ ‫نوَرَ في حاشيتي بُسَـتـانـه‬

‫كأنها جَماجِم من عـنَـبـر‬ ‫وقد بدت فيه ثمار الكنـكـرِ‬


‫جمجمَة كهامَةِ الشّـمّـاسِ‬ ‫وحلّق البـهـا ُر بـيْنَ السِ‬
‫وجوه ٍر مِن ز َه ٍر مختَلـفِ‬ ‫خلل شيح مثل شيب النّصفِ‬
‫أو مثل أعراف ديوك الهند‬ ‫وجُلَنار كاحْـمِـرارِ الـوردِ‬
‫صقَلَت أنواره بالقطـر‬ ‫قد ُ‬ ‫والقحوان كالثنـايا الـغُـرّ‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫صدِيقُ عن الصديقِ‬ ‫كما رَضِيَ ال ّ‬ ‫صنِيع الغيثِ رَاضٍ‬ ‫ورَ ْوضٍ عن َ‬
‫أت ّم نه الصنيعةَ في الـغَـبـوق‬ ‫سعَدَه صـبُـوحـاً‬ ‫إذا ما القَطْرُ أ ْ‬
‫ن ثَرَاه مِن مِـسـك فـتِـيقِ‬‫كأ ّ‬ ‫ُيعِير الرّيحَ بالنَفَـحـاتِ رِيحـاً‬
‫بقايا الدَمع في خـ ّد مَـشـوق‬ ‫ل مُنـتـشِـراً عـلـيه‬ ‫كأنّ الطّ ّ‬
‫فمالَت ِمثْلً شُـرّاب الـرّحِـيق‬ ‫كأنّ غصونَه سُقـيتْ َرحِـيقـا‬
‫ق مِـن عَـقِـيق‬‫حضَرة شقَائ ُ‬ ‫مُ َ‬ ‫ن فـيه‬ ‫كأنّ شقائقَ الـنـعـمـا ِ‬
‫صنيعِ اللّطمِ في الخدَ الـرَقـيقِ‬ ‫يُ َذكّرني َبنَـفْـسَـجُـه بَـقَـايا‬
‫وقال‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫متصِل الوَبلِ سَرِيعَ الرَكضِ‬ ‫ث أتَانا مُ ْؤذِناً با ْلخَـفْـضِ‬ ‫غيْ ٌ‬
‫َ‬
‫ُمتَصِلً بطوله والـعَـرْض‬ ‫دَنا فخِـلْـنَـاه دُوَين الرضِ‬
‫ثم سَما كاللؤلؤ المـ ْرفَـضِ‬ ‫س ّر يُفْـضِـي‬ ‫إلفاً إلى إلْف بِ ِ‬
‫حمَ ّر والمبيَضَ‬
‫في حَ ْل ِيهَا ال ُم ْ‬ ‫ض ُتجْلَى بالنباتِ الغَضّ‬ ‫فالر ُ‬
‫ِمثْلَ الخدو ِد نُقّشَت بالعَـضّ‬ ‫مِنْ سَوْسَنٍ أحوَى وورَد غَض‬
‫ون َرجِس ذاكي النسي ِم بـض‬ ‫وأقْحوانٍ كاللّجيْنِ ا ْلمَـحْـضِ‬
‫ترنُو َف َيغْشَاها الكَرَى فتُغضي‬ ‫مثل العيون َرنّقَتْ لل َغمْـضِ‬
‫جملة من هذا النوع لهل العصر‬
‫قال أبو فراس الحمداني‪ :‬مجزوء الرجز أو مجزوء السريع‪:‬‬
‫عَلَى أعالي شَجرهْ‬ ‫وجُلّنـا ٍر مُـشْـرق‬
‫أحمَرَهُ وأصـفَـرهْ‬ ‫كأنّ فـي رؤُوسِـه‬
‫صفَرهْ‬‫في خ ْرقَ ٍة ُمعَ ْ‬ ‫قُرَاضة من ذَهـب‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ض ِر‬
‫بَأنْواع حَلي فوق أثْوَابِه الْخُ ْ‬ ‫ل فيه الربـيعُ رياضَـهُ‬ ‫ويوم ج َ‬
‫ت من الُ ْزرِ‬ ‫فضول ذيولِ الغانيا ِ‬ ‫كأن ذُيولَ الجُلّـنـار مُـطِـلَةً‬
‫ع ْقدِها‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫وقال أبو القاسم بن هانئ‪ ،‬يصف زهرة رمان قطفت قبل َ‬
‫كأنها بين الغصُونِ الـخُـضْـرِ‬ ‫وبنت أ ْيكٍ كالشبـاب الـنّـضْـرِ‬

‫‪158‬‬
‫قد خفّـفَـتْـه لـقْـوة بـ َوكْـر‬ ‫ن بـازٍ أو جَـنَـان صَـقْـ ِر‬
‫جَنا ُ‬
‫أو نَ َبتَتْ في ترْبةٍ مـن جـمـرِ‬ ‫ن نَـحْـرِ‬‫كأنما سحّـت دَمـًا مـ ْ‬
‫ف الدّهْرِ‬
‫لو كف عنها الدهرُ ص ْر َ‬ ‫أو سُقيَتْ بجَـذوَلٍ مـن خَـمْـر‬
‫تَ ْفتَ ّر عن ِمثْلِ اللثاث الْـحُـمْـرِ‬ ‫جاءت كمثل النَهد فوق الـصـدْرِ‬
‫ل بعد الهَجْرِ‬ ‫في مثل طعْمِ الوصْ ِ‬
‫ولهم في هذا المعنى‬
‫جتْهَا أيدي الندى‪.‬‬ ‫روضة رفَتْ حَوَاشيها‪ ،‬وتأنق واشيها‪ .‬روضة كالعقود المنظّمة‪ ،‬على البرود المنَم َنمَة‪ .‬روضة قد رَاضتها كف المطر‪ ،‬ودب َ‬
‫ث آثارها‪ ،‬وأبدت الرياضُ أزهارها‪ .‬الرياض كالعرائس في حَليها وزَخَارِفها‪ ،‬والقيان في وَشْيهِا‬ ‫أخرجتِ الرضُ أسرارَها‪ ،‬وأظه َرتْ يدُ الغي ِ‬
‫غدْرانها‪ ،‬كأنما احتفلت ل َوفْد‪ ،‬أو‬ ‫حمْرَائها وصفرائها‪ ،‬تائهة بعيدانها و ُ‬ ‫حبَراتها و ِريَاطَها‪ ،‬زَاهية ب َ‬
‫ومَطَارِفها‪ ،‬باسطة زَرابتها وأنماطها‪ ،‬ناشرة ِ‬
‫ت بنوافَجِ المِسكِ أنوارُها‪،‬‬ ‫ل الغمام صحراؤها‪ ،‬وتنا َفجَ ْ‬ ‫هي من حبيب على وَعْد‪ .‬روضة قد تَضوَعَت بالَرَج الطيبِ أرجاؤها‪ ،‬وتبًرجَت في ظلَ ِ‬
‫خضِك‪ ،‬وماؤه‬ ‫وتعارضت بغرائب النطْقِ أطيارُها‪ .‬بستان رقّ نورُه النضيد‪ ،‬وراق عودُه النضير‪ .‬بستان عودُه خضر‪ ،‬ونوره نَضِر‪ ،‬و ُينْعه َ‬
‫خصِر‪ .‬بستْانٌ أ ْرضُه للبقل والريحان‪ ،‬وسماؤه للنخل والرمان‪ .‬بستان أنهارُه مفروزة بالزهار‪ ،‬وأشجارُه مُوقَ َرةٌ بالثمار‪ .‬أشجارٌ كأن الحورَ‬ ‫َ‬
‫ستْها بُرودَها‪ ،‬وحلّتها عقودها‪ .‬الربيعُ شبابُ الزمانِ‪ ،‬ومقدمة الورد والريحان‪ .‬زمَنُ الوردِ مَرْموق‪ ،‬كأنه من الجنَةِ مسروق‪.‬‬ ‫أعا َرتْها قُدُودَها‪ ،‬وك َ‬
‫قد ورد كتاب الورد‪ ،‬بإقباله إلى أهل ال ُودّ‪ ،‬إذا وَ َردَ ال َورْد‪ ،‬صدَرَ البرد‪ .‬مرحباً بإشراف الزهر‪ ،‬في أطراف الدهر‪ ،‬وأنشد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫خدُ‬
‫فقد كان قبل اليوم ليس له َ‬ ‫خدّ َربِيعنا‬ ‫سقى الَُ َورْداً صَار َ‬
‫ق كتيجان العقيق على رؤوسِ الزنوج‪،‬‬ ‫ظرْفُ الظّرف‪ ،‬وغذاء الروح‪ ،‬شقائ ُ‬ ‫عيْنَ النرجس عيْن‪ ،‬ووَرَقه وَرِق‪ ،‬النرجس نزهَة الطَرْف‪ ،‬و َ‬ ‫كأن َ‬
‫ضعُفَت فسال دَماؤُها‪ .‬كأن الشقيقَ جامٌ من عقيق‬ ‫جنَاتِ المورّدة‪ .‬شقائق كالزنوج تجارحت وسالت دِماؤُهَا‪ ،‬و َ‬ ‫كأنها أصْداغُ المسك على الو َ‬
‫ت قرا َرتُه بمسك أ ْذفَر‪ .‬الرض زمردة‪ ،‬والشجار وشْي‪ ،‬والماء سيوف‪ ،‬والطيور قيَمانٌ‪ .‬قد غردت خطباءُ الطيار‪ ،‬على منابر‬ ‫أحمر‪ ،‬مُِلئَ ْ‬
‫خمْر‬ ‫طرَبِ الشجا ِر ل ِغنَاءِ الطيار‪ .‬ليس للبلبِل كغناء البلبل‪ ،‬وَ َ‬ ‫ستَهام‪ .‬انظر إلى َ‬‫النوار والزهار‪ .‬إذا صدح الْحَمامُ‪ ،‬صدع الحِمام قَلْبَ الم ْ‬
‫بابل‪.‬‬
‫ولهم فيما يتعلّق بهذا النحو‬
‫في وصف أيام الربيع‬
‫ب غيومِه رواق‪ ،‬وأر ِديَة نسيمه ِرقَاق‪ .‬يوم ُممَسكُ السماء‪ُ ،‬معَصفَرُ الهواء‪ُ ،‬م َعنْبَر الرّوْضِ‪،‬‬ ‫لبِي ُ‬‫يوم سماؤُه فَاختيّة‪ ،‬وأرضه طاوُسيّة‪ .‬يومٌ جَ َ‬
‫لخْضَرِ‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫ل ْدكَن‪ ،‬وَأرْضُه كالديباج ا َ‬ ‫ضبَاب‪ ،‬وانسحب فيه ذَيلُ السحاب‪ .‬يوم سماؤه كالخز ا َ‬ ‫ص ْندَل الماء‪ .‬يوم زرّ عليه جَيب ال َ‬ ‫مُ َ‬
‫دَ ول ي ْرتَعي الكل بالـنـبـاجِ‬ ‫ن يَ ْرتَعي القلـوب بـبـغـدا‬ ‫شاد ٌ‬
‫ض وفي المزن ذِي الحيَا ال ًثجّاجِ‬ ‫أقبَلت والربيعُ يختالُ فـي الـرّوْ‬
‫ضرِ الـديبـاجِ‬ ‫مَتْ وأرضٍ كأخْ َ‬ ‫ذو سماءً كأدْكَنِ الخزّ قـد غـي‬
‫موعد الكَـدخـداةِ والـهـيلجِ‬ ‫ل مـا يتـمـنّـى‬ ‫فتجلّى عن كـ ّ‬
‫نين بـين ال ْرمَـالِ والهْـزاج‬ ‫فظللنا في نُزهَتين وفـي حُـسْ‬
‫سرّنا فـي الـزُجـاج‬ ‫عجُو ٍز تَ ُ‬
‫وَ‬ ‫ب َفتَا ٍة تسرّنا فـي الـمَـثَـانـي‬
‫ثارَها عنـد أَرْجُـل العـلج‬ ‫أخذَت مـن رؤوسِ قـومٍ كـرامٍ‬
‫حسَن الشمائل‪ ،‬مُمتِع المخايل‪ ،‬سَجسَجُ الهواء‪ ،‬مونق الرجاءِ‪ .‬يوم َتبَسم عنه الربيعُ‪ ،‬وتبرّجَ عنه الروض المريع‪ .‬يوم كأنّ سماءَه مأتم‬ ‫يوم َ‬
‫تتباكى‪ ،‬وأَرضه عَرُوس تتجلّى‪ .‬يوم مشهّر الوْصاف‪ ،‬أغرّ الطراف‪ .‬يوم يُغْفِي فيه النّوْر ويَنتبِه‪ ،‬وتُسفِر فيه الشمس و َت ْنتَقِب‪ ،‬و َت ْعتَنِقُ الغصون‬
‫وتَفْترق‪ ،‬ويوشي الغيم وينسكب‪ .‬يوم غاب نَحسُه وهَوَى‪ ،‬وطلع سَعدُه واعتلى‪ ،‬والزمان ساقطة جماره‪ُ ،‬م ْف َعمَةٌ أنهاره‪ ،‬مُونِقَة أشجارُه‪ ،‬مغرّدة‬
‫خضِلٌ ممطور‪ ،‬والنّقعُ ساكن محصور‪ .‬يوم جوُه‬ ‫أطيارُه‪ .‬نحن في غبّ سماءً‪ ،‬قد أقلعت بعد الرتِوَاء‪ ،‬وأقشعت عند الستغناء‪ ،‬فالنبتُ َ‬
‫ن الدَهْرِ‪.‬‬
‫جنُه عاكف‪ ،‬وقَطْرُهُ وَاكِف‪ .‬يو ٌم من أعياد العُمر‪ ،‬وأَعْيا ِ‬ ‫سيَ‪ .‬يوم دَ ْ‬‫طَاروِنيّ‪ ،‬وأَرْضه طاو ِ‬
‫ولهم في تشبيه محاسن الربيع بمحاسن الخوان والسادة‪:‬‬

‫غيْث مشبّه بكَفّك‪ ،‬واعتدالُه مُضَاهٍ لخُلقك‪ ،‬وزَهْرُه مُوا ٍز لنَشرِك‪ ،‬كأنما استعار حلَله من شيمتك‪ ،‬وحَ ْليَه من سج ّيتِك‪ ،‬واقتبس أنوارَه من محاسن‬ ‫َ‬
‫طبْعك‪ ،‬متوشّحا بأنوار لَفْظِك‪ ،‬متوضَحًا بآثار لسانِك‬ ‫سنَه من َ‬ ‫أيامك‪ ،‬وأمطارَه من جُودك وإنعامِك‪ .‬قدم الربيع مُنتسِباً إلى خلقك‪ُ ،‬م ْكتَسِياً محا ِ‬
‫ي بقربك‪ .‬أنا في بستان كأنّه من شمائلك سرق‪ ،‬ومن‬ ‫جنِ ُ‬
‫و َيدِك‪ .‬أنا في بُستان أ ْذكَرَني وَ ْردُه المفتح بخلقك‪ ،‬وجَذوَله السابح بطَبعك‪ ،‬وزَهرُه ال َ‬
‫خُلُقك خلِق‪ ،‬وقد قابلتني أشجا ّر تَتَمايل فتذكرني تَبريح الحباب‪ ،‬إذا تداولتهم أيدِيَ الشراب‪ ،‬وأنهار كأنّها من يدك تَسيل‪ ،‬ومن راحتيك تَفِيض‪.‬‬
‫عتَبِك‪.‬‬
‫أنا على حافةِ حَوض أزرق كصفاء مودَتي لك‪ ،‬و ِرقّة قولي في َ‬
‫وقال ابن عون الكاتب‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫تار ربعا من سـائر الربـاعِ‬ ‫جاءنا الصومُ في الربيع فهَل اخ‬
‫فوق نخر غطاه فَضل قـنـاَع‬ ‫وكأن الربيعَ في الصوم عِـقـد‬
‫وكتب أبو الفتح كشاجم إلى بعض إخوانه يستدعيه إلى زيارته في يوم شك‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫ي وبِشرة مـذ كـان يحـذَر‬ ‫هو يوم شَـــك يا عـــل‬
‫كة ومطرَفـه مـعـنـبـر‬ ‫والـجـوّ خَـلّـتـه مـمـس‬
‫يص وطَيلَسانُ الرضِ أخضر‬ ‫والمـاء فـضَـيّ الـقَـمِـي‬
‫ض قَط َر ندى تَحَـدّر‬ ‫في الرو ِ‬ ‫نَبـتٌ يصَـعــد زَهـــرُة‬
‫ن ليومنـا قـوتـًا مُـقَـدّر‬ ‫ولـنـا فـضَـيلت تـكــو‬

‫‪159‬‬
‫ركَ عُمرَها كِسْرَى وقيصـر‬ ‫ومـدامةٌ صــفـــراء أَد‬
‫كاسَاتِنـا مـا كـان أكـبَـرْ‬ ‫فانشَط لـنـا لِـنَـحـث مِـن‬
‫إن قلت إنّك سـوف تـعْـذَر‬ ‫أو لَ فـإنـكَ جــاهـــلٌ‬
‫لَ بركةَ َم ْقدَمِه‪ ،‬ويمْنَ مُخ َت َتمِه‪ ،‬وخصك بتقصير‬ ‫وكتب بديع الزمان إلى بعض أهل َهمَذان‪ :‬كتابي ‪ -‬أطال الّ بقاك ‪ -‬عن شهر رمضان‪ ،‬عرَفنا ا ُ‬
‫ت بر َكتُه ‪ -‬ثقيلٌ حركته‪ ،‬وإن جل َقدْرُه بعيد قَعره‪ ،‬وإن عمت رأفته‪ ،‬طويل مسافته‪ ،‬وإن حسنت‬ ‫أيامِه‪ ،‬وإتمامِ صيامِه وقيامِه؛ فهو ‪ -‬وإن عَظمَ ْ‬
‫سنَه في‬
‫جهُه فليس يَقبَح قَفَاه‪ ،‬وما أحْ َ‬‫قّربته‪ ،‬شديد صحبتُه‪ ،‬وإن كبرت حرمته كثير حشمته‪ .‬وإن سرّنا ُمبْتداه فلن يسوءنا منتهاه فإن حَسن و ْ‬
‫ظهَر هللَه نحيفاً‪،‬‬ ‫ال َقذَال‪ ،‬وأشبَه إدبَارَه بالقبال‪ ،‬جعل الَُ قدومَه سببَ ترْحاله‪ ،‬و َبدْرَه فِدا َء هلله‪ ،‬وأمدّ فَلكه تحريكاً‪ ،‬بتقضي ُمدّتِه وَشِيكاً‪ ،‬وأ ْ‬
‫ن يُسْخِطُه‪.‬‬‫ليزِفَ إلى اللذاتِ زفيفاً‪ ،‬وعفا الَُ عن مَزح يكرهه‪ ،‬ومُجو ٍ‬
‫عوّل البديع في هذا الكلم على قول أبي الفضل بن العميد في رسالة له في مثل ذلك‪ :‬أسأَل ال أن يعَ ّرفَني بركته‪ ،‬ويلقيني الخيرَ في باقي أيامه‬
‫حرَكته‪ ،‬ويعجل نَهضَته‪ ،‬ويَنقص مساف َة فلكَه ودَائِرتِه‪ ،‬ويزيل‬ ‫وخاتمته؛ وأًرغب إليه في أن يقربَ على الفََلكِ دوره‪ ،‬ويقصَره سَيرَه‪ ،‬ويخَفَف َ‬
‫بركةَ الطولِ عن ساعاته‪ ،‬ويردً عليّ غُ ًرةَ شوال‪ ،‬فهي أسنَى الغ َررِ عندي‪ ،‬وأقرُها لعَيني؛ ويطلِ َع بَدرَه‪ ،‬ويريني اليدِي متطلبة هِلله ببشر‪،‬‬
‫ويسمعني النعيَ لشهر رمضان‪ ،‬ويعرض عليّ هلله أَخفَى من السحرِ‪ ،‬وأَظلَم من الكُفر‪ ،‬وأَنحَف من مجنونِ بني عامر‪ ،‬وأَبلَى من أسير‬
‫الهَجرِ‪ ،‬وأستغفر ال جل وجهه مما قلت إن كَرِهه‪ ،‬وأستَعفيه من توفيقي لما يذمُه‪ ،‬وأسأله صفحًا ُيفِيضه‪ ،‬وعَفواً يوسِعه‪ ،‬إنه يعلم خَا ِئنَةَ العين‬
‫وما تخفِي الصدور‪.‬‬
‫من أخبار المأمون والمين‬
‫قال المأمون لطاهر بن الحسين‪ :‬صِف لي أخلقَ المخلوع‪ .‬قال‪ :‬كان واسَع الصدرِ‪ ،‬ضَيق الدَب‪ ،‬يبيح من نفسه ما تَأنَفه هِمم الحرار‪ ،‬ول‬
‫صغِي إلى نصيحة‪ ،‬ول يقبل مَشورة‪ ،‬يستب ُد برأيه‪ ،‬ويبَصَر سو َء عاقبتِه‪ ،‬فل يَردَعُه ذلك عما يَهمُ به‪ .‬قال‪ :‬فكيف كانت حروبُه؟ قال‪ :‬كان يجمعُ‬ ‫يُ ْ‬
‫الكتائب بالتبذير‪ ،‬ويف َرقُها بسوء التدبير‪ .‬فقال المأمون‪ :‬لذلك حلّ ما حل به؛ أمَا وال لو ذاق لذاتِ النصائح‪ ،‬واختار مَشُوراتِ الرجال‪ ،‬وملَك‬
‫نَفسَه عن شهواتها‪ ،‬لما ظف َر به‪.‬‬
‫ولما عقد الرشيدُ البيع َة للمين وهو أصغ ُر من المأمون لجل أمَه ُز َبيْدة‪ ،‬وكلمِ أخيها عيسى بن جعفر‪ ،‬وقدمه على المأمون‪ ،‬جعل يرى فَضلَ‬
‫عقله فيندَم على ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫لمْرِ الذي كان أحزَما‬ ‫غُِلبْتُ على ا َ‬ ‫غيْ َر أنّنـي‬ ‫لقد بان وجهُ الرّأي لي َ‬
‫تَوزَع حتى صار َنهْباً مقَـسـمـا‬ ‫ع بعدما‬ ‫فكيف يُ َردّ الدرَ في الضَر ِ‬
‫وأنْ ُينْ َقضَ الحبْلُ الذي كان أُبرِما‬ ‫أخافُ ا ْلتِوَاءَ الم ِر بعد اسـتـوائهِ‬
‫صحْن داره‪ ،‬وفي يده ُرقْعة قد‬ ‫ل بن الربيع بعد مقتل عبد الرحمن النباري‪ ،‬قال‪ :‬فأتيتُه وهو في َ‬ ‫قال أسد بن يزيد بن مزيد‪ :‬بعث إليّ الفض ُ‬
‫غضِب لما نظر فيها‪ ،‬وهو يقول‪ :‬ينا ُم نَوْمَ الظّ ِربَان‪ ،‬وينتبه انتباهَ الذئب‪ِ ،‬ه َمتُه بَطنُه‪ ،‬ولذته فَ ْرجُه‪ ،‬ل يفكر في زوال نعمة‪ ،‬ول يتروى في‬
‫إمضاء رأي ول مكيدة‪ ،‬قد شمر له عبدُ الَ عن ساقِه‪ ،‬وفوّق له أسد سهامِه‪ ،‬يرميه على بعدِ الدار بالحَتفِ النافذ والموت القاصد‪ ،‬قد عبى له‬
‫المنايا على متونِ الخيل‪ ،‬وناطَ له البَلَءَ في أسِنة الرماح وشِفار السيوف‪ ،‬ثم تمثّل بشعر البَعيث‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إلى أن يرى الصبَاح ل يتلعثمَ‬ ‫يقَارع أتراك ابن خاقانَ لـيلـه‬
‫نحيل‪ ،‬وأضحِي في النعيم أصمم‬ ‫فيصبح في طول الطراد وجِسمه‬
‫أمية في الرزق الذي ال يقسم‬ ‫فشتان ما بيني وبين ابن خـالـد‬
‫ثم قال‪ :‬يا أبا الحارث‪ ،‬أنا وأنت نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذمِمنا‪ ،‬وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا‪ ،‬وإنما نحن شعبة من أصلِ‪ ،‬إن َقوِي‬
‫ضعُفَ ضعفنا؛ إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاءَ المة الوَكفَاء‪ :‬يشاور النساء‪ ،‬ويعتمد على الرؤيا‪ ،‬وقد أمكَن أهل اللهو والخسَارة مِن‬ ‫قوينا‪ ،‬وإن َ‬
‫طبِه‪،‬‬
‫ك بهلكه‪ ،‬ونعطَب بعَ َ‬ ‫ت أن َنهِْل َ‬‫سَمعِه؛ فهم ُي َمنّونه الظّفَر‪ ،‬و َي ِعدُونَه عواقب اليام؛ والهلك إليه أسرع من السيل إلى قِيعانِ الرملِ؛ وقد خشِي ُ‬
‫شدَة‬ ‫صدْقُ طاعتك‪ ،‬وفَضل نصيحتك؛ والثاني ُيمْن نَقِيبتك‪ ،‬و ِ‬ ‫ن فارسها‪ ،‬وقد فزع إليك في لقاءِ طاهر لمرين؛ أحددهما ِ‬ ‫وأنت فارس العرب واب َ‬
‫ط يدك‪ ،‬غير أن القتصاد رأس النصيحة‪ ،‬ومفتاح البركة؛ فبادِر ما تريد‪ ،‬وعَجل النهضة‪ ،‬فإني أرجو أن يولّيك الَ‬ ‫بأسك؛ وقد أمرني أن أبس َ‬
‫شَرف هذا الفَتح‪ ،‬ويلم بك شَعثَ الخلفة‪.‬‬
‫لكُ أمرِه الجنود‪،‬‬ ‫فقلت له‪ :‬أنا لطاعتك وطاعة أمير المؤمنين مقدِم‪ ،‬ولما وَهَن عدو كما مُؤثر؛ غير أن المحارِب ل يف َتتِح أمره بتقصير‪ ،‬وإنما مِ َ‬
‫جدُوا عليه‪ ،‬ومتى سمت مَن أقدر به النتفاع له بالرضا بدون ما أخذ‬ ‫والجنود ل تكون بل مال‪ ،‬وقد رفع أمير المؤمنين الرغائبَ إلى قوم لم ي ْ‬
‫غيرُه ممن لم يكن عنده غناء ول مَعونة‪ ،‬لم ينتظم بذلك التدبير‪ ،‬وأحتاج لصحابي رِزق سنة قَبضاً‪ ،‬وحمل إلى ألفِ فرس لحمل من ل أرتَضِي‬
‫فرسه‪ ،‬وإلى مال أستظهر به‪ ،‬ل ُألَم على وَضعِه حيث رَأَيت‪ .‬فقال‪ :‬شاوِر أمير المؤمنين؛ فأدخلني عليه‪ ،‬فلم تَدرْ بيني وبينه كلمتان حتى أمر‬
‫بحبسِي‪.‬‬
‫ويروى أن المين لما أَع َيتْه مكايدُ طاهر قال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫تَزُول الراسياتُ وما يزولُ‬ ‫شجَعِ الثقلين نَفْـسـاً‬ ‫بُليت بأَ ْ‬
‫يشاهده و َيعَْلمُ مـا يقـول‬ ‫له مع كل ذي بدن رقـيبٌ‬
‫إذا ما المْرُ ض ًيعَه الجهولُ‬ ‫فليس بمغفِل أمراً عَـنَـاهُ‬
‫وفي الفضل بن الربيع يقول بعض الشعراء‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫لول رجاءَ أبي العـبـاس لـم يقـم‬ ‫كم مِن مقي ٍم ببغداد عـلـى طَـمَـعٍ‬
‫والحِصن إن رهبوا‪ ،‬والسيف ذو النقم‬ ‫البدر إن نفروا‪ ،‬والبحر إن رَغِـبـوا‬
‫وقال عبد ال بن العباس بن الفضل بن الربيع‪ :‬ما مدحنا شاعر بشعر أحب إلينا من قول أبي نواس‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫إن حصَلوا إل أعز قـرِيع‬ ‫ك ثلثة ما منـهـمُ‬ ‫ساد الملو َ‬
‫وعلت بعبّاس الكريم فروع‬ ‫ساد الربيع وسا َد فَضل بعـده‬
‫‪160‬‬
‫وال َفضْل فضلٌ والربيع ربيع‬ ‫عباس عباسٌ إذا احتدم الوَغَى‬
‫ق فيه المدح‪ ،‬فقلت‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وقيل للعتابي‪ :‬أمدحت أحداً؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬وليس لي على ذلك قدرة‪ ،‬فقيل له‪ :‬فقد مدحتَ الربيع‪ ،‬فقال‪ :‬ذلك ليوم يستح ّ‬
‫ل َي ْعمِد ركن الدين لما تَهدّمـا‬ ‫ومعضل ٍة قام الربيع إزاءَهـا‬
‫أخا الوحي داعي َربّه فتقدَمَا‬ ‫بمكَة والمنصور رهن كما أتى‬

‫إليه وغُولُ الحربِ فاغر ٌة َفمَا‬ ‫غداةَ عداةُ الدين شاحذةُ المدى‬
‫مبايعة المهدي‬
‫وكان المنصور قد توفَي بمكة وهو حاجٌ في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة‪ ،‬فأخذ الربيع للمهدي البيعة على الناس‪ ،‬وأخذ بتجديدها عن‬
‫المنصور على أنه حي‪ ،‬وأدخل إليه قومًا فرأوْه من بعيد وقد جلّله بثوب‪ ،‬وأقعد إلى جنبه من يحرك يده وكأنه يومئ بها إليهم‪ ،‬فلم يشكوا في‬
‫حياته؛ فما خالف أحد؛ فشكره المهدي لذلك‪ ،‬وفي ذلك يقول أبو نواس في مدحه الفضل بن الربيع‪ :‬مجزوء الرجز‪:‬‬
‫يوم الرواقِ المحتضرْ‬ ‫أبوك جلى عَن مضَـر‬
‫لمّا رأى المر اقمَطَر‬ ‫والحرب تَفرِي وتَـذَر‬
‫َكهِزةِ العَضْب الذكَـرْ‬ ‫قامَ كريما فانـتَـصـرْ‬
‫وأنت تَقتـاف الثـر‬ ‫ما مس من شيء َهبَر‬
‫من ذي خجولٍ وغرر‬
‫وقال أيضاً‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫فضل الخميس على العشرِ‬ ‫آلَ الربـيع فَـضـلـتـم‬
‫قاس الثًماد إلى البـحـور‬ ‫من قاس غيركـم بـكـمْ‬
‫ل من الكثير بني الكَثـير‬ ‫أين القليل بنـو الـقـلـي‬
‫ت من الهلَةِ والـبـدورِ‬ ‫أين النـجـوم الـتـالـيا‬
‫ة نازلَ الخَطبِ الكـبـير‬ ‫قوم كَـفَـوا أيام مـــك‬
‫فة وهيَ شاسعه النّصـير‬ ‫وتدا َركُوا نَصـر الـخـلَ‬
‫ه َوتِ الرواسي من ثبِـيرِ‬ ‫لول مـقـامـهـم بـهـا‬
‫ومن قول أبي نواس‪ :‬من قاصر غيركم بكم‪ ...‬البيت‪ ،‬أخذ أبو الطيب المتنبي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صدَ البحرَ استقل السوا ِقيَا‬ ‫ومَن قَ َ‬ ‫صدَ كافو ٍر تَـوا ِركَ غـيرهِ‬ ‫قوا ِ‬
‫صرِه إل نُرَجّي التّلقـيَا‬ ‫إلى عَ ْ‬ ‫سرَينَا في ظهو ِر خدو ِدنَا‬ ‫فتَى ما َ‬
‫أفضل الوقات لمخاطبة الملوك‬
‫وقال الفضل بن الربيع‪ :‬من كلَمَ الملوكَ في الحاجاتَ فيِ غير وَقتِ الكلم لم يَظفر بحاجته‪ ،‬وضاع كلمُه‪ ،‬وما أشبههم في ذلك إل بأوقات‬
‫ل فيها‪ ،‬ومن أراد خطابَ الملوك في شيء ف ْليَرْصد الوقت الذي يصلح في مثله ذِكرُ ما أراد‪ ،‬ويسبّب له شيئًا من‬ ‫الصلوات ل تُقبَل الصلة إ ّ‬
‫الحاديث يحسن ِذكْرُه بعَقِبه‪.‬‬
‫وقال المأمون للفضل بن الربيع لما ظَفِر به‪ :‬يا فضل‪ ،‬أكان في حقي عليك‪ ،‬وحق آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك‪ ،‬أن تَثلِبَني وتسبني‪ ،‬وتحَ َرضَ‬
‫على دمي؟ أتحب أن أفعل بك ما فعلتَه بي؟ فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن عذرِي يحقِدك إذا كان واضحًا جميلً‪ ،‬فكيف إذا حفَته العيوب‪ ،‬وقبّحَته‬
‫الذنوب؛ فل يَضِيق عني من عَفوِك ما وسع غيري منك‪ ،‬فأنت كما قال الشاعر فيك‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫من العافر لم يعرِف من الناس مجرِما‬ ‫صفوح عن الجرام حـتـى كـأنـه‬
‫إذا ما الذى لم َيغْش بالكُر ِه مُسلِـمَـا‬ ‫وليس يَبـالـي أن يكَـون بـه الذَى‬
‫والشعر للحسن بن رجاء بن أبي الضحاك‪.‬‬
‫من أخبار المنصور‬
‫قال سعيد بن مسلم بن قتيبة‪ :‬دعا المنصور بالربيع‪ ،‬فقال‪ :‬سلني ما ترِيد‪ ،‬فقد سكَتَ حتى نطقت‪ ،‬وخفّفت حتى ثقلت‪ ،‬وأقلَلتَ حتى أ ْكثَرْت‪.‬‬
‫ستَقصِر عُمرك‪ ،‬ول أستصغر فضلك‪ ،‬ول أَغ َتنِم مالك؛ وإن يومي بفضلك عََليَ أحْسن من‬ ‫فقال‪ :‬وال ‪ -‬أمير المؤمنين ما أرهب بخَلكَ؛ ول َأ ْ‬
‫س َبقَني لذلك أحَد‪.‬‬ ‫صحَة لما َ‬ ‫خ ْدمَةِ وال ُمنَا َ‬
‫أمسي‪ ،‬وغَدك في تأميلي أحسن من يومي؛ ولو جاز أن يَشْكرَك مثلي بغير ال ِ‬
‫ك هذا المحلّ؛ َفسْلني ما شِئت‪ ،‬قال‪ :‬أسألُك أن تقرّب عبدك الفَضل‪ ،‬وتُؤثره وتحبّه‪.‬‬ ‫قال‪ :‬صدقت‪ ،‬عِلمي بهذا منك أحَّل َ‬
‫قال‪ :‬يا ربيع‪ ،‬إنّ الحب ليس بمال يُوهَب‪ ،‬ول ُرتْبَة ُتبْذَل‪ ،‬وإنما تؤكّده السباب‪.‬‬
‫فال‪ :‬فاجعل لي طريقاً إليه‪ ،‬بالتفضل عليه‪.‬‬
‫س َتدْعِي به محبتي‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫قال‪ :‬صدقت‪ ،‬وقد وصَ ْلتُه بألف ألف درهم‪ ،‬ولم أصل بها أحَدًا غير عمومتي‪ ،‬لتعلم مَالَه عنديَ‪ ،‬فيكون منه ما يَ ْ‬
‫ستَر بها عندك عيوبُهُ‪ ،‬وتَصِير حَسناتٍ ذنوبه‪.‬‬ ‫فبكيف سألت له المحبة يا ربيع؟ قال‪ :‬لنها مفتاحُ كل خير‪ ،‬و ِمغْلَق كلّ شرّ‪ ،‬تُ ْ‬
‫قال‪ :‬صدقت وأتيت بما أردت في بابه‪.‬‬
‫أخذ قوله‪ :‬خففت حتى ثقلت أبو تمام فقال لمحمد بن عبد الملك الزيات‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي َمعْدِل‬ ‫عدِل بعرض َ‬ ‫إليكَ‪ ،‬ولم أ ْ‬ ‫على أن إفراطَ الحياء استمالني‬
‫يخففُ في الحاجات حتى يُثَقّلَ‬ ‫فثقّلت بالتخفيف عنك‪ ،‬وبعضهم‬
‫من أخبار الرشيد‬
‫حكُ المأمون‪ ،‬فقال‪ :‬اللهمّ ِزدْ ُه من الخيرات‪ ،‬وابسُط له من البركاتِ‪ ،‬حتى يكونَ في كل يوم من‬ ‫ودخل سهل بن هارون على الرشيد‪ ،‬وهو يُضَا ِ‬
‫أيامه مُ ْربِيا على أمْسِه‪ ،‬م َقصَرًا عن غده‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫سهْلُ‪ ،‬من رَوَى من الشعر أحسَنه وأرصنه‪ ،‬ومن الحديث أفصحَه وأوضَحه‪ ،‬إذا رام آن يقولَ لم ُيعْجزه القول‪.‬‬ ‫فقال له الرشيد‪ :‬يا َ‬
‫فقال سهل بن هارون‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬ما ظننت أن أحدًا تقدّمني إلى هذا المعنى‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل أعْشى َه ْمدَانَ حيث يقول‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وأنْتَ اليوم خي ٌر منك أمسِ‬ ‫خيْرَ بني لؤيّ‬ ‫رأيتك أ ْمسِ َ‬
‫ع ْبدِ شمسِ‬ ‫كذاك تزيد سادة َ‬ ‫خيْرَ ضعْفاً‬ ‫ت غداً تزيد ال َ‬ ‫وأنْ َ‬
‫من نظم الفضل بن الربيع‬
‫ومن شعر الفضل بن الربيع ما أنشده الصولي‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫بفنَا ًء م ْعمُور الـنَـوَاحِـي‬ ‫إنّي امـر ٌؤ مـن هـاشـمٍ‬
‫وأولي البَسَالة والسّـمـاحِ‬ ‫أهل الهدى وذَوِي التـقَـى‬
‫صبَاحِ‬‫رِم في المَسَاء وفي ال ّ‬ ‫أهل المعـالـم والـمـكـا‬
‫فَة والكمالِ برَغْـم لحِـي‬ ‫أهل الـنـبـوةِ والـخِـلَ‬
‫صبِرُون على الجِـرَاح‬ ‫ِد ويَ ْ‬ ‫يتألّـمـون مـن الـصـدُو‬
‫من أخبار أبي العيناء‬
‫غيْ ُر فَارِه‪ ،‬فكتب إليه‪ :‬أعلم الوزير‪ ،‬أعزه الّ‪ ،‬أن أبا علي محمداً أراد أن َيبَ َرنِي‬ ‫حمَ َل محمد بن عبيد ال بن خاقان أبا العيناء على دَابة زَعم أنها َ‬ ‫َ‬
‫عجَفاً؛ وكالعاشق المهجور دَنَفاً‪ ،‬قد َأ ْذكَرَتِ الرواة‬ ‫فعقني‪ ،‬وأن يُ ْركِبني فأَ ْرجَلَني‪ ،‬أمر لي بدابّة َتقِفُ لل ّنبْرَة ‪ ،‬و َت ْعثُر بال َبعْرَة‪ ،‬كالقضيب اليابس َ‬
‫ج َمعُهما في‬ ‫سعَاله‪ ،‬فلو أَمسَك لترجيت‪ ،‬ولو َأفْرد لتع ّزيْت‪ ،‬ولكنه يَ ْ‬ ‫عذرة العذريّ‪ ،‬والمجنون العامري‪ ،‬مساعد أعله لسفله‪ ،‬حُباقه مقرون ب ُ‬
‫ك من ِفعْلِه النسوَان‪ ،‬وتتناغى من أجله الصّبيان؛ فمن صائح‬ ‫حُ‬ ‫ب مُرْشِد‪ ،‬أو شاعر مُنشِد‪ ،‬تَضْ َ‬ ‫الطريق المعمور‪ ،‬والمَجْلِس المشهور‪ ،‬كأنه خطي ٌ‬
‫يَصيحُ‪ :‬دَاوِه بالطباشير‪ ،‬ومن قائل يقول‪ :‬نوّلْه الشعير‪ ،‬قد حفِظَ الشعار‪ ،‬ورَوَى الخبار‪ ،‬ولحق العلماءَ في المْصار‪ ،‬فلو أعِينَ بنطق؛ لروى‬
‫خبَث‬ ‫جعْفيّ‪ ،‬وعامر الشّعبي؛ وإنما أتيت من كاتبه العور‪ ،‬الذي إذا اختار لنفسه أطاب وأكثر‪ ،‬وإن اختار لغيره أ ْ‬ ‫بحقّ وصدق‪ ،‬عن جابر ال ُ‬
‫حسْنه و َفرَاهته‪ ،‬ما سطَرَه ال َعيْبُ بقُبحه‬ ‫وأنزر؛ فإن رأى الوزير أن يُبدلَني به‪ ،‬ويُرِيحني منه بمركوب يُضْحِكني كما ضحّك مني‪َ ،‬يمْحُو ب ُ‬
‫ض ما ُيمْضِيه‪.‬‬ ‫سرْجِهِ ولجامه؛ فإن الوزير أكر ُم من أن يَسْلب ما يهديه‪ ،‬أو َينْقُ َ‬ ‫ودمامته؛ ولست أذك ُر أمْرَ َ‬
‫فوجّه عبيد الّ إليه برذونا من براذينه بِسَرْجه ولجامه‪ ،‬ثم اجتمع مع محمد ابن عبيد ال عند أبيه‪ ،‬فقال عبيد ال‪ :‬شكوت دابة محمد‪ ،‬وقد‬
‫أخبرني الن أنه يشتريه منك بمائة دينار‪ ،‬وما هذا ثمنه ل يُشتكى‪.‬‬
‫فقال‪ :‬أعز ال الوزير‪ ،‬لو لم كذب مستزيداً‪ ،‬لم انصرف مستفيداً‪ ،‬وإني وإيّاه لكما قالت امرأة العزيز‪" .‬الن حَصحَصَ الحق‪ ،‬أنَا رَا َودْتُه عن‬
‫نَفْسِهِ وإنه َلمِنَ الصادقين"‪ .‬فضحك عبيدُ ال‪ ،‬وقال‪ :‬حجتك الداحضة بمَلَحتك وظَرفك أبلغُ من حجة غيرك البالغة‪.‬‬
‫حمَل أ ْهدَاه‬
‫قطعة من رسالة أجاب بها أبو الخطاب الصابي عن أبي العباس بن سابور إلى الحسين بن صَبرة عن رقعة وردت منه في صفة ً‬
‫وصلت ُر ْقعَتك‪َ ،‬ففَضَضْتها عن خَط مُشْرق‪ ،‬ولفظ مُونق‪ ،‬وعبار ٍة مُصيبة‪ ،‬ومعاني غريبة‪ ،‬واتساع في البلغة َيعْجِ ُز عنه عبدُ الحميد في‬
‫حبَان في خطابته؛ وتصرف بين جد أمْضى من القَدر‪ ،‬وهَزْلٍ أرق من نسيم السحَر‪ ،‬وتقلب في وجوه الخِطاب‪ ،‬الجامع‬ ‫كتابته‪ ،‬وقُس وسَ ْ‬
‫ن تراه‪ .‬وحضر فرأيت‬ ‫جمَلً‪ ،‬فكانَ ال ُمعَيدِيّ الذي تسم ُع به ول أ ْ‬ ‫للصّواب؛ إلَ أن الفعل قَصًرَ عن القول‪ ،‬لنك ذكرت حَملً‪ ،‬جعلته بصفتك َ‬
‫َكبْشًا ُمتَقَادِمَ الميلد‪ ،‬من ِنتَاج قَ ْومِ عاد‪ ،‬قد َأفْنتهُ الدهور‪ ،‬وتَعا َقبَتْ عليه العصور‪ ،‬فظننته أحَد الزّوْجين اللذين جعلهما نوع في سفينته‪ ،‬وحفظَ‬
‫ل ضئيلً‪ ،‬بالياً هزيلً‪ ،‬باديَ السقام‪،‬‬ ‫ت دَمامتُه‪ ،‬وتقاصرت قَا َمتُه‪ ،‬وعاد ناح ً‬ ‫جنْسَ الغنم لذرّيته؛ صَغر عن الكبر‪ ،‬ولَطُف عن القدم‪ ،‬فبانَ ْ‬ ‫بهما ِ‬
‫ل من حلول الحياةِ به‪ ،‬وتأتي الحرك ِة فيه؛ لنه عَظْم مجلد‪ ،‬وصوف مُلبد‪ ،‬ل‬ ‫جبُ العاق ُ‬ ‫عاري العِظام‪ ،‬جامعًا للمعايب‪ ،‬مشتملً على المثَالِب‪َ ،‬يعْ َ‬
‫تجد فوق عظامه سلَبا‪ ،‬ول تَ ْلقَى يدك منه إل خَشَبا‪ ،‬لو أل ِقيَ إلى السّبع لَباه‪ ،‬ولو طرح للذئب لعافَه وقَله‪ ،‬قد طال للكل فَ ْقدُه‪ ،‬و َبعُدَ بالمَرعَى‬
‫غنَى الدهر‪ ،‬أو أَذبحه فيكون فيه خصْب الرَحل؛‬ ‫عهْدُه‪ ،‬لم ير الْقَت إلَ نائماً‪ ،‬ول عرف الشعيرَ إل حالماً‪ ،‬وقد خيّرتني بين أن َأ ْقتَنيه فيكون فيه ِ‬ ‫َ‬
‫جمْعي للولد‪ ،‬وادٌخاري لغًد‪ ،‬فلم أجِد فيه مستمتعاً للبقاء‪ ،‬ول َمدْفعاً‬ ‫فمِلتُ إلى استبقائه لما تعرف من محبتي من التوفير‪ ،‬ورغبتي لل ّتثْمير‪ ،‬و َ‬
‫حمِل‪ ،‬ول بفتى فَينْسُل‪ ،‬ول بصحيح فَيرَعى‪ ،‬ول بسليم ف َيبْقَى؛ فملتُ إلى الثاني من رأييك‪ ،‬وعولت على الخر من‬ ‫للفناء؛ لنه ليس بأنثى فتً ْ‬
‫قَوْلَيك‪ ،‬وقلت‪ :‬أذبحه فيكون وظيفة للعيال‪ ،‬وأقيمه رطبًا مقام قَديدِ الغَزال‪ ،‬فأنشدني وقد أضرِمت النار‪ ،‬وحُدت الشفار‪ ،‬وشمّر الجزّار‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫حسِب الشحم فيمَن شَحمُه وَرَمُ‬ ‫أنْ ت ْ‬ ‫ت مِـنـك صـا ِدقَةً‬ ‫أعيذهَا نظرا ِ‬
‫ت بذي لَحْم‪ ،‬فأَصلح للكل؛ لن الده َر قد أكل لحمي‪،‬‬ ‫وقال‪ :‬ما الفائدة لك في ذبحي؟ وأنا لم َيبْقَ مني إل نَفَس خافِتٌ‪ ،‬ومُقْل ّة إنسانها باهت‪ :‬لس ُ‬
‫ف بعْرٍ‬‫ت أديمي‪ ،‬ول لي صوف يصلُح للغزل؛ لن الحوادث قد حَصّت و َبرِي‪ ،‬فإن أردتني لل َوقُود فك ّ‬ ‫ول جِلدي يصلح للدّباغ‪ ،‬لن اليام قد مز َق ْ‬
‫أبقى من ناري‪ ،‬ولن تَفي حرارةُ جمري بريح قتاري‪ ،‬فلم يبق إل أن تطلبني بذَحْل أو بيني وبينك دَم‪ ،‬فوجدته صادقاً في مقالته‪ ،‬ناصحاً في‬
‫ضرّ واللواء‪ ،‬أم من قدرتك عليه جمع إعواز مثله‪ ،‬أم‬ ‫مَشُورته‪ ،‬ولم أعلم من أي أ ْمرَيه أعجب؛ أمِن مماطَلَته للدهر بالبقاء‪ ،‬أم من صبره على ال ّ‬
‫ل كبش سمين وحَمل‬ ‫خسَاسة َقدْره؟ ويا ليت شعري إذ كنت ‪ -‬وإليك سوق الغنم‪ ،‬وأمْرك َينْفُذ في الضأن والمَعز‪ ،‬وك ّ‬ ‫من تأهيلك الصديق به مع َ‬
‫بطين مجلوب إليك‪ ،‬مقصو ٌر عليك ‪ -‬تقول فيه قولً فله تُ َردّ‪ ،‬وتريده فل تُصد‪ ،‬وكانت هديتك هذا الذي كأنه نَاشر من القبور‪ ،‬أو قائم عند النفخ‬
‫ل كلْباً أجرب‪ ،‬أو قرداً أحدَب‪.‬‬ ‫ت ُم ْهدِياً لو أنك رجل من عُرْض ال ُكتّاب‪ ،‬كأبي وأبي الخطّاب‪ ،‬ما كنت تهدي إ ّ‬ ‫في الصور‪ ،‬فما كن ً‬
‫من نظم الحمدوني‬
‫وقال الحمدوني في شاة سعيد بن أحمد بن خوسنداذ‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫مكثَتْ زماناً عندكمْ ما تـطـعَـم‬ ‫أسعيدُ‪ ،‬قد أعطيتـنـي أُضـحـيةً‬
‫شدوا عليها كي تموت فيؤلـمُـوا‬ ‫ب بهـا وقـد‬ ‫نِضْوًا تعاقرت الكِل ُ‬
‫ل تهزؤوا بي وارحموني ت ْرحَموا‬ ‫ضحِكوا بها قالت لهـم‪:‬‬ ‫فإذا المل َ‬
‫عنه‪ ،‬وغنت والمدامعُ تـسـجـم‬ ‫مرت على عَلَف فقامت لـم تَـ ِرمْ‬
‫متـأخّـر عـنـه ول مُـتـقَـدم‬ ‫وقف الهوى بي حيث أ ْنتِ فليس لي‬
‫وقال أيضاً‪ :‬البسيط‪:‬‬

‫‪162‬‬
‫جاءت وما إن لها بَوْل ول َبعَـ ُر‬ ‫أبا سعيدٍ‪ ،‬لنا في شا ِتكَ الـعِـبَـ ُر‬
‫طَعامُها البيضانِ الشمسُ وال َقمَر‬ ‫وكيف تَ ْبعَرُ شاة عندكم مكَـثَـتْ‬
‫ع العين َتنْحَـدرُ‪:‬‬
‫غنَت له ودمو ُ‬
‫َ‬ ‫صرَتْ في نومها عَلَفـاً‬ ‫لو أنها أبْ َ‬
‫جهِك النـظـرُ‬ ‫إني ليفتنني من وَ ْ‬ ‫يا مَانعي لذ َة الدنيا بأجمـعـهـا‬
‫وقال أيضاً‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫لمّا أتتنا قد مسًها الضـررُ‬ ‫عبَـرُ‬ ‫شاةُ سعيدٍ في أ ْمرِها ِ‬
‫حَسْبي بما قد لقيت يا عمَرُ‬ ‫ي تغني من سوء حالتها‬ ‫وَهْ َ‬
‫قو ٌم فظنّتْ بأنها خُـضُـر‬ ‫مرت بقطف خضر ينشرها‬
‫حتى إذا ما تبينَ الخَـبَـرُ‬ ‫ت نحوها لتأكْـلـهـا‬ ‫فأقبلَ ْ‬
‫يَأْسا تغنّت وال َدمْعُ ُمنْحَـدِرُ‬ ‫طمَـعِ‬ ‫ن من َ‬ ‫وأبدلتها الظنو ُ‬
‫حتى إذا ما تقربوا هجروا‬ ‫كانوا بعيدًا وكنت آمُلُـهـم‬
‫وقال‪ :‬مجزوء الخفيف‪:‬‬
‫سَلها الضّر والعَجَفْ‬ ‫لسـعـيدٍ شُـــ َو ْيهَةٌ‬
‫علَـفْ‪:‬‬‫رجلً حاملً َ‬ ‫قد تغنَتْ وأبـصـرتْ‬
‫بُ ْر ُء ما بي من ال َدنَفْ‬ ‫ن بـكَـفّـه‬ ‫بأبي مَـ ْ‬
‫وأتتْه لتَـعْـتَـلِـفْ‬ ‫فأَتاهـا مـطـمّـعـاً‬
‫تتغنى مـن السَـفْ‪:‬‬ ‫فتولَـى فـأقـبـلـتْ‬
‫عذب القلب وانْصَرفْ‬ ‫ليتَه لـم يكـن َوقَـفْ‬
‫ت بعضُ تضمينات الحمدوني في هذا الموضع فأَنا أَذكر هنا قطع ًة من شعره في الطيلسان‪ ،‬وَأنْعطف في غير هذا المرضع إليها‬ ‫قال‪ :‬وإذ قد جَرَ ْ‬
‫خضَر لم يَرْضَه‪ ،‬قال‬‫وأكرٌ عليها؛ وكان أحمد بن حَرْب المهلّبي من ال ُم ْنعِمين عليه‪ ،‬والمحسنين إليه‪ ،‬وله فيه مدائح كثيرة‪ ،‬فوهب له طيلساناً أ ْ‬
‫أبو العباس المبرد‪ :‬فأنشدنا فيه عشر مقطعات‪ ،‬فاستَحْلَينا مَذْهَبه فيها‪ ،‬فجعلها فوق الخمسين؛ فطارت كل مَطَار‪ ،‬وسارت كل مَسَار‪ ،‬فمنها‪:‬‬
‫الخفيف‪:‬‬
‫صدَا‬ ‫مَلّ من صُحبَة الزمان و َ‬ ‫طيْلَساناً‬ ‫يا ابْنَ حرب كَسَ ْوتَني َ‬
‫طيْلَسانِك سدَا‬ ‫لَ إلى ضعف َ‬ ‫فحسْبنا نَسْج العناكب قد حَـا‬
‫لو بَ َع ْثنَاه َوحْـدَه لَـتَـهَـدّى‬ ‫طال تَرْدادُه إلى ال َر ْفوِ حتـى‬
‫وقال فيه أيضاً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫تُودي بجسمي كما أَوْلَى ِبكَ ال ّزمَنُ‬ ‫ب قد َه َممْتَ بأنْ‬ ‫ن ابن حر ٍ‬ ‫يا طيلسا َ‬
‫قد أوْ َهنَت حيلتي أركا ُنكَ الوُهـنُ‬ ‫ن ملبس يغني ول ثمـن‬ ‫ما فيك مِ ْ‬
‫كأنني في يَ َديْهِ الده َر مُ ْرتَـهـنُ‬ ‫فلو تَرَاني َلدَى ال َرفّاء مُ ْر َتبِـطـاً‬
‫كأنما ليَ في حـانـوتـه َوطَـنُ‬ ‫أقولُ حين رآني النـاسُ أَلْـ َزمُـهُ‬
‫ل قَـمِـنُ‬ ‫فالقحوانة ِمنَا مـنْـزِ ٌ‬ ‫مَنْ كان يسأل عنّا أيْنَ منـزلُـنـا‬
‫وقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫ُنكَ قو ُم نوع منـه أحْـدَثْ‬ ‫قل لبْنِ حَرْبٍ طـيلـسـا‬
‫ل يُورَثْ‬ ‫عمَنْ مضى من قب ُ‬ ‫أ ْفنَى الـقـرونَ ولـم يَ َزلْ‬
‫ظ يُحـ َرثْ‬ ‫فكأنه باللـحْـ ِ‬ ‫وإذا العيونُ لَـحَـظْـنَـهَ‬
‫فإذا َرفَوْتُ فليس يَلـبَـثْ‬ ‫يُودِي إذا لــم أ ْرفُـــهُ‬
‫ه الدَهْرَ أو تت ُركْه يَ ْلهَـثْ‬ ‫حمِـل عـلـي‬ ‫كالكلبِ إن تَ ْ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ي بكثرةِ الغُـرمِ‬ ‫أرْهَى قِوَا َ‬ ‫قل لبن حرب طيلسا ُنكَ قـد‬
‫آثـارُ َرفْـوِ أوائل الُمـم‬ ‫مُتبين فـيه لـمُـبـصِـرِه‬
‫حكَمِ‬ ‫في يا شقيق الروح مِن َ‬ ‫وكأنه الخمرُ التي وصفَـتْ‬
‫قد صَح‪ ،‬قال له البلى‪ :‬ا ْنهَدِم‬ ‫فإذا َر َممْناه فـقـيل لـنـا‪:‬‬
‫نكس فأسلَمه إلـى سَـقَـم‬ ‫مثل السّقيم بَرَا فـراجَـعـهُ‬
‫ومن العناء رِياضةُ الهـرم‬ ‫أنشدت حين طَغى فأَعْجَزني‬
‫الخمر التي وُصفت من قول أبي نواس‪ :‬المديد‪:‬‬
‫ِنمْتَ عن َليْلـى ولـم أَنـم‬ ‫س من حَـكَـمِ‬ ‫يا شقيقَ النف ِ‬
‫بِخِمار الشيْبِ فيْ الرّحـمِ‬ ‫عتَجَرت‬ ‫فاسْقني البِحرَ التي ا ْ‬
‫ت مدى الهَرَمِ‬ ‫بعد أن جاز ْ‬ ‫ت انْصَاتَ الشباب لـهـا‬ ‫ُثمّ َ‬
‫وهي تِلْو الدّهْر في القِـدَم‬ ‫َفهْي لليوم الـذي بُـزِلَـتْ‬
‫ن نـاطـق وفَــم‬ ‫بسـل ٍ‬ ‫عتّقَتْ حتى لو اتّـصـلـتْ‬ ‫ُ‬

‫‪163‬‬
‫ت قِـصَ َة المَـمِ‬
‫ثم قصـ ْ‬ ‫لحْتبتْ في القوم مًـاثـلةَ‬

‫خُلِقت للكاس والقَلَمِ‬ ‫عتْها بالمزاج يَد‬ ‫فَرَ َ‬


‫وقال الحمدوني‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫خ ْلعَةً في يوم نَحس مستمر‬ ‫طيلْسان لبن حرب جاءنـي‬
‫تركته كهشيم المحـتـظـر‬ ‫صحْتُ فـيه صَـيْحَةً‬ ‫فإذا ما ِ‬
‫طيَ َرتْه كالجرادِ المنتـشِـرْ‬ ‫ت نـحـوهُ‬ ‫وإذا ما الريح هب ْ‬
‫ما رآه قال‪ :‬ذا شيء نكـرْ‬ ‫ُمهْطِعُ الدَاعي إلى الرّافي إذا‬
‫يتلفاه َتعَاطـى فـعَـقَـرْ‬ ‫وإذا رفَـاؤه حـــاوَلَ أن‬
‫وقال‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫سمِـكَ أم داءُ حـبّ؟‬ ‫أسُل بج ْ‬ ‫أيا طيلسانيَ أعْـ َييْتَ طـبّـي‬
‫ت ل أتقي أن تَهبّـي‬ ‫وقد كن ُ‬ ‫ويا ريحُ صَيرْتنـي أتـقـيكِ‬
‫فقلت له الروح من أ ْمرِ ربي‬ ‫خبَر الطـيلـسـان‬ ‫ومستخبرٍ َ‬
‫وقال فيه‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫طرَهْ‬ ‫قد قَضَى التمزيقُ منه وَ َ‬ ‫ن لبن حربٍ جـاءنـي‬ ‫طيْلَسا ٌ‬
‫َ‬
‫سامِري ليس يَأْلُـوه حَـذَرَهْ‬ ‫ف عـلـيه أبـداً‬ ‫أنا من خـو ٍ‬
‫نشتري عِجْلً بصفرٍ عشـرَهْ‬ ‫يا ابنَ حرب خذه أو فابعَث بما‬
‫إن ضربناه ببعض البَـقَـرَهْ‬ ‫فلعـل الـلـ َه يُحْـييه لـنـا‬
‫عنده من عِلم نوح خَـبَـرَهْ‬ ‫فهو قد أدرك نوحاً‪ ،‬فعـسـى‬
‫أإذا كنا عِظـامـًا نَـخِـرَه‬ ‫أبـداً َيقْـرَأ مـن أَبـصَـرَهُ‬
‫وقال فيه‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫طيلسانًا قد كنتُ عـنـه غَـنِـيّا‬ ‫ت فَقرِي برَفـوي‬ ‫يا ابنَ حرب أطَل َ‬
‫ضِ على النار غُـدْرةً وعَـشِـيا‬ ‫فَهوَ في الرفو آل فرْعَوْنَ في العَر‬
‫فتـغـنـيتُ إذا رأونــي زَرِيا‪:‬‬ ‫زُرْت فيه معاشـرًا فـازدَرَونـي‬
‫ت مَـلِـيّا‬ ‫وعلى الباب قد َوقَـفْـ ُ‬ ‫جِئتُ في زِي سائل كـي أراكـم‬
‫وقال فيه‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫يَزيدُ المر َء ذا الضعَةِ اتّضَاعَا‬ ‫طيْلسانـاً‬ ‫وهبتَ لنا ابنَ حربِ َ‬
‫سبُه انصداعـا‬ ‫ح َيكْ ِ‬
‫لن الرو َ‬ ‫يُسَلمُ صاحبي فيعيد شَـتْـمِـي‬
‫وعَرضاً ما أَرى إل ِرقَاعـا‬ ‫أُجِيل الطَرْفَ في طَ َر َفيْهِ طُولً‬
‫لنُوح في سفينتـه شِـرَاعـا‬ ‫ن قد كان قِـدْمـاً‬ ‫فلستُ أشكّ أَ ْ‬
‫جوانبه على بَدني تَـدَاعَـى‪:‬‬ ‫ت مـنـهُ‬ ‫ت إذ أبصرْ ُ‬ ‫فقد غنَي ُ‬
‫ك مَوقِف مِنكِ الوَداعَـا‬ ‫ول َي ُ‬ ‫ضبَـاعَـا‬ ‫قِفي قَبلَ التفَرّقِ يا ُ‬
‫من أخبار المأمون‬
‫دخل المأمون بعضَ الدواوين‪ ،‬فرأى غلمًا جميلً على أذنه قلم‪ ،‬فقال‪ :‬من أنت يا غلم؟ فقال‪ :‬أنا يا أمير المؤمنين الناشئُ في دولتك‪ ،‬المتقلب‬
‫ن بن رجاء‪ .‬فقال‪ :‬أحسنت يا غلم‪ ،‬وبالحسان في البديهة تَفَاضَلت العقُول‪ .‬فأمر أن‬ ‫في نعمتك‪ ،‬المؤمل لخدمتك‪ ،‬خادِمكَ وابنُ خادمِك الحس ُ‬
‫يرفع عن مرتبة الديوان‪.‬‬
‫قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج‪ :‬قال لي أبو العباس المبرد‪ :‬ما رأيتُ في أصحاب السلطان مثل إسماعيل والحسن؛ كنت إذا رأيته‬
‫طنِب‪ ،‬ويعرِبُ ويغرِب‪ ،‬ول يعجب ويعجِب‪.‬‬ ‫ب ويُ ْ‬
‫رأيت رجلً كأنما خُلق لذروَة ِمنُبر‪ ،‬أو صَدرٍ مجلس‪ ،‬يتكلم وكأنه يتنفس‪ ،‬يُسهِ ُ‬
‫أراد القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد‪ ،‬والحسن ابن رجاء بن أبي الضحاك‪.‬‬
‫من أخبار المبرد‬
‫ح بن خاقان و ْقتَ شربه‪ ،‬وكافي الشراب قد أخذ منه‪ ،‬فسألني‬ ‫وكان أبو العباس ُيعَد في البلغاء‪ ،‬وقال‪ :‬لما دخلت على المتوكل اختار لي الفَت ُ‬
‫سمَح راحةَ‪ ،‬ثم تجاسرت فقلت‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫وقال‪ :‬يا بصري‪ ،‬أرأيت أحسنَ وجهاً مني؟ فقلت‪ :‬ل وال ول أ ْ‬
‫بشكٍ في اليمين ول ارتـياب‬ ‫جهَ ْرتُ بحَلْفَة ل أتّـقـيهـا‬ ‫َ‬
‫سمَحُ راحتين‪ ،‬ول أحابـي‬ ‫وأَ ْ‬ ‫بأنك أحسنُ الخلفاء وَجْـهـاً‬
‫ومَنْ عاصاك يهوى في تبَابِ‬ ‫ن مُطِيعك العلى مَـحَـلَ‬ ‫وأ َ‬
‫فقال‪ :‬أحسنت وأجملت في حُسن طبعك وبديهتك‪ ،‬فقلت‪ :‬ما ظننتُني أبل ُغ هذا الشرف‪ ،‬ول أنال هذه الرتبة؛ فل زال أمي ُر المؤمنين يسمو بخَدمه‬
‫إلى أعْلى المراتب‪ ،‬ويُصَرفهم في المذاهب‪.‬‬
‫ب على بعض وكلئه‪ ،‬فصار إلى أبي العباس المبرد يسأله أن يكلمه له؛ فكتب إليه المبرد‪َ :‬أنْتَ وال كما قال مسلم بن‬ ‫ن المعتز قد غض َ‬ ‫وكان اب ُ‬
‫الوليد في جدك الرشيد‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫وأبر ميثاقـاً‪ ،‬ومـا َأزْكـاكـا‬ ‫بأبي وأُمي أنْـتَ مـا أنْـدَى يَداً‬
‫أن قد قدرت على العِقَاب َرجَاكا‬ ‫َيغْدُو عدوُك خائفـاً‪ ،‬فـإذا رأى‬

‫‪164‬‬
‫وهذا معنًى كثير‪.‬‬
‫في المدح‬
‫أنشد أحمد بن يحيى ثعلب العرابي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ح دَوَاني‬ ‫وي ْدنُو وأطرافُ الرما ِ‬ ‫ف فَضلَ حَيائه‬ ‫كريم يغض الط ْر َ‬
‫حدّاه إنْ خاشَنتهُ خَـشِـنَـان‬ ‫وَ‬ ‫ن متْنـه‬ ‫وكالسيفِ إن لم َينْته لَ َ‬
‫وهذا يناسب قول ابن المعتز في بعض جهاته‪:‬‬
‫كما لن مَتن السيفِ والحدّ قاطِعُ‬ ‫وَيجْ َرحُ أحشائي ب َعيْنٍ مـريضة‬
‫وقال الخطل في بني مروان‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫إذا ألمّتْ بهم مكروهة صَـبَـرُوا‬ ‫صمٌ عن الجَهل‪ ،‬عن قيل الخنا أنف‬ ‫ُ‬
‫وأعْظَمُ الناسِ أحلمًا إذا قَـدَرُوا‬ ‫ستَقَادَ لـهـمْ‬ ‫شمْسُ العداوةِ حتى يُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ي بن هَ ْرمَة يمدح أبا جعفر المنصور‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وفال إبراهيم بن عل ّ‬
‫طليقٌ‪َ ،‬ووَجْهٌ في الكريهة باسِـل‬ ‫جهَان‪ ،‬وَجْهٌ لدى الرضا‬ ‫كريم له َو ْ‬
‫و َيعْفو إذا ما أ ْمكَنتهُ المَـقَـاتِـلُ‬ ‫غيْرِ قدرَةٍ‬ ‫ق من َ‬ ‫وليس ب ُمعْطي الح ّ‬
‫إذا كرَها فيها عِـقَـاب ونَـائِلُ‬ ‫له لحظات من حِفافـي سـريره‬
‫وأم الذي حاولت بالثكْل ثَـاكِـلُ‬ ‫ت آمِـنَةُ الـرَدى‬ ‫فأمّ الذي أمـنْـ َ‬
‫وقال الطائي في أبي سعيد محمد بن يوسف‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وتقتادُهُ من جَانِـبَـيْهِ فـيتـبـعُ‬ ‫ج ْهتَه انْ َقدْتَ طَوْعَهُ‬ ‫هو السيلُ إن وا َ‬
‫وكان عصابة الجرجاني‪ ،‬واسمه إسماعيل بن محمد‪ ،‬منقطعاً إلى الحسن بن رجاء متصلً به‪ ،‬وهو القائل فيه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫إل بما تَأتِي بـه النْـبَـاءُ‬ ‫ومحجّبٍ بالنور ليس بمد َركٍ‬
‫ويُطيعُه فتطيعُـه الشْـيَاءُ‬ ‫ملك ُيحِب ال فهو يحِـبّـهُ‬
‫حرْب فالُخَيلءُ‬ ‫وإذا مشى لل َ‬ ‫يمشي الهُ َو ْينَا للصل ِة يُقِيمُها‬
‫يشوي الزمان وما لَهُ إشْوَاءُ‬ ‫ل درك أيما ابـنِ عـزيمةٍ‬
‫ثم عتب عليه في بَغضِ المر‪ ،‬فهجاه هجا ًء قبيحاً؛ فهرب إلى عمان‪ ،‬ثم اعتذر إليه بقصيدته التي أولها‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫إل من العَلَق النجِيع النِ‬ ‫ل تخضبَن عَوَالي المُرانِ‬
‫وهي أجود شعر قيل في معناه‪ ،‬وهي التي يقول فيها‪:‬‬
‫إنّ المنادمةَ الرضاعُ الثّـانـي‬ ‫ِاقْرِ السلم على المير‪ ،‬وقل له‪:‬‬
‫حتى استخف بمَوضِعي غِلمَاني‬ ‫شمِي بأنك سَاخـط‬ ‫ما إنْ أتى حَ َ‬
‫وملبسي من أعوَنِ العْـوَانِ‬ ‫وغَدت علي مطاعمي ومَشَاربي‬
‫فكتب إليه الحسن‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫مني بحيث الرأسُ والعينانِ‬ ‫أبْلغْ أبا إسحاقَ أنّ محلّـه‬
‫ولت ْب ِعدَنَ نَوازغَ الشيطـانِ‬ ‫ل تبعدن بك الديارُ ِلنَـزْغةٍ‬
‫إن المحل محلّ كلّ أمـانِ‬ ‫عتَه‬ ‫فَ ْليَفرخ الرّوْع الذي رُوّ ْ‬
‫بين جميل وعمر بن أبي ربيعة‬
‫اجتمع جميل بن معمر العذري ب ُعمَر بن أبي ربيعة المخزومي‪ ،‬فأنشده جميل قصيدته التي أولها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ُب َثيْنَةُ أو أ ْبدَتْ لنا جانِبَ البُـخْـل‬ ‫حبْلي‬‫لَ َق ْد فَ ِرحَ الوَاشُونَ أنْ صَ َر َمتْ َ‬
‫ن مَـهْـلِ‬ ‫لقْسِم ما لي عن ُب َثيْنَة مِ ْ‬ ‫ُ‬ ‫يَقُولونَ‪َ :‬مهْلً يا جمـيلُ‪ ،‬وإنّـنـي‬
‫قَتيلً َبكَى مِنْ حُب قَاتِلِ ِه َقبْـلـي؟‬ ‫شتُما هَـلْ رأيتُـمـا‬ ‫عْ‬‫ي فيما ِ‬ ‫خَلِيل ّ‬
‫نقله أبو العتاهية‪ ،‬فقال‪ :‬السريع‪:‬‬
‫جدِ على القاتلِ‬ ‫شدَة ال َو ْ‬
‫بكى من ِ‬ ‫يا مَنْ رأى قـبـلـي قـتـيلً‬
‫فلمّا أتمها قال لعمر‪ :‬يا أبا الخطاب‪ ،‬هل قلت في هذا الرويّ شيئاً؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ثم أنشده‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فعرضني يومَ الحِصَابِ إلى قتلي‬ ‫جرى ناصح بالودَ بيني وبينـهـا‬

‫ومَ ْوقِفها يومًا بقارِعة الـنـخـل‬ ‫فما أنْسَ م الْشياء ل أنْسَ قولَهـا‬
‫كمثل الذي بي حَذوَك ال ّنعْلَ بالنعلِ‬ ‫فلمّا تواقَ ْفنَا عَ َرفْتُ الـذي بـهـا‬
‫عدو مكاني أو يرى حاسد فِعلـي‬ ‫ن يَرَى‬‫فسَلمْتُ واستأنستُ خِـيفَة أ ْ‬
‫وكل يُفدي بـالـمـودَةِ والهـل‬ ‫وأقبلَ أمثالُ الدُمى يكتنِـفْـنَـهـا‬
‫غيْ َر ذِي ِر ْقبَة أهلـي‬
‫معي فتكلم َ‬ ‫ختْ جانب الستْرِ‪ :‬إنمـا‬ ‫فقالت وأرْ َ‬
‫ولكنّ سرّي ليس يحمِلُه مِثْـلـي‬ ‫فقلتُ لها‪ :‬ما بي لهم من ترقُـبٍ‬
‫فاستخذى‪ ،‬جميل وصاح‪ :‬هذا وال الذي طلبَت الشعراء فأخطأته‪ ،‬فتعلَلُوا بوصف الديار‪ ،‬ونعت الطلل‪.‬‬
‫ح نساءَها‪ ،‬ويص ُ‬
‫ف‬ ‫ولما مات عمر بن أبي ربيعة نُعي لمرأة من مولدات مكة‪ ،‬وكانت بالشام‪ ،‬فبكت وقالت‪ :‬مَنْ لباطح مكة؟ ومن َيمْد ُ‬
‫محاسنهن‪ ،‬ويبكي طاعتهن؟! فقيل لها‪ :‬قد نشأ فتًى من ولد عثمان بن عفان على طريقته‪ ،‬فقالت‪ :‬أنشدوني له‪ ،‬فأنشدوها‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫‪165‬‬
‫ول تَ ْق َربَنَا فالتجـنّـبُ أجْـمَـلُ‬ ‫وقد أرسلَت في السر َليْلَى بأَنْ أقِم‬
‫عنّا أو َتنَا ُم فـتـغـفـلُ‬
‫تكذب َ‬ ‫صلِـنـا‬ ‫لعلّ العيون الرامقات لوَ ْ‬
‫فلما كتَمنَا الس ّر عنهمْ تقـوَلُـوا‬ ‫أُناس أمنّاه ْم فبـثّـوا حَـديثـنـا‬
‫جمَلُـوا‬ ‫ول حين َهمُوا بالقطيعة أَ ْ‬ ‫فما حفظوا ال َعهْدَ الذي كان بيننـا‬
‫فتسلّت وقالت‪ :‬هذا أجل عِوَضٍ‪ ،‬وأفضل خَلَف‪ ،‬فالحمدُ ل الذي خلف على حرمه وأمته مثل هذا‪.‬‬
‫وقال عروة بن أذينة‪ :‬أنشدت ابن أبي عتيق للعَرْجي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ول ليلة الضحى ول ليلة الفِطـر‬ ‫فما ليلةٌ عـنـدي وإنْ قـيلَ لَـيلةٌ‬
‫يكونُ سواء مثلها لـيلة الـقَـدر‬ ‫بعادلةِ الثنين‪ ،‬عندي وبـالـحَـرَا‬
‫لجارتها‪ :‬قُومِي سَلِي لي عن ال ِوتْرِ‬ ‫وما َأنْسَ م الَشياء ل أنس قولَهـا‬
‫ول َتعْجَلي عنه فإنك فـي أجْـرِ‬ ‫فجاءت تقول الناس في ست عشرة‬
‫فقال ابن أبي عتيق‪ :‬هذه أفْقَه من ابنِ أبي شهاب؛ أشهدكم أنها حرَة من مالي إن أجاز أهلها ذلك‪.‬‬
‫ي هو عبد ال بن عم َر بن عمرو بن عثمان بن عفان‪ ،‬وكان ينزل بعَرْج الطائف فنسِب إليه‪ ،‬وهو القائل‪ :‬المنسرح‪:‬‬ ‫والعَ ْرجِ ُ‬
‫أمْ هل ِلهَم الفـؤادِ مـن فَـرجٍ‬ ‫هل في ادكاري الحبيبَ مِنْ حَرَجِ‬
‫ن أمَـج‬ ‫يوْم حَلَلْنا بالنّـخْـل مِـ ْ‬ ‫أ ْم كيف أنْسَى مسيرنـا حـرمـا‬
‫فأْتِ على غـير ِرقْـب ٍة فَـلِـج‬ ‫ل قـد أذنـت‬ ‫يوم يقولُ الرسـو ُ‬
‫أُ ْهدَى إليها بـريحـهـا الَرجِ‬ ‫أ ْقبَلْتُ أهْوي إلـى رِحـالِـهـمُ‬
‫وكان محمد بن هشام بن المغيرة بن عبد ال بن مخزوم والياً على مكة ‪ -‬وهو خال هشام بن عبد الملك ‪ -‬بلغه أن العرجيّ هجاه‪ ،‬فضربه ضرباً‬
‫مبرحاً‪ ،‬وأقامه على أعين الناس‪ ،‬فجعل يقول‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ويَسْأل أهل مكةَ عن مَساقـي‬ ‫سيغضب لي الخليفة بعد رقّي‬
‫من البَلْوى تُجَاو ُز نِصْفَ ساقي‬ ‫علي عباءَ ٌة بَـرْقـاء لـيسـت‬
‫ولةُ الشعبِ والطُرُقِ العماقِ‬ ‫س َرتِها قُـصَـيٌ‬ ‫و َتغْضَب لي بأُ ْ‬
‫فحلف محمد بن هشام أل يخرجه ما دامت له ولية؛ فأقام في السجن سبع سنين حتى مات‪ ،‬وهو القائل في سجنه‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ليوم كريهة وسِـدَا ِد ثَـغْـرِ‬ ‫أضاعوني وأي فتًى أضاعـوا‬
‫وقد شُرِعتْ أسنَتهم لنَحْـرِي‬ ‫وخَلَوني ومعترك الـمـنـايا‬
‫عمْـرو‬ ‫ولم تك نسبتي في آل َ‬ ‫كأني لم أكن فيهـم وَسِـيطـاً‬
‫ل ل مَظِْلمَتي وهَـصْـرِي‬ ‫أَ‬ ‫جرَرُ في الْجَوامِـع كـل يوم‬ ‫أُ َ‬
‫شكْـرِي‬ ‫س ُينْجِيني فيعلم َكيْف ُ‬ ‫عسى المِلكُ المجيبُ لمن دعاهُ‬
‫وأنجزِي بالضغائن أفلَ ضُرَي‬ ‫فَأَنجزِي بالكرامة أهْـلَ وُدي‬
‫جملة من الفصول القصار لبن المعتز‬
‫البشر دال على السخاء كما يدلُ النَور على الثمر‪ .‬إذا اضطررت إلى الكذاب فل تصدقه‪ ،‬ول تُعِلمْه أنك تكذبُه‪ ،‬فينتقل عن وُدهِ‪ ،‬ول ينتقل عن‬
‫لقِ الحداثة‪ .‬كَرَمُ ال‪،‬‬ ‫خفَى ضوءُها وإن كانت تحت السحاب كذلك الصبيُ ل تخفى غريزة عَ ْقلِه وإن كان مغموراً بأَخْ َ‬ ‫ط ْبعِه‪ .‬كما أن الشمس ل يَ ْ‬ ‫َ‬
‫ن من‬‫صنْعه‪ ،‬كذلك استصلح الصديق أهو ُ‬ ‫ن من ُ‬ ‫عزّ وجل‪ ،‬ل َينْقُضُ حِكمته‪ ،‬ولذلك ل يجعل الجابة في كل دعوة‪ .‬كما أن جلءَ السيف أهوَ ُ‬
‫غيْرِه‪ .‬إذا استرجع ال مواهبَ الدنيا كانت مواهب الَخرة‪ .‬لول ظلمةُ الخطا ما أشرق نورُ الصواب‪ .‬الحوادث ال ُممِضة ُمكْسِبةٌ لحظوظ‬ ‫اكتساب َ‬
‫ب مدّخر‪ ،‬وتطهيرٍ من َذنْبٍ‪ ،‬وتَنبيه من غَفْلة‪ ،‬وتعريفٍ ب َقدْرِ النعمة‪ ،‬و ُمرُوان على ُمقَارَعَةِ الدهر‪ .‬ومثل هذا الفصل محفوظ‬ ‫جزيلة؛ من صوا ٍ‬
‫عن ذي الرياستين‪ ،‬قاله بعقب عِلّةٍ فأغار عليه ابن المعتز‪.‬‬
‫س َتدِمْ ما‬
‫سبَاب سوءَ الظن‪ ،‬وا ْ‬‫وكتب إلى أحمد بن محمد جواباً عن كتاب استزاده فيه‪َ :،‬قيّ ْد ِنعْمَتي عندك بما كنت اس َتدْعيتها به‪ ،‬وذُلت عنها أ ْ‬
‫تُحبُ مني بما ُأحِب منك‪.‬‬
‫لّ ل قَابَلَ إحسا َنكَ مني كفرٌ‪ ،‬ول تَبعَ إحساني إليك مَنّ‪ ،‬ولك عندي يدٌ ل َأ ْقبِضُها عن نفعك‪ ،‬وأُخْرَى ل َأبْسطُها إلى ظُ ْل ِمكَ‪ ،‬فتجنبْ‬ ‫وكتب إليه‪ :‬وا ِ‬
‫ما يُسْخِطني‪ ،‬فإني أصون وجهك عن ذُلّ العَتذر‪.‬‬
‫وكان أحمد بن سعيد يؤدبه فتحمل البلذري على قبيحَةَ أم ابن المعتز بقوم سألوا أن تأذن له أن يدخلَ إلى ابن المعتز وقتًا من النهار‪ ،‬فأجابت أو‬
‫ي ابن المعتز وله ثَلثَ عشرة سنة‪:‬‬ ‫ضبَانَ لما بلغني عنها‪ ،‬فكتب إل َ‬ ‫ن سعيد‪ :‬فلما اتصل الخبرُ بي جلستُ في منزلي غَ ْ‬ ‫كادَتْ تجيب‪ ،‬قال اب ُ‬
‫البسيط‪:‬‬
‫ن يَخْفَى ويَنتـعِـلُ‬ ‫عنها يقصّر مَ ْ‬ ‫ن َمكْ ُرمَة‬ ‫خدْ َ‬
‫أَصبحتَ يا ابن سعيد ِ‬
‫ش َتعِـلُ‬ ‫جتْ نا َر ذِ ْهنِي فهي تَ ْ‬ ‫وأَج َ‬ ‫شيَمـي‬ ‫حكْم ًة قد ه ّدبَتْ ِ‬ ‫سَ ْربَلْتني ِ‬
‫ل مُرْتجلُ‬ ‫حفْ ِ‬
‫أو حارثاً وهو يوم الْ َ‬ ‫ت قُسّا في خَطَابـتـه‬ ‫شئْ َ‬‫أكونُ إنْ ِ‬
‫ل نعمانَ لما ضاقَتِ الحِـيَلُ‬ ‫أو مِثْ َ‬ ‫ش ْأ ِفكْرَ َز ْيدٍ في فـرائِضِـهِ‬ ‫وإنْ أ َ‬
‫أو الكِسائي نَحْـويّا لَـه عِـلَـلُ‬ ‫أو الخليل عَرُوضيّا أخَـا فِـطَـن‬
‫ك ِمثْلِ ما عَـ َرفَـتْ آبـائيَ ال َولُ‬ ‫َتعْلُو َبدَاه ُة ذِهْنِي في مراكبـهـا‬
‫جذَلُ‬ ‫غ ْمدِه فدرى ما العيشُ وا ْل َ‬ ‫من ِ‬ ‫وفي فمي صارم ما سـلّـهُ أحـد‬
‫ت البِـلُ‬ ‫جدّتـهِ مـا أَطـ ِ‬ ‫َيبْقَى ب ِ‬ ‫شكْر طويل ل نـفـادَ لـه‬ ‫عُقباكَ ُ‬

‫‪166‬‬
‫شعْرَه‪ ،‬وعجب منه‪.‬‬ ‫وقس الذي ذكر‪ :‬هو قس بن ساعدة اليادي‪ ،‬وقد سَمع النبيُ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ِ ،‬‬
‫خرِه بقصيدته التي أنشدها بحضرة عمرو بن هند التي أولها‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫وحارث‪ :‬هو الحارث بن حِلزة اليشكري‪ ،‬وصف ارتجاله يوم فَ ْ‬
‫رُب ثا ِو يمَل منه الثّوَاءُ‬ ‫آذَنتنَا ببينهـا أسْـمـاءُ‬
‫وزيد‪ :‬هو زيد بن ثابت النصاري‪ ،‬وإليه انتهى علم الفرائض‪ .‬ونعمان‪ :‬هو أبو حنيفة النعمان ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬بن ثابت‪ ،‬سبق أهْلَ العراق‬
‫في الفقْه‪ .‬والخليل بن أحمد الفُرْهُودي‪ ،‬ويقال‪ :‬ال َفرَاهِيدي‪ ،‬منسوب إلى حيّ في الزد‪ ،‬اليحمري‪ .‬والكسائي‪ :‬علي بن حمزة الكوفي‪.‬‬
‫من إنشاء ابن العميد‬
‫وكتب أبو الفضل محمد بن العميد إلى بعض إخوانِه‪:‬‬
‫ث ما ينتزع‪ ،‬ول يبقى فيما يهب إلّ َريْث‬ ‫ح ما يمنح إلّ َر ْي َ‬ ‫خدُوعاً غَرُوراً‪ ،‬ل يمن ُ‬ ‫غدُوراً‪ ،‬وزماناً َ‬ ‫لّ فِداك ‪ -‬دهراً خؤوناً َ‬ ‫أنا أشكُو إليك ‪ -‬جعلني ا ُ‬
‫خيْرُه ُلمَعاً ثم ينقطع‪ ،‬ويحلُو ماؤه جُرعاً ثم يَم َتنِعُ‪ .‬وكانت منه شيمَةٌ مألوفة‪ ،‬وسجيّةٌ معروفة‪ ،‬أن يشفع ما يُبْ ِرمُه ب ُقرْبِ انتقاض‪،‬‬ ‫ما يَ ْرتَجع‪ ،‬يبدو َ‬
‫صدِه وظلمه‪ ،‬ونعتدّ من‬ ‫س َتئِمّ ب َق ْ‬
‫شكَ انقباض‪ ،‬وكنّا نَ ْلبَسُه على ما شرط‪ ،‬وإن خان وقَسَط؛ ونَرْضى على الرغم بحكمه‪ ،‬ونَ ْ‬ ‫ويهْدي لما يبسطه وَ ْ‬
‫غفَلته‪ ،‬ونستَ ِرقُه من ساعاته‪.‬‬ ‫صرْفًا بل مِزَاجٍ‪ ،‬ونتعلّل بما نختلِسه من َ‬ ‫أسباب المسرّة ألّ يجيء محذورُه مصمتاً بل انفِراج‪ ،‬ول يَأْتي مكروهُه ِ‬
‫سنّة مبتدعة‪ ،‬وشريع ًة متّبعة‪ ،‬وأعدّ لكل صالحةٍ من الفساد حالً‪ ،‬و َقرَن بكلّ خَلّة من المكروه خِلَل‪ .‬وبيان ذلك ‪-‬‬ ‫وقد استحدث غيرَ ما عرفناه ُ‬
‫ك ‪ -‬أنه كان يَ ْقنَ ُع من معارضته اللفين‪ ،‬بتفريق ذاتِ ال َبيْن‪ ،‬فقد أثني َم ْمنُوّا فيك بجميع ما أوغَرَه‪ ،‬وما أطْويه من البَلْوَى منك أ َكثْرُ‬ ‫ل ِفدَا َ‬
‫جعلني ا ّ‬
‫مما أنشُرُه‪ ،‬وأحسبني قد ظََلمْتُ الدهرَ بسوء الثناء عليه‪ ،‬وألزمته جُرماً لم يكن قدره بما يحيط به‪ ،‬وقدرته تَ ْرتَقِي إليه‪ ،‬ولو أنك أعَنته وظاهَ ْرتَه‪،‬‬
‫وقصدت صرفه وآَ َز ْرتَه‪ ،‬و ِب ْعتَني بيع الخَلقِ وليس فيمن زَا َد ولكن فيمن نقص‪ ،‬ثم أعرضت عني إعراضَ غير مراجع‪ ،‬واطّرحتني اطّراح‬
‫ت من جلّ ما عقدت من غير جريمة‪ ،‬ونكثت ما عهدت من غير‬ ‫جدْني هناك‪ ،‬وأنْ َفذْ َ‬ ‫غير مُجامل؛ فهلّ وجدت نفسك أهلً للجميل حين لم ت ِ‬
‫حتَني طَ ْرحَ ال َقذَاة؟ ولم تَلْفظني من‬ ‫جبْني عن واحدة منهما؛ ما هذا التغَالي بنفسك‪ ،‬والتّعالي على صديقك؟ ول َم َن َبذْتَني َنبْذَ النواة‪ ،‬وطرَ ْ‬ ‫جريرة‪ ،‬فأ ِ‬
‫فِيك‪ ،‬وتمجّني من حلقكِ؟ وأنا الحلل الحُلْو‪ ،‬والبارد العذب‪ ،‬كيف ل تُخْطرني ببالك خَطْرة‪ ،‬وتُصيرني من أشغالك مرة؛ فترسل سلماً إن لم‬
‫تتجشّم مكَاتبة‪ ،‬وتذكرني فيمَنْ َتذْكُر إن لم تكن مخاطبة؟ وأحسب كتابي سيَ ِردُ عليك فتنكره حتى تتثبّت‪ ،‬ول تجمع بين اسم كاتبه و َتصَوّر‬
‫حفْظك‪ ،‬ولعلّك أيضًا تتعجب من طمعي فيك‬ ‫شخصه حتى تتذكّر؛ فقد صرت عندك ممن َمحَا النسيانُ صورتَه من صدرك‪ ،‬واسمَه من صحيفةِ ِ‬
‫صخْرُ بالماء الزلل‪ ،‬ويَلين مَنْ هو أقسى منك قلبًا فيعود إلى الوصال‪ ،‬وآخر ما‬ ‫وقد توليت‪ ،‬واستمالتي لك وقد أبيت‪ ،‬ول عجب فقد يتفجر ال َ‬
‫ح َمدُ‪.‬‬
‫حبْسٌ في سبيلك‪ ،‬ومتى عدت إليه وجدته غضاً طرياً‪ ،‬فجرّبه في المعاودة فإنه في العود أَ ْ‬ ‫أقوله أن ودي وقْف عليك‪ ،‬و َ‬
‫اجتليت هذا الكلم على اختيار الختصار‪.‬‬
‫خرُ بالماء الزلل من قول ابن الرومي‪ :‬مجزوء الرمل‪:‬‬ ‫ل قوله فقد يتفجر الص ْ‬ ‫حّ‬
‫ن وفي ُبعْدِ المَـنَـالِ‬ ‫يا شبيه البدر في الحس‬
‫رة بالمـاء الـزُللِ‬ ‫جدْ فقد تتفجر الصّـخ‬ ‫ُ‬
‫عُبدِ المير عضد الدولة بنعمة َيعْلُو مراتبَ النعم مَوْقعُها‪،‬‬ ‫لَ تعالى معاشرَ ُ‬ ‫وفي هذه الرسالة في ذكر َفتْح وإن لم يستبق منه المعنى‪ :‬وقد خصّنا ا ُ‬
‫سمِه ‪ -‬أبقاه الّ ‪ -‬فُتح ال َفتْح‪ ،‬وبشعاره استُنزل النجْع‪ ،‬وب ُيمْن نقيبته فُرج الكَرْب‪ ،‬وبسعادة جدّه كُشِف‬ ‫ويفوتُ مقدار المواهب موضعها‪ ،‬فبا ْ‬
‫حمِيت أطرافُ الدولة‪ ،‬وحُفِظت‬ ‫ل العدو وقُهر‪ ،‬و ُ‬ ‫خطْب‪ ،‬وباهتزازه للدولة وحمايته عاد إليها ماؤها‪ ،‬وراجعها بهاؤُها‪ ،‬فعز الملك ونُصِر‪ ،‬وذ ّ‬ ‫ال َ‬
‫سدِلَتْ ستورُ الصيانة دون الحرمة؛ ولو جعل المولى ‪ -‬تقدس اسمه ‪ -‬لنعمته إذا تناهت على عبيده جزاءً‬ ‫أكنافُ الملةِ‪ ،‬واستجد نظام النعمة‪ ،‬و ُ‬
‫حمْده‪ ،‬لرأيت أل أقتصر في قضاء حقّه على‬ ‫غيْرَ الخلص في شكره‪ ،‬وقَبل ما في مقابلة المَوْهبة التي يستجدها عند خَلقه غيرَ الغراق في َ‬ ‫َ‬
‫صدْ ِر ما أبذل عن هذه النعمة العزيْن؛ الهل والولد‪ ،‬والنصَرين؛ الساعد والعَضُد‪ ،‬بل العميدين؛ القلب‬ ‫بعض الملك دون بعض‪ ،‬ولجعلت في َ‬
‫والكبد؛ بل النفس كلها‪ ،‬والمُهجَة بأسرها‪.‬‬
‫ما قيل في العتاب‬
‫ب بعض إخوانه‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وقال سعيد بن حميد يعاتِ ُ‬
‫ل تـار ًة ويمـيلُ‬ ‫والدهر يَعـدِ ُ‬ ‫أقللْ عتابك فالبـقـاءُ قـلـيل‬
‫إل بكَيتُ علـيه حـين يَزُولُ‬ ‫ك من زمن ذَمَمتُ صُروفه‬ ‫لم أ ْب ِ‬

‫ل أقـبَـــلـــت تَـــخـــوي ُ‬
‫ل‬ ‫ولـكـل حـا ٍ‬ ‫ولـــكُـــلّ نـــائبةٍ ألـــمـــت مُـــدة‬
‫إنْ حُـصـلـوا أفـنـاهـم الـتـحـــصـــيل‬ ‫والـمـنـتـمـون إلـى الخــاء جـــمـــاعة‬
‫ع بـينـنـــا وتَـــحـــول‬
‫يومـاً سـتَـصـد ُ‬ ‫ولـعـل أحـدَاثَ الــمـــنـــيةِ والـــردى‬
‫ولـيكـثـرن عـلــي مـــنـــك عَـــوِيل‬ ‫ت لـتـبـكـين بـحـــســـرة‬ ‫فلـئن سـبَـقـ ُ‬
‫حبْـلُ الـوفـاء بـحَـبْـلِــه مـــوصـــول‬‫َ‬ ‫ن بـمُـخْـلِـصٍ لــك وامـــق‬ ‫ولـتـفـجَـعَـ ّ‬
‫ت ول سبقت ليمض َي ْنمَنْ ل يُشَكِالُه لديَ خليل‬ ‫سبَ ْق َ‬
‫ولئن َ‬
‫ولـيُفْـقَـدنّ جـمـالُـهـا الـــمَـــأْهـــول‬ ‫وليذهبنّ بهاءُ كل مروءةٍ‬
‫ضافٍ عـلـيه مـــن الـــوفـــاء دلـــيل‬ ‫وأراك تـكْـلَـفُ بـالــعـــتـــاب و ُودُنـــا‬
‫وبَـدَتْ عـلــيه بَـــهْـــجَة وقَـــبـــول‬ ‫ودّ بـدا لــذَوِي الخـــاء جـــمـــالُـــه‬
‫فعَـل َم يكـثـر عَـتْــبُـــنَـــا ويَطُـــولُ؟‬ ‫ل أيامَ الـــحـــياة قـــلـــيلةٌ‬
‫ولـــعـــ ّ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ول لك عن سوء الخليقة مَـرْغَـبُ‬ ‫لقد ساءني أنْ ليس لي عنك مَذْهَـبُ‬
‫وفي دونه قُ ْربَى لـمـن يتـقـرَبُ‬ ‫أفكـر فـي ود تـقـادم بـينـنـا‬
‫وخي ٌر من الودَ السقيمِ الـتـجـنـبُ‬ ‫وأنت سقـيمُ الـودَ رَثّ حِـبـالُـه‬

‫‪167‬‬
‫سنْي‪ ،‬وتَلقاني كـأنـي مُـ ْذنِـبُ‬ ‫بح ُ‬ ‫تُسِي ُء وتَأبَى أنْ تـعـقَـب بَـعْـدَهُ‬
‫مقالةَ أقوام هُـ ُم مـنـك أنْـجَـبُ‬ ‫حذَرُ إن جازيت بالسوء والقِـلَـى‬ ‫وأَ ْ‬
‫ن أو يتـعـتَـبُ‬‫فعاد يُسيء الـظـ َ‬ ‫أساء اختـياراً أو عَـ َرتْـه مَـلَلةٌ‬
‫كما خاب رَاجي البرق والبَرْقُ خُلَبُ‬ ‫خبْتُ من الود الذي كـان بـينـنـا‬ ‫فِ‬
‫وقال عبيد ال بن عبد ال بن طاهر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وَل ْم ل تملَنَ القطيعةَ والهجْـرَا؟‬ ‫إلى كم يكونُ الصدُ في كلّ ساعةٍ‬
‫ت البين فانتظر الدَهْرَا‬ ‫لتفريقِ ذا ِ‬ ‫رويدك! إنَ الدهرَ فـيه بـقـيّةٌ‬
‫آخر‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫أن الصدُودَ هو الـفِـرَاقُ ال َولُ‬ ‫ولقد علمْت فل تكن متجـنـبـاً‬
‫س َتعْجِلُ؟‬ ‫صَرْف الزمان‪ ،‬فما لنا نَ ْ‬ ‫ق بـينـهـم‬ ‫حبّة أن يف َر َ‬‫حَسْب ال ِ‬
‫آخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فمفترق جَاران دارهما العمرُ‬ ‫سعَها قبل بينها‬ ‫ذَرِ النفسَ تأخذ وُ ْ‬
‫ويقرب من المعنى قول المتنبي أيضاً‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ل يَحُولُ‬ ‫مَ فحسْنُ الوجوه حا ٌ‬ ‫زَ َودِينا من حُسْن وجهِك ما دَا‬
‫يا فإنّ المُقَامَ فيهـا قَـلِـيلُ‬ ‫ص ْلكِ في هذه الدّن‬ ‫وَصِلِينَا نَ ِ‬
‫ما يتعلق بالعراب‬
‫وقف أعرابي يسألُ‪ ،‬ف َعبِث به فتى‪ ،‬فقال‪ :‬ممن أنت؟ فقال‪ :‬من بني عامر ابن صعصعة‪ ،‬فقال‪ :‬من أيّهم؟ فقال‪ :‬إن كنت أردت عاطفة القرابة‬
‫ت من أعجازهم‪ .‬فقال الفتى‪ :‬ما‬ ‫فليكفك هذا المقدار من المعرفة‪ ،‬فليس مقامي بمقام مُجادَلة ول مفاخرة‪ ،‬وأنا أقولُ‪ :‬فإن لم أكن من هاماتهم فلس ُ‬
‫ت عن فضيلتك إلّ النقص في حسبك‪ ،‬فامتعض العرابي لذلك؛ فجعل الفتى َيعْ َتذِر‪ ،‬ويخلط الهَزْل والدعابة باعتذاره‪ ،‬وأطَال الكلم‪ ،‬فقال‬ ‫روي َ‬
‫له العرابي‪ :‬يا هذا‪ ،‬إنك منذ اليوم آذيتني بمَزْحِك‪ ،‬وقطعتني عن مسألتي بكلمك واعتذارك‪ ،‬وإنك لتكشف عن جَهلِك بكلمك ما كان السكوت‬
‫سخَط‪ ،‬وإن اعتذر أفرط‪ ،‬وإن حدث أسقط‪ ،‬وإن قدَر تسلّط‪ ،‬وإن عزم على أمرٍ تورّط‪ ،‬وإن جلس‬ ‫ستُره من أمرك‪َ ،‬ويْحك! إنّ الجاهل إن مَزَح أ ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫مجلس الوقار تبسط‪ ،‬أعوذُ منك ومن حالٍ اضطرتنيِ إلى احتمال مثلك! وقال إسحاق الموصلي‪ :‬قال أعرابي لرجل كان يعتمده بالعطية‪ :‬اسأل‬
‫الذي رحمني بك أن يرحمَك بي‪.‬‬
‫وسأل أعرابي رجلً‪ ،‬فأعطاه‪ ،‬فقال‪ :‬الحمد لّ الذي ساقني إلى الرزق وساقَك إلى الجر‪.‬‬
‫من إنشاء بديع الزمان الهمذاني‬
‫ومن إنشاء البديع من مقامات السكندري‪:‬‬
‫حلْية الثروة‪ ،‬ل يهمني إلّ نزهة فكر‬ ‫قال‪ :‬حدّثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬أ ْفضَتْ بي إلى بَلْخ تجارة البَزّ‪ ،‬فوردتها وأنا بِ َفرْوَةِ الشباب وبَالِ الفراغ‪ ،‬و ِ‬
‫ح من كلمي‪ .‬ولمَا حنى التفرقُ بنا ق ْوسَه أو كاد‪ ،‬دخل إليً‬ ‫س ْمعِي مساف َة مُقامي‪ ،‬أفص ُ‬
‫أستفيدها‪ ،‬وشَريدة من الكلم أصيدها‪ ،‬فما استأذن على َ‬
‫خدَعَيْنِ‪ ،‬وطَرْف قد شرب بماء الرّافدين‪ ،‬وَل ِقيَني من البرّ في السناء‪ ،‬بما ِز ْدتُه من الشكر والثناء؛ ثم‬ ‫شابّ في زي مِلْء ال َعيْن‪ ،‬ولحية تَشُوكُ ال ْ‬
‫ظعْنا تُرِيد؟ قلت‪ :‬إي والّ‪ ،‬فقال‪ :‬أخصَبَ ال رَائِدَك‪ ،‬ول أضلّ قائِدَك‪ ،‬فمتى ع َز ْمتَ؟ فقلت‪ :‬غدا َة غد‪ ،‬فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫قال‪ :‬أ َ‬
‫طيْرُ الفِراقِ‬ ‫طيْر ال َوصْلِ ل َ‬ ‫وَ‬ ‫صباح ال ل صبْحُ انطـلقِ‬
‫ضيْتَ الوَطَر‪ ،‬فمتى العَود؟ قلت‪ :‬القابل؟ قال‪ :‬طَ َويْتَ الرّيط‪ ،‬وثنَيْتَ الخيط‪ ،‬فأين أنت من‬ ‫قال‪ :‬أين تريد؟ قلت‪ :‬الوطن‪ ،‬قال‪ :‬بُّلغْتَ الوَطن‪ ،‬وق َ‬
‫الكرم؟ قلت‪ :‬بحيث أردت؟ قال‪ :‬إذا رجعك ال من هذه الطريق‪ ،‬فاستَصحِب لي عدُواً في بُردَةِ صديق‪ ،‬من نِجَار الصّفر‪ ،‬يدعو إلى الكفر‪،‬‬
‫ق بوَجهين! فعلمت أنه يلتمس ديناراً‪ ،‬قلت‪ :‬لك ذلك نقداً‪ ،‬ومثله وَغداً‪ ،‬فأنشأ يقول‪:‬‬ ‫ل الذين‪ ،‬وينافِ ُ‬ ‫ط ِثقَ َ‬ ‫ويرقُص على الظفْر‪ ،‬كدَارة العين‪ ،‬يح ُ‬
‫مخلع البسيط‪:‬‬
‫ل زلت للمَكرُمات أهْـل‬ ‫رَ ْأيُك ِممّا خَطَبتُ أعـلـى‬
‫طبْتَ أصل‬ ‫وطِئتَ فرعاً و ِ‬ ‫صَُلبْتَ عُوداً و ُفقْتَ جُـوداً‬
‫ول أطيق السؤال ثِـقْـلَ‬ ‫حمْـل‬ ‫ل أستطيع العَطاء َ‬
‫ت فِعـلً‬ ‫ظنَنْ َ‬
‫وطُلْتُ عما َ‬ ‫ظنّـا‬
‫ن مُنتهاك َ‬ ‫قصُ ْرتُ عَ ْ‬
‫ي الدّهْ ُر ِم ْنكَ ُثكْـلَ‬
‫ل َلقَ َ‬ ‫يا رحمة الّ والمعـالـي‬
‫قال عيسى بن هشام‪ُ :‬فنُلتُه الدينار‪ ،‬وقلت‪ :‬من أين نبتَ هذا الفَضل؟ قال‪َ :‬نمَتني قريش‪ ،‬و ُمهّد لي الشرفُ في بَطْحائها‪ .‬فقال بعض من حضر‪:‬‬
‫ألَسْت أبا الفتح السكندري؟ ألم أرك بالعِراق‪ ،‬تطوف بالسواق‪ُ ،‬مكَدّياً بالوراق؟ فأنشأ يقول‪ :‬مجزوء الرمل‪:‬‬
‫أخذوا ال ُعمْرَ خَلِيطا‬ ‫إنّ لـلَـهِ عـبـيداً‬
‫با و ُيضْحُون نَبيطا‬ ‫فه ُم ُيمْسُون أعـرا‬
‫خبْثه‪ ،‬وإذا سكن َم ْتنُه‪،‬‬
‫ظهَرَ ُ‬
‫لَ بقاءَ الشيخ الجليل‪ ،‬والما ُء إذا طال ُم ْكثُه‪َ ،‬‬ ‫وله إلى أبي نصر الميكالي يشكو إليه خليفته بهَرَاة‪ :‬كتابي‪ ،‬أطال ا ُ‬
‫سمُج لقاؤه‪ ،‬إذا طال ثَوَاؤه‪ ،‬ويثقل ظِلّه‪ ،‬إذا انتهى َمحَلّه‪ ،‬وقد حَلبْت أشطر خمسة أشهر بهَرَاة وإن لم تكن دار مثلي‬ ‫ف يَ ْ‬
‫تحرَك نتنُه‪ ،‬كذلك الضي ُ‬
‫صدَر عِشْق‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫صدَرَا مَ ْ‬ ‫س َمثَلُ صدق‪ ،‬وإن َ‬ ‫لول مُقامهُ‪ ،‬وما كانت تسعني لول ذِمَامُه‪ ،‬ولي في َبيْتيْ قي ٍ‬
‫ل الباطحِ‬ ‫بقول يُحِل العُصمَ سَه َ‬ ‫وَأ ْدنَيْتني حتى إذا ما س َبيْتـنـي‬
‫وخلَ ْفتِ ما خلً ْفتِ بين الجوانِـحِ‬ ‫تجا َفيْتِ عني حيث ل ليَ حـيلةّ‬
‫نعم‪ .‬قنصتني ِنعَمُ الشيخ الجليل‪ ،‬فلما عَِلقَ الجناح‪ ،‬وقَلِقَ البَرَاح‪ ،‬طرت مطارَ الريح‪ ،‬بل مطارَ الرّوح‪ ،‬وتركتني بين قوم ينقض مَسّهم الطهارَة‪،‬‬
‫وتُوهِن أكفّهم الحجارة‪ ،‬وحدثت عن هذا الخليفة‪ ،‬بل الجِيفة‪ ،‬أنه قال‪ :‬قضيت لفلن خمسين حاج َة منذ ورد هذا البلد‪ ،‬وليس يَقْنع‪ ،‬فما أصنع؟‬
‫فقلت‪ :‬يا أحمق‪ ،‬إن استطعت أن تراني محتاجاً‪ ،‬فاستطع أن أراك محتاجاً إليك‪ .‬أفً لقولك ولفعلك‪ ،‬ولدهر أحْوَج إلى مثلك! وأنا أسأل الشيخ‬

‫‪168‬‬
‫ج ْنبِه‪ ،‬آثارُ ذنبه‪.‬‬
‫الجليل أن يبيضَ وجهي بكتاب يُسَوّد وجهه‪ ،‬ويعرّفه َقدْره‪ ،‬ويمل رعباً صدره‪ ،‬إلى أن َتبِين على صفحات َ‬
‫وله إليه يعاتبه‪:‬‬
‫قد عرف الشيخ الجليل اتّسامي بعبوديته‪ ،‬ولو عر ْفتُ ورا َء العبودية مكانًا لبلغته معه‪ ،‬وأراني كلما قدمت صُحْبة‪ ،‬رجعت ُرتْبة‪ ،‬وكلّما طالت‬
‫عبْداً حبشياً‪ ،‬و َيضَع قُرَشِياً‪ ،‬ولكن أحب أن أقف من مكاني على ُرتْبةِ‬ ‫خدْمة‪ ،‬قصُرت حِشمة‪ ،‬ولست ممن يذهب عليه أن للسلطان أنْ يرفع َ‬ ‫ِ‬
‫كوكبها ل يغور‪ ،‬ومنزلةٍ لَوَْلبُها ل َيدُور‪ ،‬فإذا عرفت َقدْري وخطه‪ ،‬لم أتخطَه‪ ،‬ثم إن رأيت محلي وحده‪ ،‬لم أتعدَه‪ ،‬إن قدّمني يوماً عليها علمت‬
‫ت أنكِر سِنه وفَضْلَه‪ ،‬ول أجحد بيته وأصله‪ ،‬ولكن لم‬ ‫أن عنايةً قدمتني‪ ،‬وإن أخرني عنها علمت أن جناية أخرتني‪ .‬رُفع عليّ اليوم فلنٌ ولس ُ‬
‫تجْرِ العادة بتقدّمه‪ ،‬ل في اليام الخالية‪ ،‬ول في هذه اليام العالية؛ وشديدٌ على النسان ما لم يُعود؛ فإن كان حاس ٌد قد هم‪ ،‬أو كاشح قد نمَ‪ ،‬أو‬
‫ب قد ألمّ‪ ،‬أو أمرٌ قد رقع وتم‪ ،‬فالشيخُ الجليلُ أولى من يعرفه ويعرّفنيه‪ ،‬وإل فما الرأي الذي أوْجَب اصطناعي‪ ،‬ثم ضياعي‪ ،‬والسبب الذي‬ ‫ط ٌ‬ ‫خَ ْ‬
‫اقتضى َب ْيعِي بعد ابتياعي؟‬
‫عود إلى المأمون‬
‫ولما رضي المأمون عن إبراهيم بن المهدي أمر به فأدْخِل عليه‪ ،‬فلما وقف بين يديه قال‪ :‬وَليُ الثأر محكّم في القصاص‪ ،‬ومَنْ تَناوَله الغترار‬
‫لّ تعالى فوق كل ذي ذنب‪ ،‬كما جعل كل ذي ذَنْب دونك‪ ،‬فإن أخذتَ‬ ‫بما مُدَ له من أسباب الرجاء أمِن عادية الدهر من نفسه‪ ،‬وقد جعلك ا ُ‬
‫فبحقَك‪ ،‬وإن عفوت فبفضلك‪ .‬ثم قال‪ :‬المجتث‪:‬‬
‫وأنت أغـم مـنـهُ‬ ‫ذَنْبي إليك عـظـيم‬
‫فاصفحْ بفَضلِك عنه‬ ‫خذْ بحـقّـك‪ ،‬أ ْو ل‬ ‫فُ‬
‫مِنَ الكرام فكـنْـهُ‬ ‫إن لم أكن في فعالي‬
‫فقال لي‪ :‬إني شاورت أبا إسحاقَ والعباس في َقتْلك‪ ،‬فأشارا به‪ ،‬قال‪ :‬فما قلتَ لهما يا أمير المؤمنين؟ قال‪ :‬قلت لهما‪ :‬بدأناه بإحسان‪ ،‬ونحن‬
‫نستَأمِره فيه‪ ،‬فإن غير فال يغير ما به‪ ،‬قال‪ :‬أما أن يكونا قد نصحا في عظيم ما جَرَت عليه السياسة فقد فعل وبلغا ما يبلغك‪ ،‬وهو الرأيُ‬
‫جذَل! إذ كان ذَنْبي إلى مَن‬ ‫ل من حيث عوّدك ال‪ .‬ثم اس َت ْعبَر باكياً‪ ،‬فقال له المأمون‪ :‬ما يبكيك؟ قال‪َ :‬‬ ‫السديد‪ ،‬ولكنك أبيت أل تستجلب النصر إ َ‬
‫هذه صفته في النعام‪ ،‬ثم قال‪ :‬إنه وإن كان قد بلغ جُرْميَ استحلل دمي‪ ،‬فعِ ْل ُم أمير المؤمنين وفَضلُه بلغاني عفوه‪ ،‬ولي بعدهما شفاعة القرار‬
‫حبّب إليّ العفو حتى خِ ْفتُ ألَ أُوجَر عليه‪ ،‬أما لو علم الناسُ ما لنا في العفو من اللذّة لتقرّبوا‬ ‫بالذنب‪ ،‬وحق البوّة بعد الب‪ .‬فقال‪ :‬يا إبراهيم‪ ،‬لقد ُ‬
‫ن تنصّلك ولطف توصلك‪،‬‬ ‫ق نسبك ما يبلغ الصفح عن جرمك لبلَغك ما أملت حس ُ‬ ‫إلينا بالجنايات‪ ،‬ل َتثْرِيب عليك يغفر ال لك‪ ،‬ولو لم يكن في ح ّ‬
‫ثم أمر برد ضياعه وأمواله‪ ،‬فقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ت دمـي‬ ‫وقبل َردّك مالي قد حَ َقنْ َ‬ ‫ي بـه‬‫رددت مالي ولم َتبْخَل علـ ّ‬
‫غيْ ِر مـتـهَـمِ‬ ‫مقام شاه ِد عدل َ‬ ‫وقام علمُك بي فاحتجّ عندك لـي‬
‫والمال حتى أسلّ ال ّنعْلَ من َقدَمي‬ ‫ك بـه‬‫فلو بذلتُ دمي أبغي رضا َ‬
‫لو لم تهبْها لكنت اليوم لم تُـلَـم‬ ‫ما كان ذاك سِوَى عاريّة سََلفَـتْ‬
‫ج َر عليه أبو تمام الطائي فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫حبّب إليّ العفو حتى خفت ألّ أو َ‬ ‫أخذ معنى قول المأمون‪ :‬لقد ُ‬
‫من لذة وقريحةٍ لم تَـخْـمُـدِ‬ ‫لو يعلمُ العافون كم لكَ في الندى‬
‫فكان أبو تمام في هذا كما قال أبو العباس المعتز في القاسم بن عبيد الّ‪:‬‬
‫فنأخذ معنى قَوْلنا مِنْ فعالِه‬ ‫إذا ما مدحناه استعنَا ب ِفعْلـه‬
‫وكان تصويبُ إبراهيم لرأي أبي إسحاق المعتصم والعباس بن المأمون ألطفَ في طلب الرضا و َدفْع المكروه واستمالتهما إلى العاطفة عليه من‬
‫الزراء عليهما في رأيهما‪ ،‬وكان إبراهيم يقول‪ :‬وال ما عفا عني لرَحمٍ ول لمحبةٍ؛ ولكن قامت له سوقٌ في العفو كَرِه أن يفسدها بي‪.‬‬
‫ت عنه فل نَظير لك؛َ فأختار لك العفو‪.‬‬ ‫وكان المأمون شاور في قتل إبراهيم أحمدَ بن أبي خالد الحول‪ ،‬فقال‪ :‬إن قتلتَه فلك نظير؛ وإن عفو َ‬
‫بين المأمون وإسحاق بن العباس‬
‫وقال المأمون لسحاق بن العباس‪ :‬ل تحسبني أغفلت أمر ابن المهدي وتأييدك له‪ ،‬وإيقادَك لِناره‪.‬‬
‫س بك من أرحامهم؛ وقد‬ ‫قال‪ :‬والّ يا أمير المؤمنين لَجرام قريش إلى رسول الّ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أعظ ُم من جُرْمي إليك؛ ولرَحمي أم ّ‬
‫حمِينَ"‪ .‬وأنت يا أمير‬ ‫قال لهم كما قال يوسف؛ على نبّينا وعليه الصلة والسلم لخْوته‪" :‬ل تَثرِيبَ عليكم اليو َم َيغْفِرُ الُّ َلكُم وَهُوَ أرْحَمُ الرا ِ‬
‫ث لهذه المة في الطّوْل‪ ،‬وممتثل لخلل ال َعفْو والفَضل‪.‬‬ ‫حقّ وار ٍ‬ ‫المؤمنين‪ ،‬أ َ‬
‫عفَا عنها السلم‪ ،‬وجُ ْرمُك جُرمٌ في إسلمك‪ ،‬وفي دار خلفتك‪.‬‬ ‫قال‪ :‬هيهات! تلك أجرامّ جاهلية َ‬
‫غفْرَان الذنب من الكافر‪ .‬وهذا كتاب ال بيني وبينك إذ يقول‪" :‬وسارِعُوا إلى َمغْفر ِة من‬ ‫قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬فوالّ للمسلم أحق بإقالة ال َعثْرَة و ُ‬
‫لّ ُيحِب‬ ‫ر ّبكُمْ وجَنةٍ عَ ْرضُها السماواتُ والرضُ أُعِدّتْ للُمتّقِين‪ ،‬الذين ُينْفقُونَ في السَرّاء والضرّاء والكاظِمينَ ال َغيْظَ والعافِينَ عن الناسِ وا ُ‬
‫حسِنينَ"‪ .‬والناسُ يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬نسبةٌ دخل فيها المسلم والكافر‪ ،‬والشريف والمشروف‪.‬‬ ‫المُ ْ‬
‫ت بك زنادي‪ ،‬ول بَ ِرحْتُ أرى من أهلك أمثالك‪.‬‬ ‫قال‪ :‬صدقت‪َ ،‬و ِريَ ْ‬
‫في الستعطاف‬
‫وقال رجل لبعض الملوك وقد وقف بين يديه‪ :‬أسألك بالذي أنت بين يديه غدًا أذَل مني بين يديك اليوم‪ ،‬وهو على عقابك أ ْقدَ ُر منك على عقابي‪،‬‬
‫ب إليه من بليّتي‪.‬‬ ‫ب إليه من سُ ْقمِي‪ ،‬وبراءتي أح ّ‬ ‫إلَ ما نظرتَ في أمري نَظَ َر من بُرْئي أح ّ‬
‫ل تعالى ألَ تضع مني خَسيسة أنتَ رفعتها‪ ،‬أو تنقض مني َمرِيرة أنتَ‬ ‫وأراد معاوية عقوبة روح بن زنباع فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أنشدك ا ّ‬
‫أبرمتها‪ ،‬أو تشمت بي عدوّاً أنت كبته‪ ،‬وحاسدًا بك و َق ْمتُه؛ وأَسألك بالّ إلّ أرْبى حِ ْلمُك على خطئي وصفحك على جهلي‪.‬‬
‫ل ثنى عقد شيء تيسرا‪.‬‬ ‫ل عنه‪ :‬إذا ا ّ‬ ‫فقال معاوية رضي ا ّ‬
‫أشار إلى هذا أبو الطيب المتنبي إذ قال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فأنتَ الذي صَي ْر َتهُمْ لي حُسـدا‬ ‫حسّا ِد عني بكَ ْبتِـهِـمْ‬ ‫سدَ ال ُ‬
‫أزِلْ حَ َ‬
‫ف يَقْطَعُ ا ْلهَا َم ُم ْغ َمدَا‬‫سيْ ٍ‬
‫ضَ َربْتُ ب َ‬ ‫شدّ زَندي حُسْنُ رَأيِك في يَدي‬ ‫إذا َ‬

‫‪169‬‬
‫عفو الملوك‬
‫حوَان ما بينهما من الساءة‪ .‬قال‪ :‬صدقت‪ ،‬وعفا‬ ‫عتَب المأمون على بعض خاصّته‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن قديم الحرمة وحديث التوبة يَمْ ُ‬ ‫وَ‬
‫عنه‪.‬‬
‫وكان في ملوك فارس ملك عظيم المملكة‪ ،‬شديدُ النقمة‪ ،‬فقرب له صاحب المطبخ طعامه‪ ،‬فنقطت نُقْطةٌ من الطعام على المائدة‪ ،‬فَزَوى له الملك‬
‫جهَه‪ ،‬وعلم صاحبُ المطبخ أنّه قاتله‪ ،‬فعمد إلى الصّحْفَة فكفأَها على المائدة ثم ولّى‪ ،‬فقال له الملك‪ :‬ما حَملك على ما فعلت‪ ،‬وقد علمتُ أن‬ ‫وَ ْ‬
‫ن يُوجب قتلي‪ ،‬ويُبيح دَمَ مثلي‪ ،‬في سنَي‬ ‫جرِ بها تعمّدك‪ ،‬فما عندك في الثانية؟ قال‪ :‬استحيتُ للملك أ ْ‬ ‫ت بها يدك ولم يَ ْ‬ ‫سقوطَ النقطة أخطأَ ْ‬
‫ت أن َيعْظُم ذَنبي ليَحسُنَ بالملك َقتْلي‪.‬‬ ‫ت بها يَدي‪ ،‬فأَ َردْ ُ‬
‫خدْمتي‪ ،‬في نُقْطة َأخْطأَ ْ‬ ‫حرْمتي‪ ،‬وقديم اختصاصي و ِ‬ ‫وُ‬
‫قال‪ :‬لئن كان اعتذارك يُنجِيك من القتل‪ ،‬فليس ُينْجِيك من التأديب‪ ،‬اجِلدوه مائةَ جَلدة‪ ،‬واخلعوا عليه خلع الرضَا‪.‬‬
‫ع فقال‪:‬‬ ‫ش ‪ ،‬فأتبعه حتى صَرعه‪ ،‬وقد انقطع عن أصحابه‪ ،‬فنزل عن فَرسه يريدُ َذبْحه‪ ،‬و َبصُرَ برا ٍ‬ ‫وخرج بهرام جور متصيّدا فعنّ له حمار َوحْ ٍ‬
‫جهَهُ وقال‪ :‬تأمُلُ‬ ‫ت منه التفاتة‪ ،‬فنظر إلى الراعي يقطع جَوْهَر عِذار فرسه‪ ،‬فحوَل بهرام جور وَ ْ‬ ‫ي فَرسي‪ ،‬وتشاغل بذبح الحمار‪ ،‬وحانَ ْ‬ ‫أمْسك عل ّ‬
‫عيْب‪ ،‬وعقوب ُة من ل يستطيع الدفاع عن نفسه سَفَه‪ ،‬والعفوُ من أفعال الملوك‪ ،‬وسُرْعَة العقوبة من أفعال العامة‪.‬‬ ‫العيبِ َ‬
‫خيْلنا‪ ،‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬وقد عزمتُ على أن أنقلع مائةَ فرسخ‪ ،‬فقال‬ ‫ش ْريَانِك يضطربُ لعقك آذاك تكسيرُنا أرْضك بحوافر َ‬ ‫ثم قال‪ :‬يا غلم‪ ،‬ما بال ِ‬
‫ل َتمَتْ على قولها‪ ،‬فرجع بهرام إلى عسكره وقال‪:‬‬ ‫بهرام‪ :‬ل تُرَع؛ فهذا الموضع وما فيه لك‪ ،‬وكان الراعي خبيثاً‪ ،‬فقال‪ :‬إن الملوك إذا قالت قو ً‬
‫ق لك من هذه الرض‪ ،‬فاتّبعه‪ ،‬فلما بَصُر به الوزير قال‪ :‬أيها الملك السعيد‪ ،‬إني لرى جَوْهَر عِذار فرسك مُقَلّعا‪ ،‬فتبسّم وقال‪ :‬أخذه‬ ‫اتبعني لُوثَ َ‬
‫من ل يردّه‪ ،‬ورآه من ل ين ّم به‪ ،‬فمَنْ أخذه صاحبُنا ول نُطالبه به‪.‬‬
‫ب كما اتّفق موزونًا فقال‪ :‬المجتث‪:‬‬ ‫عيْ ٌ‬‫نقل ابن الرومي قول بهرام‪ :‬تأمل العيب َ‬
‫مَا في الذي قُلتُ َريْبُ‬ ‫تأمُلُ الْـعَـيْبِ عَـ ْيبُ‬
‫دُونَ العَوَا ِقبِ غَـيْبُ‬ ‫وكـلّ خَـيْرٍ وشَــر‬
‫فيه مِنَ الصنْعِ جَـ ْيبُ‬ ‫وربّ جلْـبَـابِ هَـم‬
‫كم قاد خـيراً سـيَيبُ‬ ‫ل تحْـقِـرنّ سُـ َييْبـاً‬
‫أخذ البيت الخير من قول الطائي‪ :‬مخلع البسيط‪:‬‬
‫طيْرُ‬ ‫ط ٍر بَدْؤُ ُه مُ َ‬
‫كَ ْم مَ َ‬ ‫رب قَليل غدا كثيراً‬
‫وقوله‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫كم بذي الثْلِ دوح ًة مِنْ قضيبِ‬ ‫صغِيرَ َهمّك وانْظُـر‬ ‫ل تَزِيلَنْ َ‬
‫وقد أعاد ابن الرومي قوله‪ :‬المجتث‪:‬‬
‫غيْبُ‬‫دُون ا ْلعَوا ِقبِ َ‬ ‫وكلّ خَـيْرٍ وَشَـر‬
‫في قصيدته التي مدح بها أحمد بن محمد بن ثوابة حين ساوره‪ ،‬وقال‪ :‬لو أتى لبيد لتعجب منه‪ ،‬فاستجزله وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يَرَى ا ْل َمدْحَ عَارًا َقبْلَ َبذْلِ ال َمثَا ِوبِ‬ ‫ولما دَعَانـي لـلَـمُـثـوبَةِ سَـيد‬
‫قَوِي‪ ،‬وَأعْياني طُلُوع ا ْلمَـعـايِبِ‬ ‫ب كِلهُـمـا‬ ‫غبٌ ورَه ٌ‬ ‫َتنَازَعني رَ ْ‬
‫وأخرتُ رِجْلً رَ ْهبَةً لِ ْلمَعاطِـبِ‬ ‫غبَةً فـي رَغِـيبَة‬ ‫فقدَمتُ ِرجْلً رَ ْ‬
‫لّ دُونَ ا ْلعَواقِـبِ‬ ‫غيْبِ ا ِ‬ ‫ستَارُ َ‬ ‫وأَ ْ‬ ‫أخاف عَلَى نَفْسِي وأَ ْرجُو مفازَهَـا‬
‫ت َب ْعدَ ال َمذَاهِـبِ‬ ‫َومِنْ َأيْنَ وَالغايَا ُ‬ ‫ل مَنْ يُريني غَايَتي قبل مَذهبـي‬ ‫أَ‬
‫???رجع إلى إنشاء بديع الزمان‬
‫نسخْة رقعة كتبها بديع الزمان إلى أبي علي إسماعيل يعتذرُ إليه‪ :‬سو ُء الدب من سكر الّندْب‪ ،‬وسكر الغضب من الكبائر التي تنالُها ال َمغْفِرة‪،‬‬
‫جرَى فالعُذْ َر أ ُمدّ خطاً‪ ،‬فإنْ كان‬‫حضْرةِ الشيخ ما جَرَى‪ ،‬وقد أ ْف َنيْت يدي عضّاً‪ ،‬وأسناني رَضاً‪ ،‬وإن لم أوف ما َ‬ ‫سعُها ال َم ْعذِرة‪ ،‬وقد جرى ب َ‬ ‫وتَ َ‬
‫غفَر الصاحب؛ وإن كان ميتًا ُينْشَر‪ ،‬وسببًا ُيذْكَر‪ ،‬ف ْليَكن العقابُ ما كان‪،‬‬ ‫بِساطاً يطوى‪ ،‬وحديثًا ل يُرْوَى‪ ،‬فأوْلى مَن عذَرَ اللعب‪ ،‬وأحْرَى من َ‬
‫خ ْدمَة‪ ،‬إبقاءُ‬
‫سطِي من العقاب‪ ،‬واستَ َفدْت من ردَ الجواب‪ ،‬ما كفى وأَوْجَعَ ال َقفَا؛ فكان من مُوجب أدب ال ِ‬ ‫إن لم يكن الهجران‪ ،‬على أني قد أخذت قِ ْ‬
‫ت بي ثلثة أحوال ل يَسَْلمُ صاحبها؛ اللعب وسكره‪ ،‬والخصم وهُجره‪،‬‬ ‫ح َدقَ ْ‬
‫شتْم‪ ،‬والغضاء عن الخصْم‪ ،‬لكني أ ْ‬ ‫الحِشمة لولي النعمة‪ ،‬باحتمال ال َ‬
‫ع ْهدِي‬
‫شكِ اللقاء‪ ،‬و َ‬ ‫خرَقتُه‪ ،‬وقد منعني الَن فَرْطُ الحياء من َو ْ‬ ‫والدلل والثقة‪ ،‬وهُنَ اللواتي حملنني على ماء الوَجْ ِه فهَ َر ْقتُه‪ ،‬وحجابِ الحشمة ف َ‬
‫جهْلِه‪ ،‬وأَ ْوقَحُ من الدهر الذي أحوجني إلى أهله؛ لكن النعم إذا تواَلتْ على َوجْهٍ رفَقت قِشْرَته‪،‬‬ ‫ق من العُدم الذي حملني على َ‬ ‫صفَ ُ‬
‫بوجهي وهو أ ْ‬
‫خ ْدمَته‪ ،‬فإنْ رأى أن يكتب فَعل‪ ،‬إن شاء ال‪.‬‬ ‫جنَاحي إلى ِ‬ ‫وألَنت بَشَرته؛ وأنا منتظر من الجواب ما يريش َ‬
‫وله رقعة إلى أبي علي بن مشكويه أولها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فل ُت ْمهِليهِ أن تَقُولي له‪َ :‬مهْل‬ ‫ويا عزّ إن وَاشٍ وَشى بي عندكم‬
‫حزَح ل قريباً ول أهل‬ ‫لقلنا‪ :‬تَزَ ْ‬ ‫كما لو َوشَى واشٍ بعزةَ عندنـا‬
‫بلغني‪ ،‬أطال الُ بقاءَ الشيخ أن قيضة كلب وا َفتْه بأحاديث لم يُعِرْها الحقّ نورَه‪ ،‬ول الصدقُ ظهورَه‪ ،‬وأنه ‪ -‬أدام ال عزه ‪ -‬أذن لها على مَجال‬
‫ب ل ينزل كنَفه ول يجدف‪ ،‬وحديث ل‬ ‫عتَا ٌ‬ ‫أذنه‪ ،‬وفسح لها فِناء ظنه‪ ،‬ومعاذ ال أن أقولها‪ ،‬وأستجيز معقولها؛ بل قد كان بيني وبين الشيخ ِ‬
‫يتعدَى النفسَ وضميرها‪ ،‬ول يعرف الشفة وسَميرها‪ ،‬وعَ ْربَدة َكعَربدَة أهل الفضل‪ ،‬ل تتجاو ُز الذلل والدلل‪ ،‬ووحشة ل يكشفها عتابُ لحظة‪،‬‬
‫حيّز العدو أشِيم‬ ‫عذْراً‪ ،‬وأوحش حُراً‪ .‬وسبحان مَنْ جعلني في َ‬ ‫جحْظة‪ ،‬فسبحان مَنْ ربّي هذا المرَ حتى صار أمراً‪ ،‬وتأبط شراً‪ ،‬وأ ْوجَب ُ‬ ‫كعتاب َ‬
‫ي عليه‪ ،‬ولكن من بُلي من العداء بمثل ما بُليت‪ ،‬ورُمي من الحسد بما ُرمِيت‪ ،‬ووقف من‬ ‫عقَته‪ ،‬وأنَا المسَاء إليه‪ ،‬والمجن ّ‬ ‫بَا ِرقَته‪ ،‬وأتخوّف صَا ِ‬
‫صفْت‪ ،‬اعتذر مظلوماً‪ ،‬وضَحك مشتوماً‪ ،‬ولو علم الشيخُ عددَ أولد الجدد‪ ،‬وأبناء‬ ‫التوحّد والوحدة حيث و َقفْت‪ ،‬واجتمع عليه من المكارِهِ ما و َ‬
‫ن مجلسه‬ ‫العدد‪ ،‬بهذا البلد‪ ،‬ممن ليس له همّ إلّ في سعاية أو شكاية أو حكاية أو نكاية‪ ،‬لضنّ‪ ،‬بعِشْرَة غريب إذا بدر‪ ،‬وبعيد إذا حضر‪ ،‬ولصا َ‬
‫ن كيد هؤلء القوم أنهم حين صادفوا‬ ‫عمن ل يَصُونُه عما رقى إليه‪ ،‬و َهبْني قد قلت ما حكى‪ ،‬أليس الشّاتِ ُم مَنْ أسْمع‪ ،‬والجاني منْ أبلغ؟ فقد بلغ مِ ْ‬
‫من الستاذ نفسًا ل تُستفز‪ ،‬وجبلً ل يهزّ‪ ،‬وشَوْا إلى خدمه بما أرّثوا نارهم ‪ ،‬وورد عليّ ما قالوه فما لبثت أن قلت‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫‪170‬‬
‫ل نـائبة سـلـمُ‬ ‫فإني لها في ك ّ‬ ‫فإن َتكُ حرب بين قومي وقومها‬
‫جمْرة‪ ،‬وأنّ في أولد الزنا عندنا َكثْرة‪ ،‬وقُصاراه نا ٌر يَشُبونها‪ ،‬وعقرب ُي َدبّبُونها‪ ،‬و َمكِيدة يَطْلُبونها‪ ،‬ولول‬ ‫ن في كبد العْداء مني َ‬ ‫وليعلم الستاذ أ َ‬
‫أن العذْرَ إقرار بما قيل‪ ،‬وأكره أن أستقيل‪ ،‬لبسطتُ في العتذار شَاذَرْواناً‪ ،‬ودخلت في الستقالة َميْداناً‪ ،‬لكنه أمرٌ لم أضعْ أوله‪ ،‬فلم أتَدا َركْ‬
‫آَخره‪.‬‬
‫وقد أبى الشيخ أبو محمد ‪ -‬أيّده الّ ‪ -‬إلّ أن يوصَلَ هذا النثر الفاتر بنظم مثله فهاكه يَ ْلعَنُ بعضه بعضاً‪ :‬السريع‪:‬‬
‫أنْ أشرب البارد لم أشْـ َربِ‬ ‫مولي إن عدتُ ولم ترضَ لي‬
‫صدْ بكفّي حُمةَ العَـقْـربِ‬ ‫و ِ‬ ‫ِا ْمتَطِ خدي وانتعِل نـاظـري‬
‫فيك‪ ،‬ول ُأبْ ِرقُ عن خُـلَـبِ‬ ‫تالّ ما أنْطِـقُ عـن كـاذبٍ‬
‫صيَبِ‬ ‫كالصّحو عقْب المَطَرِ ال ّ‬ ‫فالصف ُو بعد الكذب المفتـرَى‬
‫فالشوكُ عِند الثمر الـطـيب‬ ‫جتَنِ الغلظة مـن سـيدي‬ ‫إن أ ْ‬
‫فالخمر قد يعصب بالـثـيّب‬ ‫أو يفسد الزورُ علـى نَـاقـد‬
‫ولعلّ الشيخ أبا محمد ‪ -‬أيده ال ‪ -‬يقوم من العتذار بما قعد عنه القلمُ واللسان؛ فنعم رائد الفضل هو‪ ،‬والسلم‪.‬‬
‫فِقَرٌ من كلم سهل بن هرون للمأمون‬
‫سهْل بن هرون‪ ،‬فدخل عليه يوماً‪ ،‬والناسُ على مَراتبهم‪ ،‬فتكلّم المأمون بكلم ذَهَب فيه كل مذهب؛ فلما فرغ من كلمه‬ ‫كان المأمون استَثقل َ‬
‫أقبل سهلُ بن هرون على الجَمع فقال‪ :‬ما لكم تسمعون ول تعون‪ ،‬وتشاهدون ول َتفْ َقهُون‪ ،‬وتفهمون ول تتعجّبون‪ ،‬وتتعجّبون ول تُنصفون؟‬
‫جمُكم كعبيدكم‪ ،‬ولكن كيف َيعْرِف الدواء من‬ ‫والّ إنه ليقول ويفعلُ في اليوم القصير ما فعل بنو مروان في الدهر الطويل‪ ،‬عَ َربُكم كعجمكم‪ ،‬وعَ َ‬
‫ل يشعر بالداء؟ فرجع المأمونُ فيه إلى الرأي الول‪.‬‬
‫من ترجمة سهل بن هرون‪ ،‬وأخباره‬
‫وكان أبو عمرو سهل بن هرون من أهل مَيسان‪ ،‬نزل البصرة فنُسِب إليها‪ ،‬وهو القائل‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫الطيبون الفرعُ والْـجِـذْمُ‬ ‫يا أهل َميْسان السلم عليكم‬
‫ذهبًا وأيدٍ سَحَةٌ هُـضْـمُ‬ ‫أمّا الوجوهُ ففِضّة مُزِجت‬
‫ل من كلْب بيَ العِ ْلمُ‬ ‫قد ق ّ‬ ‫أتُريدُ كلْب أن أُناسـبـهـا‬
‫فرعُ النجوم كأنه نَـجْـمُ‬ ‫أجعلت بيتاً فـوق رابـية‬
‫جعْلَنُ والبـهْـمُ‬‫بفنائه الْ ِ‬ ‫َكبَيَتِ شَعير وسط مجهـلة‬
‫وكان سهل شعوبياً‪ ،‬والشعوبية ِف ْرقَةٌ تتعصّب على العرب وتنتقصُها‪ ،‬وكان أبو عبيدة يُرمى بذلك‪.‬‬
‫وسهل ظريفٌ عالم حسَنُ البيان‪ ،‬وله كتب ظريفة صنَفها معارضاً للوائل في كتبهم بما ل يستَصْوبه منهم‪ ،‬حتى قيل له‪ :‬بزر جمهر السلم‬
‫وقال يمدح رجلً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ع إذا ما َمنْعُه كان أحْزَمـا‬ ‫َمنُو ٌ‬ ‫عدوّ تِلدِ المال فيمـا َينُـوبُـهُ‬
‫مكارِهَ ما تأْتي من العيش َم ْغنَما‬ ‫ن تَرَى‬ ‫مذلّل نفس قد أبتْ غير أ ْ‬
‫وهذا نظير قوله في كتاب َثعْلَة وعُفرة الذي عارض به كليلة ودمنة‪ :‬اجعلوا أدا َء ما يَجِبُ عليكم من الحقوق مقدمًا قبل الذي تجودون به من‬
‫تفضلكم؛ فإن تَقْديم النافلة مع البطاء عن الفريضة مُظاهر على وَهَنِ العقيدة‪ ،‬وتقصير الروية‪ ،‬ومُضِرٌ بالتدبير‪ ،‬مخل بالختيار‪ ،‬وليس في نفع‬
‫محمدتِه عِوَض من فساد المروءة ولروم النقيصة‪ .‬وكتابه هذا مملوء حكماً وعلماً‪ .‬وسهل القائلُ‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وقد تركا قَلْبي مـحـلَ َة بَـلْـبَـالِ‬ ‫ن قد كَـسَـفـا بـالـي‬ ‫تقسمني َهمَا ِ‬
‫سمْطٍ وخلـخَـالِ‬ ‫خدْر ذات ِ‬ ‫رهينةُ ِ‬ ‫عبْـرتـي‬ ‫هما أذرَيا َدمْعي‪ ،‬ولم تذر َ‬
‫سوى أن تحاكي النور في رَأس ذيال‬ ‫ق منها على الـمـدى‬ ‫ول قهوة لم َيبْ َ‬
‫لها نَفْسُ معدوم على الزمن الخالـي‬ ‫تحللَ منها جِرمهـا وتـمـاسـكـت‬
‫حدَث تبكي له عَينُ أمثـالـي‬ ‫على َ‬ ‫ولكمـا أبـكـي بـعَـيْنِ سـخـينة‬
‫وخَفَة حُ ًر ل يَقُـوم لـهـا مـالـي‬ ‫فراق خلـيل ل يقـوم بـه السـى‬
‫لفَقْد خليل أو تَـعَـذرِ إفـضـال؟‬ ‫حتّى متى القلب مُوجَـع‬ ‫فواحسرتي َ‬
‫وإلّ لقاء الخل ذي الخُلُقِ العـالـي‬ ‫ضلُ إلّ أنْ تـجـودَ بـنـائل‬ ‫وما الفَ ْ‬
‫وهو القائل‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ن يراني غنيّا عنه بـالْـيَاس‬ ‫من أ ْ‬ ‫خلُقي‬
‫إذا امرؤ ضاق عني لم يَضِق ُ‬
‫ما كان مَطَْلبُه َفقْراً إلى الـنـاس‬ ‫غنَى بفضلتـه‬ ‫ل أطلبُ المال كي أ ْ‬
‫وأنشد له الجاحظُ يهجو رجلً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫س َمكُـوا‬ ‫ت َتعْمُرُ ما شادُوا وما َ‬ ‫فأن َ‬ ‫من كان يَ ْعمُرُ ما شـادَتْ أوائلـهُ‬
‫وأنت تَحْوي من الميراث ما تركوا‬ ‫ما كان في الحق أن تحوي فعالهمُ‬
‫ضنّ‬‫جدْتُ على سهل بن هرون في بعض المر‪ ،‬فهجوته‪ ،‬فكتب إلي؛ أما بعد‪ ،‬فالسلمُ على عهدك وداعَ ذي َ‬ ‫وقال محمد بن زياد الزيادي‪ :‬و َ‬
‫ل لنا دَولة من‬ ‫بك‪ ،‬في غير مَ ْقِليَة لك‪ ،‬ول سَ ْلوَة عنك‪ ،‬بل استسلم للبَلْوى في أمرك‪ ،‬وإقْرَار بالمعجزة في استعطافك‪ ،‬إلى أوان فيئك‪ ،‬أو يجعل ا ّ‬
‫رجعتك‪ ،‬والسلم‪.‬‬
‫وكتب في أسفل الكتاب‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫عفوك مَأْوًى للفضل والمِـنَـنِ‬ ‫إن َتعْفُ عن عبدك المسيء ففي‬

‫‪171‬‬
‫فجُد بما تستحق مـن حـسـنِ‬ ‫أتيتُ ما استحـقّ مـن خَـطـإ‬
‫من عِظات الحسن البصري‬
‫وقال الحسن البصري‪ ،‬رحمه الّ في يوم فطر وقد رأى الناسَ وهيآتِهم‪ :‬إن ال تبارك وتعالى جعل رمضان مضماراً لخلْقِه‪ ،‬يس َتبِقُون فيه‬
‫س َر فيه‬
‫ق قوم ففازوا‪ ،‬وتخلف آخرون فخابُوا‪ ،‬فالعجب من الضاحك اللعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون‪ ،‬ويخَ ْ‬ ‫بطاعته إلى َمرْضاته‪ ،‬فسبَ َ‬
‫المبطلون‪ ،‬أما وال لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومُسِيء بإساءته‪.‬‬
‫ن صومهم قد تُقُبل فما‬ ‫ونظر إلى قوم منصرفين من صلة الفِطْر يتدافعون ويتضاحكون‪ ،‬فقال‪ :‬ال المستعان! إن كان هؤلء قد تقرر عندهم أ ّ‬
‫هذا محل الشاكرين‪ ،‬وإن علموا أنه لم يتقبّل فما هذا محل الخائبين‪.‬‬
‫وكان الحسن من الخطباء النّساك الفقهاء الجواد‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه لم يكن تابعيّ أفضل منه‪.‬‬
‫حذَراً‪ ،‬وأقلّهم‬ ‫ن من الحسن وَرَعاً‪ ،‬وأشدّ الناس َ‬ ‫هذا قول أهل العراق جميعاً‪ ،‬وأهل الحجاز يقدمون سعيد بن المسيب عليه‪ ،‬وكان سعيدٌ أحْسَ َ‬
‫كلماً‪ .‬وكان الحسن ل يدع أن يتكلّم بما َهجَس في نفسه‪ ،‬وجَاش في صدره‪.‬‬
‫وعلى ذكر الحسن شهرَ رمضان نقول‪:‬‬
‫ألفاظ لهل العصر‬
‫في التهنئة بإقبال شهر رمضان‬
‫مع ما يتّصل بها من الدعية‬
‫لّ لك من َفضْلِه‪ ،‬ووفّقك لفَ ْرضِه َونَقلِه‪ .‬لقّاك الّ ما ترجو‪ ،‬ورقاك إلى ما تحته‬ ‫لّ تعالى إليكَ سعادةَ إهلله‪ ،‬وعَرّفك بركة كماله‪ .‬قسم ا ُ‬ ‫ساق ا ُ‬
‫فيما تَتْلوه‪ .‬جعل الَُ ما أظَلك من هذا الصوم مقروناً بأفضَلِ القبول‪ ،‬مُ ْؤذِنًا بدَ ْركِ ال ُب ْغيَة ونُجْحِ المأمول‪ ،‬ول أخْلَك من برّ مرفوع‪ ،‬ودعاءً‬
‫ل تعالى بالقبول صيامَك‪ ،‬وبعظيم ال َمثُوبة تهجدك وقيامك‪ .‬عرَفك ال من بركاته ما يُرْبي على عدد الصائمين والقائمين‪ ،‬ووفقك‬ ‫مسموع‪ .‬قابَلَ ا ّ‬
‫عفَه بمنه لك‪ ،‬ويجعله وسيلة بقبوله إلى مَرضاته عنك‪ .‬أعاد الَُ إلى مولي أمثاله‪ ،‬وتقبل‬ ‫لَ لتحصيل أجْرِ المتهجدين‪ .‬أَسأل الّْ تعالى أن يضا ِ‬ ‫ا ُ‬
‫ل بهذا الشهر‪ ،‬ووفاه فيه أجزل المَثُوبة والجر‪ ،‬ووفر حظه من كل ما‬ ‫فيه أعماله‪ ،‬وأصلح في الدين والدنيا أحواله‪ ،‬وبلّغه منها آماله‪ .‬أسعده ا ّ‬
‫ظفِر بأبعدها‬ ‫يرتفع من دُعاء الدَاعِين‪ ،‬وينزل من ثواب العاملين‪ ،‬وقبل مساعيه وزَكاها‪ ،‬ورفع درجاته وأعلها‪ ،‬وبَلغَه من المال ُمنْتهاها‪ ،‬و َ‬
‫وأقصاها‪.‬‬
‫وقال الحسن‪ :‬من أخلق المؤمن قو ٌة في دين‪ ،‬وحَزمٌ في لين‪ ،‬وحِرص على العلم‪ ،‬وقناعة في فَقْر‪ ،‬ورحمة للمَجهود‪ ،‬وإعطاء في حق‪ ،‬وبرٌ في‬
‫استقامة‪ ،‬وفقه في يقين‪ ،‬وكسب في حلل‪.‬‬
‫ل كذبته‪.‬‬ ‫وقال محمد بن سليمان لبي السماك‪ :‬بلغني عنك شيء‪ ،‬قال‪ :‬ل أُباليه‪ ،‬قال‪ :‬ولمَ؟ قال‪ :‬لنه إن كان حقّاً غفرته‪ ،‬وإن كان باط ً‬
‫ص َبيْح المعروف بابن السماك‪ ،‬خ ْيرُ الخوان أقلّهم مصانعة في النصيحة‪ ،‬وخيرُ العمال أحلها عاقبة‪ ،‬وخيرُ الثناء ما كان على‬ ‫وقال محمد بن ُ‬
‫أفواه الخيار‪ ،‬وأشرف السلطان ما لم يخالطه البَطَر‪ ،‬وأَغْنى الغنياء من لم يكن للحِرْص أسيراً‪ ،‬وخير الخوان من لم يخاصم‪ ،‬وخيرُ الخلق‬
‫أعونها على الورع‪ ،‬وإنما يختبر ُودّ الرجال عند الفاقة والحاجة‪.‬‬
‫ث ُمغِيثٌ‪ ،‬وبَحْرٌ زَخُور‪،‬‬ ‫غيْ ٌ‬
‫سهْل الخلق‪ ،‬كريم الطِباع‪َ ،‬‬ ‫ل فقال‪ :‬إنه بسيط الكف‪َ ،‬رحْب الصدْرِ‪ ،‬موطّأ الكناف‪َ ،‬‬ ‫ووصف بعضُ البلغاء رج ً‬
‫غيْب‪ ،‬وجميل سر‪ ،‬تبهجك طَلَقتهُ‪،‬‬ ‫ستَ ْدبِ ُركَ بكرمِ َ‬ ‫عبُوس‪ ،‬يستقبلك بطَلَقةٍ‪ ،‬ويحييّك ببشْر‪ ،‬ويَ ْ‬ ‫ضحُوك السنّ‪ ،‬بشير ال َوجْهِ‪ ،‬بادي القبول‪ ،‬غير َ‬ ‫َ‬
‫عبْدٌ لضِيفانه‪ ،‬غير ملحظ لكِيله‪ ،‬بَطِينٌ من العقل‪ ،‬خَميص من الجهل‪ ،‬راجح الْحِلْم‪ ،‬ثاقب الرّأي‪ ،‬طيّب‬ ‫ضحّاكٌ على مائدته‪َ ،‬‬ ‫ويرضيك بِشْرُه‪َ ،‬‬
‫ل َبذَل‪ ،‬وإن قال فَعلَ‪.‬‬ ‫سئِ َ‬
‫ل ملمة‪ ،‬إن ُ‬ ‫س من كل َمكْرُمة‪ ،‬عا ٍر من ك ّ‬ ‫الخلق‪ ،‬محصّن الضريبة‪ِ ،‬معْطاء غير سائل‪ ،‬كا ٍ‬
‫قال أبو الفتح كشاجم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫خمْرِ‬‫من الرّيح والصافي الرقيق من ال َ‬ ‫مزاجك ِل ْلمَثْنى من العودِ والـصّـبـا‬
‫شحْـر‬ ‫ع ْنبَر ال َ‬ ‫ولو كنت طِيبًا كنت من َ‬ ‫فلو كنت وَرْداً كنت وَرْدًا مُضاعَـفـا‬
‫ولو كنت عوداً ما افتقَرتَ إلى َزمْـرٍ‬ ‫ولو كنت َلحْناً كنت تأْلـيف مَـعْـبَـدٍ‬
‫وقال أعرابي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جرِ‬ ‫حبّذا مَنْ باعكِ البُ ْر َد من تَ ْ‬ ‫ويا َ‬ ‫أل حَبذا البُ ْردُ الذي تَلْـبَـسِـينـهُ‬
‫ولو كنت درّا كنت من دُرّ ٍة ِبكْرِ‬ ‫فلو كنت ماءً كنت ما َء غـمـامةٍ‬
‫جرِ‬ ‫ولو كنت نَوْمًا كنت إغفاءةَ الفَ ْ‬ ‫ولو كنت َلهْوًا كنت َتعْلِيلَ سـاعةٍ‬
‫ش ْهرِ أو ليلةَ ال َقدْرِ‬ ‫نُحُوس َليَالي ال َ‬ ‫ل كنت َقمْرَاء جُنبـت‬ ‫ولو كنت َليْ ً‬
‫حمّن لرّحيم‬ ‫‪/‬بِسم الِ الر َ‬
‫نبذ من ألفاظ بلغاء أهل العصر‬
‫تجري في المدح مجرى المثال‪ ،‬لحسن استعارتها‪ ،‬وبراعة تشبيهاتها‪:‬‬
‫صدْر تَضِيق به الدَهْنَاء‪ ،‬وتَفْزَع إليه الدَ ْهمَاء‪ ،‬له في كل مكرمة غُزَه الصباح‪ ،‬وفي كل‬ ‫حجْرَ الفضل‪ ،‬له َ‬ ‫فلن مسترضَ ٌع َثدْيَ المجد‪ُ ،‬م ْفتَرِشٌ ِ‬
‫لفْوَا َه بالتسبيح‪ ،‬ويتَرقْ َرقُ فيها ماءُ الكرم‪ ،‬وتقرأُ فيها صحيفةَ حُسْن البشر‪ ،‬تحيا القلوب بلقائه‪ ،‬قبل أن‬ ‫جنَاح‪ ،‬له صورة تستنطق ا َ‬ ‫فضيلة قا ِدمَةُ الْ َ‬
‫حتَه‪ ،‬وكفى كدورته‪ .‬هو غذاءُ الحياة‪ ،‬ونسيم العشق‪ ،‬ومادّة ال َفضْل‪ ،‬آراؤُه سكاكين في‬ ‫ُيمِيتَ ال َفقْ َر بعطائه‪ ،‬له خُلقٌ لو مُزِج به البحرُ لنفى مُلُو َ‬
‫مفاصل ا ْلخُطوب‪ ،‬له ِهمَةٌ تعزل السماكَ العْزَل‪ ،‬وتج ّر َذيْلها على المجرّةِ‪ ،‬هو راجحٌ في موازين ال َعقْل‪ ،‬سابقٌ في ميادين الفَضْلِ‪ ،‬يَ ْفتَرع أبكارَ‬
‫عيْن‬‫المكارم‪ ،‬ويَ ْرفَع َمنَارَ المحاسن‪ ،‬ينابيع الجود تتفجر من أنامله‪ ،‬وربيعُ السماء يَضْحَك من فَوَاضلِه‪ .‬هو بيتُ القصيدة‪ ،‬وأول ا ْلجَرِيدة‪ ،‬و َ‬
‫غرّة‬‫حصْنُ المة‪ .‬هو ُ‬ ‫الكتيبة‪ ،‬وواسطة القِلَدة‪ ،‬وإنسانُ الحدَقة‪ ،‬ودُرّة التاج‪ ،‬ونقش الفصّ! وهو مِلح الرض‪ ،‬ودِرْع المِلّة‪ ،‬ولسان الشريعة‪ ،‬و ِ‬
‫شيَ ٌم تُشَام منها بَوَارِقُ المَجْد‪ ،‬أرج الزمانُ بفَضْلِه‪ ،‬وعَقمَ النسا ُء عن التيان بمثلِه‪.‬‬ ‫ن من الفَضْلِ‪ ،‬و ِ‬ ‫الدّهر والزمان‪ ،‬وناظر اليمان‪ .‬له أخلقٌ خُلِقْ َ‬
‫سمْع‪ ،‬يرى بأول‬ ‫عيْن‪ ،‬وكأنَ جسمه َ‬ ‫ن قلبَه َ‬ ‫صبَاح‪ ،‬كأ َ‬ ‫ل منه مبدو ٌء و ُمعَاد‪ ،‬مَالُهُ للعُفَاة‪ُ ،‬مبَاح‪ ،‬وفعالُه في ظلمة الدهر مِ ْ‬ ‫ل لديه ُم ْعتَاد‪ ،‬والفضْ ُ‬ ‫الجمي ُ‬
‫صدَف‪ ،‬وياقوتة من يواقيت الحرار‪ ،‬ل يواقيت الحجار‪ ،‬طلعتُه للبشاشة عليها‬ ‫رَأْيه آخر المر‪ ،‬جوهر من جواهر الشرف ل من جواهر ال ّ‬
‫ن يَصِل ببرّه‪ ،‬قد‬ ‫ن من الدّهر‪ .‬يصل ببشره‪ ،‬قبل أ ْ‬ ‫ن بَشَرته نشر البِشْر‪ ،‬ومواجهته أما ٌ‬ ‫سرَوَانيّة‪ ،‬وفيها للطلقة روضة رَبيعية‪ .‬وَجْهٌ كأ ّ‬ ‫ديباجة خُ ْ‬

‫‪172‬‬
‫سرّته‪ ،‬في روضة وغدير‪ ،‬وجنةٍ وحرير‪ ،‬وهو بَحْ ٌر من العلم ممدود‬ ‫لحظت من وجهه النوار‪ ،‬ومن َبنَانِه النوّار‪ .‬أنا من كرم عشرته‪ ،‬وطلقَة أ ِ‬
‫شجَرة‬ ‫ص الدب مائلً‪ ،‬ولسانُ العلم قائلً‪َ .‬‬ ‫خ ُ‬ ‫بسبعة أبحر‪ ،‬ويومُه من يوم الدب كعمر سبعة أنْسُر‪ .‬العلم حَشْ ُو ثيابه‪ ،‬والدب مِلْء إهَابه‪ .‬هو شَ ْ‬
‫عقْل‪ ،‬وعروقها سَرْوٌ‪ ،‬تسقيها سماءُ الحريّةِ‪ ،‬وتغذّيها أرضُ المروءة‪ .‬هم ملح الرض إذا فسدت‪،‬‬ ‫فَضل عودها أدب‪ ،‬وأغصانها عِلْم‪ ،‬وثمرتها َ‬
‫ص النام‪ ،‬وفرسان الكلم‪ ،‬وفلسفة السلم‪ .‬فلن غُصْنُ‬ ‫خرِبت‪ ،‬ومعرض اليام إذا احتشدَتْ؛ وهم جمالُ اليام‪ ،‬وخوا ّ‬ ‫وعمارةُ الرض إذا َ‬
‫حشَةِ إل الدفاتر‪ ،‬ول‬ ‫جدِه نظير‪ ،‬قد جمع ا ْلحِفظَ الغزير‪ ،‬وال َفهْمَ الصحيح‪ ،‬والدب القويّ القويم‪ ،‬وما يُ ْؤنِسُه من الوَ ْ‬ ‫ط ْبعِهِ نَضير‪ ،‬ليس له في مَ ْ‬ ‫َ‬
‫حدَةِ إل المحابر‪ .‬فلن يحل دقائقَ الشكال‪ ،‬ويُزِيل معترض الشكال‪ .‬له خلْق كنسيم السْحَار‪ ،‬على صفحات النوار‪ .‬كالماء‬ ‫يَصْحَبه في الوَ ْ‬
‫صفَاءً‪ ،‬والمسك ذكاءً‪ .‬أخلق قد جمعت المروءةُ أطرا َفهَا‪ ،‬وحرست الحرية أكْنافَها‪ .‬أخلق تجمع الهواءَ المتفرقة على محبته‪ ،‬وتؤلّف الراء‬ ‫َ‬
‫المتشتّتة على مودتِه‪ .‬أخلق أعذبُ من ماء الغَمام‪ ،‬وأحلى من رِيق النّحل‪ ،‬وأطيب من زمان ال َورْد‪ .‬أخلق أحسن من الدرّ والعِ ْقيَان‪ ،‬في نحور‬
‫حسَان‪ ،‬وَأذْكى من حركات الروحِ والرَيحان‪ .‬فلنٌ يستحطّ القمر بطَ ْرفِه‪ ،‬ويستنزل النّجم بُلطْفه‪ .‬هو حُلْوُ ال َمذَاق‪ ،‬سهل المَسَاغ‪ .‬أجمل الناس‬ ‫الْ ِ‬
‫شرَة ماؤها‬ ‫جدّ‪ ،‬وهَزْل كحديقة الوَ ْردِ‪ .‬له عِ ْ‬ ‫جنُوب‪ .‬ذو جِذ كعُلوّ ال َ‬ ‫ف مع القلوب‪ ،‬كتص ُرفِ السحاب مع ال َ‬ ‫في جدّ‪ ،‬وأَحلهم في هَزْل‪ .‬يتصرَ ُ‬
‫ف من نسيم الشمال‪ ،‬على أديم الزلل‪ ،‬وألصقُ‬ ‫ط ُ‬ ‫يقطر‪ ،‬وصَحْوُها من الغَضَارة يمطر‪ .‬هو َريْحَانة على ال َقدَح‪ ،‬وذريعة إلى الفَرَح‪ .‬عشرته أل َ‬
‫ت فهو مدرعة راهب‪ ،‬أو آثرت فهو نخبة شارب‪.‬‬ ‫سبْحَة ناسك‪ ،‬أو أحببت فهو تُفَاحة فاتك‪ ،‬أو اقترح َ‬ ‫بالقلب‪ ،‬من علئق الحب‪ .‬إذا أردت فهو ُ‬
‫حيّاه‪ .‬قد انتشر من طيب أخباره ما زاد على المسك ال َفتِيق‪،‬‬ ‫أخباره زكية‪ ،‬وآثاره ذَكية‪ .‬أخباره تأتينا كما َوشَى بالمسك َريّاه‪ ،‬ونَمّ على الصباح مُ َ‬
‫شدَخ في جبينها غُزَة الصباح‪ ،‬وتتهادى أنباءها ُوفُودُ الرياح‪ .‬فلن أخبارُه آثاره‪ ،‬وعينه فراره‪ ،‬قد حصل له‬ ‫وأَ ْوفَى على الزّهْر النِيق‪ .‬مناقب تَ ْ‬
‫من حَميد الذكر‪ ،‬وجميل النّشْرِ‪ ،‬ما ل تزال الرواةُ تدرسه‪ ،‬والتواريخ تحرسه‪ .‬سألت عن أخباره فكأني حرّكت المسك فتيقاً‪ ،‬أو صبّحت‬
‫خبَر‪ ،‬قبل الثر‪ ،‬وبالوصف قبل ال َكشْف‪ .‬هو‬ ‫الروض أنيقاً‪ .‬أخباره متضوعة كتضوّع المسك الذقر‪ ،‬ومُشرقة إشراقَ الفجر النور‪ .‬أح َببْتُه بال َ‬
‫عدّة‬ ‫صدَر‪ .‬هو لخوانه ُ‬ ‫ع ْهدِه‪ .‬هو كريم العهد‪ ،‬صحيح العَقْد‪ ،‬سليم الصّدر في الود‪ ،‬حميد الورد فيه وال َ‬ ‫ن ودّه‪ ،‬ويُحْصف ميثاق َ‬ ‫ممن يثقل ميزا ُ‬
‫شرْب الوَفاء‪ ،‬حافظٌ على الغيب ما يحفظه على اللقاء‪ .‬هو ممن ل تدومُ‬ ‫تشدّهم وتقويهم‪ ،‬ونو ٌر يسعى بين أيديهم‪ .‬هو ركن الخاء‪ ،‬صَافي ِ‬
‫ت قَلْبه‪ ،‬ول تحوم المُوَاربة على جنبات صدره‪ .‬هو يَسْري إلى كرم العهد‪ ،‬في ضياء من الرّشد‪ .‬عهده نَقْش في صخْر‪،‬‬ ‫عرَصا ِ‬ ‫ال ُمدَاهنة في َ‬
‫ل من إخوانه العَفْوَ‪ ،‬كما يوليهم من إحسانه الصّفْو‪ .‬في ُودّه غِنى للطالب‪ ،‬وكفاية للراغب‪ ،‬ومَرَادٌ للصَحْب‪َ ،‬وزَادٌ‬ ‫وودّه نَسَب ملن من فخر‪ .‬يقب ُ‬
‫ح معقودٌ في نواصي آرائه‪ ،‬وال ُيمْنُ معتاد في مذاهب أنحائه‪ .‬له الرّ ْأيُ‬ ‫للركب‪ .‬هو في حَيلِ الوفاء حَاطِب‪ ،‬وعلى فرض الخاء مواظب‪ .‬النجْ ُ‬
‫سهْم أصاب غِرّة الهَدَفِ‪ ،‬ودهاء كالبحر في‬ ‫ظهَر عوائده‪ ،‬والتدبيرُ النافذ الذي َتنْجَ ُع َمبَاديه‪ ،‬وتبهج تَوَاليه‪ .‬رَأْيٌ كال ّ‬ ‫الثاقب الذي تَخْفَى مَكايده‪ ،‬وتَ ْ‬
‫ف من مبادئ القوالِ‬ ‫ُبعْد الغَوْر وقرْب المغترف‪ ،‬ل يضعُ رَأيه إل مواضع الصالة‪ ،‬ول يصرف تدبيره إل على مواقع السداد والصابة‪ .‬يعر ُ‬
‫خوا ِتمَ الفعال‪ ،‬ومن صدور المور أعجاز ما في الصدور‪ .‬رُؤْيته رَأْي صَلِيت‪ ،‬وبديهته قدرٌ مصيب‪ .‬يسافرُ َرأْيه وهو دَانٍ لم يبرح‪ ،‬ويسير‬
‫ي ويُحيله‪ ،‬ويجيد الفكر ويجيله‪ ،‬حتى‬ ‫تدبيره وهو ثَاوٍ لم ينزح‪ .‬له رأيٌ ل يخطئ شاكِلَةَ الصوابِ‪ ،‬ول يخشى بادرة ال ِعثَار‪ .‬فلن يخمّر الرأْ َ‬
‫يحصل على لب الصواب‪ ،‬ومحض الرأي‪ .‬إذا أذكى سراج الفكر‪ ،‬أضاء ظلمَ المر‪ ،‬هو قطب صَواب تَدو ُر به المور‪ ،‬ومستنبط صلح يردُ‬
‫ب مُصَلّما‪ ،‬والرمح مُقَلّماً‪ .‬آراؤه سكاكين في مفاصل‬ ‫ط َ‬‫ي يردُ الْخَ ْ‬ ‫إليه التدبير‪ .‬يرى العواقبَ في مِرْآة عقله‪ ،‬وبصيرةِ ذكائه وفَضْله‪ .‬وله رَ ْأ ٌ‬
‫ستْرٍ رقيق‪ ،‬ويطالعه ب َعيْن السّداد والتوفيق‪ .‬يستنبطُ حقائقَ القلوب‪ ،‬ويستخرج ودائع الغيوب‪ .‬قد‬ ‫الخطوب‪ ،‬كأنه ينظرُ إلى الغيب من وراء ِ‬
‫سَ َر ْينَا من مشورته في ضياءٍ ساطع‪ ،‬ومن رأيه الصائب في حُكم قاطع‪.‬مسك فتيقاً‪ ،‬أو صبّحت الروض أنيقاً‪ .‬أخباره متضوعة كتضوّع المسك‬
‫ع ْهدِه‪ .‬هو‬ ‫ن ودّه‪ ،‬ويُحْصف ميثاق َ‬ ‫خبَر‪ ،‬قبل الثر‪ ،‬وبالوصف قبل الكَشْف‪ .‬هو ممن يثقل ميزا ُ‬ ‫الذقر‪ ،‬ومُشرقة إشراقَ الفجر النور‪ .‬أح َب ْبتُه بال َ‬
‫عدّة تشدّهم وتقويهم‪ ،‬ونو ٌر يسعى بين أيديهم‪ .‬هو ركن‬ ‫صدَر‪ .‬هو لخوانه ُ‬ ‫كريم العهد‪ ،‬صحيح العَقْد‪ ،‬سليم الصّدر في الود‪ ،‬حميد الورد فيه وال َ‬
‫ت قَلْبه‪ ،‬ول تحوم المُوَاربة على‬ ‫عرَصا ِ‬ ‫شرْب الوَفاء‪ ،‬حافظٌ على الغيب ما يحفظه على اللقاء‪ .‬هو ممن ل تدومُ ال ُمدَاهنة في َ‬ ‫الخاء‪ ،‬صَافي ِ‬
‫ل من إخوانه العَفْوَ‪ ،‬كما‬ ‫جنبات صدره‪ .‬هو يَسْري إلى كرم العهد‪ ،‬في ضياء من الرّشد‪ .‬عهده نَقْش في صخْر‪ ،‬وودّه نَسَب ملن من فخر‪ .‬يقب ُ‬
‫صحْب‪َ ،‬وزَادٌ للركب‪ .‬هو في حَيلِ الوفاء حَاطِب‪ ،‬وعلى فرض‬ ‫يوليهم من إحسانه الصّفْو‪ .‬في ُودّه غِنى للطالب‪ ،‬وكفاية للراغب‪ ،‬ومَرَادٌ لل َ‬
‫ظهَر عوائده‪ ،‬والتدبيرُ‬ ‫خفَى مَكايده‪ ،‬وتَ ْ‬ ‫ن معتاد في مذاهب أنحائه‪ .‬له الرّأْيُ الثاقب الذي تَ ْ‬ ‫ح معقودٌ في نواصي آرائه‪ ،‬واليُمْ ُ‬ ‫الخاء مواظب‪ .‬النجْ ُ‬
‫سهْم أصاب غِرّة الهَدَفِ‪ ،‬ودهاء كالبحر في ُبعْد الغَوْر وقرْب المغترف‪ ،‬ل يضعُ رَأيه إل‬ ‫النافذ الذي َتنْجَ ُع َمبَاديه‪ ،‬وتبهج تَوَاليه‪ .‬رَأْيٌ كال ّ‬
‫ف من مبادئ القوالِ خواتِ َم الفعال‪ ،‬ومن صدور المور أعجاز ما‬ ‫مواضع الصالة‪ ،‬ول يصرف تدبيره إل على مواقع السداد والصابة‪ .‬يعر ُ‬
‫في الصدور‪ .‬رُؤْيته رَأْي صَلِيت‪ ،‬وبديهته قدرٌ مصيب‪ .‬يسافرُ َرأْيه وهو دَانٍ لم يبرح‪ ،‬ويسير تدبيره وهو ثَاوٍ لم ينزح‪ .‬له رأيٌ ل يخطئ شاكِلَةَ‬
‫ي ويُحيله‪ ،‬ويجيد الفكر ويجيله‪ ،‬حتى يحصل على لب الصواب‪ ،‬ومحض الرأي‪ .‬إذا أذكى‬ ‫الصوابِ‪ ،‬ول يخشى بادرة ال ِعثَار‪ .‬فلن يخمّر الر ْأ َ‬
‫سراج الفكر‪ ،‬أضاء ظلمَ المر‪ ،‬هو قطب صَواب تَدو ُر به المور‪ ،‬ومستنبط صلح يردُ إليه التدبير‪ .‬يرى العواقبَ في مِرْآة عقله‪ ،‬وبصيرةِ‬
‫ستْرٍ رقيق‪،‬‬ ‫ب مُصَلّما‪ ،‬والرمح مُقَلّماً‪ .‬آراؤه سكاكين في مفاصل الخطوب‪ ،‬كأنه ينظرُ إلى الغيب من وراء ِ‬ ‫خطْ َ‬‫ي يردُ الْ َ‬‫ذكائه و َفضْله‪ .‬وله َرأْ ٌ‬
‫ويطالعه ب َعيْن السّداد والتوفيق‪ .‬يستنبطُ حقائقَ القلوب‪ ،‬ويستخرج ودائع الغيوب‪ .‬قد سَ َر ْينَا من مشورته في ضياءٍ ساطع‪ ،‬ومن رأيه الصائب في‬
‫حُكم قاطع‪.‬‬

‫شدَتي‪،‬‬
‫وقيل لبعض الملوك‪ ،‬وقد بلغ في القدر ما لم يبلغه أحد من ملوكِ زمانه‪ :‬ما الذي بلغ بكَ هذه المنزلة؟ قال‪ :‬عَفْوي عند قدرتي‪ ،‬وليني عند ِ‬
‫و َبذْلي النصاف ولو من نفسي‪ ،‬وإبقائي في الحب والبغض مكانًا لموضع الستبدال‪.‬‬
‫ستَوْلينَ عليك بغضه‪ ،‬واجعلهما‬ ‫ش ْدنِي لَحزم أَمري‪ .‬قال‪ :‬ل تملنّ قلبك من محبّةِ الشيء‪ ،‬ول يَ ْ‬ ‫وقال السكندر لحد الحكماء‪ ،‬وأراد سفراً‪ :‬أَر ِ‬
‫ت ذلك‬‫سمِيرَك التيقّظ‪ ،‬ول تُ ْقدِم إل بعد المشورة؛ فإنها ِنعْمَ الدليل‪ ،‬فإذا فعل َ‬
‫سمِه ينزع ويرجع‪ ،‬واجعل وزِيرَك التثبت‪ ،‬و َ‬ ‫ب كا ْ‬
‫قَصْداً؛ فإن القل َ‬
‫ملكت قلوب رعيتِك‪.‬‬
‫وقيل لبعض الحكماء‪ :‬ما الحزم؟ قال‪ :‬سوء الظن‪ .‬قيل‪ :‬فما الصواب؟ قال‪ :‬المشورة‪ .‬قيل‪ :‬فما الرأْيُ الذي يجمعُ القلوبَ على المودّة؟ قال‪ :‬كفٌ‬
‫بَذُول‪ ،‬وبشر جميل‪ .‬قيل‪ :‬فما الحتياط؟ قال‪ :‬القتصاد في الحبّ والبغض‪.‬‬
‫حزْم؟ قال‪ :‬انتهازُ ال ُفرْصَة‪ .‬قيل‪ :‬فما الحلمُ؟ قال‪ :‬العفوُ عند المقدرة‪ .‬قيل‪ :‬فما‬ ‫وسُئل بزرجمهر‪ :‬ما المروءةُ؟ قال‪ :‬تَ ْركُ ما ل يعني‪ .‬قيل‪ :‬فما ال َ‬
‫الشدة؟ قال‪ :‬ملك الغضب‪ .‬قيل‪ :‬فما الخُرْق؟ قال‪ :‬حب ُمغْرِق؛ وبغض ُمفْرِط‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫قال معاوية‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬لزياد حين ولّه العراق‪ :‬يا زياد‪ ،‬ليكن حبّك وبغضك قَصْداً؛ فإن ال َعثْرة فيهما كامنة‪ ،‬واجعل للنزوع والرجوع بقيّة‬
‫من قلبك‪ ،‬واحذَرْ صَوْلَة النهماك‪ ،‬فإنها تؤدي إلى الهلك‪.‬‬
‫ومن كلم بلغاء أهل العصر‬
‫في ذكر السلطان‬
‫حتْمٌ على منْ ألقَى‬ ‫ن فَرضٌ َوكِيد‪ ،‬و َ‬ ‫جنَان‪ .‬تهب السلطا ِ‬ ‫أبو القاسم الصاحب‪ :‬مَرْضاة السلطان‪ ،‬ل تغلو بشيء من الثمان‪ ،‬ول ِب َبذْلِ الروح وال َ‬
‫السمعَ وهو شهيد‪.‬‬
‫حدَة‪ ،‬ول يستغني عن‬ ‫ق باصطفاءِ رجاله منه باصطفاء أمواله؛ لنه مع اتساع المر وجَللة القَدر ل يكتَفِي بال َو ْ‬ ‫أبو إسحاق الصابِي‪ :‬المَلِك أح ّ‬
‫جنُوبِ‪ ،‬كعنايته بفرسِه المركوب‪.‬‬ ‫ال َكثْرَة؛ ومثله في ذلك مثل المسافرِ في الطريق البعيد الذي يجب أن تكونَ عنايته بفرسه المَ ْ‬
‫حتْه ال َفدَامَة‪،‬‬
‫فصل للصابي‪ :‬الملك بمن غلط من أ ْتبَاعِه فاتّعظ أشدّ انتفاعًا منه بمن لم يغلط ولم يتّعظ؛ فالول كالقارح الذي أدّ َبتْه الغُرّة‪ ،‬وأصل َ‬
‫جذَع ال ُم َتهَوّك الذي هو راكب لل ِغرّة وراكن إلى السلمة‪.‬‬ ‫والثاني كال َ‬
‫وقيل‪ :‬إن العظم إذا جبر من كَسره عاد صاحبُه أشدّ بطشاً وأقوى أيداً‪.‬‬
‫أبو بكر الخوارزمي‪ :‬ل صغي َر مع الولية والعِمالة‪ ،‬كما ل كبي َر مع العُطلة والبَطَالة؛ وإنما الوليةُ أنثى تصغر وتكبر بواليها‪ ،‬ومطيّة تحسن‬
‫صدْر لمن يليه‪ ،‬والدّست لمن جلس فيه‪ ،‬والعمال بالعمّال‪ ،‬كما أنّ النساء بالرجال‪.‬‬ ‫وتقبح بمُ ْمتَطيها‪ ،‬وال ّ‬
‫حزْ ٌم وتدبير‪ ،‬ومكاشفته غُرور و َتغْرير‪.‬‬ ‫ل عثَ َر فيه‪ .‬قليلُ السلطان كثير‪ ،‬و ُمدَارَاتُه َ‬ ‫ن وليةَ المرء ثوبُه؛ فإن قصُر عَرِي منه‪ ،‬وإنْ طَا َ‬ ‫فصل له‪ :‬إ ّ‬
‫أبو الفتح البستي‪ :‬أجهلُ الناس مَنْ كان على السلطان مُ ِدلّ‪ ،‬وللخوان ُم ِذلّ‪.‬‬
‫ل البقاء على ماله‪ ،‬والشفاقُ على حاشيته وحشمه مثل الشفاق على ديناره‬ ‫عدْ ُ‬
‫عمّاله َ‬
‫أبو الفضل ابن العميد‪ :‬البقاءُ على حَشَم السلطان و ُ‬
‫ودرهمه‪.‬‬
‫وله من رسالة طويلة‪ ،‬جواب لبي شجاع عضد الدولة عن كتاب اقتضاه فيه صدْرَ كتاب ال أبو الحسن الصوفي في نوع من علوم الهيئة‪:‬‬
‫جدّه‪ ،‬على ما وهب لنا معاش َر عبيدِه وخدمه خاصة‪ ،‬بل لرعاياه عامّة‪ ،‬بل لهل الرض كافة‪ ،‬من عظيم النعمة‬ ‫أنا أقدم الجابة بحمد ال تعالى َ‬
‫ل َمذْخُورة عليه‪ ،‬حتى صارت إليه‪ ،‬وساهمناه في‬ ‫بمكانِه‪ ،‬وجسيم الموهبة بإنفاق أعمارِنا في زمانه‪ ،‬حتى شار ْكنَاهُ في أَسباب السعادة التي لم تَز ْ‬
‫شبَه شيءٍ بزمانه‪ ،‬وصفات كل زمانٍ منتَسخة من سجايا سُلْطَانه؛ فإن َفضَلَ‬ ‫مواد الفضيلةِ التي لم تَ َزلْ محفوظةً له حتى ا َتصَلَت به؛ فإنّ المرءَ أَ ْ‬
‫ب بأحسن زينته‪ ،‬وكسا َبنِيه والناشئين فيه بشرفِ جَوْهرَهِ‪،‬‬ ‫حلْيته‪ ،‬وتجلى للعيونِ والقلو ِ‬ ‫شاعَ الفضلُ في الزمان وأهله‪ ،‬وتحلَى الدَهرُ بأفضلِ ِ‬
‫وأَورثهم َنيْلَ فضله‪ ،‬وعزَ العِلم وأهله‪ ،‬وعرف لمقتبسه َقدْرَه‪ ،‬وتوجّهت الذهانُ نحوه‪ ،‬وتعلَقت الخواط ُر به‪ ،‬وصرفت الفكر فيه‪ ،‬ونشدت‬
‫ن عائدته‪ ،‬فحرصت عليه‪ ،‬وصرفَتْ نظرَها إليه‪ ،‬وأيقنت في‬ ‫شتَاته‪ ،‬وجمعت َأفْرَادهُ‪ ،‬ووثِقَتْ نفوسُ الساعين في استفادته بحُسْ ِ‬ ‫ضَوَالّه‪ ،‬ونظم أَ ْ‬
‫بضاعتها بالنَفاق‪ ،‬وفي تجارتها بالِ ْرفَاق‪ ،‬فصار ذلك إلى نَمَاء العلوم وزيادتها داعية‪ ،‬ولتكثير قليلها وإيضاح مجهولها سبباً وعلّةً‪ ،‬وإلى‬
‫انخراط جواهرها المتفرقة في سلوك التصنيف سبيلً‪ ،‬وإلى تقييد شواردِها بعُقُل التأليف طريقاً‪ .‬وإن رَذل السلطان ا ّت ِبعَت الرذيلةُ اتباعاً‪،‬‬
‫ل ِبجِرَانِه‪،‬‬ ‫ضيَاعاً‪ ،‬وبطلت القدارُ والقيم‪ ،‬وسِلبَت الخطار والهِمم‪ ،‬وزال العلم والتعلم‪ ،‬ودَرَس الفهْمُ والتفهم‪ ،‬وض َربَ الجه ُ‬ ‫وذَهبتِ الفضائلُ َ‬
‫ووطئ بمنسمه‪ ،‬واس َتعْلَى الخمولُ على النباهة‪ ،‬واستولى الباطلُ على الحقّ‪ ،‬وصا َر الدبُ وبالً على صاحبه‪ ،‬والعل ُم نكَالً على حامله‪.‬‬
‫ن هذه صورتُه‪َ ،‬تعْظُ ُم النعمة بمُ ْلكِ سلطانٍ عالمٍ‪ ،‬كالمير الجليل عضد الدولة‪ ،‬أَطال الُ‬ ‫وبحسب عظيم المحنة بمن هذه صِ َفتُه‪ ،‬والبلوى م َع مَ ْ‬
‫تعالى بقاءه‪ ،‬وأدام ُقدْرَته‪ ،‬الذي أَحله ال عزَ وجل من الفضائل بملتقى طُرُقها ومج َتمَع فرقها‪ ،‬فهي نَوَا ُد ممن لقت حتى تَصيرَ إليه‪ ،‬وشوا ِردُ‬
‫نوازعُ حيث حلَت حتى تق َع عليه‪ ،‬تتلفت تلفتَ الرامِقِ‪ ،‬وتتشوّفُ إليه تشوفَ الصب العاشقِ‪ ،‬قد ملكها أنّى توجهت وحشة المضاع وحَيرة‬
‫المرتاع‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لنَسِ المَحلُ‬ ‫فكالوحش يُ ْدنِيها من ا َ‬ ‫فإن تَغشَ قوماً غيره َأ ْو تَزُرْهُـمُ‬
‫حتى إذا قابلته أسرعت إليه إسراعَ السيل ينصَب في الحدور‪ ،‬والطير َينْقَضُ إلى الوكور‪.‬‬
‫وقال أبو الطيب المتنبي‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫عهْداً بها القدَمُ‬ ‫حدَثُ شيءٍ َ‬ ‫َأ ْ‬ ‫ف ب َدمْعكَ ال ِهمَـمُ‬
‫حقّ عا ٍ‬ ‫أَ َ‬
‫عجَـمُ‬ ‫ب مُلُو ُكهَا َ‬
‫عرْ ٌ‬ ‫تُ ْفلِحُ ُ‬ ‫وإنما الناسُ بالملوكِ‪ ،‬وَمـا‬
‫عهُودٌ َلهُـم ول ِذمَـم‬ ‫ول ُ‬ ‫حسَـبٌ‬ ‫ل أدبٌ عندهُمْ ول َ‬
‫تُرْعَى ب َع ْبدٍ كأنها غَـنَـمُ‬ ‫طئْتُهـا ُأمَـمٌ‬
‫بكل أرضٍ و ِ‬
‫وكان يُبْرَى بظُفْرِه ال َقلَـمُ‬ ‫يستَخْشِنُ الخَ َز حين يَ ْلمُسُـهُ‬
‫ح بن أبرد‪ ،‬زائرًا لعبد الواحد بن سليمان‪ ،‬وهو أميرُ المدينة‪ ،‬فكان عنده ليلةً في سُماره؛ فقال‬ ‫ن ميادة‪ ،‬واسمه ال َرّمّا ُ‬ ‫وقال الزبير بن بكار‪َ :‬قدِم اب ُ‬
‫عبدُ الواحد لصحابه‪ :‬إني لهم أن أتزوج فا ْبغُوني أيماً‪ ،‬قال ابن ميادة‪ :‬أنا ‪ -‬أصلحك ال ‪ -‬أدلُك‪ ،‬قال‪ :‬على مَن‪ ،‬يا أبا بشر‪ ،‬نَميل؟ قال‪ :‬قدمت‬
‫طرٍ حتى وقفت‬ ‫عليك أيها المير‪ ،‬فلما قدمت ألفيتُ المسجد وإذا أشبه شي ٍء به وبمن فيه الجنة ومَنْ فيها‪ ،‬فبينا أنا أمشي إذ قادتني رائحةُ رجلٍ ع ِ‬
‫عليه‪ ،‬فلما وقع بصري عليه استَلهَى حُسْنه ناظري‪ ،‬فما أقلعت ناظري حتى تكلَم فما زال يتكلَم كأنما يَنثر دُرًا‪ ،‬ويتلو زَبوراً‪ ،‬ويدرس إنجيلً‪،‬‬
‫ت أنه من الحسن بمكانةٍ‪،‬‬ ‫خبِرْ ُ‬ ‫ويقرأ فُرْقاناً‪ ،‬حتى سكت‪ ،‬فلول معرفتي بالمير ما شككت أنه هو‪ ،‬ثم خرج من مُصَلّه إلى داره‪ ،‬فسألت عنه‪ ،‬فأُ ْ‬
‫ت أنْتَ وهو على ولدٍ ساد العبادَ‪ ،‬وجابَ‬ ‫وأنه للخليفتين‪ ،‬وأنه قد ناَلتْه ولدَ ٌة من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لها ساطع من غُ ّرتِه؛ فإن اجتمع َ‬
‫ذِكْرُه البلد‪.‬‬
‫فلما قضى ابنُ ميادة كلمه قال عبد الواحد ومَن حضر‪ :‬ذلك محمد بن عبد ال بن عمرو بن عثمان‪ ،‬رضي ال تعالى عنه‪ ،‬لفاطمة بنت الحسين‬
‫بن علي‪ ،‬رضي ال عنهم‪.‬‬
‫وقال ابن ميادة‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫ل فهو مُقَسَـمُ‬
‫وكل قضاء ا ِ‬ ‫لهم سيرة لم ُيعْطِها الُ غيرَهم‬
‫هذا في تقابل نسبه‪ ،‬وكمال منصبه‪ ،‬كقول عُ َويْفِ القوافي في طلحة بن عبد ال الزهري‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫‪174‬‬
‫ويُدعى ابن عوفٍ للندى فـيجـي ُ‬
‫ب‬ ‫ل حين يُدعَون لـلـنـدى‬ ‫يُصَمُ رِجا ٌ‬
‫إلى المجد يحْوي المجدَ وَه َو قَرِيبُ‬ ‫وذاك امرؤ من أي عِطفَيه يَلتفِـتْ‬
‫وعبد الواحد بن سليمان هذا هو الذي يقول فيه القطامي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫طولَ السّفار وأ ْفنَى ِنيّها الرّحـل‬ ‫أقولَ للحَ ْرفِ َلمّا أنْ ش َكتْ أصلً‬
‫فقد َيهُونُ على المستنجح العملُ‬ ‫إن ترجعي من أبي عثمان منجِحَةً‬
‫عبْدَ الـواحـد الجَـل‬ ‫إذا تخطأ َ‬ ‫أهل المدينة ل يحزنك شأنـهـمُ‬
‫ومن قول القطامي‪ :‬إن ترجعي من أبي عثمان منجحة أخذ الخر قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فأنجح لم يثقلْ علـيه عـنـاؤهُ‬ ‫إذا ما َتعَنّى المرءُ في إثر حاجةٍ‬
‫وهو عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان‪،‬قال الكلبي‪ :‬هو عبد الواحد ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية‪ ،‬والول قول‬
‫ابن السكيت‪.‬‬
‫والقصيدة التي منها هذه البيات من أجْ َودِ قوله‪ ،‬وفيها يقول ممّا يتمثّل به‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫عيْنٌ ول حال إل سوف يَنتقلُ‬ ‫َ‬ ‫ش إل ما تَقَ ّر به‬
‫عيْ َ‬ ‫شل َ‬ ‫والعي ُ‬
‫لمّ المخطئ ال َهبَلُ‬ ‫ش َتهِي و ُ‬ ‫ما يَ ْ‬ ‫س مَنْ يَ ْلقَ خيراً قائلون لهُ‬ ‫والنا ُ‬
‫وقد يكونُ مع المستعجل الزَّللُ‬ ‫قد ُيدْ ِركُ المتأني بعضَ حاجتِه‬
‫قوله‪ :‬والناس مَنْ يَلْقَ خيراً قائلون له مأخوذٌ من قول المرقش‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي لئما‬ ‫ن َيغْ َو ل يعدَمْ على الغ ّ‬ ‫ومَ ْ‬ ‫س أ ْمرَهُ‬ ‫ن يَلْقَ خيرًا يحمدُ النا ُ‬ ‫ومَ ْ‬
‫ل من‬ ‫ل من َمقَاوِيل العرب‪ ،‬غير أنّ رج ً‬ ‫وقال عمرو بن سعيد للخطل‪ :‬أيس ُركَ أن لك بشعرك شعراً؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ما يسرُني أن لي بقولي مق َو ً‬
‫سدْتُه عليها‪ ،‬وايم ال‪ ،‬إنه ل ُمغْدِف القناع‪ ،‬ضيّق الذراع‪ ،‬قليل السماع‪ ،‬قال‪ :‬ومَنْ هُو؟ قال‪ :‬القُطامي‪ ،‬قال‪ :‬وما هذه البيات؟‬ ‫قومي قال أبياتاً ح َ‬
‫ل من هذه القصيدة‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫ف إب ً‬‫فأنشد له يَصِ ُ‬
‫عجَا ِز تثكِلُ‬ ‫ول الصدورُ عَلَى الَ ْ‬ ‫يمشين رَهْوًا فل العْجَازُ خاذِلة‬
‫ل معـتـدلُ‬ ‫وَالرّيح سَا ِكنَة والظ ّ‬ ‫فهن معترِضات وَالْحَصا َرمِضٌ‬
‫مجنُونة أو تَرَى ما ل تَرَى البلُ‬ ‫يتبعن سَاميةَ ال َع ْينَيْنِ تحسـبـهـا‬
‫بين اللفظ واللحن‬
‫ب إذا تكلمت‪ ،‬فكيف إذا ترنّمت!‪.‬‬ ‫طرِ ُ‬‫قال أبو العتاهية لمخارق‪ :‬أنت بنغمِ ألفاظك دون َنغَمِ ألحانك‪ ،‬تُ ْ‬
‫سمُ لو كانَ الكلمُ طعاماً‪ ،‬لكان غناؤك له إداما‪.‬‬ ‫وقال له يوماً‪ :‬يا حكيم هذه القاليم‪ ،‬اص ُببْ في هذه الذان من جيدِ تلك اللحان‪ ،‬فُأقْ ِ‬
‫قال إسحاقُ بن إبراهيم الموصلي‪ :‬دخلتُ على المعتصم يوماً وقد خلَ‪ ،‬وعنده جاري ٌة ُت َغنّيه‪ ،‬وكان معجَباً بها‪ ،‬فلما جلست قال لي‪ :‬يا أبا إسحاق‪،‬‬
‫حذْق‪ ،‬وتختله برِفق‪ ،‬ول تخرج من حَسَن إل إلى أحسن منه‪ ،‬وفي حلقها شذو ُر َنغَم أحسنُ‬ ‫كيف تَراها؟ فقلت‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬أراها تقهره ب ِ‬
‫ص َفتَك هذه لو سمعها مَنْ لم يَرَها لفقد‬ ‫ت المل‪ ،‬و ُمنْسِيات الجل‪ ،‬والسقم الداخل‪ ،‬والشغْل الشاغل‪ ،‬وإن ِ‬ ‫من دوام النعم‪ ،‬قال‪ :‬يا إسحاق‪ ،‬هي غايا ُ‬
‫حبَه‪.‬‬
‫ُلبّه‪ ،‬و َقضَى نَ ْ‬
‫سئِل إسحاق عن المُجِيد من المغنين‪ ،‬فقال‪ :‬مَنْ َلطُفَ في اختلسه‪ ،‬وتمكّن من أنفاسه‪ ،‬وتفرّع في أجناسه‪ ،‬يكادُ َيعْ ِرفُ ضمائ َر مُجَالِسِيه‪،‬‬ ‫وُ‬
‫ع مسمع كلّ واحد منهم بالنحو الذي يُوافِقُ هواه‪ ،‬ويُطَابِقُ معناه‪.‬‬ ‫ت ُمعَاشِرِيه‪ ،‬يَقْ َر ُ‬
‫وشهوا ِ‬
‫حدّث عن نفسه فقال‪ :‬كنت أيام الرشيد‬ ‫عتِه حُسْنَ التصرف في العلوم‪ ،‬وجَ ْودَةَ الصنعة للشعر‪ ،‬و َ‬ ‫ح ْذقِه بصنا َ‬ ‫ق بن إبراهيم قد جمع إلى ِ‬ ‫وكان إسحا ُ‬
‫شهَيد؛ فتُطَا ِرحُني صوتين‪ ،‬ثم أَصِير إلى زلزل الضارب فآخذُ منه طريقين‪ ،‬ثم‬ ‫أُبكّر إلى ُهشَيم ووكيع فأسم ُع منهما‪ ،‬ثم أنصرف إلى عاتكة بنت ُ‬
‫أسير إلى منزلي فأبعث إلى أبي عبيدة والصمعي‪ ،‬فل يَزَالنِ عندي إلى الظهر‪ ،‬ثم أذهبُ إلى الخليفة‪.‬‬
‫ونزل أبوه بالموصل وليس من أهلها فنُسِب إليها‪ ،‬وهو مولى خزيمة بن خازم التميمي‪ ،‬وفي ذلك يقول إسحاق‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وقام ِبنَصْرِي خَازِمٌ وابنُ خَازِمِ‬ ‫إذا مضرُ الحمراء كانت أَرُومَتِي‬
‫َبنَانِي الثريّا قاعداً غَـيْ َر قَـائِمِ‬ ‫ستُ بَأنْفِي شامخًا و َتنَاوَلَـتْ‬ ‫عَطَ ْ‬
‫وفيه يقول محمد بن عامر الجرجاني يرثيه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ببغدادَ لمـا صـدّ عَـنْـه عـوائدُهْ‬ ‫على الجدَثِ الشرقيّ عُوجَا فسلـمـا‬
‫ت مرمًى ليس يصدر وا ِردُهْ‬ ‫بكَ المو ُ‬ ‫أإسحاق‪ ،‬ل تبعد‪ ،‬وإن كان َقدْ َرمَـى‬
‫مِن الدين والدنـيا فـإنـك وَاجِـدُهْ‬ ‫ل مُـنْـفـسـاً‬ ‫متى تأتِهِ يوماً تحـاو ُ‬
‫حوَاشِيه وطابَتْ مشـاهِـدُه‬ ‫ورفّتْ َ‬ ‫إذا هزل اخضرّتْ فروعُ حَـدِيثـه‬
‫ل تـلـينَ شَــدا ِئدُه‬ ‫مخـارجـه أ ّ‬ ‫جدّ كان القولُ جِداً وأقسـمـت‬ ‫وإنْ َ‬
‫ي بعد إيقاعه بالخرميّة‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ومن جيد شعر إسحاق قصيدته في إسحاق بن إبراهيم المصعَب ّ‬
‫ف مِنْ أَهْلٍ الصفاء غليلَ‬ ‫ولم يُشْ َ‬ ‫تَقَضّتْ لبـانـاتٌ َوجَـدّ رَحِـيل‬
‫ق تَـسِـيلُ‬ ‫وفاضت عيونٌ للفرا ِ‬ ‫و ُمدّت أكفّ للوداع فصافَـحَـتْ‬
‫ل بَانَ عنـه خَـلِـيلُ‬ ‫إذا ما خَلِي ٌ‬ ‫عبْـرَةٍ‬
‫للّف مِن َفيْضِ َ‬ ‫ول بدّ ل ُ‬
‫س ل يُودَى لـهـن قَـتـيلُ‬ ‫أوَانِ ُ‬ ‫فكم مِن دمٍ طُل يوم تحـمّـلـت‬
‫جدَى عَلَي عَـوِيلُ‬ ‫وأعولْتُ لو أَ ْ‬ ‫جعَلْتُ الصبرَ شيئاً نسـ ْيتُـهُ‬ ‫غداة َ‬
‫هَوًى ِمنْهُ بادٍ ظاهـ ٌر ودَخِـيل‬ ‫س ِمنْهَا نظرةً هَاجَ لي بها‬ ‫ولم أن َ‬
‫دَعَاهَا إلى ظلّ ال ِكنَاس مَـقِـيلُ‬ ‫كما نظَرَتْ حَوْرَاءُ في ظلّ سِدرةٍ‬

‫‪175‬‬
‫عتَاق نَمَاهَـا شـدقَـمٌ وجَـدِي ُ‬
‫ل‬ ‫ِ‬ ‫فل وَصْلَ إل أن تـلفـاه أَينُـقٌ‬
‫طوى البعدَ منها هـز ٌة و َذمِـيلُ‬ ‫إذا قلبت أجفانـهـا بـتَـنُـوفةٍ‬
‫فليس له عـنـد المـام عَـدِيلُ‬ ‫ق بـنُـصْـح أمـيرِه‬ ‫تفرَد إسحا ٌ‬
‫ب به َيعْلُو الرجـالَ أَصِـيلُ‬ ‫َولُ ٌ‬ ‫يفرج عنه الشك صدْقُ عَـزِيمةٍ‬
‫ت عنه العيون صقـيلُ‬ ‫حسامٌ جََل ْ‬ ‫أغرّ نجـيبُ الـوالـدين كـأنـهُ‬
‫وجوهكُم للـنـاظـرين دَلِـيلُ‬ ‫ج ِد فيكم إذا بدتْ‬ ‫صعَبٍ‪ ،‬للمَ ْ‬ ‫بني ُم ْ‬
‫ول منكُم عند العطـا ِء بَـخـيلُ‬ ‫جبَانٌ لَدى الوغى‬ ‫كرُمتم فما فيكم َ‬
‫ثناءٌ بأَفواهِ الـرجـالِ جَـمِـيلُ‬ ‫حسْنِ الثناء َفرَاقـكـم‬ ‫غَلبتم على ُ‬
‫فإن الذي يستكـثـرون قَـلِـيلُ‬ ‫ت فيكُـم‬ ‫إذا استكثر العداء ما قل ُ‬
‫وهذا نمط الحذاق الفحول‪ ،‬وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جشَمها زمّـيْلةٌ غَـير صَـا ِر ِم‬
‫ِليَ ْ‬ ‫غبْرَاء لـم يكـن‬ ‫ومَدرَجةٍ للريح َ‬
‫وتقطَ ُع أنفاسَ الرياحِ النّـواسِـم‬ ‫يَضِلّ بها الساري وإنْ كان هادياً‬
‫بعيد ِة ما بين العرى والمَحـازِم‬ ‫جوْزَها بـشَـمِـلّة‬ ‫ت أ ْبرِي َ‬ ‫تعسَفْ ُ‬
‫نجومٌ هوَتْ إحدى الليالي العواتِم‬ ‫شرَار المَ ْر ِو من َن ْبذِهـا بِـهِ‬ ‫كأن َ‬
‫دياجِيره عنهم رؤوس المعـالـمِ‬ ‫ل فغـيبـتْ‬ ‫ضمّها والس ْفرَ لي ٌ‬ ‫إذا َ‬
‫ليهديَهم َقدْحُ الحَصَى بالمَنـاسِـمِ‬ ‫تنادَوْا فصاروا تحت أكنافِ َرحْلِها‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن تَبِـين الـركـائ ُ‬
‫ب‬ ‫ولم يبقَ إل أ ْ‬ ‫ولما رَأيْنَ البَـيْنَ قـد جـدّ جِـدّه‬
‫فردّتْ علينا أعـينٌ وحـواجـبُ‬ ‫دنَ ْونَا فسلمنا سلمًا مُـخـالـسـاً‬
‫إذا غفلت عنا العيونُ الـرواقـبُ‬ ‫تصدّ بل ُبغْضٍ ونخلـس لـمـحةً‬
‫كما ذِيدَ عن وِردِ الحِياض الغَرَائ ُ‬
‫ب‬ ‫نذَاد إذا حُمنا لـنـشـفـيَ غـلةً‬
‫وما أحسن ما قال أبو العباس الناشئ في هذا المعنى‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن منّا بانقطاع المطـالـبِ‬ ‫وأيقَ ّ‬ ‫ولما رأين البين ُزمّت رِكـابـهُ‬
‫فعُجْنَ علينا من صدور الركائبٍ‬ ‫طلبن على الرّكبِ المجدين عِلَةَ‬
‫ج ْمنَها بالحـواجـبِ‬
‫عَ‬‫لنا كتُباٌ أ ْ‬ ‫فلما تل َقيْنا كـتـبْـنَ بـأَعْـيُنٍ‬
‫حِذار العادي با ْزوِرَارِ المناكبِ‬ ‫فلمّا قرأناهُنّ سِرّا طـو ْينَـهـا‬
‫وقال إسحاق‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ِلَلمْحَةِ طَ ْرفٍ أو لِكسرَةِ حَاجِـب‬ ‫أل مَنْ لقـلـبٍ ل يزالُ َرمِـيّة‬
‫فتُور الخطا عن وَا ِردَات الذوَائبِ‬ ‫خمُر اللتي تساقط لـوثـهـا‬ ‫ولل ُ‬
‫وصف الذوائب‬
‫وعلى ذكر الذوائب قال ابن المعتز‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شَبـيهَةَ خـ ّد ْيهَـا بـغـــيرِ رقـــي ِ‬
‫ب‬ ‫س َقتْنِيَ في ليل شبيه بشعرها‬
‫َوخَـمْـ َريْنِ مـن راحٍ وخَـدّ ِحـبـــيبِ‬ ‫فأمسيت في ليلين بـالـشَـعْـرِ والـدّجـى‬
‫وقال بكر بن النطاح‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫جثْلٌ َأسْحَـمُ‬
‫ب فيه وَهْوَ َ‬‫وتغي ُ‬ ‫بيضا ُء تسحب من قيام شعرَها‬
‫ل عليها مـظـلِـمُ‬ ‫وكأنه لي ٌ‬ ‫فكأنها فيه نهارٌ مـبـصـرٌ‬
‫وقال المتنبي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫في ليل ًة فَأَ َرتْ لياليَ أَ ْربَـعـا‬ ‫ب من شعْرِها‬ ‫نَشَرَتْ ثلثَ ذوائ ٍ‬
‫ت َمعَا‬‫فأَ َر ْتنِيَ ال َقمَ َريْنِ في وق ٍ‬ ‫ت َقمَرَ السما ِء بوجههـا‬ ‫واستقبلَ ْ‬
‫وقال ابن الرومي‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫شاه إذا اختال مُسْبلً غُـدُرَهْ‬ ‫وفاحـمٍ واردٍ ُيقَـبّـل مَـمْ‬
‫حدِرًا ل يُرَام ُمنْـحَـدَرَهْ‬
‫من َ‬ ‫أ ْقبَلَ كالليلِ في مـفـارقـهِ‬
‫عفَـرَهْ‬‫ل مَوْطئ َ‬ ‫يَ ْلثَم من ك ّ‬ ‫حتى تناهَى إلى مـواطـئِه‬
‫ن حبيبه وَطَرَهْ‬ ‫حتى قضى مِ ْ‬ ‫ق دَنَـا شـغـفـاً‬ ‫شٌ‬‫كأنهُ عا ِ‬
‫بيضاءَ للناظرين مُقْـتَـدِرَهْ‬ ‫ُيغْشي غَوَاشِي قرون ِه َقدَمـاً‬
‫غمَام وحاسرٍ حَـسَـرَهْ‬ ‫بعد َ‬ ‫مثل الثريّا إذا بَدَتْ سـحَـراً‬
‫أخذه بعض أهل العصر ‪ -‬وهو محمد بن مطران ‪ -‬فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫كما قد أعارَتهَا العيونَ الـجـآذِرُ‬ ‫ن مَشيهـا‬ ‫ظبَاءٌ أَعارتها الظّبا حُس َ‬ ‫ِ‬
‫مواطئ من أقدامهـن الـغـدائرُ‬ ‫ن ذاك المشي قامت فقبّلت‬ ‫فمِنْ حُسْ ِ‬
‫وقال مسلم بن الوليد‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫‪176‬‬
‫ن دُجَاهَا من قرونك ُينْشَ ُر‬
‫كأ ّ‬ ‫أجدّك هل تدرينَ أنْ ُربّ ليل ٍة‬
‫جعْفَر‬
‫كغُرّ ِة يَحيى حين ُيذْكر َ‬ ‫ت ِبغُـرّةٍ‬
‫صبْت لها حتى تجلَ ْ‬ ‫نَ َ‬
‫القصيدة والنسان‬
‫ل بعضِ أعضائه ببعض؛ فمتى أنفصلَ واحدٌ عن الخر وبَا َينَهُ في صحّة التركيب‪ ،‬غادر‬ ‫قال الحاتمي‪ :‬مثلُ القصيدةِ مثلُ النسان في اتّصَا ِ‬
‫ق المتقدّمين وأربابَ الصناع ِة من المحدَثين يحترسون في مثل هذا الحال‬ ‫حذّا َ‬
‫ن محاسنَه‪ ،‬و ُتعَفي معاِلمَه؟ وقد وجدت ُ‬ ‫الجسمَ ذا عاهَةٍ تتخوّ ُ‬
‫احتراسًا يجنّبهم شوائبَ النقصان‪ ،‬ويقفُ بهم على محَجّةِ الحسان‪ ،‬حتى يق َع التّصالُ‪ ،‬ويُ ْؤمَن النفصال‪ ،‬وت ْأتِي القصيدةُ في َتنَاسُب صدورها‬
‫ص به المحدَثون؛‬ ‫طبَة الموجَزَة‪ ،‬ل ينفصلُ جز ٌء منها عن جزء‪ ،‬وهذا مذهبٌ اخت ّ‬ ‫خ ْ‬
‫وأعجازها وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة‪ ،‬وال ُ‬
‫سمَهُ؛ فأمّا الفحول الوائل‪،‬‬ ‫طفِ أفكارِهم‪ ،‬واعتمادهم البديع وأفانينه في أشعارهم‪ ،‬وكأنه مذهبٌ سهّلوا حَ ْزنَهُ‪ ،‬ونهجوا رَ ْ‬ ‫لتوقّد خواطرهم‪ ،‬ولُ ْ‬
‫ف ناقتِه بالعِتق‪ ،‬والنّجَابة والنجاء‪،‬‬
‫ن تَلَهُ ْم منَ المخضرمين والسلميين فمذهبُهم المتَعالم عدذ عن كذا إلى كذا و ُقصَارَه كلّ واح ٍد منهم وَصْ ُ‬ ‫ومَ ْ‬
‫ض لم يتعمّده إل أن طبعه السليم‪ ،‬وصِراطه في‬ ‫وأنه امتَطاها؛ فادّرع عليها جِ ْلبَابَ اللّيل؛ وربما اتّفق لحدِهم معنى لطيف يتخلّص به إلى غر ٍ‬
‫الشعر المستقيم‪ ،‬نصبا َمنَارَه وأوقدا باليفاع نارَه؛ فمن أحسن تخلّص شاعر إلى معتمده قولُ النابغة الذبياني‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل ودامـعُ‬
‫على النّحْرِ‪ ،‬منها مستهـ ّ‬ ‫فكَ ْفكَ ْفتُ منّي عَبـ َر ًة فَـ َر َددْتُـهـا‬
‫وقلتُ‪ :‬أَلمّا َأصْحُ والـشـيبُ وَازعُ‬ ‫صبَا‬
‫على حينَ عاتبْتُ المشيبَ على ال ّ‬

‫مكان الشّغافِ‪َ ،‬ت ْبتَغِيه الَصاب ُع‬ ‫وقد حالَ هَم‪ ،‬دونَ ذِلكَ‪ ،‬شاغِلٌ‬
‫أتاني ودوني راكِسٌ فالضّواجعُ‬ ‫وعيدُ أبي قابوسَ في غير ُك ْنهِه‬
‫وهذا كلم متناسخ‪ ،‬تقضي أوائلُه أَواخره‪ ،‬ول يتميّز منه شيء عن شيء‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ك منها المسامِع‬ ‫س َت ّ‬
‫وتِلك التي تَ ْ‬ ‫ت اللعن‪ ،‬أنك ُلمْتَنـي‬ ‫أتاني‪ ،‬أبي َ‬
‫وذلك من تِلْقَاءِ مثـلـك رائعُ‬ ‫مقالة أن قد قلتَ سوف أنالـه‬
‫ولو توصَل إلى ذلك بعضُ الشعراء المحدثين الذين واصلوا تفتيش المعاني‪ ،‬وفتحوا أبواب البديع‪ ،‬واجتنوْا ثم َر الداب‪ ،‬وفتَحُوا زَهْرَ الكلم‬
‫ف من قليب قَ ْلبِه‪ ،‬ويستمدّ عفوَ هاجسه‪.‬‬‫ل َبدَوِي إنما يغتر ُ‬ ‫لكان معجزاً عجباً‪ ،‬فكيف بجاه ٍ‬
‫وقال عليّ بن هارون المنجم عن أبيه‪ :‬لم يتوصل أحدٌ إلى مدح بمثل قول ابن وهيب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫و ُيعِلُني البريقُ وال َقدَحُ‬ ‫ما زال يُ ْلثِ ُمنِي مراشفـهُ‬
‫و َبدَا خِلَلَ سوادِهِ وَضَحُ‬ ‫حتى استرد الليل خل َعتَهُ‬
‫ن ُيمْتَدحُ‬‫وَجهُ الخليفة حي َ‬ ‫وبَدا الصباحُ كأن غُرّتهُ‬
‫وقال علي بن الجهم‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ت ِقنَاعَ الدُجى في كلّ أُخدودِ‬ ‫ألقَ ْ‬ ‫وليلةٍ كحّلتْ بالنّقْس مُقلـتَـهـا‬
‫ن دَاوُد‬ ‫سنَا َوجْهِ ابـ ِ‬ ‫لول اقتباس َ‬ ‫قد كاد ُيغْ ِرقُني أمواجُ ظُ ْلمَتهـا‬
‫صبَغ الحصَى بمِدَادِ‪.‬‬
‫قوله‪ :‬كحلَتْ بالنفْس مقلتها مأخوذ من قول أعرابي‪ :‬والليل‪ .‬قد َ‬
‫وقد أخذ هذا أبو نواس فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ل ُمكْتَـحِـلٌ بـقَـارِ‬ ‫وجَفْنُ اللي ِ‬ ‫صرْتَ إلى حَرِيمي‬ ‫َأبِنْ لي كيف ِ‬
‫وقد أخذ هذا أبو تمام فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت من ُه البلدُ بإ ِث ِمدِ‬ ‫قد اكتحلَ ْ‬ ‫جنْحَ ليل كأنـهُ‬ ‫إليك َهتَكنَا ُ‬
‫وقد أَخذ لفظَ الَعرابي المتقدم أبو نواس فقال‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫ح ينفيه عن البـلدِ‬ ‫صبْ ُ‬
‫وال ُ‬ ‫وقد أَغتدي والليلُ كالمِـدَادِ‬
‫طرد المشيبِ حاِلكَ السّوادِ‬
‫وإنما نظرَ في هذا إلى قول العرابي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫إلى الغروب‪ :‬تأمَل نظرةً حارِ‬ ‫ل قد مالَـتْ أواخِـرُه‬ ‫أقول واللي ُ‬
‫أم وجْه ُنعْ ِم بَدا لي أم سَنا نَارِ؟‬ ‫ألمحه من سنَا بَ ْرقٍ رأَى بصري‬
‫حجّابٍ وأَسْـتَـارِ‬ ‫فلحَ ما بين ُ‬ ‫ل ُم ْعتَكِـر‬ ‫بل وجْ ُه ُنعْ ٍم بَدا واللي ُ‬
‫ومن بديع الخروج قول علي بن الجهم وذكر سحابةَ‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شغَلْت بها عيناً طويلً هجوهُـا‬ ‫وساري ٍة تَ ْزدَارُ أرضًا بِجَ ْودِهـا‬
‫فتا ٌة تُرجّيها عجوزٌ تقـودهـا‬ ‫صبَا فكـأنـهـا‬ ‫أتتْنا بها ريحُ ال ّ‬
‫بأودية ما تستفـيق مُـدُودُهـا‬ ‫ت بغدادَ حتى تفجـرتْ‬ ‫ح ْ‬ ‫فما بَرِ َ‬
‫أتاها من الريح الشمال بَرِيدها‬ ‫ولما قضَتْ حق العراق وأهلـه‬
‫ت ُبنُودها‬ ‫كأنها جنودُ عبيد ال وََل ْ‬ ‫فَمرّتْ تفوتُ الطـيرَ سَـبْـقـاً‬
‫س ّر من رأى عند قتل المتوكل‪ .‬وقد أخذ هذا التشبيه معكوساً من قول أبي العتاهية‪:‬‬ ‫يريد انصراف أصحاب عبيد ال بن خاقان عن الجعفري إلى ُ‬
‫الوافر‪:‬‬
‫َتمُرّ كأنها قِطَعُ السحابِ‬ ‫ورايات يَحُل النص ُر فيها‬
‫وقال ديك الجنّ‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ح بجور‪ ،‬وفي الهوى بمحـالِ‬ ‫وغري ٍر يقضي بحكمين‪ :‬في الرا‬

‫‪177‬‬
‫حمّل ليناً‪ ،‬وجِيدُه لـلـغـزا ِ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫للنّقا ِر ْدفُـه‪ ،‬ولـلـخُـوط مـا‬
‫عَلُ جَـدْوَى َيدَيْك بـالمـوالِ‬ ‫صبّ مـا تَـفْ‬ ‫ت مُقْلَتاه بال ّ‬ ‫َفعَلَ ْ‬
‫ومن بارع الخروج قول المتنبي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫س هذا الشادِنُ العَـ َربَـا‬ ‫من أين جا َن َ‬ ‫ت ِبنَا َبيْن تِ ْر َب ْيهَا فقـلـت لـهـا‬‫مرّ ْ‬
‫َليْثَ الشَرَى وهو من عِجْلٍ إذا انتسبا‬ ‫فاستضحكتْ ثم قالت كالمغـيث يُرَى‬
‫واشتهار شعره‪ ،‬يمنعني من ذكره‪.‬‬
‫افتتاح القصائد بالغزل‬
‫قال ابن قتيبة‪ :‬سمعت بعضَ أهل الدب يذكر أن مقصد القصيدة إنما ابتدأ بوصف الديار والدّمَنِ والثار؛ فبكى وشكا‪ ،‬وخاطَبَ الربع‪،‬‬
‫ل ذلك سببًا لذكْر أهله الظاعنين‪ ،‬إذ كانت نازلةُ العمد في الحلول والطعن على خلف ما عليه نازلة‪ ،‬المَدَرِ؛ لنتقالهم‬ ‫واستوقف الرفيق؛ ليجع َ‬
‫من ماء إلى ماء‪ ،‬وانتجاعهم الكَل‪ ،‬وتتبّعهم مسا ِقطَ الغيث حيثُ كان؛ ثم وصل ذلك بالنسيب‪ ،‬فبكى شدَة الوجد‪ ،‬وألم الصبابة والشوق؛ ل ُيمِيلَ‬
‫ب من النفوس‪ ،‬لئط بالقلوب‪ ،‬لما جعل ال تعالى في تركيب‬ ‫نحوه القلوب‪ ،‬و َيصْرِف إليه الوجوه‪ ،‬ويستدعي إصغاءَ السماع‪ ،‬لن النسيب قري ٌ‬
‫العباد من محبّةِ الغزل‪ ،‬وإلف النساء‪ ،‬فليس أحدٌ يخلو من أن يكونَ متعلّقا منه بسبب‪ ،‬وضارباً فيه بسهم‪ ،‬حلل أو حرام‪ .‬فإذا استوثق من‬
‫سرَى الليل وحر الهجير‪ ،‬وإنضاء الراحلة‬ ‫الصغاء إليه‪ ،‬والستماع له‪ ،‬عَقّب بإيجاب الحقوق؛ فرحل في شعره‪ ،‬وشكا النَصَبَ والسهر‪ ،‬و ُ‬
‫والبعير‪ ،‬فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حقّ الرجاء وذِمام التأميل‪ ،‬وقرّر عنده ما ناله من المكارِه في المسير‪ ،‬بدأ في المديح فبعثه على‬
‫المكافأة‪ ،‬و َفضّله على الشباه‪ ،‬وصغّر في قدره الجزيلَ‪ ،‬وهزّه لفعل الجميل؛ فالشاعر المجيد من سلك هذه الساليب‪ ،‬وعدل بين هذه القسام‪،‬‬
‫فلم يجعل واحداً أغلب على الشعر‪ ،‬ولم يطل ف ُيمِلّ السامعين‪ ،‬ولم يقطع وفي النفوس ظمأ إلى المزيد‪.‬‬
‫بين أبي تمام والبحتري‬
‫ت به من حُلى‬ ‫ستْه من حُلَل الداب‪ ،‬وتزيّن ْ‬ ‫ويتعلّق بهذه القطعة ما حدّث به الحاتمي عن نفسه‪ ،‬وإن كانت الحكاية طويلة فهي غيرُ مملولة؛ لما لب َ‬
‫س بعضِ الرؤساء‪ ،‬وكان خبره قد سبق إليّ في عصبيّته‬ ‫ل من مشايخ البصرة ممن يُومَأ إليه في علم الشعر مجل ُ‬ ‫اللباب‪ ،‬قال‪ :‬جمعني ورج ً‬
‫ت قولً أنحيْتُ فيه على البحتري‬ ‫للبحتري‪ ،‬وتفضيله إياه على أبي تمام‪ ،‬ووجدت صاحبَ المجلس مؤثرًا لستماع كلمِنا في هذا المعنى‪ ،‬فأنشأ ُ‬
‫ضنَا في أفانين من التفضل والمماثلة‪ ،‬غلوتُ في جميعها غلوًا شهده جميع من‬ ‫حتُ زِنادَ الرجل‪ ،‬فتكلّم وتكّلمْتُ‪ ،‬وخُ ْ‬ ‫ت فيه‪ ،‬واقتد ْ‬ ‫إنحاءً أسرفْ ُ‬
‫جمّة الوقت‪ ،‬وأعيان الفضل‪ ،‬فاضطر إلى أن قال‪ :‬ما يحسن أبو تمام يبتدئ‪ ،‬ول يخرج‪ ،‬ول يختم‪ ،‬ولو لم يكن للبحتري‬ ‫حضر المجلس‪ ،‬وكانوا ُ‬
‫غضَارة‬ ‫عليه من الفضل إل حسن ابتداءاته‪ ،‬ولطفُ خروجه‪ ،‬وسرعة انتهائه‪ ،‬لوجب أن يقَع التسليم له‪ ،‬فكيف بأوَابده التي تزدادُ على التكرار َ‬
‫وجدة‪ ،‬ثم أقبل عليّ‪ ،‬فقال‪ :‬أين يُذهب بك عن ابتدائه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حتى أضاء القحوان الشنبُ‬ ‫عارضنا ُأصُلً فقلْنا الرّبـربُ‬
‫منهنّ ديباجُ الخدودِ المُذهَـبُ‬ ‫واخض ّر مَوْشيّ البرودِ وقد َبدَا‬
‫وأنىّ لبي تمام مثل خروجه حيث يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سقاكِ الحيَا رَوْحاته وبواكرُهْ‬ ‫أدارَهُمُ الولى بدارة جُلـجـل‬
‫فر ّوتْك َريّاه وجَادَك ماطِـرُهْ‬ ‫وجاءك يحكي يوسف بن محمد‬
‫وقد كرر هذا وزاد فيه فقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫جدْتَ جو َد بني يَزْدان لم تَزِد‬ ‫لو ُ‬ ‫تنصّب البرقُ مختالً فقلت لـه‬
‫ومن ذا الذي لَطُف لن يخرج من وصف روض إلى مدح‪ ،‬فقال أحسن من أقوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عدِ‬ ‫تبلُج عيسى حين يَلْفظُ بالوَ ْ‬ ‫صحْبهـا‬‫كأنّ سناها بالعشيّ ل َ‬
‫وأنّى لبي تمام مثلُ حسن انتهائه حيث يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يُسيّر ضَاحِي وَشْيها و ُينَـمـمُ‬ ‫إليك القوافي نازعاتٍ شوارداً‬
‫بهاءً وحسنًا أنها لك تُنـظـمُ‬ ‫ومشرقةً في النظم غُرّا يزيدُها‬
‫وقوله في هذا المعنى‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جمَا‬ ‫هي النجم اقتادتْ مع الليل أن ُ‬ ‫ظمَ قـصَـائدٍ‬ ‫ألست المُوالِي فيك نَ ْ‬
‫ضحًى‪ ،‬وتخالُ الوَشْي فيه ُم َنمْنَما‬ ‫ض فيه مـنـوّرا‬ ‫ثناء تَخَالُ الرو َ‬
‫ولقد تقدم البحتري الناسَ كلهم في قوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫سعِهِ لسعى إليك المنبرُ‬ ‫في وُ ْ‬ ‫لو أنّ مشتاقًا تكلّف فوق مـا‬
‫شجَى معترضاً في‬ ‫ي ل عَلَى أبي تمام؛ لني كنت كال َ‬ ‫قال أبو علي‪ :‬وكنت ساكناً إلى أن استتمّ كلمه‪ ،‬فكأن الجماعة أعجبهم ذلك‪ ،‬عصبيةً عل ّ‬
‫لهوَاتهم‪ ،‬وأَسرّ كلّ واحد منهم إلى صاحبه سرّا يومئ به إلى استيلء الرجل عليّ؛ فلمّا استت ّم كلمه وبرقت له بارقةُ طمع في تسليمي له ابتدأت‬
‫شنَان‪ ،‬ول يُقْرَع له بالعصا‪ ،‬ل إلهَ إل ال! استنّت الفصالُ حتى القَرْعَى! هل هذه المعاني إل عُون مُ ْفتَرعة‪ ،‬قد تقدم‬ ‫فقلت‪ :‬لست ممن يُ َقعْقَ ُع له بال َ‬
‫ض َننَا أصلً فقلنا‬
‫أبو تمام إلى سبْك نُضَارها‪ ،‬وافتضاض أبكارها‪ ،‬وجرى البحتري على وتيرته في انتزاع أمثالها وأتباعها‪ ،‬فأمّا قوله‪ :‬عار ْ‬
‫الربوب‪ ،‬فمن قول أبي جُ َويْرَية العبدي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فكأنما نظرت إلينا الربرب‬ ‫سلّمن نحوي للوداع بمـقـلة‬
‫كادت تكلمنا وإن لم تُعـرِب‬ ‫وقرأن بالحدَقِ المِرَاض تحية‬
‫وأما قوله في صفة الغيث مخاطباً للدار‪ :‬وجاءك يحكي يوسف بن محمد‪ ،‬وقوله في هذا ال َمعْنَى‪ :‬لوجدت جود بني يزدان لم تزد فمن قول أبي‬
‫تمام‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫َولَهٌ بظَاعِنها وبالـمـتـخـلّـف‬ ‫ولنُؤْيها في القلب نُـؤيٌ شـفـهُ‬
‫ن من الحَيا في زُخْرفِ‬ ‫من سومه ّ‬ ‫وكأنما استسقى لهـن مـحـمـد‬

‫‪178‬‬
‫ومن قوله الذي تقدم فيه كلّ أحد لفظاً رشيقًا ومعنى رقيقاً‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫مستغيثٌ لها الثرَى المكروبُ‬ ‫سمْحةُ القياد سَـكُـوبُ‬ ‫ديمة َ‬
‫لسعَى نحوها المكانُ الجديبُ‬ ‫لو س َعتْ بقعة لعْظَا ِم نُعمى‬
‫ومن هنا أخذ البحتري‪ :‬لسعى إليك المنبر‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ك وعند السرى وحين تؤوبُ‬ ‫ل بمغْـدا‬ ‫حيّ أه ً‬‫أيها الغيثُ‪َ ،‬‬
‫هن قد يشبه النجيبَ النجـيبُ‬ ‫ق تَحْـكـي‬ ‫لبي جعفرٍ خلئ ُ‬
‫وَ ْه َو فينا في كلّ وقتٍ غريبُ‬ ‫أنت فينا في ذا الوان غريبٌ‬
‫وأما قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تبَلّجُ عيسى حين يلفظ بالوَعدِ‬ ‫كأنَ سناها بالعشي لصحبهـا‬
‫عبِل بن علي‪ :‬المتقارب‪:‬‬ ‫فإنما نظر فيه إلى قول دِ ْ‬
‫بها النّوْر يلمَع في كل فـن‬ ‫و َميْثَاءَ خـضـراءَ زُربِـيّة‬
‫تَأوّد كالشاربِ المرجَـحِـنْ‬ ‫ضحوكًا إذا لعبَتْـه الـرياح‬
‫بديباج كسرى وعَصْبِ اليمنْ‬ ‫فشبّه صحبي سنا نَـوْرِهـا‬
‫أشبهه بجنـاب الـحَـسَـن‬ ‫فقلت‪َ :‬بعُدتم‪ ،‬ولـكـنـنـي‬
‫ول الكنز إل اعتقادَ ال ِمنَـنْ‬ ‫فتى ل يرى المال إل العطاءَ‬
‫وأما قوله في صفة الغواني‪ :‬يسَير ضاحي وَشْيها وينمنم وقوله في وصفها‪ :‬وتخال الوشي فيه منمنمًا فمن قول أبي تمام‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫من وَشْيها نشْراً لها و َقصِيدا‬ ‫حلوا بها عُ َقدَ النسيب‪ ،‬و َنمْ َنمُوا‬
‫ومن قوله الذي أبدع فيه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن الثناءَ المـنـخّـلَ‬ ‫إليكَ تحمل َ‬ ‫ووالِ ل أَنفكّ أُهـدِي شـوارداً‬
‫وتحسبه عقدًا عليك مفـصّـل‬ ‫ل به بُرْدًا عليك مـحـبّـراً‬ ‫تخا ُ‬
‫من المسك مفتوقاً وَأَيس َر مَحْمل‬ ‫ب نـفـحةً‬ ‫أل ّذ من السَلْوَى وأَطي َ‬
‫وأقصرَ في قلبِ الجليس وأطْولَ‬ ‫ل قـيْمةً‬ ‫أخف على قلبي وأثـقـ َ‬
‫ت مع الليل أنجماً مأخوذ من قول أبي تمام مقصرًا عنه كل تقصير عن استيفاء إحسانه حيث يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقول البحتري‪ :‬هي النجم اقتادَ ْ‬
‫ب إل أنـهـنّ سُـعُـودُ‬
‫كواك ُ‬ ‫خ تستَمعْ حُرّ القوافِي؛ فإنها‬ ‫أصِ ْ‬
‫يلدُ لباسُ البُ ْردِ وهْـو جـديدُ‬ ‫ول تمكن الخلقَ منها فإنمـا‬
‫فهذه خصال صاحبك فيما عددتَه من محاسنه التي هتكت بها ستور عَوَاره‪ ،‬و َنشَرْت مطوي أسرارِه‪ ،‬حتى استوضحت الجماعة أنّ إحسانَه فيها‬
‫عارية مرتجعة‪ ،‬ووديعة منتزَعة‪ ،‬فاسمع ما قال أبو تمام في نحو أبياتِك التي أوجبتِ الفضلَ لصاحبك حين قال مبتدئاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫خف الهوَى‪ ،‬وتفضّت الوطارُ‬ ‫ل أنتَ أنـتَ‪ ،‬ول الـديارُ ديارُ‬
‫عذَابَ الوِ ْردِ فهي بحـارُ‬ ‫زمناً ِ‬ ‫كانت مجاورةُ الطلولِ وأهلهـا‬
‫وقوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ح ْليِه يتكـسـرُ‬ ‫وغدا الثرَى في َ‬ ‫رفّت حَوَاشِي الدهر فهي تمرمَرُ‬
‫وقوله‪ :‬الكامل‪:‬‬

‫عنّتْ لنا بين اللوى وزَرودِ‬


‫َ‬ ‫أرأَيت أَي سوالفٍ وخُـدودِ‬
‫وهل يستطيعُ أح ٌد أن يبتدئ بمثل ابتدائه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫وكفى على رُزْئي بذاك شهيدَا‬ ‫ت حميداً‬ ‫طللَ الجميع لقد عَفَ ْو َ‬
‫دمناً لدى آرامِهـا وحـقـودا‬ ‫ن البينَ أصبحَ طالـبـاً‬ ‫دِمَنٌ كأ ّ‬
‫أو مثل قوله مبتدئاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫واهتزّ روضُك للثرى فتر ّءدَا‬ ‫يا دارُ‪ ،‬درّ عليك إرهامُ الندى‬
‫حشَهُ مستـأسـدَا‬
‫أنفًا يغادرُ و ْ‬ ‫وكسيتِ من خِلع الحيا مستَأسداً‬
‫أو مثل قوله مبتدئاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل مَـ ْرقَـ ِد‬
‫وعاد قَتادًا عندها كـ ّ‬ ‫غدَتْ تستجي ُر الدمعَ خوف نَوَى غَد‬
‫من الدم يجري فوق خـدّ مـو َردِ‬ ‫ق دمعاً مـورّدا‬ ‫فأذْرَى لها الشفا ُ‬
‫ولقد أحسن حين ابتدأ فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫كما فاجاك سِرْبٌ أو صُوارُ‬ ‫نَوارٌ في صواحبهـا نَـوارُ‬
‫ت دِيارُ‬
‫أطاعَتْ واشيًا ونـأَ ْ‬ ‫ت قـلـوبٌ‬ ‫تكذّبَ حاسدٌ فنأَ ْ‬
‫وحيث يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫لدْرَاسِ‬
‫تَ ْقضِي ذِمامَ الَربُعِ ا َ‬ ‫ن بَاسِ‬ ‫ما في وقوفك ساع ًة مِ ْ‬
‫ل ومُواسِي‬ ‫والدم ُع منه خاذِ ٌ‬ ‫ن تجودَ ب َد ْمعِهـا‬ ‫ل عينَكَ أَ ْ‬
‫فلع ّ‬
‫وحيث يقول‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫كيف والدم ُع آيةُ المعشوقِ‬ ‫ع ِهدْنا كذا نَحِيبَ المشُوقِ‬ ‫ما َ‬

‫‪179‬‬
‫وحيث يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫صبْرِه اللـمـامُ؟‬ ‫كم حلّ عقدةَ َ‬ ‫دِمَنٌ ألمّ بهـا فـقـال‪ :‬سـلمُ‪،‬‬
‫ي ولمُـوا‬ ‫رجلً‪ ،‬وقد عنفوا عل ّ‬ ‫نحرت ركابُ الركب حتى يعبُرُوا‬
‫وحيث يقول‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫فل تكفّنّ عن شانيك أَ ْو َيكِـفَـا‬ ‫أمّا الرسوم فقد َأ ْذكَرْن ما سلفـا‬
‫ن يَقِفـا‬ ‫للدمع بعد مضيّ الحيّ أ ْ‬ ‫ب أن َي ْقنَى السّلو ول‬ ‫ل عذرَ للص ّ‬
‫ومن اقتضاباته البعيدة قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل منكَ فتُفضل‬ ‫ونذك َر بعضَ الفض ِ‬ ‫ل وتَـفْـعَـل‬ ‫لهانَ علينا أن نَقُـو َ‬
‫وقوله أيضاً مقتضباً الكامل‪:‬‬
‫حذَارِ‬ ‫فحذا ِر من أَسد العَرِين َ‬ ‫الحقّ َأبْلجُ والسيوفُ عَوارِي‬
‫ومما تقدّم فيه كلّ واحدةٍ في حسنِ التخلص إلى المدح قوله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ن ابنِ حَسّان‬ ‫فقد أظلك إحسا ُ‬ ‫إساءةَ الحادثاتِ استنبطي نفقاً‬
‫وقوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تَ َقطّع ما بيني وبين النـوائبِ‬ ‫س لقَتْ بي أبا دُلَفٍ فقد‬ ‫إذا العي ُ‬
‫وقوله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫محم ُد بنُ أبي مروانَ والـنُـوبُ‬ ‫لم يجتمعْ قطُ في مصرٍ ول طرفٍ‬
‫وقوله المنقطع دونه كل قول في هذا المعنى‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫أقواتَها لـتـصـرّفِ الَحْـرَاس‬ ‫إنّ الذي خلق الخلئق قـاتَـهـا‬
‫وبنو الرجاء لهم بنو الـعـبـاسِ‬ ‫ض معروفُ السماء قرًى لها‬ ‫فالر ُ‬
‫جبَلُ الملوكِ الراسـي‬ ‫فيهم‪ ،‬وهم َ‬ ‫القوم ظل الـلـه أسـكـن دينَـهُ‬
‫وقوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫مَسْحور ٍة وتنـوفةٍ صـيهـودِ‬ ‫عَامِي وعامُ العِيس بـين َودِيقَةٍ‬
‫ت الـعـيد‬ ‫للطير عيداً من بنا ِ‬ ‫حتى أغادِرَ كلّ يوم بـالـفـل‬
‫خ بأحمدَ المحـمـود‬ ‫حتى تنا َ‬ ‫هيهات منها روض ٌة محمـودةٌ‬
‫َأمْنَ المرُوع ونجدةَ المنْجُـودِ‬ ‫ت بهِ‬ ‫جدَ ْ‬ ‫بمعرّس العرب الذي وَ َ‬
‫ومن أبدع ابتدائه قوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ت عليهم نَضرَ ٌة ونعيم‬ ‫وغدَ ْ‬ ‫سَقى ديارَهمُ أَجشّ هـزيمُ‬
‫ما ع ْهدُها عند الديا ِر ذَمـيمُ‬ ‫عهَادُ سحابةٍ‬ ‫ت معاهدَهم ِ‬ ‫جا َد ْ‬
‫ثم تخلص إلى المدح فقال وأحسن كل الحسان‪:‬‬
‫مُرّ وأن أبا الـحـسـين كـريم‬ ‫ل والذي هو عالـمٌ أنّ الـنّـوَى‬
‫نفسي على إلفٍ سِوَاك تـحـومُ‬ ‫غدَتْ‬ ‫سنَنِ الوداد ول َ‬ ‫ما زلتُ عن َ‬
‫ثم عاد إلى المدح‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫مجدٌ إلى حيثُ السماك مقيم‬ ‫لمحمدِ بن الهيث ِم بن شـبـابةٍ‬
‫ط َر َفيْه فهو أخ له وحَمـيم‬
‫َ‬ ‫سبَ ال َندَى من ملتقى‬ ‫ملكٌ إذا نُ ِ‬
‫وأبو تمام الذي وصف القوافي بما لم يستطع وصفَها به أحد فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عدوُك فاعل ْم أنني غيرُ حَامِـدِ‬ ‫فإنْ أنا لم يحمدكَ عنيَ صاغراً‬
‫وتنقادُ في الفاق من غير قائدِ‬ ‫ق من غير سـائقٍ‬ ‫بسياحَ ٍة تنسا ُ‬
‫إلى كل أفق واحداً غَي َر وافدِ‬ ‫ل تَرَى لـهـا‬ ‫محبّبة ما إنْ تزا ُ‬
‫فتصد ُر إل عن يمينٍ وشاهـدِ‬ ‫مخلقة لمّا تـر ْد أذنَ سَـامـعٍ‬
‫والذي قال أيضاً في صفتها‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫سمْطَانِ فيها اللؤلؤُ المـكـنـونُ‬ ‫ِ‬ ‫ظمِ اللـسـان قِـلَدةٌ‬ ‫ك من نَ ْ‬ ‫جاء ْت َ‬
‫حركاتُ أهل الرض وَهْيَ سكُونُ‬ ‫إنسيةٌ وحـشـيةٌ كـثـرَتْ بـهـا‬
‫وأجادَها التَخْصِير والـتـلْـسِـين‬ ‫ضرَميّه أرهـفـت‬ ‫ح ِذيَتْ حذَاءَ الحَ ْ‬ ‫َ‬
‫حَلْيُ الهُدى‪ ،‬ونسيجُها مَـوْضُـون‬ ‫حلْيُ قريضـهـا‬ ‫خضِلٌ‪ ،‬و َ‬ ‫ينبوعُها َ‬
‫حَسَبٌ إذا نضَب الكـل ُم مَـعِـينُ‬ ‫صنَعُ الـضـمـير يمـدُهُ‬ ‫حذَاكها َ‬ ‫أَ ْ‬
‫نُصّتْ‪ ،‬ولكن القـوافـيَ عُـونُ‬ ‫أما المعاني فـهـي أبـكـا ٌر إذا‬
‫وقد أبدع في وصفها فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫سبقتْ سوابقها إليكَ جِـيَادي‬ ‫لم ُأبْقِ حلية منطـق إل وقـدْ‬
‫أبْقى من الطواق في الجيادِ‬ ‫أبقينَ في أعناقِ جُودِك جَوْهَراً‬

‫‪180‬‬
‫هل يستطيع أحدٌ أن ينسب هذا أو شيئًا منه إلى السّرَق والحتذاء؟ وهل يستطيع مماثلته بشيء من شعر البحتري‪ ،‬أو أشعار المحدثين في‬
‫عصره ومن قبله؟ فعَيّ عن الجواب قصوراً‪ ،‬وأحجم عن المساجلة تقصيراً‪ ،‬وحكمت الجماعة لي بال َقهْر‪ ،‬وعليه بالنصر‪ ،‬ولم ينصرف عن‬
‫المجلس حتى اعترف بتقديم أبي تمام في صنعة البديع واختراع المعاني على جميع المحدَثين‪ .‬وكان يومًا مشهوداً‪.‬‬
‫?حول الغناء‬
‫وقال ثُمَامة بن أشرس‪ :‬كنتُ عند المأمون يوماً‪ ،‬فاستأذن الغلم ل ُعمَيْر المأموني فكرهت ذلك‪ ،‬ورأى المأمون الكراهية في وجهي‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫ثمامة‪ ،‬ما بك؟ فقلت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إذا غنَانا عمير ذكرت مواطن البل‪ ،‬و ُك ْثبَان الرمل‪ ،‬وإذا غنتْنا فلنة انبسط أَملي‪ ،‬وقوي جَذلي‪،‬‬
‫ت من ياقوتة‪ ،‬أو‬
‫سنَان‪ ،‬كأنما خلق ْ‬
‫صدْري‪ ،‬وذكرت الجِنان والولدان‪ ،‬كم بين أن تغنيك جارية غادة كأنها غصن بَان‪ ،‬ترنو بمقلة وَ ْ‬ ‫وانشرح َ‬
‫خرطت من فضة‪ ،‬بشعر عكاشة العميّ حيث يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫من فضة قد طُر َفتْ عُنـابـا‬ ‫من كفَ جارية كأن بَنَانَـهَـا‬
‫تُلْقى على الكف الشمال حسابا‬ ‫وكأنّ يمناها إذا ضربت بـهـا‬
‫وبين أن يغنيك رجل كَث اللحية‪ ،‬غليظ الصابع‪ ،‬خشن الكف‪ ،‬بشعر ورقاء بن زهير حيث يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فأقبلْتُ أسعى كا ْلعَجُول أبادرُهْ‬ ‫رأيت زهيراً تحت كَ ْلكَلٍ خالد‬
‫ن يحضرك مَنْ تشتهي النظَر إليه‪ ،‬وبين من ل يقفُ طَرفك عليه؟ فتبسّم المأمون‪ ،‬وقال‪ :‬الفرق بينهما واضح‪ ،‬والمنهج فسيح؛ يا‬ ‫وكم بين أ ْ‬
‫ب َق ْينَاته‪ ،‬فظَلِلْنا في أ ْمتَعِ يوم‪.‬‬ ‫غلم‪ ،‬ل تأذنْ له‪ ،‬وأحْضَر طي َ‬
‫وعكاشة هذا هو عكاشة بن عبد الصمد البصري‪ ،‬نقيُ الديباجة‪ ،‬ظريف الشعر‪ ،‬كان شاعرًا مجيداً‪ .‬وقد أخذ معنى قوله أبو العباس الناشئ‪،‬‬
‫وزا َد فيه‪ ،‬فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ب تُلْقي عليك صنـوفـا‬ ‫يدَ حاس ٍ‬ ‫وإذا بصُ ْرتَ بكفها اليُسرَى حكتْ‬
‫جمِجُ في الكتاب حروفـا‬ ‫قََل ٌم ُيمَ ْ‬ ‫ب فـي أوتـارِهِ‬ ‫فكأنما المضرَا ُ‬
‫في النقْر تنفي بهْرَجاً و ُزيُوفَـا‬ ‫ويجسُه إبهامُهـا فـكـأنـمـا‬
‫أخذ هذا البيت من قول أبي شجرة السلمي وذكر ناقته‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ج ْهبِـذِ الـوَرِق‬ ‫كما ُتنُوقِد عند الْ ِ‬ ‫تَطيرُ عنها حَصى الظّرّان من بََلدٍ‬
‫وأصله قول امرئ القيس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ف يُنت َقدْنَ ب َعبْقَرا‬
‫صليلُ ُزيُو ٍ‬ ‫شدّه‬
‫كأن صليلَ المَرْ ِو حين تُ ِ‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫كان الهوا ُء ُيعِيدُه نطـقـا‬ ‫لو لم تح ّركْه أنـامِـلُـهـا‬
‫جَسّ الطبيب لمدنف عِ ْرقَا‬ ‫ستْهُ عالمةً بـحـالـتـه‬‫جَ ّ‬
‫سمُو إلى الفلك أو أرْقى‬ ‫َأ ْ‬ ‫غنّت فخِ ْلتُ أظنّني طربـاً‬
‫ت يسارَها بَرْقـا‬ ‫رعداً وخِلْ ُ‬ ‫وحسبت ُيمْناها تـحـركـه‬
‫وأنشد الحاتمي لبي بكر الصولي‪ :‬الخفيف‪:‬‬

‫وغناءً أرق من َدمْعة الصب وشكوى المتيَم المهجور‬


‫فهـ َو يُصْـغِـي بـظـاهــر وضـــمـــيرِ‬ ‫شغَلُ المرءَ منظرٌ ثم نطقٌ‬ ‫يَ ْ‬
‫وأذاقَ الـنـفـوسَ طـعـــمَ الـــســـرورِ‬ ‫صافـحَ الـسـمـعَ بـالـذي يشــتـــهـــيه‬
‫راض نـغـمـاً ول الـشـنـيع الـجــهـــيرِ‬ ‫ليس بـالـقـائل الـضـــعـــيف إذا مـــا‬
‫وقال أبو نُوَاس‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫له حَظّان من ُدنْيَا ودِينِ‬ ‫وأَ ْهيَفَ مثل طاقةِ ياسمِينٍ‬
‫فتنبعث الطبائع للسكونِ‬ ‫ك حين يشدُو ساكناتٍ‬ ‫يح َر ُ‬
‫وهذا مليح‪ ،‬يريد حركة الجوانح للغناء‪ ،‬وسكون الجوارح للستماع‪ .‬وقال الحمدوني يصف عوداً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫كأنه فخ ٌذ نِيطتْ إلـى قَـدَمِ‬ ‫وناطقٍ بلسانٍ ل ضمـيرَ لـه‬
‫يبدي ضمير سواه منطق القلمِ‬ ‫سوَاهُ للقلوب كما‬ ‫ُيبْدِي ضميرَ ِ‬
‫في صفة القيان‬
‫ومن أَحسنِ ما قيل في صفة القيان قولُ ابن الرومي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫عاطفات على َبنِيهَا حَـوَانـي‬ ‫وقـيانٍ كـأنـهـا أمـهـاتٌ‬
‫مرضعات ولَسْنَ ذاتَ لَـبَـانِ‬ ‫مُطْفِلت وما حملْنَ جـنـينـاً‬
‫ناهداتٍ كأحسـنِ الـرّمـانِ‬ ‫ملْ ِقمَات أطـفـالَـهُـن ثُـدِيّاً‬
‫صفْ ٌر من دِرة اللبـانِ‬ ‫وَ ْهيَ ِ‬ ‫مفعمات كأنـهـا حـافِـلتٌ‬
‫بين عُودٍ ومـزهـ ٍر وكِـرَانِ‬ ‫كل طفل يُدعى بأَسماء شَتـى‬
‫وهو بادي ال ِغنَى عن الترجمَانِ‬ ‫أمه دَهْرَها تتـرجِـمُ عـنـهُ‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫صوتُ فتا ٍة تشكو فِراقَ فتى‬ ‫جاءَت بعُود كأن َنغْـمَـتَـهُ‬
‫كأنما الزهرُ حولَهُ نـبـتـا‬ ‫ن بـهِ‬ ‫محفّف حفت العـيو ُ‬

‫‪181‬‬
‫مثل اختلفِ العيونِ مذ ثبتا‬ ‫ت ملوِيه فيه فاختلفـتْ‬ ‫دار ْ‬
‫على بري ٍد لعاجَ والتـفـتـا‬ ‫لو حركتْه وراء مـنـهـزم‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وصوت المثاني والمثالث عَالي‬ ‫يقولون تُبْ والكأس في كف أغيد‬
‫وشاهدت هذا في المنام بَدَالِـي‬ ‫فقلت لهم لو كنت أزمعت تـوبةً‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫بالعُودِ حتى شفنـي إطـرابـا‬ ‫أفدي التي كَلِفَ الفؤادُ مِنَ أجْلها‬
‫عجِبت إعجـابـا‬ ‫كبرًا بذاك‪ ،‬وأُ ْ‬ ‫تاهَتْ بجمع صناعتين‪ ،‬وأظهرتْ‬
‫تشدو‪ ،‬وكنا مثلَـكـم كـتـابـا‬ ‫قالت‪ :‬فضلتك بالغناء وأنـت ل‬
‫نغماً ولم أغْفِل لهنّ حـسـابـا‬ ‫ف ُعنِيت بالوتار حـتـى لـم أدع‬
‫قلمي وعاتبها علـيه عـتـابـا‬ ‫وألفتها فأغار ذاك عـلـى يدي‬
‫وجعلتُ جانب عَجزه مِضرابـا‬ ‫فجعلت للقرطاس جا ِنبَ صدرِه‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫فما يُرَى فيه إل الوهمُ والـشـبَـحُ‬ ‫جاءتْ بعُودٍ كأن الحـبّ أَنـحَـلَـهُ‬
‫صوتاً به الشوقُ في الحشاء َينْقَـدحُ‬ ‫فحرّكتْه وغنتْ بـالـثـقـيل لـنـا‬
‫فان نأت عنك غاب اللهو والفـ َرحُ‬ ‫بيضاء يحضرُ طيبُ اللهوِ ما حض َرتْ‬
‫وكلّ ما تتغنّى فـهـو مـقـتـرَح‬ ‫كل اللباس عليها َمعْـرضٌ حَـسَـنٌ‬
‫هذا من قول ابن المعتز‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ن وارتجّ بالطرب المجلسُ‬ ‫وغنت فأَغنتْ عن المسمِعي‬
‫ومَعرِضها كل ما تَ ْلبَـسُ‬ ‫محاسِنها نُزْهَة لـلـعـيون‬
‫وقال أيضا‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ب مكـدُودِ‬ ‫ناغِم الصوت ُم ْتعَ ٍ‬ ‫أشتَهي في الغناء بُحّةَ حَلْـقٍ‬
‫قُ فضاهَى به أَنينَ الـعُـودِ‬ ‫كأنين المحبّ أضعفه الـشَـوْ‬
‫أَشتهي الضربَ لزِماً لل َعمُود‬ ‫ل أحِبّ الوتار تعلو كمـا ل‬
‫للمبادي موصولةً بالنّـشـيدِ‬ ‫وأحب المجنبَات كـحـبـي‬
‫بين حالـين شـدّة وركـودِ‬ ‫كهبوب الصبا توسـط حـالً‬
‫وقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫لفتا ٍة مـوصـولة اليقـاعِ‬ ‫آه من بُحّ ِة بغير انقـطـاع‬
‫نعبِ الصوت راحةُ السماعِ‬ ‫جتَنى من‬ ‫أتعبت صوتها وقد ُي ْ‬
‫? َف َغدَت تكثر الشّجاجَ وحطّت=طبقاتِ الوتار بعد ارتفاعِ ‪.‬‬
‫صوتَ شكواه شدّةُ الوجاع‬ ‫كأنين المحبّ خفض منـهُ‬
‫وقال بعض أَهل العصر‪ ،‬وهو أبو الحسن بن يونس‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فكأنما الصوتانِ صوتُ العـودِ‬ ‫غنّت فأَخفت صوتها في عُودِها‬
‫أبداً‪ ،‬ويتبعُهـا اتـبـاع وَدود‬ ‫غَيدَاء تأم ُر عودَها فيطِيعـهـا‬
‫وأرق من نَشْر الثنا المعهـودِ‬ ‫أ ْندَى من النّوَار صُبحاً صَو ُتهَـا‬
‫ماءُ الغمام ِة وابنة العُنـقـود‬ ‫فكأنما الصوتان حين تمازَجَـا‬
‫وأبو الحسن هذا هو‪ :‬علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد العلى‪ ،‬صاحب عبد ال بن وهب الفقيه‪ ،‬وكان لبي الحسن في الشعر‬
‫مذهب حسن‪ ،‬وطبع صحيح‪ ،‬وحَوك مليح‪ ،‬وكان عالماً بالنجوم وما يتعلق بها من علوم الوائل‪ ،‬وهو القائل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ب من المُزنِ ال َك َنهْوَرِ هَاملِ‬ ‫بضرْ ٍ‬ ‫سقَى ال أكنافَ اللّوى كلما سقـى‬
‫غدَا وَهْوَ حَلْيٌ للرياضِ العَواطِلِ‬ ‫َ‬ ‫إذا نشرت ريح جُمـانَ سـحـابةٍ‬
‫ق ليس بين مفاصل‬ ‫ووسواسُ َودْ ٍ‬ ‫جدُ رَعْد ليس بـين جـوانـح‬ ‫به وَ ْ‬
‫تلقّاه دُرّ النّور فوقَ الـخـمـائل‬ ‫إذا كان خدّ البرق يلمس نـبـتـهُ‬
‫وقال‪ ،‬وذكر غلماً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ق منه ما َيمُزُ عـلـيه‬ ‫وأَر ّ‬ ‫خدّه‬ ‫يجري النسيمُ على غلئل َ‬
‫ستْه فتنة ناظـريْه إلَـيْهِ‬ ‫فك َ‬ ‫ناولتُه المرأة ينظرُ وَجْـهَـهُ‬
‫وقال ابن المعتز ‪ -‬وذكر المرآة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وناصَحتِي من دون كل صَديقِ‬ ‫تبيّنني لي كلّما ُرمْت نـظـرةً‬
‫بلُجّه ماء وهو غـير غَـرِيقِ‬ ‫يقابلني منك الذي ل عدمْـتُـهُ‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم يصفُ مرآة أهداها‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫راق غير العـشـاء لـلجـفـانِ‬ ‫أخت شمس الصفاء في الحسن والش‬

‫‪182‬‬
‫أُجريت فيه صُـفْـ َرةُ الـعِـقْـيَانِ‬ ‫ذات طَوْق مشـرف مـن لُـجـين‬
‫ت مـضـن بـعـد ثَـمـانِ‬ ‫ر لس ّ‬ ‫فهو كالهالة الـمـحـيطة بـالـبـد‬
‫ببُـزَا ٍة تَـعْـدُو عـلـى غِــ ْزلَنِ‬ ‫وعلى ظهرهـا فـوارسُ تـلـهـو‬
‫ن مُخْبـر بـنـبـيل المـانـي‬ ‫حَسَ ٌ‬ ‫لك فـيهـا إذا تـأمـلـت فـــأل‬
‫حاصِـ ٌر نـفـسَـه بـغــير ِأَوَان‬ ‫لم يكن قبلهـا مـن الـمـاء جـرم‬
‫ه إلـيهـا ورَجـعــه سِـــيانِ‬ ‫عدّلت عكسها الشـعـاع فـمـبـدا‬
‫لح فيهـا فـإنـهـا شَـمْـسَـانِ‬ ‫ن مِـثَـالـك يومـاً‬
‫وهي شمـسٌ وإ ْ‬
‫ضٍ ففـيهـا تـقـابـل الـنـيران‬ ‫أينما قـابـلـتْ مـثـالَـكُ مـن أر‬
‫خائف فـانـثـنـى بـغـير َأمَـان‬ ‫فالقـهـا مـنـك بـالـذي مـا رآه‬
‫ومن ألفاظ أهل العصر‬
‫في مدح الغناء‬
‫لذْن‪ ،‬ويأخذُ بمجامِع القَلْب‪ ،‬ويحرك النفوس‪ ،‬ويرقص‬ ‫غِناؤُه كالغِنَى بعد الفقر‪ ،‬وهو جَبر للكسر‪ .‬غِناؤُه يبسط أَسِ َرةَ الوَجهِ‪ ،‬ويرفعُ حجابَ ا ِ‬
‫طعِ ُم الذانَ سروراً‪ ،‬ويقدح في القلوب نوراً القلوبُ من غنائه على‬ ‫الرؤوس‪ .‬فلن طبيب القلوب والسماع‪ ،‬ومحيي مَوات الخواطِرِ والطباع‪ ،‬يُ ْ‬
‫خَطر؛ فكيف الجيوب؟! السكر على صوبِه شهادة‪.‬‬
‫ضرْبه ل تضطرب‪ .‬وقيل‪ :‬السماع ُم ْتعَة السماع‪،‬‬ ‫جدْب‪ .‬نغمة نغمته تطرب‪ ،‬وضروب َ‬ ‫كل ما يغنّيه مقتَرح‪ .‬لغنائه في القَ ْلبِ‪ ،‬موقع ال َقطْر في ال َ‬
‫وإدامُ المدام‪.‬‬
‫في وصف القلم‬
‫أهدى بعضُ الكتّاب إلى أخٍ له أقلمًا وكتب إليه‪ :‬إنه ‪ -‬أطال الُ بقَاءك! ‪ -‬لما كانت الكتابةُ ِقوَامَ الخلفة‪ ،‬وقرينة الرياسة‪ ،‬وعمو َد الممْلَكة‪،‬‬
‫ف عليك مَحْمله‪ ،‬وتثقل قيمتُه‪ ،‬ويكثر نَ ْفعُه؛ فبعثتُ إليك أقلماً‬ ‫خ ُ‬ ‫خطَراً‪ ،‬أحببتُ أن أتحِفك من آلتّها بما يَ ِ‬ ‫وأعظم المور الجليلة قدْراً‪ ،‬وأعلها َ‬
‫صدَف‪ ،‬والنوار المحجوبة بالسّدف‪َ ،‬ت ْنبُو عن تأثير السنان‪ ،‬ول‬ ‫عذَاء‪ ،‬المغذوّ بماء السماء‪ ،‬كالللي المكنونة في ال ّ‬ ‫من القصب النابت في ال ْ‬
‫ي كما قال الكميت‪ :‬المتقارب‪:‬‬ ‫ستْها طباعها جوهراً كالوَشْي المحبر‪ ،‬وفرند الديباج المنيّر‪ ،‬فه ِ‬ ‫غمْزُ البَنان‪ ،‬قد ك َ‬
‫يثنيها َ‬
‫سمَع للبيض فيها صَرِيرا‬ ‫ن تَ ْ‬‫ِ‬ ‫وبيضٍ رقاقٍ صِحاح المتـو‬
‫ن يُعشِي البصـيرا‬
‫سنَاهُ ّ‬
‫يكاد َ‬ ‫عتَادِ الـمـلـوك‬
‫ُمهَنّدة من َ‬

‫وكقدح النبل في ثقل أَوزانها‪ ،‬و ُقضُب الخيزُرَان في اعتدالها‪ ،‬ووشيجِ الخطّ في اطّرادها‪ ،‬تَمرُ في القراطيس كالبَرْقِ اللئح‪ ،‬وتجرِي في‬
‫الصحف كالماء السائح‪ ،‬أَحسن من العِقْيان‪ ،‬في نحورِ القيَان‪.‬‬
‫وكتب عبيد ال بن طاهر إلى إسحاق بن إبراهيم من خراسان إلى بغداد يسأله أن يوجهَ إليه بأقلم قصبيّة‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإنّا على طول الممارسة‬
‫لهذه الصناعة التي غلبَتْ على السم‪ ،‬ولزمت لزوم الوَسْم‪ ،‬فحلَت محل النساب‪ ،‬وجرت مَجْرَى اللْقاب ‪ -‬وجدنا القلم القصبية أسرعَ في‬
‫غدِ‪ ،‬وأمرّ في الجلود‪ ،‬كما أن البَحْرية منها أسلسُ في القَراطيس‪ ،‬والين في المعاطف‪ ،‬وأكلّ عن تمزيقها‪ ،‬والتعلق بما ينبو من شظاياها‪.‬‬ ‫الكَوَا ِ‬
‫ونحن في بلدِ قليلة القَصب‪ ،‬رديء ما يوجد بها منه؛ فأحببت أن تتقدَم في اختيار أقلم قصبيِة‪ ،‬وتتأنّق في انتقائها ِقبَلك‪ ،‬وطلبها في منابتها‪ ،‬من‬
‫شُطوط النهار‪ ،‬وأرجاء الكروم‪ ،‬وأن تتيّم باختيارك منها الشديدة المجسّ‪ ،‬الصّلبة المعض‪ ،‬الغليظة الشحوم‪ ،‬المكتنزة الجوانب‪ ،‬الضيّقة‬
‫الجواف‪ ،‬الرزينة ال َوزْن‪ ،‬فإنها أبقى على الكتاب‪ ،‬وأبعد من الحَفَاء‪ ،‬وأن تقصدَ بانتقائك منها للرقاق القضبان‪ ،‬اللطاف المنظر‪ ،‬المقوّمات‬
‫الوَد‪ ،‬المُلْس العُقد‪ ،‬ول يكون فيها التواء عوج ول َأمْت؛ وضُمَ الصافيةَ القشور‪ ،‬الخفية الُبن‪ ،‬الحسنة الستدارة‪ ،‬الطويلة النابيب‪ ،‬البعيدة ما‬
‫بين الكعوب‪ ،‬الكريمة الجواهر‪ ،‬المعتدلة القوام‪ ،‬تكادُ أسافلها تهت ّز من أعلها‪ ،‬لستواء أصولها برؤوسها‪ ،‬المستكملة يبساً‪ ،‬القائمة على سوقها‪،‬‬
‫قد تشرّبت الماءَ في لِحائها‪ ،‬وانتهت في النّضْجِ منتهاها‪ ،‬لم تعجل عن تمام مصلحتها‪ ،‬وإبّانِ ُي ْنعِها‪ ،‬ولم تؤخّر في اليام المخوفة عاهاتها؛ من‬
‫ت بقطعها ذِراعاً ذراعاً‪ ،‬قَطْعاً رفيقًا تتحرّز معه أن تتشعبَ رؤوسها‪ ،‬أو تنشق أطرافها‪،‬‬ ‫عفَنِ النداء‪ ،‬فإذا استجمعتْ عندك أمرْ َ‬ ‫خصَر الشتاء‪ ،‬و َ‬ ‫َ‬
‫ج ْهتَها مع من يحتاط في حراستها وحفظِها وإيصالها؛ إذ كان مثلها‬ ‫ثم عبأت منها حزمًا فيما يصونها من الوعية‪ ،‬وعليها الخيوط الوثيقة‪ ،‬وو ّ‬
‫ف فَضْلَ جوهرها؛ واكتب معه بعدّتِها وأصنافها وأجناسها وصفاتِها‪ ،‬على الستقصاء‪ ،‬من غير تأخير‬ ‫ُيتَوانى فيه‪ ،‬لقلة خطرِها عند من ل يعر ُ‬
‫ول إبطاء‪.‬‬
‫صفَته‪ ،‬من أجتاس‬ ‫فأجابه ووجه إليه مع النابيب‪ :‬أتاني كتاب المير ‪ -‬أعزه ال! ‪ -‬بما أمر به ولخصه‪ ،‬من البعث بما شاكل َن ْعتَه‪ ،‬وضاهى ِ‬
‫سبُلِه آخذاً بها‪ ،‬فأنْ َفذْتُ إليه حزماً أنشئت بلطيف السّقيا‪ ،‬وحُسْن العهد والبُقْيا‪ ،‬لم تعجل‬ ‫ت معالمَ ُ‬
‫القلم‪ ،‬فتيممت بِغيته قاصداً لها‪ ،‬وانتهج ُ‬
‫ت قبل إدراكها؛ فهي مستوي ُة النابيب معتدلتها‪ ،‬مثقفة الكعوب مقوّمتها؛ ل يُرَى فيها أمْتُ زَوَر‪ ،‬ول وصم صغر ول‬ ‫بإخراجها‪ ،‬ول بُودِر ْ‬
‫ب ِب ُغيْتَهِ‪.‬‬
‫عِوَج‪ ،‬وقد رجوت أن يجدَها المير عند إرادته وحسَ َ‬
‫ومن كلم منصور بن عمَار في صفة القلم‪ ،‬ويقال إنه لسليمان بن الوليد الكاتب‪ :‬أو ليس من عجائب الِ في خَلقِه‪ ،‬وإنعامِه على عباده‪ ،‬تعليمُه‬
‫ف مقلوبة‪ ،‬من‬ ‫ب للعيون بسرائر القلوب‪ ،‬على لغات مختلفة‪ ،‬بمعان مفترقة معقودة‪ ،‬وأحر ٍ‬ ‫ط َ‬
‫إياهم الكتابَ المفيد للباقين حكم الماضين‪ ،‬والمخا ِ‬
‫ق مزدرجة‪ ،‬بل أصواتٍ‬ ‫ألفِ وتاء‪ ،‬وجيم وباء‪ ،‬متباينات الصور‪ ،‬مختلفات الجهات‪ ،‬لِقَاحها التفكير‪ ،‬ونتاجها التأليف‪ ،‬تخرس مفردة‪ ،‬وتنطِ ُ‬
‫ق المدا ُد به‪ ،‬وأرْهَف جانبيه ليرد ما انتَشر عنه إليه‪ ،‬وشق في‬ ‫حرّفَ بارِيه قطّته‪ ،‬ليعل َ‬ ‫ن محدودة‪ ،‬ول حركات ظاهرة‪ ،‬بل قلم َ‬ ‫مسموعهّ‪ ،‬ول ألْسُ ٍ‬
‫رأسه ليحتبس الستعداد عليه‪ ،‬ورفع من شعبيته لتجتمع حواشي تصويره؛ فهنالك روى القلم في شِقه‪ ،‬وقفف المادة إلى صدره‪ ،‬فإذا علقتها‬
‫العيون ح َكتْها اللسن‪ ،‬فالقلوب حينئذ رَاعِية‪ ،‬والذان واعِية‪ ،‬لكلم سَداه ال َعقْل‪ ،‬وألحمه اللسان‪ ،‬وأدّته الَلهَوَات‪ ،‬ولفظته الشفَاه‪ ،‬ووعته السماع‪،‬‬
‫على اختلف أنحاء‪ ،‬من صفاتٍ وأسماء؛ فتبارك ال أحْسَنُ الخالقين‪.‬‬
‫حمل من رسالة كتبها بعض أهل العصر‪ ،‬وهو أبو إسحاق إبراهيم بن عبد ال النجيرمي‪ ،‬في القلم إلى أبي عمران بن رياح‪:‬‬
‫خرِجَ الضمير إلى العِيان‪ ،‬ومستنبطاً ما تُوارِيه ظلَمُ الجَنانِ إلى نُور البيان‪ ،‬ومُريحَ الفطًنِ العوازب‪،‬‬ ‫إنه لما كان القل ُم مطيةَ الفكْر والبيان‪ ،‬ومُ ْ‬
‫وجالبَ ال ِفكَرِ الغرائب ولسان الغائب‪ ،‬وبز الكاتب‪ ،.‬مكتّب الكتائب‪ ،‬ومفرق الجلئب‪ ،‬وعماد السّلْم‪ ،‬وزناد الحرب‪ ،‬ويدَ الحدثَان‪ ،‬وخليفة‬

‫‪183‬‬
‫حكْمة سبقَتْ في‬ ‫ص ال بها النسان‪ ،‬وشرّفه بها على سائر أصناف الحيوان‪ ،‬ومركبًا للة قد تق ّدمَتْ كلّ آلة‪ ،‬و ِ‬ ‫اللسان‪ ،‬ورأس الدوات التي خ ّ‬
‫حكَمَ الولين‪ ،‬وحاملها عنا إلى الخرين‪ ،‬الحافظ‬ ‫ل حكمة‪ ،‬وقَواماً لهندسة عقلية‪ ،‬ومصدرًا ل َعقْلِ العاقل‪ ،‬وجهل الجاهل‪ .‬الناقل إلينا ِ‬ ‫النسان ك ّ‬
‫ن قُصِر‬ ‫ت عميدَهم‪ ،‬وأقرَا ٌ‬ ‫ح ِمدَه وسجدَ له‪ ،‬فكان له فرسانٌ خُلِقَ لهم‪ ،‬و ُكنْ َ‬ ‫علينا َأمْ َر الدنيا والدين‪ ،‬أول شيء خلقه ال بأمره وسَبحَه‪ ،‬ومَجّده و َ‬
‫ح ْليَة كنت سابقها ومعجزها‪ ،‬وغاية كنت مَالِكها ومُحْ ِرزَها‪ ،‬ورمت بي‬ ‫ع ْينَه‪ ،‬و ِ‬
‫عليهم‪ ،‬وأنت صنديدهم‪ ،‬وميدان كنت َزيْنه‪ ،‬ومضمار كنت َ‬
‫اليام إلى معدنه الذي كلفت به وعنيت بطلبه‪ ،‬فانفردت منه بقدح َفذّ أَوْحد‪َ ،‬فرْد في منْبته‪ ،‬قد ساعدت عليه السعود في فلك البروج حولً كاملً‪،‬‬
‫مُخْتلف يُؤلّفه أركانها وطباعها‪ ،‬ومتباين أنوائها وأنحائها‪ ،‬وتؤيده بقواها وجواهرها‪ ،‬حتى غ َذتْه عِرْقاً في الثرى معرقاً‪ ،‬وأرضعته ناجماً‪،‬‬
‫وسقته مكعباً‪ ،‬وأروته مقصباً‪ ،‬وأظمأته مكتهلً‪ ،‬ولوحته مستحصداً‪ ،‬وجللته بهاءها‪ ،‬وألقت عليه عنوانها‪ ،‬وأودعته أعراقها‪ ،‬وَأَوراقَها‬
‫ق بازله‪ ،‬ورقّت شمائله‪ ،‬وابتسم من غشائه‪ ،‬ونادى من لِحَائه‪ ،‬وتعرى عن خز المصيف‪ ،‬بانقضاء الخريف‪ ،‬وانكشف عن‬ ‫وأخْلَقها‪ ،‬حتى إذا ش ّ‬
‫لون البيض المكنون‪ ،‬والصدف المخزون‪ ،‬ودر البحار‪ ،‬وفتات الجمار‪ ،‬دعا منه نَفَق العَاج بنقبة الديباج‪ ،‬وقميص الدرر بطراز النساج‪،‬‬
‫حدِه‬
‫فاجتمعت له زينة اليدي البشرية‪ ،‬إلى اليدي العلوية‪ ،‬والنسابِ الرضية‪ ،‬إلى النساب السماوية‪ ،‬فلما قادته السعادة إليَ‪ ،‬ورأيته نسيجَ وَ ْ‬
‫حدِه في النام‪ ،‬فآثرتُك به مُ ْؤثِراً للصنيعة؛ عالماً أن زين الجيا ِد فرسانها‪ ،‬وزين السيوف أَقرانها‪ ،‬وزين‬ ‫في القلم‪ ،‬رأيت أولى الناس به نسيجَ وَ ْ‬
‫جدِ‬
‫سهَا‪ ،‬فالن أعطيت القوس باريها‪ ،‬وزناد المكارِم مُوريها‪ ،‬والصمصَامة مُصلِتها‪ ،‬والقناة مُعلمها‪ ،‬وحلَة المَ ْ‬ ‫سهَا‪ ،‬وزين أَداةٍ ممار ُ‬ ‫بزة لبِ ُ‬
‫لبِسها‪.‬‬
‫وكان النجيرمي جَيدَ الروية والبديهة في نظمه ونثره‪ ،‬حلو التصريف‪ ،‬مليح التأليف‪ ،‬وكان يومًا عند أبي المسك كافور الخشيدي‪ ،‬فدخل عليه‬
‫أبو الفضل بن عياش فقال‪ :‬أَدام الَ أَيام سيدنا الستاذ ‪ -‬بالخَفْض ‪ -‬فتبسّم كافور إلى أبي إسحاق‪ ،‬فقال ارتجالً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ص من َه ْيبَةٍ بالريقِ وال َبهَـرِ‬ ‫غ ّ‬ ‫وُ‬ ‫غرْوَ إن َلحَنَ الدَاعِي لسـيّدنـا‬ ‫ل َ‬
‫بين البليغ وبين القول بالحـصَـرِ‬ ‫فمثل سيدنا حالـت مـهَـابَـتُـهُ‬
‫ن قِلّة البَصَرِ‬ ‫من شدّة الخوف ل مِ ْ‬ ‫ض اليام مـن دَهـشٍ‬ ‫فإذ يكن خفَ َ‬
‫والفأل مأثرة عن سيّد الـبـشَـرِ‬ ‫فقد تفاءَلت في هـذا لـسـيدنـا‬
‫وأن دولته صـفـوٌ‪ .‬بـل كـدَرِ‬ ‫ض بـل نَـصَـب‬ ‫خفْـ ٌ‬
‫بأن أيامه َ‬
‫فأمر له بثلثمائة دينار‪ ،‬ولبن عياش بمائتين‪.‬‬
‫وقال حمدان الدمشقي يصف قلماً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ولـه إذا لـم تـجْـرِه إطــراقُـــهُ‬ ‫لليْم بعثته وشَقّ لِسَانِهِ‬
‫من حـيث يَجْـرِي سـمّـه تِـ ْريَاقُــهُ‬ ‫كالـحـيةِ الـنّـضْـنَــاضِ إل أَنـــهُ‬
‫قال العتابي‪ :‬سألني الصمعي فقال لي‪ :‬أي النابيب أَصْلَحُ للكتابة وعليها أَصبر؟ فقلت‪ :‬ما نشِفَ بالهجير ماؤُه‪ ،‬وستره عن تلويحِه غشاؤه‪ ،‬من‬
‫التّبرية القشور الدرّية الظهور‪ ،‬الفضيّة الكسور‪ ،‬قال‪ :‬فأي نوع من البَرْي أكتب وأصْوب؟ قلت‪ :‬البرية المستوية القطّ‪ ،‬عن يمين سنّها‪ ،‬بَرية‬
‫تأمن معها المجّة عند المطّ‪ ،‬الهواء في مَشَقها فتيق‪ ،‬والريح في جوفها خريق‪ ،‬والمِدَاد في خرطومها رقيق‪ ،‬قال‪ :‬فبقي الصمعي شاخصاً إليَ‬
‫ضاحكًا ل يُحِي ُر مسألة ول جواباً‪.‬‬
‫العتابي‬
‫ي ممن اجتمع له الخطابة‪ ،‬والبيان‪،‬‬ ‫والعتابي‪ :‬هو كلثوم بن عمرو بن الحارث التغلبي‪ُ ،‬ي ْكنَى أبا عمرو‪ ،‬قال أبو عثمان الجاحظ‪ :‬كان العتاب ّ‬
‫حذْوِه يقول في البديع جميعُ من يتكلف ذلك من شعراء المولدين كنحو منصور النَمري‪،‬‬ ‫والشعر الجيد‪ ،‬والرسائل الفاخرة‪ ،‬وعلى ألفاظه و َ‬
‫حذْو بشَار في البديع‪ ،‬ولم يكن في المولدين أجودُ بديعًا من بشار وابن هَ ْرمَةَ‪.‬‬ ‫ومسلم بن الوليد النصاري‪ ،‬وأشباههما‪ ،‬وكان العتابي يَحْتذي َ‬
‫عتّاب بن سعد‪ ،‬ولذلك قال‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫عمْرو بن كلثوم ابن مالك بن َ‬ ‫والعتابي من ولد َ‬
‫واجتاح ما أبدَتِ اليامُ من خطري‬ ‫إني امرُ ٌؤ هدم القتار مأثـرتـي‬
‫حيّا ربيعةَ والحيا ُء من مـضـرِ‬ ‫أَنا ابنُ عمرو بن كلثـوم يسـوّده‬
‫كالقوسِ عطّلها الرامي من الوترِ‬ ‫أرومَةٌ عطّلَتني من مكـارمـهـا‬
‫وكان صاحبَ بديهة في المنظوم والمنثور‪ ،‬حسن العقل وَالتمييز‪ ،‬وَالعربُ تقول‪ :‬من تمنّى رجلً حسنَ العَقل‪ ،‬حسنَ البيانِ‪ ،‬حسنَ العِلْم‪ ،‬تمنّى‬
‫شيئاً عسيراً‪ .‬وَقد اجتمع ذلك كله للعتابي‪.‬‬
‫ل مهمُه أن يكون جمالُه في لباسه وَعطره‪ .‬إنما ذلك حظُ‬ ‫وَعاتبه يحيى بن خالد على لباسه‪ ،‬وَكان ل ُيبَالي أي ثوبيه ابتذلَ! فقال‪َ :‬أ ْب َعدَ الَُ رج ً‬
‫النساء‪ ،‬وأَهل الهواء‪ ،‬حتى يرفعه أكبرَاه‪ِ :‬همّته‪ ،‬وَلبّه‪ ،‬وَيعلو به معظماه‪ :‬لسانُهُ‪َ ،‬وقَلبه‪.‬‬
‫ودخل على الرشيد فقال‪ :‬تكلَم يا عتابيّ! فقال‪ :‬اليناس قبل البسَاس‪ ،‬ل ُيمْدَحُ المرء بأول صَوابه‪ ،‬ول ُيذَمّ بأول خَطئه؛ لنه بين كل زَوّرَه‪ ،‬أو‬
‫حصَرَه‪.‬‬ ‫عيّ َ‬
‫وذكر أبو هفّان أنّ الرشيد لقيَه بعد َقتْل جعفر بن يحيى وزوال نِعمته‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫حدَثت َب ْعدُ يا عتابي؟ فأنشده ارتجالً‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ما َأ ْ‬
‫طوَى الده ُر عـنـهـا كـلّ طِـرْف وتَـالِـدِ‬ ‫َ‬ ‫تلوم عنى تَ ْركِ ال ِغنَى باهليّة‬
‫منـظـمةً أَجـيادُهـا بـــالـــقـــل ِئدِ‬ ‫رأتْ حولها النسـوان يرفـلـن فـي الـكُـسـا‬
‫من المـلـك أو مَـا نَـالَ يحـيى بـن خـالـدِ‬ ‫أَسَـرّك أنـي نِـلْـتُ مـا نـال جـعـفـــرٌ‬
‫مغصّـهُـمـا بـالـمُـرْهَـفَـاتِ الـبـوا ِردِ‬ ‫وأنّ أمـير الـمـؤمـنـين أَغَـصّــنِـــي‬
‫بمـسـتـودعـاتٍ فـي بـطـونِ الســا ِودِ‬ ‫فإنّ رفـيعـاتِ الـمـعـالِـي مَــشُـــوبة‬
‫وكان متحرفاً عن البرامكة‪ ،‬وفيهم يقول‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫بصفحة الدين من نجواهُ ُم َندَبُ‬ ‫ك ل تنفـك َأنْـجِـيَةً‬ ‫إنَ البَرَا ِم َ‬
‫مضرّج بدم السلم مخ َتضِبُ‬ ‫ج منهم و ُمنْصلُهـم‬ ‫تجرّمتْ حج ٌ‬

‫‪184‬‬
‫عمْرو؟ قيل‪ :‬نعم‪ ،‬ف َثنَى رجله‪ ،‬ودخل إليه‪ ،‬فأَ ْلفَاه جالساً في َبيْ ِ‬
‫ت‬ ‫واجتاز عبد ال بن طاهر بالرقة بمنزل العتّابي‪ ،‬فقال‪ :‬أليس هذا منزلَ كلثوم بن َ‬
‫كتبه‪ ،‬فحادَثه وذاكَرَه‪ ،‬ثم انصرف‪ ،‬فتحدّث الناسُ في ذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن المير لم يَقْصِدهُ‪ ،‬وإنما اجتاز به فأَخْطر ذلك الزيارةَ‪ ،‬فكتب إليه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل نباه َة الـذكْـرِ‬
‫َب ْعدَ الخمو ِ‬ ‫يا مَنْ أَفـا َدتْـنِـي زِيا َرتُـهُ‬
‫ومجاز خَطْرك ليس بالخطر‬ ‫خطْرَة خَطَرتْ‬ ‫قالوا الزيارةُ َ‬
‫تس َتنْفد المجهودَ مِنْ شكـري‬ ‫فا ْدفَعْ مقالتـهـم بـثـالـثة‬
‫إن الثلث تتـمةُ الـوتـر‬ ‫ل تجعلَـنّ الـ ِوتْـرَ واحـدةً‬
‫فبعثته البياتُ إلى أَنْ زَارَه ثلثاً‪.‬‬
‫سنْدان كِسرى‪ ،‬فقال له المأمون‪ :‬سألتك بال يا عتّابي إل‬ ‫وكان يميل إلى المأمون‪ ،‬فلمّا خرج ا!أمون إلى خُراسان شيعه حتى وصل معه إلى َ‬
‫عملتَ على زيارتنا إنْ صار لنا من هذا الَمر شيء‪ ،‬فلما ولي المأمون الخلفةَ‪ ،‬ودخل بغداد سنة أربع ومائتين توصّل إليه العتّابي‪ ،‬فلم يمكنه‬
‫ت بحاجب! قال‪ :‬قد علمت‪ ،‬ولكنك ذو فضل‪ ،‬وذو‬ ‫ت أن تُعلِم أميرَ المؤمنين بمكاني! فقال‪َ :‬لسْ ُ‬
‫الوصول‪ ،‬فقال للقاضي يحيى بن اكثم‪ :‬إن رأي َ‬
‫الفضل ِمعْوان! فقال‪ :‬سلكتَ بي غير طريقي! قال‪ :‬إن ال تعالى ألحقك بجا ٍه ونعمة‪ ،‬وهما يقيمان عليك بالزيادة إن شكرت‪ ،‬والتغيير إن كفرت‪،‬‬
‫وأنا اليوم لك خي ٌر منك لنفسك؛ أدعوك لما فيه زيادة نعمتك‪ ،‬وأنت تأْبى ذلك؛ ولكلّ شيء زكاة‪ ،‬وزَكاةُ الجا ِه َبذْل ُه للمستعين‪ ،‬فدخل يحيى على‬
‫المأمون فقال‪ :‬أجِرْني من لسان العتابي‪ ،‬فَلهَا عنه‪ ،‬ولم يأذن له‪ ،‬فلما طال عليه كتب إليه‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ن ول هكذا عَهدْنـا الخَـاءْ‬ ‫ما على ذلك افترقْنا بِسَـنْـدا‬
‫د بها ذو الصفاء إل صفـاءْ‬ ‫لم أكن أحسب الخـلفة يزدا‬
‫غدْرِهمْ وتنسى الوفاءْ‬ ‫ر على ً‬ ‫تضرب الناس بالمثّقفة السّـم‬
‫يعرّض بقتْله لخيه على غَدره‪ ،‬ونكثه ِلمَا عقد الرشيد؛ فلما قرأ المأمون البيات أمر أن ُيدْخَل عليه‪ .‬فلمّا سلّم قال‪ :‬يا عتابي‪ ،‬بلغتني وفاد ُتكَ‬
‫ت بَلغَتْني وفا ُتكَ فساءتني‪ ،‬وإني لحريّ بالغ ّم لبُعدِك‪ ،‬والسرور بقربك! فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬لو قسم هذا الكلم على أهلِ‬ ‫فس ّرتْني‪ ،‬وقد كَان ْ‬
‫عدْلً وأَعجزهم شكراً‪ ،‬وإن رضاك لغاية ال ُمنَى‪ ،‬لنه ل دينَ إل بك‪ ،‬إل معك‪ ،‬قال‪ :‬سَلْني‪ ،‬قال‪َ :‬يدُك بالعطية أطلق من لساني‬ ‫الرض لوسعهم َ‬
‫بالمسألة‪ ،‬بخمسين ألفاً‪.‬‬
‫وقال العتابي وودَع جاريةً له‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫وشآبيب َدمْعِـك الـمُـهْـرَاقِ‬ ‫ما غَناءُ الـحِـذَارِ والِشـفـاقِ‬
‫طلِـيحِ الـمـآقـي‬ ‫ّد ول مُقَْلتَا َ‬ ‫ليس يَقْوَى الفؤادُ منك على الضَ‬
‫غ ِن ْمنَا من طول هذا العنـاق‬ ‫ما َ‬ ‫غدرات اليا ِم مـنـتـزِعَـاتٌ‬
‫بعد ما قد تـرين كـان تَـلقِ‬ ‫ل أن يكـون تَـلَقٍ‬ ‫إنْ قضَى ا ُ‬
‫ت بِـبَـاقِ‬ ‫لستِ تبقين لي ولس ُ‬ ‫هَوّني ما عليك واقْـنَـيْ حَـيَاءً‬
‫فالذي أخرتْ سريعُ اللـحـاق‬ ‫أيّنا قدَمَتْ صروفُ الـمـنـايا‬
‫صبِرَاتِ المذاق‬ ‫ت من العيشِ ُم ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ن بـمُـرّا‬ ‫ويدُ الحادثـات رَهْـ ٌ‬
‫وعُـراهـا قـلئدُ العـنـاق‬ ‫غُ ّر مَنْ ظن أن يفوت المـنـايا‬
‫ثم صارا لغُـ ْربَةٍ وافـتـراقِ‬ ‫كم صَفييْنِ ُمتّـعَـا بـاتـفـاقٍ‬
‫سُودَ أكنافِـه عـلـى الفـاقِ‬ ‫قلت للفرقدين واللـيل مُـلْـقٍ‬
‫سهْمِ الـفِـرَاقِ‬ ‫بين شخصيكما ب َ‬ ‫ِابْ َقيَا مَا بقيتمـا سـوف يُرمـى‬
‫وصلحٍ من أمـرِه واتّـفـاق‬ ‫غضَارةِ عَـيْش‬ ‫بينما المرءُ في َ‬
‫ه إلى فاقةٍ وضـيقِ خِـنَـاقِ‬ ‫شدّة الـزمـان فـأدّت‬ ‫عطفتْ ِ‬
‫ن دوامَ البـقـاء لـلـخَـلّق‬ ‫ل يدومُ البقاءُ للـخَـلْـق لَـكِ‬
‫وقال في الرشيد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عصا الدين ممنوعًا من البَرْي عودُها‬ ‫إمامٌ له كـفّ تـضُـ ُم بَـنَـانُـهـا‬
‫سواءٌ عليها ُق ْربُـهـا وبَـعِـيدُهـا‬ ‫وعينٌ محيطٌ بالـبـريّة طَـ ْرفُـهـا‬
‫وقال فيه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ق فهو أمِينُـهـا‬ ‫وَأدَى إليها الح ّ‬ ‫رعى أمة السلم فهو إمامُهـا‬
‫ق أبكارِ الخُطوبِ وعُونُها‬ ‫طوَارِ ُ‬‫َ‬ ‫ث تَ ْلتَـقـي‬ ‫حيْ ُ‬ ‫مقي ٌم بمستنّ الفَلَ َ‬
‫سعَى به إلى الرشيد فخافه‪ ،‬فهرب إلى بلد الروم‪ ،‬وله قصائد‪ ،‬يعتذِ ُر فيها‪ ،‬جيدة مختارةٌ‪ ،‬وهو مشبّه في حسن العتذار‬ ‫وكان منصور النمري َ‬
‫بالنابغة الذبياني‪ ،‬ومن جيّد اعتذاره قوله للرشيد‪ ،‬ويقال‪ :‬بل قالها على لسان عيسى بن موسى الهاشمي يخاطب الرشيد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بهيب ِة إمَا غافِرٍ أو ُمعَـاتـبِ‬ ‫ش ْبتُهُ‬
‫جعلْتُ رجَاء العفوِ عذراً و ُ‬

‫جعـلـتـك حِـصْـنـًا مـن حِـــذَارِ الـــنـــوائبِ‬ ‫وَكـنـتُ إذا مـا خـــفْـــتُ حـــادث نَـــبْـــوة‬
‫ت بوا ٍد منك رَحبَ المشار ِ‬
‫ب‬ ‫فأَنزلَ بي هجرانُك اليأس بعدما حلل ُ‬
‫وآوِي إلــى حـــافـــات أكـــد َر نَـــاضِـــب‬ ‫ب مكانَه‬
‫أظل ومَرعَايَ الجدي ُ‬
‫تنـــوءُ بـــبـــاق مـــن رجـــائك ثــــائب‬ ‫ولـم يثـن عـن نـفـسـي الـردى غــير أنـــهـــا‬
‫ل دون الـــمـــطـــالــــبِ‬ ‫مقـــيّدة المـــا ِ‬ ‫هي الـنـفـسُ مـحـبـوسٌ عـلـــيك رجـــاؤهـــا‬
‫يظـل و ُيمْـسِـي مـسـتـلــين الـــجـــوانـــب‬ ‫وتـحـت ثـياب الـصـبـر مـنـــي ابـــن لَـــوْعةٍ‬

‫‪185‬‬
‫فأقْـلَـعْـنَ عـنـه دامـياتِ الـــمـــخـــالـــب‬ ‫فتـى ظـفـرتْ مـنــه الـــلـــيالـــي بـــزَل ٍة‬
‫بذلّ‪ ،‬وأحـرزتُ الـمـنـى بـــالـــمـــواهـــبِ‬ ‫حنَـانَـيْك إنـي لـــم أكُـــنْ بـــعـــتُ عِـــزّة‬ ‫َ‬
‫عقـــوبة زلّتـــي وســـوء مَـــنـــاقِــــب‬ ‫فقـد سُـمْـتَـنِـي الـهـجـرانَ حـتـى أ َذقْـتَــنـــي‬
‫علـى حَـدّ مـصـقـولِ الـذّنـابـــينِ قـــاضِـــبِ‬ ‫فهـا أنـا مُـقْـصًـى فـي رِضَـــاك‪ ،‬وقـــابـــضٌ‬
‫ل بـين عــينـــي وحـــاجـــبـــي‬ ‫هواك مـثـا ً‬ ‫ومـنـتـزعٌ عـمــا كـــرِهْـــتَ وجـــاعـــلٌ‬
‫وفي هذه القصيدة مما يختار أهل الصناعة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫غريب الكَرى بين الفجَاج السباسِبِ‬ ‫ش َعثَ مشتاق رمَى في جفـونِـه‬ ‫وأَ ْ‬
‫دُجَى الليل حتى مجّ ضوءَ الكوكب‬ ‫ت له ذَيْلَ السُرَى وَهْ َو لبِـسٌ‬ ‫ح ْب ُ‬
‫سَ َ‬
‫ل الذّرى والـغَـوَارب‬ ‫ُأحِلّ لها أ َك ُ‬ ‫ومن فوقِ أكوار المهَارِي لـبـانة‬
‫وطيّ الحشى دونَ الهموم العوازِب‬ ‫وكلّ فتى عاداتُه قَصْـر شَـ ْوقِـه‬
‫سمَعْ به ُأذْنُ صاحبِ‬ ‫صُراخاً‪ ،‬ولم تَ ْ‬ ‫يُسِرّ الهَوَى لم ُي ْبدِه نـعـت فـرقةٍ‬
‫بقيةُ هندي الحسام الـمـضـاربِ‬ ‫إذا ادّرع الليل انْجَـلـى وكـأنـه‬
‫وعَهدَ الليالي في وجو ٍه مَشَـاحـبِ‬ ‫برَكبٍ ترى كَسْر الكرى في جفونهم‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫وذِراعُ ابـــنة الـــفَـــلةِ وســــــادِي‬ ‫لو رأتـنـي بـذي الــمَـــحَـــارَ ِة فَـــرْداً‬
‫ق أثّـــرتْ فـــي فُـــؤَادي‬ ‫حمّة الـشــو ِ‬ ‫ُ‬ ‫أُطـفـئ الـحـزنَ بـالـــدمـــوع إذا مـــا‬
‫ت له قنَا ُة قيَادي‬ ‫خاشع الطرف قد توشّحنى الضز فلنَ ْ‬
‫حُزنَ والـــبـــؤسَ وَافَـــيَا مِـــــيلدِي‬ ‫ب بُؤْسٍ أخا هموم كأنّ ال‬ ‫تِرْ َ‬
‫س مـــن الـــنـــائِرَاتِ والحـــقـــادِ‬ ‫وكـأنـي اسـتـشـعـرت مـا لـفـظ الـنـــا‬
‫ل بـهَـوْجـاءَ فـوقــهـــا أقْـــتَـــادِي‬ ‫أتــصـــدّى الـــ ّردَى وادّرعُ الـــلـــي‬
‫بين سَـ ْرحِـي ومُـنْـحَـــنَـــى أَعْـــوَادِي‬ ‫حَظّ عـينـي مـن الـكـرى خــفـــقـــاتٌ‬
‫نَسُ إل بــوحـــدتـــي وانـــفـــرادي‬ ‫أوْحَـشَ الـنـاسُ جـانــبـــيّ فـــمـــا آ‬
‫س وأبـرزتُ لـــلـــزمـــان سَـــوَادي‬ ‫قد رددت الـذي بـه أتـــقـــي الـــنـــا‬
‫ق شـــآبـــيب مُـــزْنةٍ مِـــرْعَــــادِ‬ ‫فاسـتـهـلَـت عـلـيّ تـمـطـرنـي الـشــو‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫غدوت ومرجوعُ السقامِ قريني؟‬ ‫أمَا راع قَ ْلبَ العامريةِ أنـنـي‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جفُونـي‬ ‫تخلّل مَاءِ الشوق بين ُ‬ ‫أكاتِمُ لَوعاتِ الهَوَى و ُيبِينُـهَـا‬
‫لها نظْرة موصولة بحَـنـينِ‬ ‫ومطووفة النسان في كلّ لوعة‬
‫بنو وهب‪ :‬وقال الحسن بن وهب بن سعيد‪ :‬السريع‪:‬‬
‫أنّ البكَا للوَجْد تـحـلـيلُ‬ ‫ِا ْبكِ فمِنْ أحسن ما في البكَا‬
‫حزن على الخدين محلول‬ ‫وهْو إذا أنت تـأمّـلـتـه‬
‫وقد أعرق بنو وَهْب في الكتابة وأنجبوا‪ ،‬ولهم في هذا الكتاب ما يشهد لهم بما نُسب إليهم‪ ،‬وفيهم يقول الطائي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫فهـو شِـعْـبـي وشِـعـــبُ كـــلّ أَديبِ‬ ‫ب كـنـتــمْ بـــه آلَ وَهْـــبٍ‬ ‫كلّ شِـعْـ ٍ‬
‫إن قلبي لكم لكالكبد الحَرىّ و َقلْبي لغيركم كالقُلُوبِ‬
‫وفي هذه القصيدة يقول في مدح سليمان بن وهب‪:‬‬
‫ب إذا مـــا أتــــــتْ أَبـــــــا أيوبِ‬ ‫ٍ‬ ‫ما عَـلـى الـ ُوسّـج الـرّوَاتِـك مـــن عَـــبْ‬
‫م ول عِـ ْرضُـه مـــنـــاخ الـــعُـــيُوبِ‬ ‫ل ل فِـعـــالُـــه مَـــ ْرتَـــعُ الـــذم‬ ‫حُوّ ٌ‬
‫غيْرِه بالحبيب‬ ‫ن بُرَحَاء الشوقِ وجدانَ َ‬ ‫واجد بالصديق م ْ‬
‫ن منه معنى هذا البيت الخير‪ ،‬فقال في رسالة لبعض إخوانه‪ :‬ظَ ْرفُ الصداقة‪ ،‬أرق من ظرف العلقة‪ ،‬والنفس بالصديق‪ ،‬آنس منها‬ ‫خذَ سليما ُ‬
‫أَ‬
‫بالعشيق‪.‬‬
‫ق من شعْري‪.‬‬ ‫فقال له أبو تمام‪ :‬كلمك هذا أر ّ‬
‫حسَنُ الشعر والبلغة‪ ،‬جيّد اللسان‪ ،‬حلو البيان‪ ،‬وكان يحب بنان جارية محمد بن حمّاد‪ ،‬وله فيها شعر جيد‪ ،‬ولها يقول‪:‬‬ ‫والحسن بن وهب َ‬
‫الطويل‪:‬‬
‫وبي رِعدةٌ أهتزّ منها وأسكـنُ‬ ‫أقول وقد حاولتُ تقبيلَ كفّـهـا‬
‫جبُنُ‬
‫ب إل أنني عنك َأ ْ‬ ‫لدَى الجر ِ‬ ‫س كلّهـم‬ ‫شجَعُ النا ِ‬ ‫ليهنئك أنّي أَ ْ‬
‫وحضرَتْ مجلسه وبين يديه نار فأم َرتْ بإزالتها‪ ،‬فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ك في إبعـادهـا‬ ‫ت ما معنا ِ‬ ‫فعلمْ ُ‬ ‫بأبي كرِهْتِ النارَ حتى أُبـعِـدتْ‬
‫حتِها لـدى إيقـادهـا‬ ‫ب نَفْ َ‬
‫وهبو ِ‬ ‫هي ضَرّة لكِ في ا ْل ِتمَاع ضِيائهـا‬
‫سيَالها وأَراكِـهـا وعَـرَادِهـا‬ ‫بَ‬ ‫وأَرَى صنيعك في القلوب صنيعَها‬

‫‪186‬‬
‫وضِيائها وصَلحِها وفسـادِهـا‬ ‫شَر َك ْتكِ في كل المور ب ِفعْلـهـا‬
‫وإلى هذا ينظر قول المير تميم بن المعزّ‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫رَ بطَوْع‪ ،‬لَكن برَغْم وكُـرْهِ‬ ‫ما هجرتُ المُدامَ والوردَ والبد‬
‫لّ مَنْ هِي‬ ‫قتلتني لم أَحكِ وا ِ‬ ‫منعتني من الثلثة مَـنْ لَـوْ‬
‫جهِي‬ ‫رُضيائي ولونُ خدّي و َو ْ‬ ‫فالت الوردُ والمدامةُ والـبـد‬
‫ش ْبهِـي‬‫ل ولكن بخلت بي وبِ ِ‬ ‫ل بكلّ شيء فقالـت‬ ‫قلت بخ ً‬
‫إنما يقتل المحبّ التشَـهّـي‬ ‫قلت يا ليتني شبي ُهكِ قـالـت‬
‫ولمّا مات الحسن بن وهب ‪ -‬وكان موته بالشام ‪ -‬عُزّي عنه أخوه سليمان‪ ،‬فجاءَ أبو العيناء‪ ،‬فقال‪ :‬أنشدني أبو سعيد الصمعي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بحورانَ َأمْسَى أعل َقتْه الحـبـائلُ‬ ‫لعمري ل ِنعْمَ المرءُ من آل جعفـر‬
‫وعِلماً أصيلً خالفتْه المجَـاهِـل‬ ‫لقد فقدوا عَزْماً وحزْمـاً وسـؤدداً‬
‫فما في حياتي بعد مَ ْوتِك طـائلُ‬ ‫شتَ لم أملل حياتي وإن تمت‬ ‫فإن عِ ْ‬
‫فقال سليمان‪ :‬أحسن ال جزاءك‪ ،‬ووصل إخاءَك‪ ،‬إن هذا لمن أحسن الشعر‪ ،‬وقد تمثّل به قتيبة حين بلغه موتُ الحجاج‪ ،‬ولكني أقول كما قال‬
‫كعب بن سعد الغنَوِي يرثي أخاه أبا المغوار‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ول َو َرعُ عند الـلـقـاء هَـيُوبُ‬ ‫ش عند بَـ ْيتِـه‬ ‫أخِي ما أخي ل فاحِ ٌ‬
‫حبَى الشيب‪ ،‬للنفس اللّجُوج غَلُوبُ‬ ‫ُ‬ ‫حليم إذا ما سَوْرة الجهل أطلقَـتْ‬
‫جميل المحيّا شـب وهْـو أرِيبُ‬ ‫حبيب إلى الزوار غِشْـيَانُ بـيتِـه‬
‫فلم تُنطَق العَوْرَاءُ وهْـ َو قـريبُ‬ ‫إذا ما تراه الرجالُ تـحـفـظُـوا‬
‫فانصرف الناس يعجبون من علم سليمان‪ ،‬وحسن جوابه‪ ،‬وصحّة تمثله‪.‬‬
‫عبْس بن بَغيض‪ ،‬يقولها‬ ‫والبيات التي أنشدها الصمعي للحطيئة‪ ،‬واسمه جَرْوَل بن أَوْس بن جُ َؤيّة بن مخزوم بن مالك بن غالب‪ .‬بن قطيفة بن َ‬
‫في علقمة بن عُلَثة وفيها يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل قلئلُ‬ ‫وبين ال ِغنَى إلّ ليا ِ‬ ‫فما كان بيني لو لَقِي ُتكَ سالماً‬
‫جفَانَا من أجلها الخوان‪ ،‬أنصفنا ابن أبي دُوَاد بتطوّله‪ ،‬وكفانا الحاجةَ إليهم بتفضله‪ ،‬فكنّا‬ ‫قال سليمان بن وهب‪ :‬لما جار علينا بالنكبة السلطان‪ ،‬و َ‬
‫وإياه كما قال الحطيئة‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حمَـدُ‬‫إذ ل يكادُ أخو جوار يُ ْ‬ ‫حمِدتُـهـم‬‫جاورتُ آل مقََلدٍ ف َ‬
‫ن يُ ِردِ الزهاد َة يَزْ َهدُ‬
‫فينا‪ ،‬ومَ ْ‬ ‫طنِعْ‬ ‫أيام مَن يُ ِر ِد الصنيعَة َيصْ َ‬
‫وله فصل إلى بعض إخوانه‪ :‬لك أن تعتب‪ ،‬وشبيهك أن يعذر‪ ،‬فهَبْ أقل المرين لكثرهما‪ ،‬وقدم فضلك على حقّك‪ ،‬ويقينك على شكّك‪.‬‬
‫جزْلَ اللفاظ‪ ،‬ليس بالهذرِ في لفظه‪ ،‬ول المظلم في مقصده؛ معناه إلى القلم أسْرَع من لَ ْفظِه‬ ‫ل بليغاً فقال‪ :‬كان والقَهِ واسعَ المنطق‪َ ،‬‬ ‫ووصف رج ً‬
‫سمْع‪.‬‬
‫إلى ال ّ‬
‫وهذا ضد قول محمد بن عبد الملك الزيات في عبيد ال بن يحيى بن خاقان‪ :‬هو مهزول اللفاظ‪ ،‬غليظ المعاني‪ ،‬سخيفُ العقل‪ ،‬ضعيف العقدة‪،‬‬
‫واهِي العَزْم‪ ،‬مأفونُ الرأي‪.‬‬
‫ألفاظ لهل العصر‬
‫في ذمّ ال ِكتَابِ وال ُكتّابِ والنثر والشعر‬
‫سعْي‬ ‫ع الكتابة‪ ،‬قاصِر َ‬ ‫ن من كلمه‪ ،‬والعِي أبل ُغ من بيانه‪ ،‬خاطره َي ْنبُو‪ ،‬وقلمه َي ْكبُو‪ ،‬ويسهو ويغلط‪ ،‬ويخطئ ويُسِقط‪ .‬هو قصير با ِ‬ ‫خرَسُ أحس ُ‬ ‫ال َ‬
‫ق بها من‬ ‫الخطابة‪ ،‬وكُتبه مضطربة اللفاظ‪ ،‬متفاوتة البعاضِ‪ ،‬منتشرة الوضاع‪ ،‬متباينة الغراض‪ .‬الجلمُ أولى بكفه من القَلم‪ ،‬والطَاس ألي ُ‬
‫ظ َت ْنبُو عنها الذان فتمجّها‪ ،‬وتنكرها الطباع فتزُجّها‪ .‬كلم ل يَ ْرفَعُ‬ ‫القرطاس‪ .‬كل ٌم تنبو عن قبوله الطباع‪ ،‬وتتجافَى عن استماعه السماع‪ .‬ألفا ٌ‬
‫صدِي الرّيان‪ ،‬ويصدئ الفهام والذهان‪ .‬كلم قد تعمّل فيه حتى تبذل‪ ،‬وتكلّف حتى تعسّف‪ .‬طبع‬ ‫الطبعُ له حِجاباً‪ ،‬ول يفتحُ السمعُ له باباً‪ .‬كلم يُ ْ‬
‫سهْم‪ ،‬ول الفكرة جالت فيه ب ِقدْح‪ .‬كلم تتعثّرُ‬ ‫ت فيه ب َ‬ ‫سمْع‪ ،‬ول وصول له مع خلو ذَرْع‪ .‬كلم ل الرويّة ضربَ ْ‬ ‫جاسٍ‪ ،‬ولفظ قاسٍ‪ ،‬ل مساغَ له في َ‬
‫س َتعَا ُر من الدياجي‪ ،‬ومعانٍ‬ ‫في حزونته‪ ،‬وتتحيّر الفها ُم من وعُورته‪ .‬كلمات ضعيف ُة التقان‪ ،‬قليلة العيان‪ ،‬مضمحلّة على المتحان‪ .‬ألفاظ تُ ْ‬
‫تقدر من الثافي‪ .‬كلم بمثْلِه يتسلّى الخرس عن كلمه‪ ،‬ويفرح الصم بصممه‪ ،‬أثقل من الجندل‪ ،‬وأم ّر من الحنظل‪ ،‬هو هذيان المحموم‪،‬‬
‫غثّ‪ ،‬ل طائل فيهما‪ ،‬ول طلوة عليهما‪ .‬أبيات ليست من محكم الشعر وحكمه‪ ،‬ول من أحجال الكلم‬ ‫وسوداء الهموم‪ .‬كلم رثّ‪ ،‬ومعنًى َ‬
‫شعْرة ول سقى‬ ‫صبْغة بغيض الصفة وقد جمع بين إقواء وإيطاء‪ ،‬وإبطاء وإخطاء‪ .‬ما قطع في شعره َ‬ ‫وغُرَره‪ .‬شعر ضعيف الصنعة رديء ال ّ‬
‫قطرة‪ .‬لو شعر بالنقص ما شَعر‪ .‬ل يميز بين خبيثِ القول وطيّبه‪ ،‬ول يَفْرِق بين ِبكْرِه و َثيّبه‪ .‬هو باردُ العبارة‪ ،‬ثقيل الستعارة‪ .‬هو من بين‬
‫سرْده‪ ،‬وخطٌ مضطرب الحروف‪ ،‬متضاعف التضعيف‬ ‫الشعراء منبوذ بالعَرَاء‪ .‬لم يلبَسْ شعرُه حلّة الطلوة‪ .‬له شعر ل يطيب دَرْسه‪ ،‬ول يخفّ َ‬
‫صدْر‪ .‬خطّ منحطّ‪ ،‬كأنه أرجل البطّ‪ ،‬وأنامل السرطان‪ ،‬على الحِيطان‪ .‬قلمه ل يستجيب بَرْيه‪ ،‬ومداده ل‬ ‫شحِي ال ّ‬ ‫ط يُ ْقذِي العين ويُ ْ‬
‫والتحريف‪ .‬خ ّ‬
‫يساعد جَرْيه‪ .‬قلمه كالولد العاقّ‪ ،‬والخ المشاق‪ ،‬إذا أدَ ْرتَه استطال‪ ،‬وإذا قوّمته مال‪ ،‬وإذا بع ْثتَه وقف‪ ،‬وإذا وقفته انحرف‪ .‬قلم مائل الشق‪،‬‬
‫مضطرب المشق‪ ،‬متفاوت البَرْي‪ ،‬معدوم الْجَرْي‪ ،‬محرّف القطّ‪ .‬قلم لم يُقَلّم ظفره فهو‪ ،‬يخدش القِرطاس‪ ،‬وينقش النقاس‪ ،‬ويأخذ بالنفاس‪ .‬قلم‬
‫جرْيه‪ ،‬واقتط َع تفاوت َقطّه‪ ،‬عن تجويد خطه‪.‬‬ ‫ب بَ ْريِه‪ ،‬دون استمرار‪َ ،‬‬
‫ل ُيبْعث إذا بعثته‪ ،‬ول يقف إذا وقفته‪ .‬قد وقف اضطرا ُ‬
‫خير الكلم‬
‫ق من الهواء‪ ،‬وأعذب من الماءِ‪ ،‬مرق من أفواههم مُروقَ السهام من قِسيها‪،‬‬ ‫ذكر عُتبة بن أبي سفيان كلمَ العرب فقال‪ :‬إن للعرب كلماً هو أر ّ‬
‫ن فُسّرت بغيرها عطِلتْ‪ ،‬وإن بدلت بسوَاها من الكلم استصعبَتْ؛ فسهولةُ ألفاظِهم تو ِهمُك أنها ممكنة إذا سمعت‪،‬‬ ‫بكلمات مؤتلفات‪ ،‬إ ْ‬
‫ل نوع من معناه ُمبَاينٌ لما‬ ‫وصعوبتها تعلمك أنها مفقودة إذا طُلِبتْ‪ .‬هم اللطيف فهمهم‪ ،‬الناف ُع علمهم‪ ،‬بلغتهم نزلِ القرآن‪ ،‬وبها يد َركُ البيان‪ ،‬وك ّ‬
‫سواه‪ ،‬والناسُ إلى قولهم يصيرون‪ ،‬وبهداهم يأتمّون‪ ،‬أكثر الناسِ أحلماً‪ ،‬وأكرمهُم أخلقاً‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫طمِع الممتنع‪.‬‬ ‫وكان يقال‪ :‬خير الكلم المُ ْ‬
‫وأنشد إبراهي ُم بنُ العباس الصّولي لخاله العباس بن الحنف‪ :‬السريع‪:‬‬
‫مِنْ ص ّد هذا العاتِب ال ُم ْذنِبِ‬ ‫حلّ بـي‬ ‫إليك أشكو ربّ ما َ‬
‫يبذلْ‪ ،‬وإن عُوتب لم ُي ْعتِـبِ‬ ‫إنْ قال لَمْ يفعل‪ ،‬وإنْ سِيلَ لم‬
‫ل تشربِ الباردَ لم أشـربِ‬ ‫صبّ بعصياني‪ ،‬ولو قال لي‬
‫ثم قال‪ :‬هذا وال الشعر الحسن المعنى‪ ،‬السهل اللفظ‪ ،‬العَذْب المستمع‪ ،‬الصعب الممتنع‪ ،‬العزيز النظير‪ ،‬القليل الشبيه‪ ،‬البعيد مع ُقرْبه‪ ،‬الحَزْن‬
‫مع سهولته‪ ،‬فجعل الناس يقولون‪ :‬هذا الكلم أحسن من الشعر‪.‬‬
‫وقال أبو العباس الناشئ يصف شعرهُ‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫في حُسْن صنعته وفي تألـيفـهِ‬ ‫يتحيّر الشعراء إن سمعـوا بـه‬
‫ونكولهم في العَجْ ِز عن ترصيفه‬ ‫فكأنه في قُرْبه من َفهْـمِـهـم‬
‫جنَى مقطوفِه‬ ‫ؤ َنأَى عن اليدي َ‬ ‫شج ٌر بَدَا لل َعيْنِ حسْنُ نـبـاتِـه‬
‫وقرنت ُه بغَـرِيبـه وطـريفـه‬ ‫فإذا قرنت أبـيّه بـمُـطِـيعِـهِ‬

‫والنظم منه جلـيّه بـلـطِـيفـ ِه‬ ‫ألفيت معناه يطـابـق لَـفْـظَـه‬


‫قد نِيط منه رَزينـه بـخـفـيفـه‬ ‫فأتاه متّسقـاً عـلـى إحـسـانـه‬
‫ومنعت صرفَ الدهر عن تَصْرِيفه‬ ‫هذبتُه فجـعـلـتُـه لـك بـاقـياً‬
‫وقال الناشئ في فَصْل من كتابه في الشعر‪ :‬الشع ُر َقيْد الكلم‪ ،‬وعقل الداب‪ ،‬وسُورُ البلغة‪ ،‬ومعدن البَراعة‪ ،‬ومجال الجنان‪ ،‬ومسرحُ البيانِ‪،‬‬
‫عدّة الراهب‪ ،‬ورحلة الدَاني‪ ،‬ودَوْحَة المتمثل‪،‬‬ ‫ح ْرمَة الديب‪ ،‬وعِصْمة الهارب‪ ،‬و َ‬ ‫وذريعة المتوسّل‪ ،‬ووسيلةُ المتوصل‪ ،‬وذِمام الغريب‪ ،‬و ُ‬
‫وروحة المتحمل‪ ،‬وحاكم العراب‪ ،‬وشا ِهدُ الصواب‪.‬‬
‫وقال في هذا الكتاب‪ :‬الشعرُ ما كان سَهلَ المطالع‪ ،‬فصل المقاطع‪ ،‬فَحْل المديح‪ ،‬جَزْل الفتخار‪ ،‬شجِيَ النسيب‪ ،‬فكِه الغزل‪ ،‬سائر ال َمثَل‪ ،‬سليم‬
‫طمِع المسالك‪ ،‬فائت المدارك‪ ،‬قريب البيان‪ ،‬بعي َد المعاني‪ ،‬نَائي الغوار‪،‬‬ ‫الزلل‪ ،‬عديم الخلل‪ ،‬رائع الهجاء‪ ،‬موجب المعذرة‪ ،‬مُحَب المعتبة‪ ،‬مُ ْ‬
‫ق فيه ماءُ الفصاحة‪ ،‬وأَضاء له نورَ الزجاجة‪ ،‬فانهل في صادي الفهم‪ ،‬وأضاء في بهيمِ الرأي‪ .‬لمتأمله‬ ‫ضاحي القرار‪ ،‬نقي المستشف‪ ،‬قد ُهرِي َ‬
‫ترقرق‪ ،‬ولمستشفّه تألّق‪ ،‬يروق المتوسم‪ ،‬ويسر المترسم؛ قد أبدت صدوره ُمتُونه‪ ،‬وزَ َهتْ في وجوهه عيونه‪ ،‬وانقادت كواهله لهواديه‪،‬‬
‫شبَه الروضَ في َوشْي ألوانِه‪ ،‬وتعقم أفنانه‪ ،‬وإشراق‬ ‫وطابقت ألفاظه معانيه‪ ،‬وخالفت أجناسه مبانيه‪ ،‬فاطّرد لمتصفحه‪ ،‬وأنار‪ ،‬لمستوضحه‪ ،‬وا ْ‬
‫نوَاره‪ ،‬وابتهاج أنجاده بأغواره؛ وأشبه الوشي في اتفاق رُقومِه‪ ،‬واتساقِ رُسومه‪ ،‬وتسطير كفوفه‪ ،‬وتحبير كفُوفه؛ وحكى ال ِعقْد في التئام‬
‫شذْرِه‪ ،‬فلو اكتنف اليجاز موارده‪ ،‬وصقَلَت َمدَاوِس الدربة مَناصله‪ ،‬وشحذت مدارس‬ ‫فُصوله‪ ،‬وانتظام وُصوله‪ ،‬وازديَان ياقوته بدُره‪ ،‬وفريده ب َ‬
‫حكْمته‪.‬‬
‫الدب َفيَاصِله‪ ،‬جاء سليمًا من المعايب‪ ،‬مهذبًا من الَدناس‪ ،‬تتحاشاه الُبن‪ ،‬وتتحَامَاه الهُجَن‪ ،‬مُهدِياً إلى السماع َبهْجَته‪ ،‬وإلى العقول ِ‬
‫ل جعلته مثلً لقائليه‪ ،‬وأسلوباً لسالكيه‪ ،‬وهو‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وقد قلت في الشعر قو ً‬
‫ت بالتهذيب أَسْ َر ُمتُونِـه‬ ‫وشددْ َ‬ ‫الشعرُ ما قوّمت َزيْغ صـدُورِه‬
‫عيُونـه‬ ‫حتَ باليجاز غور ُ‬ ‫وفت ْ‬ ‫شعْبَ صدُوعِه‬ ‫ورَأبتَ بالِطناب َ‬
‫ووصَ ْلتَ بين مجمّه و َمعِـينـه‬ ‫ت بين قريبـه وبـعـيدِهِ‬ ‫وج َمعْ َ‬
‫شبهًا به فق َر ْنتَـه بـقـرِينـهِ‬ ‫وعقدت منه لكلّ أمر يقتضـي‬
‫َأجْرَيتَ للمحزون ماءَ شؤُونـه‬ ‫فإذا بكيت به الديارَ وأهلَـهـا‬
‫دهرًا فلم يَسْر الكَرَى بجفونِـه‬ ‫ووكلته بهمومه وغـمـومـه‬
‫و َقضَيتَه بالشُكر حـق دُيونـه‬ ‫ت به جوادًا مـاجـداً‬ ‫ح َ‬ ‫وإذا مدَ ْ‬
‫ومنحتَه بخطـيره وثـمـينـه‬ ‫أصفيته بنفـيسِـه ورَصـينـه‬
‫ويكون سَهلً في اتّسَاق فُنونِه‬ ‫فيكون جَ ْزلً في اتّفاق صنُوفِهِ‬
‫ت بين ظهورِه وبُطـونِـه‬ ‫باينْ َ‬ ‫ت كنايةً عـبـئ رِيبةٍ‬ ‫وإذا أرد َ‬
‫ببيانِه وظنـونـه بـيقـينـه‬ ‫فجعلت سامعَه يشوب شكوكـهُ‬
‫ت شدّته له فـي لِـينـه‬ ‫أدمَجْ َ‬ ‫وإذا عتبتَ علـى أخ فـي َزلَةٍ‬
‫مستيئساً لوُعُوثِـهِ وحُـزُونِـهِ‬ ‫فتركته مستـأنِـسـاً لـدمـاثةٍ‬
‫إن صا َرمَتك بفاتنات شـئونـه‬ ‫وإذا نبذت إلى التي عُلّقـتـهـا‬
‫وشغ ْفتَهما بخفّي ِه وكـمـينـه‬ ‫تيّمتها بلـطـيفـه ورقـيقـه‬
‫ت بين مُحِيله ومُبـينـه‬ ‫شكْ َ‬‫وَا َ‬ ‫وإذا اعتذرتَ إلى أخ فـي زلّةٍ‬
‫عتْبًا عليك مُطَالبًا بـيمـينـه‬ ‫َ‬ ‫َفيَحُو ُر َذ ْنبُك عند مـن يعـتـدّه‬
‫ما ليس يحسن منه في مَوْزُونِه‬ ‫حسُنُ منه في مَنثـوره‬ ‫ل يَ ْ‬
‫والقو ُ‬
‫وقال الخليل بن أحمد‪ :‬الشعراءُ أمراءُ الكلم‪ ،‬يصرفونه أنّى شاءوا؛ وجائز لهم ما ل يجوزُ لغيرهم‪ ،‬من إطلق المعنى وتقييده‪ ،‬ومن تصريف‬
‫اللَفظ وتعقيده‪ ،‬ومد مقصوره‪ ،‬وقَصْ ِر ممدوده‪ ،‬والجمع بين لغاتِه‪ ،‬والتفريق بين صفاته‪.‬‬
‫غيْرُ محظور‪ ،‬ومشترك غير محصور‪ ،‬إل أنه في العرب جَوْهري‪ ،‬وفي‬ ‫حلْية اللسان‪ ،‬و َمدْرَجَة البيان‪ ،‬ونظامُ الكلم‪ ،‬مقسوم َ‬ ‫وقال‪ :‬الشعرُ ِ‬
‫العجم صناعي‪.‬‬
‫قال أعرابي لشاعر من أبناء فارس‪ :‬الشعرُ للعرب‪ ،‬فكل مَنْ يقول الشعر منكم فإنما نزا على ُأمّه رجل منا! فقال الفارسي‪ :‬وكذلك من ل يقولُ‬

‫‪188‬‬
‫الشعرَ منكم‪ ،‬فإنما نزا على أمه رجل منا!‪.‬‬
‫وقال عمارة بن عقيل‪ :‬أجود الشعر ما كان َأمْلَس المتون‪ ،‬كثي َر العيون‪ ،‬ل يمجّه السمع‪ ،‬ول يستأذِنُ على القلب وأُنشد الجاحظ شعرَ أَبي العتاهية‬
‫س المتون‪ ،‬ليس له عيونٌ‪ ،‬كأنه وعُمارة تجاذبا كلماً واحداً‪.‬‬ ‫فلم يَ ْرضَه‪ ،‬وقال‪ :‬هو أمَل ُ‬
‫حتِد‪ ،‬الكثير‬ ‫وقال ابن عقيل‪ :‬الشع ُر بضاعة من بضائِع العرب‪ ،‬ودليل مِنْ أدلَة الدب‪ ،‬وأثارة من أثارات الحسب‪ .‬ولن يهزّ الشعرُ إل الكريمَ المَ ْ‬
‫السؤدد‪ ،‬الكلِف بذِكْرِ اليومِ وا ْلغَد‪.‬‬
‫حرّ‪،‬‬‫جدْ في َمدْحه‪ .‬فقال‪ :‬ل وال‪ ،‬لقد مدَحْته بشعرٍ لو قلت مثلَه في الدهر لما خيف صَ ْرفُه على ُ‬ ‫ومدح بشار المهدي فلم يُعطِه شيئاً‪ ،‬فقيل له‪ :‬لم تُ ِ‬
‫ولكني ُأ ْكذِبُ في العمل‪ ،‬فُأ ْكذِبُ في المل‪.‬‬
‫نظمه الناجم فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫و َمدْح حين أنشده طـريفُ‬ ‫ل بَـعِـيد‬‫ولي في أحمدٍ أَم ٌ‬
‫لما دارت عليّ لها صروفُ‬ ‫مدائح لو مدَحْت بها الليالـي‬
‫قال هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان‪ :‬صفْ لي جريراً والفرزدق والخطل‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أَما أعظمهم فَخْراً‪ ،‬وأبعدُهم ذكراً‪،‬‬
‫وأحسنهم عذراً‪ ،‬وأسيَرُهم َمثَلً‪ ،‬وأقلّهم غزلً‪ ،‬وأحلهم عِللً‪ ،‬البحر الطامي إذا زَخَر‪ ،‬والحامي إذا ذعر‪ ،‬والسامي إذا خطر‪ ،‬الذي إذا هدر‬
‫حهُ ْم بيتاً‪ ،‬وأقلّهم فَوْتاً‪ ،‬الذي إن هجا وضع‪ ،‬وإن مدح‬ ‫جال‪ ،‬وإذا خطر صال‪ ،‬الفصيح اللسان‪ ،‬الطويل العنان‪ ،‬فالفردزق‪ .‬وأما أحسنهم َنعْتاً‪ ،‬وأمدَ ُ‬
‫َرفَع‪ ،‬فالخطل‪ .‬وأما أَغْزَرُهم بحراً‪ ،‬وأَرقُهم شعراً‪ ،‬وأكثرهم ذِكراً‪ ،‬الغر البلق‪ ،‬الذي إن طَلب لم يُسْبق‪ ،‬وإن طُلب لم يُلْحَق‪ ،‬فجرير‪ .‬وكلُهم‬
‫ذكيُ الفؤادِ‪ ،‬رفيع العماد‪ ،‬وَارِي الزناد‪.‬‬
‫قال مسلمة بن عبد الملك‪ ،‬وكان حاضراً‪ :‬ما سمعنا يا ابن صفوان في الولين ول في الخرين‪ ،‬أَشهدُ أنك أحسنهُم وصفاً‪ ،‬وأَلْي ُنهُم عِطفاً‪ ،‬وأخفُهم‬
‫ل أيها المير ‪ -‬ما علمت ‪ -‬كريمُ الغِراس‪ ،‬عالمٌ بالناس‪ ،‬جوادٌ في‬ ‫مقالً‪ ،‬وأكرمهم فعالً‪ .‬فقال خالد‪ :‬أت ّم ال عليك ِنعَمه‪ ،‬وأجزل لك قِسَمه‪ .‬أنتَ وا ّ‬
‫المَحْلِ‪ ،‬بسّام عند البَذْلِ‪ ،‬حليم عند الطيْشِ‪ ،‬في الذّرْوَة من قريش‪ ،‬من أشراف عبد شمس‪ ،‬ويومك خي ٌر من المس‪.‬‬
‫ت منهم‪.‬‬ ‫فضحِك هشام وقال‪ :‬ما رأيت مثلك يا ابن صفوان لتخلّصك في َمدْح هؤلء‪ ،‬ووصفهم‪ ،‬حتى أرضيتهم جميعاً وسَِلمْ َ‬
‫حسِن الهجاء‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬مَنْ قَدر على تشييد البنية‪ ،‬أمكنه خَرابُ‬ ‫ودخل العجّاج على عبدِ الملك بن مروان فقال له‪ :‬بلغني أنك ل تُ ْ‬
‫ن نَظلم‪ ،‬قال‪َ :‬لكَلِماتُك أحسنُ من شعرك! فما العزُ الذي‬ ‫الخبية‪ ،‬قال‪ :‬ما يمنعُك من ذلك؟ قال‪ :‬إنّ لنا عِزّا يمن ُعنَا من أن نُظْلَم‪ ،‬وحِلْمًا يمنعنا من أ ْ‬
‫يمنعك أن تظلم‪ .‬قال‪ :‬الدب البارع‪ ،‬والفهْم الناصع‪ .‬قال‪ :‬فما الحِلمُ الذي يمنعُك من أن تظلم؟ قال‪ :‬الدب المستطرف‪ ،‬والطبع التالد‪ ،‬قال‪ :‬لقد‬
‫جيّ أمي ِر المؤمنين؟‪.‬‬ ‫أصبحت حكيماً‪ .‬قال‪ :‬وما يمنعني من ذلك وأنا نَ ِ‬
‫قال أبو إسحاق‪ :‬وليس كما قال العجاج‪ ،‬بل لكثير من الشعراء طباع َتنْبُو عن الهجاء كالطائي وأضْرابه‪ ،‬وأصحابُ المطبوع أقد ُر عليه من أهل‬
‫ت من َيدِ متناولها‪ ،‬وكانَ واسِع العطن‪ ،‬كثير الفطن‪ ،‬قريب القلب من‬ ‫جرَتْ على سجيّةِ قائلها‪ ،‬وقرب ْ‬ ‫المصنوع‪ ،‬إذ كان الهجو كالنادرة التي إذا َ‬
‫اللسان‪ ،‬التهبت بنارِ الحسان‪.‬‬
‫ومما َينْحُو هذا النحو من مقامات أبي الفتح السكندري إنشاء بديع الزمان قال‪ :‬حدّثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬طرح ْتنِي النوَى مطا ِرحَها‪ ،‬حتى إذا‬
‫ت فيها َيدَ ال ِعمَارة‪ ،‬وأموالٍ وقفتها على التجارة‪ ،‬وحانوتٍ جعلته مَثابةُ‪ ،‬ورُفقة‬ ‫لقْصَى‪ ،‬فاستظهرْتُ على اليام بضِياعٍ أَجَل ُ‬ ‫طئْتُ جُرْجان ا َ‬ ‫وِ‬
‫شيَتي النهار‪ ،‬والحانوتِ ما بينهما‪ ،‬فجلسنا يومًا نتذاكرُ الشعر والشعراء‪ ،‬وتلقانَا شاب قد جلس غير بعيد‪،‬‬ ‫اتخذتهم صَحَابة‪ ،‬وجعلتُ للدار حا ِ‬
‫جذَيله‪ ،‬ولو شئْتُ‬ ‫عذَيقهُ ووافيتم ُ‬ ‫جدَل فينا ذَيله‪ ،‬قال‪ :‬أصبتم ُ‬ ‫ُينْصِت وكأنه يفهم‪ ،‬ويسكت وكأنه ل يعلم‪ ،‬حتى إذا مال الكل ُم بنا َميْله‪ ،‬وجَرً ال َ‬
‫سمِعُ الصم‪ ،‬و ُينْزِل العُصم‪ .‬فقلت‪ :‬يا فاضل‪ُ ،‬ادْنُ فقد م ّنيْتَ‪ ،‬وهات فقد‬ ‫ن يُ ْ‬
‫للفظت فأفَضت‪ ،‬ولو أردت لسردت‪ ،‬ولجلوت الحقّ في معرض بيا ٍ‬
‫عجِبكم‪.‬‬ ‫جبْكم‪ ،‬واستمعوا أُ ْ‬ ‫سلُوني أُ ِ‬
‫أثنيت‪ ،‬فدنا وقال‪َ :‬‬
‫غتَدى والطيرُ في ُو ُكنَاتها‪ ،‬ووصف الخيلَ بصفاتها‪ ،‬ولم يقل‬ ‫قلنا‪ :‬فما تقول في امرئ القيس؟ قال‪ :‬هو أول مَن َو َقفَ بالديار وعَرصاتِها‪ ،‬وا ْ‬
‫جدِ القول راغباً‪ ،‬ففَضل من تفتًقَ لِلْحِيلة لسانُه‪ ،‬وانتجَعَ للرغبة بنانُه‪.‬‬ ‫الشعرَ كاسِباً‪ ،‬ولم يُ ِ‬
‫حنِق‪ ،‬ويمدح إذا رَغِب‪ ،‬ويعتذر إذا رَهِب‪ ،‬فل يرمي إل صائباً‪.‬‬ ‫عشِق‪ ،‬و َيثْلُبُ إذا َ‬ ‫قلنا‪ :‬وما تقول في النابغة؟ قال‪ :‬ينسب إذا َ‬
‫عتَاق خزائنه‪.‬‬ ‫قلنا‪ :‬فما تقول في طَرَفة؟ قال‪ :‬هو ماءُ الشعار وطينتها‪ ،‬وكَنز القوافي ومدينتها‪ ،‬مات ولم تظهر أَسرارُ دفائنه‪ ،‬ولم تطلق ِ‬
‫قلنا‪ :‬فما تقول في زهير؟ قال‪ :‬يُذيب الشعرَ والشعرُ يذيبه‪ ،‬ويدعو القَوْل والسّحْ ُر يُجِيبه‪.‬‬
‫سبَق؟ قال‪ :‬جرير أرقّ شعراً‪ ،‬وأَغْزَر غزراً‪ ،‬والفرزدق أمتَنُ صخراً‪ ،‬وأكثر فخراً‪ ،‬وجرير أَوجَع‬ ‫قلنا‪ :‬فما تقول‪ ،‬في جرير والفرزدق‪ .‬وأيهما أ ْ‬
‫هَجْواً‪ ،‬وأشرف يوماً‪ ،‬والفرزدق أكثر رَوْماً‪ ،‬وأكثر قوماً‪ ،‬وجرير إذا نَسب أَشْجَى‪ ،‬وإذا ثَلَب أَرْدى‪ ،‬وإذا مدح أسنى‪ ،‬والفرزدق إذا افتخر‬
‫أَجْزى‪ ،‬وإذا وصف أوفى‪ ،‬وإذا احتقر أزْرى‪.‬‬
‫صنْعاً‪،‬‬
‫قلنا‪ :‬فما تقول في المحدَثين من الشعراء والمتقدّمين منهم؟ قال‪ :‬المتقدمون أشرفُ لفظاً‪ ،‬وأكثرُ في المعاني حظاً‪ ،‬والمتأخرون ألطفُ ُ‬
‫وأرق نَسْجاً‪.‬‬
‫خذْهما في معرض واحد‪ ،‬أنشد‪ :‬الرجز‪:‬‬ ‫ت من أخبارك‪ ،‬قال‪ُ :‬‬ ‫ت من أشعاركِ‪ ،‬ور َو ْي َ‬ ‫قلنا‪ :‬فلو أري َ‬
‫ض ّر أمْرًا إمْـرَا‬‫مُ ْلتَحِفاً في ال ُ‬ ‫أمَا تَرَ ْونِي أَتغشـى طِـمْـرا‬
‫ملقياً منها صروفاً حُـمْـرا‬ ‫ُمنْطَوياً عَلَى الليالـي غِـمْـرا‬
‫عنِينَا بالمـانـي دَهْـرَا‬ ‫فقد ُ‬ ‫شعْـرَى‬ ‫طلُوعُ ال َ‬ ‫أقصى أمانِيَ ُ‬
‫وماءُ هذا الوجهِ أغْلَى سِعـرَا‬ ‫وكان هذا الحرُ أعلـى قَـدْرا‬
‫ن كِسْـرَى‬ ‫في دَا ِر دَارَا وإوا ِ‬ ‫ضربت للسرْو ِقبَاباً خُـضْـ َراً‬
‫ش عندي نُكْرَا‬ ‫عرْفُ ال َعيْ ِ‬ ‫وعاد ُ‬ ‫فانقلبَ الده ُر لبَطْنِ ظَـهْـرا‬
‫ثمّ إلى الـيوم هـلـمّ جَـرّا‬ ‫قٍ مِنْ َوفْـ ِريَ إلّ ِذكْـرَا‬ ‫لم ُيبْ ِ‬
‫ل بُـصْـرَى‬ ‫خ دُونَ جبا ِ‬ ‫وأفْر ٌ‬ ‫لول عجُوزٌ لي بُسـ ّر مَـنْ را‬
‫صبْـرَا‬ ‫قتَلْتُ‪ ،‬يا سادةُ‪ ،‬نَفْسِي َ‬ ‫ب الدّهرُ إلـيهـم شـرّا‬ ‫قد جَلَ َ‬

‫‪189‬‬
‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فنُ ْلتُه ما تَاحَ‪ ،‬وأعرض عنّا فَراحَ‪ ،‬وجعلتُ أنفيه وأثبته‪ ،‬وأُنكِره وكأني أعرفهُ‪ ،‬ثم دلّتني عليه ثناياه‪ ،‬فقلت‪ :‬السكندري‬
‫خصْرِه‪ ،‬وقلت‪ :‬اْلستَ أبا الفتح‪ .‬ألم تكُنْ فينا وَليداً‪ ،‬ولبثْتَ فينا من‬ ‫والٍ؛ فلقد كان فارقَنا خِشفاً‪ ،‬ووافانا جِلْفاً‪ ،‬ونهضتُ على إثْرِه‪ ،‬ثم قبضتُ عَلَى َ‬
‫عمْرك سنين؟ فأَيُ عجوز لكَ بس ّر مَنْ رأى؟ فضحك وقال‪ :‬مخلع البسيط‪:‬‬ ‫ُ‬
‫فل يغ ّرنّـك الـغُـرورُ‬ ‫ويحك هذا الزمـان زُورُ‬
‫ق لمن تَزُورُ‬ ‫واسرقْ وطَ ْلبِ ْ‬ ‫غرّق وبَرّق وكلْ وطرّقْ‬
‫دُرْ لليالي كـمـا تَـدُورُ‬ ‫ل تلتـزم حـالة ولـكـن‬
‫ومن إنشائه مقامة ولدها على لسان عِصْمة وذي الرمة قال‪ :‬حدّثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬بينا نحن في مجتمع لنا ومعنا يومئذ رجلُ العرب حِفْظاً‬
‫صمُه احتقاراً‪ ،‬حتى ذكر الصَّلتَان‬ ‫خ ْ‬‫صمِه حِلْماً‪ ،‬أو أعرض عنه َ‬ ‫صمَة بن َبدْر ال َفزَارِي‪ ،‬فَأفْضى الكلمُ إلى ذِك ِر مَنْ أعرضَ عن خَ ْ‬ ‫ورِوَاية ع ْ‬
‫ال َعبْدِي واللعِين المنقري‪ ،‬وما كان من احتقار جرير والفرزدق لهما‪ .‬فقال عصمة‪ :‬سأحدّثكم بما شاهدته عيني‪ ،‬ول أحدّثكم عن غيري‪ :‬بينا أنا‬
‫جعْد الّلغَام‪ ،‬فاجتاز بي رافعاً صَ ْوتَه بالسلم‪ .‬فقلت‪ :‬مَنِ الراكبُ‬ ‫ل نجيبة‪ ،‬وقائداً جَنيبة‪ ،‬عنّ لي راكب على أ ْورَقَ َ‬ ‫أسيرُ في بلد تميم مرتح ً‬
‫حبَ وَادِيك‪،‬‬ ‫سبُه‪ ،‬الشهير نسبه‪ ،‬السائر منطقه‪ .‬فقال‪ :‬رَ ُ‬ ‫ع ْقبَة‪ .‬فقلت‪ :‬مرحباً بالكريم حَ َ‬ ‫غيْلن بن ُ‬‫الجهيرُ الكلمِ‪ ،‬المحيي بتحيّةٍ السلم؟ فقال‪ :‬أنا َ‬
‫وعز وادِيك‪ ،‬فمن أنت؟ قلت‪ :‬عصمة بن بدر الفزاري‪ .‬فقال‪ :‬حيّاك ال‪ ،‬نعم الصديقُ‪ ،‬والصاحبُ والرفيقُ‪ .‬وسِرْنا فلما هَجّرنا قال‪ :‬أل ُنغَوّرُ يا‬
‫ت وذاكَ‪ ،‬فملْنا إلى شجرات ألء كأنهن عذارَى متبرّجات‪ ،‬قد نَشَرْنَ الغدائر‪ ،‬وس ّرحْن الضفائر؛ لَثلثٍ‬ ‫عصمة‪ ،‬فقد صهرتنا الشمسُ؟ فقلت‪ :‬أنْ َ‬
‫متناوحات؛ فحطَطْنا رِحَالنا‪ ،‬ونِ ْلنَا من الطعام‪ ،‬وكان ذو الرمة زهيدَ الكل‪ .‬وزال كل منا إلى ظل أثلة يريد القَائِلَة‪ ،‬واضطجع ذو الرّمة‪ ،‬وأردتُ‬
‫غبِيطُها مُلْقًى‪ ،‬وإذا رجل‬‫حيَتْ و َ‬‫ضِ‬ ‫ت غير بعيدٍ إلى ناق ٍة كَ ْومَاء‪َ ،‬‬ ‫ظهْري الرض‪ ،‬وعيناي ل يملكهما غُمض‪ ،‬فنظر ُ‬ ‫أن أصنَ َع صنيعَه‪ ،‬فوليْتُ َ‬
‫عسِيفٌ أو أسيف‪ ،‬فَلهِيت عنهما‪ ،‬وما أنا والسؤال عما ل يَ ْعنِيني! ونام ذو الرّمة غِرَاراً‪ ،‬ثم انتبهَ‪ ،‬وكان ذلك في أيام ُمهَاجاته‬ ‫قائم يكلؤها كأنه َ‬
‫لذلك المرّي‪ .‬فرفع عقرته ينشد فيه‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫صفَ الرَامِسُ‬ ‫ظ به العا ِ‬ ‫أل ّ‬ ‫أمنْ ميّةَ الطلَلُ الـدا ِرسُ‬
‫ستَ ْو َقدٌ ما لَه قَـابِـسُ‬‫ومُ ْ‬ ‫فلم َيبْقَ إل شَجيج القَـذَال‬
‫ومحتَفَل دَائِرٌ طـامِـسُ‬ ‫ض تَّلثَ َم من جانبَـيْهِ‬
‫وجَ ْو ٌ‬
‫لنْـسُ والنـس‬ ‫و َميّةُ وا ِ‬ ‫سكْـنُـهُ‬
‫وعَهدِي ب ِه وبهِ َ‬
‫يغنّي بها العابِرَ الْجَالِـسُ‬ ‫ستأتي امرأَ القيس مأثورةٌ‬
‫ظ به داؤه الـنـاجـس‬ ‫أل ّ‬ ‫ألم تر أنّ امرأ القيْس قـد‬
‫حجَرُ اليابِسُ؟‬ ‫وهل يَأْلَمُ ال َ‬ ‫همُ القو ُم ل يَأَلمُون الهِجَاءَ‬
‫ول لهمُ في الوَغى فَا ِرسُ‬ ‫فما لهُمُ في الفَلَ رَاكِـبٌ‬
‫عسُ‬ ‫فَطَرفُهمُ المط ِرقُ النا ِ‬ ‫إذا طَمحَ الناسُ للمكرمات‬
‫فكل نسائهـمُ عَـانِـسُ‬ ‫تعَافُ الكا ِرمُ إصهارَهـم‬
‫فلمّا بلغ هذا البيت جعل ذلك النائم يمسح‪.‬عينيه ويقول‪ :‬أذو ال ّر َميْمَة يمنعني النوم بشعرٍ غي ِر مثقف ول سائر؟ فقلت‪ :‬يا غيلن‪ ،‬منْ هذا؟ فقال‪:‬‬
‫الفريزد‪ ،‬يعني الفرزدق‪ ،‬وحَمي ذو الرمة‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ق ميّتهُـمْ رَاجِـسُ‬ ‫فلم يَسْ ِ‬ ‫ل ْرذَلُـون‬ ‫وأمَا مُجَاشـعٌ ا َ‬
‫حبِسُهم حَـابِـسُ‬ ‫عقَالٌ‪ ،‬ويَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫س َيعْقلُهم عن مَساعِي الكِرَام‬ ‫َ‬
‫ض لمثلي بمَقَال مُنتحل‪ .‬ثم‬ ‫ق هذا وقبيله بالهجاء‪ .‬فوال ما زاد على أن قال‪ :‬قبحاً لك يا ذا ال ّر َميْمَة! أتعرِ ُ‬ ‫فقلت‪ :‬الن يَشْرق فيثُور‪ ،‬ويعمّ الفرزد ُ‬
‫عاد في نَ ْومِه كأن لم يسمَعْ شيئاً‪ ،‬وسار ذو الرّمة وسِرْت‪ ،‬وإني لرى فيه انكساراً حتى افترقْنا‪.‬‬
‫قوله فيما ولد على الفرزدق بمقال مُنتحل‪ ،‬يريد أن البيتَ الخير منقول من قول جرير‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ضتْ في الحديث المجالسُ‬ ‫إذا ما أفا َ‬ ‫خزَى مـجـاشِـعـاً‬ ‫ألم تر أن ال أَ ْ‬
‫وما زال محبوساً عن المجد حَابِسُ‬ ‫وما زال معقولً عِقالٌ عن النـدى‬
‫عقال‪ :‬ابن محمد بن سعيد بن‪ ،‬مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم‪ ،‬وهو جَذ الفرزدق‪ .‬وحابس‪ :‬ابن عقال بن‬
‫محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم‪ ،‬وهو أبو القرع بن حابس أحدُ المؤلّفة قلوبهم‪.‬‬
‫فِقر في الشعر‬
‫قيل لبن الزّبعْرى‪ :‬لم تقصّر أشعارك؟ فقال‪ :‬لنها أعْلَق بالمسامع‪ ،‬وأجْوَل في حافِلِ‪.‬‬
‫لدَة ما أحاط بال ُعنُقِ‪.‬‬‫وقيل ذلك لعقيل بن عُلّفة في أهاجيه‪ ،‬فقال‪ :‬يكفيك من الق َ‬
‫خرِج الزهر حتى تستسلف المطر‪ ،‬وما ظنّك بقوم القتصا ُر محمود إل فيهم‪ ،‬والكذب مذموم إل منهم‪ .‬إياكم‬ ‫غيره‪ :‬لسانُ الشاعر أرض ل تُ ْ‬
‫والشاعر فإنه يطلب على الكذب َمثُوبة‪ ،‬ويقرع جليسه بأدنى َزلّة‪.‬‬
‫أبو القاسم الصاحب بن عباد‪ :‬النثر يتطاي ُر كتَطايُر الشّرر‪ ،‬والنظم يبقى بقاء النّقْش الحَجَر‪.‬‬
‫خصَة في الدين‪ ،‬ل يُقدِم عليها إل فقيه‪.‬‬ ‫أبو عبيدة‪ :‬الزّحاف في الشعر كالرُ ْ‬
‫وقال أبو فراس الحمداني‪ :‬مخلع البسيط‪:‬‬
‫َلمّا رَأَوْا نحوَها نُهوضي‬ ‫تَناهَضَ الناسُ للمعانـي‬
‫تَكلُفَ الشعرِ بالعَرُوضِ‬ ‫تكلّفوا المكرمـات كَـذّا‬
‫وقد مدح الجاحظ العروض وذمّها‪ ،‬فقال في مدحها‪ :‬العروض ميزان‪ ،‬ومعراض بها يعرَفُ الصحيح من السقيم‪ ،‬والعليل من السليم‪ ،‬وعليها‬
‫مَدَار الشعر‪ ،‬وبها يسلم من الَ َودِ والكَسْر‪ .‬وقال في ذمّه‪ :‬هو علم مُوَلّد‪ ،‬وأدب مس َتبْرد‪ ،‬ومذهب مرفوض‪ ،‬وكلم مجهول‪ ،‬يستنكر العقل‬
‫بمستفعلن وفعول‪ ،‬من غير فائدة ول محصول‪.‬‬
‫ومن مفردات البيات في هذا المعنى قول دعبل‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫‪190‬‬
‫جيّده َيبْقَى وإن مـات قَـائِلـهْ‬
‫وَ‬ ‫يموتُ ردِيءُ الشع ِر من قبل أهْلِه‬
‫البحتري‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ش َفيُمتدَحُ‬ ‫خشَى الهِجاءَ‪ ،‬ول َه ّ‬ ‫يَ ْ‬ ‫عيَا عليّ؛ فـل هَـيّابةٌ فَـرِقٌ‬ ‫أْ‬
‫آخر‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫عداوة من ُيغَلّ عن الهجاء‬ ‫غمّـا‬‫و ِممّا يَ ْقتُل الشعراء َ‬
‫أحمد بن أبي فَنن‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يَلوم على البخلِ اللئامَ‪ ،‬و َيبْخلُ‬ ‫وإن أحقّ الناس باللؤم شاعرٌ‬
‫وهذا كقول علي بن العباس الرومي في أبي الفياض سَوّار بن أبي شراعة‪ ،‬وكان سوّار شاعرًا مجيداً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ي ِنقَـاضِ‬ ‫نا َقضْتَ في فِعليك أ ّ‬ ‫يا مَنْ صناعته الدعاءُ إلى العُلَ‬
‫هو فيه محتاجٌ إلى حَضَـاضِ‬ ‫عجباً لحَضّاضِ الكِرَام على الذي‬
‫ل وفيه عنه َتغَاضِ‬ ‫ورَأى الجمي ٍ‬ ‫صفَ المكارِم وهْوَ فيها زا ِهدٌ‬ ‫وَ َ‬
‫وأشدّ مع ِتبَة على الـحَـرّاض‬ ‫لم ألْقَ كالشعراء أكثر حارضـاً‬
‫لم يأتِها‪ ،‬ومـرغـبٍ رفّـاضِ‬ ‫كم فيه ُم مـن آمـرٍ بـرشـيدةٍ‬
‫ق تَـرَاضِ‬ ‫لم نفترق عنها افترا َ‬ ‫يا حسـرتـي لـمـودّةٍ أدبـيةٍ‬
‫ب تتابعَ المِقْـرَاضِ‬ ‫عيَا المشي ُ‬‫أْ‬ ‫ليس العتابُ بنافعٍ في قـاطـع‬
‫ثم قال بعد هذا التبكيت وال ِعتَاب ما منعه أن َيتَوَهَم أنه هجاه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل أجعلُ العراض كالغراضِ‬ ‫وََلمَا هجو ُتكَ‪ ،‬بل وعظتُك إنَنـي‬
‫آسفْته‪ ،‬فَ َرمَاك بالمـعـرَاضِ‬ ‫فاك ُففْ سِهامَك عَن أخيك فإنمـا‬
‫ت مُنيتَ بالبـرّاض‬ ‫ومتى جهل ُ‬ ‫ف دَهْرِهِ‬ ‫فمتى حلمتُ وجدتَ أحْن َ‬
‫أنذرت قبل ال ّرمْي بالنبـاضِ‬ ‫فاعذِر أخاك على الوعيد؛ فإنما‬
‫بطرُ الغنى ومذلّة البـعـاضِ‬ ‫واعلم وقيت الجهلَ أن خسـاسةً‬
‫ثم هجاه بقوله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫كأن ف ّكيْك للغراض مِـقْـراضُ‬ ‫وما تكلمتَ إل قـلـت فـاحـشةً‬
‫غرَاض‬ ‫َوفُوَك ق ْوسُك والعراض أ ْ‬ ‫سهَا ٌم منـكَ مُـ ْرسَـلةٌ‬ ‫مهما تقل ف ِ‬
‫وابن الرومي هذا كما قال مسلم بنُ الوليد النصاري في الحكم بن قنبر المازني‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫حكم فاشتفى بها من هَجَائي‬ ‫ن فـيهِ‬ ‫عَابني من معايبٍ هُ ّ‬
‫وكما قال الخر‪:‬الطويل‪:‬‬
‫مُرادٌ لعمري مـا أرادَ قـريبُ‬ ‫عيْبِ نفسه‬ ‫س مِن َ‬ ‫ويأخذ عيبَ النا ِ‬
‫ترجمة الحنف بن قيس وأخباره‬
‫حدَثَ القوم سناً‪،‬‬ ‫وروى عيسى بن دَأب قال‪ :‬أول ما عرف الحنف بن قيس و ُقدّم أنه وفد على عمر بن الخطاب‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬وكان أ ْ‬
‫وأقبحهم منظراً‪ ،‬فتكلم كل رجل من ال َو ْفدِ بحاجته في خاصته‪ ،‬والحنف سا ِكتٌ‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬قل يا فتى! فقام فقال‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪ ،‬إن‬
‫سبِخ ٍة نَشّاشة‪ ،‬ماؤُها مِلْح‪ ،‬وأفنيتها ضيقة‪ ،‬وإنما‬ ‫العرب نزلتْ بمساكن طيبة ذات ثمار وأنهار عذَاب‪ ،‬وأكنّة ظليلة‪ ،‬ومواضع فسيحة‪ ،‬وإنا نزلنا ب َ‬
‫ي المَة فتغرف بجرّتها وإنائها أوشك أن نهلك‪،‬‬ ‫حفْر نهر َيغْزر ماؤه‪ ،‬حتى تأت َ‬ ‫يأتينا الماء في مثل حلق النعامة فإل تدركنا يا أمير المؤمنين ب َ‬
‫قال‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪ :‬تزيد في صَاعِنا ومُدنا‪ ،‬وتثبت من تلَحق في العطاء من ذُ ّريّتنا‪ .‬قال‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪ :‬تخفّف عن ضعيفنا‪ ،‬وتنصف قوينا‪،‬‬
‫وتتعاهد ثغورنا‪ ،‬وتجهّز بعثَنا‪ ،‬قال‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪ :‬إلى ها هنا انتهت المطالب‪ ،‬ووقف الكلم‪ .‬قال‪ :‬أنت رئيس َو ْفدِك‪ ،‬وخطيب مِصرك‪ ،‬قم عَنْ‬
‫موضعك الذي أنت فيه‪ .‬فأدناه حتى أقعده إلى جانبه‪ ،‬ثم سأله عن نسبه‪ ،‬فانتسب له‪ ،‬فقال‪ :‬أنت سيدُ تميم‪ ،‬فبقيت له السيادة إلى أن مات‪.‬‬
‫وهو الحنف‪ ،‬واسمُه الضحّاك بن قيس بن معاوية بن حصين بن حصن بن عبادة بن النزال بن مرّة بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن‬
‫سعد بن زيد مناة بن تميم‪.‬‬
‫وقال بعض بني تميم‪ :‬حضرتُ مجلس الحنف وعنده قو ٌم مجتمعون له في أمرٍ لهم‪ ،‬فحمد ال وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪ :‬إنّ الكر َم َمنْعُ الحرمِ‪ ،‬ما‬
‫أَقربَ النقم َة من أهل ال َبغْي‪ ،‬ل خيرَ في لذّ ٍة تُعقِب ندماً‪ ،‬لم يهلك من اقتصد‪ ،‬ولم يفتقر من زهد‪ ،‬رب هزْل قد عاد جِداً‪ ،‬من َأمِن الزمان خانه‪،‬‬
‫عذْ َر من اعتذر إليكم‪،‬‬ ‫صدّقه ال ِفعْل‪ ،‬احتملوا ِلمَنْ أَدلّ عليكم‪ ،‬واقبلوا ُ‬ ‫ومن تَعَظّم عليه أهانه‪ ،‬دَعُوا المِزَاحَ فإنه يُوَرّثُ الضغائن‪ ،‬وخَيرُ القول ما َ‬
‫حبَة‬‫ن كُفْرا ال ّنعَمِ لؤم‪ ،‬وصُ ْ‬
‫ف منك‪ ،‬إياكم ومشا َورَة النساء‪ ،‬واعلم أ ّ‬ ‫ف مِنْ نفسك قبل أن يُنتص َ‬
‫جفَاك‪ ،‬أنص ْ‬ ‫عصَاك‪ ،‬وصِلْهُ وإن َ‬ ‫أطِعْ أخاك وإن َ‬
‫الجاهل شُؤم‪ ،‬ومن الكرم الوفاء بالذّمم‪ ،‬ما َأ ْقبَح القطيعةَ بعد الصلةِ‪ ،‬والجفا َء بعد اللّطَف‪ ،‬والعداوة بعد ال ُودّ‪ ،‬ل تكونَنّ على الساءةِ أقوى منك‬
‫ع منك إلى ال َبذْل‪ ،‬واعلَ ْم أن لك من دُنياك ما أصلحت به َمثْوَاك‪ ،‬فأنفق في حَقّ‪ ،‬ول تكن خازِنًا لغيرك‪ ،‬وإذا‬ ‫على الحسان‪ ،‬ول إلى البُخْل أسر َ‬
‫ل َتعْدِل صلةَ العاقل‪ .‬قال‪ :‬فما سمعتُ‬ ‫ن قطيعةَ الجاه ِ‬ ‫ق لمن عَرفَه لك‪ ،‬واعلم أ ّ‬‫عرِف الح ّ‬‫كان ال َغدْرُ موجوداً في الناس فالثّقَ ُة بكل أحدٍ عَجْز؛ ا ْ‬
‫كلماً أبل َغ منه‪ .‬فقمت وقد حفظته‪.‬‬
‫ودخل الحنف على معاوية‪ ،‬ويزي ُد بين يديه‪ ،‬وهو ينظرُ إليه إعجاباً‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا بَحْر‪ ،‬ما تقولُ في الوَلدِ؟ فعلم ما أراد‪ ،‬فقال‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪،‬‬
‫هم عمادُ ظهورنا‪ ،‬وثمرُ قلوبنا‪ ،‬وقرة أعيننا‪ ،‬بهم نَصولُ على أعدائنا‪ ،‬وهم الخلف ِمنّا َبعْدَنا‪ ،‬فكن لهم أرضًا ذليلة‪ ،‬وسماءً ظليلة‪ ،‬إن سألوك‬
‫ع ِت ْبهُم‪ ،‬ول تم َنعْهم ِرفْدِك فيملّوا قُ ْربَك‪ ،‬ويستثقلوا حياتَك‪ ،‬ويتمنّوا وَفاتك‪ .‬فقال‪ :‬لّ درّك يا أَبا بَحْر‪ ،‬هُ ْم كما قلت!‪.‬‬ ‫فأَعْطِهم‪ ،‬وإن استعتبوك فأَ ْ‬
‫وزعمت الرواة أنها لم تسمع للَحنف إل هذين البيتين‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ت له بَـاذل‬
‫َلجُدتُ وكن ُ‬ ‫ل كثير‬ ‫فلو مدّ سَرْوي بما ٍ‬
‫إذا لم َيكُنْ مالُها فاضِل‬ ‫فإنّ المروءةَ ل تستطاع‬

‫‪191‬‬
‫وكان ُيبَخّل‪ .‬وقال لبني تميم‪ :‬أتزعمون أني بخيل! والّ إني لُشير بالرّأْي قيمتُه عشرةُ آلف درهم! فقالوا‪ :‬تقويمك لرَأْيك بُخْل‪ .‬وكان الَحْنفُ‬
‫من الفضلء الخطباء النّسّاك‪ ،‬وبه يُضْرَب المثل في الحِلْم‪.‬‬
‫سعْد َيعْرض عليهم السلم‪ ،‬فقال‬ ‫وقد ذُكر للنبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاستغفَر له‪ ،‬فقد بعث النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬رجلً إلى قومه بني َ‬
‫خيْر‪ ،‬ول أسمعُ إل حسناً‪ .‬ف ُذكِر للنبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪" :‬اللهم اغْفر للحنف"‪ .‬وكان الحنفُ يقول‪ :‬ما‬ ‫الحنف‪ :‬إنه يدعوكم إلى َ‬
‫شيء أَ ْرجَى عندي مِنْ ذلك‪.‬‬

‫شدَق‪ ،‬مائل‬ ‫عمَير‪ :‬قدم إلينا الحنفُ‪ ،‬فما رأينا خصل ًة ُتذَمّ في رجل إل رأيناها فيه‪ ،‬كان أصلع الرّأْسِ‪ ،‬متراكب السنان‪ ،‬أ ْ‬ ‫قال عبدُ الملك بن ُ‬
‫ال ّذقَنِ‪ ،‬ناتئ الوجنتين‪ ،‬باخق العينين‪ ،‬خفيفَ العارضين‪ ،‬أحْنف الرّجلين‪ ،‬وكانت العينُ تقتحمُه َدمَامَةً وقلّة رُواء‪ ،‬ولكنه إذا تكلّم جَلّى عن نفسِه‪.‬‬
‫وهو الذي خطب بالبصرة حين اختلفت الحياءُ‪ ،‬وتنازعت القبائل؛ فقال بعد أن حمد ال وأثنى عليه‪ :‬يا معشرَ الزد وربيعة‪ ،‬أنتم إخوانُنا في‬
‫ل لَ ْزدُ البَصرة أحب إلينا من تميم الكوفة‪ ،‬ولزد‬ ‫صهْرِ‪ ،‬وأكفاؤُنا في النسب‪ ،‬وجيرانُنا في الدار‪ ،‬و َيدُنا على ال َعدُوّ‪ ،‬وا ّ‬ ‫الدين‪ ،‬وشركاؤنا في ال َ‬
‫ب إلينا من تميم الشام‪ ،‬وفي أموالنا وأحلمنا سعة لنا ولكم‪.‬‬ ‫الكوفة أح ّ‬
‫حرٍ‪ ،‬هذا‬‫ت عليه‪ ،‬وقال الناس‪ :‬هذا أَبو بَ ْ‬ ‫صغَت القبائلُ إليه‪ ،‬وانثال ْ‬ ‫وقد قام خطباءُ البصرة في هذا اليوم وتكلّموا وأَسهبوا‪ ،‬فلمّا قام الحنف أَ ْ‬
‫ت عليه من دارِها‪ ،‬فلمّا رأته‬ ‫ت ترومُ النظر إليه‪ ،‬فاعتاص ذلك عليها‪ ،‬فأشر َف ْ‬ ‫ل المهلب‪ ،‬فذهب ْ‬ ‫خطيب بني تميم‪ ،‬وحضر ذلك الجمعَ جاريةٌ ل ِ‬
‫ت عن فَصلِ الخطاب‪.‬‬ ‫ت هذه الخِلْقة ولو افترّ ْ‬ ‫والبصارُ خاشع ٌة لكلمه‪ ،‬ورأت دمامةَ خَلْقه‪ ،‬وكثرة آفاتِ جوارِحه‪ ،‬قالت‪ :‬فُقدَ ْ‬
‫وذكر المدائني أنّ الحنفَ بن قيس َو َفدَ على معاوية‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬مع أهل العراق‪ ،‬فخرج الذِنُ‪ ،‬فقال‪ :‬إنّ أمي َر المؤمنين يعزم عليكم أل‬
‫يتكلمَ أحدٌ إل لنفسه‪ .‬فلمّا وصلوا إليه قال الحنف‪ :‬لول عَ ْزمَة أمير المؤمنين لخبرته أن دافّة َدفّتْ‪ ،‬ونازلةً نزَلتْ‪ ،‬ونابتة نبتَتْ‪ ،‬كلّهم بهم حاجة‬
‫ف أمير المؤمنين وبرّه‪ ،‬قال‪ :‬حسبك يا أبا بحر‪ ،‬فقد كفيت الشا ِهدَ والغائب‪.‬‬ ‫إلى معرو ِ‬
‫ولما عزم معاوية على البيعة ليزيد كتب إلى زياد أن يوجّه إليه ب َوفْد أهلِ العراق‪ ،‬فبعث إليه ب َو ْفدِ البصرة والكوفة‪ ،‬فتكلّمت الخطباءُ في يزيد‪،‬‬
‫شرَع منها إلى غيرها‪ ،‬فقام الحنف فحمد ال وأَثنى عليه‪ ،‬وصلّى على نبيّه‪،‬‬ ‫والحنف ساكِتٌ‪ ،‬فلما فرغوا قال‪ :‬قل يا أَبا بَحْر‪ ،‬فإنّ العيونَ إليك أَ ْ‬
‫ت َتعَْلمُه ل رضًا فل تشاوِ ْر فيه‬ ‫ن كن َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬إنك أعَلمُنا بيزيدَ في ليله ونهاره‪ ،‬وِإعلنه وإسراره‪ ،‬فإ ْ‬
‫أحداً‪ ،‬ول تُقِمْ له الخطباءَ والشعراء‪ ،‬وإن كنتَ تعلم ُب ْعدَه من ال فل تزوّده من الدنيا و َترْحَل أ ْنتَ إلى الخرة‪ ،‬فإنك تَصير إلى يومٍ يف ّر فيه المرءُ‬
‫من أخيه‪ ،‬وأمّه وأبيه‪ ،‬وصاحبته وبنيه‪ .‬قال‪ :‬فكأنه أفْرغ على معاوية ذنوب ماء بارد‪ .‬فقال له‪ :‬اق ُعدْ يا أبا بَحْرة فإن خِيرَة ال تَجْرِي‪ ،‬وقضاءَ ال‬
‫جدَر بأن يُجتمَع عليه منه‪.‬‬ ‫جدْ في قريش فتى هو‪ .‬أَ ْ‬ ‫يمضِي‪ ،‬وأحكام ال تنفذ‪ ،‬ل ُمعَقّب لحكمه‪ ،‬ول رَادّ لقضائه؛ وإن يَزي َد فتًى قد بلَ ْونَاه‪ ،‬ولم ن ِ‬
‫حكِي عن شاهد‪ ،‬ونحن نتكلَمُ على غائب‪ ،‬وإذا أراد ال شيئاً كان‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أنت تَ ْ‬
‫قال ابن الرومي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫يتعلّ ُم الدَابَ حتـى أحـكـمـا‬ ‫غ َتدَى‬‫إن امرأً َرفَض المكاسب وا ْ‬
‫ض ونَظما‬ ‫حرّ ما حاكَ القرِي َ‬ ‫من ُ‬ ‫فكسَا وحَلّى كلّ أرْوَع مَـاجـد‬
‫ل يُحْـرَمـا‬ ‫ق ملتمـسٍ بـأ ّ‬ ‫لح ّ‬ ‫ثِقةً برعْي الكْرمين حقـوقَـه‬
‫قال أبو العباس أحمد بن عبيد ال بن عمَار‪ :‬ومن نادرِ شعر أبي الحسن في هذا المعنى ‪ -‬قوله‪ ،‬ووصف إتعاب الشعراء أنْفُسَهم بدُؤوبهم في‬
‫جدَى عليهم‪،‬‬ ‫صناعتِهم‪ ،‬وما يتصرّم من أعمارهم‪ ،‬وأن إلحاحَهم في طلَبِ ما في أيدي من أسلفُوه مديحَهم لو كان رغبة منهم إلى ربهم كان أ ْ‬
‫وأقرب من درك ُبغْيتهم‪ ،‬ونُجْح طَلِبتهم‪ ،‬ثم انحرف إلى توبيخ من َمدَحه فحرمه بأحسن عبارة‪ ،‬وأرضى استعارة‪ ،‬فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عند الكِرَام لها قَضَـا ُء ذمَـامِ‬ ‫للناس فيما يكلفـون مَـغَـارِم‬
‫إنفاقُ أعماَرٍ وهَجـ ُر مَـنَـامِ‬ ‫ومغارم الشعراء في أشعارهم‬
‫لو حُولفت حرست من العدام‬ ‫وجفاء لذاتٍ ورفضُ مكاسـب‬
‫حَسَنَ الصنائعِ سابغَ النعـام‬ ‫وتَشَاغُل عن ذكر رب لم يَ َزلْ‬
‫جدَى على الـخـدام‬ ‫خدموكم أ ْ‬ ‫من لو بخدمته تشاغل معشـرٌ‬

‫إنّ الكرا َم إذًا لغَـيْ ُر كِـرا ِم‬ ‫أفَما لذلك حُـرْمة مـرعـيّة‬
‫إياك يا ابن أكـارِم القـوامِ‬ ‫ب ب ِمدْحتي‬ ‫لم أحتَسِبْ فيك الثوا َ‬
‫أحداً أحق بـه مـن اليتـام‬ ‫سبَةً لم أكْسُهُ‬ ‫حْ‬‫لو كان شعرِي ِ‬
‫فتنام والشعراءُ غـيرُ نـيامِ‬ ‫ح ثم تـعـافـهُ‬‫ل تقبلنّ المدْ َ‬
‫فلهم أشدّ معَـرّة الـعُـرّام‬ ‫واحذَ ْر معرّتهم إذا دنّستـهـم‬
‫حكموا لنفسهم على الحكّـام‬ ‫واعَلمْ بأَنه ُم إذا لم يُنصَـفـوا‬
‫وعقابهُم َيبْـقَـى مـع اليامِ‬ ‫وجناية العادِي عليهم تن َقضِـي‬
‫أبو الطيب المتنبي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫وعَداوةُ الشعراء ِبئْسَ المُ ْق َتنَى‬ ‫ومكا ِيدُ السفهاء واقع ٌة بِـهِـمْ‬
‫مات الحنف بن قيس بالكوفة‪ ،‬فمشى مصعب بن الزبير في جنازته بغير رداء‪ ،‬وقال‪ :‬اليوم مات سرُ العرب؛ فلما دُفن قامت امرأةٌ على قبره‬
‫فقالت‪ :‬ل دَرّك من مُجَنّ في جَننٍ‪ ،‬و ُمدْرَج في كَفَن‪ ،‬نسألُ الذي فجعنا بموتك‪ ،‬وابتلنا بفَ ْقدِك‪ ،‬أن يجعلَ سبيلَ الخي ِر سبيلَك‪ ،‬ودليلَ الرّشد دَليلك‪،‬‬
‫شرِك؛ فوالّ لقد كنت في المحافل شريفاً‪ ،‬وعلى الرامل عَطُوفاً‪ ،‬ولقد كنت في الحي ُمسَوّداً‪ ،‬وإلى‬ ‫وأن يوسّع لك في قبرك‪ ،‬ويغفر لك يوم حَ ْ‬
‫الخليفة مُوفَداً‪ ،‬ولقد كانوا لقولك مستَمِعين‪ ،‬ولرأيك متّبعين؛ ثم أقبلت على الناس فقالت‪ :‬أل إن أولياء ال في بلدِه‪ ،‬شهود على عباده‪ ،‬وإني‬
‫حسْنِ الثناء‪ ،‬وطيب النّثا‪ ،‬أما والذي كنتَ من أجله في عدّة‪ ،‬ومن الحياةِ إلى مدّة‪ ،‬ومن المقدار إلى غاية‪،‬‬ ‫صدْقاً‪ ،‬وهو أهلٌ ل ُ‬ ‫لقائلةٌ حقّا‪ ،‬ومثنيةٌ ِ‬
‫ت سعيداً مفقوداً‪ ،‬ثم انصرفت وهي تقول‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫ومن الياب إلى نهاية‪ ،‬الذي رفع عملك‪ ،‬لما َقضَى أجََلكَ‪ ،‬لقد عِشت حميدًا مودوداً‪ ،‬ومُ ّ‬

‫‪192‬‬
‫ب منكَ في ال َقبْـر؟‬ ‫ماذا تغي َ‬ ‫للـ ِه دَرُك يا أبـا بَـحْـــرِ‬
‫ت من عُرْف ومِن ُنكْرِ‬ ‫أصبح َ‬ ‫ل دَرّك أيّ حَـشْـوِ ثـرًى‬
‫صبْـرِ‬‫ت قُوَى ال ّ‬ ‫حدَثًا به و َهنَ ْ‬ ‫إنْ كان ده ٌر فيك جرّ لـنـا‬
‫ت تَ ُردّ جرائرَ الـدهـرِ‬‫كا َن ْ‬ ‫فلـكـم َيدٍ أسـديتـهـا ويدٍ‬
‫ط أبلغ ول أصدق منه‪.‬‬ ‫سئِل عنها‪ ،‬فإذا هي امرأتُه وابنةُ عقَه‪ .‬فقال الناس‪ :‬ما سمعْنا كل َم امرأة ق ّ‬ ‫ثم انصرَفت ف ُ‬
‫حنَفَ الرجلين‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أبا بحر‪ ،‬بأي شيء بلغتَ‬ ‫قال‪ :‬وكان الحنفُ قدم الكوفة في أيام مصعب بن الزبير‪ ،‬فرآه رجلٌ أعو َر دميماً قصيراً أ ْ‬
‫في الناس ما أرى؛ فوال ما أنتَ بأشرف قومِك‪ ،‬ول أجودِهم؟! فقال‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬بخلف ما أنت فيه! قال‪ :‬وما هو؟ قال‪ :‬تَ ْركِي من أمرك ما ل‬
‫عنَاك من أمري ما ل تتركه‪.‬‬ ‫يعنيني‪ ،‬كما َ‬
‫ترجمة منصور النمري وأخباره‬
‫اجتمع الشعراء بباب المعتصم فبعث إليهم‪ :‬مَنْ كان منكم يحْسِنُ أن يقول مثل قول منصور النّمري في أمير المؤمنين الرشيد‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫أحلّك ال منها حيث تجتـمـعُ‬ ‫ف أودية‬ ‫إنّ المكارمَ والمـعـرو َ‬
‫ت من القوام متضعُ‬ ‫ومن وضعْ َ‬ ‫إذا ر َفعْتَ امرأً فالَُ رافِـعُـه‬
‫فليس بالصلواتِ الخمس ينتفـعُ‬ ‫من لم يكن بأمين الِ معتضمـاً‬
‫أو ضاق أمرٌ ذكرناه فيتـسـع‬ ‫إنْ أخلف الغيثُ لم تُخْلِف أناملُه‬
‫فليدخل‪ ،‬فقال محمد بن وهيب‪ :‬فينا من يقولُ خيرًا منه‪ ،‬وأنشد‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫شمس الضحى وأبو إسحاقَ‪ ،‬والقمر‬ ‫ق الدنيا ببـهـجـتـهـم‬ ‫ثلثةٌ تش ِر ُ‬
‫الغيثُ والليثُ والصمصَامة الذكَـرُ‬ ‫يحكي أفاعـيلَـه فـي كـل نـائبةٍ‬
‫فأَمر بإدخاله وأحسن صلَته‪.‬‬
‫أخذ معنى البيت الول من بيتي محمد بن وهيب أبو القاسم محم ُد بن هانئ الندلسي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫قَلْبي وطَرْفٌ بابلـيّ َأحْـوَرُ‬ ‫ن من البَرِيةِ كـلّـهـا‬ ‫ال ُمدْنَفا ِ‬
‫ج ْعفَرُ‬‫الشمسُ والقم ُر المنيرُ و َ‬ ‫ت ثـلثةٌ؛‬ ‫شرِقاتُ النّـيرا ُ‬‫والمُ ْ‬
‫وبيت أبي القاسم الول مأخوذ من قول ابن الرومي‪ :‬مجزوء الرمل‪:‬‬
‫يا عليلً جعل العِلة مِفْتاحاً لسقمي‬
‫غير جَـفْـنَـيك وجِـسْـمِــي‬ ‫ليس في الرض عليلٌ‬

‫ق منذ ثلث ونحنُ على يَ ْأسٍ منها‪ .‬فقال له العتابي‪ :‬وإنّ دواءها منك‬ ‫ومَرّ النمري بالعتابي مغموماً فقال‪ :‬ما لك‪ ،‬أعزّك الّ؟ فقال‪ :‬امرأتي تطل ُ‬
‫ب من وجهها‪ ،‬قل‪ :‬هارون الرشيد‪ ،‬فإن الولدَ يخرج! فقال‪ :‬شكوت إليكَ ما بي‪ ،‬فأجبتني بهذا؟ فقال‪ :‬ما أخذت هذا إل من قولك‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫أقر ُ‬
‫أو ضاق أمرٌ ذكرناه فيتسـعُ‬ ‫إن أخلف الغيث لم تخلف أنامِله‬
‫وأبيات منصور بن سَلمة بن الزبرقان النمري التي ذكرها المعتصم من قصيدة له وهي أحسنُ ما قيل في الشيب أَولها‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫إذا ذكرتُ شبـابـاً لـيس يُ ْرتَـجَـعُ‬ ‫ما تنـقـضـي حَـسْـرَةٌ ول جَـزَع‬
‫ب دَهْـرٍ وأَيامٌ لـهـا خُـ َدعُ‬ ‫خطـو ُ‬ ‫بانَ الشباب وفاتَـتْـنـي بـغـ ّرتِـه‬
‫حتى انقضى فإذا الدنـيا لـه تَـبـعُ‬ ‫ما كنتُ أوفي شبابي كُـنْـه غِـ ّرتِـه‬
‫في حلبة الخدّ أجْرَاها حشًـى َوجِـعُ‬ ‫ب دمـعـتِـه‬ ‫جبَتْ أن رأتْ أسـرا َ‬ ‫تع ّ‬
‫صتِـه فـالـعُـذْر ل يَقـعُ‬ ‫شجَي بغُ َ‬‫تَ ْ‬ ‫أصبحت لم تطعمي ُثكْلَ الشباب ولـم‬
‫عين الكذوب فما في ودّكـم طـمَـع‬ ‫ل ألـحـين فـتـاتـي غـير كـاذبةٍ‬
‫إل لهـا نَـبْـوَة عـنـ ُه ومُـ ْرتَـ َدعُ‬ ‫عيْبٍ وإن َومِقَـتْ‬ ‫ب من َ‬ ‫ما واجه الشي َ‬
‫س تَـنْـخَـدِع‬ ‫عند الحسان فما للنّفْـ ِ‬ ‫إني لمعتـرف مـا فـيّ مـن أ َربٍ‬
‫لول تعزيك أنّ المرَ مـنـقـطِـعُ‬ ‫قد كدت تقضي على فَوْت الشباب أسًى‬
‫وذُكر أن الرشيد لما سمع هذا بكى‪ ،‬وقال‪ :‬ما خير دنيا ل تخطر فيها ببرد الشباب! وأنشد متمثّل‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وقد صار الشبابُ إلى ذهَابِ‬ ‫أَتأمُل رَجعَة الدنيا سَفَـاهـاً‬
‫ج ِمعْنَ لنا فنُحْنَ على الشبابِ‬ ‫ُ‬ ‫فليت الباكياتِ بـكـلّ أرض‬
‫ج ْودَة شعره‪ ،‬ولمَا َيمُتّ إليه من النسب من العباس بن عبد المطلب‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬وكانت نثيلة أم العباس‬ ‫وكان الرشيد يقدم منصوراً النمري ب َ‬
‫ظهِر من الميل إلى إمَامَة العباس وأهله‪ ،‬والمنافرة لل علي‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬ويقول‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫من النمر بن قاسط؛ ولمَا كان يُ ْ‬
‫عليكمْ بالسّـدَادِ مـن المـورِ‬ ‫بني حسن وقل لبني حُـسَـين‬
‫وأحلمـًا َيعِـدْن عِـداة زُورِ‬ ‫أميطوا عنكُم كذِب المـانـي‬
‫من الحزاب سَطرٌ في سطورِ‬ ‫تسَمون الـنـبـي أبـًا ويَأْبـى‬
‫حدٍ من رِجاِلكُمْ"‪ .‬وهذا إنما نزل في شأن زيد بن حارثة‪ ،‬وكان رسولُ ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬تبنّاه‪،‬‬ ‫ن محمدٌ أبا أ َ‬ ‫ل ال تعالى‪" :‬ما كا َ‬
‫يريدُ قو َ‬
‫ل بيتَ المال فيأخذ ما أحب‪.‬‬ ‫فقال له الرشيد‪ :‬ما عدوتَ ما في نفسي‪ ،‬وأمره أن يدخ َ‬
‫ظهَرْ إل بعد موته‪ ،‬وبلغ الرشيد قوله‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وكان يضمر غير ما يظهر‪ ،‬ويعتقد الرّفض‪ ،‬وله في ذلك شعر كثير لم يَ ْ‬
‫يتطامَنون مَخافَةَ القَـتْـلِ‬ ‫ن يُحِـبّـهـمُ‬
‫ي ومَ ْ‬
‫آلُ النب ّ‬
‫من ُأمَةِ التوحيد فـي أزْلِ‬ ‫أمِنَ النصارى واليهو ُد ومَن‬

‫‪193‬‬
‫ظبَا الصّوارم والقَنا الذُبْ ِ‬
‫ل‬ ‫بُ‬ ‫ل مَصَالت ينصرُونَـهُـمُ‬ ‫إّ‬
‫فأمر الرشيد بقتله وكان حينئذ برأس العين‪ ،‬فمضى الرسولُ فوجده قد مات فقال الرشيد‪ :‬لقد هممت أن أنبش عظامَه فأحرقها‪ .‬وكان يُ ْلغِز في‬
‫مدحه لهارون‪ ،‬وإنما يريد قول النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لعليّ‪ ،‬رضوان ال عليه‪" :‬أنت مني بمنزلة هارون من موسى"‪ .‬وقال الجاحظ‪:‬‬
‫وكان يذهب أولً مذهب الشّراة‪ ،‬فدخل الكوفة وجلس إلى هشام بن الحكم الرافضي وسمع كلمَه‪ ،‬فانتقل إلى الرفض‪ ،‬وأخبرني مَنْ رآه على‬
‫قبر الحسين بن علي‪ ،‬رضي ال عنهما‪ ،‬ينشد قصيدتَه التي يقول فيها‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ول القفاء آثارُ الـنّـصـولِ‬ ‫فما وُجدت على الكتاف منهـم‬
‫وفوق حجُورهم َمجْرَى السيولِ‬ ‫ولكنّ الوجـوهَ بـهـا كُـلـومٌ‬
‫وفي الحياء أمواتُ العُـقـولِ‬ ‫أرِيق دمُ الحسين ولـم يراعـوا‬
‫جرَى دمُه عـل خـدّ أسـيل‬ ‫ك مِنْ جَـبِـينٍ‬ ‫فدتْ نفسي جبي َن َ‬
‫مِنَ الحزانِ واللمِ الـطـويل‬ ‫أيخلـو قـلـبُ ذي َورَع ودِينٍ‬

‫ي من دماء بني الرسول‬ ‫بِ ِر ّ‬ ‫ح بني زيادِ‬ ‫شَ ِر َقتْ رِما ُ‬


‫نيامُ الهل دارِسَةُ الطّلُولِ‬ ‫بتربة كَرْبلءَ لـهـم دِيارٌ‬
‫ملعبُ للدّبور وللْقَـبـول‬ ‫فأوصال الحسين ببَطْنِ قاع‬
‫على تلك المحلّة والحُلولِ‬ ‫ت ومغـفـرة وروحٌ‬ ‫تحيا ٌ‬
‫أصابك بالذيّةِ والذّحـولِ‬ ‫برئنا يا رسولَ ال مـمـن‬
‫أخبار ابني المعذل‬
‫وقال أحمد بن المعذل‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫سهَامٌ من جفو ِنكِ ل تَطِيشُ‬ ‫ِ‬ ‫أخو َدنَفٍ رَمتْه فأقص َدتْـهُ‬
‫من البَلْوى ألم به جُـيُوشُ‬ ‫كئيب إن ترحّل عنه جيشٌ‬
‫غيْلن العبدي في اللغة والبيان والدب والحلوة غايةً‪.‬‬ ‫وكان أحمد بن المعذّل بن َ‬
‫قال‪ :‬دخلتُ المدينة فتحملت على عبد الملك بن الماجشون برجل ليخصّني ويُعنَى بي‪ ،‬فلما فاتحني قال‪ :‬ما تحتاجُ أنت إلى شفيع‪ ،‬معك من‬
‫صفْوَ الماء‪.‬‬
‫ل به لبّ الشجر‪ ،‬وتشرب َ‬ ‫الحذاء والسقاء ما تأك ُ‬
‫ت مؤَملً مَرْجواً‪،‬‬ ‫وكان أخو ُه عبد الصمد يؤذيه ويهجُوه‪ ،‬فكتب إليه أحمد‪ :‬أما بعدُ‪ ،‬فإنّ أعظم المكروه ما جاء من حيث يُرْجَى المحبوب‪ ،‬وقد كن َ‬
‫ج ْيبُه لك ناصحٌ‪ ،‬والسلم‪.‬‬ ‫صدْرَ أخٍ َ‬
‫حتى شمل شرّك‪ ،‬وعمّ أذاك‪ ،‬فصرت فيك كأبي العاقّ‪ :‬إن عاش نغّصه‪ ،‬وإن مات َنقَصَه‪ ،‬واعلمْ لقد خشَنت َ‬
‫وكان يقول له‪ :‬أنت كالصبع الزائدة‪ :‬إن تُ ِركَتْ شا َنتْ‪ ،‬وإن قطعت آلمت!‪.‬‬
‫ل هذا قولُ النعمان بن شمر الغساني‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ومث ُ‬
‫بلء‪ ،‬فما أدْرِي به كيف أصنعُ‬ ‫عنَاءٌ‪ ،‬وتـركـه‬ ‫وصَالُ أبي ب ْردٍ َ‬
‫وإن غبت عنه ظلّت العين تَ ْدمَعُ‬ ‫إذا زُرْته يومين مـلّ زِيارتـي‬
‫وقول الضحاك بن همام الرقاشي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حياتُـك ل تُـــ ْرجَـــى ومـــوتـــك فـــاجِـــعُ‬ ‫ت امـر ٌؤ مـنّـا خـلـــقـــت لـــغـــيرنـــا‬ ‫وأنـ َ‬
‫وأنت على ما كان منك ابنُ حرّةوإني لما يرضى به الخصم مانِعُ‬
‫لديك جـــفـــاءٌ عـــنـــدهُ الـــودّ ضـــــائعُ‬ ‫وفيك خصالٌ صالحات يَشِي ُنهَا‬
‫وقال بعضُ المحدثين‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وفي كل حال مَنْ أحب وأَمحَضُ‬ ‫إذا ساءني في القولِ والفعل جاهِداً‬
‫ب مَن أُعادِي وأبغِضُ‬ ‫على كلّ ذن ِ‬ ‫شعْرِي ما يعاملنـي بـه‬ ‫فيا ليتَ ِ‬
‫لبّهة‪ ،‬والتمسك بالمنهاج‪ ،‬والتجنّب للعَبث‪ ،‬والتعرّض للشفاق لِما في أيدي الناس‪،‬‬ ‫وقال أبو العباس المبرد‪ :‬وكان أحمد بن المعذّل من ا ُ‬
‫حمِل في فقهاء وأدباء من أهل البصرة‪ ،‬فأَخذَ الصلة غي َر ُممْتَنع ول مُنكر‪ .‬ووصله إسحاق‬ ‫وإظهار الزُ ْهدِ فيه‪ ،‬والتباعد عنه‪ ،‬على غاية‪ ،‬حتى ُ‬
‫بن إبراهيم فقبل‪ ،‬واستدعى اجتباءه إيّاه‪ ،‬وتحلى له جهده‪ ،‬فقال عبد الصمد‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ع ْتبَهْ‬‫عَلَى مَنْ لَبسر السلطانَ َ‬ ‫خ قد كان ُيبْـدِي‬ ‫عذيري من أ ٍ‬
‫خطْـبَـهْ‬‫له بالجهل والهذيان ُ‬ ‫وكان يذمّهـم فـي كـلّ يوم‬
‫من السلطان باعَ بهـنّ َربّـهْ‬ ‫فلما أن أتـتـه دُرَيهـمـاتٌ‬
‫وقال فيه‪ :‬مجزوء الخفيف‪:‬‬
‫سائلً غيرَ عـاتِـبِ‬ ‫لِي أخ ل تَـرَى لـهُ‬
‫للئيمِ الـمَـذَاهِـب‬ ‫س كلّـهـمْ‬ ‫جمَعُ النا ِ‬ ‫أْ‬
‫َل ْمسُ بعضِ الكواكبِ‬ ‫دون معروفِ كفّـه‬
‫جار ًة مِنْ مُحـارب‬ ‫ليت لي منك يا أخي‬
‫حبَاحِـبِ‬
‫ِمثْل نارِ ال ُ‬ ‫نارها كـلّ شَـتـ َوةٍ‬
‫عيْلن بن مضر فذ ّم َمثْوَاه‬ ‫صفَ َة بن قيس بن َ‬ ‫ذهب إلى قول القُطَامي‪ ،‬وقولُ القطامي من خبيث الهجاء‪ ،‬وكان نَزل بامرأ ٍة من محارب بن خَ َ‬
‫عندها‪ ،‬فقال‪ .‬الطويل‪:‬‬
‫وإن كان ذا حقّ على الناسِ واجبِ‬ ‫وإني وإنْ كان المسـافـ ُر نـازلً‬

‫‪194‬‬
‫خبّـر صـاحـب‬‫خبّرُ أهلٍ أو مُ َ‬
‫مُ َ‬ ‫ف يُخبِـرُ مـا رَأى‬
‫فل بدّ أن الضي َ‬
‫تضيّفتها بين العُـذيب فـراسِـبِ‬ ‫لَمخبرك النباءَ عـن ُأمّ مـنـزل‬
‫غيْرِ ذات كواكـبِ‬
‫إلى طر ِمسَاء َ‬ ‫تلفّعت في طَلّ وريح تَـلُـفّـنـي‬
‫تََل ّفعَتِ الظلماءُ من كل جـانـب‬ ‫حيْ َزبُون تُوقِد النا َر بـعـدمـا‬
‫إلى َ‬

‫ل وميض النار َيبْـدُو لـراكـب‬ ‫تَخَا ُ‬ ‫تصَلّى بها بَرْد العِشاء ولـم تـكـن‬
‫تريح بمحسود من الصـوت لغـب‬ ‫فما راعهـا إل بُـغـا ُم مـطـيّتـي‬
‫ومن َرجُل عارِي الشاجع شاحـبِ‬ ‫جنّتْ فنـونـًا مـن ِدلَث مُـنَـاخةٍ‬ ‫فُ‬
‫تخزّم بالطراف شوكُ العـقَـارِب‬ ‫سَرَى في حَلِيكِ الليل حتى كـأنـمـا‬
‫إليك‪ ،‬فل تذعَرْ عـلـيّ ركـائبـي‬ ‫تقول وقد قرّبت كُورِي ونـاقـتـي‬
‫حقّ عـلـى كـل جـانـب‬ ‫ولكنه َ‬ ‫فسلّمت والتسـلـيمُ لـيسَ يسـرّهـا‬
‫كما انحاشَت الفعى مخافةَ ضارِب‬ ‫فردّت سلماً كارهاً ثم أعـرضـتْ‬
‫مَنِ الحيّ؟ قالت‪ :‬معش ٌر من محَارب‬ ‫فلمّا تنازعنَا الحـديثَ سـألـتُـهـا‬
‫جيَاعاً ورِيفُ الناس ليس بنَـاضِـبِ‬ ‫ِ‬ ‫من المشتَوين القدّ مـمـا تَـرَاهـم‬
‫ي مبيتُ السـوء ضَـرْبةَ لَزب‬ ‫عل ّ‬ ‫فلمّا بَدا حرمانُها الضـيفَ لـم يكـن‬
‫يَداها ورِجْلَها حثيثَ الـمـراكِـبِ‬ ‫و ُقمْت إلى َمهْـريّة قـد تـعـ ّودَتْ‬
‫ق ليل ِمثْلُ نارِ الحُـبَـاحـبِ‬ ‫لطار ِ‬ ‫ل إنّمـا نـيرانُ قـيسٍ إذا شَـتَـوْا‬ ‫أَ‬
‫ومحارب‪ :‬قبيلة منسوبة إلى الضعف‪ ،‬وقد ضربت العربُ بها المثل‪ .‬قال الفرزدق لجرير‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫من الناس إل منك أو من مُحَاربِ‬ ‫وما استعهدَ القوا ُم مِنْ زوج حُرةٍ‬
‫ب ول من محارب‪.‬‬ ‫أي يأخذون ال َعهْ َد عليه أنه ليس من كلي ٍ‬
‫وقال أبو نواس في قصيدته التي فخر فيها باليمانية وهجا قبائل معد‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫من المخازي سِوَى مَحاربِها‬ ‫عيْلنَ ل أريدُ لـهـا‬‫وقيسُ َ‬
‫وكانت أم عبد الصمد بن المعذل طباخةً‪ ،‬فكان أحمد يقول إذا بلغه هجاؤه‪ :‬ما عَسِيتُ أن أقول فيمن أُ ْلفِحَ بين قدر و َتنّور‪ ،‬ونشأ بين زُق‬
‫وطُنبورا؟ وعبد الصمد شاعر أهل البصرة في وقته‪ ،‬وهو القائل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وهان عليها أن أُهان لتـكـرمـا‬ ‫تكلفُني إذللَ نفسـي لـعِـزّهـا‬
‫ب يحيى بن أكثمـا‬ ‫فقلت‪ :‬سَلِيه َر ّ‬ ‫سلِ المعروف يحيى بن أكثم‬ ‫تقول‪َ :‬‬
‫قال أبو شُراعة القَيسي‪ :‬كنتُ في مجلس‪ ،‬ال ُعتْبي مع عبد الصمد بن المعذل‪ ،‬فتذاكرنا أشعا َر المولدين في الرقيق‪ ،‬فقال عبد الصمد‪ :‬أنا أشعر‬
‫الناس فيه وفي غيره‪ ،‬فقلت‪ :‬أحذق منك وال بالرقيق الذي يقول‪ ،‬وهو راشد بن إسحاق أبو حُكيمة الكوفي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ولكـنّـهُ مـمـن يحـبّ غَـرِيبُ‬ ‫ومستوحشٍ لم يمْس في دارِ غُـ ْربَةٍ‬
‫ت نَـواهُ والـمَـزا ُر قَـريب‬ ‫فشطَ ْ‬ ‫طَوَاه الهوى واستشعر الوَصل غيرهُ‬
‫وإن حَلها شخـصٌ إلـيّ حـبـيبُ‬ ‫سلمٌ على الدارِ التـي ل أزورُهـا‬
‫هوًى تَحْسُن الدّنيا بـه وتَـطِـيبُ‬ ‫وإن حَجبتْ عن ناظريّ ستُـورُهـا‬
‫ويَسخَنُ طَرْف اللهو حـين َيغِـيب‬ ‫حكُ اللّذات عند حضـوره‬ ‫ضَ‬ ‫هوى تَ ْ‬
‫ب قَضِـيبُ‬ ‫إذا اهتزَ من تحتِ الثيا ِ‬ ‫تثنّى به العطافُ حـتـى كـأنـهُ‬
‫سمِـه فـأجـيبُ‬ ‫وقد كنت أُدعَى با ْ‬ ‫صمْتي حين يَجْري حـديثـهُ‬ ‫ألم تر َ‬
‫وإن لم يَكن للعين فـيه نـصـيبُ‬ ‫سعْي الدهر بيني وبـينـه‬ ‫رضيت ب َ‬
‫ق مُـصِـيبُ‬‫سهْمٌ لِـلْـفـرا ِ‬
‫وإياه َ‬ ‫أحاذِر إنْ واصلتـه أن ينـالـنـي‬
‫ن مُـرِيبُ‬‫ول شك أني عـنـدهـ ّ‬ ‫أرى دون مَنْ أهوى عيوناً تريبنـي‬
‫ولي حين أخلو َزفْـرَة ونَـحِـيبُ‬ ‫أُدارِي جليسي بالتجلّد في الـهـوى‬
‫سنّـي والـفـؤادُ كَـئيب‬ ‫فيضحك ِ‬ ‫خبَرُ عـنـه بـالـذي ل أحـبّـه‬ ‫وأُ ْ‬
‫ح فـيعـيب‬ ‫فيطمع فينـا كـاشـ ٌ‬ ‫مخاف َة أن َتغْرَى بنا ألسـنُ الـعِـدَا‬
‫على حَرَكات العاشـقـين رقـيبُ‬ ‫كأن مجالَ الطّرف في كل نـاظـر‬
‫ويصِبين عقلَ المرءَ وهْو لـبـيبُ‬ ‫أرَى خطرات الشوق يبكين ذَا الهوى‬
‫فأضحى وثَوْبُ العز منه سَـلِـيبُ‬ ‫وكم قد أذل الحب من مـتـمـنـعٍ‬

‫ت فـيه‪ ،‬عَـجـيب‬
‫لمرٌ‪ ،‬إذا فكر ُ‬ ‫خضُوعَ النفس في طلب الهوى‬ ‫وإن ُ‬
‫فلم ينطق بحرف‪.‬‬
‫ولبي شُراعة يمدح بني رياح‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫خير المَعاد وأسقى َر ْبعَكم دِيمَا‬ ‫لَ نعمَتـكـم‬
‫بني رياح‪ ،‬أعاد ا ُ‬
‫يكادُ ينهلّ من أعطافِه كَرَمـا‬ ‫فكم بِهِ من فَتى حُلْو شمـائلـهُ‬

‫‪195‬‬
‫إلّ تلبسها إخوانهم نِـعـمـا‬ ‫لِ مُذْ خلقـوا‬
‫لم يلبسوا نعمةً َ‬
‫وفي إبراهيم بن رياح يقول عبد الصمد بن المعذل‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ب منها نسيم‬ ‫وهي حَسرَى إنْ ه ّ‬ ‫قد تركت الرياح يا ابـنَ رياح‬
‫ك مَال نِضوٌ وفعـلٌ جَـسـيم‬ ‫لَ‬ ‫نهكتْ ماَلكَ الحقوقُ فأَضْحَـى‬
‫وكان عبد الصمد بن ال ُمعَذل متصلً بإبراهيم ونبيه‪ ،‬وأفاد منهم أموالً جليلة‪ ،‬واعتقد عقداً نفيسة‪ ،‬فما شكر ذلك ول أصحبه بما يجب عليه من‬
‫الثناء عند ب ْكبَته‪ ،‬وكان الواثق عزَلَه عن ديوان الضياع‪ ،‬ودفعه إلى عمر بن فرج الرخجي‪ ،‬فحبسه فهجاه عبد الصمد‪.‬‬
‫قال أبو العباس محمد بن يزيد‪ :‬وكان عبد الصمد شديدَ القدام على رديء السريرة فيما بينه وبين الناس‪ ،‬خبيث النية‪ ،‬يرصُد صديقَه بالمكروه‪،‬‬
‫س عليه‪ ،‬ويحمل على معرفةٍ‪ ،‬عجبًا بِظَرْف لِسانِه‪،‬‬ ‫سلَم لحد‪ ،‬وكان مشهوراً في ذلك المر‪ ،‬يُ ْلبَ ُ‬ ‫تقديرًا أن يعادِيه فيسوءه بأمْ ٍر يعرفه؛ ول يكاد يَ ْ‬
‫ب مجلسه‪ ،‬وأيضاً ل ُقبْح مسَبته‪ ،‬وشائن معرّته‪.‬‬ ‫وطي ِ‬
‫قال أبو العيناء‪ :‬ولما حبس الواثق إبراهيم بن رياح‪ ،‬وكان لي صديقاً‪ ،‬صنعتُ له هذا الخبر رجا َء أن ينتهي إلى أمير المؤمنين فينتفع به‪،‬‬
‫فأخبرني زيدُ بن علي بن الحسين أنه كان عند الواثق حين قرِئ عليه فضَحِك واستظرفه‪ .‬وقال‪ :‬ما صنع هذا ُكفَه أبو العيناء إل في سبب‬
‫إبراهيم بن رياح‪ ،‬وأمر بتخليته‪ ،‬والخبر قال‪ :‬لقيتُ أعرابياً من بني كلب فقلت له‪ :‬ما عندك من خَبر هذا العسكر؟ فقال‪ :‬قتل أرضاً عاِل ُمهَا‪،‬‬
‫قال‪ :‬فقلت‪ :‬فما عندك من خبر الخليفة؟ قال‪ :‬بَخْبخ بعزه‪ ،‬وضرب بِجِرانه‪ ،‬وأخذ الدرهم من مصره‪ ،‬وأرهف قَلَم كلّ كاتبٍ بجبايته‪ .‬قلت‪ :‬فما‬
‫جنْدَلة ل تُرَام‪ ،‬ينتحي بالمدَى لتحزه فيجور‪ ،‬وتنصب لهُ الحبائل حتى تقول‪ :‬الن‪ ،‬ثم‬ ‫عندك في أحمد بن أبي دُواد؟ قال‪ :‬عُضْلة ل تُطاقُ‪ ،‬و َ‬
‫ضخْم‬
‫ضبْرَة الذئب‪ ،‬ويخرج خروج الضب‪ ،‬والخليفة يحنو عليه‪ ،‬والقرآن آخذ بضبعيه‪ .‬قلت‪ :‬فما عندك في عمر بن فرج؟ قال‪َ :‬‬ ‫يضبر َ‬
‫سيّهم‪ ،‬وأحْرِ له بمثل مصرع من يصرع‪ .‬قلت‪ :‬فما عندك في خبر ابن‬ ‫حِضجْر‪ ،‬غضوب هِ َزبْر‪ ،‬قد أهدفه القو ُم ل َبغْيهم‪ ،‬وانتضلوا له عن قِ ِ‬
‫الزيّات؟ قال‪ :‬ذلك رجُلٌ وسع الوَرى شره‪ ،‬وبطن بالمور خيره‪ .‬فله في كل يوم صريع‪ ،‬ل يظهر فيه أثرُ ناب ول مِخلب‪ ،‬إل بتسديد الرأي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عندك في خبر إبراهيم بن رياح! قال‪ :‬ذاك رجل أوْبقَه كَرمُه‪ ،‬وإن يَفُزْ للكرام قدح‪ ،‬فأحْ ِر ب َمنْجَاته‪ ،‬ومعه دعاء ل يخذله‪ ،‬ورَب ل‬
‫يسلمه‪ ،‬وَفوقه خليفة ل يظلمه‪ .‬قلت‪ :‬فما عندك في خبر نجاح بن سلمة؟ قال‪ :‬لّ درّه من ناقض أوتار‪ ،‬يتوقّد كأنه شعل ُة نار‪ ،‬له في ال َفيْنَة بعد‬
‫الفينة‪ ،‬عند الخليفة خلسة كخلسة السارق‪ ،‬أ ْو كحسوة الطائِر‪ ،‬يقومُ عنها وَقد أفاد نعماً‪ ،‬وَأوْقع نقماً‪ .‬قلت‪ :‬فما عندك في خبر ابن الوزير؟ قال‪:‬‬
‫إخاله َكبْش الزنادِقة‪ ،‬أل ترى أنّ الخليفة إذا أهمله خضِمَ ورَتع‪ ،‬وإذا أمر بتقصيه أمطر فأ ْمرَع‪ .‬قلت‪ :‬فما عندك من خبر الخصيب أحمد؟ قال‪:‬‬
‫صبْره صبرُها‪،‬‬ ‫ذاك أحمق‪ ،‬أكل أكْلَة َنهِم‪ ،‬فاختلف اختلف بشم‪ .‬قلت‪ :‬فما عندك في خبر المعلى بن أيوب‪ .‬قال‪ :‬ذاك رجل قُدّ من صخرة‪ ،‬ف َ‬
‫ومسّه مسّها‪ ،‬وكل ما فيه بعد فمنها ولها‪ .‬قلت‪ :‬فما عندك من خبر أحمد بن إسرائيل؟ قال‪ :‬كتوم غرور‪ ،‬وجَلْد صبور‪ ،‬رجل جِ ْلدُه جلد نمر‪ ،‬كلما‬
‫خرقوا له إهاباً‪ ،‬أنشأ ال له إهاباً‪ .‬قلت‪ :‬فما عندك من خبر الحسن بن وهب؟ قال‪ :‬ذاك رجل اتّخذ السلطانَ أخاً‪ ،‬فاتّخذه السلطانُ عبداً‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪:‬‬
‫شدّ ما استوفيتَ مسألتك أيها الرجل! ذاك حرمة حبست مع صواحباتها في جريرة محرمة‪،‬‬ ‫فما عندك من خبر أخيه سليمان بن وهب؟ قال‪َ :‬‬
‫صدَر‪ ،‬هيهات‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫ليس من القوم في وِ ْردٍ ول َ‬
‫وعلى الغانيات جرّ الذيول‬ ‫ُكتِبَ القتلُ والقتالُ علينـا‬
‫ن يبعثون‪.‬‬ ‫قال‪ :‬قلت‪ :‬فما عندك من خبر عبد ال بن يعقوب؟ قال‪ :‬أمواتٌ غير أحياء‪ ،‬وما يشعرون أيّا َ‬
‫سعَس‪ ،‬وَأنتشِرُ في الصبح إذا تنفّس‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬فأين نزلت فأؤمّك‪ .‬قال‪ :‬ما لي منزل تأمّه‪ .‬أنا أستتِر في الليل إذا عَ ْ‬
‫?ابن راشد‬
‫ومن مليح شعر راشد بن إسحاق بن راشد‪ ،‬وهو أبو حُكيمة‪ ،‬وكان قَوِيّ أسْرِ الشعر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫أُجيلُ وجوه الرأي فيك وما أدري‬ ‫تحيرْتُ في أمري وإني لـواقـف‬
‫أ َم اقنَعُ بالِعْراض والنظَرِ الشّزْرِ‬ ‫أأعْ ِزمُ عَزْمَ اليأْس فالمـوتُ راحةٌ‬
‫ق بين الجوانح والصـدرِ‬ ‫على حُ َر ٍ‬ ‫وإني وإن أعرضت عنك ل ُمنْـطَـوٍ‬
‫فألقاك ما بيني وبينك في سِـتْـرِ‬ ‫إذا هاج شوقي مثّلتك ليَ المـنـى‬
‫ولكِنْ دعاني اليأسُ فيك إلى الصبر‬ ‫فديتك لم أصبر ولـي فـيك حـيلةٌ‬
‫كما صبَر الظمآنُ في البلد القفْـر‬ ‫تصبّرت مغلوباً وإني لـمـوجَـعٌ‬
‫وقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫عطَ َفتْك ألسنة العـتـابِ‬ ‫فما َ‬ ‫عتبت عليك في قطع العتـاب‬
‫عتْب الضميرِ المستَرابِ‬ ‫على َ‬ ‫وفيما صرت تظهر لي دلـيل‬
‫هززْتُ إليك أجنِحَةَ التصابي‬ ‫وما خطرتْ دواعي الشوقِ إلّ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫َب َكيْتِ لـمـحـزونِ الـفـؤا ِد كـئيبِ‬ ‫حكْت ولو َتدْرِين ما بِي من الـهـوى‬ ‫ضِ‬
‫ول قَـلْـبُـهُ مِـنْ َزفْـرَ ٍة ونـحـيب‬ ‫لمن لم تُ َرحْ عيناه من فَـيْضِ عَـبْـ َرةٍ‬
‫غريب الهَـوى بـاكٍ لـكـل غـريبِ‬ ‫لمستأنـس بـالـهـ ّم فـي دارِ وَحْـشَةٍ‬
‫ن هـنـاك وطِـيبِ‬ ‫وما كان من حُسْـ ٍ‬ ‫ن فـانـقـضـى‬ ‫أل بأبي العيشُ الذي با َ‬
‫ن لـذاتِـه بـنـصـيبِ‬ ‫ونـأخـ ُذ مِـ ْ‬ ‫لياليَ يدعونـا الـصّـبـا فـنـجـيبـهُ‬
‫على غَـفْـلَ ٍة مـن كـاشـح ورقـيب‬ ‫نردّدُ مـسـتـور الحـاديث بـينـنـا‬
‫ف ُبدّلَ منـهـا مَـشْـهَـدٌ بـمَـغِـيب‬ ‫إلى أن جرى صَ ْرفُ الحوادث في الهوى‬
‫وله مذهب استفرغ فيه أكثر شعره‪ ،‬صُنتُ الكتاب عن ذكره‪.‬‬
‫أخبار عبد الملك بن صالح‬

‫‪196‬‬
‫حبْسه ‪ -‬فلما َمثَل بين يديه التفت إليه‪ ،‬وكان يُحدث يحيى بن خالد بن بَرْمك وزيرَه‪ ،‬فقال‬ ‫دعا الرشيد بعبد الملك بن صالح ‪ -‬وكان معتقلً في َ‬
‫متمثّل‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫عذي َركَ من خليِلكَ من مُرادِ‬ ‫أريد حياتَه ويري ُد قَـتْـلـي‬
‫ثم قال‪ :‬يا عبدَ الملك‪ ،‬كأني أنظر إلى شُ ْؤبُوبها قد َهمَع‪ ،‬وإلى عارِضِها قد َلمَع‪ ،‬وكأني بالوعيد قد أوْرَى‪ ،‬بل أدْمى‪ ،‬فأبرز عن بَراج َم بل‬
‫سهُلَ لكم الوَعْر‪ ،‬وصفا لكم ال َكدِر‪ ،‬وألقَتْ لكم المور أثناءَ أزِمتها‪ ،‬فنذار لكم نذراً‬ ‫َمعَاصِم‪ ،‬ورؤوس بل غَلَصم‪ ،‬فمهلً بني هاشم‪ ،‬فبي وال َ‬
‫قبل حلول داهية خبوط باليد والرجْل‪ ،‬فقال عبد الملك‪ :‬أفذّا أتكلم أم تَوْأماً؟ قال‪ :‬بل َفذّا‪ ،‬قال‪ِ :‬اتّق ال يا أمير المؤمنين فيما ولك‪ ،‬وأحفظْه في‬
‫سهُلَت لك الوعور‪ ،‬وجمعت على خوفك‬ ‫رعاياك الذي استرعاك‪ ،‬ول تجعل الكفر بموضع الشكر‪ ،‬والعقاب بمَوْضِع الثواب‪ ،‬فقد‪ ،‬والّ‪َ ،‬‬
‫ت لك كما قال أخو بني جعفر بن كلب ‪ -‬يعني لبيداً‪ :-‬الرمل‪:‬‬ ‫ي يََلمْلَمَ‪ ،‬وكن ُ‬
‫ورجائكِ الصدور‪ ،‬وشددْتُ أوَاخِي ملكك بأوثَقَ من ُر ْكنَ ْ‬
‫ن وبَـيَانٍ وجَـدَلْ‬
‫بلـسـا ٍ‬ ‫ومقام ضَـيّق فـرّجـتـه‬
‫ل عن مثل مقامي وزَحَل‬ ‫زَ ّ‬ ‫لو يقومُ الفـيلُ أو فـيالُـهُ‬
‫فأعاده إلى محبسه‪ ،‬وقال‪ :‬لقد نظرتُ إلى موضع السيف من عاتقه مراراً‪ ،‬فيمنعني عن قتله إبقائي على مثله‪.‬‬
‫حقُود! فقال عبد الملك‪ :‬أيها الوزير‪ ،‬إنْ كان‬ ‫وأراد يحيى بن خالد أن يضَ َع من عبد الملك ل ُيرْضِيَ الرشيد‪ ،‬فقال له‪ :‬يا عبد الملك‪ ،‬بلغني أنك َ‬
‫ن ِممّا احتجّ به عبد الملك‪.‬‬
‫شرّ والخير‪ ،‬إنهما لباقيان في قلبي! فقال الرشيد‪ :‬تالّ ما رأيتُ أحداً احتجّ للحقد بأحْسَ َ‬ ‫الحقد هو بقاء ال ّ‬
‫وقد مدح ابن الرومي الحقد‪ ،‬وأخذ هذا المعنى من قول عبد الملك‪ ،‬وزاد فيه‪ ،‬فقال لعاتب عابه بذلك‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ش ّر انتحيْتَ على عرضِي‬ ‫من الخير وال ّ‬ ‫لئن ُكنْتَ في حفظي لمـا أنـا مُـو َدعٌ‬

‫خلُق مَحْض‬
‫ب امرئ يُزْرِي على ُ‬ ‫ور ّ‬ ‫ع ْبتَـنـي إلّ بـفـضـل إبـانة‬ ‫َلمَا ِ‬
‫ب أن تَدان دَيناً ول تقـضـي‬
‫بل العي ُ‬ ‫ض بمثلهـا‬ ‫ن تُجْزَى القرو ُ‬ ‫ول عيبَ أ ْ‬
‫توفيك ما تسدي من القَرْض بالقرض‬ ‫وخيرُ سحـيّاتِ الـرجـال سـجـيةٌ‬
‫من ال َبذْر فيها فهي ناهيك من أرضِ‬ ‫إذا الرض أدّتْ َريْع ما أنـت زارعٌ‬
‫لينقض وتراً آخر الدهر ذو نـقـض‬ ‫ولول الحقُودُ المستكنـات لـم يكـنْ‬
‫وبعض السجايا ينتمين إلى بـعـض‬ ‫وما ا ْلحِ ْقدُ إل توأم الشكر في الفـتـى‬
‫فثَ ّم ترى شكراً على حَسَن القَـرْض‬ ‫فحيث ترى حِقداً عـلـى ذي إسـاءة‬
‫وقال يرد على نفسه‪ ،‬ويذمّ ما مدح‪ ،‬توسعاً واقتداراً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫لقد سََلكْتَ إليه مسلكـاً وَعِـثـا‬ ‫يا مادحَ الحقدِ محتالً له شـبـهـاً‬
‫يعودُ ما ل َم منه مـرةً شَـعِـثَـا‬ ‫إن القبيح وإنْ صنّعت ظـاهِـرَهُ‬
‫على القلوب ولكن قل ما لبـثَـا‬ ‫كم َزخْرَف القول ذو زُور ولبّسهُ‬
‫فلن ترى سببًا منهن منـتـكِـثـا‬ ‫قد أبرم ال أسباب المور مـعـاً‬
‫ساء الدفينُ الذي أضحت له جَدثا‬ ‫ح ْقدِ في ضعفي جوانبـهِ‬ ‫يا دافنَ ال ِ‬
‫يَرِي الصدورَ إذا ما جمْرُهُ حُرثا‬ ‫الـحـقـدُ دا ٌء دَوِيّ ل دواءَ لـهُ‬
‫فإنما يبرئ المصدو َر ما نَـفَـثَـا‬ ‫صفْحٍ أو معـاتـبةٍ‬ ‫ف منه ب َ‬ ‫ش ِ‬ ‫فاست ْ‬
‫ول تكن بصغير القول ُمكْتـرِثـا‬ ‫واجعل طلبك بالوتار ما عظمتْ‬
‫ح الكبادَ أو فرثـا‬ ‫جرَ َ‬‫من مجرم َ‬ ‫فالعفوُ أقربُ للتقـوى وإن جُـرمٌ‬
‫حيْاً إلى خير من صلى ومن ُبعِثا‬ ‫وَ‬ ‫يكفيك في العفو أن ال قـرّظـه‬
‫صدْره شرثـا‬ ‫حقُوداً َ‬ ‫تلقى أخاك َ‬ ‫شهدت أنك لو أذنبـت سـاءك أن‬
‫وأن تصادف منه جانبـًا َدمِـثَـا‬ ‫إذا وسَرّك أن تلقى الذنوب مـعـاً‬
‫بسيئ الفعل جداً كان أو عَبـثَـا‬ ‫إني إذا خلط القوام صالـحُـهـمْ‬
‫خبَثا‬
‫يستخلص الفِضّة البيضاء ل ال َ‬ ‫جعلت قلبي كظرف السبك حينـئذ‬
‫خبُثـا‬
‫حفْظِ ما طاب من ماءً وما َ‬ ‫بِ‬ ‫ولستُ أجعله كالحوض أمـدحُـه‬
‫ت الذي تمثل به الرشيد هو لعمرو بن معد يكرب يقوله لقَيس بن المكشوح المرادي‪ ،‬وقد تمثّل به علي بن أبي طالب‪ ،‬رضي ال عنه‪َ ،‬لمّا‬ ‫والبي ُ‬
‫رأى عبد الرحمن بن مُلْجَم المرادي فقال له‪ :‬أنت تخضب هذه من هذه‪ ،‬وأشار إلى لحيته و ُنقْرَته‪ .‬فقيل له‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬أل تقتله؟ فقال‪:‬‬
‫كيف يقتلُ المرءُ قاتلَه؟‪.‬‬
‫سلَمة بن عبد الملك وبين العباس بن الوليد تباعُد‪ ،‬فبلغ العباس أن مسلمة ينتقصه‪ ،‬فكتب إليه يقول‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫وكان بين مَ ْ‬
‫عذْلِي؟‬ ‫و ُتقْصِر عن مُلحَاتي و َ‬ ‫أل تَ ْقنَى الحـيا َء أبـا سـعـيدٍ‬
‫وأصلك منتهى فرعي وأصلي‬ ‫ن فَرْعَك حين ُتنْـمَـى‬ ‫فلول أ ّ‬
‫ونالتني إذا نَالتْـك نَـبْـلـي‬ ‫وإني إن َرمَ ْيتُك ِهضْتُ عَظمي‬
‫شتْمي وأكْلِي‬ ‫ضمُ حشَاك عن َ‬ ‫يَ ُ‬ ‫لقد أنكرتَني إنـكـارَ خـوفٍ‬
‫حفْلِـي‬ ‫بنى لك مجدَهَا طلبي و َ‬ ‫ت عنـهـا‬ ‫فكم من سَوْرةٍ أبطأ َ‬
‫عَويلي عن مخارجها و َفضْلي‬ ‫و ُمبْهمة عييتَ بهـا فـأبـدى‬
‫ِلقَيسٍ حين خالف كـلّ عَـدْل‬ ‫عمْرٍو في القوافي‬ ‫كقول المرء َ‬
‫أُريدُ حياتـه ويري ُد قَـتْـلـي‬ ‫عذيري من خليلي مـن مـرادٍ‬

‫‪197‬‬
‫لم يتفق له في القافية كما قال عمرو‪ ،‬فغيّره‪.‬‬
‫وعبد الملك هذا هو ابن صالح بن علي‪ ،‬وكان بليغاً جَهيرًا فاضلً عاقلً‪.‬‬
‫ل من قُمامة‪ :‬يا عبدَ‬
‫وقال الجاحظ‪ :‬قال لي عبد الرحمن مؤدب عبد الملك بن صالح‪ :‬قال لي عبد الملك‪ ،‬بعد أن خصّني وصيرنِي وزيرًا بد ً‬
‫سعِدني على ما يقبح؛ دع عنك كيف المير‪ ،‬وكيف أصبح المير؟ وكيف أ ْمسَى؟‬ ‫ف منك بنفسك ول تُ ْ‬ ‫الرحمن‪ ،‬انظر في وجهي؛ فأنا أعْ َر ُ‬
‫واجعل مكانَ التقريظ حُسْنَ الستماع مني‪ ،‬واعلم أن صوابَ الستماع أحسنُ من صواب القول‪ ،‬وإذا‪ - -‬حدّثتك حديثًا فل يفوتنك شيء منه؛‬
‫وأ ِرنِي فهمَك في طرفك؛ إني اتخذتك وزيرًا بعد أن كنت ُمعَلّماً‪ ،‬وجعلتُك جليساً مقرّبا بعد أن كنت مع الصبيان ُمبْعَداً‪ ،‬ومتى لم تعرف نقصان‬
‫جحَان ما صرتَ إليه‪.‬‬ ‫ما خرجت منه لم تعرف رُ ْ‬
‫ل هذا؟ قال‪ :‬حاس ُد ِنعْمة‪،‬‬ ‫ل فس َد عليك‪ ،‬فقال له الرشيد‪ :‬ما يقو ُ‬ ‫شدُ ْد من شكائمه‪ ،‬وإ ّ‬ ‫وساير الرشيدُ عب َد الملك‪ ،‬فقال له قائل‪ :‬طأطئ من إشرافه‪ ،‬وا ْ‬
‫جمْرةُ‬ ‫ك عني‪ ،‬وباعدَه قُ ْربُك مني‪ ،‬وأساءه إحسانُك إلي‪ .‬فقال له الرشيد‪ :‬انخفض القومُ وعلوتَهم؛ فتو َقدَتْ في قلوبهم َ‬ ‫ونافس رُتبة‪ ،‬أغضبه ِرضَا َ‬
‫ض َرمَها ال بالتزيد عندك فقال الرشيدُ‪ :‬هذا لك وذاك لهم‪.‬‬ ‫التأسف‪ .‬فقال عبد الملك‪ :‬أ ْ‬
‫ضعَة من النسان تكل بكَلله إذا كل‪ ،‬وتنفسح بانفساحه إذا ارتجل‪ ،‬إن الكل َم بعد‬ ‫وصعد المنبر‪ ،‬فأُرتج عليه فقال‪ :‬أيّها الناس‪ ،‬إن اللسان ب ْ‬
‫ت مفيدين‪ ،‬وننطق مُرْشِدين‪ ،‬وبعد مقامنا مقام‪ ،‬ووراء أيامِنا‬ ‫ق بعد الظلم‪ ،‬وإنا ل نسكتُ حَصَراً‪ ،‬ول ننطقُ َهذَراً؛ بل نسك ُ‬ ‫الفحام كالشرا ِ‬
‫أيّام‪ ،‬بها فَصْل الخِطاب‪ ،‬ومواقع الصواب‪ ،‬وسأعودُ فأقول‪ ،‬إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫غدْراً بالسلطان‪ ،‬ووثوباً على‬
‫حبْسِه‪ ،‬فقال‪ :‬يا عبد الملك‪ ،‬أكُفرًا بالنّعمةِ‪ ،‬و َ‬ ‫ت عند الرشيد فدعا بعبد الملك بن صالح من َ‬ ‫وقال الصمعي‪ :‬كن ُ‬
‫المام؟ فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬بُ ْؤتُ بأعباءِ الندم‪ ،‬واستحلل النّدم واستحلل النقم‪ ،‬وما ذاك إل من قولِ حاسدٍ‪ ،‬ناشدتك ال والولية‪ ،‬ومودّة‬
‫جنَانك‪ ،‬بحيث يحفظُ ال لي عليك‪ ،‬ويأخذ لي منك‪ ،‬هذا كاتُبك قمامة ينبئ عن‬ ‫القرابة‪ .‬فقال الرشيد‪ ،:‬يا عبد الملك‪ ،‬تَضعُ لي لسانك‪ ،‬وترفعُ لي َ‬
‫ختْر أمير المؤمنين! فقال عبد الملك‪ :‬وكيف ل يكذِب‬ ‫غِّلكَ‪ ،‬فالتفت عبدُ الملك إلى قُمامة وكان قائماً‪ ،‬فقال‪ :‬أحقّا يا قمامة؟ قال‪ :‬حقّا‪ ،‬لقد ُرمْتَ َ‬
‫ع قمامة‪ ،‬هذا ابنُك عبد الرحمن ينبئ عنك بمثل خبر قمامة‪ ،‬فقال عبد‬ ‫علي يا أمير المؤمنين في غَيبتي من َيبْهَتني في حضرتي‪ .‬فقال الرشيد‪َ :‬د ْ‬
‫الملك‪ :‬إنّ عبد الرحمن مأمور أو عَاقّ؛ فإن كان مأمورًا فهو معذور‪ ،‬وإن كان عاقاً فما أتوقّع من عقوقِه أكثر‪.‬‬
‫بين الرشيد والخارجين من السجن‬
‫غدُر كاللّجين‪ ،‬فتكِف على رياضٍ‬ ‫سفُ في ُقيُودِه‪ :‬ولّيتك دمشق وهي جنّة موثِقة‪ ،‬تحيط بها ُ‬ ‫وقال الرشيد للحسن بن عمران وقد ُأدْخِل عليه يَوْ ُ‬
‫كالزّرابي‪ ،‬وكانتْ بيوتَ أموال فما برح بها التعدّي‪ ،‬حتى تركتَها أج َردَ من الصّخْرِ‪ ،‬وأوحش من القَفْر! فقال‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬ما قصدت لغير‬
‫ن المراغمة بتَرْك العِمارة أوقَعُ بإضرار‬ ‫التوفيق من جهتِه‪ ،‬ولكني ولّيت أقوامًا ثَ ُقلَ على أعناقهم الحق‪ ،‬فتفرّغوا في ميدان التعدّي‪ ،‬ورأوْا أ ْ‬
‫جدَة أمير المؤمنين قد أخذتْ لهم بالحظّ الوفر من مساءتي! فقال عبد ال بن مالك‪ :‬هذا أجزلُ كلم‬ ‫ن مَ ْو ِ‬
‫جرَم أ ّ‬‫السلطانِ‪ ،‬وأنوَه بالشنعة؛ فل َ‬
‫سُمع لخائف‪ ،‬وهذا ما كنّا نسمعه عن الحكماء‪" :‬أفضل الشياء بديهةُ أمْنٍ وردَتْ في مقامِ خَوْف"‪.‬‬
‫ي النعمةَ بوَجْهِ الرضا منك‪ ،‬وجزاكَ‬ ‫سبُلَ الكرام ِة بلقائك‪ ،‬وردّ عل ّ‬ ‫سهّل لي ُ‬ ‫ولما رَضِيَ الرشيدُ عن يزيد بن مَزْيد دَخل عليه فقال‪ :‬الحمد لّ الذي َ‬
‫ق المتثبتين المراقبين‪ ،‬وفي حَال رضاكَ حقّ المنعمين المتَطَولين؛ فقد جعلك الّ ‪ -‬وله الحمد ‪ -‬تتثبت تحرّجا عند‬ ‫ال في حال سُخْطِك ح ّ‬
‫الغضب‪ ،‬وتتطول ممتنّاً بالنعم‪ ،‬وتس َتبْقي المعروفَ عند الصنائع تفضّلً بال َعفْو‪.‬‬
‫في باب الرثاء‬
‫وفي يزيد بن مزيد يقول مسلم بن الوليد مرثيته‪ ،‬وقد رُويت له في يزيد بن أحمد السلمي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫خطَـارُ‬‫ص ُر دونهُ ال ْ‬
‫خَطَراً تقَا َ‬ ‫ستَسَرّ ضـريحُـه‬ ‫َقبْ ٌر ببَ ْرذَعَةَ أ ْ‬
‫ت نُزّاعَها المصـارُ‬ ‫جعَ ْ‬‫واستَرْ َ‬ ‫س َنفْضَ إقامةٍ‬ ‫نَ َفضَتْ بك الحل ُ‬

‫أثنى عليها السـهـلُ والوْعَـا ُر‬ ‫ب كما ذهبتْ غَوَادي مُـ ْزنَ ٍة‬ ‫فاذْهَ ْ‬
‫حتى إذا سبق ال ّردَى بك حـارُوا‬ ‫ت بكَ العَ َربُ السبيلَ إلى العُلَ‬ ‫سلكَ ْ‬
‫وقال أبو عبد الرحمن محمد بن أبي عطية يرثي أخاه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫و َزفَ ْفتَه للمـنـزل الـمـهـجـورِ‬ ‫طتَـه يا نـصـرُ بـالـكـافـور‬ ‫حنّ ْ‬
‫َ‬
‫فيصوغَ أفـق مـنـازلٍ وقُـبـورِ‬ ‫خصَـالِـه حَـنّـطْـتَـهُ‬ ‫هلّ ببعض ِ‬
‫ُتعْزَى إلى التقديسِ والـتـطـهـير‬ ‫واللـه لـو بـنـسـيم أخـلق لـهُ‬
‫لتـزوّد بـل عُـدّةً لـنـشـــور‬ ‫حنطت من وطئ الحصى وعَلَ الربى‬
‫قد كان خـير مُـجَـاوِر ومُـجـير‬ ‫فاذهب كما ذهب الشـبـابُ فـإنـهُ‬
‫عصفت به رِيحـاَ صـبـًا و َدبُـور‬ ‫واذهب كما ذهب الـوفـاء فـإنـه‬
‫شرَفاً ولكن نَـفْـثَة الـمـصـدُورِ‬ ‫والـلـه مـا أبّـنْــتُـــه لزيدهُ‬
‫ل من العرب كان يعولُ اثني عشر ألفاً‪ ،‬فلما حُمل على سريره صرّ‪ ،‬فقال بعضُ من حضر‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ومات رج ٌ‬
‫ولكنه أصلبُ قو ٍم َتقَـصّـف‬ ‫ش ما تسمعونهُ‬ ‫وليس صَرِيرُ النع ِ‬
‫ولكنه ذاك الثناءُ المـخـلّـفُ‬ ‫وليس فتيق المسك ما تجدونـهُ‬
‫وقال عبد ال بن المعتز في عبيد ال بن سليمان بن وَهْب يرثيه‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫عجبي يوم متّ كيف حَـيِيتُ‬ ‫ب بالكُرْه منّي بقيتُ‬ ‫يا ابنَ وَهْ ٍ‬
‫ل مِسْك َنعْتِك المـفـتـوتُ‬ ‫إنما طيّب الثناء الذي خلفـت‬
‫ت فلقيتُه ولـسـتُ أفـوتُ‬ ‫واختصرت الطريق بعدك للمو‬
‫بيدِ الدّهْرِ عُودُه مـنـحـوت‬ ‫كيف َيبْقَى على الحوادث حَيّ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬المتقارب‪:‬‬

‫‪198‬‬
‫ذكرتُ وما غيّبوا في الكَفَنْ‬ ‫ذكرت ابنَ وَهْبٍ فللّه مـا‬
‫ويعلمُ بالظن ما لـم َيكُـنْ‬ ‫تقطـر أقـلمـه مـن دم‬
‫وما تحته حَرَكاتُ الفَطِـنْ‬ ‫وظاهر أطرافـه سَـاكـنٌ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن منّي بكاهُمـا‬ ‫فلم تحبس العينا ِ‬ ‫ب دُونَـه‬ ‫ذكرت عبيد ال والتـر ُ‬
‫ن نَـدَاهُـمـا‬
‫يدَاهُ تروّي قبرَه مِ ْ‬ ‫سقَى الغيثُ قبرَهُ‬ ‫وحَاشاه من قولٍ َ‬
‫وهذا مأخوذ من قول الطائي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ب ول قَـطْـرُ‬ ‫وإن لم يكُنْ فيه سحـا ٌ‬ ‫خصَه‬‫ث غيثاً وارَتِ الرضُ شَ ْ‬ ‫سقى الغي ُ‬
‫بإسقائها َقبْراً وفي َلحْـدِه الـبَـحْـرُ‬ ‫حتِمالي للسـحـابِ صـنـيعةً‬ ‫وكيف ا ْ‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ُيبْقِ في المجدِ والمكارم ِذكْرا‬ ‫لم َتمُتْ أنتَ‪ ،‬إنما مات مَنْ لم‬
‫ظمَأ وقد تضمّن َبحْرا؟‬‫كيف يَ ْ‬ ‫لستُ مستسقياً لقبرك غـيثـاً‬
‫والبيت الثاني من هذين من بيت الطائي‪ :‬وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ق دَمُـ ْه‬‫ُأرِيق ماءُ المعالـي إذْ أرِي َ‬ ‫ح َم ْيدٍ أُخلِـقـت ِرمَـمُـهْ‬
‫محمدُ بنُ ُ‬
‫كالبدر حين انْجَلتْ عن وجهه ظُلمُهْ‬ ‫ف مُـحْـتَـبـياً‬
‫رأيته بنِجادِ الـسـي ِ‬
‫أيقنت عند انتباهي أنهـا نِـعَـمُـهْ‬ ‫في روضةٍ حفها من حولها زَهَـرٌ‬
‫جرِي وقد خ ّددَ الخدَين منسَجمُـهْ‪:‬‬ ‫يَ ْ‬ ‫جدٍ ومن حُـرَق‬ ‫ت والدمعُ من َو ْ‬ ‫فقل ُ‬
‫فقال لي‪ :‬لم َيمُتْ من لم يمت كَ َرمُهْ‬ ‫ألم تمت يا سليلَ المجد من زمـنٍ؟‬
‫وقال بعض أهل العصر‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وموتُه موتُه ل موته الـدّانـي‬ ‫ى ذِكرُه‪ ،‬ل طولُ م ّدتِه‬ ‫عمْرُ الفت َ‬
‫ُ‬
‫جمَعْ به لك في الدنيا حَياتـانِ‬
‫تُ ْ‬ ‫فأَحي ذكرَك بالحسان تزرعهُ‬
‫حمْصي‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقال عبد السلم بن رَغبان ال ِ‬
‫ك فعه ال َغيْثُ والّليْثُ والبَدْ ُر‬
‫َل َقبْ ُر َ‬ ‫سقَى ال َغيْثُ أَرضاً ضمّنتكَ وسَاحَةً‬ ‫َ‬
‫ن مَنْ حَوَى ذلك ال َقبْرُ‬ ‫لسُقيا‪ ،‬ولك ْ‬ ‫ل إذْ أصابتك بالبِلَـى‬ ‫وما هي أَهْ ٌ‬
‫أخذ هذا البيت الول‪ ،‬الراضي فقال يرثي أباهُ المقتدر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لقد ضَ ّم منك الغيثَ والليثَ وال َبدْرا‬ ‫ض ّمنْت في سَاحة البِلَى‬ ‫بنفسي ثرًى ُ‬

‫وأسعدني المقدو ُر قاسمْ ُتكَ العمرا‬ ‫ع مشيئتي‬ ‫فلو أنّ عمري كان طو َ‬
‫لصيّرْتُ أحشائي لَعْظُمه َقبْـرا‬ ‫ولو أنَ حيّا كان َقبْـراً لـمـيّتٍ‬
‫هذا البيت ينظر إلى قول المتنبي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ح ٍد محفورُ‬
‫في قَلْبِ كل مو ّ‬ ‫جدَثاً كأن ضريحهُ‬ ‫حتى أتَوْا َ‬
‫أخبار قطر الندى‬
‫خمَارَ َويْه بن أحمد بن طولون إلى المعتضد كتب معها أبوها إليه يذكر بحُ ْرمَة سلفها بسلفه‪ ،‬ويذكرُ ما ت ِردُ عليه من‬ ‫لما حُملت قَطْرُ الندى بنت ُ‬
‫ت من قَلْبِ المعتضد لما ُزفَت إليه‪ .‬مبلغاً عظيماً‪ ،‬وسُرّ بها غاية السرور‪ ،‬وأمر‬ ‫أبّهة الخلفة‪ ،‬وجللة الخليفة‪ ،‬ويسأل إيناسها وبَسْطَها‪ ،‬فبلغَ ْ‬
‫الوزير أبا القاسم عبيد ال بن سليمان بن وهب بالجواب عن الكتاب‪ ،‬فأراد أن يكتبَه بخطّه‪ ،‬فسأله أبو الحسين بن ثَوَابَة أن يُؤْثره بذلك ففعل‪،‬‬
‫حيَاطة عليها‪ ،‬ورعايةً‬ ‫وغاب أياماً وَأتى بنسخة يقول في فصل منها‪ :‬وأمّا ال َودِيع ُة فهي بمنزلَةِ شيءٍ انتقل من يمينك إلى شمالك‪ ،‬عنايةً بها‪ ،‬و ِ‬
‫ف البلغة‪ ،‬فقال عبيد الّ‪ :‬ما أقبحَ هذا تفاء ْلتَ‬ ‫لمودتك فيها‪ .‬ثم أقبل عبيد ال يُعجب من حُسْنِ ما وقع له من هذا‪ ،‬وقال‪ :‬تسميتي لها بالوديعة نص ُ‬
‫لمرأةٍ ُزفّت إلى صاحبها بالوديعة‪ ،‬والوديعةُ مستردة‪ .‬وقولك‪ :‬ل من يمينك إلى شمالك أقبح؛ لنك جعلت أباها اليمين وأمير المؤمنين الشمالَ‪،‬‬
‫ت منك؛ لتف ّقدِنا لها‪ ،‬وأنسِنا بها‪،‬‬ ‫ت عنك‪ ،‬بمنزلة من قربَ ْ‬ ‫ن بعدَ ْ‬
‫ولو قلت‪ :‬وأما الهديةُ فقد حسن موقعها منّا‪ ،‬وجلّ خطرُها عندنا! وهي وإ ْ‬
‫ولسرورها بما وردَتْ عليه‪ ،‬واغتباطها بما صارت إليه لكان أحسن‪ .‬فنفذ الكتاب‪.‬‬
‫ت منه الكأس‪،‬‬ ‫ط ُر الندى مع جمالها موصوفةً بفضل العقل‪ ،‬خل بها المعتضد يوماً للُنس بها في مجلسٍ أفرده لم يحضرْه غيرها‪ ،‬فأخذَ ْ‬ ‫ت قَ ْ‬
‫وكانَ ْ‬
‫جدْها‪ ،‬فاستشاط‬ ‫فنام على فخذها‪ ،‬فلمّا استثقلَ وضعَتْ رأسَه على وسادة‪ ،‬وخرجت فجلست في ساحة القصر على باب المجلس‪ ،‬فاستيقظ فلم يَ ِ‬
‫ضعِين رأسي على وسادة!‬ ‫ت إليك مهجتي دون سائر حظاياي‪ ،‬فت َ‬ ‫غضباً‪ ،‬ونادى بها فأجابته على قرب‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا؟ أَخليتك إكراماً لكِ‪ ،‬ودفع ُ‬
‫ت فيه إليّ‪ ،‬ولكن فيما أدّبني به أبي أن قال لي‪ :‬ل تنامي مع الجلوس‪ ،‬ول‬ ‫ت به عليّ‪ ،‬وأحسن َ‬ ‫ت قدرَ ما أنعم َ‬ ‫فقالت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬ما جهل ُ‬
‫تجلسي بين النيام‪.‬‬
‫رجع إلى الرثاء‬
‫وفي أبي الحسين بن ثوابة يقول ابن المعتز يَرْثيه‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫علـــبَ الـــدهـــرُ حِـــيلة القَـــوامِ‬ ‫ليس شـــيءٌ لـــــصـــــــحّة ودَوام‬
‫فعـلـى رُوحـــه سَـــلم الـــســـلمِ‬ ‫وتـولّـى أبـو الـحُــســـين حـــمـــيداً‬
‫د وصـافـحْـتُـه بــكـــفّ الـــذّمـــام‬ ‫حين عـاقـدْتـه عـلـى الـحِـفْـظ لـلـعَـــه‬
‫كاصـطـفــاءِ الرواح لـــلجـــســـامِ‬ ‫واصـطـفـتْـه عـلـى الخـلّ ِء نَـفْـســـي‬

‫‪199‬‬
‫ن الـقَـوافِـي شـعـرًا وبَــحْـــر كَـــلَمِ‬ ‫كَانَ َريْحــانة الـــنّـــدامـــى ومـــيزا‬
‫ك ول يستغِيث بالوهام‬ ‫ومكان السهم الذي ل يَرَى الش ّ‬
‫ساحر الوحي في القراطيس ل تحبس عنه أعنّة القلم‬
‫صبْحاً منقّبا بظلم‬ ‫فإذا ما رأيته خِلْت في خ ّديْه ُ‬
‫خُلـــق مــــــن خـــــــلئق اليام‬ ‫صبْرًا ل تجزَعِي إن هذا‬ ‫نفسُ‪َ ،‬‬
‫ما قالته الشعراء في ريعان الشباب‬
‫وأنشد أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب لرجل من بني كلب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وفارقَنا إل الحُـشَـاشة بـاطِـلـهْ‬ ‫غيَاطِـلُـهْ‬ ‫سقَى ال دهرًا قد توالَتْ َ‬
‫يُطيع هَوى الصابي و ُتعْصَى عواذِلهْ‬ ‫ض مـاجـدٍ‬ ‫خدْني كـلّ أبـي َ‬ ‫لياليَ ِ‬
‫ت ذاك الدهر ُتثْـنـي أوإئِلُـهْ‬ ‫أل لي َ‬ ‫وفي دَهْرِنا والعيشُ في ذاك غِـرّة‬
‫يمايلـنـا َر ْيعَـانُـه ونُـمَـايُلـهْ‬ ‫بما قد غنينا والصّبا جُـلّ هـمّـنـا‬
‫يطاوِلنا فـي غَـيّهِ ونُـطَـاولُـهْ‬ ‫جرّ لنا أذيالَـه الـدهـرُ حِـقْـبَةً‬ ‫وَ‬
‫مطيّتنـا فـيه ووَلَـت رَواحـلُـه‬ ‫فَسَقْيًا له من صاحبٍ خذلَـتْ بـنـا‬
‫وأهجرُه حتى كـأنـيَ قـاتـلُـهْ‬ ‫صدّ عن البيتِ الذي فيه قـاتـلـي‬ ‫أَ ُ‬
‫ف ظبية ووَلدَها‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ص ُ‬
‫هذا البيت يناسب قول ذي الرمة‪ ،‬إن لم َيكُن في هذا المعنى‪ ،‬ي ِ‬
‫تنخت ونصّتْ جِيدَها بالمنـاظِـر‬ ‫إذا استودَعتْه صفصفاً أو صَرِيمَةً‬
‫بكل مَقِيل عن ضِعافٍ فـواتِـرِ‬ ‫ن يَصْرعُه الكَرى‬ ‫حذَاراً على وَسْنا َ‬ ‫ِ‬
‫جرِ‬‫وكم من مُحِب رَ ْهبَة ال َعيْنِ ها ِ‬ ‫وتهجرُه إل اختلسًا نَـهَـارَهَـا‬
‫وقال أبو حية النميري‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫جميلً ما يرا ُد به بَـدِيلُ‬ ‫أما وأبي الشباب لقد أراهُ‬
‫وظِلّ أرَاكَةِ الدنيا ظليلُ‬ ‫إذِ اليامُ مقبلةٌ عـلـينـا‬
‫وقال علي بن بسام‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫فما والَهُما فـالـقـرْيتَـينِ‬ ‫بشاطئ نهر قبرك فالمصلّـى‬
‫ض اليدينِ‬ ‫وصرف الدهر مقبو ُ‬ ‫معا ِهدُ َلهْوِنا والعـيشُ غَـضّ‬
‫وكان ابن بسام هذا ‪ -‬وهو علي بن محمد بن‪ ،‬منصور بن بسام‪ ،‬مليح المقطعات‪ ،‬كثير الهجاء خبيثهُ‪ ،‬وليس له حظ التطويل‪ ،‬وهو القائل‪:‬‬
‫الكامل‪:‬‬
‫نُطَفُ المياهِ بها سَوادُ الناظِرِ‬ ‫طعْت إليك من َد ْيمُومَةٍ‬ ‫كم قد ق َ‬
‫سوداءُ مظلمة كقَ ْلبِ الكافـرِ‬ ‫في ليلةٍ فيها السمـا ُء مُـ ِرذّة‬
‫خَفْقَ الفؤاد لموع ٍد مـن زائرِ‬ ‫والبرقُ يخفِقُ من خلل سحابهِ‬
‫دمع المودّع إثْر إ ْلفٍ سـائرِ‬ ‫والقَطْ ُر منهمِلٌ يسُـحّ كـأنـهُ‬
‫وقال في العباس بن الحسين لما َوزَرَ مكتفي‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ستقلع الدول َة من أُسّهـا‬ ‫حسِها‬ ‫س من نَ ْ‬ ‫وزارة العبا ِ‬
‫في خِلع يخجل من لبْسِها‬ ‫شَبهْته لما بَدَا مُـقْـبِـلً‬
‫ثياب مولها على نفسِها‬ ‫جاريةً رَعنَاء قد قـدرَتْ‬
‫وقال في علي بن يحيى المنجم يَرْثيه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ولكَ الزيارة من أقلّ الواجبِ‬ ‫قد زرتُ قبرك يا علي مسلّمـاً‬
‫فلطالما عني حملتَ نـوائبـي‬ ‫ولو استطعت حملتُ عنك تُرَابهُ‬
‫وكان مولعًا بهجاء أبيه‪ ،‬وفيه يقول وقد ابتنى داراً‪ :‬الرملي‪:‬‬
‫سلّط ال عليها الغَرَقـا‬ ‫شدْتَ داراً خِلْتها َمكْرُمةً‬ ‫ِ‬
‫وأرانيها صعيداً َزلَقَـا‬ ‫وأرانيك صريعاً وسطها‬
‫وقال أبو العباس بن المعتز يهجوه‪ :‬المجتث‪:‬‬
‫فشعرُه قد كفَـاهُ‬ ‫من شاء َيهْجُو علياً‬
‫ما كان َيهْجُو أباهُ‬ ‫لو أنـه لبــيهِ‬
‫من أخبار المأمون ويزيد بن معاوية‬
‫وقال المأمون لحمد بن أبي خالد‪ ،‬وهو يخلف الحسنَ بن سَهل‪ ،‬وقد أشار إليه برأي استرجَحه‪ :‬قد اعتل الحسنُ ولزم بيته‪ ،‬ووكَلَ المرَ إليك‪،‬‬
‫فأنا إلى راحته وبقائه‪ ،‬أحوجُ مني إلى إتعابه وفنائه‪ ،‬وقد رأيتُ أن أستوزرك‪ ،‬فإن المر له ما دُمْتَ أنت تقوم به‪ ،‬وقد طالعتُ رأيه في هذا‬
‫ل بيني وبين الغاية ما يرجوني له وَليّي‪،‬‬ ‫عدَاك‪ .‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أَعفِني من التسمي بالوزارة‪ ،‬وطالبني بالواجب فيها‪ ،‬واجع ْ‬ ‫المر‪ ،‬فما َ‬
‫ويخافني له عدُوّي‪ ،‬فما بعد الغايات إل الفات‪ .‬فاستحسن كلمه‪ ،‬وقال‪ :‬ل بُ ّد من ذلك‪ ،‬واستوزره‪.‬‬
‫ورأى المأمونُ خط محمد بن دَاود فقال‪ :‬يا محمد! إن شار ْكتَنَا في اللفظ‪ ،‬فقد فارقناك في الخط‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن من أعظم آياتِ‬
‫حيَه‪ ،‬وهو أمي ل يعرف من فنون الخط َفنّا‪ ،‬ول يقرأ من‬ ‫النبي‪،‬صلى اله عليه وسلم‪ ،‬أنه أدّى عَنِ ال سبحانه وتعالى رسالته‪ ،‬وحفظ عنه َو ْ‬
‫شبَه الكريم في نَقْص الخط‪ ،‬كما يشرفُ غيرُهم بزيادته؛ وإن أمير المؤمنين أخصّ‬ ‫شرُفون بال َ‬ ‫سائره حَرفاً‪ ،‬فبقي عمود ذلك في أهله‪ ،‬فهم يَ ْ‬

‫‪200‬‬
‫الناس برسول ال‪ ،‬صلى اله عليه وسلم‪ ،‬والوارثُ لموضعه‪ ،‬والمتقلّد لمره ونهيه؛ فعلقت به المشابهة الجليلة‪ ،‬وتنا َهتْ إليه الفضيلة‪ ،‬فقال‬
‫المأمون‪ :‬يا محمد‪ ،‬لقد تركتني ل آسَى على‪ .‬الكتابة‪ ،‬ولو كنتُ أمياً‪.‬‬
‫وهذا شبيهٌ بقول سعيد بن المسيب‪ ،‬وقد قيل له‪ :‬ما بال قريش أضعفُ العرب شعراً‪ ،‬وهي أشرفُ العرب بيتاً؟ قال‪ :‬لنّ كَوْن رسول ال صلى‬
‫اله عليه وسلم‪ ،‬منها قطع مَتن الشعر عنها‪.‬‬
‫عمْرو بن َمسْعدَةَ يقرأ عليه الرقَاع‪ ،‬فجاءته عَطْسَةٌ‪ ،‬فلوَى عنقه فردّها‪ ،‬فرآه‬ ‫وقال إبراهيم بن الحسن بن سَهل‪ :‬كنّا في مجلس المأمون و َ‬
‫المأمون فقال‪ :‬يا عمرو‪ ،‬ل تفعَل فإن ردّ العَطسة وتحويل الوجه بها يُورثان انقطاعاً في العنق‪ .‬فقال بعض ولد المهدي‪ :‬ما أحسنها من مولَى‬
‫لعبده‪ ،‬وإمام لرعيته! فقال المأمون‪ :‬وما في ذلك؟ هذا هشامٌ اضطربت عِمامته فأَهوى البرش الكلبي إلى إصلحها‪ ،‬فقال هشام‪ :‬إنّا نتّخِذُ‬
‫ت عليه‪ ،‬ويظلم‪ ،‬فيما تعدل فيه‪ ،‬ليس‬ ‫ط ِبعْ َ‬
‫ن مما قلته‪ .‬فتمال عمرو‪ :‬يا أمير المومنين‪ ،‬إنّ هشامًا يتكلّف ما ُ‬ ‫الخوان خَ َولً! فالذي قال هشام أحس ُ‬
‫له قرابتك من رسول ال‪ ،‬صلى اله عليه وسلم‪ ،‬ول قيامك بحقّ ال‪ ،‬وإنك والملوك لكما قال النابغة الذبياني‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ترى كل مَ ْلكٍ دونها يتذبـذبُ‬ ‫ألم تَرَ أنّ ال أعطاك سَـوْ َرةً‬
‫إذا طل َعتْ لما يَب ُد منهنّ كوكبُ‬ ‫لنك شمسٌ والملوك كواكـبٌ‬
‫أخذ النابغة هذا من قول شاع ٍر قديم من كندة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لعمرو بن هند غَضبَة وهو عاتِـبَ‬ ‫تكادُ َتمِيد الرض بالنـاس إنْ رَأوا‬
‫ك كواكـبُ‬ ‫على كل ضوءٍ والملو ُ‬ ‫ت يوم دَجْنٍ فأفضَلتْ‬ ‫هو الشمس وافَ ْ‬
‫قار يزيد بن معاوية لجميل بن أوس‪ ،‬وكان أكرمه واجتباه‪ :‬لم كرِهْت الفراط في تقديمي‪ ،‬وتطا َمنْتَ عن الدرجة التي سما بك إليها مكانك مني؟‬
‫فقال‪ :‬أيّد ال سلطانك‪ ،‬وأعلى مكانك‪ ،‬إن الذين كانوا قبلنا من أهل العلوم والداب‪ ،‬والعقول واللباب‪ ،‬كانوا أطول أعمارًا منّا‪ ،‬وأكثر للزمان‬
‫صحْبة‪ ،‬وأكثر لليام تجربة‪ ،‬وقد قال الحكيم‪ :‬بقدر الثواب عند الرّضا يكون العقاب عند السخط‪ ،‬وب َقدْر السموّ في الرفعة تكون وَجْبة الرفعة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫سخْطِك والدن ّو ممّا يقرب منه‪ ،‬فلستُ‬ ‫ول خير فيمن ل يسمع الموعظة‪ ،‬ول يقبل النصيحة‪ ،‬وأنا يا أمير المؤمنين‪ ،‬وإن كنت آمناً من التعرض ل ُ‬
‫طعْنِ المُساوِي في الدرجة عندك‪ ،‬وحقر المشارك لي في المنزلة منك‪ ،‬وليس من تقديمك قليل‪ ،‬ول من َتعْظِيمك يسير‪ ،‬فإن أقل ذلك‬ ‫ن من َ‬ ‫بآمِ ٍ‬
‫فيه النباهة‪ ،‬والفخر‪ ،‬والثناء‪ ،‬والذكر‪ ،‬وحسبي مما بذلته من أموالك استحقاقي عندك لكرامك‪ ،‬وحسبي من تقديمك خالص رضاك‪ ،‬وصفاء‬
‫ضميرك‪.‬‬
‫مختار من أقوال الحكماء عند وفاة السكندر‬
‫جعِل السكندر في تابوت من ذهبٍ تقدّم إليه أحدُهم فقال‪ :‬كان الملك يخبأُ الذهب‪ ،‬وقد صار الن الذهبُ يخبؤه‪ ،‬وتقدم إليه آخر‪ ،‬والناسُ‬ ‫لما ُ‬
‫يبكون ويجزعون‪ ،‬فقال‪ :‬حرّكنا بسكونه‪ ،‬أخذه أبو العتاهية فقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ل فَقْـدُه يوم بـنـتـا‬‫جّ‬ ‫صاحبٌ َ‬ ‫ن مـنّـي‬ ‫ي بْنَ ثـابـت بـا َ‬
‫يا عل ّ‬
‫تِ وح ّركْتَني لهـا وسَـكَـنْـتَـا‬ ‫غصَص المو‬ ‫قد َل َعمْرِي حكيتَ لي ُ‬
‫ك يعِظُنا في حياته‪ ،‬وهو اليومَ أوعظُ منه أمسِ‪ .‬أخذه أبو العتاهية فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫وتقدّم إليه آخر فقال‪ :‬كان المِل ُ‬
‫ظ منك حيّا‬ ‫وأنتَ اليومَ أوْعَ ُ‬ ‫وكانت في حياتك لي عِظَاتٌ‬
‫وتقدّم إليه آخر فقال‪ :‬قد طاف الرَضينَ وتملّكها‪ ،‬ثم جُعل منها في أربعة أذرع‪ .‬ووقف عليه آخر فقال‪ :‬ما لك ل تُقلّ عضوًا من أعضائك‪ ،‬وقد‬
‫غبُ‬ ‫جلَى‪ .‬وقال آخر‪ :‬ما لك ل تر َ‬ ‫ل ملكَ العباد؟ ووقف عليه آخر فقال‪ :‬انظرْ إلى حلم النائم كيف انقضى‪ ،‬وإلى ظلّ الغمام كيف ان َ‬ ‫كنت تستق ّ‬
‫ب بها عن رحب البلد! وقال آخر‪ :‬كان الملك غالباً فصار مغلوباً‪ ،‬وآكلً فصار مأكولً‪ .‬وقال آخر‪:‬‬ ‫بنفسك عن ضيق المكان‪ ،‬وقد كنت ترغ ُ‬
‫ت كثيرًا من الناس لئلّ يموت‪ ،‬وقد ماتَ الن‪ .‬وقال آخر‪ :‬ما كان أقبح إفراطك في التجبّر أمس‪ ،‬مع شدّة خضوعك اليوم‪ .‬وقالت‬ ‫ت هذا المي ُ‬‫أمَا َ‬
‫بنت دارا‪ :‬ما علمت أنّ غالب أبي يُغلَب‪ .‬وقال رئيس الطباخين‪ :‬قد نضدت النضائِدُ‪ ،‬وأُلقيت الوسائد‪ ،‬ونُصِبت الموائد‪ ،‬ولستُ أرى عميدَ‬
‫المجلس!‪.‬‬
‫جملة من كلم ابن المعتز‬
‫في الفصول القصار في ذكر السلطان‬
‫شقَى الناس بالسلطان صاحبه‪ ،‬كما أنّ أقربَ الشياء إلى النارِ أسرعُها احتراقاً‪ .‬ل يُدْ ِركُ الغني بالسلطان إل نفس خائفة‪ ،‬وجِسْ ٌم تعِب‪ ،‬ودينٌ‬ ‫أْ‬
‫متثلم‪ .‬إن كان البح ُر كثير الماء فإنه بعيدُ ال َمهْوى‪ ،‬ومَنْ شارك السلطانَ في ع ّز الدنيا شاركه في ذُلّ الخرة‪ .‬فسادُ الرعية بل ملك كفسادِ الجسم‬
‫صبْرِ الغوّاص على ملوحة بَحْرِه‪ .‬الملك بالدين يبقى‪،‬‬ ‫بل رُوح‪ ،‬إذا زادك السلطان تأنيساً ف ِزدْهُ إجللً‪ .‬مَنْ صحب السلطانَ صبر على قسْوته ك َ‬
‫حتْه المجازاة‪ .‬ل تلتِبس بالسلطان في وقت اضطرابِ المور عليه؛ فإن البحر ل يكادُ يسلم صاحبه‬ ‫والدينُ بالمُلكِ َيقْوى‪ .‬من نصح لخدمة نص َ‬
‫ل سكونه‪ ،‬فكيف عند اختلف رياحه‪ ،‬واضطراب أمواجِه؟‪.‬‬ ‫في حا ِ‬
‫ومن كلم أهل العصر‬
‫وغيرهم في هذا النحو‬
‫الوطانُ حيث يعدل السلطان‪ .‬إذا نطق لسان العدل في دار المارة‪ ،‬فلها البُشرى بالعز والمارة‪ .‬آخر بالملك العادل أن يستقل سريرَه في سُرّة‬
‫جبَاراً‪ .‬من غمس يده في مال السلطان فقد‬ ‫سمُوم‪ ،‬وعلى قوم نَسيم‪ .‬أخْلِقْ بدم المستخفّ بالجبابرة أن يكون ُ‬ ‫الرض‪ ،‬ريحُ السلطان على قوم َ‬
‫مشى بقدمه على دَمه‪ .‬الملك خليفةُ ال في عبادِه وبلدِه‪ ،‬ولن يستقيم أمرُ خلفته مع مخالفته‪ .‬الملك مَنْ ينشرُ أثواب الفضل‪ ،‬ويبسطُ أنواعَ‬
‫العدل‪ .‬السلطانُ كالنارِ‪ :‬إنْ باعدتها بطل َن ْفعُها‪ ،‬وإن قاربتها عَظُم ضررها‪ .‬إقبالُ السلطان َتعَب و ِف ْتنَةٌ‪ ،‬وإعراضُه حسرة ومذلّة‪ .‬صاحبُ‬
‫ن إذا قال لعمّاله‪ :‬هاتوا‪ ،‬فقد قال لهم‪ :‬خذوا ثلثة ل أمان لهم‪ :‬السلطان‪ ،‬والبحر‪،‬‬ ‫السلطان كراكب السد يهابُه الناسُ وهو لمركبه أهيبُ‪ .‬السلطا ُ‬
‫والزمان‪ .‬ليكن السلطان عندك كالنار‪ :‬ل تدنُو منها إل عند الحاجة إليها‪ ،‬وإن اقتبست منها فعلى حذر‪ .‬مثل أصحاب السلطان كقوم َرقُوا جبلً ثم‬
‫سبْع حَطوم‪ ،‬فالرتقاء إليه‬ ‫ل ثمرة طيبة‪ ،‬وكل َ‬ ‫صعْب الذي فيه ك ّ‬ ‫وقعوا منه‪ ،‬فكان أقربُهم إلى التلف أبعدَهم في المرقى‪ .‬مثل السلطان كالجبل ال َ‬
‫شديد‪ ،‬والمقام فيه أشدّ‪ .‬لئن عزّ الملوك في الدنيا بالجور ليذلُن في الخرة بالعدل‪.‬‬
‫حبِ‪ :‬الوافر‪:‬‬‫عبّاد الصا ِ‬‫لبن َ‬
‫حذَرْهُ ورَاقِـبْ‬ ‫من التعظيمِ وا ْ‬ ‫إذا ولّك سـلـطـانٌ فـزده‬

‫‪201‬‬
‫حذُورُ العَواقِ ْ‬
‫ب‬ ‫وتربُ البحر مَ ْ‬ ‫فما السلطانُ إل البحرُ عظمـاً‬
‫جهِها‪،‬‬
‫ووصف أحمد بن صالح بن شيران جاري ًة كاتبة فقال‪ :‬كأَنّ خطها أشكال صورتها‪ ،‬وكأن مِدَادَها سوادُ شعرها‪ ،‬وكأن قرطاسها ًأدِيمُ وَ ْ‬
‫سكّينها غُنج لحظها وكأن مِقطَعها قلبُ عاشقها‪.‬‬ ‫سحْ ُر مقلتها‪ ،‬وكأن ِ‬ ‫ن قلمَها بعضُ أناملها‪ ،‬وكأن بنانَها ِ‬ ‫وكأ ّ‬
‫وقال بعضُ الكتّاب يصف غلماً كاتباً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ب بِوَ ْردِهِ‬ ‫كبنفسج الروْضِ ال َمشُو ِ‬ ‫انظرْ إلى أث ِر المـداد بـخـدهِ‬
‫ن قـدّهِ‬
‫شيئاً‪ ،‬ول أَلفِـاتُـه مِـ ْ‬ ‫ت نُونَاتُهُ من صُـدْغِـه‬ ‫ما أخطأ ْ‬
‫شَبهاً أراك فِرْندَها كـفِـرنـدِه‬ ‫ألقَتْ أناملُه عـلـى أقـلمـهِ‬
‫وكأنما قِرْطَاسـه مـن خـدّهِ‬ ‫وكأنما أنقاسُـه مـن شَـعـره‬
‫طرْف خَفي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وقال أحمد بن أبي سمرة الدارمي فيما ينظر إلى هذا من َ‬
‫وسمّ الفاعي ُمبْرِئ عند صدّها‬ ‫ق عند وعدها‬ ‫سَرَابُ الفيافي صاد ٌ‬
‫ي َمهَاةٍ َأنْحَس ْتنِي ببُعْـدِهـا‬
‫بعين ْ‬ ‫س َعدْ بأيام وَصْلـهـا‬‫رمتني ولم َأ ْ‬
‫صوالج صدغيها بتفّاح خَـدّهـا‬ ‫َفعُلقها قلبي كمـا تـعـلّـقـت‬
‫ودمعيَ َلمّا نَظمته كعـقـدهـا‬ ‫فقلبيَ َلمّا أضعفته كخصـرهـا‬
‫وأسرعْ من برق تناقضُ وعدها‬ ‫ونيل الثّريّا ممكنٌ عند وصْلـهـا‬
‫?من إنشاء بديع الزمان‬

‫رقعة كَتبها بديع الزمان إلى ابن العميد يستنجزه‪ :‬أين تكرّم الشيخ العميد أيّده الُّ على موله؟ وكيف معدله إلى سِوَاه؟ أيقصر في النعمة‪ ،‬لني‬
‫خدَع‪،‬‬‫قصّرت في الخدمة؟ إذَنْ فقد أساء المعاملةَ‪ ،‬ولم يحسن المقابلة‪ ،‬وعثر في أذيال السهْوِ‪ ،‬ولم ينعش بيدِ العفو‪ ،‬أم يقول‪ :‬إن الدهر بيننا ُ‬
‫وفيما بعد ُمتّسع‪ ،‬فقد أزف َرحِيلي‪ ،‬ول ماء بعد الشط‪ ،‬ول سطح وراء الخط؛ أم ينتظر سؤالي؟ وإنما سألته‪ ،‬يوم أمّلته‪ ،‬واستمنَحتُه‪ ،‬يوم مدحته‪،‬‬
‫عفِني؛ أم يظن ‪ -‬أيّده ال تعالى ‪ -‬أني أرد‬ ‫واقتضيته‪ ،‬يوم أتيته‪ ،‬وانتجعت سحابه‪ ،‬بما قرعت بابَه‪ ،‬وليس كل السؤال أعْطِني‪ ،‬ول كل الردّ أ ْ‬
‫ي مكانًا للنعمة يضعُها‪ ،‬وأرضًا للمنة‬ ‫صِلَته‪ ،‬ول ألبَس خلعته؟ وهذه فراسة المؤمن إل أنها باطلة‪ ،‬ومَخِيلة العارف إل أنها فاسدة؛ أم ليس يجد ف ّ‬
‫ل من تجربة دفعة‪ ،‬والمخاطرة بإنفاذ خلعة‪ ،‬ليخرج من ظلمة التخمين‪ ،‬إلى نور اليقين‪ ،‬وينظر أأشكر أم أكفر؛ أم يتوقع ‪ -‬أيّده‬ ‫يزرعها؟ فل أق ّ‬
‫الّ ‪ -‬صاعقة تملكني‪ ،‬أو بائقة تهلكني‪ ،‬فلهذا أمَلٌ موفر؛ لن شيخ السوء باق ُم َعمّر؛ أم يقدر ‪ -‬أيّده ال ‪ -‬أني أشكره إذا اصطنع‪ ،‬وأعذره إذا‬
‫منع‪ ،‬وتالِ لو كنت ينبوع المعاذِير ما حظي منها بجرعة‪ ،‬فليُرحني بسُرعة‪.‬‬
‫وكتب أبو القاسم الهمذاني إلى البديع‪ :‬قد كتبت لسيدي حاجة إن قضاها وأمضاها‪ ،‬ذاق حلوة العطاء‪ ،‬وإن أباها وفَل شَباها َلقِي مرارةَ‬
‫الستبصاء‪ ،‬فأي الجودين أخفّ عليه‪ .‬أجُودٌ بالعِلْق‪ ،‬أم جودٌ بالعرض؟ ونزول عن الطريف‪ ،‬أم عن الخلق الشريف؟‪.‬‬
‫ل أكثر مني كَظْماً‪ ،‬ولم أرَ‬ ‫فأجابه‪ :‬جعلت فداك هذا طبيخ‪ ،‬كله توبيخ‪ ،‬وثريد‪ ،‬كله وَعيد‪ ،‬ولُقم‪ ،‬إل أنها نِقَم‪ ،‬ولم أر قِدراً أكث َر منها عظماً‪ ،‬ول آك ً‬
‫ف مطالب‪ ،‬توافق قضاءَها وترافق‬ ‫شَرْبة أم ّر منها طعماً‪ ،‬ول شارباً أت ّم مني حلماً‪ ،‬ما هذه الحاجة؟ ولتكن حاجتك من بعدُ ألينَ جوانب‪ ،‬وألط َ‬
‫ارتضاءَها‪ ،‬إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫سمْط الثريّا‪،‬‬ ‫وفي مقامات أبي الفتح السكندري من إنشائه‪ ،‬قال‪ :‬حدّثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬أحلّني جام َع بخارى يوم‪ ،‬وقد انتظمت مع ُرفْقةٍ في ِ‬
‫ط ْمرَين‪ ،‬قد أرسل صُوانا‪ ،‬واستتلى طِفْلً‪ ،‬عُرْياناً‪ ،‬يضيق بالضرّ وُسْعه‪ ،‬ويأخذهُ القُ ّر و َيدَعُه‪ ،‬ل يملك‬ ‫وحين احتفل الجامعُ بأهله طلع علينا ذو ِ‬
‫ن مثله‪،‬‬ ‫ق لهذا الض ّر إل مَنْ ل يأم ُ‬‫عدَة‪ ،‬ووقف الرجل وقال‪ :‬ل ينظر لهذا الطفل إل مَنْ رحم طفله‪ ،‬ول ير ّ‬ ‫غيْرَ القِشرة بُ ْردَة‪ ،‬ول يلتقي َلحْياه رِ ْ‬ ‫َ‬
‫جدُود المفروزة‪ ،‬وال ْردِية المطروزة‪ ،‬والدور المنجّدة‪ ،‬والقصور المشيّدة‪ ،‬إنكم لن تأمنوا حادثاً‪ ،‬ولن تعدموا وارثاً‪ ،‬فبادِرُوا الخيرَ‬ ‫يا أصحاب ال ُ‬
‫س ْكبَاج‪ ،‬وركبنا الهِملج‪ ،‬ولبسْنا الديباج‪ ،‬وافترشنا الحشايا بالعشايا‪ ،‬فما راعنا إل‬ ‫ما أمكن‪ ،‬وأحسنوا مع الدهر ما أحسنَ‪ ،‬فقد والّ ط ِعمْناَ ال ّ‬
‫ب الدهر ب َغدْرِه‪ ،‬وانقلب المجنّ لظهره‪ ،‬فعاد ال ِهمْلج قَطوفاً‪ ،‬وانقلب الديباج صُوفاً‪ ،‬وهلمّ جرّا‪ ،‬إلى ما تشاهدون من حَالي وزيّي؛ فها نحن‬ ‫هبو ُ‬
‫نرضع من الدهر َثدْيَ عقيم‪ ،‬ونركَب من الفقر ظهر بَهيم‪ ،‬ول نَ ْرنُو إل بعين اليتيمِ‪ ،‬ول نمدّ إل يد العديم‪ ،‬فهل من كريم يجلو عنّا غياهب هذه‬
‫البؤوس‪ ،‬ويفلّ شَبا هذه النحُوس؟‪ .‬ثم قعد مرتفقاً‪ ،‬وقال للطفل‪ :‬أنت وشأنك‪ .‬فقال‪ :‬وما عسى أن أقول‪ ،‬وهذا الكلمُ لو لقي الشعر لحلقه‪ ،‬أو‬
‫غدَه‪ ،‬وَاقياً بي‬
‫ل منكم بالجود يده‪ ،‬وليذكر َ‬ ‫ضجْه ما قلت لَنيءٌ! قد سمعتم يا قوم‪ ،‬ما لم تسمعوا قبل اليوم‪ ،‬فليشغل ك ّ‬ ‫الصخر لفلقَه‪ ،‬وإنّ قلباً لم ُينْ ِ‬
‫ولدَه‪ ،‬واذكروني أذكركم‪ ،‬وأعطوني أشكركم!‪.‬‬
‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فما آنَسني في َوحْدتي إل خاتم ختّمت به خنصره‪ ،‬فلمّا تناوله أنشأ يقول‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫بقلدَةِ الجوزاءِ حُـسْـنـا‬ ‫وممنْطَقٍ مـن نـفـسـهِ‬
‫ب فضمّه شغفاً وحـزنـا‬ ‫كمتيم لَـقِـي الـحـبـي‬
‫رتِه علـى اليام خِـ ْدنَـا‬ ‫متـألـفٍ مـن غـير أُس‬
‫ن مَنْ أهـداهُ أسْـنَـى‬ ‫لك ّ‬ ‫ي قَـــدْرُهُ‬
‫عِلْـق سَـنـ ّ‬
‫ت َمعْنَى‬ ‫جدِ لفظًا كن َ‬
‫في المَ ْ‬ ‫أقسمت لو كـان الـوَرَى‬
‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فتبعته حتى سَ َفرَت الخَلوَة عن وجههِ‪ ،‬فإذا وال شيخنا السكندري‪ ،‬وإذا الصبيّ غلم له‪ ،‬فقلت‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫فأَين الكلمُ‪ ،‬وأين السلم‪.‬‬ ‫شبْتَ وشب الغلم‬ ‫أبا الفتح ِ‬
‫فقال‪:‬‬
‫أليفاً إذا نظمتنا الخـيام‬ ‫غريبًا إذا جمعتنا الطريق‬
‫فعلمت أنه كره لقائي‪ ،‬فتركته وانصرفْتُ‪.‬‬
‫?شعر في وصف فص وخاتم‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم يصف فصاً‪ :‬الكامل‪:‬‬

‫‪202‬‬
‫فكفى به كمداً لقلبِ الحـاسِـدِ‬ ‫ل بفصّك مَنْ أ َردْت وباهِهِ‬ ‫سَاجِ ْ‬
‫ف قاصدِ‬ ‫ضيْ ٍ‬
‫وجهي غداة ندًى و َ‬ ‫متألّق فيه الـفِـ ِرنْـد كـأنـهُ‬
‫من ماء جوهرِهِ المَعينِ الباردِ‬ ‫علّت ل ْرتَوَتْ‬ ‫ظ ْمأَى منه ُ‬ ‫لو أَنّ َ‬
‫فكأنني مخـتّـم بـعُـطـاردِ‬ ‫َبهَر العيونَ إضـاء ًة فـي ِرقّة‬
‫وقال بعضُ المحدَثين يصف خاتماً‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫فإذا تـمّ صِـيغَ مـن جـوهَـريْنِ‬ ‫ووحِـيدُ الـكِـيان صِـي َغ بـديعـاً‬
‫خِلَعًا قد لبسْـن فـوق الـلّـجـين‬ ‫خََلعَتْ خَـجْـلة الـخـدودِ عـلـيهِ‬
‫قد كساها من حُسْـنِـه حُـلّـتـين‬ ‫فإذا مـا رأيتَـه فـي بــنـــانٍ‬
‫حتى صار مَجرى بُروجه في ال َيدَيْنِ‬ ‫قلت نـجْـمٌ هَـوَى مـن الـجـوّ‬
‫وقال البحتري يس َتهْدي المعتزّ فصّا‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي وتُـشْـرِقُ‬ ‫بياقوت ٍة َتبْهَـى عـلـ ّ‬ ‫ختّـمـي‬ ‫شدِين مُ َ‬ ‫فهل أَنتَ يا ابنَ الرا ِ‬
‫وَيحْكيه جا ِديّ الرحيقِ المُـعَـتـق‬ ‫ص ْبغِها‬
‫يغارُ احمرار الوَ ْردِ مِنْ حُسْنِ ِ‬
‫س تَسْـبُـقُ‬ ‫إلى َأ َمدٍ أو كادتِ الشم ُ‬ ‫ت تَـجَـارَتـا‬ ‫س قل ُ‬‫إذا برزَتْ والشم ُ‬
‫جبي َنكَ عنـد الـجُـودِ إذْ يتـألَـقُ‬ ‫إذا التهبت في اللّحْظِ ضاهَى ضياؤها‬
‫فيبقى بها ذِكرٌ على الدهر مُخْلِـقُ‬ ‫ب َفخْـ ٍر مُـعَـجّـلٍ‬ ‫س ْربَلُ منها ثو َ‬ ‫أُ َ‬
‫وعلى ذكر الخاتم قال أبو الفتح كشاجم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جمْرِ‬ ‫س َرعَ من كَيّ القلوب على ال َ‬ ‫لْ‬ ‫ب مِنَ الهوى‬ ‫عرَضْنَ فعرّضْنَ القلو َ‬
‫من ال ّتبْر مختومُ بهن علـى الـدّر‬ ‫س منهـا خـواتِـمٌ‬ ‫كأن الشفاه الّلعْ َ‬
‫وقال الناظم‪:‬‬
‫ويُ ْؤنِسُه مـنـه بـصُـورةِ آدمِ‬ ‫ع ُمنَاجِيه بهارُوتِ لحـظِـهِ‬ ‫يَرو ُ‬
‫وفضّاً من الياقوت من فوق خَاتمِ‬ ‫ترى فيه لماً فردةً فـوق َو ْردَةٍ‬
‫بين الكلم والصمت‬
‫ت و ُنبْله‪ ،‬فقال‪ :‬ليس النّجْمُ كالقمر؛ إنك إنما تمدحُ السكوتَ‬ ‫وقال أبو تمام الطائي‪ :‬تذاك ْرنَا في مجلس سعيد بن عبد العزيز الكلمَ وفضله‪ ،‬والصم َ‬
‫بالكلم‪ ،‬ول تمدحُ الكلمَ بالسكوت‪ ،‬وما أنبأ عن شيء فهو أكبرُ منه‪.‬‬
‫ت أنْفَ َع من الكلم‪ ،‬ونفعُه ل يكادُ يجاوزُ صاحبَه‪ ،‬و َنفْعُ الكلم يعتم ويخصّ‪ ،‬والرواةُ لم تَرْوِ سكوتَ الصامتين‪،‬‬ ‫قال الجاحظ‪ :‬كيف يكونُ الصم ُ‬
‫صمْتِ المحمودةُ قليلة‪ ،‬ومواطنُ الكلم المحمودةُ كثيرةٌ‪،‬‬ ‫صمْتِ‪ ،‬ومواضعُ ال ّ‬ ‫كما روت كلم الناطقين؛ فبالكلم أرسل ال تعالى أنبياءَه ل بال ّ‬
‫صمْت يَ ْفسُد البيان‪ .‬وكان يقال‪ :‬محادثةُ الرجال تلقيحٌ للبابها‪.‬‬ ‫وبِطول ال ّ‬
‫حسِن‪ ،‬وليس مَنْ سكت فأَحسن يتكل ُم فيُحْسِن‪.‬‬ ‫ت فيُ ْ‬
‫و ُذكِر الصمتُ في مجلس سليمان بن عبد الملك فقال‪ :‬إن مَنْ تكلم فأَحسن َقدَر أنْ يسك َ‬
‫قال بعضُ النسّاك‪ :‬أسكتتني كلم ُة ابن مسعود عشرين سنة؛ وهي‪ :‬من كان كلمُه ل يوافِق فعله فإنما يوبّخ نَفْسَه‪.‬‬
‫الحنين إلى الوطن‬
‫عمْرو بن العلء‪ :‬مما يدلُ على حرية الرجل وكرم غريزته حنينُه إلى أوطانه‪ ،‬وتشوّقه إلى متقدم إخوانِه‪ ،‬وبكاؤه على ما مضى من‬ ‫قال أبو َ‬
‫َزمَانِه‪.‬‬
‫ن السدُ إلى غابِهِ‪.‬‬ ‫وقالوا‪ :‬الكريم يحنّ إلى جنابه‪ ،‬كما يح ّ‬
‫عطَنه‪.‬‬‫وقالوا‪ :‬يشتاق اللبيبُ إلى وطنه‪ ،‬كما يشتاق النجيب إلى َ‬
‫ألفاظ لهل العصر في ذكر الوطن‬
‫صبِر عنه أبداً‪ .‬هو عشّه الذي فيه دَرجَ‪ ،‬ومنه خرجَ‪ .‬مجمع أُسرته‪ ،‬ومقطع سُ ّرتِه‪ .‬بلد أنشأته تربتُه‪ ،‬وغذاه هواؤه‪،‬‬ ‫بلد ل تُ ْؤثِر عليه بلداً‪ ،‬ول تَ ْ‬
‫وربّاه نسِيمُه‪ ،‬وحُلّت عنه التمائِ ُم فيه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وكان الناسُ يتشوّقون إلى أوطانِهم‪ ،‬ول يفهمون العلّةَ في ذلك‪ ،‬حتى أوضحها علي بن العباس الرّومي في قصيدةٍ لسليمان بن عبد ال بن‬
‫طاهر يستَعدِيه على رجل من التجَار‪ ،‬يعرف بابن أبي كامل‪ ،‬أجبَره على َبيْع داره واغتصبه بعض جُدرها‪ ،‬بقوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وألّ أرى غيري لهُ الدهر مالِكا‬ ‫ولي وطـنٌ آلـيتُ إل أَبـيعـهُ‬
‫ك ِن ْعمَةِ قوم أصبحُوا في ظِللكا‬ ‫ب ونعـمةً‬ ‫شرْخَ الشبا ِ‬ ‫عهِدتُ به َ‬
‫مآرِبُ قضّاها الشبابُ هُنالكـا‬ ‫وحبّب أوطانَ الرجال إلـيهـمُ‬
‫عهودَ الصبَا فيها فحنّوا لذلكـا‬ ‫إذا ذَكَروا أوطانَهم ذكّـ ْرتُـهُـم‬
‫سدٌ إن بانَ غُودِرَ هالكـا‬ ‫لها جَ َ‬ ‫قد أِلفَته النفسُ حـتـى كـأنـهُ‬
‫يقول له فيها‪:‬‬
‫حتِيالِكا‬‫جهْدَ ا ْ‬
‫جهَدْ فيّ َ‬ ‫فقال ليَ أ ْ‬ ‫وقد عزّني فيها لئيمٌ وسامَـنـي‬
‫وما الشعرُ إل ضلّة من ضللِكا‬ ‫وما هُو إل نسجُك الشَعر ضـلّة‬
‫بعار على الحرار مِثل سُؤَالِكا‬ ‫بصي ٌر ِبتَسْآل الملوك‪ ،‬ولم يكـن‬
‫لملُ أن أضْحى ُم ِدلّ بمالِـكـا‬ ‫وإني وإن أضْحَى ُمدِلّ بمـالِـه‬
‫ط َئنْهُ نقم ٌة من شِمالـكـا‬‫فل تُخْ ِ‬ ‫صبْني من يمينك ِنعْـمَةٌ‬ ‫فإن لم تُ ِ‬
‫نواَلكَ والعَادون مُرّ نكـالِـكـا‬ ‫فكم لقي العافون بَـدْءاً وعـودَةً‬

‫‪203‬‬
‫وقال علي بن عبد الكريم النصيبي‪ :‬أتاني أبو الحسن بن الرومي بقصيدته هذه‪ ،‬وقال‪ :‬أَنصفني‪ ،‬وقل الحقّ‪ :‬أيهما أحسن قولي في الوطن أو قول‬
‫العرابي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إليّ وسلمى أن يَصُوبَ سحابُها‬ ‫ب بل ِد ال ما بين مَنْـعِـجٍ‬ ‫ح ّ‬ ‫أَ‬
‫ض مَسّ جِ ْلدِيً ترَابُها‬ ‫وأوّل أر ٍ‬ ‫بل ٌد بها نيطَتْ عَلَيّ تمـائمـي‬
‫ت ذلك‪.‬‬ ‫فقلت‪ :‬بل قولك‪ ،‬لنه ذكر الوطنَ ومحبّته‪ ،‬وأنت ذكرتَ العلّة التي أوجب ْ‬
‫س ّر من رأى‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وقال ابنُ الرومي أيضًا يتشوّق إلى بغداد‪ ،‬وقد طال مقامه ب ُ‬
‫وَلبِسْتُ ثوبَ العيشِ وهو جديدُ‬ ‫ت به الشبيبة والصبـا‬ ‫حبْ ُ‬
‫بلدٌ ص ِ‬
‫ب تَمـيدُ‬ ‫وعليه أغصانُ الشبا ِ‬ ‫فإذا تمثّلَ في الضمير رَأيتُـهُ‬
‫وقال أبو العباس‪ :‬ولما احتفل القائل في هذا المعنى السابق إليه قال‪:‬‬
‫ب تمائمي‬ ‫بلدٌ بها حَلّ الشبا ُ‬
‫وقد تقدّم‪ .‬وإذا كانت تمائمه قطعت بأبرق العَزّاف‪ ،‬وكان الترابُ الذي مَسّ جلدَه ترابَ جزيرة سيراف‪ ،‬وجب أَن يحنّ إليه حنينَ المتأسفين على‬
‫غُوطَةِ دمشق‪ ،‬وقصور مدينة السلم‪ ،‬ونجف الجزيرة‪ ،‬ومستشرفِ الخو ْرنَق‪ ،‬وجَوْسق س ّر مَن رأى‪َ ،‬لمّا بعد عنها‪ ،‬وطال مقامه بغيرها‪ ،‬كلّ‪،‬‬
‫سكْرَته‪ ،‬يغطي على مقدار‬‫ولكن هذا الرجل علم أن الحنينَ إلى الوطانِ لما ُت َذكّر من معاهد اللّهو فيها‪ ،‬بحدّة الشباب الذي ذكر أنّ غول َ‬
‫فضيلته‪ ،‬في قوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫إلّ إذا لم يَبْـكِـهـا بـدَمِ‬ ‫ن َيبْكي شبيبـتَـه‬ ‫ح مَ ْ‬‫ل تلْ َ‬
‫و ِم ْقدَار ما فيها من ال ّنعَـم‬ ‫سكْرَتها‬ ‫ب الشبيبة غولُ َ‬ ‫عيْ ُ‬‫َ‬
‫إلّ أوان الشيبِ والـهَـ َرمِ‬ ‫سنَا نراها حقّ رُؤيتـهـا‬ ‫لَ ْ‬
‫حتى ُتغَشّى الرضُ بالظَّلمِ‬ ‫كالشمس ل تبدو فضيلتُهـا‬
‫وجدانه إلّ مـع الـعَـدَمِ‬ ‫ولَ ُربّ شـي ٍء ل يبَـيّنـه‬
‫أخذها هذا من قول الطائي‪ :‬السريع‪:‬‬
‫فارِغَةَ اليدي مِلءَ القـلـوبْ‬ ‫ت وفودُ الرضِ عن قبـره‬ ‫راحَ ْ‬
‫ف َف ْقدُ الشمس بعد الغروبْ‬ ‫ُيعْرَ ُ‬ ‫قد علمت مـا رُزئت‪ ،‬إنـمـا‬
‫وأخذ ابنُ الرومي قولَه في صفة الوطن قول بشَار‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫س ْعدَى فإن العهدَ منك قـريبُ‬ ‫بِ ُ‬ ‫متى تعرفِ الدارَ التي بَانَ أهلها‬
‫لديها فمغْنَاهَا لـديك حَـبـيبُ‬ ‫تذكّرك الهواء إذا أنعتَ يافـعٌ‬
‫أو من قول بعض العراب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ع ْهدِ الصبا المتـقـادِمِ‬ ‫بشوقي إلى َ‬ ‫ت بلدي فاستهلّت َمدَامِـعـي‬ ‫ذكر ُ‬
‫و ُقطّع عني قَبل عقد الـتـمـائم‬ ‫ض بها اخضرّ شاربي‬ ‫ح َننْتُ إلى أر ٍ‬ ‫َ‬
‫وأنشد ثعلب من لرجاء بن هارون العكيٍ‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل َع ْهدِ الصّبا فيه وتذكارِ أولِ‬ ‫أَحِنّ إلى وادِي الراكِ صبابةً‬
‫نسيمُ حبيب أو لقا ُء مؤمّـل‬ ‫جنَباتِـه‬ ‫كأنّ نسيمَ الريحِ في َ‬
‫سهْم‪ ،‬ل يعارض‬ ‫ك أنه من قول رجاء أخذ‪ ،‬وبه ألمّ‪ ،‬وعليه عَوّل؛ لنه في تناولهِ المعنى غريبُ الخذ‪ ،‬عائِر ال ّ‬ ‫قال أبو بكر الصولي‪ :‬ولست أش ّ‬
‫س أنه َم ْعدِنه الذي انتحته منه‪.‬‬ ‫معنى معروفاً إذا أنشد علم النا ُ‬
‫وقد اختُلِس معنى قول ابن الرومي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لها جسدٌ إن بانَ غُودِرَ هَالِكا‬ ‫فقد أَلِ َفتْهُ النفْسُ حتى كأنـه‬
‫خذَ ولطف في السرقة‪ :‬السريع‪:‬‬ ‫أخذه علي بن ححمد اليادي وقال فأَحسن ال ْ‬
‫ذات ليال قد تَوَلّت قِصارْ‬ ‫خبْتَينِ أَشْلء دارْ‬ ‫بالجزْع فال َ‬
‫وإنما الناسُ نفوسُ الديارْ‬ ‫بانوا فمَاتت أسفًا بعـدهـم‬
‫وقال أعرابي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تصافِحُه أَيدِي الرياحِ الغرائبِ‬ ‫أيا حبّذا نجدٌ وطِـيبُ تـرَابِـهِ‬
‫عذَابُ المشاربِ‬ ‫كذلك أترابٌ ِ‬ ‫عكَ الهوى‬ ‫وعهدُ صبًا فيهِ يناز ُ‬
‫عذَابُ الثنايا وارداتُ الـذوائبِ‬ ‫ِ‬ ‫ل المنَى منهنّ في كل مطلب‬ ‫تنا ُ‬
‫وقال ابن ميّادة يخاطبُ الولي َد بن يزيد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بحرّة ليلى حيث ربّتنـي أهْـلـي‬ ‫أل ليتَ شعري هـل أبـيتـنّ لـيلةً‬
‫و ُقطّعنَ عني حين أدْ َركَني عقْلـي‬ ‫بل ٌد بها نِيطَتْ عـلـيّ تـمـائمـي‬
‫جمَ ْع إذاً شملي‬ ‫فَأفْشِ عليّ الرزقَ وا ْ‬ ‫ت عن تلك المواطن مانعـي‬ ‫فإن كن َ‬
‫وقال سوار بن الصرير‪ ،‬ورويت لمالك بن الريب‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫نوائحُها كأَرْوَاحِ الغواني‬ ‫سقى ال اليمامة من بـلدٍ‬
‫نَسِي ٌم ل يَرُوعُ الترْب وَاني‬ ‫وجوّا زاهِراً للـريح فـيهِ‬
‫بقبّح عندنا حسنَ الزمـانِ‬ ‫به سُ ْقتُ الشباب إلى زمانٍ‬
‫وقال‪ :‬أعرابي‪ :‬الوافر‪:‬‬

‫‪204‬‬
‫بنا َبيْن ال ُمنِيفة فالضّـمـا ِر‬ ‫خدِي‬‫س تَ ْ‬ ‫أقول لصاحبي والعي ُ‬
‫فما َب ْعدَ العشّيةِ مِنْ عـرارِ‬ ‫شمِيم عَرار نَجْـدٍ‬ ‫تَمتّ ْع مِن َ‬
‫وريّا رَ ْوضِه غبّ القِطـار‬ ‫أل يا حبّذا نفحـات نَـجـد‬
‫وأنت على زمانِك غيرُ زَارِ‬ ‫وأهلك إذ يحلّ القوم نـجـدا‬
‫بأنصافٍ لهـن ول سِـرَارِ‬ ‫شهور َينْ َقضِينَ وما شعرْنـا‬
‫وهذا البيت كقول الخر‪:‬الطويل‪:‬‬
‫صرِ‬
‫وسَقْيًا ل َعصْرِ العامرية من عَ ْ‬ ‫سقَى الُ أيامًا لنا قد تتـابـعـت‬
‫تمرّ الليالي والشهـورُ ول َأدْرِي‬ ‫لياليَ أُعطَيتُ البَطالَة مِـقْـ َودِي‬
‫وتخلّفَ سليمان عن نصرة ابن الرومي‪ ،‬فذاك الذي هاجه على هجائه‪ ،‬فمن ذلك قوله‪ ،‬وقد خرج في بعضِ الوجوه فرجع مهزوماً‪ :‬السريع‪:‬‬
‫فاجتاح معتز بني المعتَصِمْ‬ ‫جاء سليمانُ بني طـاهـرٍ‬
‫طلعته نـائح ٌة تـلـتَـدِمْ‬ ‫كأن بغدادَ وقد أبـصـرتْ‬
‫وجه بخيلٌ وقفًا منـهـزِمْ‬ ‫مستقبل‪ .‬منه وَمستَـدبـر‬
‫وقال‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫جهِه سيتلـفـهُ‬ ‫شوقٌ إلى و ْ‬ ‫قِرْن سليمانَ قد أضـ ّر بِـه‬
‫عدِه ويخلـفـهُ‬ ‫يكذبُ في وَ ْ‬ ‫كم َيعِدُ القِرْنَ باللقـا ِء وكَـمْ‬
‫َقفَاه من فَ ْرسَخِ‪ ،‬فيعـرِفـهُ‬ ‫جهَه ويرى‬ ‫ل يعرف القرْنُ و ْ‬
‫خبِرْني أي أصحابي كان أشدّ إقداماً في مُبارزتك‪ ،‬فقال‪ :‬ما‬ ‫وقد أخذ هذا المعنى من قول بعض الخوارج‪ ،‬وقد قال له أبو جعفر المنصور‪َ :‬أ ْ‬
‫أعرفُ وجوههم‪ ،‬ولكنني أعرفُ أقفاءهم‪ ،‬فقل لهم يدبروا أعرّفك‪.‬‬
‫وفي هذه المنازعة يقول ابن الرومي لمواليه بني هاشم وكان ولؤه لعبيد ال بن عيسى بن جعفر بن المنصور‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ِنبَال العِدى عنّي فكنت ْم نِصَالَهـا‬ ‫خ ْذ ُتكُ ُم دِرْعاً عليّ لـتَـدْفَـعُـوا‬
‫تَ ِ‬
‫خ ْذلَن اليمين شِمالهـا‬ ‫على حين ِ‬ ‫خيْر ناصِر‬ ‫وقد كنتُ أرجو منكم َ‬
‫ذِمامًا فكونوا ل عليها ول َلهَـا‬ ‫فإن أنتمُ لم تحفظوا لـمـودّتـي‬
‫وخَلّوا ِنبَالي وال ِعدَا ونبـالـهـا‬ ‫ف المعذور عني بمعزل‬ ‫ِقفُوا موق َ‬
‫ألفاظ لهل العصر‬
‫في وصف المكنة والزمنة‬
‫ن الدنيا مجموع ٌة فيها‪ ،‬ومحصورة في نواحيها‪ .‬بلدة كأن ترابَها عنبر‪،‬‬ ‫عرْضِ الرض‪ .‬بلد ٌة كأن محاس َ‬ ‫بلدة كأنها صورةُ جنَة الخلد‪ ،‬منقوشة في َ‬
‫جوْهر‪،‬‬‫حبَةُ ال َمثْوى‪ ،‬كوكبُها يقظان‪ ،‬وجَوّها عُريان‪ ،‬وحَصَاها َ‬ ‫س ْكنَى‪َ ،‬ر ْ‬
‫وحَصباءها عقيق‪ ،‬وهواءها نسيم‪ ،‬وماءها رَحِيق‪ .‬بلدةٌ معشوقة ال ّ‬
‫ونسيمُها ُمعَطّر‪ ،‬وترابها مِسْك أذفر‪ ،‬ويومها غداةٌ‪ ،‬وليلها سَحر‪ ،‬وطعامها هنيّ‪ ،‬وشرابها مَ ِريّ‪ .‬بلدة واسع ُة الرقعة‪ ،‬طيبة البقعة‪ ،‬كأنّ محاسن‬
‫الدنيا عليها مفروشة‪ ،‬وصورة الجنة فيها منقوشة‪ ،‬واسطة البلد وسرّتها‪ ،‬ووجهها وغرّتها‪.‬‬
‫ل والبنية‪ .‬بلد حرّها مؤذٍ‪ ،‬وماؤها غير مغذ‪ .‬بلدة وَسخة السماء‪َ ،‬رمِدة الهواء‪،‬‬ ‫ولهم في ضد ذلك‪ :‬بلد ُمتَضايِقُ الحدود والفنية‪ ،‬متراكب المناز ِ‬
‫سرْجِين‪ ،‬وحيطانها نزوز‪ ،‬وتشرينها تموز‪ ،‬فكم في شمسها من محترق‪ ،‬وفي ظلها من‬ ‫خبَارٌ‪ ،‬وماؤُها طين‪ ،‬وترابُها ِ‬ ‫جوها غبار‪ ،‬وأرضها َ‬
‫غَرق‪ .‬بلدة ضيقة الديار‪ ،‬سيئة الجوار‪ ،‬حيطانها أخْصَاص‪ ،‬وبيوتها أقفاص‪ ،‬وحُشُوشها مسايل‪ ،‬وطرقها مَزَابل‪.‬‬
‫ولهم في صفات الحصون والقلع‪ :‬حصن كأنه على مَ ْرقَب النجم‪ ،‬يحسر دونه الناظر‪ ،‬ويقصر عنه العُقابُ الكاسِ ُر يكا ُد مَنْ علَه يغرق في‬
‫جتْ أبراجُه بُرُوجَ السماء‪ .‬قلعة حلّقت بالجو تُناجِي السماء بأسرارها‪ .‬قلعة َبعُدَ في السماء مُ ْرتَقاها‪،‬‬ ‫حوض الغمام‪ .‬حصن انتطق بالجوزاء‪ ،‬ونا َ‬
‫سمْناً‪،‬‬‫حتى تساوى ثَرَاها مع ثريّاها‪ .‬قلعة تتوشح بالغيوم‪ ،‬وتتَحلّى بالنجوم‪ .‬قلعة عالية على المرتقى‪ ،‬صمّاء عن الرقى‪ ،‬قد جاوزت الجوزاء َ‬
‫سمْكاً‪ ،‬هي متناهية في الحصانة‪ ،‬موثوقة بالوثاقةِ‪ ،‬ممتنعة على الطلب والطالب‪ ،‬منصوبة على أضيق المسالك وأوعر‬ ‫وعزلتِ السماك العْزل َ‬
‫شمَاسٍ‪ ،‬وسئمت‬ ‫المناصب‪ ،‬لم تزدْها اليامُ إل نبوّ أعطاف‪ ،‬واستصعاب جوانب وأطراف‪ ،‬قد ملّ الوُلةُ حِصَارها‪ ،‬ففارقوها عن طموح منها و ِ‬
‫حمًى ل يُرَاغ‪ ،‬و َمعْقِل ل يُستطاع‪ ،‬كأَنّ اليام صالحَتها على العفاء من الحوادث والليالي‬ ‫ط ويأسٍ‪ ،‬فهي ِ‬ ‫الجيوشُ ظلّها‪ ،‬فغادَ َرتْها بعد قنو ٍ‬
‫عاهَدتها على التسليم من القوارع‪ .‬قلعة تَحْوي من ال َرّ ْفعَ ِة قَدرًا ل تستهان مواقعه‪ ،‬وتلوي في المنعة جيداً ل تستلن أخادِعه‪ ،‬ليس للوَهم قبل‬
‫القدوم إليها مَسْرَى‪ ،‬ول للفكْرِ قبل الخَطْو نحوها مَجْرى‪.‬‬
‫ستْ له الشّعرى العَبور ثوبَ الغيور‪ .‬قصر‬ ‫ش ُرفَاته بين النّسْر وال َعيّوق‪ ،‬كأنه يُسَامِي ال َف ْرقَد‪ ،‬وقد اكت َ‬ ‫ولهم في صفات القصور والدور‪ :‬قصر كأن ُ‬
‫شدَدْن مناطقها‪ ،‬وتوجّن بالكاليل مفَا ِرقَها‪.‬‬ ‫ل مَنيع‪ ،‬وفي الحسن رَبيع مَرِيع‪ .‬شُ ُرفَات كالعذارى َ‬ ‫طال َمبْنَاه‪ ،‬وطاب مَغناه؟ كأنه في الحَصَانة جب ٌ‬
‫قَصْرٌ أقرّت له القصورُ بالقُصور‪ ،‬كأنه سَحَاب في بحو السماء‪ .‬دار قَ ْورَاء تُوسِع العينَ قُرة‪ ،‬والنفس مسرّة‪ .‬كأنّ بانيها استسلف الجنّة فعُجّلت‬
‫صرُ عنها القصور‪ ،‬إن مات صاحبُها مغفوراً له فقد انتقل مِن جنة إلى جنة‪ .‬دار قد اقترن ال ُيمْن بيمناها‪ ،‬واليُسْر‬ ‫له‪ .‬دار تخجل منها الدور‪ ،‬وتتقا َ‬
‫سهْمها‪،‬‬ ‫حضَر‪ ،‬والعيون على سَفَر‪ .‬دار هي دائرة الميامن‪ ،‬ودَارَة المحاسن‪ .‬دارٌ دارَ بالسعد نجمُها‪ ،‬وفاز بالحسن َ‬ ‫بيُسْراها‪ ،‬الجسو ُم منها في َ‬
‫جنَان‪ ،‬وضحكت عن ال َعبْقَريّ‬ ‫دار يخدمها الدهر‪ ،‬ويأويها ال َبدْرُ‪ ،‬ويكنفها النّصر‪ ،‬هي مَ ْرتَع النواظر‪ ،‬ومتنفّس الخواطر‪ .‬دارٌ قد أخذت أدواتِ ال ِ‬
‫الحِسان‪.‬‬
‫من أدب الميكالي نثراً وشعراً‬
‫فصل لبي الفضل الميكالي إلى بعض إخوانه‬
‫ن َبهْجَتي وأُنسِي‪ ،‬وحتى أقبََلتْ وجو ُه الميامن تتهلّل إلي‪ ،‬وبدَرُ المساعِد‬ ‫ما ابتدأتُ بمخاطبة سيدي حتى سرَتِ المسرّة في نفسي‪ ،‬وق ِو َيتْ أركا ُ‬
‫ظ من الجمال‬ ‫تنثالُ عليّ‪ ،‬وكيف ل يملكني الجذَل والفرح‪ ،‬وكيف ل يهزُني النشاطُ والمَرَح‪ ،‬وقد زف ْفتُ ُودّي إلى كُفْء كريم‪ ،‬وعرضته لح ّ‬
‫ش ِتمَال‪ ،‬ويُصادف من اهتزازِهِ وإنشائه‪ ،‬وعمارته وإنمائه‪،‬‬ ‫حظَى من ارتياحه له ببُ ْردِ ا ْ‬ ‫حسْنِ قبولٍ وإقبال‪ ،‬ويَ ْ‬ ‫جسيم‪ ،‬وأَرجو أَن ي ِردَ منه على ُ‬

‫‪205‬‬
‫وتحصين أطرافه من شوائب الخلل‪ ،‬وشوائن الوَهن والميل‪ ،‬وما تستحكم به مَرَائر الوِصَال‪ ،‬وتؤمن على قُوَاها عَوَادِي النتقاض والنحلل‪.‬‬
‫ل من عِظَ ِم َقدْرِ النعام والصطناع‪ ،‬واستغراقه منه ُقوَى الستقلل والضطلع‪ ،‬فليس عليه في‬ ‫وله‪ :‬إذا لم يُؤْتَ المرءُ في شكر المنعم إ ّ‬
‫عيْبٌ‪ .‬ولئن ظهر عَجْزِي عن حق هذه النعمة فإني أحِيل بحسن الثناء على من ل‬ ‫عتْب‪ ،‬ول يلحقه فيه نقيص ٌة ول َ‬ ‫القصور عن ُكنْهِ واجبه َ‬
‫صرَفُ الرغبَةُ إل إليه‪ ،‬وال يُبقِيه لمجدٍ يقيم أعلمَه‪ ،‬وفَضْل يَ ْقضِي ِذمَامَه‪،‬‬ ‫ُيعْجِزه حمله‪ ،‬ول يؤُوده ثقله‪ ،‬ول يزكو الشك ُر إل ل َديْه‪ ،‬ول تُ ْ‬
‫ف يَبثّ أقسامه‪ ،‬ووليّ يوالي إكرامه‪ ،‬وعد ّو يُدي ُم قمعَه وإرْغَامَه‪.‬‬ ‫وعُرْ ٍ‬
‫خدْمة‬‫حبْوًا ل على القَدم‪ ،‬ولثرْت فيه خدمة اللسان على ِ‬ ‫وله‪ :‬ولو وفيت هذه النعمة الجسيمة حقّها لمشيت إلى حضرته ‪ -‬آنسها ال تعالى ‪َ -‬‬
‫القلم‪ ،‬ولما رضيت له بباعي القصير‪ ،‬وعبارتي الموسومة بالعجز والقصور‪ ،‬حتى أَستعير فيه ألسِنةً تحملُ شكرًا وثناءً‪ ،‬وتوسِ َع نَشْرًا ودعاء‪،‬‬
‫ن عدم الذن ثَبطني عن مقصودِ الغرض‪ ،‬وعاقَني عن الواجب المفترض؛ فأقمتُ‬ ‫عذْراً شافياً؛ إل أ ّ‬ ‫ثم ل أكَونُ بلغتُ مبلغاً كافياً‪ ،‬ول أبليت ُ‬
‫عاكفاً على دعاءٍ أر َفعُهُ إلى ال عزَ وجل مبتَهلً‪ ،‬وأواصله مجتهداً في ليلي ونهاري محتفلً‪.‬‬
‫ق النعمة بالزيادة نعمة لم تزل العيون إليها مستشرفة‪ ،‬والقلوب إليها متشوّفة‪ ،‬واليام بها وَاعِدة‪ ،‬والقدار فيها مساعدة‪ ،‬حتى استقرّت‬ ‫وله‪ :‬أح ّ‬
‫في نِصَابها‪ ،‬وألقتْ عِصيّ اغترابها‪ ،‬فهي للنماء والزيادة مترشحة‪ ،‬وبالعز والسعادة متوشحة‪ ،‬وبالدعية الصالحة مستدامة مرتَهنَة‪ ،‬وباتفاق‬
‫الكلمةِ والهواء عليها مرتبطة محصنة‪.‬‬
‫ف بين مَوْهوب‬ ‫ف بين مكروه ومحبوب‪ ،‬وتتصرّ ُ‬ ‫وله فصل من كتاب تعزية بالمير ناصر الدين‪ :‬أقدارُ ال تعالى في خلقِه لم تَزَلْ تختل ُ‬
‫ومسلوب‪ ،‬غاديَةً أحكامُها مَرّةً بالمصائب والنوائب‪ ،‬رائحة أقسامها تارةً بالعطايا والرغائب‪ ،‬ولكنْ أحسنُها في العيونِ أثراً‪ ،‬وأطيبَها في‬
‫جبِر‪ ،‬وإذا أخذ بيد رد بأخرى‪ ،‬وإذا وهب بيمنى‬ ‫السماع خبَراً‪ ،‬وأَحْرَاها بأن َتكْسِبَ القلوبَ عزاءً وتصبّراً‪ ،‬ما إذا انْطَوَى نُشِر‪ ،‬وإذا انكسر ُ‬
‫ت الكباد‪ ،‬وأوهنتِ العضاد‪ ،‬وسودت وجوهَ المكارم والمعالي‪ ،‬وصورت اليامَ في صُور الليالي‪،‬‬ ‫سلبَ بيسرى‪ ،‬كالمصيبة بفلن التي قرّحَ ِ‬
‫ن مُظْلِمةَ‬
‫عمَادَه‪ ،‬والدين وهو يندب جهاده‪ ،‬حتى إذا كاد اليأسُ يغلبُ الرّجاءَ‪ ،‬ويردّ الظنو َ‬ ‫حدَادَه‪ ،‬وال َعدْلَ وهو يبكي ِ‬ ‫وغادرت المج َد وهو يلبَس ِ‬
‫ت به الدهماء‪ ،‬فأسَى به حادِثَ الكَلْم‪ ،‬وسد بمكانِهِ عظيمَ‬ ‫ضيَ ْ‬
‫النواحي والرجاء‪ ،‬قيّض ال تعالى من المير الجليل مَنِ اجتمعتْ عليه الهواءُ‪ ،‬ور ِ‬
‫ت للدولة المباركة أعواناً وأنصاراً‪.‬‬ ‫س قد استبدلتْ بالحيرة قوة وانتصاراً‪ ،‬وصار ْ‬ ‫الثلْم‪ ،‬وردّ المال والنفو َ‬
‫ومن شعره في تجنيس القوافي‪ ،‬في معان مختلفة‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫سميعاً ول عامِلً أَنت بهْ‬ ‫إذا لم تكُنْ لمقالِ النصيح‬
‫مَلهي وإن قُلْت ل أنتَبِهْ‬ ‫يُن ًب ُهكَ الدهرُ من َر ْقدَة إل‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫فَلبِس من ثراء المالِ َأوْ عَارِي‬ ‫تفرّق الناسُ في أرزاقهم فِرَقـاً‬
‫مَ ْقسُومة بين أوعاث وَأوْعَـارِ‬ ‫كذا المعايش في الدنيا وساكنهـا‬
‫وقال‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫رضاً بالقضاء ول تحتفـدْ‬ ‫حَوَى ال ِقدّ عمْراً فقلت اعتقدْ‬
‫فأقبحْ بمحتقد تحـت قـد‬ ‫فإمّا احتقدت فضاءَ اللـهُ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫مع فضله ونمائه وكمـالِـهِ‬ ‫تمت محاسنه فما يُ ْزرِي بهـا‬
‫ل عَوْنَ للرجل الكريم َكمَالِهِ‬ ‫إل قصورُ وجودِه عن جُـودِه‬
‫وإن استغاثك واثقًا بك مَالِـهِ‬ ‫ك فَوَاسِهِ‬ ‫جتَدَا َ‬‫انصُرْ أخاك إذا ا ْ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬مخلع البسيط‪:‬‬
‫ثم تأذّيت بـالـغـداء‬ ‫صدْرَ يومي‬ ‫إذا تغديْتُ َ‬
‫أرى غدائي أراغ دائي‬ ‫فقلت إذْ مسّـنـي أذاهُ‬
‫وله في هذا الصوغ‪ :‬مخلع البسيط‪:‬‬
‫راحتُنا في َأذَى قَفـاهُ‬ ‫ق يُجِيدُ َلقْـمـاً‬ ‫لنا صدي ٌ‬
‫ق فَـاه‬‫أذى َقفَـاه أذا َ‬ ‫ما ذاق من كسبه‪ ،‬وَلكنْ‬
‫وقال يهجو رجلً‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫صدْرِهِ‬ ‫ويَأبى له الضيقُ في َ‬ ‫يوسّـع فـي بَـيْتِــهِ‬
‫خفْضَ في قَدرِهِ‬ ‫كما رَضِيَ الْ َ‬ ‫صبَ في قِـدْرِهِ‬ ‫خطَ النَ ْ‬ ‫فتَى سَ ِ‬
‫خبْزَ من خِـدْرِه‬ ‫ول ُيبْرزُ ال ُ‬ ‫يخـدّر أوصـالً أضـيافِـهِ‬
‫وقال في غير هذا المذهب يصفُ كتاباً ورد عليه‪ :‬المديد‪:‬‬
‫كللٍ زانـهـنّ نِـظــامُ‬ ‫قد أتانا مـن صـديقٍ كـلمٌ‬
‫مطربٌ يعجز عنه المُـدام‬ ‫فسرى في القلب مني سرورٌ‬
‫حوله من جمعهـنّ زِحَـام‬ ‫ب بـنـات‬ ‫مثل ما يرتاح ر ّ‬
‫خلفًا من نَـسْـلِـه ل يُذامُ‬ ‫ل يُرجَـى‬ ‫فرعى ال طـوي ً‬
‫قال يا بشراي هـذا غـلمُ‬ ‫س بـشـير‬ ‫وأتـاه بـعـد يأ ٍ‬
‫وقال يصف الشمع‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ص ْبنَا لراجي ِه عموداً من التّـبْـرِ‬ ‫ن َ‬ ‫حبْـرِ‬
‫ل كلَوْنِ الهَجْر أو ظُلمةِ الْ ِ‬ ‫ولي ٍ‬
‫ترى بين أيدينا عمودًا من الفَجـر‬ ‫ب الدّجى فـكـأنـمـا‬ ‫يشقّ جلبي َ‬
‫وذوب حشَاه والدّموع التي تجري‬ ‫يُحاكِي رُواءَ العاشِقـينَ بـلَـ ْونِـه‬

‫‪206‬‬
‫عهْدي بدَمْ ِع العين ينحلّ إذ يجري‬ ‫وَ‬ ‫خَلَ أَنّ جارِي الدمع ينحله قـوي‬
‫شعاع كأنّا منه في لـيلة الـبَـدْرِ‬ ‫تبدّى لنا كالغصـن قـدّا وفـوقـهُ‬
‫وفيه حياةُ النسِ والّلهْوِ لـو يَدري‬ ‫تحمّل نوراً حَتفُـه فـيه كـامِـنٌ‬
‫ب جديدٍ من العمـر‬ ‫فيختالُ في ثو ٍ‬ ‫إذا ما عََلتْـهُ عِـلّة جُـرّ رأسـه‬
‫وقال‪ :‬مجزوء الرجز أو مجزوء السريع‪:‬‬
‫يزرِي بنور الشفق‬ ‫يا ربّ غُصنٍ نـورهُ‬
‫يبكِي بجـفْـنٍ أَرِقِ‬ ‫يظلّ طولَ عـمـرهِ‬
‫ونارُه في المفـرقِ‬ ‫نارُ المحبّ في الحشا‬
‫فردّنا في َمشْـرِق‬ ‫لح لنا في مغـربٍ‬
‫وقال‪ :‬مجزوء الرمل‪:‬‬
‫ل في َقدّ الكـعـا ِ‬
‫ب‬ ‫وقضيبٍ من بنات النح‬
‫ن ودم ٍع ذي انسكابِ‬ ‫ٍ‬ ‫شقَ في لـو‬ ‫يُشْبه العا ِ‬
‫وهو عريانُ الهابِ‬ ‫كسى الباطن مـنـه‬
‫دان ملبوس الثـيابِ‬ ‫فَإذا ما أنـعـم الب‬
‫في بـلء وعـذابِ‬ ‫فهو للشقوة مـنـهـا‬
‫وقال كشاجم يصف شمعاً أهداها إلى بعض الملوك‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ظهُرُهـا عَـواري‬ ‫طنُها وأَ ْ‬
‫بوا ِ‬ ‫صفْرٍ من بناتِ النحْل ُتكْسَـى‬ ‫و ُ‬
‫إذا افتضت من السّفل العَذارِي‬ ‫ضضْن مِنَ العالي‬ ‫عذارى يُفت َ‬
‫تلقح فـي ذوائبـهـا بِـنـارِ‬ ‫وأمست تنتج الضواء حـتـى‬
‫إذا ما أشرقتْ شمسُ العُقـارِ‬ ‫كواكب لَسْنَ عنـك بـآفِـلتٍ‬
‫شريف الصل محمود النّجار‬ ‫بعثْتُ بها إلى مَـلِـكٍ كـريم‬
‫محاسن ُه تُضيءُ لكل سَـارِي‬ ‫فأهديت الضياء بها إلـى مَـنْ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫يُ ْؤذِيه حتّى بال َقذَى في مـائِه‬ ‫يَشْقَى الفتى بخلفِ ك ّل معاندٍ‬
‫سكْبِ إنائهِ‬
‫عنْدَ َ‬
‫ويروغ عنه ِ‬ ‫شرْبهِ‬ ‫يقذى إذا أصغى الناء ل ُ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي تلوي بالوفَاء وَتجمـ ُ‬
‫ح‬ ‫وهَا هِ َ‬ ‫أُطالِبُ أيامي بإنجا ِز مَـوْعِـدي‬
‫ن يَسمحُ‬
‫ل فبعضُ الشوك بالم ّ‬ ‫قلي ً‬ ‫أقولُ عساها أن تلِينَ لمطلـبـي‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫والهج ُر يتبعُه َركْضاً على الثرِ‬ ‫أرى وصَالَك ل َيصْفُو لمِـلـهِ‬
‫عليه أبعدُها من منزع الـوتـرِ‬ ‫ب سهميها إذا عطفت‬ ‫كالقوس أقر ُ‬
‫أخذ هذا من قول ابن الرومي وذكر رجلً متلوناً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا بك قد ولَيتنا ثانياً عِـطْـفَـا‬ ‫رأيتك بينا أنتَ خِلّ وصَـاحِـبٌ‬
‫بعادًا لمن بادلْتة الودّ واللطـفَـا‬ ‫وأنك إذْ أحْنى حنـوك مُـوجِـبٌ‬
‫على السهم َأنْأَى ما تكونُ له َقذْفا‬ ‫لكالقوس أحنى ما تكونُ إذا انحنَتْ‬
‫وله في نحو ذلك‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأتعبْتُ أقلمي عتابًا ُم َردّدا‬ ‫جدْ متـودّداً‬ ‫تودّدْت حتى لم أ ِ‬

‫إذا النزع أدْناه من الصدر أ ْب َعدَا‬ ‫كأنيَ أستدعي لك ابن حَـنِـيّةٍ‬


‫وذكر عمر بن علي بن محمد المطوعي أبا الفضل الميكالي في كتاب ال في منظومه ومنثوره فقال‪ :‬قد أصبحتْ حضرت ُه ‪ -‬ل زالتْ أرِجَةَ‬
‫ع َبدَة أحرار الكلم‪ ،‬كما خد َمتْه أحرارُ اليام‪،‬‬ ‫الرجَاءِ بطيبِ شمائِله‪ ،‬راضية الرضا عن صَوْب أنامله ‪ -‬مَوْسِمَ المالِ‪ ،‬ومحط الرحال؛ و َ‬
‫وَأطاعته المعاني والمعالي‪ ،‬كما أطاعه صَرفُ اليام والليالي‪ ،‬فهو ‪ -‬أدامَ ال تمكينَه ‪ -‬شهابُ المجدِ الذي ل يخبُو واقده‪ ،‬ورَوْض الكرم الذي ل‬
‫جيْنها وعِ ْقيَانِها؛ وإن أردت السماح َة فهو‬ ‫س ميدانها‪ ،‬وناظم دُرّها ومرجانها‪ ،‬وصائغ لُ َ‬‫يجدب را ِئدُه؛ إن أردْتَ البلغ َة فهو مَالكُ عنانها‪ ،‬وفار ُ‬
‫حدَقتُها وإنسانها‪ ،‬وحديقتها وبُستانُها؛ وإن أردت شرف الصل والنسب‪ ،‬والجم َع بين‬ ‫محلّها ومكانُها‪ ،‬وتاريخُها وعنوانُها‪ ،‬ويدُها ولسانُها‪ ،‬و َ‬
‫الموروث من المجد والمكتَسب‪ ،‬فناهِيك بأوائله شرفاً سابقاً‪ ،‬وفضلً باسقاً‪ ،‬ومجداً في فلك الفجر سامقاً‪ ،‬فهم ا ْلجَحاجِحَةُ الغُر‪ ،‬والكواكب الزُهر‪،‬‬
‫صدْرَ البَدْرِ بشرف أخطارهم‪ ،‬فما فيهم‬ ‫ب الكواكب من ُبعْد أقدارهم‪ ،‬وصكوا فَرْقَ الفرقد و َ‬ ‫ومن بهم يفتخِرُ الفخر‪ ،‬ويتشرف الدهر‪ ،‬زحموا مناك َ‬
‫إل قمر فَضْلٍ دارَ في فلك علم‪ ،‬وهلل مجدٍ لح في سماء َفهْم‪ ،‬توارثُوا المجد كابراً عن كابر‪ ،‬وباقياً عن غابر‪ ،‬وسافرت أخبارهم في ال ُبعْد‬
‫ت مَسِيرَ الشمس في كل بلد‪ ،‬وهبت هبوبَ الريح في البر والبحر‪ ،‬فهم كما قال أبو عبادة‬ ‫والقُرب‪ .‬وطارت في أقاصي الشرق والغَرْبِ‪ ،‬وسا َر ْ‬
‫البحتري في الشاه بن ميكال وأهله فأحسن وأجاد وبلغ ما أراد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫طتِه والسيفُ وَافي الحَمـائل‬ ‫ببَسْ َ‬ ‫بني أحْ َوذِي‪ ،‬يغمر الطرف مُوفِياً‬
‫ط النامِ‬ ‫سبْ ِ‬
‫حبِ الباع َ‬
‫على كل رَ ْ‬ ‫تضيقُ الدروعُ ال ُثّبعِيّات منـهـمُ‬

‫‪207‬‬
‫جمّ الزلزل‬ ‫على أَرضِهِ والثغرُ َ‬ ‫عُراعر قوم يسكنُ الثغ َر إن مَشَوْا‬
‫ف مُـتَـطـاوِلِ‬
‫شرِ ٍ‬
‫بآلَئه أو مُ ْ‬ ‫فكم فيه ُم من ُم ْنعِمٍ مـتـطـوّلٍ‬
‫جمّات التلع الـسـوائل‬ ‫نظائر ُ‬ ‫إذا سُئلوا جادَتْ سيوفُ أكفـهـم‬
‫عرائكَ أحداثِ الزمان الجـلئل‬ ‫خَلِيقونَ سَرْوًا أن تُلِينَ أكفـهـم‬
‫إلى َقمَ ٍر فيهمْ رفيع المَـنـازِلِ‬ ‫وما زال لحظُ الراغبين ُمعَلَـقـاً‬
‫وفيه‪ ،‬أو في أبيه‪ ،‬يقولُ أبو سعيد أحمد بن شبيب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫رَزْحى الركاب برَازِحِي الركابِ‬ ‫وإلى المير ابن المير تواهَقَـتْ‬
‫ظفَ ٍر بعُقْـبِ ضِـرَابِ‬ ‫وألذّ من َ‬ ‫شيَمٌ أرَقّ من الهواءِ بل الـهـوَى‬ ‫ِ‬
‫لنَفذْنَ فـي اليام غَـيْ َر نَـوَابِ‬ ‫وعزائمٌ لو كنّ يومـاً أَسْـهُـمـاً‬
‫نا ِريّةُ القْـدَامِ واللـهـــابِ‬ ‫مائيةُ الـجـريَان إل أنـهـــا‬
‫و َي ِتهْنَ بين مَـثُـوبةٍ وعـقَـابِ‬ ‫يخطـرن بـين سـيَاسةٍ و ِريَاسَةٍ‬
‫ترجمة ابن أبي دواد وأخباره‬
‫قال أبو عبد ال بن حمدون النديم‪ :‬لقد رأيت الملوك في مقاصيرها‪ ،‬ومجامع حفلها‪ ،‬فما رأيت أغزر أدباً من الواثق؛ خرج علينا ذات يوم وهو‬
‫يقول‪ :‬لقد عرض عرضة من عرضه لقول الخزاعي‪ ،‬يريد دِعبِلً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫طوَى الكَشْحَ عني اليومَ وهو مَكينُ‬ ‫َ‬ ‫ي ماذا أرتجي من غد امـرئ‬ ‫خليل ّ‬
‫س ّد به مِن خَلـتـي لَـضـنِـينُ‬ ‫يَ ُ‬ ‫وإنَ امرأً قد ضَنّ عني بمنـطـقٍ‬
‫ط من عِقَال في رجل من أهل اليمامة فأَطْنب وأسهب‪ ،‬وذهب في القول كل مَذْهَب؛ فقال الواثق‪ :‬يا أبا‬ ‫فانبرى أحمد بن أبي دُوَاد يسأله كأنما نَشِ َ‬
‫عبد ال‪ ،‬لقد أكثرتَ في غير كبير‪ ،‬ول طَيب‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إنه صديقي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫من الهيّن الموجو ِد أن يتكلّـمـا‬ ‫ن ما ُيعْطي الصديقُ صديقَهُ‬ ‫وأَهو ُ‬
‫فقال‪ :‬وما قَدر اليمامي أن يكون صديقك‪ ،‬وإنما أحسبه أن يكون من عرض معارفك؟‪ .‬قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إنه شهرني بالستشفاع إليك‪،‬‬
‫وجعلني بمرأى ومسم ٍع من الردّ والسعاف‪ ،‬فإذا لم أَقم له هذا المقام أكون كما قال أميرُ المؤمنين آنفاً‪:‬‬
‫طوى الكَشْحَ عني اليوم وَهْ َو َمكِينُ‬ ‫غنَى امرِئ‬ ‫ي ماذا أرتجي من ِ‬ ‫خليل ّ‬
‫جنَة المَطْل‪ ،‬كما سلم من هجنَة الردّ‪.‬‬ ‫ت لبي عبد ال حاجتَهُ‪ ،‬ليسلم من هُ ْ‬ ‫فقال الواثق‪ :‬بال يا محم ُد بنَ عبد الملك إل عجّ ْل َ‬
‫ضرَة ابن الزيات فأؤخّر ذلك إلى وقت‬ ‫وكان ابن أبي دُواد من أحسن الناس تأتّيا‪ ،‬وكان يقول‪ :‬ربما أردت أن أسألَ أمي َر المؤمنين الحاجةَ بحَ ْ‬
‫ل يتعلّم حُسنَ التلطُف مني! وكان بينه وبين محمد بن عبد الملك عداوة عظيمة‪ ،‬وأمر الواثقُ أصحابَه أن ينهضُوا قيامًا لبي جعفر إذا‬ ‫مغِيبه؛ لئ ً‬
‫ل بعض غلمانه بمراقبة موافاته‪ ،‬فإذا أقبل‬ ‫دَخل‪ ،‬ولم يرخّص في ذلك لحد‪ ،‬فاشتدّ المرُ على ابن أبي دُواد‪ ،‬ولم يَجد لخلف الواثق سبيلً‪ .‬فوكّ َ‬
‫أخبره فنهض يركع‪ ،‬فقال ابن الزيات‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ك بعـدَهـا ويَصـومُ‬ ‫سُ‬ ‫وأَراه َينْ ُ‬ ‫صلّى الضّحَى لمّا استفادَ عَدا َوتِي‬
‫تركتْك َت ْقعُ ُد بعدهـا وتـقُـومُ‬ ‫ل تعدمـنّ عـداو ًة مـوسـومةَ‬
‫ت الموال بطلباتك لِلّئذين بك‪ ،‬والمتوسّلين إليك‪ .‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪،‬‬ ‫وقال الواثق يومًا لبن أبي دُواد تضجّراً بكثرة حوائجه‪ :‬قد أخَليْتَ بيو َ‬
‫ل ل َم َن ْعنَاك ما يزيدُ في‬ ‫نتائج شكرها متّصلة بك‪ ،‬وذخائرُها موصولة لك‪ ،‬وما لي من ذلك إل عشق اتصال اللسن بخلودِ المدح‪ ،‬فقال‪ :‬وا ّ‬
‫عشقك‪ ،‬ويقوّي في همّتك فينا ولنا؛ وأمر فأُخرج له خمسة وثلثون ألف درهم‪.‬‬
‫قال أبو العيناء‪ :‬قلت لبن أبي دواد‪ :‬إنّ قوماً من أهل البصرة قدموا إلى سُرّ من رأى يداً عليّ‪ ،‬فقال‪َ :‬يدُ ال فوقَ أيديهم‪ .‬فقلت‪ :‬إن لهم َمكْراً‪،‬‬
‫فقال‪" :‬ول َيحِيقُ ال َمكْرُ السّيءُ إل بأهْلِهِ" فقلت‪ :‬إنّهم كثير‪ .‬قال‪" :‬كم من فئةٍ قليل ٍة غلبَت فئ ًة كثير ًة بإذنِ ال والّ مع الصابرين"‪ ،‬فقلت‪ :‬ل درّ‬
‫ت الكلبية‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫القاضي فهو كما قالت الصّمو ُ‬
‫ع ُدنْيَا أنت للحـدْثـانِ‬ ‫ومتا ِ‬ ‫ل دَرّك أي جُـنّةِ خَـائفٍ‬ ‫ِ‬
‫َوطْءَ الفنيق مدارجَ الق ْردَانِ‬ ‫متخمّط يَطَأُ الرجالَ شهامةً‬
‫مأمومةً تنحطُ للغـربـانِ‬ ‫ويكبّهم حتى تظل رؤُوسُهـم‬
‫حتى يصِي َر كأنـه بَـابَـانِ‬ ‫ب الشديدَ رِتاجُـه‬ ‫ويفرجُ البا َ‬
‫وكانت هذه المجاوبة بين أبي العيناء وبين أبي العلء المنقري‪ ،‬وكان قد استجاش عليه قومًا من أَهل البصرة‪.‬‬
‫قطعة من شعر العراب في الغزل‬
‫ابن ميادة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫خضْرا‬ ‫ت ببطنِ اللوَى ُ‬ ‫وأهلُك روضا ٍ‬ ‫شعْري هل يَحُلّنّ أهـلُـنـا‬ ‫أل ليت ِ‬
‫ك َتعْرَوْري بنا بـلـدًا قَـفْـرا‬ ‫بريّا ِ‬ ‫ج مَـوْهـنـاً‬ ‫ح تَـدْرُ ُ‬
‫وهل تأتينّ الري ُ‬
‫فروع القاحي تنضب الطلّ والقَطْرا‬ ‫بريح خُزامى الرمل بات ُمعَـانـقـاً‬
‫صبْـرا‬
‫قريباً‪ ،‬فأمّا الصبرُ عنك فل َ‬ ‫أل َل ْيتَنـي ألـقـاكِ يا أمّ جَـحْـدَر‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حنْوةٍ وعَرارِ‬ ‫على منابها من َ‬ ‫وما َروْضَ ٌة باتَ الربي ُع يَجودُها‬
‫ف من دِ ْرعٍ لها وخِمارِ‬ ‫بما الْت ّ‬ ‫بأطيبَ من ريح القرنفل مَوهناً‬
‫وقال آخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عرا ُه بحبّاتِ القلـوبِ الـهـوائمِ‬ ‫سنَا بنتُ الـدّلل تـعـلّـقـتْ‬ ‫تجاِل ُ‬

‫‪208‬‬
‫غريق الناسي في الدّموع السّواجمِ‬ ‫وبين ما تخفى من الوَجْـد ردّهـا‬
‫ب ُعنّابِ أطرافِ الكفّ النـواعـم‬ ‫جرَى الدمعُ َمجْرَى مائِه فكَ َففْـنَـه‬
‫بيَقْظَانِ طَ ْرفٍ في مَـخِـيلة نـائمِ‬ ‫وردّ التحيات الهوَى من عيونـهـا‬
‫وقال العلء بن موسى الجهني‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جتَاباً إلى غير مَوْعدِ‬‫س ُم ْ‬
‫رَدى النفْ ِ‬ ‫ولمّا رأتني مخطراً شَوْكةَ العِـدَى‬
‫ونح ٍر مَشُوبٍ لونُهُ بالـزبـرجـدِ‬ ‫جَلتْ داجِيَ الظلماء منها بـسُـنَةٍ‬
‫جمْرِ الفرقد الـمـتـوقّـد‬
‫تلهّبُ َ‬ ‫سبُوكاً كأن التـهـابَـه‬ ‫شذْر م ْ‬
‫وبال ّ‬
‫خضّد‬‫على البيض أمسَى سَالماً لم يُ َ‬ ‫وجاءت كسَل السيفِ لو م ّر مشيُها‬

‫إلى الحَوْلِ لم نملل وقلْنا له ازدَدِ‬ ‫فب ْتنَا ولم نكذبْك لـو أنّ لـيلـنـا‬
‫ِذيَاداً ونسقيهنّ سقي المـصَـ ّردِ‬ ‫نَذُودُ النفوسَ الصادياتِ عن الهوى‬
‫ف المتش َهدِ‬ ‫مع الصبح صَوت الهات ِ‬ ‫فلمّا بدا ضوءُ الصباحِ وراعَـنـا‬
‫نَطَافي حواشِي التحميّ المعضّد‬ ‫نهضْنا بشَخْصٍ واحدٍ في عيونهـم‬
‫عليها سلمَ الباكِـر الـمـتـزوّد‬ ‫إلى جنَةٍ منهم وسلّـمـت غـادياً‬
‫تأطرغُصْن البـانةِ الـمـتـأوّد‬ ‫وولت وأَغباش الدّجى مرجَـحِـنّة‬
‫وقال أعرابي من طيئ‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن وإثـمِـدُ‬ ‫من الريش إل زَعْفَرا ٌ‬ ‫وأحورُ يصطادُ القلوبَ ومـا لـهُ‬
‫سِوارٌ وخَلخَالٌ وطَوْق منـضـدُ‬ ‫لحُهُ‬ ‫ك ممّن سِ َ‬ ‫وما كنتُ أخشى ال َف ْت َ‬
‫صفَى وأبْـ َردُ‬ ‫سمِي أ ْ‬ ‫من البَرد ال َو ْ‬ ‫وأشنبُ برّاق الثـنـايا غُـروبُـهُ‬
‫وميضاً نرى الظلما َء منه تـقـدّد‬ ‫ي بال أقـعـدا فـتـبـيّنـا‬ ‫خليل ّ‬
‫ل وتُـغْـمَـدُ‬ ‫ي تُسَـ ّ‬‫صفيحةُ ِه ْندِ ّ‬ ‫يكشف أعراضَ السحابِ كـأنـهُ‬
‫ح وأقـعـدُ‬ ‫أقومُ له حتى الصبـا ِ‬ ‫فبتّ على الجيال لـيلً أشـيمُـهُ‬
‫هذا في البرق كقول الطرماح في النور‪:‬الكامل‪:‬‬
‫ف يُسل و ُي ْغمَد‬ ‫شرَ ٍ‬ ‫سيْفٌ على َ‬ ‫َ‬ ‫َيبْدُو وتضمره البلدُ كـأنـهُ‬
‫وقال بشار‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عتْـبـي‬ ‫عبْد طالَ بحبّكمْ َ‬ ‫يا َ‬ ‫عتْباً بحـبـكـمُ‬ ‫أعددْتَ لي َ‬
‫في ال ُقرْطِ والخلخال والقُ ْلبِ‬ ‫ولقد تعرّض لي خيالُـكُـمُ‬
‫ب باردٍ عَـذبِ‬ ‫برضاب أشن َ‬ ‫فشربت غي َر مباشرٍ حَرجـاً‬
‫وقال المتنبي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫طرُ أَن نراه ببَالِهِ‬ ‫مَنْ ليس يَخْ ُ‬ ‫ِبتْنَا ُينَاوِلنا الـمُـدَا َم بـكَـفّـهِ‬
‫س من خَلْخالِهِ‬ ‫عيْنَ الشم ِ‬ ‫وننالُ َ‬ ‫ب من قلئد جِيدِه‬ ‫نَجْني الكواك َ‬
‫وأول شعر أبي الطيب‪:‬‬
‫لول ادّكارُ َودَاعِه وزيالِـهِ‬ ‫ل الحُلمُ جا َد به ول بمثـالِـه‬
‫كانت إعا َدتُهُ خيالَ خـيالِـهِ‬ ‫إن ال ُمعِيدَ لنا المنامُ خَـيَالَـهُ‬
‫إذ كان َيهْجُرُنا زمانَ وصالِهِ‬ ‫ح َببْتُهُ‬ ‫ف من َأ ْ‬ ‫إني لُبغِضُ طَي َ‬
‫ظهَرُ من هذا قول الطائي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫يقول‪ :‬التمثيل والتخيل له في اليقظة أعاد خياله في المنام‪ ،‬فكأنّ الخيالَ الذي في النوم تصور في اليقظة‪ .‬وأ ْ‬
‫ِفكْ ٌر إذا نام ِفكْرُ الخلق لم َينَـمِ‬ ‫زار الخيالُ لها ل بل أزَا َركَـهُ‬
‫في آخر الليل أشراكًا من الحلمِ‬ ‫صبْـتَ لـهُ‬ ‫صتَ ُه لمَا نَ َ‬
‫ظبي تقنّ ْ‬
‫أما بيته الول فمن قول جميل‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫حدثت نفسك عنه وهوَ مشغولُ‬ ‫طيْفِ ألم بـه‬ ‫حييتُ طيفك من َ‬
‫وقال ذو إلى الرمة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا ما دجا الظل ُم منا وساوسُ‬ ‫نأت دارَ ميّ أن تُزَار‪ ،‬وزَورُها‬
‫هوًى لبّسَتهُ بالقلوب اللوابـسُ‬ ‫سرَى لنا‬ ‫إذا نحن عَرّسنا بأرضٍ َ‬
‫وبيته الثاني ألمّ فيه بقول قيس بن الملوّح‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ك يَلْقَـى خـيالـيَا‬ ‫ل من ِ‬ ‫لعل خيا ً‬ ‫ي نَـعـسة‬ ‫س َتغْشِي وما ب َ‬ ‫وإني ل ْ‬
‫ث عنك النفسَ في السرّ خاليا‬ ‫أُحدّ ُ‬ ‫وأخرج من بين الجلوس لعلّنـي‬
‫جعْـنَ إل صـوادِيا‬ ‫ن فما يَرْ ِ‬ ‫يَ ِردْ َ‬ ‫تَقَطَ ُع أنفاسي لذكرك أَنـفـسـاً‬
‫وقد قال فيه قيس بن ذريح‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لعل لقاءً في المـنـام يكـونُ‬ ‫وإني لهْوَى النومَ في غير َنعْسَةٍ‬
‫فيا ليتَ أحلمَ المـنـامِ يقـينُ‬ ‫تخبرني الحـلمُ أنـي أراكُـم‬

‫‪209‬‬
‫وكان البحتري أكثرَ الناس إبداعاً في الخيال‪ ،‬حتى صار لشتهارِه مثلً يقال له خيال البحتري وفي بعض ذلك يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل متى تَطُْلبْه في الج ّد ُتمْـنَـعِ‬
‫صٍ‬‫بوَ ْ‬ ‫ت بنا بعد الهدوّ‪ ،‬فسحـامَـحَـتْ‬
‫أَلمّ ْ‬
‫وأَعْجَلها دَاعِي الصباحِ المُـلَـمّـع‬ ‫حتْ حتى مضى الليلُ وانقضَى‬ ‫فما بَرِ َ‬

‫ن تَولّتْ من حَشايَ وأَضُْلعِي‬


‫أوا َ‬ ‫ن البينَ يَخْلِجُ شَخْصَهـا‬ ‫فولّتْ كأ ّ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫غَزالً تُراعيه الـجـآذِرُ أغْـيَدا‬ ‫عهِدْتُ بجوّها‬ ‫سقى الغيثُ أجزاعاً َ‬
‫شَفَى ُق ْربُهُ التبريحَ أو نَقَعَ الصدى‬ ‫إذا ما الكرى أهدى إليّ خـيالَـهُ‬
‫ب أيْقاظًا و َتنْـعَـمُ هُـجّـدا‬
‫ُن َعذّ ُ‬ ‫فلم نر ِمثَْليْنا ول مِثْـلَ شـأنـنـا‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ض يُطْم ُع‬ ‫ت من وَجْدي َتعَرّ َ‬ ‫تَأوّهْ ُ‬ ‫بَلَى وخيال من ُأثَـيْلَة كـلـمـا‬
‫سمَعُ‬
‫سمَعُ ُأذُني َرجْعَ ما ليس تَ ْ‬ ‫وتَ ْ‬ ‫يُرِي مقلتي ما ل ترى من لقـائه‬
‫ف َفتَـ ْرجِـعُ‬
‫تُ َر ّد به َنفْسُ اللهي ِ‬ ‫ويكفيك من حق تَخَـيّلُ بـاطـلٍ‬
‫قوله في البيت الخير من قول الحسين بن الضحاك‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ل والهجرُ حظّك ممن تُحِب‬ ‫وماذا يفيدك طيفُ الـخـيا‬
‫تملّيته بقنـوع الـمـحِـبّ‬ ‫غَنا ٌء قلـيل‪ ،‬ولـكـنـنـي‬
‫وللحسين في هذا المعنى وإن لم يكن في ِذكْرِ الخيال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ت أنـــي‪ ،‬ومـــا أراكَ‪ ،‬أراكَـــا‬
‫خِلـ ُ‬ ‫وصـفَ الـبَـدْرُ حُـسْـنَ وجـهِـك حـتّـى‬
‫ض تو ّهمْته نسِيمَ جناكا‬ ‫وإذا ما تنفس النرجسُ الغ ّ‬
‫ق ذَا ونـــكـــهة ذاكـــا‬
‫ك بـإشــرا ِ‬ ‫خ َدعٌ لل ُمنَى تُعَلّلْني في‬
‫ُ‬
‫وأول من طرد الخيالَ طَرفة بن العبد‪ ،‬فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل مَنْ َوصَلْ‬
‫حبْ َ‬
‫إليها فإني واصلٌ َ‬ ‫فقل لخيال الحنظليّةِ ينـقَـلـبْ‬
‫فتبعه جرير في قوله فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حِينُ الزيارةِ فا ْرجِعي بسَـلمِ‬ ‫طر َقتْك صائدةُ القلوبِ وليس ذا‬
‫قال البحتري‪ ،‬ونفى هذا المعنى بقوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ب َتنَاسي‬
‫صدّ غِ ّ‬‫إذا كان منك ال ّ‬ ‫ب َتذَكّـر‬ ‫جدُ غِ ّ‬ ‫قد كان مني الوَ ْ‬
‫ويَلينُ قلبي حين قَ ْلبُك قـاسـي‬ ‫تجري دموعي حين َد ْم ُعكِ جامدٌ‬
‫ل كاسي‬ ‫َتغْشَى‪ ،‬ول َن ْهنَهْتُ حَامِ َ‬ ‫سلّم ل َتعُـدْ‬ ‫ما قلتُ للطيف المُ َ‬
‫وقال ابن هاني الندلسي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي أيقاظٌ ونحـن هُـجُـو ُد‬ ‫وفي الح ّ‬ ‫أل طَ َر َقتْـنـا والـنـجـومُ ُركُـودُ‬
‫خرَيات الليل منـه عَـمُـودُ‬ ‫وفي أُ ْ‬ ‫عجَلَ الفجرُ المَُلمَعُ خَطْـوَهـا‬ ‫وقد أَ ْ‬
‫فلم يَدْ ِر نَـحْـ ٌر مـا دَهـاهُ وجِـيدُ‬ ‫ضبَى على الذُرّ وحدهُ‬ ‫غ ْ‬ ‫سَ َرتْ عاطِلً َ‬
‫قلئدُ فـي لَـبّـاتـهـا وعُـقـودُ‬ ‫ل ومن سِ ْلكِ َأ ْدمُـعِـي‬ ‫حتْ إ ّ‬ ‫فما بَرِ َ‬
‫وأنّا بَـلـيْنـا والـزمـانُ جَـديدُ؟‬ ‫ألم يأتها أنّا َكبُرْنـا عـن الـصّـبـا‬
‫ي بن محمد اليادي‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقال عل ّ‬
‫ص يُرَى في النوم وهْو مطاو ُ‬
‫ع‬ ‫وعا ٍ‬ ‫أما إنه لول الخـيالُ الـمـراجـعُ‬
‫يُرى بعد رَوْعاتِ الهوى وهو هاجِع‬ ‫حيَا مـن الـنـوم وَالِـهٌ‬ ‫ستَ ْ‬
‫لَشْفق وَا ْ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل بـه وبـطـيفِـه مِـنْ زَائ ِر‬
‫أهْ ً‬ ‫طيفٌ يزورُك من حبـيبٍ هـاجـرِ‬
‫حتى أل ّم فبات بـين مـحـاجـري‬ ‫سرَى فأ ْمعَن في السّرى‬ ‫شقّ الدجى و َ‬
‫نَحْوِي وسالفةُ الغـزال الـنـافـر‬ ‫يحدُو به هَيف القوام المـنـثـنـي‬
‫أسرى فأنصف من حبيب هـاجـرِ‬ ‫للّـه درّك مـن خـيالٍ واصــل‬
‫وقضيت ِذمَةَ فيض َدمْعٍ قـاطـرِ‬ ‫عَلّلت عـلّة قـلـب صَـبّ هـائم‬
‫وقال عبد الكريم بن إبراهيم‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وزَوْرَةٌ ِلمُل ّم عـهـدُه عـفـ ُر‬ ‫طرُ‬ ‫لم أدْ ِر َم ْغنَاك لول المسكُ والقُ ُ‬
‫تحمّر الورد ِمنْه وانتشى الزَ َهرُ‬ ‫سرى يعارضُ أنفاسَ الرياح بما‬
‫ستَتِـر؟‬‫صبْحًا كيف يَ ْ‬
‫ومن تَ َقنّع ُ‬ ‫سرَا ُه مس َتتِراً‬ ‫يخفي بثوب الدُجَى مَ ْ‬
‫فيه فيدمج أخبارِي فيَختَـصـر‬ ‫كأَنّ أعـينَ واشِـيه تُـرَاقِـبـهُ‬
‫قال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل في ثيَاب حِدادِ‬
‫والليلُ يرف ُ‬ ‫ل به من زائ ٍر معـتـادِ‬ ‫أه َ‬

‫‪210‬‬
‫ويشقّ ملتفّ ال َقنَا المنـآدِ‬ ‫يتجاوزُ الراياتِ يخفقُ ظلّها‬

‫حتى تَيمّ َم بـالـعَـرَاء وسـادي‬ ‫ى اهتدَى في ظلّ أخضر مغْدِف‬ ‫أنّ َ‬


‫عبَـادِ‬
‫في حيث ينبو الحارث بن ُ‬ ‫ق من كبد المتـيّم مـقـدمـاً‬ ‫بأر ّ‬
‫ي نمَامٌ عـلـى الـعُـوّادِ‬‫والحل ُ‬ ‫معتادة َأ ِمنَتْ نـمـائم حـلـيهـا‬
‫ن فُـؤَاي‬‫متـوقّـد مـمـا يُجِـ ّ‬ ‫وكأنما ياقُوتُها فـي نَـحـرِهـا‬
‫?في مجالس المنصور‬
‫خطب صالح بن أبي جعفر المنصور في بعض المر فأحسن‪ ،‬فأراد المنصو ُر أن يقرظه ويثني عليه‪ ،‬فلم يجسر أحد على ذلك لمكان المهدي‪،‬‬
‫وكان مرشحاً للخلفة‪ ،‬وخافوا أل يقع الثناء على أخيه بموافقته‪ ،‬فقام عقال بن شبّة‪ ،‬فقال‪ :‬ما رأيت أبين بياناً‪ ،‬ول أفصح لساناً‪ ،‬ول أحسن‬
‫طريقاً‪ ،‬ول أغمض عروقاً‪ ،‬من خطيب قام بحضرتك يا أمير المؤمنين‪ ،‬وحُقّ لمن كان أمي ُر المؤمنين أباه‪ ،‬والمهدي أخاه‪ ،‬أن يكون كما قال‬
‫زهير‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫بزّا الملوكَ وبزّا هذه السّ َوقَـا‬ ‫حسَنـاً‬ ‫يَطْلُبُ شأْ َو امْ َرَأيْنِ َقدّما َ‬
‫على تكاليفِه ف ِمثْلُهُ لَـحِـقَـا‬ ‫شأْوِ ِهمَا‬
‫ن يَلْحَقْ ب َ‬ ‫هو الجَوادُ فإ ْ‬
‫سبَقـا‬‫فبالذي َق ّدمَا من صالحٍ َ‬ ‫أو يَسْبقاهُ على ما كان من َمهَلٍ‬
‫فعجب الناسُ من حُسن تخلصه‪ ،‬فقال أبو جعفر‪ :‬ل ينصرف التميمي إل بثلثين ألفاً‪.‬‬
‫ب المهدي‪ :‬ما رأيت مثل عقال قطّ في بلغته؛ مدح الغلم وأ ْرضَى المنصور‪ ،‬وسلِم من المهدي‪ :‬وفي قصيدة زهير هذه‬ ‫قال أبو عبد ال كات ُ‬
‫يمدح هرم بن سنان بن أبي حارثة المري‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫والسائلونَ إلى أبوابـه طُـرُقـا‬ ‫خيْرَ في هَـرمٍ‬ ‫قد جعلَ ال ُمبْ َتغُونَ ال َ‬
‫يَلْقَ السماح َة منه والندَى خُلُـقَـا‬ ‫لتِه هَـرِمـاً‬ ‫ق يوماً على عِ ّ‬ ‫من يًلْ َ‬
‫يومًا ول ُم ْعدِمًا من خَابطٍ وَرَقـا‬ ‫وليس مان َع ذي قُ ْربَى وذي رَحِـمٍ‬
‫صدَقـا‬ ‫ث كذبَ عن أقرانِه َ‬ ‫ما اللي ُ‬ ‫ث ِبعَثر يصطادُ الـرجـالَ‪ ،‬إذا‬ ‫لي ٌ‬
‫ضاربَ حتى إذا ما ضَا َربُوا اعتنقا‬ ‫ط َعنُوا‬ ‫طعَنهُمُ ما أ ْر َتمَوْا حتى إذا ا ّ‬ ‫يَ ْ‬
‫ُيعْطِي بذلك ممنونـًا ول نَـ َزقَـا‬ ‫فَضْلُ الجوادِ على الخيل البِطَا ِء فل‬
‫ق نَطَـقـا‬ ‫َوسْطَ النديّ إذا ما ناط ٌ‬ ‫هذا وليس كمن يعيا بـحُـجّـتـهِ‬
‫لفُـقـا‬ ‫أفقَ السماءِ لناَلتْ كفّـه ا ُ‬ ‫ي من الدنيا بـمـكـرمةٍ‬ ‫لو نالَ ح ٌ‬
‫وكان زهي ٌر كثيرَ المدح لهرم‪ ،‬ويروى أن بنتاً لسنان بن أبي حارثة رأت بنتاً لزهير بن أبي سلمى في بَعض المحافل‪ ،‬وإذا لها شارةٌ وحالٌ‬
‫حسنة‪ ،‬فقالت‪ :‬قد سرّني ما أرى من هذه الشارة والنعمة عليك فقالت‪ :‬إنها منكم‪ .‬فقالت‪ :‬بلى وال لك الفضل‪ ،‬أعطيناكم ما يَ ْفنَى‪ ،‬وأعطيتمونا ما‬
‫يبقى!‪.‬‬
‫وقد قيل‪ :‬إن عمر بن الخطاب‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬قال لبنة هرم بن سنان‪ :‬ما وهَب أبوك لزهير؟ قالت‪ :‬أعطيناه مالً وأثاثاً أفْناه الدهر‪ .‬قال‪ :‬لكن‬
‫ما أعطاكموه ل ت ْفنِيه الدهور‪ .‬وقد صدق عمر‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬لقد أبقى زهير لهم ما ل تفنيه الدهور‪ ،‬ول تُخْلِقه العصور‪ ،‬ول يزال به ذكر‬
‫الممدوح سامياً‪ ،‬وشرفه باقياً‪ ،‬فقد صار ذكرهم عَلَمًا منصو َباَ‪ ،‬ومثلً مضروباً‪ ،‬قال الطائي‪ ،‬وذكرهم في شعره‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫صغَى له هرم‬ ‫إلّ زهير وقد أ ْ‬ ‫شبْةٌ حين أذكـرهُ‬ ‫مالي ومالك ِ‬
‫سهْل‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫وقال يوسف الجوهري يمدح الحسن بن َ‬
‫وكيف يصنعُ في أموالِه الكرمُ‬ ‫ع ْينَي زهي ٍر أبصرت حَسَناً‬ ‫لو أن َ‬
‫ت ل هَ ِرمُ‬ ‫هذا الجوادُ على العل ِ‬ ‫إذن لقال زهيرٌ حين يبـصِـرهُ‬
‫وقال آخر‪ ،‬ويدخل في باب تفضيل الشعر‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫والشعرُ أفضل ما يجنى من الك َرمِ‬ ‫الشع ُر يَحفَظُ ما أَودَى الزمان بـه‬
‫ما كان يعرف جُو ٌد كان من هَرِم‬ ‫لول مقالُ زهير فـي قـصـائدهِ‬
‫وقيل‪ :‬أعطى هرم العطاء الجزيل قول زهير فيه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حبْسِ والصْرِ‬ ‫ُذ ْبيَانَ عَامَ الْ َ‬ ‫ل قد عَِل َمتْ سَرَاةُ بنـي‬ ‫تا ّ‬
‫ت نَزَالِ ولُجّ في الذّعْرِ‬ ‫عيَ ْ‬
‫دُ ِ‬ ‫ش ُو الدّ ْرعِ أنت إذا‬ ‫ن ِنعْمَ حَ ْ‬ ‫أْ‬

‫ن ُمغَيّبِ الـصّـدْ ِر‬ ‫جُلَى أمي ُ‬ ‫حامي الذّمارِ على مُحَافظة ال‬
‫ضاقت عليه نوائبُ الـدَهْـرِ‬ ‫ك إذا‬
‫حدِبٌ على المَوْلَى الضّرِي ِ‬ ‫َ‬
‫لْواء غي ُر مَُلعّـنِ الـقِـدْرِ‬ ‫ح َمدُ فـي ال‬
‫ومُرَهَقُ النيران يُ ْ‬
‫ك دونَ الخيرِ من سِـتْـرِ‬ ‫يلقا َ‬ ‫ستْر دونَ الفاحشاتِ‪ ،‬ومـا‬ ‫وال ّ‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫لتِه هَـرمُ‬ ‫كنّ الجوادَ على عِ ّ‬ ‫ل ملومٌ حيثُ كان و َ‬
‫ل‬ ‫إن البخي َ‬
‫عفْواً‪ ،‬ويُظْلَمُ أحيانًا فيظّـلِـمُ‬
‫َ‬ ‫هو الكريمُ الذي يُعطِيك نَائِلَـهُ‬
‫ب مَالي ول حَ ِرمُ‬ ‫يقولُ‪ :‬ل غائ ٌ‬ ‫وإنْ أتاه خلـيلٌ يو َم مـسـألةٍ‬
‫ل به الفقر؛ إلى غير ذلك من مُختار مدحه فيه‪.‬‬ ‫الخليل‪ :‬الذي أخ ّ‬

‫‪211‬‬
‫من فضائل الشعر‬
‫ب عبدَ ال بن جعفر‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬أمر له بإبل وخيل‪ ،‬وثياب ودنانير ودراهم‪ ،‬قال له رجل‪ :‬أ ُتعْطي لمثل هذا العبد السود‬ ‫صيْ ٌ‬
‫ولما امتدح نُ َ‬
‫ق بما قال أكثرَ ممّا أعطى وهل أعطيناه إل ثياباً‬ ‫شعْرَه أبيض‪ ،‬وإن كان عبداً فإن ثناءه َلحُرّ‪ ،‬ولقد استح ّ‬ ‫هذا العطاء؟ فقال‪ :‬إن كان أسود فإن ِ‬
‫ل يَ ْفنَى‪ ،‬ومطايا َتنْضَى‪ ،‬وأعطانا مديحاً يروَى‪ ،‬وثناء َيبْقَى؟‪.‬‬ ‫تبلى‪ ،‬وما ً‬
‫وقال الخطل يعت ّد على بني أمية ِبمَدْحِهِ لهم‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ي أكثَـرُ‬ ‫فلقد أخذتُمْ من مديح َ‬ ‫أبني أمية‪ ،‬إن أخذتُ نوالكـمْ‬
‫ن و ُتذْكَرُ‬ ‫ُتنْسَوْن إنْ طَال الزما ُ‬ ‫ح فـيكُـم‬ ‫أبني أمية‪ ،‬لي مدائ ُ‬
‫ولما مدح أبو تمام الطائي محمد بن حسان الضبي بقصيدته التي أولها‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ضرَ ٌة و َنعِيمُ‬‫وغدَتْ عليه ْم نَ ْ‬ ‫أسقى طلوَلهُمُ َأجَشّ هَزِيمُ‬
‫وصَلَه بماد كثير‪ ،‬وخلع عليه خلعة نفيسة‪ ،‬فقال يصفها‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫س من مـكـار ٍم ومَـسَـاعِ‬ ‫ُم ْكتَ ٍ‬ ‫قد كسانا من كُسْوَةِ الصيف خِ ْرقٌ‬
‫سحَا القيْضِ أو رداء الشجـاع‬ ‫كَ َ‬ ‫حُلّةً سـابِـريّ ًة وكِــسَـــاء‬
‫أنه ليس مثلـه فـي الـخِـدَاعِ‬ ‫كالسراب الرقراقِ في الحُسْنِ‪ ،‬إل‬
‫ه بأم ٍر من الهـبـوب مـطـاعِ‬ ‫ح مَـتْـنَـي‬ ‫قصبيّا تسترجفُ الري ُ‬
‫َك ِبدُ الصب أو حَشَا الـمُـ ْرتَـاع‬ ‫رجَفاناً كأنـه الـدهـ َر مـنـهُ‬
‫ءًا من المـتـنـين والضـلعِ‬ ‫لزماً ما يليه تـحـسـبُـه جـز‬
‫حبِ الفؤادِ رَحْبِ الذراعِ‬ ‫صّدرِ رَ ْ‬ ‫كسوة مِنْ أغَزّ أروعَ رَحْـب ال‬
‫من ثنا ٍء كالبرد بردِ الـصّـنـاعِ‬ ‫سوف أكسوكَ ما يعفّي علـيهـا‬
‫سنُهُ في القلـوب والسـمـاعِ‬ ‫حُ ْ‬ ‫حُسْنُ هاتيك في العـيون‪ ،‬وهـذا‬
‫ي إن بقي عندي ثوب أو يَصِل إلى أبي تمام؛ وأمَر بحمْلِ ما في خزائنه إليه‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬لعنةُ ال عل ّ‬
‫قال إبراهيم بن العبّاس الصولي لبي تمام‪ :‬أمراءُ الكلم‪ ،‬يا أبا تمام‪ ،‬رعيةٌ لحسانك‪ ،‬قال‪ :‬ذاك لني أستضيءُ بنورك‪ ،‬وأ ِر ُد شريعتك‪.‬‬
‫ج ْودَة شعره بليغَ الخطاب‪ ،‬حاضرَ الجواب‪ ،‬وكان يقال‪ :‬ثنتان قَلّما يجتمعان‪ :‬اللسانُ البليغ‪ ،‬والشعر الجيد‪.‬‬ ‫وكان الطائي مع َ‬
‫جنَادة الوشَاء‪ :‬انصرف أبو تمام من عند بعض أصحاب السلطان‪ ،‬فوقف علي‪ ،‬فقلت‪ :‬من أين؟ فقال‪ :‬كنت عند بعض الملوك‬ ‫وقال الحسن بن ُ‬
‫جتُ هاربًا من المجلس‪ ،‬نافراً إلى التسلّي‪ ،‬وما في منزلي نبيذ فإن كان عندك منه شيء‬ ‫فأكلْنا طعاماً طيّبا‪ ،‬وفاكهة فاضلة‪ ،‬وبُخَرنا وغُلفْنا؛ فخر ْ‬
‫جنْته به من‬ ‫سمَه‪ ،‬فليس يثنينا عن المدام‪ ،‬ما َه ّ‬ ‫خمْ ٌر أريده لبعض الدوية‪ ،‬فقال‪ :‬دع اسمه‪ ،‬وأعْطِنا جِ ْ‬ ‫فامنحني‪ ،‬فقلت‪ :‬ما عندي نبيذ ولكن عندي َ‬
‫اسم الحرام‪.‬‬
‫في المواعيد‬
‫قال عبيد ال بن محمد بن صدقة‪ :‬كنَا عند أبي عبيد ال‪ ،‬فدخل عليه أعرابي قد كان له عليه وَعْد‪ ،‬فقال له‪ :‬أيها الشيخ السيد‪ ،‬إني وال أ َتسَحًبُ‬
‫شكْر في العرب شادخَ‬ ‫ش مجدك‪ ،‬وأستعين على نعمك بقدرك؛ وقد مضى لي موعدان‪ ،‬فاجعل النُجحَ ثالثاً‪ ،‬أ ُقدْ لك ال ُ‬ ‫على كرمك‪ ،‬وأستوطِئ فرا َ‬
‫ظ مني‪ ،‬وأنا أبلغ لك‬ ‫الغُزَة‪ ،‬باديَ الوضاح‪ .‬فقال أبو عبيد ال‪ :‬ما وعدتك تغريراً‪ ،‬ول أخرتُك تقصيراً‪ ،‬ولكن الشغال تقطعني‪ ،‬وتأخد بأ ْوفَر الح ّ‬
‫جهد الكفاية‪ ،‬ومنتهى الوُسْع بأوفر مأمول‪ ،‬وأحمد عاقبة‪ ،‬وأقرب أ َمدٍ‪ ،‬إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫صدْق‪ ،‬قد أحصرني التطول‪ ،‬فهل من معين ُمنْجد ومساع ٍد منشد؟ فقال بعضُ أحداث الكتاب لبي عبيد ال‪ :‬وال ‪-‬‬ ‫فقال العرابي‪ :‬يا جلساءَ ال ّ‬
‫أصلحك الّ ‪ -‬لقد قصدك‪ ،‬وما قصدك حتى أمّلَك‪ ،‬وما أمّلك إل بعد أن أجال النظر‪ ،‬فأمن الخطر‪ ،‬وأيقن بالظفَر‪ ،‬فحقق له أمله بتهيئة القليل‪،‬‬
‫وتهنئة التعجيل‪ .‬قال الشاعر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تبلّج عن بشر ليستكمل البشْـرا‬ ‫عدِ آمل‬ ‫إذا ما اجتله المجد عن وَ ْ‬
‫تصون له الحمدَ الموفّر والجْرا‬ ‫ولم َي ْثنِه مطل العداة عنِ الـتـي‬
‫ي منها؟ فقال له أبو عبيد ال‪:‬‬ ‫خذْها فأنت سببها‪ .‬فقال‪ :‬شكرُك أحبّ إل ّ‬ ‫فأحضر أبو عبيد ال للعرابي عشرةَ آلف درهم‪ ،‬وقال العرابي للفتى‪ُ :‬‬
‫خذْها‪ ،‬فقد أمَ ْرنَا له بمثلها‪ .‬فقال العرابي‪ :‬الن كمُلَت النعمة‪ ،‬وتمّت المنّة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أخبار معاوية بن يسار‬
‫وكان أبو عبيد ال واسعَ الذرع‪ ،‬سابغَ الدرع في الكرم والبلغة‪ ،‬واسم ُه معاوية بن يَسَار‪.‬‬
‫صبْر على ألَمِ الحاجة‪ ،‬وذلّ الفقر يسعى على عزّ‬ ‫ب بَطَر ال ِغنَى‪ ،‬والصبرُ على حقوق الثّرْوَةِ أشدّ من ال ّ‬ ‫س ُ‬ ‫وكان يقول‪ :‬إن نخوةَ الشرف ُتنَا ِ‬
‫عدْل النصاف‪ ،‬إل من ناسب بعد الهمة‪ ،‬وكان لسلطان عزمه قوة على شهوته‪.‬‬ ‫الصبر‪ ،‬وجور الولية مانع من َ‬
‫وكان يقول‪ :‬ل يكسر رأسُ صناعة إل في أخسّ رتّان‪ ،‬وأرذلِ سلطان‪ ،‬ول يعيبُ العلمَ إل من انسلخ عنه‪ ،‬وخرج منه‪.‬‬
‫وكان يقول‪ :‬حُسْنُ البِشْر عَلم من أعلم النجاج ورائد من روّاد الفلح‪ ،‬وما أحسن ما قال زهير‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫كأنك ُتعْطِيه الذي أنتَ سائِلُهْ‬ ‫جئْتَ ُه ُمتَـهَـلّـلً‬
‫تراه إذا ما ِ‬
‫ك وتقديم ُنصْحِك؛ فإني ل أعرض لك رأياً‬ ‫صدْ ِر َ‬ ‫وقال له المهديُ بعد أن قتل ابنَه على الزندقة‪ ،:‬ل يمعنك ما سبق به القضاءُ في ولدك‪ ،‬من ثلج َ‬
‫على تُهمة‪ ،‬ول أؤخر لك قدماً على رتبة‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إنما كان ولدي حسنة من نبْت إحسانك أرضُهُ‪ ،‬ومن تف ّقدِك سماؤه‪ ،‬وأنا طاعة‬
‫ف عندي‪.‬‬ ‫أمرك‪ ،‬وعَبد نهيك‪ ،‬وبقية رأيك لي أحسن الخل َ‬
‫وكان يقول‪ :‬العالم يمشي ا ْلبَرَا َز آمناً‪ ،‬والجاهل يهبط الغيطان كامناً‪ ،‬ولَ درّ زهير حيث يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ستْرِ‬
‫يَلْقاك دونَ الخيرِ من ِ‬ ‫الستر دون الفاحشات وما‬
‫وقال أبو عبيد الّ‪ :‬ذاكرني المنصورُ في أمرِ الحسَين بن قَحْطَة‪ ،‬فقال‪ :‬كان أوثق الناس عندي‪ ،‬وأقربهم من قلبي‪ ،‬فلمّا لقي أبا حنيفة انتكث‪،‬‬
‫شكّ إلى يقين‪ .‬ثم قال لي‪ :‬اكتُم‬ ‫ت له‪ ،‬فتعدل في أمره من َ‬ ‫ش ِهدَ ْ‬
‫ضعُه الباطلُ كما رفعه الحقّ‪ ،‬وتشهد مخايِلُه عليه كما َ‬ ‫فقلت‪ :‬إن فسدت نيته فسي َ‬
‫ت عليك‪.‬‬ ‫عليّ ما أَل َقيْ ُ‬
‫‪212‬‬
‫قال عمران بن شهاب‪ :‬استعنت على أبي عبيد ال في أم ٍر ببعضِ إخوانه وكان قد تقدَم سؤالي إيّاه فيه‪ .‬فقال لي‪ :‬لول أت حقّك ل يُجحد ول‬
‫ل ما عندي إل‬ ‫يضاع‪ ،‬لحجبت عنك حُسْنَ نظري؛ أظننتني أُجهل الحسانَ حتى أعلّمه‪ ،‬ول أعرف موضعَ المعروف حتى أعرّفه؟ لو كان ُينَا ُ‬
‫بغيري لكنت مثل البعير الذّلول‪ ،‬يحمل عليه الحمل الثقيل‪ ،‬إن قِيدَ انقاد‪ ،‬وإن أنيخ بَرَك‪ ،‬ما يملك من نفسه شيئاً‪ ،‬فقلت‪ :‬معرِفتك بموضع الصنائع‬
‫أثبت معرفة‪ ،‬ولم أَجعل فلناً شفيعاً إنما جعلته مذكّرا‪ .‬قال‪ :‬وأي إذكار أَبلغ عندي في رَعي حقّك من مسيرك إليه وتسليمك عليه؟ إنه متى لم‬
‫يتصفّح المأمول أسما َء مؤمّليه غدوةً وروإحاً لم يكن للمل محلً‪ ،‬وجرى عليه المقدا ُر لمؤمّليه على يديه بما قدر‪ ،‬وهو غيْ ُر محمود على ذلك‬
‫ول مشكور‪ ،‬وما لي إمامٌ بعد وردي من القرآن إل أسماء رجال أَهْل التأميل‪ ،‬حتى أعرضهم على قلبي‪ ،‬فل تستَعن على شريفٍ إل بشَ َرفِه؛ فإنّه‬
‫يرى ذلك عيبًا لعُرفه؛ وأنشد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إلى بابه ل تَ ْأتِـه بـشـفـيعِ‬ ‫وذاك امرؤ إن ت ْأتِه في عظيمة‬
‫ق يُعْقِب فَلْجاً أو ظفراً‪ ،‬والباطل يُورث كذبًا و َندَماً‪.‬‬ ‫ومن توقيعاته‪ :‬الح ّ‬
‫وكتب إليه رجل‪ :‬والنفس مولعة بحبّ العاجل‪ .‬فكتب إليه‪ :‬لكن العقل الذي جعله الّ للشهوة ِزمَاماً وللهوى رِباطأ موكّل بحبّ الجل‪،‬‬
‫ومستصغِرٌ لكل كثير زائل‪.‬‬
‫ي عهْد‪ ،‬فأقام سنتين ل يَصلُ إليه شيء من برّه‪ ،‬وهو ملزم‬ ‫قال مصعب بن عبد ال الزبيري‪َ :‬وفَد زياد الحارثي على المهدي وهو بالرّي ول ّ‬
‫كاتبه أبا عبيد ال‪ ،‬فلمّا طال أمره دخل إلى كاتبه فأنشده‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ول مُقَا َم لذي دين وذِي حَـسـب‬ ‫ما بعد حولين مرّا من مطـالـبةٍ‬
‫من المير لقد أَعذرت في الطَّلبِ‬ ‫لئن رحلتُ ولم أظفـر بـفـائدةٍ‬
‫فوقع أبو عبيد الّ‪ :‬يصنعُ ال لك فكتب إليه‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫قد تيقّنت أنـه ل يُجـابُ‬ ‫ما أردت الدعاء منك لني‬
‫جُلّ تسبيجه الخنا والسّباب؟‬ ‫أيجاب الدعا ُء من مستطيل‬
‫ألفاظ لهل العصر‬
‫في ذكر الستطالة والكبر‬
‫ل ذلك من معانيها‪ ،‬ويطرق نواحيها من المساوي والمقابح‪.‬‬ ‫مع ما يشاك ُ‬
‫ض يرشَق بسهام الغيبة‪ ،‬وعلم يقصد بالوقيعة‪ ،‬قد تناولته اللسن العاذلةُ‪،‬‬ ‫فلن لسانُه مِ ْقرَاضٌ للعراض‪ ،‬ل يأكل خبْزَه إل بلحوم الناس‪ ،‬هو غر ٌ‬
‫حكَة كل إنسان‪ ،‬وصار‬ ‫سمُه‪ ،‬فأصبح نَقْلَ كلّ لسان‪ ،‬وضُ ْ‬ ‫سمُه‪ ،‬ولزمه شنار ل يزولُ وَ ْ‬ ‫وتناقلت حديثَهُ النديةُ الحافلة‪ .‬قد لزمه عار ل ُيمْحَى َر ْ‬
‫سبّة الخالدة على‬ ‫دولة اللسن‪ ،‬و ُمثْلَة العين‪ .‬وقد عرّض عرضه غرضاً لسهام الغائبين‪ ،‬وألسنة القاذفين‪ ،‬وقلّد نفسه عظيم العار والشّنار‪ ،‬وال ّ‬
‫حدَى داياته‪ ،‬وكأنّ‬ ‫الليل والنهار‪ .‬قد أسكرته خَمرَة الكبر‪ ،‬واستغرقتْه عُرّة التَيه‪ ،‬كأن كسرى حامل غاشيته‪ ،‬وقارون وكيل نفقته‪ ،‬وبَلْقِيس إ ْ‬
‫يوسف لم ينظ ْر إل بطلعته‪ ،‬وداود لم ينطق إل بنغمته‪ ،‬ولقمان لم يتكلّم إل بحكمته‪ ،‬والشمس لم تطلع إل من جبينه‪ ،‬والغمام لم َينْ َد إل من يمينه‪،‬‬
‫وكأنه امتطى السّماكين‪ ،‬وانتعل الفرقدين‪ ،‬وتناول ال َنيّرَين بيدين‪ ،‬وملك الخافقين‪ ،‬واستعبد الثقلين وكأن الخضراء له عرشت‪ ،‬والغبراء باسمه‬
‫فرشت‪.‬‬
‫فلن له من الطاووس ِرجْلُه‪ ،‬ومن الوَ ْردِ شَوْكه‪ ،‬ومن الماء َز َبدُه‪ ،‬ومن النار دخانها‪ ،‬ومن الخمر خُمارها‪ ،‬قد هبّت سمائ ُم نمائمه‪ ،‬ودبّت مكايد‬
‫ف كلِيل إل أنه يقطع‪ ،‬ويضرب بعضد واهِن إل أنه يوجع‪ .‬هو تمثالُ الجبن‪ ،‬وصورة الخوف‪ ،‬ومقرّ الرعب؛ فلو‬ ‫سيْ ٍ‬ ‫عقارِبه‪ ،‬والنمام يضرب ب َ‬
‫سمّيت له الشجاعة لخافَ َلفْظَها قبل معناها‪ ،‬و ِذكْرَها قبل فحواها‪ ،‬وفزع من اسمها دون مسماها‪ ،‬فهو يهلك من تخوفه أضغاثَ أحلم‪ ،‬فكيف‬
‫جبْنِ صبيّا‪ ،‬ولُقّنَ كتاب الفشل أعجمياً‪.‬‬ ‫بمسموع الكلم؟ إذا ذكرت السيوف لمس رأسَه هل ذهبَ‪ ،‬ومس جبينَه هل ثُقب؟ كأنه أسلِم في كتّاب ال ُ‬
‫ت منه على مواعيد عرقوبية‪ ،‬وأحزان يعقوبية‪ ،‬قد حرمني ثمرَ‬ ‫حدّ سَيفه كَهام‪ .‬حصل ُ‬ ‫عدُه بَ ْرقٌ خلب‪ ،‬وروغان ثعلب‪ .‬غَيمُ وعده جَهام‪ ،‬و َ‬ ‫وَ ْ‬
‫خ َذ من البَرْقِ الخلّبِ خلقاً‪ ،‬وقد تناول من العارض الجهام طبعاً‪ ،‬وتركني أَرْعَى رِياضَ رجاء‬ ‫الوعد‪ ،‬وجرّني على شَوْك المطْلِ‪ .‬فتى له وعدٌ أَ َ‬
‫عدَةٍ ضِمار‪ .‬هو يرسل بَ ْرقَه‪ ،‬ول يسيل َودْقه‪ ،‬ويقدم رَعْده‪ ،‬فل يمطر‬ ‫جنِي ثما َر أمل ل يُورِق؛ فأَنا في ضمان النتظار‪ ،‬وإسار ِ‬ ‫ل يُنبت‪ ،‬وأَ ْ‬
‫عدُه الرقْم على بساط الهواء‪ ،‬والخط في بسيط الماء‪.‬‬ ‫بعدهُ‪ .‬و ْ‬
‫حلّ هذا من قول أبي الفضل بن العميد‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫خِلْواً من الشجان وا ْلبُرحَـاء‬ ‫ل أستفيقُ من الغرام‪ ،‬ول أُرى‬
‫ِبنَوى الخليطِ وفُ ْرقَةِ القُ َرنَـاء‬ ‫ف أيام أَقمْنَ قيامـتـي‬ ‫وصرو ُ‬
‫عَوْني على السراء والضرّاء‬ ‫ب أنّـه‬ ‫ل كنتُ أحسـ ُ‬ ‫وجَفاء خِ ّ‬
‫متنقلٌ كـتـنـقّـل الحـياء‬ ‫َثبْت العزيمة في العقوق‪ ،‬وودّهُ‬
‫ط يُ ْرسَم في بسيطِ المـاء‬ ‫كالخ ّ‬ ‫ت عـهـدهِ‬ ‫ذي خلة يأتيك أَثبـ ُ‬
‫أردت هذا البيت‪.‬‬
‫هو صخرة خَلْقَاء‪ ،‬ل يستجيبُ للمر َتقَى‪ ،‬وحيّة صماء ل تسمع لل ّرقَى‪ ،‬كأني أستنفر بالجوّ رعْداً‪ ،‬وأهز منه بالدعاء طوداً‪ ،‬هو ثابت العِطف نابي‬
‫ل إذا قيلَ لها طِيري‪ ،‬وطائرًا إذا‬ ‫العطف‪ ،‬عاجز القوة‪ ،‬قاصر ال ُمنّة‪ ،‬يتعلّق بأذناب المعاذير‪ ،‬ويحيل على ذنوبِ المقادير‪ .‬هو كالنعامة تكونُ جم ً‬
‫قيل لها سِيري‪ .‬يفاض له بذل‪ ،‬ول يفوّض إليه شغل‪ ،‬ويمل له َوطْب‪ ،‬ول يُ ْدفَع به خَطْب‪ ،‬قد وفّر همّه على مطعم يجوّده‪ ،‬ومَ ْلبَس يجوّده‪،‬‬
‫ومَ ْرقَد يمهده‪ ،‬وبنيان يشيده‪.‬‬
‫هذا كقول الحطيئة‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعِمُ الكَاسِي‬ ‫ل ل ُب ْغ َيتِـهـا‬
‫دَع المكارِمَ ل ترحَ ْ‬
‫صفْوُه رنق‪ ،‬وبره مَلَق‪ ،‬قد مُلئ قلبُه رَيناً‪ ،‬وشُحِنَ صدرُه َميْنًا يدّعِي الفضلَ وهو فيه‬ ‫صدْ ٌر دغِل‪ ،‬وطول ٌة معلولة‪ ،‬وعقيدة َمدْخُولَة‪َ ،‬‬ ‫قَلْب َنغِل‪ ،‬و َ‬
‫صيْف‪ ،‬وطارِقُ ضيْفٍ‪ ،‬قوته غنيمة‪،‬‬ ‫حنْث‪ ،‬وعهده نكْث‪ .‬هو سحابة َ‬ ‫دَعِيّ‪ ،‬دَأْبه بث الخدائع‪ ،‬والن ْفثُ في عُقد المكايد‪ ،‬ضميرُه خُبث‪ ،‬ويمينُه ِ‬
‫صغُر عن‬ ‫والظفر به هزيمة‪ .‬هو العَوْد المركوب‪ ،‬وال َوتَرُ المضروب‪ ،‬يطؤُه الخفّ والحافِرُ‪ ،‬ويستضِيمُه الواردُ والصادر‪ .‬يغمض عن الذكر وي ْ‬
‫الفكر‪ .‬ذاتُه ل يوسَم أغفالها‪ ،‬وصفتُه ل تنفرج أقفالها‪ .‬هو أقل من تبنة في َلبِنة‪ ،‬ومن قلَمة في ُقمَامة‪ .‬وهو بيذق الشطْ َرنْج في القيمة والقامَة‪،‬‬

‫‪213‬‬
‫جهْلُه كثيف‪ ،‬وعَقله سخيف‪ ،‬ل يستترُ من العقل بسِجفٍ‪ ،‬ول يشتمل إل على سخف‪ .‬يم ّد يدَ الجنون فيعرُك بها أذُنَ الحزْم‪ ،‬ويفتح جِرَاب السخف‬ ‫َ‬
‫جهْلِه‪ ،‬ويتساقطُ في‬ ‫سخْفِه وحُمقِه‪ ،‬قد ظل يتعثرُ في فضولِ َ‬ ‫فيصفَع به قَفَا العقل‪ .‬ل تزالُ الخبارُ تورد سفائح جَهلِه وخُرْقه‪ ،‬والنباءُ تنقلُ نتائجَ ُ‬
‫ذيولِ عقله‪ .‬هو سمينُ المالِ مهزول النوال‪ .‬ثَ ْروَة في الثريا وهمّةٌ في الثرَى‪.‬‬
‫جهُه‬
‫حمّى الروح‪َ ،‬و ْ‬ ‫وجهُه َكهَولِ المطلع‪ ،‬وزوال النّعمة‪ ،‬وقضاء السوءِ وموتِ ال ُفجَاءة‪ .‬هو قذَى العَين‪ ،‬وشَجَى الصدْرِ‪ ،‬وأذىَ القلب‪ ،‬و ُ‬
‫كآخر الصك‪ ،‬وظلم الشك‪ ،‬كأنّ النحسَ يطلع من جَبينه‪ ،‬والخل يقطر من وجنته‪ .‬وجهُه طَ ْلعَة الهَجْر‪ ،‬ولفظُه ِقطَع الصخر‪ .‬وجههُ‬
‫ضرَته‪ ،‬ومن الوَزدِ صُفْ َرتُه‪ ،‬ومن السحاب ظُ ْل َمتُه‪،‬‬‫كحضور الغَرِيم‪ ،‬ووصول الرقيب‪ ،‬وكتاب العَزل‪ ،‬وفِرَاق الحبيبِ‪ .‬له من الدينار نَ ْ‬
‫ومن السد نكهته‪ .‬وهو عصارةُ لؤم في قرارة خبث‪ .‬ألم مهجة في أسقط جثة‪ .‬حديث النعمة‪ ،‬خبيث الطعمة‪ ،‬خبيث المركب‪ ،‬لئيم‬
‫المنتسب‪ ،‬يكاد من لؤمه يعدي من جلس إلى جنبه‪ ،‬أو تسمّى باسمه‪ .‬قد أرضع بلبان اللؤم‪ ،‬و ُربّي في حجر الشؤم‪ ،‬وطم عن ثدي الخير‪،‬‬
‫ونشأ في عرصة الخبث‪ ،‬وطلق الكرم ثلثاً لم ينطق فيه استثناءً‪ ،‬وأعتق المجد بتاتاً لم يستوجب عليه ولء‪ .‬هو حما ٌر مبطن بثور مفروز‬
‫بتيس‪ ،‬مطرز بطرر‪ ،‬أتى من اللءم بنادر‪ ،‬لم تهتد له قصة مادر‪ .‬هو قصير الشبر‪ ،‬صغير القدر‪ ،‬ضيق الصدر‪ ،‬رد إلى قيمة مثله في‬
‫خبث أصله‪ ،‬وفرط جهله‪ ،‬ل أمس ليومه‪ ،‬ول قديم لقومه‪ ،‬سائله محروم‪ ،‬وماله مكتوم‪ ،‬ل يحين إنفاقه‪ ،‬ول يحل خناقه‪ ،‬خيره كالعنقاء‬
‫تسمع بها ول ترى‪ .‬خبزه في حالق‪ ،‬وإدامه في شاهق‪ ،‬غناه فقر‪ ،‬ومطبخه قفر‪ ،‬يمل بطنه والجار جائع‪ ،‬ويحفظ ماله والعرض ضائع‪،‬‬
‫قد أطاع سلطان البخل‪،‬وانخرط كيف شاء في سلكه‪ .‬هو ممن ل يبضّ حجره‪ ،‬ول يثمر شجره‪ ،‬سكيت الحلبة‪ ،‬وساقة الكتيبة‪ ،‬وآخر‬
‫الجريدة‪ .‬لعنة العائب‪ ،‬وعرضة الشاهد والغائب‪ .‬هو عيبة العيوب‪ ،‬وذنوب الذنوب‪ .‬وقال أبو الفضل الميكالي‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫تحكي زوا َل نعمةٍ ما شكرتْ‬ ‫وطلعةٍ بقبحها قد شُـهِـ َرتْ‬
‫أِقبِحْ بها صحيف ًة قد نشـرتْ‬ ‫كأنها عن لحمها قد قشـرت‬
‫يلعنها ما قد قدّمتْ وأخّـرتْ‬ ‫عنوانها إذا الوحوش حُشِ َرتْ‬
‫سيّرتْ‬‫إن سار يوماً فالجبال ُ‬ ‫حبُهَا ذو عورة لو سترتْ‬ ‫صا ِ‬
‫ويختص بهذه النواع‬ ‫ت‬
‫ْ‬ ‫ّر‬‫ع‬‫س‬‫ُ‬ ‫فالجحيم‬ ‫ً‬
‫ل‬ ‫َك‬
‫أ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫أو رَا‬
‫رسالة بديع الزمان إلى القاضي علي بن أحمد يشكو أبا بكر الحيري القاضي ويذمه ‪ -‬وقد أطلت عنان الختيار فيها لصّحة مبانيها‪،‬‬
‫وارتباط ألفاظها بمعانيها‪:‬‬

‫الظّلمة ‪ -‬أطال ال بقاء القاضي ‪ -‬إذا أتت من مجلس القضاء‪ ،‬لم ترق إل إلى سيد القضاة‪ .‬وما كنت لقصر سيادته على الحكام‪ ،‬دون سائر‬
‫النام‪ ،‬لول اتصالهم بسببه‪ ،‬واتسامهم بلقبه‪ ،‬وهبهم مطفلين على قسمه‪ ،‬مغيرين على اسمه‪ ،‬ألهم في الصحة أديم كأديمه‪ ،‬أو قديم في الشرف‬
‫كقديمه‪ ،‬أو حديث في الكرم كطريفه؟ فهنيئاً لهم السماء‪ ،‬وله المعاني‪ ،‬ول زالت لهم الظواهر‪ ،‬وله الجواهر‪ .‬ول غزو أن يسموا قضاة‪ ،‬فما كل‬
‫مائع ماء‪ ،‬ول كل سقف سماء‪ ،‬ول كل سيرة عدل العمرين‪ ،‬ول كل قاض قاضي الحرمين‪ ،‬ويا لثارات القضاء! ما أرخص ما بيع‪ ،‬وأسرع ما‬
‫أضيع! والسنة النذار‪ ،‬قيل خلو الديار‪ ،‬وموت الخيار‪ ،‬أل يغار لحلى الحسناء‪ ،‬على السواد‪ ،‬ومركب أولي السياسة‪ ،‬تحت الساسة‪ ،‬ومجلس‬
‫النبياء‪ ،‬من تصدر الغبياء‪ ،‬وحمى البزاة من صيد البغاث‪ ،‬ومرتع الذكور من تسلط الناث؟ ويا للرجال‪ ،‬وأين الرجال! ولي القضاء من ل‬
‫يملك من آلته غير السّبال‪ ،‬ول يعرف من أدواته غير العتزال‪ ،‬ول يتوجه في أحكامه إل إلى الستحلل‪ ،‬ول يرى التفرقة إل في العيال ول‬
‫يحسن من الفقه غير جمع المال‪ ،‬ول يتقن من الفرائض إل قاة الحتفال‪ ،‬وكثرة الفتعال‪ ،‬ول يدرس من أبواب الجدال إل قبيح الفعال‪ ،‬وزور‬
‫المقال‪ ،‬ذاك أبو بكر القاضي‪ ،‬أضاعه ال كما أضاع أمانته‪ ،‬وخان خزانته‪ ،‬ول حاطه من قاض في صولة جندي‪ ،‬وسبلة كردي‪ ...‬إلى أن قال‪:‬‬
‫أيكفي أن يصبح المرء بين الزق والعود‪ ،‬ويمسي بين موجبات الحدود‪ ،‬حتى يكمل شبابه‪ ،‬وتشيب أترابه‪ .‬ثم يلبس دنّته‪ ،‬ليخلع دينته‪ ،‬ويسوي‬
‫طيلسانه‪ ،‬ليحرف يده ولسانه‪ ،‬ويقصر سباله‪ ،‬ليطيل حباله‪ ،‬ويظهر شقاشقه‪ ،‬ليستر مخارقه‪ ،‬ويبيض لحيته‪ ،‬ليسود صحيفته‪ ،‬ويبدي رعه‪،‬‬
‫ليخفي طمعه‪ ،‬ويغشى محرابه‪ ،‬ليمل جرابه‪ ،‬ويكثر دعاؤه‪ ،‬ليحشو وعاءه‪ ،‬ثم يخدم بالنهار أمعاؤه‪ ،‬ويعالج بالليل وجعاءه‪ ،‬ويرجو أن يخرج‬
‫من بين هذه الحوال عالماً‪ ،‬ويقعد حاكماً؟ هذا إذا المجد كالوه بقفزان وباعوه في سوق الخسران! هيهات حتى ينْسَى الشهوات‪ ،‬ويَجُوب‬
‫الفلوَات‪ ،‬ويعتضد المحابرَ‪ ،‬ويحتَضِن الدفاتر‪ ،‬وينتج الخواطر‪ ،‬ويُحالف السفار‪ ،‬ويعتاد القِفَار‪ ،‬ويصل الليلةَ باليوم‪ ،‬ويعتاض السه َر من النوم‪،‬‬
‫ويحمل على الروح‪ ،‬ويجني على العين‪ ،‬وينفق من العيش‪ ،‬ويخزن في القلب‪ ،‬ول يستريح من النظر إل إلى التحديق‪ ،‬ول من التحقيق إل إلى‬
‫ل هذه الكلف إن أخطأه رائدُ التوفيق‪ ،‬فقد ضلّ سواء الطريق‪ ،‬وهذا الحِيرِيّ رجل قد شغله طلبُ الرياسة عن تحصيل آلتها‪،‬‬ ‫التعليق‪ ،‬وحام ُ‬
‫ل المنية عن تمحل أدواتها‪ :‬مجزوء كامل‪:‬‬ ‫وأعجله حصو ُ‬
‫وَ ْهوَ النهاية في الخَسَاسهْ‬ ‫والكلبُ أحـسـن حـالةً‬
‫سة قبل إبّان الـرياسـهْ‬ ‫ممن تَـصَـدّى لـلـريا‬
‫حمَل المان َة وهو ل َيدْري مقدارَها؛ والمانةُ عند الفاسق خفيفةُ المحمل على العاتِق‪ ،‬تُشْفقِ منها‬ ‫فولي المظالم وهو ل يَعرفُ أسرارَها‪ ،‬و َ‬
‫الجبال‪ ،‬ويحملها الجهال‪ ،‬وقعد َم ْقعَد رسولِ الّ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بين حديثه يُرْوَى‪ ،‬وكتاب ال ُيتْلَى‪ ،‬وبين البينة والدعْوَى‪ ،‬فقبّحه ال‬
‫تعالى من حاكم ل شاهِد عنده أعدل من السّلة والجام‪ُ ،‬يدْلى بهما إلى حكَام‪ ،‬ول مزكى أصدق لديه من الصّفر‪ ،‬ترقص على الظفر‪ ،‬ول وثيقة‬
‫ب إليه من غمزات الخصوم‪ ،‬على الكيس المختوم‪ ،‬ول كفيل أوقع بوفَاقِه من خبيئة الذيل‪ ،‬وحمال الليل‪ ،‬ول وكيل أعز عليه من المنديل‬ ‫أح ّ‬
‫والطبق‪ ،‬في وقت الغَسَق والفَلَق‪ ،‬ول حكومة أبغض إليه من حكومة المجلس‪ ،‬ول خصومة أوحش لديه من خصومة المُ ْفلِس‪ ،‬ثم الويل للفقير‬
‫إذا ظُلِم‪ ،‬فيما يغنيه موقف الحكم إل بال َقتْل من الظلم‪ ،‬ول يجيره مجلس القضاء بالنار من الر ْمضَاء‪ .‬وأقسم لو أن اليتيم وقف بين أنياب السود‪،‬‬
‫ن المانةَ‬‫بل الحيّات السّود‪ ،‬لكانت سلمته منهما أرجى من سلمته إذا وقع من هذا القاضي بين عَقاربه وأقَاربه؛ وما ظنّ القاضي بقوم يحمِلو َ‬
‫على ُمتُونهم‪ ،‬ويكألون النارَ في بطونهم‪ ،‬حتى تغلظ قصراتهم من مالِ اليتامى‪ ،‬وتسمن أكفالهم من مال اليامى‪ ،‬وما رأيه في دار‪ ،‬عمارتها‬
‫خرابُ الدور‪ ،‬وعُطلة القدور‪ ،‬وخَلَء البيوت‪ ،‬من الكسوة والقوت‪ ،‬وما قوله في رجل ُيعَادِي ال في الفَلْس‪ ،‬ويبي ُع الدّينَ بالثمن البخس‪ ،‬وفي‬
‫حاكم يبرُز في ظاهر أهل السمتِ‪ ،‬وباطن أصحاب السبتِ‪ِ ،‬فعْله الظلمُ ال َبحْت‪ ،‬وأكله الحرام السّحْت‪ .‬ومَا قوله في سوس ل يقع إل على صوف‬
‫اليتام؛ وجرادٍ ل يقع إل على الزرع الحرام‪ ،‬ولصّ ل ينقب إل خزانة الوقاف‪ ،‬وكردي ل ُيغِيرُ إل على الضعاف‪ ،‬وليث ل يفتَرِسُ عباد ال‬
‫إل بين الركوع والسجود‪ ،‬وخارب ل ينهب مالَ ال إل بين العهود والشهود‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫وذكر في هذه الرسالة فصلً في ذِكْر العلم ‪ -‬وهو مستطرف البلغة‪ ،‬مستعذب البراعة ‪ -‬قال‪ :‬والعلم ‪ -‬أطال ال بقاءَ القاضي ‪ -‬شيء كما‬
‫ضبَطُ باللجام‪ ،‬ول يُورَث عن العمام ول يكتب لِلئام‪ ،‬وزَرْع‬ ‫تعرفُه‪ ،‬بعيد المرام‪ ،‬ل يُصَادُ بالسهام‪ ،‬ول يُ ْقسَمُ بالزلم؛ ول يُرَى في المنام ول يُ ْ‬
‫صيّباً؛ ومن الطبْعِ جوّا صافياً‪ ،‬ومن الجهد روحًا دائماً‪ ،‬ومن الصبر سقياً‬ ‫ف من الحَزْ ِم ثَرًى طيباً‪ ،‬ومن التوفيق مطراً َ‬ ‫ل يَ ْزكُو حتى يصادِ َ‬
‫ض ل يصابُ إل‬ ‫ص ْيدٌ ل يألف الوغاد‪ ،‬وشي ٌء ل يُدْرك إل بنزع الروح‪ ،‬وعَوْن الملئكةِ والروح‪ ،‬وغَر ٌ‬ ‫ق ل يباع ممن زاد‪ ،‬و َ‬ ‫نافعاً‪ ،‬والعلم عِلْ ٌ‬
‫ظرِ‪ ،‬وإعمال الفكر‪ ،‬ثم هو‬ ‫بافتراش المدَر‪ ،‬واتّساد الحجَر‪ ،‬وردّ الضجَر‪ ،‬وركوب الخَطر‪ ،‬وإ ْدمَان السهر‪ ،‬واصطحاب السفر‪ ،‬و َكثْرة الن َ‬
‫صبَاه على‬ ‫معتاص إل على من زكا زَرْعه‪ ،‬وخل ذرعه‪ ،‬وكرم أَصله وفَرعه‪ ،‬ووَعى بصره وسمعه‪ ،‬وصفا ذهنه وطبعهُ‪ ،‬فكيف يناله من أنفق ِ‬
‫جدّه على الكيس‪ ،‬وهزله‬ ‫الفَحْشاء؛ وشبابَه على الحشاء‪ ،‬وشغل نهاره بالجمع‪ ،‬وليلَه بالجماعِ‪ ،‬وقطع‪ .‬سَلْوته بالغنى‪ ،‬وخَلوَته بالغناء‪ ،‬وأفرغ ِ‬
‫في الكأس؛ والعلم ثمر ل يصلح إل للغَرْس‪ ،‬ول يغرس إل في النفس‪ ،‬وصيد ل يقع إل في الندر‪ ،‬ول ينشب إل في الصدر‪ ،‬وطائر ل يخدعه‬
‫لل‬ ‫إل َقنَص اللفظ‪ ،‬ول يعلقه إل شَ َركُ الحفظ ول ينشب إل في الصدر‪ ،‬وبَحْر ل يخوضُه الملح‪ ،‬ول تطيقه اللواح‪ ،‬ول تهيجه الرياح‪ ،‬وجبَ ٌ‬
‫يتسَم إل بخُطا ال ِفكْر‪ ،‬وسماء ل يصعد إل ب ِمعْرَاج الفهم‪ ،‬ونَخ ٌم ل يلمس إل ب َيدِ المجد‪.‬‬
‫ومن مفردات البيات‬
‫في المعايب والمقابح‬
‫قول أبي تمام‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫لما ُأ ْمهِرْن إلّ بالـطـلقِ‬ ‫سمْنَ على الغَوانِي‬ ‫مَسَاوٍ لو قُ ِ‬
‫آخر‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫من لُ ْؤمِ أحْسابِهم أن يقتلوا قَوَدا‬ ‫ن منه ُم أمِـنُـوا‬‫جرّجَا ٍ‬ ‫قومٌ إذا َ‬
‫البحتري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫طبْحِ وَ ْهوَ صَقيلُ‬ ‫و َي ْنبُو الخبيثُ ال ّ‬ ‫َنبَا في يدِي‪ ،‬وابنُ اللئيمةِ وَاجِـدٌ‬
‫ابن الرومي في رجل يعرف بابن رمضان‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وأنتَ نظيرُ يومِ الشّك فـيهِ‬ ‫رأيتك تدّعي رمضانَ دعوى‬
‫وله في أعمى‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ومكانُ الحياء منه خَـرابُ؟‬ ‫كيف يَ ْرجُو الحياء منه صديقٌ‬
‫غيره‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وسُو َء مُرَاعاةٍ وما ذَاكَ في الكَلْب‬ ‫هو الكَلْـب‪ ،‬إل أن فـيه مـللةً‬
‫آخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سِوَايَ فإني في مديحك أكذبُ‬ ‫س كلّهـم‬ ‫أبا دُلفٍ يا َأ ْكذَب النا ِ‬
‫أبو الفضل الميكالي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يدَ الدّهْرِ إلّ حين َتضْرِبه جلْدا‬ ‫هو الشّوْك ل ُيعْطِيك وافِ َر منّة‬
‫اللحن في الكلم‬
‫س كتاب‬ ‫خصْمه‪ ،‬بم ّ‬ ‫قال المأمون لبعض وَلده وسمع منه لحْناً‪ :‬ما على أحدِكم أن يتعلّم العربية‪ ،‬فيقيم بها أ َودَه‪ ،‬ويزيّن بها َمشْهده‪ ،‬ويفلّ حُجَجَ َ‬
‫حكمه‪ ،‬ويملك مَجْلس سُلْطانه‪ ،‬بظاه ِر بيانه؛ ليس لحدكم أن يكونَ لسانُه كلسان عبدِه أَو أَمته‪ ،‬فل يزالُ الدهر أَسِي َر كلمته‪.‬‬
‫وقال رجلٌ للحسن البصري‪ :‬يا أبو سعيد‪ ،‬قال‪ :‬كَسْبُ الدراهم شغَلك أن تقولَ يا أبا سعيد‪ ،‬ثم قال‪ :‬تعلَموا العلم للديان‪ ،‬والنحوَ للسان‪ ،‬والطمث‬
‫للبدان‪.‬‬
‫سبَقْتُ اللحن‪.‬‬ ‫ك تلحن‪ ،‬قال‪َ :‬‬ ‫ح إذا وَعظ‪ .‬وقيل له‪ :‬يا أبا سعيد‪ ،‬ما نرا َ‬ ‫وكان الحسن كما قال العرابي وسمع كلمه‪ :‬وال إنه لفصيح إذا لفظ‪ ،‬نصي ٌ‬
‫أخذه أبو العتاهية‪ ،‬وقيل له‪ :‬إنك تخرج في شعرك عن العَرُوض‪ ،‬فقال‪ :‬سبقت العروض‪.‬‬
‫وقال إسحاق بن خلف البهراني‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ظمُه إذا لم يلحنِ‬ ‫والمر ُء َتعْ ِ‬ ‫النحو يصلَح من لسانِ الَ ْلكَنِ‬
‫فأجلّها منها مقيمُ اللْـسُـنِ‬ ‫فإذا طلبت من العلوم أجلّها‬
‫وقال علي بن بسام‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ظ ْر بمـاذا تُـعَـنْـوَنُ‬
‫وعنوانه فان ُ‬ ‫رأيتُ لسانَ المَـرْء رائدَ عِـلْـمِـهِ‬
‫يُخَـبّـرُ عـمـا عـنـده ويبـين‬ ‫ن فـإنـهُ‬ ‫ول تَعدُ إصلحَ الـلـسـا ِ‬
‫سمعت من العراب‪ .‬ما ليس يحسُنُ‬ ‫على أن للعراب حَـدّا‪ ،‬وربـمـا‬
‫ول في قبيح الَلحْنِ والقصْـد أ ْزيَنُ‬ ‫ول خيرَ في اللفْظ الكريهِ استماعُـهُ‬
‫وقال بعضُ أهل العصر‪ ،‬وهو أبو سعيد الرستمي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عرٌ مثلي؟‬ ‫ويحرَم ما دونَ الرضا شَا ِ‬ ‫ق أن ُيعْطى ثلثون شاعراً‬ ‫أفي الح ّ‬
‫وضُويِقَ بسم ال في أَلِف الوَصْـل‬ ‫كما سامحوا عـمْـراً بـواوِ زيادةٍ‬
‫أبو الفتح البستي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي نون الجم ِع حين يُضَافُ‬ ‫كأن َ‬ ‫ت وغيري مثبَت في مكانهِ‬ ‫ح ِذفْ ُ‬
‫ُ‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ُمنَاظِرًا فاجتبيتُ الشّهد من شـفَـتِـهْ‬ ‫ا ْفدِي الغزالَ الذي في النّحْ ِو كلّمـنـي‬
‫محققاً ليريني فَضْـلَ مـعـرفَـتِـهْ‬ ‫فأ ْو َردَ الحججَ المقبـولَ شـاهِـدُهـا‬
‫ب من صفتِهْ‬ ‫والرفع من صِفتي والنص ُ‬ ‫ت بـهِ‬ ‫ثم اتفقْتُ عـلـى رَ ْأيٍ رضـي ُ‬

‫‪215‬‬
‫الحسن اللحام‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ت إذا ُتعَ ّد المهمَلُ‬
‫ومن اللغا ِ‬ ‫أنا من وجوه النحوِ فيكم أ ْفعَلُ‬
‫التعلّق بالغلم‬
‫وقال أحمد بن يوسف‪:‬‬

‫كتب غل ٌم من ولد أنوشروان ممن كان أحد غلمان الديوان‪ ،‬إلى آخر منهم وكان قد علق به‪ ،‬وكان شديدَ ا ْلكَلَف به والمحبّة له‪ :‬ليس من قَدرِي ‪-‬‬
‫ل قيمة خطيرة وثمن ُمعْجِز‪ ،‬ولنّ نفسي ل تُسَاوِي نفسك‪ ،‬فتُ ْقبَل في ِفدْيتك‪،‬‬ ‫ت فِدَاك؛ لني أراك فوقَ ك ّ‬ ‫جعِ ْل ُ‬
‫أدام ال سعادَتك ‪ -‬أن أقولَ مثلك ُ‬
‫لً ِفدَاءَ ساعة من أيامك‪ ،‬اِعَْلمْ أيها السيد العليّ المنزلة‪ ،‬أنه لو كان ل َعبْدِك من شدّة الخطب أمرٌ يقفُ على حدّه النعت‪،‬‬ ‫وعلى كل حال؛ فجعلني ا ُ‬
‫ف من ذلك ما عسى أن يعطف به زمام قَ ْلبِك‪ ،‬وتحنو له على الرقة به والتحفي أثناء جوانحك‪ ،‬ولكن الذي أمسيت وأصبحت‬ ‫ضعِ َ‬ ‫لجتهدنا أن يُ ْ‬
‫شبْ ُه َقذَى ريبة‪ ،‬ولم يختلط به قلب َمعَاب‪ ،‬فل ينبغي لمن كرمت‬ ‫ممتحَنَا به فيه شَسَعَ على كل بيان‪ ،‬ونزح عَنْ كل لسان؛ والحب أيها المالك لم يَ ُ‬
‫أخلقُه أن يعاف مقارَبة صاحبه المدل بحرمة نيته‪ ،‬والذي أتمناه‪ ،‬أيها المولى اللطيف‪ ،‬مجلس أقف فيه أمامك‪ ،‬ثم أبوح بما أضنى جسدي‪ ،‬وفتّ‬
‫ت كمن فك أسيراً وأبرََأ عليلً‪ ،‬ومن الخير سلك سبيلً‪ ،‬يتوعّرُ سلوكُها على منْ كان‬ ‫ف ذلك عليك ورأيت نشاطاً من نفسك إليه كن َ‬ ‫كبدي‪ ،‬فإن خ ّ‬
‫جبَلّ رَاس‪ ،‬ول فلك دائر‪ ،‬فرأيك أيها السيد المعتمد في السعاف‪ ،‬قبل أن َيبْدرَني‬ ‫ن يكون بعده؛ ثم أضاف إلى ذلك منّ ًة ل يُطيقها َ‬ ‫قبله‪ ،‬ومَ ْ‬
‫الموتُ؛ فيحول بيني وبين ما نزعت إليه النفس مواصلً براً إن‪ ،‬شاء ال تعالى‪.‬‬
‫فأجابه‪ :‬تولى ال تعالى ما جرئ به لسانك بالمزيد‪ ،‬ول أَوحش ما بيننا بِطائر ُف ْرقَة‪ ،‬ل صافر تشتّت‪ ،‬وض ّمنَا وإياك في أوثَق حبال النس‪،‬‬
‫وأوكد أَسبابِ اللفَةِ؛ وقفت على ما لخصته من العجز عن بلوغ ما خام َر قلبك‪ ،‬وانطوى في ضميرك‪ ،‬من الشغَف المقلق‪ ،‬والهوى المضرع‪،‬‬
‫ستَه إلى ما عندي كالمتلشي البائد‪ ،‬ولكنك بفَضل‬ ‫شتُمل عليه مضمر صدري ليقنت أن الذي عندك إذا ق ْ‬ ‫ولعمري لو كشَفْت لك عن ِمعْشَار ما ا ْ‬
‫سبَ ْقتَنا إلى كَشْف ما في الضمير‪ .‬وأما طاعتي لك‪ ،‬وذمامي إليك؟ فطَاعةُ العبد الم ْق َتنَى‪ ،‬الطائع لما يَحكُم له وعليه موله وماِلكُه‪ ،‬وأنا‬ ‫النعام َ‬
‫سعَد نجم جرى باللفة‪ ،‬إن شاء ال تعالى‪.‬‬ ‫ع ْقدَة‪ ،‬وَأ ْ‬
‫ت كذا؛ فتأهب‪ .‬لذلك بأحمد عافية‪ ،‬وأتم ُ‬ ‫صائر إليك وَق َ‬
‫ن أفديك بنفسي استحيا ًء من التقصير في المعاوضة‪ ،‬ومن التخلف في الموازنة‪ ،‬وعلى الحوال كلّها‪ ،‬فقدّم ال‬ ‫وكتب بعض الكتاب‪ :‬إني لكرَهُ أ ْ‬
‫رُوحِي عنك‪ ،‬وصانني عن رُؤْية المكروه فيك‪.‬‬
‫وقال المتنبي‪:‬‬
‫ك إذَنْ إلّ فِـدَاكـا‬
‫فل مَلِـ ٌ‬ ‫ك من يُقَصر عن َمدَاكا‬ ‫ِفدًى ل َ‬
‫ن قَـلَكـا‬ ‫دَعَ ْونَا بالبقاء لمَ ْ‬ ‫ن يُسَاوِي‬ ‫ولو قُلنا ِفدًى لك مَ ْ‬
‫وإن كانت لمملكةٍ مِـلَكـا‬ ‫ك كـل نَـفْـسٍ‬ ‫وآ َمنّا فِـدا َء َ‬
‫ي بعض إخواني من أهل البصرة كتابًا ملح فيه وأوجز‪ ،‬وهو‪ :‬أطال ال بقاءك‪ ،‬كما أطال حباءك‪ ،‬وجعلني‬ ‫وقال عبيد ال بن شبيب‪ :‬كتب إل ّ‬
‫فداك إن كان في فداؤك‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫إليك لكنت سطراً في كتابي‬ ‫كتبتُ ولو قدرتُ هوًى وشوقاً‬
‫ت قدريكما‪ ،‬لقلت‪ :‬جعلني ال فداكما‪،‬‬ ‫حنَة ثم أردفتها نعمة‪ :‬لو قُبلت فيكما‪ ،‬وداني ُ‬ ‫وكتب آخر إلى إبراهيم وأحمد ابني المدبّر‪ ،‬وقد أصابتهما مِ ْ‬
‫غمّا بها لكنته ثم اتصلت النعمة التي لو طار امرؤ برحابها لكنته‬ ‫ولكني ل أجزي عنكما‪ ،‬فل أُقبل بكما‪ ،‬وقد بلغتني المحنة التي لو مات إنسان َ‬
‫وكتب تحته‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ولكنَ ُه قد خالط الَلحْمَ والدّمَـا‬ ‫وليس بتزويقِ اللسانِ وصَوْغهِ‬
‫وكتب ابن ثوابة إلى عبيد ال بن سليمان يعتذِرُ في تَرْك مكاتبته بالتفدية‪ :‬ال يعلم‪ ،‬وكفى به عليماً‪ ،‬لقد وددت مكاتبتك بالتفدية فرأيت عيباً أن‬
‫ب أنه‬
‫س ل بدّ لها من َفنَاء‪ ،‬ول سبيلَ لها إلى َبقَاء‪ ،‬ومَنْ أظهر لك شيئاً وأضمر لك خِلَفه فقد غشّ؛ والمر إذا كانت الضرورَ ُة تُوج ُ‬ ‫أفديك بنف ٍ‬
‫ل من دللت الجتهاد‪،‬‬ ‫ب به ِمثْلُك‪ ،‬وإن كان عند قوم نهايةَ من نهايات التعظيم‪ ،‬ودلي ً‬ ‫مَلَقٌ ل يحقق‪ ،‬وإعطاء ل يتحصّل‪ ،‬لم يجب أن يخاط َ‬
‫وطريقاً من طرق التقرّب‪.‬‬

‫قال الزبير بن أبي بكر‪ :‬قال لي مسلمة بن عبد ال بن جندب الهذلي‪ :‬خرجت أرِيدُ العقيق ومعي َزيّان السوّاق؛ فلقيْنا نسوة فيهن امرأة لم أرَ‬
‫ل منها فأنشدت بيتين ل َزيّان‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫أجم َ‬
‫قتيلٌ‪ ،‬فهلْ فيكم لـه الـيوم ثـائرُ؟‬ ‫ألَ يا عبـادَ الـلـه هـذا أخـوكُـمُ‬
‫مريضةِ جَفْنِ العين والطّرْفُ ساحِرُ‬ ‫خذوا بدمي‪ ،‬إن متّ‪ ،‬كـلّ خـريدةٍ‬
‫ثم قال‪ :‬شأنك بها يا ابن الكرام فالطلق له لزم إن لم يكن دم أبيك في نقابها‪.‬‬
‫فأقبلت عليّ وقالت‪ :‬أنت ابن جندب؟ فقلت‪ :‬نعم‪ .‬قالت‪ :‬إن قتيلنا ل يودى‪ ،‬وأسيرنا ل يفدى‪ ،‬فاغتنم لنفسك‪ ،‬واحتسب أباك‪.‬‬
‫قال أبو عبيدة‪ :‬قال رجل من فزارة لرجل من بني عذرة‪ :‬تعدون موتكم من الحب مزية‪ ،‬وإنما ذاك من ضعف المنة‪ ،‬وعجز الروية‪ .‬فقال‬
‫العذري‪ :‬أما إنكم لو رأيتم المحاجر البلج‪ ،‬ترشق بالعين الدعج‪ ،‬فوقها الحواجب الزج‪ ،‬وتحتها المباسم الفلج‪ ،‬والشفاه السمر‪ ،‬تفتر عن الثنايا‬
‫الغر‪ ،‬كأنها برد الدّر‪ ،‬لجعلتموها اللت والعزى‪ ،‬ورفضتم السلم وراء ظهروكم‪.‬‬
‫وقال أعرابي‪ :‬دخلت بغداد فرأيت فيها عيونًا دعجاً‪ ،‬وحواجب زجاً‪ ،‬يسحبن الثياب‪ ،‬ويسلبن اللباب‪.‬‬
‫وذكر أعرابي نساءً فقال‪ :‬ظعائن في سوالفهن طول‪ ،‬غير قبيحات العطول‪ ،‬إذا مشين أسبلن الذيول‪ ،‬وإن ركبن أثقلن الحمول‪.‬‬
‫ووصف آخر نساء فقال‪ :‬يتلثمن على السبائك‪ ،‬ويتشحن على النيازك‪ ،‬ويتزرن على العواتك‪ ،‬ويرتفقن على الرائك‪ ،‬ويتهادين على الدرانك‪،‬‬
‫ابتسامهن وميض‪ ،‬عن ثغر كالغريض‪ ،‬وهن إلى الصبا صور‪ ،‬وعن الخنا خور‪.‬‬
‫الهوى‬
‫سئل بعض الحكماء عن الهوى‪ ،‬فقال‪ :‬هو جليس ممتع‪ ،‬وأليف مؤنس‪ ،‬أحكامه جائزة‪ ،‬ملك البدان وأرواحها‪ ،‬والقلوب وخواطرها‪ ،‬والعيون‬
‫ونواظرها‪ ،‬والنفوس وآراءها‪ ،‬وأعطى زمام طاعتها‪ ،‬وقياد مملكتها‪ ،‬توارى عن البصار مدخله‪ ،‬وغمض عن القلوب مسلكه‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫وسئلت أعرابيةٌ عن الهوى فقالت‪ :‬ل متع الهوى بملكه‪ ،‬ول ملّي بسلطانه‪ ،‬وقبض ال يده‪ ،‬وأوهن عضده؛ فإنه جائر ل ينصف في حكم‪ ،‬أعمى‬
‫ما ينطق بعدل‪ ،‬ول يقصر في ظلم‪ ،‬ول يرعوي للوم‪ ،‬ول ينقاد لحق‪ ،‬ول يبقى على عقل ول فهم‪ ،‬لو ملك الهوى وأطيع لرد المور على‬
‫أدبارها‪ ،‬والدنيا على أعقابها‪.‬‬
‫ووصف أعرابي الهوى فقال‪ :‬هو داءٌ تدوى به النفوس الصحاح‪ ،‬وتسيل منه الرواح‪ ،‬وهو سقم مكتتم‪ ،‬وجمر مضطرم؛ فالقلوب له منضجة‪،‬‬
‫والعيون ساكنة‪.‬‬
‫قال أبو عبيد ال بن محمد بن عمران المرزباني‪ :‬أخبرني المظفر بن يحيى‪ ،‬قال‪ :‬أحبّ رجلٌ امرأ ًة دونه في القددر‪ ،‬فعذله عمه‪ ،‬فقال‪ :‬يا عمّ‪ ،‬ل‬
‫تلم مجبراً على سقمه؛ فإن المقر على نفسه مستغنٍ عن منازعة خصمه‪ ،‬وإنما يلم من اقتراف ما يقدر على تركه‪ ،‬وليس أمر الهوى إلى الرأي‬
‫فيملكه‪ ،‬ول إلى العقل فيدبره؛ بل قدرته أغلب‪ ،‬وجانبه أعز من أن تنفذ فيه حيلة حازم‪ ،‬أو لطف محتال‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬رأيت امرأتين من أهل المدينة تعاتب إحدهما الخرى على هوىً لها‪ ،‬فقالت‪ :‬إنه يقال في الحكمة الغابرة‪ ،‬والمثال السائرة‪ :‬ل‬
‫تلومنّ من أساء بك الظن إذا جعلت نفسك هدفاً للتهمة‪ ،‬ومن لم يكن عوناً على نفسه مع خصمه لم يكن معه شيء من عقدة الرأي‪ ،‬ومن أقدم‬
‫على هوىً وهو يعلم ما فيه من سوء المغبة سلط على نفسه لسان العذل‪ ،‬وضيع الحزم‪ .‬فقالت المعذولة‪ :‬ليس أمر الهوى إلى الرأي فيملكه‪ ،‬ول‬
‫إلى العقل فيدبره‪ ،‬وهو أغلب قدرةً‪ ،‬وأمنع جانبًا من أن تنفذ فيه حيلة الحازم‪ ،‬أو ما سمعت قول الشاعر‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ل ينّبيك عنه مِـثـلُ خَـبـيرِ‬ ‫ليس خَطبُ الهوَى بخطْبٍ يسيرِ‬
‫ي ول بالقياس والتـفـكـيرِ‬ ‫ليس أمرُ الهَوى ُي َدبّرُ بـالـرّأْ‬
‫ت المو ِر َبعْدَ المـورِ؟‬ ‫محدَثا ُ‬ ‫إنما المرُ في الهوى خَطَراتٌ‬
‫قال المرزباني‪ :‬أخبرني الصولي أنّ هذه البيات لعُلية بنت المهدي‪ ،‬ولها فيها وقيل لعبد ال بن المقفع‪ :‬ما بالُ العاقل المميز الذهن‪ ،‬واللبيب‬
‫خرِفَ‬‫الفطِن‪ ،‬يتعرض للحب وقد رأى منه مواض َع الهلكة‪ ،‬ومصارعَ التّلف‪ ،‬وعلم ما يؤول إليه عُ ْقبَاه‪ ،‬وترجع به أُخْراه على أوله؟ فقال‪ :‬زُ ْ‬
‫ستِهِ‪ ،‬ومُلّي بعاجل حلوة يَطْبي النفوسَ إلى ملبَسَته‪ ،‬كظاهر زخرف الدنيا‪ ،‬وبهاء رونقها‪،‬‬ ‫ظاهرُ العشق بجمال زينة يستدعي القلوب إلى ملمَ َ‬
‫جنَى ثمرها‪ ،‬وقد سكرت أبصارُ قلوب أبنائها عن النظر إلى قبيح عيوب أفعالها‪ ،‬فهم في بلئها منغمسون‪ ،‬وفي هلكة فتنتها متورّطون‪،‬‬ ‫ولذيذ َ‬
‫حذِرَها‪،‬‬
‫مع علمهم بسوء عواقب خَطْبها‪ ،‬وتجرع مرارةِ شربها‪ ،‬وسرعة استرجاعها ما وهبت‪ ،‬وإخراجها ِممَا ملكت‪ ،‬فليس يَنجُو منها إل مَنْ َ‬
‫ول يهلك فيها إل من َأ ِمنَها‪ ،‬وكذلك صُورةُ الهوى؛ هما في الفتنة سواء‪.‬‬
‫العفة‬
‫ن ذلك يُ ْدنِيك من السعادة‪،‬‬
‫ب البر بمفاتيح العبادة فإ ّ‬ ‫وقال ابن دُرَيد‪ :‬قال بعضُ الحكماء‪ :‬أَغْلِق أبواب الشبهات بأفعال الزهادة‪ ،‬وافتح أبوا َ‬
‫وتستوجب من ال الزيادة‪.‬‬
‫وقال غيرُه‪ :‬إنّ اللذ َة مشوبةٌ بالقُبح؛ ففكّروا في انقطاع اللذَ ِة وبقاء ِذكْرِ القُبحِ‪.‬‬
‫قال أبو عبد ال بن إبراهيم بن عرفة ِنفْطَ َويْه‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حتى يكونَ عن الحرامِ عفيفـا‬ ‫ليس الظرِيفُ بكامل في ظَرفِه‬
‫ظرِيفا‬ ‫فهناك ُيدْعَى في النامِ َ‬ ‫فإذا تعفّفَ عن محـارم َربّـه‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫منه الحياءُ وخَوْفُ ال والْحَـذَرُ‬ ‫ت بمن أَهوَى فيم َنعُني‬ ‫كم قد ظفر ُ‬
‫منه الفكَاهةُ والتقبيلُ والنّـظَـرُ‬ ‫ت بمن أَهْوَى فيُ ْق ِنعُنـي‬ ‫خلَوْ ُ‬
‫وكم َ‬
‫وليس لي في حَرَام منهمُ وَطَـرُ‬ ‫أهْوَى الملحَ وأَهْوَى أنْ أُجالِسهم‬
‫ل خيرَ في لذّة من بعدها سَقَـر‬ ‫ب ل إتيانُ معـصِـيَةٍ‬ ‫كذلك الح ّ‬
‫وقال العباس بن الحنف‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫سمْعِ والبَصَرِ‬ ‫فعندكُمْ شهواتُ ال ّ‬ ‫ب فـي زيارتـكـمْ‬ ‫أتأذنون ِلصَ ّ‬
‫عفّ الضمير ولكن فاسق النظر‬ ‫ل يبصر السوءَ إن طالَتْ إقامتُه‬
‫وقال بعضُ الطالبين‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل ال منهمْ وعجّلَ‬ ‫َأحَقّ‪ ،‬أدَا َ‬ ‫ش ْنعَاءَ ُه ْم بها‬
‫رمَوْني وإياهمْ ب َ‬
‫جميعاً فإما عفّةً أو تجمّـل‬ ‫ب محـمـدٍ‬ ‫بأمرٍ تركناه ورَ ّ‬
‫وقال سعيد بن حميد‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫خطَف الكَشْح ُمثْقَـلُ الردَافِ‬ ‫مُ ْ‬ ‫زائر زارَنا علـى غَـيْ ِر وعـد‬
‫قُ وأخفَى الهوى وليس بخافِي‬ ‫غالبَ الخوفَ حين غالبه الشـو‬
‫تُ على بَذلِه بقاءَ التصـافـي‬ ‫غضّ طرفِي عنه تُقى ال فاختر‬
‫ل من لِباس العَـفَـافِ‬ ‫ه ولم يخ ُ‬ ‫ف قد َهزّ عِطْفي‬ ‫ثم ولى والخو ُ‬
‫ف فمات فهو شهيدٌ"‪.‬‬ ‫وفي الحديث الشريف‪" :‬مَنْ أحب فع ّ‬
‫ف مع البَذْل‪ ،‬كالستطاعة مع الفعل‪ ،‬كما قال صريع الغواني‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫والعغا ُ‬
‫ل َع ْهدِ لياليها التي سلَ َفتْ قبـلُ‬ ‫وما ذميَ اليام أنْ لَسْتُ مادحاً‬
‫بها ونَدامَاي العفافةُ والبَـذْلُ‬ ‫ألَ رُب يوم صادقِ ال َعيْشِ نِلْتهُ‬
‫وأنشد الصولي لبي حاتم السجستاني في المبرد‪ ،‬وكان يلزم حَلْقَته‪ ،‬وكان من المِلَح وهو غلم‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫خنِـثِ الـكـلمْ‬ ‫ُمتَمجّنٍ َ‬ ‫ماذا لـقـيتُ الـيو َم مـن‬
‫ق النَـامْ‬‫فس َمتْ له حـدَ ُ‬ ‫وقفَ الجمالُ بـ َوجْـهِـه‬
‫جنَى بها ثَـمـ ُر الثـامْ‬ ‫يُ ْ‬ ‫حَركَـاتـهُ وسُـكُـونـهُ‬

‫‪217‬‬
‫ت فيه على اعترامْ‬ ‫ع َزمْ ُ‬
‫وَ‬ ‫ت بـمـثـلـ ِه‬
‫فإذا خَلَـوْ ُ‬
‫ف وذاك َأوْكدُ للـغَـرَامْ‬ ‫ِ‬ ‫لم أَغدُ أخـلقَ الـعَـفَـا‬
‫ل بك اعتصـامْ‬ ‫عباس جَ ّ‬ ‫نَفْسِي فِـدَاؤكَ يا أبـا ال‬
‫نَ ْزرُ الكَرَى بادِي السقـام‬ ‫فا ْرحَـمْ أخـاكَ فـإنــهُ‬
‫مِ فليس يَرْغَبُ في الحرام‬ ‫وأنِلْ ُه مـا دُونَ الـحـرا‬
‫وكان أبو حاتم يتصدق كلّ يوم بدرهم‪ ،‬ويختم القرآن في كل أسبوع‪.‬‬

‫وذكر أنه اجتمع أبو العباس بن سُرَيج الشافعي‪ ،‬وأبو بكر بن داود العباسي‪ ،‬في مجلس علي بن عيسى بن الجراح الوزير‪ ،‬فتناظَرَا في اليلءِ‪،‬‬
‫فقال ابن سريج‪ :‬أنت بقولك‪ :‬من كثرت لَحَظاته دامَتْ حَسَراته أ ْبصَ ُر منك بالكلم في اليلء‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬لئن قلت ذلك فإني أقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل مُـحَـ ّرمَـا‬ ‫وَأمْنَعُ نفسي أن تنا َ‬ ‫أُنزّه في رَوْضِ المحاسن ُمقْلَتـي‬
‫صبّ على الصّخْر الص ّم ته ّدمَا‬ ‫يُ َ‬ ‫ل من ثِقل الهوَى ما لَوَ أنـه‬ ‫وأحمِ ُ‬
‫فلول اختلسِي َردّهُ لتـكـلّـمـا‬ ‫وينطق طَ ْرفِي عن مترجم خَاطِري‬
‫فلستُ أرى حبّا صحيحاً مسلّـمـا‬ ‫س كلّهم‬ ‫رأيتُ الهوَى دَعْوَى من النا ِ‬
‫فقال أبو العباس‪ :‬بم تفتخرُ عليّ‪ .‬وأنا لو شئت لقلت‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫قد بِثُ َأمْنعهُ لذيذَ سِـنَـاتِـه‬ ‫ش ْه ِد مِنْ َنغَمـاتِـه‬
‫ومُطَاعِم لل ّ‬
‫وأكُرّر اللحظاتِ في وجناتِه‬ ‫حسْنِ حديثه وكـلمِـه‬ ‫صبّاً ب ُ‬
‫ولّى بخاتم َربّـه وبَـرَاتِـه‬ ‫ح لح عمودُهُ‬ ‫حتى إذا ما الصب ُ‬
‫عدْلين أنه ولي بخاتم ربه فقال أبو العباس‪ :‬يلزمني في هذا ما يلزمك في‬ ‫فقال أبو بكر‪ :‬أصلح ال الوزير‪ ،‬تحفظ عليه ما قال حتى يقيمَ شاهدَين َ‬
‫ج َمعْتما ظرفاً ولُطفاً و َفهْماً وعلماً‪.‬‬ ‫قولك‪ :‬أنزه في َروْض المحاسن مُ ْقلَتي‪ ...‬البيت‪ .‬فضحك الوزيرُ‪ ،‬وقال‪ :‬لقد َ‬
‫ألفاظ لهل العصر‬
‫في محاسن النساء‬
‫شعْرِها في ليل دَامس‪ ،‬كأنها فلقة َقمَر على بُرْج‬ ‫هي روضةُ الحسْنِ‪ ،‬وضرّةُ الشمْسِ‪ ،‬و َبدْرُ الرض‪ .‬هي من وجهها في صباحٍ شَامِس‪ ،‬ومن َ‬
‫ن يهتزّ تحت ثيابها‪ ،‬ثَغْرُها يجمعُ الضريب والضّرَب‪ ،‬كأنهُ نثر الدرّ‪ ،‬كَما قال البحتري‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫غصْن البا ِ‬ ‫فضة‪َ .‬بدْر التم يضي تحت نِقابها‪ ،‬و ُ‬
‫صدَافا‬
‫شرْنَ عَن لؤلؤِ البَحْرَين أ ْ‬ ‫قَ َ‬ ‫شفُسوفَ الـ ّريْطِ آوِنةً‬ ‫إذا نَضَوْنَ ُ‬
‫ط بها عِ ْقدٌ من الجوزاء‪ ،‬أعلها كالغُصْن‬ ‫ح ّقيْنِ من عاج‪ ،‬كأنها البد ُر قُرّط بالثريّا‪ ،‬ونِي َ‬ ‫ت لها يدُ الشبابِ ُ‬ ‫قد أ ْنبَتَ صدرُها ثمرَ الشباب‪ ،‬خرطَ ْ‬
‫جهِها‪،‬‬ ‫جدِب‪ ،‬وإزَارُها ُمخْصِب‪ ،‬مَطلَع الشمس من وَ ْ‬ ‫جيْنِ‪ ،‬وسُرّة كمدْهُن العاج‪ ،‬نِطَاقُها مُ ْ‬ ‫ميّال‪ ،‬وأسفلها كالدّعص ِمنْهال‪ ،‬لها عنُق كإبريق اللُ َ‬
‫ل من‬ ‫شعْرِها‪ ،‬ومغرس الغصن من قدّهَا‪ ،‬ومهيل ال ّرمْ ِ‬ ‫ح ِر من طَ ْرفِها‪ ،‬ومبادئ الليل من َ‬ ‫و َنبْت الدّ ّر من فيها‪ ،‬وملقط ال َورْد من خدّها‪ ،‬ومنبع السّ ْ‬
‫ِر ْدفِها‪.‬‬
‫ولهم في محاسن الغلمان والمعذرين‪ :‬زاد جمالُه‪ ،‬وأقمر هِلله‪ .‬ترقرقَ في وجهِه ماءُ الحسْنِ‪ ،‬شادِنٌ فاتِرٌ طَرْفه‪ ،‬ساحر َلفْظه‪ .‬غل ٌم تأخذُه ال َعيْن‪،‬‬
‫ش َربُه‪ ،‬جرى ماءُ الشباب في عُوده فتمايلَ كال ُغصْنِ‪ ،‬واستوفى‬ ‫ويَ ْقبَله القَلْبُ‪ ،‬ويأخذه الطَ ْرفُ‪ ،‬وترتاح إليه الرّوح‪ .‬تكادُ القلوبُ تأكله‪ ،‬والعيون تَ ْ‬
‫أقسامَ الحُسْنِ‪ ،‬ولبس ديباجةَ المَلَحة‪ ،‬كأنّ البدْر قد ركب أزراره‪ ،‬ل يشبَع منه الناظرُ‪ ،‬ول يروَى منه الخاطِر‪ ،‬كاد البد ُر يَحكِيه‪ ،‬والشمسُ‬
‫ل بالسحر‪ .‬ما هو إل نُزْهة البصار‪ ،‬ومخْجل القمار‪،‬‬ ‫ب بالبدْر‪ ،‬ومكتَحِ ٌ‬ ‫تشبِهه وتُضَاهِيه‪ ،‬صورة تَجْلو البصار‪ ،‬و ُتخْجِل القمار‪ ،‬شادن مُنتق ٌ‬
‫خبِر عن ظَرْفه‪ ،‬ومنطِقُه ينطقُ عن وَصفه‪ .‬تخالُ الشمسَ تبرقعَتْ غ ّرتَه‪ ،‬والليل ناسب أصداغَه وطُ ّرتَه‪.‬‬ ‫طرْفه تُ ْ‬
‫و ِبدْعة المصار‪ ،‬غمزات َ‬
‫خمْر طرفه‪ ،‬وبغداد‬ ‫حكُ عن القحوان‪ ،‬ويتنفّسُ عن الريحان‪ ،‬كأنّ خدّه سكران من َ‬ ‫ضَ‬ ‫الحُسنُ ما فوق أزراره‪ ،‬والطّيب ما تحت إزاره‪ ،‬شادن يَ ْ‬
‫صدْغِه بخَال‪ ،‬هذا محلول من قول ابن المعتز‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫ل نونَ ُ‬ ‫سنِه وظَرْفه‪ ،‬أعجمت يد الجما ِ‬ ‫حْ‬‫مسروقةٌ من ُ‬
‫جمَة بخَالِ‬ ‫صدْغ ُمعْ َ‬ ‫ونونُ ال ّ‬ ‫خدّه صبغت بـوَ ْردٍ‬ ‫غِللة َ‬
‫ن بعض‬ ‫ن قدّه‪ ،‬والراح رِيحَه‪ ،‬وال َو ْردَ خدّه‪ ،‬الشّكل من حَرَكاته‪ ،‬وجميعُ الحسْ ِ‬ ‫ظبْيَ جِيدَه‪ ،‬والغصْ َ‬ ‫عينان حَشْوُ أجفانهما السّحْرُ‪ ،‬كأنه قد أعار ال ّ‬
‫ك بعنايته‪ ،‬فصاغَه من َليْلِه ونهاره‪ ،‬وحَله بنجومة‬ ‫سمَه الجمالُ بنهايته‪ ،‬ولحظَه الفل ُ‬ ‫صفاته‪ .‬قد ملكَ أ ِزمّةَ القلوب‪ ،‬وأظهر حجّةَ الذنوب‪ ،‬كأنما َو َ‬
‫جهِه‪ ،‬ونُشِر لؤلؤُ العرق عن وَ ْردِ‬ ‫صبَغ الحياءُ غِلَلَة َو ْ‬ ‫وأقماره‪ ،‬و َنقّبه ببدائع آثاره‪ ،‬و َرمَقَه بنواظر سُعودِه‪ ،‬وجعله بالجمال أحدَ حدوده‪ .‬وقد َ‬
‫سقِ‪ ،‬على غُرّ ِة كالفَلَق‪ .‬جاءنا في غِللة تنمّ على ما يستره‪ ،‬وتجفو مع ِرقّتها عما‬ ‫خدّه دمَ الخجَلِ‪ .‬له طرّة كالغَ َ‬ ‫ظ تسفك من َ‬ ‫خدّه‪ .‬تكاد اللحا ُ‬
‫جعِل ضرة لقلئد النحور‪ .‬السحْرُ في ألحاظه‪،‬‬ ‫حمِيَ حمايةَ الثغور‪ ،‬و ُ‬ ‫حرِ مكحول‪ .‬ثغر ُ‬ ‫طرْف بِمرْود السّ ْ‬ ‫يظهره‪ .‬وج ٌه بماءِ الحُسْنِ مغسول‪ ،‬و َ‬
‫والشهدُ في ألفاظه‪ .‬اختلس قامةَ الغُصْنِ‪ ،‬وتوشّح بمطارف الحسن‪ ،‬وحكى الروض غبّ المُزْن‪ .‬الرضُ مشرقة بنورِ وجهِه‪ ،‬وليل السرَارِ في‬
‫سنِه‪ .‬ما هو إل خال‬ ‫حرِه‪ ،‬والقم ُر فَضْلَةٌ من حُ ْ‬ ‫حرِه ونَ ْ‬ ‫شعْره‪ .‬الجنةُ مجتنا ٌة من قُ ْربِه‪ ،‬وماءُ الجمالِ يترقرقُ في خدّه‪ ،‬ومحاسنُ الربيع بين سَ ْ‬ ‫مثل َ‬
‫طرَازٌ على علم الحُسْنِ‪ ،‬و َو ْردَةٌ في غُصْنِ الدهر‪ ،‬ونَ ْقشٌ على خاتم الملك‪ ،‬وشمسٌ في فَلَك اللطف‪ .‬هو َقمَرٌ في التصوير‪،‬‬ ‫في خدّ الظّرف‪ ،‬و ِ‬
‫صدْغه قرط من المسك على عارِض ال َبدْر‪ .‬وجهُه‬ ‫شمسٌ في التأثير‪ .‬منظر يمل العيونَ‪ ،‬ويملكُ النفوس‪ ،‬زَرافينُ أصداغه معاليق القلوب‪ ،‬كأنّ ُ‬
‫صدْغه تلسع‪،‬‬ ‫شكْلَ العقاربِ‪ ،‬وظلمت ظُ ْلمَ القارب‪ .‬إن كان عقرب ُ‬ ‫عرس‪ ،‬وصدغه مَأْتم‪ ،‬ووصله جنة‪ ،‬وهجره جهنم‪ .‬أصداغُه قد اتخذت َ‬
‫عذَارُه طراز المِسْك والعَنبر الذفر‪ ،‬على ال َو ْردِ الحمر‪ .‬إذا تكلم تكشّفَ حِجَابُ الزمزد‬ ‫فترياق رِيقه يَنْفَع‪ .‬كأن شاربَه ِز ْئبَرُ الخزّ الخضرِ‪ ،‬و ِ‬
‫جهِه‪ ،‬ويحرق فِضة خدّه‪ .‬طرّزَ‬ ‫حسْن يقبّله‪ .‬كأنّ ال ِعذَار ينقش فمنَ وَ ْ‬ ‫سمْط الدرّ النيق‪ .‬قد همّ أرقمُ الشعْر على شاربِه‪ ،‬وكاد فم ال ُ‬ ‫والعقيق‪ ،‬عن ِ‬
‫حبّه‪ .‬لعب الربي ُع بخده‪ ،‬فأنبت البنفسجَ في وَرْده‪ .‬لما احترقتْ فضةُ خده‪ ،‬احترق سواد القلب من‬ ‫عذَارُه العذرَ في ُ‬ ‫جهِه‪ ،‬وأبانَ ِ‬ ‫ل ديباج و ْ‬
‫الجما ُ‬
‫حبّه‪ :‬المديد‪:‬‬
‫ومياهُ الحسْنِ تسقيهِ؟‬ ‫كيف ل يخضرّ ُشاربهُ‬
‫ت دَوْلته وأحكامُه‪ .‬استحال‬ ‫ضتْ أيامه‪ ،‬وانقرضَ ْ‬ ‫سنِه قد أَعر َ‬ ‫ولهم في نقيض ذلك‪ ،‬في ذم خروج اللحية‪ :‬قد انتقب بالدّيجُورِ‪ ،‬بعد النور؛ فدَوْلةُ حُ ْ‬
‫حدَاد‪ .‬ذَبُل وَردُ خدّه‪ ،‬وتشوّك زعْفرانُ خطه‪ .‬فارقنا خَشْفاً‪،‬‬ ‫سنِه بعد اليقاد‪ ،‬ولَبس عارضُه ثوبَ ال ِ‬ ‫سبَجا؛ وأخمدت نارُ حُ ْ‬ ‫خدّهِ ُ‬‫خدّه دُجا‪ ،‬وزمرد َ‬ ‫َ‬

‫‪218‬‬
‫ف ُمعْشِبة‪ ،‬والعيون منورة‪ ،‬والزرار مرعى‪،‬‬ ‫ل ونكالً‪ .‬ما لي أرى الباط جائِشة؛ والنا َ‬ ‫ووافانا جِلْفاً‪ ،‬وفارَقنا هللً وغَزَالً‪ ،‬وعاد وبا ً‬
‫والظفارَ حمَى‪ ،‬واللحى لبودا‪ ،‬والسنان خُضْراً وَسُوداً؟‪.‬‬
‫من إنشاء بديع الزمان‬
‫ض من عُزل عن ولية حسنة يستم ّد وداده ويستميل فؤاده؛ فأجابه بما نسخته‪ :‬وردَتْ رق َعتُك أطالَ ال بقاءَك فَأعَ ْر ُتهَا‬ ‫وكتب إلى بديع الزمان بع ُ‬
‫طرف التعزز ومددت إليها يدَ التقزّز‪ ،‬وجمعت عليها ذريلَ التحرّز‪ ،‬فلم َت ْندَ على كَبدي‪ ،‬ولم َتحْظَ بناظرِي ويَدِي‪ ،‬ولقد خطبت من مَودّتي ما لم‬
‫ن َقدّه‪ ،‬وزهَا‬ ‫حسْ ِ‬
‫جدْك لها كَ ِفيّا‪ ،‬وطلبت من عِشرتي ما لم أرَك لها رضياً؛ وقلت‪ :‬هذا الذي رفع عنّا أجفان طَرْفه‪ ،‬وشال بشعرات أنفه‪ ،‬وتَاه ب ُ‬ ‫أِ‬
‫صنِه‪ ،‬وفََللَ غَرْب عُجبِه‪ ،‬وكفّ شأْو زهْوه‬
‫غ ْ‬ ‫سنِه‪ ،‬وأقام مائل ُ‬ ‫حْ‬‫سرْ بضوئه‪ ،‬فالنَ إذْ نسخ الده ُر آيةَ ُ‬ ‫خدّه‪ ،‬ولم يَسْقِنا من نَ ْوئِه‪ ،‬ولم نَ ِ‬
‫بوَرْد َ‬
‫وانتصر لنا منه بشعرات قد كسفت هِلله‪ ،‬وأكسفَتْ بالَه‪ ،‬ومسخَتْ جمالَه‪ ،‬وغيّرتْ حاله‪ ،‬وكدّرتْ شِرْعتَه‪ ،‬ونكّرت طَلْعته‪ ،‬جاء يستقي من‬
‫جرفنا جَرفاً‪ ،‬ويغرف من طينتنا غَرْفاً‪ ،‬فمهلً يا أبا الفضل مهلً‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫حلْ؟‬‫خدّ قَ ِ‬
‫شعْرُ في َ‬‫ك ال َ‬ ‫ت فـينـا إذْ عَـلَ‬
‫أَرِغبْ َ‬
‫لبِلْ؟‬
‫صرْتَ في حدّ ا ِ‬ ‫ءِ و ِ‬ ‫ت من حدّ الظـبـا‬ ‫وخرجْ َ‬
‫عدْ للعـداوةِ يا خـجـلْ‬ ‫ُ‬ ‫عشْـرَتـي‬ ‫أنشأت تطلبُ ِ‬

‫س مَنْ حضر‪ ،‬ونسرق إليك النظر‪ ،‬ونهتز لكلمك‪ ،‬ونهش لسلمك‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫أنسيت أيامك؛ إذ تكلّمنا نَزْراً‪ ،‬وتنظرنا شَزْراً‪ ،‬وتجال ُ‬
‫ف الدّهْرِ َأنْظُرُ؟‬
‫إليك بها في سال ِ‬ ‫ت مـرة‬ ‫ك بالعينِ التي كن ُ‬ ‫فمَن ل َ‬
‫جدُ بنا َيعْلو ويسفل‪ ،‬و ُتدْبر‬‫أيام كنت تتمايل‪ ،‬والعضاء تتزايَل‪ ،‬وتتغانج‪ ،‬والجساثُ تتفَالج‪ ،‬وتتفلّت‪ ،‬والكبادُ تتفتت‪ ،‬وتخطر وترفل‪ ،‬والوَ ْ‬
‫وتُقبل‪ ،‬فتمنّى وتخيل‪ ،‬وتصدّ‪ ،‬و ُتعْرِض‪ ،‬فتضني وتمرض‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ص له ندّ‬‫تخلّل حرّ الرمل دع ٌ‬ ‫وتبسم عن ألمي كأنَ منـوراً‬
‫ع فَسد‪ ،‬ودولة أعرضت‪ ،‬وأيام انقضت‪ :‬مجزوء المتقارب‪:‬‬ ‫ق َكسَد‪ ،‬ومتا ٌ‬ ‫فَأقْصِر النَ فإنه سو ٌ‬
‫وسوق كسادٍ نَزلْ‬ ‫وعهد نِفَاق مَضَى‬
‫وخَطّ كأن لم يَزَلْ‬ ‫وخدّ كأَنْ لم يكُـنْ‬
‫ويوم صار أمس‪ ،‬وحسرة بقيتْ في النفس‪ ،‬وثغر غاضَ ماؤُه فل يرشف‪ ،‬وريق خدع فل ينشف‪ ،‬وتمَايل ل يعجب‪ ،‬وتئنّ ل يطرب‪ ،‬ووجه زال‬
‫بهاؤه‪ ،‬ومُقْلة ل تجرح ألحاظها‪ ،‬وشفَة ل تفتن ألفاظها‪ ،‬فحتّام ُتدِلّ‪ ،‬وإلَ َم نحتملُ وعَلَم‪ .‬وآن أن تذْعِن الن‪ ،‬وقد بلغني ما أنت ُم َتعَاطيه من‬
‫حصّا‪ ،‬وإنْحَائك عليه نقصاً‬ ‫ح عند ذوي البصر والصدق؛ من إفنائك لتلك الشعرات جفّا و َ‬ ‫تمويه يجوز بعد العِشاء في الغَسَق‪ ،‬وتشبيه يفتض ُ‬
‫ف من بنات الشعر وأمهاته إليك؛ فأمأ ما استأذنت فيه رَأيي من الختلف إلى مجلسي فما‬ ‫وقصّا‪ .‬وسيكفينا الده ُر مؤونة النكار عليك‪ ،‬بما يز ّ‬
‫أقلّ إليك نشاطي؛ وأضيق عنك بساطي‪ ،‬وأشنع قلقي منك‪ ،‬وأشدّ استغنائي عن حضورك‪ ،‬فإن حضرت فأنت دا ٌء نَرُوضُ عليه الحلم‪ ،‬ونتعلّم به‬
‫جفْنَ على قَذى‪ ،‬ونَطوِي منه الصدر على أذى‪ ،‬ونجعله للقلوب تأنيباً‪ ،‬وللعيون تاْديباً‪ .‬وما لك إل‬ ‫الصبر‪ ،‬ونتكلّف فيه الحتمال‪ ،‬و ُنغْضِي منه ال َ‬
‫صاً‪ ،‬وما بال الدهر‬ ‫ل لنا‪ ،‬ومن ذلك التعالي َتبَصبصا‪ ،‬ومن ذلك التغالي ترخُ َ‬ ‫أن تعتاض من الرغبة عنّا رغب ًة فينا‪ .‬ومن ذلك التدلل علينا تذل ً‬
‫ع نُزوعاً‪ ،‬فا ْنأَ برَحْلكِ‬‫ت من الذهاب رُجوعاً‪ ،‬لقد اعتضنا من النزا ُ‬ ‫ض َ‬‫أعقبك من التزايد تنقصاً‪ ،‬ومن التسحّب على الخوان تقمّصاً‪ ،‬ولئن اعتَ ْ‬
‫سرْبك‪ ،‬والسلم‪.‬‬ ‫حبْلك على غارِبك‪ ،‬ل أُوثِر قُرْبك‪ ،‬ول َأنْدَهُ ِ‬ ‫وجانبك‪ ،‬ملقًى َ‬
‫ومن إنشاء بديع الزمان في مقامات السكندري‪ ،‬ولعلّ ما فيها من الطول غير مملول‪ .‬قال‪ :‬حدثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬كان يبلغُني من مقامات‬
‫شعْرِه ما َيمْتزج بَِأجْزاء الهواء ِرقّة‪ ،‬و َيغْمُضُ عن أوهام ال َكهَنَ ِة دِقة‪،‬‬ ‫السكندري ما يُصغِي له النَفُور‪ ،‬ويَنتفضُ له العصفور‪ ،‬و ُيرْوَى لي من ِ‬
‫ن اتفقَتْ‬ ‫حسْنِ آلتهِ‪ ،‬وقد ضربَ الدهر شؤونه أسداداً وهلم جراً‪ .‬إلى أ ِ‬ ‫وأنا أسألُ ال بقاءه‪ ،‬حتى أرْزَق لقاءَه‪ ،‬وأتعجب من قعودِ ِهمّته بحالتهِ‪ ،‬مع ُ‬
‫ب مسافتَه‪ ،‬ونستأصِلُ‬ ‫حبَة أفرادٍ كنجوم اللَيل‪ ،‬أَحْلَس لظهورِ الخيلِ‪ ،‬فأخذنا الطريق َننْته ُ‬ ‫صْ‬ ‫حمْصَ‪ ،‬فشحَذتُ إليها الحِ ْرصَ‪ ،‬في ُ‬ ‫لي حاجةٌ ب ِ‬
‫جعْن كالقسِي‪ ،‬وتَاحَ لنا وادٍ في سفْح جبل‪ ،‬ذي ألَءٍ وآثلٍ‪ ،‬كالعذَارى‬ ‫صيّ‪ ،‬ورَ َ‬ ‫جيَادِ‪ ،‬حتّى صِرْن كالعِ ِ‬ ‫س ِنمَةَ النّجَادِ بتلك ال ِ‬
‫ل نَفْرِي أ ْ‬
‫ش ْأفَته‪ ،‬ولم نز ْ‬
‫َ‬
‫لمْراس‪ ،‬ومِلْنا مع النّعاس‪ ،‬فما راعَنا إل‬ ‫يُسَرّحْن الضفائرَ‪ ،‬وينْشُرْن الغدائر‪ ،‬فقالتِ الهاجر ُة بنا إليها‪ ،‬فنزلنا نُغوّر و َنغُور‪ ،‬ورَبطْنا الفراسَ با َ‬
‫خدّ الرض بحوافره‪ ،‬ثم اضطربت‬ ‫خدّ َ‬‫ج ّذ قُوَى الْحَبل بمشافره‪ ،‬وي ُ‬ ‫صهيلُ الخيول‪ ،‬ونظرت إلى فَرَسي وقد أرْهَفَ أُذنيه‪ ،‬وطمَحَ بعينيه‪ ،‬ي ُ‬
‫طعَتِ الحبال‪ ،‬وصار كل منا إلى سلحه‪ ،‬فإذا السد في فَرْوة الموت‪ ،‬قد طلع من غابه‪ ،‬منتفخاً في إهابه‪ ،‬كاشراً‬ ‫الخيلُ‪ ،‬فأرسلت الَبوال‪ ،‬وق ّ‬
‫عن أنيابه‪ ،‬بطَرْف قد ملئ صَلَفاً‪ ،‬وأنف قد حشي أنفاً‪ ،‬وصدر ل يبرحه القلب‪ ،‬ول يسكنه الرُعب‪ ،‬فقلنا‪ :‬خطْبٌ والّ ملم‪ ،‬وحادِث مهمٌ‪ ،‬وتبادَرَنا‬
‫إليه من سَرْعان الرُفقة فتى‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫ل الدَلْوَ إلى عقد الكَـرَبْ‬ ‫يم ُ‬ ‫أخضر الجِلْدة من بيْت العَرَب‬
‫صرَعه‪ ،‬إلى مَن كان معه‪،‬‬ ‫ض قدمه‪ ،‬حتى سقط ليده وفمه‪ ،‬وتجاوز السد مَ ْ‬ ‫بقلبٍ ساقه قدر‪ ،‬وسيفٍ كله أثرٌ‪ ،‬فملكتْهُ سورة السد‪ ،‬فخانته أر ُ‬
‫ت بعمامتي فمه‪ ،‬حتى حقنتُ‬ ‫ودَعا الحينُ أخاه‪ ،‬إلى مثل‪ .‬ما دعاه‪ ،‬فسار إليه‪ ،‬وعقل الرّعب يديه‪ ،‬فأخذ أرضه وافترس الليثُ صدره‪ ،‬ولكن شغل ُ‬
‫دمه‪ ،‬وقام الفتى فوَجَأ بطنه حتى هلك من خوفه‪ ،‬والسد بالوجأة في جوفه‪ ،‬ونهضنا على أثر الخيل‪ ،‬فتألفنا منها ما ثبت‪ ،‬وتركنا ما أَفلتَ‪ ،‬وعدنا‬
‫إلى الرفيق لنجهزَه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جَزعنا ولكن أيّ ساعة مَجزع‬ ‫ب فوقَ رفيقنـا‬ ‫حثَ ْونَا التر َ‬‫فلما َ‬
‫وعدنا إلى الفلة‪ ،‬فهبطْنا أرضها‪ ،‬وسرْنا حتى إذا ضمرت المزاد‪ ،‬ونفدَ الزادُ‪ ،‬أو كاد يدركه النفاد‪ ،‬ولم نملك الذهاب ول الرجوع‪ ،‬وخفنا‬
‫ب بيديه‪،‬‬ ‫صمْده‪ ،‬وقصدنا قصده‪ ،‬ولما بلغنا نزلَ عن حاذ فرسه ينقُشُ الرضَ بشفتيه‪ ،‬ويلقي الترا َ‬ ‫صمَدْنا َ‬ ‫القاتلين الظمأ والجوعَ‪ ،‬عنّ لنا فارسٌ ف َ‬
‫وعمدني من بين الجماعة‪ ،‬فقبل ركابي‪ ،‬وتحزَم بثيابي‪ ،‬ونظرتُ فإذا وَجه يبرق برق العارض المتهلّل‪ ،‬وفرس متى ما ترقّ العينُ فيه تسهل‪،‬‬
‫ض قد اخضرَ‪ ،‬وشاربٌ قد طرّا‪ ،‬وساعدٌ ملن‪ ،‬وقضيب رَيان‪ ،‬ونجار تركيّ‪ ،‬وزي ملكي‪ ،‬فقلت‪ :‬ما جاء بك؟ ل أبالك! فقال‪ :‬أنا عبد‬ ‫وعار ٌ‬
‫بعض الملوك‪ ،‬ه ّم من قتلي بهم‪ ،‬فهمت على وجهي إلى حيث تراني‪ ،‬وشهدت شواهدُ حاله‪ ،‬على صدق مقاله‪ ،‬ثم قال‪ :‬أنا اليوم عبدُك‪ ،‬ومالي‬
‫مالك‪ ،‬فقلت‪ :‬بشرى لك وبك‪ ،‬أدّاك سيرُك إلى فناءٍ رَحْب‪ ،‬وعيش رَطْب‪ ،‬وهنأتني الجماعة‪ ،‬بحسب الستطاعة‪ ،‬وجعل ينظرُ فتقتلنا ألحاظه‪،‬‬
‫ق فتفتننا ألفاظه‪ ،‬والنفس تناجيني فيه بالمحظور‪ ،‬والشيطان من وراء الغرور‪ ،‬فقال‪ :‬يا سادة‪ ،‬إنّ في سفح هذا الْجبل عيناً‪ ،‬وقد ركبتم فلة‬ ‫وينط ُ‬

‫‪219‬‬
‫عَوْراء‪ ،‬فخذوا من هنالك الماء‪ ،‬فلوينا العنة‪ ،‬إلى حيث أشار‪ ،‬وبلغناه وقد صهرت الهاجرة البدان‪ ،‬وركبت الجنادبُ العيدان‪ ،‬فقال‪ :‬أل تقيلون‬
‫طقَته‪ ،‬فما استتر عنّا إل بغللةٍ تنمُ‪،‬‬ ‫ل قُرْ َ‬ ‫في هذا الظل الرَحب‪ ،‬على هذا الماء العذب؟ فقلنا‪ :‬أنت وذاك‪ ،‬فنزل عن َفرَسه‪ ،‬ونحى منطقته‪ ،‬وح ّ‬
‫شهَا‪ ،‬وإلى المكنة‬ ‫س فح ّ‬‫على بدنِهِ‪ ،‬فما ش َككْنا أنّه خاصم الوِلدَان‪ ،‬ففارقَ الجنَان‪ ،‬وهرَب من رضْوَان‪ ،‬وعمد إلى السروج فحطّها‪ ،‬وإلى الفرا ِ‬
‫خدْمَة! وأحسنَك‬ ‫ففرشها‪ ،‬وقد حارتِ البصائر فيه‪ ،‬ووقعت البصا ُر عليه‪ ،‬ووَتد كلّ منا شبقاً‪ ،‬وخنث اللفظ ملَقاً‪ .‬وقلت‪ :‬يا فتى‪ ،‬ما أَلطفَك في ال ِ‬
‫خدْمة‪ ،‬فكيف‬ ‫خفّتي في ال ِ‬‫شكُر ال على النعمةِ بك؟! فقال‪ :‬ما ستَرَوْنه أكْثر‪ ،‬أ ُتعْجِبكم ِ‬ ‫ل لمن فا َر ْقتَه‪ ،‬وطُوبى لمن را َف ْقتَه‪ ،‬فكيفَ ن ْ‬ ‫في الجملة! فالوي ُ‬
‫سهْماً فرماه في السماء‪،‬‬ ‫شغَفاً؟ فقلنا‪ :‬هاتِ‪ ،‬فعمد إلى قَوْس أحدِنا فأَ ْوتَرَه؛ وفوّق َ‬ ‫حذْقي طُرَفاً‪ ،‬لئزدادُوا بي َ‬ ‫لو رأيتمُوني في ال ّرفْقة؟ أُرِيكم من ِ‬
‫وأ ْتبَعه بآخر فشقه في الهواء‪ ،‬وقال‪ :‬سأريكم نوعاً آخر‪ ،‬ثم عمد إلى كنانتي فأخذها‪ ،‬وإلى فرسي فعله‪ ،‬ورمى أحدنا بسهم أثبته في صدرِه‪،‬‬
‫صنّه بريقهِ‪ ،‬فلم َندْر ما نصنعُ‪،‬‬‫ن كل منكم يَدَ رفيقه‪ ،‬أو لغ ّ‬ ‫وآخر طيّره من ظهره‪ ،‬فقلت‪ :‬ويحك! ما تصنعُ؟ قال‪ :‬اسكت يا ُلكَع‪ ،‬والّ ليشد ّ‬
‫س في يده يرشقُ بها الظهورَ‪ ،‬ويمشُق بها البطونَ‬ ‫حتُنا بعيدة‪ ،‬وهو راكبٌ ونحن َرجّالة‪ ،‬والقو ُ‬ ‫وأفراسنا مربوطة‪ ،‬وسرُوجنا محطوطة‪ ،‬وأسلِ َ‬
‫جدُ من يشدّني‪ ،‬فقال‪ :‬اخرُجْ بإهابك‪ ،‬عن ثيابك‪ ،‬ثم نزل عن‬ ‫خذْنا القدّ‪ ،‬فشدّ بعضنا بعضاً‪ ،‬وبقيت وَحْدي ل أ ِ‬ ‫جدّ‪ ،‬أ َ‬‫والصدورَ‪ ،‬وحين رأينا منه ال ِ‬
‫خفّان جديدان فقال‪ :‬اخلعهما ل‬ ‫ح َد منّا بعد الخر‪ ،‬ويقول‪ :‬أقمت قضيبك‪ ،‬فخذ نصيبك‪ ،‬ونزع ثيابه‪ ،‬وصار إليّ وعليّ ُ‬ ‫فرسه‪ ،‬وجعل يصفعُ الوا ِ‬
‫ت َيدِي إلى سكّين فيه وهو مشغول‪ ،‬فأ ْثبَتّه‬ ‫ي نزعه‪ ،‬ثم دنا لينزعَ الخُفّ‪ ،‬ومدَدْ ُ‬ ‫ستُه رَطباً‪ ،‬فليس يمكنني خلعه فقال‪ :‬عل ّ‬ ‫أُ ّم لك‪ ،‬فقلت‪ :‬هذا خفّ لب ْ‬
‫ت أيدِيَهم‪ ،‬وتوَزّعْنا سلَب المقتوليْن‪ ،‬وأدَ َر ْكنَا الرفيق‪،‬‬ ‫في بطنه‪ ،‬وأ َبنْتُه من َم ْتنِه‪ .‬فما زاد على فَم َفغَرَه‪ ،‬وأَلْ َقمَه حجَره‪ ،‬و ُقمْتُ إلى أصحابي فحَل ْل ُ‬
‫حمْص بعد ليال‪ ،‬فلما انتهينا إلى فُرْضَةٍ من سُوقِها رأينا رجلً قد قام على رأس‬ ‫وقد جاد بنفسه‪ ،‬وصار إلى َرمْسِه‪ ،‬وصِ ْرنَا إلى الطريق فوردْنا ِ‬
‫صيّة‪ ،‬وهو يقول‪ :‬مجزوء الخفيف‪:‬‬ ‫ع َ‬ ‫ابن و ُب َنيّة‪ ،‬بِجِراب و ُ‬
‫في جِرَابِي مَكا ِرمَهْ‬ ‫حشَـا‬ ‫ح َم ال مَنْ َ‬ ‫رَ ِ‬
‫لسعيد وفَاطِـمَـهْ‬ ‫حمَ ال من َرثَـى‬ ‫رَ ِ‬
‫و ْهيَ ل شكّ خَادِمَهْ‬ ‫إنّـه خـادِمٌ لَـكُـمْ‬
‫ت عنه فإذا هو هو‪ ،‬فدًَلفْتُ إليه‪ ،‬فقلت له‪ :‬أحكمك حكمك‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ت به وسأَ ْل ُ‬
‫س ِمعْ ُ‬‫قال عيسَى بن هشام‪ :‬فقلت‪ :‬إنَ هذا الرجل هو السكَندري الذي َ‬
‫درهم‪ ،‬فقلت‪:‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫سعِدُني النفَـسْ‬ ‫مَادا َم يُ ْ‬ ‫ك دِرهمٌ في ِمثْـلِـه‬ ‫َل َ‬
‫ل الملتـمَـسْ‬ ‫كيما تنا َ‬ ‫فاحْسِبْ حِسابكَ والتمسْ‬
‫خمْسة حتى بلغث العشرين‪ ،‬ثم قلت‪ :‬كم معك؟ قال‪ :‬عشرون رغيفاً‪ ،‬فأم ْرتُ له بها‪ ،‬وقلت‪ :‬ل‬ ‫لك دِرهم في اثنين‪ ،‬وفي ثلثة‪ ،‬وفي أَربعة‪ ،‬في َ‬
‫ح ْرمَانِ‪.‬‬ ‫خذْلن‪ ،‬ول حِيلَة مع ال ِ‬ ‫نصرة مع ال ِ‬
‫وقال أبو فراس الحمداني‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ومالَ بالنوم عن عيني َتمَايُلُـهُ‬ ‫ت منْ َلحْظِه ل مِنْ ُمدَامتِه‬ ‫سكر ُ‬
‫ل دَ َهتْنِي بل شَمائِلُهُ‬ ‫ول الشّمو ُ‬ ‫ف دَ َهتْني بل سَوالِفهُ‬ ‫وما السّل ُ‬
‫لئِلُه‬ ‫وغَالَ عَ ْقلِي بما تَحْوِي غَ َ‬ ‫صدَاغٌ لُوِينَ لـهُ‬ ‫ألوَى بصبْرِيَ َأ ْ‬
‫وقال ابنُ المعتزّ‪ ،‬وقد تقدَم عنه في هذه اللفاظ‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫عَزَاِليَهُ بهَطْل وانـهـمـال‬ ‫ن مُـرْخٍ‬ ‫ي الدّجـ ِ‬ ‫ويوم فاخِت ّ‬
‫ي بَـالِ‬
‫غمِ العاذلت َرخِ ّ‬ ‫برَ ْ‬ ‫أبحْتُ سرورَه وظللت فـيهِ‬
‫مكان حمائلِ السيفِ الطوالِ‬ ‫ل المنديل مـنـهُ‬ ‫وساقِ يجع ُ‬
‫صدْغ ُمعْجَمة بخَالِ‬ ‫ونون ال ّ‬ ‫خدّه صبغَـتْ بـ َو ْردٍ‬ ‫غللة َ‬
‫ق مرخي الجِلل‬ ‫طرْفٍ أبل ٍ‬ ‫كِ‬ ‫بَدَا والصبحُ تحت الليل بـادٍ‬
‫فرائسهنّ ألبابُ الـرجـالِ‬ ‫بكأس من زجاج فـيه أسْـدٌ‬
‫َو َق ْتكَ السوءَ ربّاتُ الحجـالِ‬ ‫أقولُ وقد أخذت الكاس منـهُ‬
‫وقد أَحسنَ ما شاء في قوله‪:‬‬
‫فرائسهن ألْبابُ الرجالِ‬
‫وإن كان أصل المعنى لبي نواس في ذكر تصاوير الكاس‪.‬‬
‫حسَنٍ تدلّ على اجتماع‬ ‫قال الصولي‪ :‬مَرّ أبو نواس بالمدائن فعدل إلى سَاباط‪ ،‬فقال بعضُ أصحابه‪ :‬ندخل إيوان كسرى‪ ،‬فرأينا آثاراً في مكانٍ َ‬
‫صفَةَ الحالِ‪ ،‬فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫كان لقومٍ قبلنا‪ ،‬فأقمنا خمسةَ أيام نشربُ هناك‪ ،‬وسألنا أبا نواس ِ‬
‫بها أثرٌ مـنـهـمْ جَـدِيدٌ ودارِسُ‬ ‫عطّلُوهـا وَأدْلـجُـوا‬ ‫ودا ِر نَدامَى َ‬
‫ي ويَابِـسُ‬ ‫وأَضْغاثُ َريْحانٍ جَـنِـ ّ‬ ‫جرّ الرقاق على الثرَى‬ ‫مَساحِبُ من َ‬
‫بشرقيّ سَابَاطَ الديارُ البَـسَـابـس‬ ‫ت بـهِ‬ ‫ولم أ َر منهم غيرَ ما شهِـدَ ْ‬
‫وإني على‪ ،‬أمثال تلك لـحـابـسُ‬ ‫شمْلَهـم‬ ‫ستُ بها صَحْبي فج ّمعْتُ َ‬ ‫حبَ ْ‬
‫ويومٌ له يوم التـرحّـل خَـامِـسُ‬ ‫أ َق ْمنَا بهـا يومـاً ويومـًا ثـالـثـاً‬
‫حبَتْها بأنواع التـصـاويرِ فـارسُ‬ ‫َ‬ ‫تُدَارُ علينا الراحُ في عَـسـجـديّة‬
‫َمهًى تدّريها بال ِقسِيّ الـفـوارسُ‬ ‫جنَبـاتـهـا‬ ‫سرَى وفي َ‬ ‫قرا َرتُها كِ ْ‬
‫وللماءِ ما دارت عليه القَـلنِـسُ‬ ‫فللرّاحِ ما ُزرّتْ عليه جـيوبُـهـا‬
‫وقال علي بن العباس النوبختي‪ :‬قال لي البحتري‪ :‬أتدري من أين أخذ الحسن قوله‪:‬‬
‫ش ِهدَتْ به؟‬ ‫ولم أ َر منهم غير ما َ‬
‫‪ ...‬البيتَ‪ .‬فقلت‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬من قول أبي خراش‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫‪220‬‬
‫ج ٍد مَحْ ِ‬
‫ض‬ ‫ل عن مَا ِ‬‫سوى أنه قد سُ ّ‬ ‫ولم َأدْرِ مَنْ ألقَـى عـلـيه رِداءهُ‬
‫ج ْدنَا المعاني‬
‫حدَث فو َ‬
‫حذْوَ الكلمِ واحداً‪ ،‬وإن اختلف المعنى؟! قال الجاحظ‪ :‬نظَ ْرنَا في الشعر القديم والم ْ‬ ‫فقلت‪ :‬المعنى مختلف‪ ،‬فقال‪ :‬أما ترى َ‬
‫تُقْلَب ويؤخذ بعضُها من بعض‪ ،‬غير قول عَنترة في الوائل‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫غَرداً كفعْلِ الشارب المترنّـمِ‬ ‫ب بها يُ َغنّي وحْـدَه‬
‫وخل الذبا ُ‬
‫جذَمِ‬ ‫َقدْحَ ال ُمكِبّ على الزنادِ الَ ْ‬ ‫حكّ ذرَاعَه بـذراعـهِ‬ ‫هَزِجاً ي ُ‬
‫وقول أبي نواس في المحدثين‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫َمهًى َتدّريها بالقِسيّ الفوارسُ‬ ‫قرارتُها كِسرى وفي جنَباتهـا‬

‫وللماء ما دارَتْ عليه القلنسُ‬ ‫فللِزَاح ما ُزرّتْ عليه جيوبُها‬


‫أخذه أبو العباس الناشئ فقال وولَد معنًى زائداً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫أَحدٌ حَباه بها لَـدَيهِ مـزِيدا‬ ‫و ُمدَامَةٍ ل يبتغي مِـنْ َربّـهِ‬
‫عُرُبًا بَرَزنَ من الخيام وغِيدَا‬ ‫حسْنها‬ ‫في كأسها صوَر تُظنّ ل ُ‬
‫ذهبًا ودُرّا تَوْأَمـاً وفـريدا‬ ‫وإذا المزاج أَثارها فتقسّمت‬
‫ن ذا ِلُنحُورِهنّ عقُـودا‬ ‫جعَلْ َ‬
‫وَ‬ ‫ن ذاك مَجَـاسِـدا‬ ‫فكأنهن لبسْ َ‬
‫وأبياتُ أبي خراش‪ ،‬وكان خراش وعروة غَزَوا ثمالة فأسَرو ُهمَا‪ ،‬وأخذوهما وهمّوا بقتلهما‪ ،‬فنهاهم بنو رزام‪ ،‬وأَبى بنو هلل إل َقتْلَهما‪ ،‬وأقبل‬
‫شغِل القومُ ب َقتْل عُرْوة‪ ،‬وقال الرجل لخراش‪ :‬انْجُهْ‪ ،‬فنجا إلى أبيه‪ ،‬فأَخبره الخبر‪ ،‬ول تعرفُ‬ ‫رجل من بني رزام فألْقَى على حراش رداءَه‪ ،‬و ُ‬
‫ن ل يعرفه غيرُهُ‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ل مدح مَ ْ‬ ‫العرب رج ً‬
‫ن من بعضِ‬ ‫ش وبعض الشَرّ أهو ُ‬ ‫خِرَا ٌ‬ ‫ح ِمدْتُ إلهي بعـد عُـرْو َة إذ نَـجـا‬ ‫َ‬
‫بجانب قَوْسَى ما مشيتُ على الرض‬ ‫فواللـهِ ل َأنْـسَـى قـتـيلً رُ ِز ْئتُـهُ‬
‫نُوكّلُ بالدنى وإنْ جَلّ ما يَمـضِـي‬ ‫بلى إنها َتعْفُـو الـكُـلـومُ‪ ،‬وإنـمـا‬
‫ج ٍد مَـحْـضِ‬ ‫سوى أنّه قد سُلّ عن ما ِ‬ ‫ولم َأدْرِ مَـنْ ألْـقَـى عـلـيه ِردَاءهُ‬
‫أضاع الشبابَ في الرّبيلةِ والخَفْـضِ‬ ‫ولم يك مثلوجَ الـفـؤاد مـهـبّـجـا‬
‫على أنه ذو مِرّة صادِقُ الـنـهـضِ‬ ‫ولكنه قـد لـوّحَـتْـه مَـخَـامِـص‬
‫حضِ‬ ‫ظمُهُ غي ُر ذي نَ ْ‬ ‫ع ْ‬‫خفيفِ ال ُمشَاسِ َ‬ ‫كأنـهـمُ يشّـبّـثـون بـطـــائر‬
‫يَحُث الجناحَ بالتبسّـط والـقَـبْـضِ‬ ‫يُبادِر فَ ْوتَ اللـيلِ فـهـو مُـهَـابـدٌ‬
‫الربيلة‪ :‬الخَفض والدعة‪ ،‬والمعابد‪ :‬المجتهد في ال َعدْو والطيران‪.‬‬
‫وقال أبو خراش يرثي أخاه عروة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وذلك رُزءٌ لو عل ْمتِ جـلـيلُ‬ ‫تقولُ أراه بعـد غـزوَةَ لهـياً‬
‫صبْرِي يا أميمَ جَـمِـيلُ‬ ‫ولكنَ َ‬ ‫فل تحسَبي أني تناسيت عَـهْـدَهُ‬
‫خليلَ صفاءٍ مالـكٌ وعَـقِـيلُ‬ ‫ق قبْـلَـنـا‬ ‫ن قد تَفَرّ َ‬
‫ألم َتعْلمي أ ْ‬
‫يعا ِودُني قِطْعٌ عـلـيّ ثـقـيلُ‬ ‫وأنّي إذا ما الصبحُ أنسِيتُ ضوءَه‬
‫مبيتٌ لنا فيما مَضَى ومَـقِـيلُ‬ ‫ل يهيجني‬ ‫أبى الصبرَ أني ل أزا ُ‬
‫مالك وعقيل اللذان ذكرهما‪َ ،‬ندِيما جذيمة البرش‪ ،‬وكانا أتياه بابنِ أخته عمرو‪ ،‬وكان قد استه َوتْه الجِنّ‪ ،‬فمنّاهما فتمنّيا مُنادمتَه‪ ،‬وهما اللذان‬
‫عني متمّم ابن نُ َويْرَةَ في مرثية أخيه مالك‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صدّعا‬ ‫من الدهرِ حتى قيل لن َيتَ َ‬ ‫وكنا كنَ ْدمَانَيْ جَـذِيمةَ حِـقْـبَةً‬
‫لطولِ اجتماع لم َنبِتْ ليلَ ًة معا‬ ‫فلمّا تف ّرقْنا كأنـي ومـالـكـاً‬
‫وقول عنترة في َوصْفِ الذباب أَوْحَد فرد‪ ،‬ويتيم َفذّ‪ ،‬وقد تعلق ابن الرومي بذيله وزاد معنًى آخر في قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫على الفق الغربيّ وَرْسًا مُزعْـزَعـا‬ ‫ل ونـفَـضَـتْ‬ ‫إذا رنقتْ شمسُ الصي ِ‬
‫خدّا على الرض أضرَعـا‬ ‫قد وضعَتْ َ‬ ‫ولحظـتِ الـنُـوارَ وهـي مـريضةٌ‬
‫توجّع من أوصـابِـه مـا تـوجـعَـا‬ ‫ن مُـدْنَـفٍ‬ ‫كما لحظت عُوّادَهـا عَـيْ ُ‬
‫كأنهـمـا خِـلّ صَـفـاء تـودّعـا‬ ‫وبين إغضاء الـفِـرَاق عـلـيهـمـا‬
‫من الشمس فاخضرّ اخضِرَاراً مشَعشعا‬ ‫صفْرةٌ‬ ‫ضرَةِ الرّوضِ ُ‬ ‫وقد ضربَتْ في خُ ْ‬
‫ي ل َت ْدمَـعَـا‬ ‫شجِ ّ‬‫عيْنُ ال َ‬
‫كما اغرورقَتْ َ‬ ‫ضلّ بـالـنـدى‬ ‫وظلّت عيونُ النورِ تخ َ‬
‫غنّى ُم َغنَي الطي ِر فـيه مُـرَجّـعَـا‬ ‫وَ‬ ‫وأذْكى نسيم الـرّوْضِ ريعـانُ ظـلّـه‬
‫صنْجاً مشـرّعـا‬ ‫حتَ النشْوَان َ‬ ‫حثْ َ‬
‫كما َ‬ ‫وغَـرّد ربـعـي الـذبـابِ خـللَـهُ‬
‫على شدَواتِ الطيرِ ضَرْبًا مـوقـعـا‬ ‫فكانـت أرانـين الـذبـاب هـنـاكـمُ‬
‫وذكر أبو نواس معنَى قوله في تصاوير الكؤوس في مواضع من شعره فمن ذلك‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫مكلّلة حـافـاتُـهـا بـنـجُـومِ‬ ‫سرَى سـمـا َء مُـدَامَةٍ‬ ‫َبنَ ْينَا على كِ ْ‬
‫ل نَـدِيم‬ ‫إذاً لصطَفانـي دونَ كـ ّ‬ ‫سرَى بن ساسانَ رُوحُهُ‬ ‫فَلَوْ ُردّ في كِ ْ‬
‫وأول هذا الشعر‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫‪221‬‬
‫على طولِ ما أقْوَت وحُسن رسُومِ‬ ‫ن تَـزْدادُ طِـيبَ نـسـي ِم‬ ‫ن دِمَ ٌ‬
‫ِلمَ ْ‬
‫ب نَـعـيمِ‬
‫لبِسْنَ على القْوَا ِء ثـو َ‬ ‫تجافَى البِلَى عنهنّ حتى كأنـمـا‬
‫وهذا معنًى مليح وإن أخذه من قول أعرابي‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫غادرت الشعْبَ غي َر مُ ْلتَئِمِ‬ ‫طتْ بهمْ عنك نيّةٌ قُـذُفٌ‬ ‫شّ‬
‫تزدادُ طِيباً إل على القِـدَمِ‬ ‫سرّهَا الديارَ فما‬ ‫واستودَعَت ِ‬
‫وهذا ضدّ قول محمد بن وهيب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫صدُ‬ ‫دَرَسَا فل عَلَ ٌم ول قَ َ‬ ‫ل عليهما المدُ‬ ‫طَلَلَنِ طا َ‬
‫جدُوا‬ ‫حبّة مثلَ ما َو َ‬ ‫بعد ال ِ‬ ‫َلبِسَا البِلَى فكأنمـا َوجَـدَا‬
‫وقال الخطل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ف الدّهْـرِ‬ ‫َقدِيمٌ ولمّا َيعْفُهُ سال ُ‬ ‫لسما َء مُحتَلّ بناظرةِ البِـشْـرِ‬
‫شهْرِ‬ ‫وكم من ليالٍ للديار ومن َ‬ ‫سمُهُ‬ ‫يكادُ من العِ ْرفَان يَضْحك َر ْ‬
‫هذا أيضًا كقول أبي صخر الهذلي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأخرى بذاتِ ال َبيْنِ آياتُها سَطْرُ‬ ‫جيْش دارٌ عرَفتُهـا‬ ‫لَليْلَى بذاتِ ا ْل َ‬
‫ن من َب ْعدِنا عَصْرُ‬ ‫وقد مرّ للداري ِ‬ ‫كأنهـمـا مِ النَ لـم يتـغَـيّرا‬
‫وقد قال مُزَاحم القيلي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل قـدِيمُ‬ ‫ع ْهدُ المغانِي بالحلو ِ‬ ‫وَ‬ ‫جدِيدةً‬ ‫تراها على طولِ الْ َقوَاء َ‬
‫وقرأ الزبير بن بكار أخبار أبي السائب!المخزومي‪ ،‬فلما بلغ إلى قول مالك بن أسماء الفزاري‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ضبْرَا؟‬ ‫أفعِند قلبِي َأبْ َتغِي ال َ‬ ‫َبكَتِ الديارُ لفَ ْقدِ ساكنـهـا‬
‫هذا البيت نظير قول ابن وهيب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫سفْرا‬ ‫ق فأصبحوا َ‬ ‫ذكروا الفرا َ‬ ‫بينا ُهمُ سكن بـحـي َرتِـهِـمْ‬
‫مَنْ ل يرَى َأمْرِي له َأمْـرَا‬ ‫فظللت ذا ولَه يعـاتِـبُـنـي‬
‫وإن أبا السائب قال عند سماع البيت الوسط‪ :‬ما أسرع هذا! أما اقدّموْا ركاباً؟ أما ودّعُوا صدي َقاَ؟ فقال الزبير‪ :‬رحم ال أبا السائب فكيف لو‬
‫ل العباس بن الحنف‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫سمع قو َ‬
‫َفقَـرنّـا ودَاعَـــنـــا بـــالـــســـؤَالِ‬ ‫سأَلـونـا عـن حـالِـنـا كـــيف أَنـــتُـــمْ‬
‫ن بين النزول والِرتجال؟‬ ‫ما أَنخْنا حتى ارتحلنَا فما ف ّرقْ َ‬
‫هكذا رواه الزبير بن بكار لمالك بن أسماء‪ ،‬ورواها غيره ليوب بن شبيب الباهلي‪.‬‬
‫ومن ألفاظ أهل العصر‬
‫في صفة الديار الخالية‬
‫ت بهم حَالية‪ .‬دار قد أنفَد البين سكانَها‪ ،‬وأقعد حيطانها‪ ،‬شاهد‬ ‫دا ٌر لبِسَت البِلى‪ ،‬وتعطلت من الحُلى‪ .‬دار قد صارت من أهلها خالية‪ ،‬بعد ما كانَ ْ‬
‫حبْلُ الرجا ِء فيها يقصر كأنّ غفرانها يُطوئ وخرابَها ُينْشر‪ ،‬أركانُها قيام وقعود‪ ،‬وحيطانها ركّعٌ وهُجود‪.‬‬ ‫اليأس منها ينطِقُ‪ ،‬و َ‬
‫يشبه الول من قول مالك بن أسماء قول مزاحم العقيلي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عيْنِ ألـومُ؟‬ ‫دموعي‪ ،‬فَأيّ الجازِ َ‬ ‫بكَتْ دارُهُ ْم مِن فَ ْقدِهم فتهلَلَـتْ‬
‫أمَ آخ ُر َيبْكي شَجْـوَه فـيَهِـيمُ‬ ‫أَمستعبر َيبْكي على الهون والبِلَى‬
‫أبو الطيب المتنبي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن منكِ أَوَاهِلُ‬ ‫َأ ْقفَ ْرتِ أنتِ وهُ ّ‬ ‫ب منازِلُ‬ ‫َلكِ يا منازِلُ في القلو ِ‬
‫أَولَ كُما يبكي عليه العاقِـلُ‬ ‫ن ذاك‪ ،‬وما علمْتِ‪ ،‬وإنما‬ ‫َيعَْلمْ َ‬
‫جبَلة‪ ،‬في معنى قول العباس بن الحنف‪ :‬الرمل‪:‬‬ ‫وقال علي بن َ‬
‫ل َبدْراً طلَعا‬ ‫خفِي اللي ُ‬ ‫كيف يُ ْ‬ ‫زائ ٌر نَمّ علـيه حـسـنُـهُ‬
‫خائفًا مِنْ كل أَمرٍ جَزِعـا‬ ‫بأبي مَنْ زَارَني مكتتـمـاً‬
‫ورَعى الحارِسَ حتى هَجَعا‬ ‫رَصَد ال َغفْلَة حتى َأمْكنَـتْ‬
‫ثمّ ما سلم حـتـى ودّعَـا‬ ‫َركِبَ الهوال في َزوْرَتـه‬
‫وقال الحسين بن الضحاك‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫صعَـدا‬
‫فتنفّست عليه ال ّ‬ ‫بأَبي زَو ٌر تَلَـفّـتّ لـه‬
‫ت عليه كمـدَا‬ ‫إذا تقطع ُ‬ ‫بينما أضحكُ مسرورًا به‬
‫أبو الطيب المتنبي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫وقضَى ال بعد ذاك اجتماعا‬ ‫بأبي مَنْ َودِ ْدتُه فافتـ َرقْـنـا‬
‫كان تسليمُه عليّ الوداعـا‬ ‫فافت َر ْقنَا حَ ْولً‪ ،‬فلما اجت َمعْنـا‬
‫ت عليه‪ ،‬فردّ عليّ‪،‬‬
‫ب موثَق في صِفَاد حسن الوجه؛ فسلم ُ‬ ‫وقال أبو الحسن جحظة‪ :‬قال لي خالد الكاتب‪ :‬دخلتُ يومًا بعض الدّيارات فإذا أنا بشا ّ‬
‫ج عني ببعض ما تنشدني من شعرك‬ ‫وقال‪ :‬مَنْ أنت؟ قلت‪ :‬خالد بن يزيد‪ ،‬فقال‪ :‬صاحب المقطعات الرقيقة‪ .‬قلت‪ :‬نعم! فقال‪ :‬إن رأيت أن تفرّ َ‬
‫فا ْفعَل‪ ،‬فأنشدته‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫خدّها جُـلـنـارا‬ ‫ت من َ‬ ‫وقبّل ُ‬ ‫شفْت من شَ َف َتيْهـا عـقـاراً‬ ‫تر َ‬

‫‪222‬‬
‫غصْناً رَطِيبًا وبَـدْراً أَنـارا‬
‫وُ‬ ‫ت منها كثيبـًا مَـهِـيلً‬ ‫وعانَ ْق ُ‬
‫لكل مكـانٍ بـلـيلٍ نـهـارا‬ ‫وأَبصرْت من نُورها في الظلم‬
‫ج ْز لي هذين البيتين‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫فقال‪ :‬أحسنت ل يفضُضِ ال فاك‪ ،‬ثم قال‪ :‬أ ِ‬
‫ط ْعتُه بانتحابِ‬ ‫شِق طُولً ق َ‬ ‫رُبّ ليلٍ أم ّد من نَفَسِ ا ْلعَا‬
‫مق بدّ ْلتُه بسُو ِء العتـابِ‬ ‫ظرِ الـوا‬ ‫ث أل ّذ من نَ َ‬ ‫وحدي ٍ‬
‫فوال لقد أَعملت فكري فما قدرت أن أجيزهما‪ .‬ويمكن أن يجازا بهذا البيت‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ت عنهُ طولَ اجتنابِ‬ ‫ض ُ‬ ‫رِق عُو ْ‬ ‫ووصال أقل مِنْ َلمْـحة الْـبَـا‬
‫أوصاف في طول الليل والسهر‬
‫وقال ابنُ الرومي في طول الليل‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫قد تـنـاهَـى فـلـيســر فـــيه مَـــزِيدُ‬ ‫رُبّ لـيل كـأنــه الـــدهـــرُ طـــولً‬
‫ب لكن تَزِيدُ‬
‫ت تغي ُ‬
‫شيْبِ ليس ْ‬ ‫في نجو ٍم كأنهنّ نجوم ال ّ‬
‫وهذا من أجود ما جاء في هذا المعنى‪ ،‬وقد قال بشار‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إلى أن ترى وَجْهَ الصباح وِسادُ‬ ‫لخ ّد ْيكَ مِن ك َفيْك في كـلّ لـيلةٍ‬
‫وليس لليل العاشقـين نَـفـادُ‬ ‫ت تُراعِي الليلَ ترجو نَفـادهُ‬ ‫تبي ُ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وما بالُ ضوءِ الصبح ل يتوضّحُ؟‬ ‫خليليّ ما بالُ الدّجَى ل تَـزَحْـزَحُ‬
‫أم الدهرُ ليل كلّه لـيس يَبـرَح؟‬ ‫أضلّ النهارُ المستنـيرُ سـبـيلـهُ‬
‫ولكِنْ أطالَ الليلَ هـ ٌم مُـبَـرّحُ‬ ‫كأن الدجَى زادَتْ وما زادت الدجَى‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫ولقد أعرفُ َليْلِي بالقِـصَـرْ‬ ‫طال هذا الليلُ‪ ،‬بل طال السهَرْ‬
‫عمُ الطراف فتانُ النظَـرْ‬ ‫نَا ِ‬ ‫لم يطُلْ حتى جَفانـي شَـادِنٌ‬
‫صرْ‬ ‫س ْمعِي والب َ‬ ‫مََلكَتْ قلبي و َ‬ ‫ليَ في ليلـيَ مـنـه لـوعةٌ‬
‫كلما أبصره الـنّـوم نَـفَـرْ‬ ‫فكأن الهمّ شَـخـصٌ مـاثـلٌ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫حِذارَ ال َبيْن إن نفع الـحِـذارُ‬ ‫كأنّ فـؤادَه كُـرَ ٌة تَـنَــزّى‬
‫مخاف َة أن يكونَ به السّـرارُ‬ ‫يُرَوّعُه السّرا ُر بكـل شـيءٍ‬
‫فليس لنومه فـيهـا قَـرارُ‬ ‫ت بـشـوكٍ‬ ‫سمِلَـ ْ‬‫كأن جفونه ُ‬
‫أما لِلّيل بَـعْـدَهُـمُ نـهـارُ‬ ‫أقول وليلتـي تـزدادُ طُـولً‪:‬‬
‫كأنّ جفونَها فيهـا قِـصـارُ‬ ‫ت عيني عن التغميض حتى‬ ‫جفَ ْ‬‫َ‬
‫قيل لبشار‪ :‬من أين سرقت قولك‪:‬‬
‫يروّعُه السرا ُر بكلّ شيء؟‬
‫ت اثنين يتسَارّان إل ظننتهما يُرِيدان أن يأمرا لي بشيء‪ .‬وأخذه أبو‬ ‫ط َمعِك؟ قال‪ :‬ما رأي ُ‬‫فقال‪ :‬من قول أشعب الطمع‪ ،‬وقد قيل له‪ :‬ما بلغ من َ‬
‫نواس فقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫رَاحةُ المستهامِ في العـلنِ‬ ‫ل تبيحنّ حُرمه الكـتـمـانِ‬
‫جهْدي فنمّتِ العـينـانِ‬ ‫راق َ‬ ‫قد تستّ ْرتُ بالسكوتِ وبـالط‬
‫ل مـكـانِ‬ ‫ن وأُحدوثةً بـكـ ّ‬ ‫تر َكتْني الوُشَاة نُصْبَ المشيري‬
‫ت ما يَخْلِوانِ إلّ لِشَـانـي‬ ‫قُل ُ‬ ‫ما نرى خال َييْنِ في النـاسِ إل‬
‫ومثل قول بشار‪:‬‬
‫عيْني عن التغميض‪.‬‬ ‫جفَتْ َ‬
‫‪ ...‬البيتَ‪ ،‬وقول الخر‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫صرِ‬ ‫قصيرُ الجفونِ ولم تَقْ ُ‬ ‫كأنّ المحبّ بطول السّهادِ‬
‫وقد تناول هذا المعنى العتابي فأفسده وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ق تَ ْقصِيرُ‬ ‫وفي الجفونِ عن الما ِ‬ ‫َوفِي المآقِي انقباضٌ عن جفونهما‬
‫وقال المتنبي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫و ُردّوا رُقادي َفهْوَ َلحْظُ الحبائب‬ ‫أعِيدوا صَباحي َفهْوَ عند الكواكبِ‬
‫على مُقْل ٍة من فَ ْقدِكم في غَياهبِ‬ ‫كأنّ نهارِي لـيل ٌة مُـدْلَـهِـمّةٌ‬
‫ب بحاجـب‬ ‫ع َقدْتُمْ أعالي كل ُهدْ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ن كـأنـمـا‬ ‫بعيدةُ ما َبيْنَ الجفو ِ‬
‫وقال الشعبي‪ :‬تشاجر الولي ُد بن عبد الملك ومسلمة أخوه في شعر امرئ القيس والنابغة في طول الليل‪ ،‬أيهما أشعر‪ .‬فقال الوليد‪ :‬النابغة أشعر‪،‬‬
‫وقال مسلمة‪ :‬بل امرؤ القيس‪ ،‬فرضيا بالشعبي‪ ،‬فأحضراه‪ ،‬فأنشده الوليد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وليل أُقاسيه بطيء الـكـواكـبِ‬ ‫كِليني لهـمّ يا أُمـيمةُ نـاصِـبِ‬
‫وليس الذي يَرْعَى النجـو َم بـآيبِ‬ ‫تطاول حتى قلتُ ليس بمنْـقَـضٍ‬

‫‪223‬‬
‫ن من كل جانبِ‬
‫ف فيه الحز ُ‬
‫تضاع َ‬ ‫صدْرٍ أراحَ الليلُ عازبَ هَـمّـه‬ ‫و َ‬
‫وأنشده مسلمة قول امرئ القيس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عليّ بأنواع الهموم ليَبـتَـلـي‬ ‫سدُولَهُ‬ ‫حرِ أ ْرخَى ُ‬ ‫وليلٍ كموج البَ ْ‬
‫وأردفَ أعْجازاً ونا َء بكَلـكَـلِ‬ ‫فقلتُ له لمّا تمطّـى بـجَـوْزه‬
‫ح منك بأ ْمثَلِ‬ ‫بصُبح‪ ،‬وما الصبا ُ‬ ‫أل أيها الليلُ الطويلُ أل انجلـي‬
‫شدّت بـ َيذْبُـلِ‬ ‫بكل مُغار الفتْل ُ‬ ‫فيا لك من ليلٍ كأنّ نـجـومَـهُ‬
‫فطرب الوليد طرباً‪ ،‬فقال الشعبي‪ :‬بانت القضية‪.‬‬
‫معنى قول النابغة‪:‬‬
‫وصدر أراح الليل عازب همّه‬
‫صدْرَه مأوى للهموم‪ ،‬وجعل الهموم كال ّنعَم السارحة الغادية‪ ،‬تسرحُ نهارًا ثم تَأْتي إلى مكانها ليلً‪ .‬وهو أول من استثار هذا المعنى‪،‬‬ ‫أنه جعل َ‬
‫ووصف أن الهمو َم مترادفةٌ بالليل لتقييد اللحاظ عمّا هي مطلقة فيه بالنهار‪ ،‬واشتغالها بتصرّف اللحظ عن استعمال الفكر‪ ،‬وامرؤ القيس كره‬
‫أن يقول‪ :‬إن الهمّ يخفّ عليه في وقت من الوقات فقال‪ :‬وما الصباح منك بأمثل‪.‬‬
‫وقال الطرماح بن حكيم الطائي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بيوم‪ ،‬وما الصباح فيك بأرْ َوحِ‬ ‫صبِـحِ‬ ‫أل أيها الليل الذي طال أ ْ‬
‫ل مَطرَحِ‬ ‫لطرحهما طَ ْر َفيْهما ك ّ‬ ‫صبْح رَاحةً‬ ‫على أن للعينين في ال ّ‬
‫فنقل لفظ امرئ القيس ومعناه‪ ،‬وزاد فيه زيادةً اغتفر له معها فحْش السرقَةِ وإنما تنبّه عليه من قول النابغة‪ ،‬إل أنّ النابغة لوّح‪ ،‬وهذا صرّح‪.‬‬
‫وقال ابن بَسّام‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ت تَـغُـورْ‬‫ن نجومَ الليلِ ليسَ ْ‬‫أَ‬ ‫ل ول أدّعـي‬ ‫ل أظلـمُ الـلـي َ‬
‫طالَ‪ ،‬وإن زارتْ فَليْلي قصيرْ‬ ‫ليْلِي كما شا َءتْ‪ ،‬فإنْ لم تَـزُرْ‬
‫وإنما أغار ابنُ بسام على قولِ علي بن الخليل فلم يغير إل القافية‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ن نجومَ الليل ليسـت تَـزولْ‬ ‫أَ‬ ‫ل أظلـمُ الـلـيلَ ول أَدعـي‬
‫جادَتْ‪ ،‬وإن ضنّت فَليْلي طَوِيلْ‬ ‫ليلي كما شاءت‪ ،‬قـصـي ٌر إذا‬
‫وهذه السرقةُ كما قال البديعُ في التنبيه على أبي بكر الخوارزمي في بيت أخذ روته وبعض لفظه‪ :‬وإن كانت قضية القَطْعِ تجب في الربع‪ ،‬فما‬
‫عتُنا ُردّت‬
‫أشدّ شفقتي على جوارِحه أجمع ولعمري إن هذه ليستْ سرقة‪ ،‬وإنما هي مكابرة محضة‪ ،‬وأحسب أن قائله لو سمع هذا لقال‪ :‬هذه بضا َ‬
‫إلينا‪ ،‬فحسبت أن ربيعة بن مكدم وعُتيبة بن الحارث بن شهاب كانا ل يستحلّن من البيت ما استحلّه‪ ،‬فإنهما كانا يأخذان جُلّهُ‪ ،‬وهذا الفاضل قد‬
‫أخذ كلّه‪ ،‬وقد أخذ علي بن الخليل من قول الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ت عينيّ عيناها‬ ‫نا َمتْ وإن أسه َر ْ‬ ‫ل ال تغييراً لما صنَعـتْ‬ ‫ل أَسأ ُ‬
‫والليلُ أقصرُ شيءٍ حين ألقاها‬ ‫فالليلُ أطول شيء حين أفقدُهـا‬
‫وابن بسام في هذا الشعر كما قال الشاعر‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل يَسْرِقُ المسروقا‬ ‫في كل حا ٍ‬ ‫وفتى يقول الشعـر إل أنـهُ‬
‫ألفاظ لهل العصر‬
‫في طول الليل والسهر‬
‫وما يعرض فيه من الهموم والفكر‬
‫ضلّ صباحُها‪ .‬ليل ثابتُ‬ ‫صدْرِ‪ ،‬و ِنقَم الدهْرِ‪ .‬ليل ُة همومٍ وغموم‪ ،‬كما شاء الحسود‪ ،‬وساءَ الوَدود‪ .‬ليلة قصّ جناحُها‪ ،‬و َ‬ ‫غصَص ال ّ‬ ‫ليلة من ُ‬
‫الطناب‪ ،‬طامي الغوارب‪ ،‬طَامح المواج‪ ،‬وافي الذّوائب‪ .‬ليال ليست لها أسْحَار‪ ،‬وظلمات ل تتخلّلها أنوار‪ .‬بات بليلة نابغية‪ ،‬يُراد قوله‪:‬‬
‫الطويل‪:‬‬
‫من ال ّرقْش في أَنيابها السّ ّم نَاقِعُ‬ ‫فبت كأني ساوَر ْتنِـي ضـئيلة‬
‫ِلحَلْيِ النساءِ في يديه قعـاقـعُ‬ ‫سهَ ُد من ليلِ التمامِ سلـيمُـهـا‬ ‫يُ َ‬
‫حلَ السهاد‪ ،‬وافترش ال َقتَاد‪ ،‬فاكتحل بمُ ْلمُول السهر‪ ،‬وتململ على فراش‬ ‫بات في الصيف بليلة شتوية‪ .‬سا َم َرتْه الهموم‪ ،‬وعانَ َقتْه الغموم‪ ،‬واكت َ‬
‫عيِ النجوم مطروف‪ ،‬وفراش بشعار‬ ‫جمَ ُع بين العين والسّهاد‪ .‬طَرْف برَ ْ‬ ‫جنْبِ والمهاد‪ ،‬وت ْ‬
‫ق بين ال َ‬ ‫ض مِهاده‪ ،‬وقَلِقَ وسادُه‪ .‬هموم تفرّ ُ‬ ‫الفكر‪ .‬قد أقِ َ‬
‫اله َم محفوت‪ .‬كأنه على النجوم رقيب‪ ،‬وللظلم نَقِيب‪.‬‬
‫ولهم فيما يتصل بض ّد ذلك من ذكر إقبال الليل وانتشار الظلمة‪ ،‬وطلوع الكواكب‪ :‬أقبَلتْ عساكِرُ الليل‪ ،‬وخفقَتْ راياتُ الظلم‪ .‬وقد أرخى الليلُ‬
‫علينا سُدولَه‪ ،‬وسحب الظلم فينا ذيوله‪ .‬توقّد الشفقُ في ثوب الغَسَقِ‪ .‬أقبلت وفودُ النجوم وجاءت مواكب الكواكب‪ .‬تفتّحت أزاهير النجوم‪،‬‬
‫حدَقِ‬‫وتورّدت حدائقُ الجوّ‪ ،‬وأ ْذكَى الفلَك مصابيحه‪ .‬قد طفت النجومُ في بَحْرِ الدّجَى‪ ،‬ولبس الظلمُ جلباباً من القار‪ .‬ليلة كغراب الشباب‪ .‬و َ‬
‫حبَش‪ .‬ليلة قد حلك‬ ‫حسَان‪ ،‬وذوائب العذَارى‪ .‬ليلة كأنها في لباسِ بني العباس‪ ،‬ليلة كأنها في لباس الثكالى‪ ،‬وكأنها من ال َغبَش في مواكب الْ َ‬ ‫ال ِ‬
‫إهابها‪ ،‬فكأن البحر يهابُها‪.‬‬
‫س النعاس‪ ،‬وانتشى من خَمر الكَرى‪ ،‬قد عَسْكر ال ُنعَاسُ بطَرْفه‪ ،‬وخيّم بين عينيه‪ .‬غرق في لُجةِ الكَرى‪،‬‬ ‫ولهم في ذكر النوم والنعاس‪ :‬شرِبَ كأ َ‬
‫سكْرَة النوم‪ .‬قد كحل الليلُ الورَى بالرقاد‪ ،‬وشامت العين أجفانها في الغماد‪.‬‬ ‫وتمايل في َ‬
‫وفي انتصاف الليل وتناهيه‪ ،‬وانتشار النور‪ ،‬وأُفول النجوم‪ :‬قد اكْتمَل الظلمُ‪ .‬قد انتصفنا عمْرَ الليلِ‪ ،‬واستغر ْقنَا شبابَه‪ .‬قد شاب رأسُ الليل‪ ،‬كاد‬
‫لفُق‬
‫عمْره‪ .‬قُوّضت خيامُ الليل‪ ،‬وخلع ا ُ‬ ‫ت ذَوَا ِئبُه‪ ،‬وتقوّسَ ظهرُه‪ ،‬وتهدّم ُ‬ ‫شمِطَ ْ‬
‫ينمّ النسيمُ بالسّحَر‪ .‬قد انكشف غطاءُ الليلِ‪ .‬ا ْنهَتَك ستْ ُر الدّجى‪ ،‬و َ‬
‫حدَر الصبحُ‬ ‫ل ثيابَه‪ ،‬و َ‬
‫ب الدّجى‪ .‬أَعرض الظلمُ وتولى‪ ،‬وتَدَلّى عنقود الثريّا‪ .‬طرز قميصُ الليل بغرّة الصبح‪ ،‬وباح الصبح بسِرّهِ‪ .‬خلع اللي ُ‬ ‫ثو َ‬
‫ل بغُرّةِ الصبح‪ .‬أطار‬ ‫جرُ عن نواجذه‪ ،‬وضرب النورُ في الدّجى بعموده‪ .‬بَثّ الصبح طَلئِعه‪ .‬تبرقَعَ اللي ُ‬ ‫نِقَابَه‪ .‬لحت تباشيرُ الصبحِ‪ ،‬وافترّ الفَ ْ‬

‫‪224‬‬
‫سكَر النور‪ .‬خل ْعنَا خلعة الظّلم‪ ،‬ولبسنا رداء‬ ‫ج ْندُ الظلم عن عَ ْ‬‫بَازِي الصبح غرابَ الليلِ‪ ،‬وعزلت نوافج الليل بجاماتِ الكافور‪ ،‬وانهزم ُ‬
‫الصباح‪ ،‬ومل الذان بَرْقُ الصباح‪ ،‬وسطع الضوءُ‪ ،‬وطلع النور‪ ،‬وأشرقت الدنيا‪ ،‬وأضاءت الفاق‪ .‬مالت الجَوْزاءُ للغروب‪ ،‬وولّت مواكبُ‬
‫ق النام‪ ،‬وَوَهى نِطاقُ الجوزاء‪ ،‬وانطفأ قنديلُ الثريّا‪ .‬قال بعضُ العراب‪:‬‬ ‫الكواكب‪ ،‬وتناثرت عقودُ النجوم‪ ،‬و َفرّت أَسرابُ النجوم من حدَ ِ‬
‫حنْدِس قد ألقَتْ على الرض اكارِعَها‪ ،‬فمحَتْ صورة البدان‪ ،‬فما كنّا نتعارف إل بالذان‪.‬‬ ‫خرجنا في ليلة ِ‬
‫قال ابن محكان السعدي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سواءٌ صحِيحات العيون وعُورُها‬ ‫وليل يقول الناسُ في ظلمـاتِـه‬
‫مُسوحاً أعاليها وساجاً ستورهـا‬ ‫ن لنا منه بـيوتـا ًحـصـينةً‬ ‫كأ ّ‬
‫وهذا بارع جدّا‪ ،‬أراد أَنَ أعله أشدّ ظلمًا من جوانبه‪.‬‬
‫صدَع الليلَ حتى انصدعَ الفجر‪.‬‬ ‫وقال أعرابي في صفته‪ :‬خرجتُ حين انحدرَت النجومُ‪ ،‬وشالَتْ أرْجُلُها‪ ،‬فما زِلْتُ أ ْ‬
‫ومن بديع الشعر في صفةِ الليل قول العرابي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫كالليلِ يطردُهُ النهارُ طَـريدا‬ ‫ل يَطْردُه النهارُ ول ترى‬ ‫واللي ُ‬
‫ستْرَهُ الممدودَا‬ ‫هتك المقوّض ِ‬ ‫ت مَالَ رِوَاقُـهُ‬ ‫فتراه مثلَ البي ِ‬
‫ومن البديع‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وطا َرتْ بأُخرى الليلِ أَجنِحَةُ ال َفجْـرِ‬ ‫على حينَ أثنى القومُ خيراً عَلَى السّرَى‬
‫آخر‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫جمِه عرضَ الُفولِ‬ ‫ت بنَ ْ‬
‫رمي ُ‬ ‫ل مُـدْلَـهِـمّ‬
‫غيَاطِ َ‬
‫وليل ذي َ‬

‫صدْرَ الدّلِيلِ‬
‫ويملُ هَوْلُه َ‬ ‫يردّ الطرف منقبضًا كَلِيلً‬
‫ابن المعتز‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫بظليل أ ْهلِ النارِ والمنحِ‬ ‫هامَت ركائِبنا إليك بـنـا‬
‫صبْحِ‬‫ن ليلتهنّ عن ُ‬ ‫يفحَصْ َ‬ ‫ن دائبةً‬
‫ن أيديهـــ ّ‬
‫فكـأ ّ‬
‫وقاد كشاجم‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ن مَرّ مـشـكـورا‬ ‫بِدير مُرّا َ‬ ‫ت مُـدّتـهُ‬
‫سقْياً لليلٍ قصـرْ ُ‬
‫َ‬
‫نُوريّة تمل الـدّجَـى نُـورَا‬ ‫وبات بَدر الدجى يشعشعـهـا‬
‫فعاد جيبُ الحباب مـزرُورَا‬ ‫غارَت على نفسها وقد سَفرت‬
‫ح منشُورا‬ ‫غرب ودَرجَ الصبا ِ‬ ‫حتى رأيت الظلمَ يدرجُه ال‬
‫تخلط كفّ مسكًا وكـافـورا‬ ‫فاختلط الليل والنهـارُ كـمـا‬
‫وقال علي بن محمد الكوفي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا كان جَانِيهِ علـيَ طـبـيبـي‬ ‫َمتَى أَرتَجي يوماً شِفَا ًء من الضّنـا‬
‫لباسٍ سوادٍ في الظـلم قَـشِـيبِ‬ ‫ولي عائِداتٌ ضِفتهُنّ فجِـئْنَ فـي‬
‫ن ل ُب ْعدِ السـير ذاتُ لـغُـوب‬ ‫وه ّ‬ ‫نجومٌ أراعِي طولَ ليلي برُوجَهـا‬
‫ب معنّـاةٌ بـطـولِ وَجِـيبِ‬ ‫قلو ٌ‬ ‫خوافقُ في جُنحِ الظلم كـأنـهـا‬
‫ت دَبـيبِ‬ ‫عقْرَبها في الغربِ ذا َ‬ ‫وَ‬ ‫تَرَى حُوتَها في الشرقِ ذاتَ سِباحةٍ‬
‫غصْنٍ في الرياضِ رطـيبِ‬ ‫تهدّلَ ُ‬ ‫سبْـتَـه‬ ‫إذا ما هوَى الكْليلُ منها ح ِ‬
‫لتَكرع في ماء هنـاك صَـبـيبِ‬ ‫كأَنّ التي حولَ المـجـرّةِ أوردَتْ‬
‫شجاع َة ِمقْدامٍ ِبـجُـبْـنِ هَـيُوبِ‬ ‫كأنّ رسولَ الصّبحِ يخلطُ في الدّجى‬
‫وَفيه للٍ لم تُـشـنْ بـثـقُـوبِ‬ ‫ح ممرّدٌ‬ ‫كأنّ اخضِرَار البَحرِ صَ ْر ٌ‬
‫سوادُ شبابٍ في بياض مَـشِـيبِ‬ ‫صبْحِـه‬ ‫كأنّ سوادَ الليلِ في ضوءِ ُ‬
‫ي بن دَاود أَخِـي ونـسـيبـي‬ ‫عل ّ‬ ‫ن نذيرَ الشمسِ يحكي ببـشْـرِه‬ ‫كأ ّ‬
‫ولكن يَرَاها من أَجـل ذنـوبـي‬ ‫ع ْتبَه قـلـت سـيدي‬ ‫ولول اتّقائي َ‬
‫َأدِيبٌ غَـدا خِـلّ لـكــل َأدِيبِ‬ ‫جوا ٌد بما تَـحْـوِي َيدَاهُ مـهـذّب‬
‫قريبُ صفاءً وهو غـيرُ قـريبِ‬ ‫نسيب إخاءً وهو غيرُ مـنـاسـبٍ‬
‫إذا لم يؤنسها انتـسـابُ قـلـوبِ‬ ‫ونِسب ُة ما بـينَ القـارِب وحـشةٌ‬
‫وهذا البيت كقول الطائي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فقلت لهمْ إنّ الشكـولَ أَقـارِبُ‬ ‫وقلتُ أخي قالوا َأخٌ من فـرابةٍ‬
‫عدَ ْتنَا في الصول المناسبُ‬ ‫وإنْ با َ‬ ‫نسيبيَ في رأيي وعزمي ومذهبي‬
‫وقال عبد السلم بن رغبان‪ ،‬وسلك طريق الطائي فما ضلّ عنها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حِذاراً‪ ،‬و َتعْمى ُمقْلتِي وَهْوَ غائِبُ‬ ‫أخ كنتُ أَبكِيه دماً وَهْوَ حاضـرٌ‬
‫بَلَى إن إخوانَ الصفـاء أقـاربُ‬ ‫بكاءَ أخ لـم تَـحْـوِه بـقـرابة‬
‫غبُ‬ ‫عمْري إلى ال را ِ‬ ‫ول أَنا ني ُ‬ ‫جرِ واقف‬ ‫فمات فما شَوْقي إلى ال ْ‬
‫كأنك للـدنـيا أَخ ومُـنـاسِـب‬ ‫ت الدنيا التي أنتَ نورُهـا‬ ‫وأَظلم ِ‬
‫‪225‬‬
‫أرى زمناً لم تبق فيه مصـائِبُ‬ ‫يُبرّدُ نيرانَ المـصـائبِ أَنـنـي‬
‫وفي هذه القصيدة‪:‬‬
‫إليك‪ ،‬وغاَلبْتُ ال ّردَى وهْو غالِـبُ‬ ‫شفْـتُ أيامـي وهُـنَ كـوالـحٌ‬ ‫تر َ‬
‫ي يدٍ لي والزمان المُـحَـاربُ؟‬ ‫وأ ّ‬ ‫ودافعتُ في كَيد الزمان ونَـحْـرِهِ‬
‫وها أنا أو فا ْز َددْ فإنّـا عَـصَـائِبُ‬ ‫ل ابنَ ُأمّي لـعُـصْـبَةٍ‬
‫وقلتُ له‪ :‬خَ ّ‬
‫وإلّ فحُـبّـي آلَ أحـمـ َد كـاذِبُ‬ ‫فوالِ إخلصًا من القولِ صـادقـاً‬
‫ل قاضِبُ‬ ‫دَمَ القلبِ حتى يَقضِبَ الحبْ َ‬ ‫شفَـاءك أو َدمِـي‬ ‫ن َيدِي كانَتْ ِ‬‫لَوَ أ ّ‬
‫يداً لل ّردَى ما حَـجّ لـلّـهِ راكِـبُ‬ ‫لسلّمت تَسْلِيمَ الرّضَا واتخـذتـهـا‬
‫لنائب ٍة نا َبتْـكَ فـهـو مُـضَـارِبُ‬ ‫ج ْئتَهُ‬
‫فتًى كان مثلَ السيف من حيث ِ‬

‫وإن ناب عنه مَالُهُ وهْو عَا ِز ُ‬


‫ب‬ ‫ح ْمدٌ على الدهر رائح‬ ‫فتى َهمّه َ‬
‫ي بن‬
‫وقال الطائي لعل ّ‬ ‫عِظامٌ‪ ،‬وإن ترحل فهنَ رَكائِبُ‬ ‫ن مَشـاهـدٌ‬ ‫ش َهدْ فه ّ‬
‫ل إن تَ ْ‬
‫شمائ ُ‬
‫الجهم‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫سرِي في إخاءٍ تالـدِ‬ ‫َن ْغدُو ونَ ْ‬ ‫إن ُي ْكدِ مُطّرَفُ الخاء فإنّنـا‬
‫َأدَبٌ أقمنا ُه مُقـامَ الـوالـدِ‬ ‫ف بيننـا‬ ‫أو يفترق نَسَبٌ يؤلّ ْ‬
‫وقال محمدُ بن موسى بن‬ ‫حدِ‬
‫ب تحدّرَ من غمامٍ وَا ِ‬ ‫عذْ ٌ‬‫َ‬ ‫أو يختلف ماءُ الوصال فماؤُنا‬
‫ل فلعنه‪ ،‬وكفره‪ ،‬وقال‪ :‬وكان يطعَنُ على أبي تمام‪ ،‬وهو خي ٌر منه ديناً وشعراً‪ ،‬فقال رجلٌ‪ :‬لو‬ ‫ي بن الجهم‪ ،‬وذكر دِعب ً‬ ‫حماد‪ :‬سمعتُ عل ّ‬
‫ل يكن أخا نَسَب فهو أخو أدَب‪ ،‬أما سمعتَ ما خاطبني به‪ .‬وأنشد البيات‪.‬‬ ‫كان أبو تمام أخاك ما زدت على مَدْحِك له‪ .‬فقال‪ :‬إ ّ‬
‫وقال رجل لبن المقفع‪ :‬إذا لم يكن أخي صديقي لم أحببه‪ ،‬قال‪ :‬نعم صدقت‪ ،‬الخ نسيبُ الجسم‪ ،‬والصديق نسيب الروح‪.‬‬
‫وقال أبو تمام يخاطب محمد بن عبد الملك الزيات‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ولودٌ‪ ،‬وأمّ العـلـم جـدّاء حَـائِلُ‬ ‫أبا جعفَر‪ ،‬إنّ الجـهـالةَ ُأمّـهـا‬
‫ت دونـنـا وقـبـائل‬ ‫ب تلقَ ْ‬ ‫شعو ٌ‬ ‫أرى الحشوَ والدهماءَ أضحوا كأنهم‬
‫وحظُ ذوي الداب فيهم نَـوَافِـل‬ ‫غدَوْا وكأنّ الجهل يجمعـهـم أبـاً‬
‫ي المـنـاقـل‬ ‫ُيعَ ّردُ عنها العوج ّ‬ ‫فكن هضبةً تأوِي إلـيهـا وحَـرّةً‬
‫وقال البحتري لبي القاسم‬ ‫ُمنَاسبَ روحاني َة مَـنْ يشـاكـلُ‬ ‫فإن الفتى في كلّ حال منـاسـبٌ‬
‫بن خرداذبه‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وكنتَ من بحتري البيت والنسـبِ‬ ‫س ْؤدَدها‬ ‫ت من فارسٍ في بيتِ ُ‬ ‫إن كن َ‬
‫رُحنا نَسِيبين في علْـمٍ وفـي أدبِ‬ ‫صبَـين وقَـدْ‬ ‫فلم يَضِ ْرنَا َتنَائي المَنْ ِ‬
‫وقد احتَذى طريقَه أبو‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫َـ‬
‫ع‬ ‫والـ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ج‬ ‫ُ‬
‫ع‬ ‫ال‬ ‫بين‬ ‫مسافة‬ ‫ْ‬
‫ت‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫د‬
‫َ‬ ‫ت‬
‫ْ‬ ‫َـ‬
‫م‬ ‫والـتـأ‬ ‫إذا تقاربـت الدابُ‬
‫القاسم محمد بن هانئ‪ ،‬فقال يمدحُ جعفر بن علي‪ ،‬وذكر النجوم‪ ،‬فقال الطويل‪:‬‬
‫وقدّتْ لنا الظلماءُ من جِ ْلدِها ُلحْفـا‬ ‫ب مُـدامِـنـا‬ ‫ج َع ْلنَا حشايانـا ثِـيا َ‬
‫ومن شفَ ٍة تُوحي إلى شَفَةٍ َرشْفـا‬ ‫فمن كب ٍد تُدْني إلـى كَـبِـدٍ هَـوىً‬
‫ق من َبعْدِ ما أغفَـى‬ ‫فقد ُنبّهَ البري ُ‬ ‫بعيشك َنبّ ْه كـأسَـه وجُـفُـونَـهُ‬
‫وقد قام جيشُ الليل للفجْرِ فاصطفّا‬ ‫ض قـيودِهـا‬ ‫وقد فكّت الظلما ُء بع َ‬
‫ن يدٍ تَـخْـفَـى‬ ‫خواتم َتبْدو في َبنَا ِ‬ ‫وولّتْ نجومٌ لـلـثّـريّا كـأنّـهـا‬
‫خلْفـا‬ ‫كصاحبِ ِردْ ٍء أكمنتْ خيلُهُ َ‬ ‫ومَرّ على آثـارِهـا َدبَـرانُـهـا‬
‫ج ُنبُهُ طِـرْفـا‬ ‫ب تَ ْ‬ ‫ِبمِرْ َزمِها ال َيعْبو ِ‬ ‫وأقبلتِ الشّعرى ال َعبُـو ُر مـلـبّة‬
‫ي مَجرّتها سِجْـفـا‬ ‫ق من ِثنْيَ ْ‬ ‫ِلتَخرُ َ‬ ‫ختُهـا مـن وَرائهـا‬ ‫وقد بادَرَتها أ ْ‬
‫وبَ ْربَرَ في الظلما ِء يَنسِفُها نَسْـفَـا‬ ‫تخافُ زَئيرَ اللـيث يَقـدُم نـثـرَةً‬
‫على ِل ْبدَ َتيْهِ ضامِنانِ له الْحَـتْـفَـا‬ ‫كأنّ السما َكيْن اللّذين تـظـاهَـرا‬
‫وذا أعزل قد عَضّ َأ ْنمُلَهُ َلهْـفـا‬ ‫ح َيهْـوي إلـيه سِـنَـانُـه‬ ‫فذا رام ٌ‬
‫يُ َقلّبُ تحتَ الليلِ في رِيشِه طَرْفـا‬ ‫ل مَـ ْرقَـبٍ‬ ‫كأنّ رقيبَ النجمِ أَجْـدَ ُ‬
‫جدْ بعـده إلْـفـا‬ ‫مُفَا ِرقُ إلْف لم يَ ِ‬ ‫كأنّ سُهيلً في مَطـالِـع أفـقـهِ‬
‫خشْفَا‬ ‫جرَ َة قد أَضْلَلْنَ في َمهْمَهٍ ِ‬ ‫بوَ ْ‬ ‫ش و َنعْشًا مَـطَـافِـلٌ‬ ‫ن بني َنعْ ٍ‬‫كأ ّ‬
‫فآ ِوتَةً َيبْـدُو وآون ًة يَخْــفَـــى‬ ‫ق بـين عُـ ّودٍ‬ ‫كأنّ سُهاها عـاشِـ ٌ‬
‫حفَـا‬‫ن قد كَرِهَ الزّ ْ‬ ‫لواءان مَ ْركُوزا ِ‬ ‫ن ُمعَلّى ُقطْبـهـا فـارسٌ لـهُ‬ ‫كأ ّ‬
‫ض ْعفَا‬‫سمُ الخوافِي به َ‬ ‫ُقصِصْنَ فلم تَ ْ‬ ‫ن قدامى النّسْر والنّسْـرُ واقـعٌ‬ ‫كأ ّ‬

‫‪226‬‬
‫صفَا‬
‫أتى دون نصف ال َبدْر فاختطف النّ ْ‬ ‫كأن أَخـاهُ حـــين دَوّمَ طـــائرًا‬
‫ي مُلْـتَـفّـا‬
‫خسْرُوان ّ‬
‫سَرَى بالنسيج ال ُ‬ ‫ي مَـوْهِـنـاً‬‫كأنّ الهزي َع البنُـوسِـ ّ‬
‫صري ُع مُدا ٍم باتَ يش َربُهـا صِـرْفـا‬ ‫ل إ ْذ مـال مَـيْلةً‬‫كأنَ ظـلمَ الـلـي ِ‬
‫خفَـى‬‫ستَ ْ‬ ‫من الترك نادَى بالنجاشيّ فا ْ‬ ‫ن عمودَ الفجر خاقـانُ عَـسـكَـرٍ‬ ‫كأ ّ‬
‫رأى ال ِقرْنَ فازدادَتْ طلقته ضعْفَـا‬ ‫كأن لِواءَ الشمـسِ غُـرّةُ جَـعْـفَـرٍ‬
‫وقال ابن طباطبا العلوي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وديعةُ سرّ في ضَـمـي ِر مُـدِيعِ‬ ‫كأنّ اكتتامَ المشتري في سَحَـابـهِ‬
‫يعا ِرضُهـا راعٍ ورا َء قَـطِـيع‬ ‫س َهيْلً والنـجـوم أمـامَـهُ‬ ‫كأنّ ُ‬
‫ف بالدمـوعِ هـمـوعِ‬ ‫طرْ ٍ‬ ‫تَ َقلّب َ‬ ‫حتِ الشّعرى ال َعبُور كأنهـا‬ ‫وقد ل َ‬
‫ت كنَشْوانٍ هـنـاك صَـرِيعِ‬ ‫فباتَ ْ‬ ‫وأضجعت الجوزاء في أفْق غَرْبها‬
‫وكان يُنَادي منه غـيرَ سـمـيعِ‬ ‫صبْحِـه‬ ‫إلى أن أجاب الليلُ دَاعِيَ ُ‬
‫وقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫شطر طوقِ المرآ ِة ذي التذهيب‬ ‫وكأنَ الهـللَ لـمّـا تَـبَـدّى‬
‫ق مكـتـوب‬ ‫أو كَنُونٍ في ُمهْرَ ٍ‬ ‫س قد انحنَتْ طَـ َرفَـاه‬ ‫أو كقَ ْو ٍ‬
‫وقال علي بن محمد العلوي يصف القمرَ‪ ،‬وقد طرح جرمه على دِجلة‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫والبَدْرُ في أفق السما ِء مغرّب‬ ‫ى دِجْلَةَ والدّجَى ُمتَصَرّمٌ‬ ‫لم َأنْس َ‬
‫وكأنه فيها طرا ٌز مُـذْهَـبُ‬ ‫فكـأنـهـا فـيه رداءٌ أزرقٌ‬
‫وقال المير تميم بن المعز‪ ،‬وكان يحتذِي مثل ابن المعتز‪ ،‬ويقف في التشبيهات بجانبه‪ ،‬ويفرغ فيها على قالبه‪ ،‬ويتبعه في سلوك ألفاظ الملوك‪:‬‬
‫الخفيف‪:‬‬
‫ل َتعِلّةَ النفس شُـغْـلِـي‬ ‫ليس إ ّ‬ ‫صغِي لـعَـذلٍ‬ ‫اِسقِيانِي فلست أُ ْ‬
‫وى كأني ا ّت َهمْتُ رَ ْأيِ وعَقلِي؟‬ ‫ك مـا أه‬ ‫أأطِيعُ العذولَ في تـر ِ‬
‫ل كََلوْنِ الصدود من بعد َوصْلِ‬ ‫ُ‬ ‫عَلّلني بها فقد أقـبـل الـلـي‬
‫ض بكاءُ السّحابِ جادَ بـ َوبْـلِ‬ ‫َ‬ ‫وانْجَلَى ال َغيْ ُم بعد ما أضحكَ الرّوْ‬
‫في سما ٍء كأنّـهـا جَـا ُم ذَبْـل‬ ‫ن نُـضَـارٍ‬ ‫عن هللٍ كصَوْلجا ِ‬
‫وقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫جنْحُ الظّلَم مُرْخَى الزَارِ‬ ‫ءَ و ُ‬ ‫رُبّ صفراءَ عَلَّلتْنِي بصفـرا‬
‫ب منيفةٍ وصـحَـارِي‬ ‫ورَوَا ٍ‬ ‫بين مـاءٍ وروض ٍة وكُــروم‬
‫وتجيب القِيانُ فيها القَمـاري‬ ‫تتثنّى به الغصـونُ عـلـينـا‬
‫وكأن النجو َم فيهـا مَـدَارِي‬ ‫وكأن الدّجَى غَـدَائرُ شَـعْـرٍ‬
‫ق مثلَ ِنصْفِ سِوَارِ‬ ‫لفْ ِ‬
‫في يَدِ ا ُ‬ ‫ل تبَـدّى‬ ‫وانْجَلَى الغيمُ عن هِل ٍ‬
‫وقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ودَعا َدمْ َع مُقَْل َتيْها انسكَـابُ‬ ‫عتَبتْ فانثنى عليها العِـتَـابُ‬ ‫َ‬
‫فا ْلتَقَى الياسمينُ والعُـنّـاب‬ ‫خدّها بـيديهـا‬ ‫وضعت نحو َ‬
‫بَ رِياءً و َهمّه العْـتَـابُ‬ ‫ب ُم ْبدِي َتعَتّبٍ جعل العَـتْ‬ ‫رُ ّ‬
‫س كما يصبُغ الخدودَ الشبابُ‬ ‫َ‬ ‫صبُغ الْـكـأ‬ ‫سقِنيها مُدَام ًة تَ ْ‬ ‫فا ْ‬
‫طيْلَسـانُـه يَنْـجَـابُ؟‬‫و َبدَا َ‬ ‫ما ترى الليلَ كيف رَق دُجَاهُ‬
‫خلَبيْهِ غُـرابُ‬ ‫والدّجَى بين مِ ْ‬ ‫لفْق بـازٍ‬ ‫وكأن الصباحَ في ا ُ‬
‫وكأنّ النجو َم فيها حَـبَـابُ‬ ‫وكأنَ السماءَ لُـجّ ُة بَـحْـرٍ‬
‫وكأن الدّجَى عليهـا قِـرَابُ‬ ‫سيْفٌ صَقـيل‬ ‫وكأن الجوزاءَ َ‬
‫من وصف الشراب والكؤوس وَالسّقاة في الليل‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سبْ‬ ‫س َك ْرمِيّة النّ َ‬‫لنْفا ِ‬‫ع ِبيْ ِريّةِ ا َ‬
‫َ‬ ‫خيّة الْجَـلْـب‬ ‫جيّة البا ِء كَرْ ِ‬ ‫وزنْ ِ‬
‫ط َر الذّهَبْ‬ ‫ن مثلَ ما قَ َ‬ ‫حمَ َر قَا ٍ‬ ‫بَأ ْ‬ ‫كمَيْت بزَ ْلنَا دَنّها فتـفـجّـ َرتْ‬

‫شرِبنَا السرورَ المَخْضَ واللهوَ والطّرَبْ‬ ‫فلمّا ش ِر ْبنَـاهـا صَـبَـ ْونَـا كـأنّـنـا‬
‫سوى أننا ِب ْعنَا الوقارَ مـن الـلّـعِـبْ‬ ‫سخِطُ المجـدَ فِـعْـلُـه‬ ‫ولم نأتِ شيئًا يُ ْ‬
‫قطائعُ ماءٍ جامدٍ َتحْـمِـلُ الـلّـهَـبْ‬ ‫كَأن كـؤوس الـشّـرْبِ وهـي دوائر‬
‫وليس بشيء غيرها هو مخـتـضِـبْ‬ ‫َيمُدّ بها كـفـاً خـضـيبـًا مُـدِيرُهَـا‬
‫ب من َبدْر السمـاء ومـا قـربْ‬ ‫و َنقْرُ ُ‬ ‫سقّى الشـمـسَ والـلـيلُ راكـدٌ‬ ‫فب ْتنَا نُ َ‬
‫ستارة شَرْبٍ خَلْفها وَجْـهُ مـن ُأحِـبّ‬ ‫وقد حجبَ الـغـيمُ الـهـللَ كـأنـهُ‬

‫‪227‬‬
‫ن بِلّوْرٍ على الرض تَضْطَـرِبْ‬
‫مداه ُ‬ ‫كأنّ الثريّا تحـت حُـلـكة لـوْنـهـا‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سنَا الـبَـرْقِ‬ ‫لنا‪ ،‬وكأنَ الراحَ فيها َ‬ ‫كأنَ السحابَ الغُرّ أصْبحن َأكْـؤسـاً‬
‫ح من الشـرق‬ ‫وأَقبل راياتُ الصبا ِ‬ ‫إلى أَنْ رأيتُ النجمَ وهْو مـغـرّب‬
‫عيُنِ الز ْرقِ‬ ‫حلِ في ال ْ‬ ‫بقايا مجال الكُ ْ‬ ‫كأن سوادَ الليلِ والصبـحُ طـالـعٌ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ثمارَ الغِنى للشّرْبِ من شجر الفَقْرِ‬ ‫س يُعِيدُ ال ُعسْر يُسراً‪ ،‬ويجتـنـي‬ ‫وكَأ ٍ‬
‫كما فتتَتْ فوق الثرى نُقَطُ القَطْـرِ‬ ‫ج دُرّا مـنـضّـداً‬ ‫يُوَّلدُ فيها الـمـزْ ُ‬
‫ت تجمّعن في سَطرِ‬ ‫على الرّاح واوا ٌ‬ ‫صغار وكبرى في الكؤوس كأنـهـا‬
‫نجومَ الثريا لُحْنَ في راحَةِ الـبَـدْرِ‬ ‫إذا ح ّثهَا الساقِي الغرّ حسبْـتَـهـا‬
‫سنَا الـفَـجْـرِ‬ ‫بفضّة للء الصباحِ َ‬ ‫ج الدّجَى‬ ‫صبحتُ بها صَحْبي وقد ر ْندَ َ‬
‫لفُقِ العْلى قـلئدُ مـن دُرّ‬ ‫على ا ُ‬ ‫وقد َأزْهَرَت بِيضُ النجو ِم كَـأنّـهـا‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جنْحُ الدجى دَعَجْ‬ ‫فقد ألبسَ الفاقَ ُ‬ ‫ألَ فاسقيانـي قَـهـ َو ًة ذهـبـيةً‬
‫سبَجْ‬ ‫جيْنٍ قد أحاط ِبهَا َ‬ ‫فصوصُ ل َ‬ ‫كأنّ الثريّا والظـل ُم يَحُـفُـهـا‬
‫ي َتبَسّمَ عن فـلـج‬ ‫إذا جَن‪ ،‬زنج ّ‬ ‫كأنّ نجومَ الليلِ تـحـتَ سـوادِهِ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫من ال َغيْ ِم يهمي مُزْنـهـا ويجـودُ‬ ‫حنّا‪ ،‬سـقَـتْـك رعـودُ‬ ‫أيا َديْر مَرْ َ‬
‫طفْنَ علينـا بـالـمُـدَامَةِ غِـيدُ‬ ‫يَ ُ‬ ‫فكم واصلتْنا فـي ُربَـاك أَوَانِـسُ‬
‫ونابَتْ عن الوردِ الجـنـيّ خُـدُودُ‬ ‫وكم ناب عن نُورِ الضحى فيك َمبْسِمٌ‬
‫ن نُـهـودُ‬ ‫فَأثْقَلها من حَـمْـلِـهِـ ّ‬ ‫ن فِـضّة‬ ‫ستْ على الكُثبانِ قضبا ُ‬ ‫وما َ‬
‫وإذْ َأثَ ِريَ في الغـانـياتِ حَـمِـيدُ‬ ‫وإذْ ِل ّمتِي لم يوقِظِ الشيبُ لـيلَـهـا‬
‫وَلهْـوٍ‪ ،‬وأيامُ الـزمـانِ هُـجُـودُ‬ ‫ي أغدُو بين ثـوبَـيْ صـبـابةٍ‬ ‫ليال َ‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫خجَل واصفَ ّر من َوجَلِ‬ ‫فاحمرّ من َ‬ ‫سأَلْته ُقبْلَ ًة منـه عـلـى عَـجَـل‬
‫وبين َمنْعٍ تمادَى فيه بـالـعِـلَـل‬ ‫ل ما بينَ إسعـافٍ يرقّـقُـه‬ ‫عتَ ّ‬
‫وَا ْ‬
‫صرُ ال َبدْرِ ل َيدْعُوهُ للـقُـبَـلِ‬ ‫ومبْ ِ‬ ‫ي َبدْرٌ ل خـفـا َء بـهِ‬ ‫وقال‪َ :‬وجْه َ‬
‫وهذا ينظرُ إلى قوله‪ :‬مجزوء الوافر‪:‬‬
‫وجار عليّ وا ْقتَـدَرَا‬ ‫ح لمُقلتي السهـرَا‬ ‫أبا َ‬
‫عليه لذَابَ وانْفَطَرَا‬ ‫غزالٌ لو جَرَى نَفَسي‬
‫ي الغنْجَ والحوَرا‬ ‫عَل ّ‬ ‫وَلكِنْ عينُه حشَـدَتْ‬
‫فكيفَ يعاتبُ القمرَا؟‬ ‫ومَنْ أَ ْودَى به قمـرٌ‬
‫كأنه ذهب إلى قول أبي نُوَاس‪ :‬مجزوء الوافر‪:‬‬
‫نْ أزراره قَـمَـرَا‬ ‫كأنَ ثيابـه أَطْـلَـع‬
‫إذا ما ِزدْتَه نـظَـرا‬ ‫حسْنـاً‬ ‫جهُه ُ‬ ‫يزيدك وَ ْ‬
‫حوَرَا‬‫ُر مِنْ أجفانها الْ َ‬ ‫بعيْني خَالَطَ التفْـتـي‬
‫تَصوّب ماؤه قطَـرا‬ ‫ووَجْهٍ سابِـريّ لـو‬
‫شدُ الناس وأشعرهم؟ قال‪ :‬الذي يقول‪ ،‬وأنشد هذه البيات‪ .‬ونظيرُ قولهِ‪ :‬مجزوء الوافر‪:‬‬ ‫ن أنْ َ‬‫قيل للجاحظ‪ :‬مَ ْ‬
‫ن من أزراره قمرا‬ ‫َ‬ ‫ن ثيابَـه أطـلـعْ‬ ‫كأ ّ‬
‫قول الحكم بن َقنْبَر المازني‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وزاد قلبي إلى أوجاعِه وَجَعـا‬ ‫ويْلِي على مَنْ أطارَ النومَ فامتنعا‬
‫وقال تميم‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫بمُـدَا ٍم مُـنَـقّـبٍ بـزُجَـاج‬ ‫جهَها بـخَـزّ وجَـاءتْ‬ ‫نَقبَتْ َو ْ‬
‫قمراً طالعاً وضـوءَ سـرَاجِ‬ ‫فتأمّلْتُ في النقابَـيْنِ مـنـهـا‬
‫في المعالي صِ ْرفٌ بغير مِزَاجِ‬ ‫فاسقيَاني بـل مِـزَاجٍ فـإنـي‬
‫س بـعَـاجِ‬ ‫ح من َب ْعدِ آبنُـو ٍ‬ ‫با ُ‬ ‫وانظرا ال ْفقَ كيف بدّله الص‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ص َعبِهِ‬ ‫سهْلُ ده ٍر بعد َأ ْ‬ ‫كم قد أتى َ‬ ‫حذِرْتَ زَمانـًا ل تُـسَـ ّر بـهِ‬ ‫إذا َ‬
‫حلُو في تـقـلّـبـهِ‬ ‫لعل مُرّك يَ ْ‬ ‫فاقبَلْ من الدهرِ ما أعْطَاكَ مختلطاً‬
‫من كفّ أقنى أسيل الخ ّد ُمذْهَبِـهِ‬ ‫شعَةً‬ ‫ش ْع َ‬ ‫خذْها إليك‪ ،‬و َدعْ لَوْمي‪ ،‬م َ‬ ‫ُ‬

‫‪228‬‬
‫عليه يَحْميه من أن تَستـبـدّ بـه‬ ‫في كل َمعْقِد حسن فيه ُمعْتَـ ِرضٌ‬
‫ي ِبعَـقْـرَبـه‬‫حمِ ّ‬
‫ووَ ْردُ خ ّديْ ِه مَ ْ‬ ‫ل عينيه ممنوعٌ بخَـنْـجَـرهٍ‬ ‫فكُحْ ُ‬
‫ف عليه من تـلـهّـبِـه‬ ‫إني أخا ُ‬ ‫ل تترك ال َقدَحَ المـلن فـي يدهِ‬
‫وسَقّه واسْقني من فَضْل مَشْرَبـه‬ ‫صنْه عن سَقينا؛ إني أَغَـا ُر بِـهِ‬ ‫ف ُ‬
‫شهَـبِـه‬
‫والصبحُ في إثره يَعدُو بأَ ْ‬ ‫ي منهزِماً‬ ‫جّ‬ ‫وانظُر إلى الليلِ كالزنْ ِ‬
‫ن مَـ ْوكِـبـه‬
‫كأنه مَِلكٌ مـا بَـي َ‬ ‫ب ما بين أنْـجُـمـه‬ ‫ص ٌ‬ ‫والبد ُر مُنت ِ‬
‫من المختار من شعر تميم بن المعز‬
‫وإذا أفضيت إلى ذكره‪ ،‬فهاك من مختار شعره‪ ،‬قال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫صنَعـا‬
‫ل بما َ‬ ‫ب ومَ ْقبُو ٌ‬
‫منه الذنو ُ‬ ‫ستَ ْقبَلٌ بالذي َيهْوَى وإن َكثُـ َرتْ‬ ‫مُ ْ‬
‫من القلوب وَجِيهٌ حيثما شفـعَـا‬ ‫جهِهِ شاف ٌع َيمْحُو إسـاءتَـهُ‬ ‫في َو ْ‬
‫طلَعا‬
‫حُسْناً‪ ،‬أو البد ُر من أزرارِه َ‬ ‫س مِنْ أثوابه بـرزَت‬ ‫كأنما الشم ُ‬
‫استعارة مأخوذة من قول الخر‪ ،‬وهو ابن زُريق‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫بالكَرْخ من فََلكِ الزرار مطلَعهُ‬ ‫أستودعُ ال في بغدادَ لِي قمـراً‬
‫ومن قول أحمد بن يحيى الفران‪ :‬مجزوء الوافر‪:‬‬
‫على أزراره طـلَـعَـا‬ ‫بَدَا فكـانّـمـا قـمـرٌ‬
‫جبين بـنـانُـه وَلَـعـا‬ ‫يحث المسكَ من عَرقِ ال‬
‫وقال أبو ذرّ أستاذ سيف الدولةِ‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ش مِنْ ُرقَـبَـائِهِ‬
‫حبّهِ لم َأخْ َ‬
‫في ُ‬ ‫نفسي ال ِفدَاء لمن عصيت عَواذِلي‬
‫والبد ُر يَطْلُعُ من خِلَل قَـبَـائِ ِه‬ ‫جهِـهِ‬ ‫سرّة و ْ‬ ‫الشمس تظهرُ في أَ ِ‬
‫وقال تميم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأَعْصي غرامي وهو ما بين أَضلعي؟‬ ‫أأعذل قَلبِي وَهْـوَ لِـي غـيرُ عـاذِل‬
‫ول جلدي طوعي ول كبدي مـعِـي‬ ‫ل بـه الـجَـوى‬ ‫صبْرٍ أَستزي ُ‬ ‫ومَنْ لي بِ َ‬
‫وآخرُ صبْـرِي كـان أوّلَ َأ ْدمُـعِـي‬ ‫فأَوّلُ شوقِي كـانَ آخـر سَـلْـوَتـي‬
‫وقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫َو ْردِ الـــرياضِ وََأنْـــعَــــمُ‬ ‫ق مــــن‬ ‫وَ ْردُ الـــخـــدودِ أَرَ ُ‬
‫ف وذا ُيقَـبّـلُـــهُ الـــفَـــمُ‬
‫ُ‬ ‫هذا تَـنَـــشَـــقُـــهُ الُنـــو‬
‫وردين ور ٌد يُلـــــثَـــــــم‬ ‫ت فـأفـــضَـــلُ ال‬ ‫وإذا عَـدَلْـ ُ‬
‫حمْرَتهِ الـدّمُ‬ ‫صبْغَ ُ‬ ‫ل وَ ْردَ إل ما توَلّى َ‬
‫شمَمُ‬ ‫ش ّم ول يُضَ ّم وذَا يُض ّم ويُ ْ‬ ‫هذا يُ َ‬
‫دَ شـقـائقـًا تُـتَـــنَـــسّـــ ُم‬ ‫سبْحان من خلق الخدو‬ ‫ُ‬
‫ي بـهـا شـقــيق ُيعْـــلَـــمُ‬ ‫وأَعـارَهـــا الصـــداغَ فـــه‬
‫ي بـلَـحْـظِـهـا تـتـكــلّـــم‬ ‫ن فَـــه‬‫واسـتـنـطَـقَ الجـفــا َ‬
‫سِرّ الـحـبـيبِ فــيفـــهَـــمُ‬ ‫وتُـبِـينُ لـلـمـحـبــوبِ عَـــنْ‬
‫بَ بـلَـحْـظِـهـا فـتُـسـلّـــم‬ ‫وتـشــير إن رأتِ الـــرقـــي‬
‫ب وتَسْ َقمُ‬ ‫ح بهِ القلو ُ‬ ‫وأَعارَها مَرضاً تصِ ّ‬
‫ِفتَـن الـخــدودِ وأَعـــظـــمُ‬ ‫ِفتَنُ العيون َأجَل من‬
‫وقال‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ن َك ْيدَ الـرقـيب‬‫فينا فما أَهْوَ َ‬ ‫إنْ كانتِ اللحاظُ رُسْلَ القلوب‬
‫خدّ الـحـبـيبْ‬ ‫يعلَمْ بتقبيليَ َ‬ ‫ت مَنْ أَهوى بعينـي ولـم‬ ‫قبّلْ ُ‬
‫طنَةَ المسترِيب‬ ‫حظِ عيني ِف ْ‬ ‫بلَ ْ‬ ‫ل ِكنّه قد فَـطِـنَـتْ عَـيْنُـهُ‬
‫عنّا فعِند اللّحْظِ عِ ْلمُ الغـيوب‬
‫َ‬ ‫ستَخْفِـياً‬ ‫ب مُ ْ‬ ‫إن كان علمُ الغي ِ‬
‫وقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫تَأْتي سَرِيعاً من جُمـادَى‬ ‫قالوا الرحيل لـخـمـسةٍ‬
‫حزْنَ زادا‬‫تُ له الَسَى وال ُ‬ ‫جبْتـهـ ْم إنـي اتّـخَـذْ‬ ‫فأ َ‬
‫بين الحِـبّة والـبِـعَـادا‬ ‫ن مَنْ قَسـم السـى‬ ‫سبحا َ‬
‫ق به الـعـبَـادا‬‫نًا تستَ ِر ّ‬ ‫وأَعارَ للَجـفـانِ حُـسْ‬
‫وقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫نعـي ٌم مُـطَـرّ ٌز بـعـذَابِ‬ ‫صدْغِ فوق تفّاحة الخدّ‬ ‫عَقْرَب ال ّ‬
‫مانِعاتٌ جَنى الثنايا الـعِـذَابِ‬ ‫وسيوفُ اللحاظ في كلّ حِـينٍ‬
‫بَةِ وال َمنْـعِ رؤيةَ الحـبـابِ‬ ‫سدْن بالـرّقْ‬ ‫وعيونُ الوشا ِة يُ ْف ِ‬

‫‪229‬‬
‫بالتدانِي حرَار ُة الكـتـئابِ؟‬ ‫طفَـى‬
‫ب وتُ ْ‬
‫شتَفي المحِ ّ‬
‫فمتى يَ ْ‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫عند العَذُول ف َيغْدو وهو َيعْذِرُنـي‬ ‫عذَا َريْه قد قاما ِبمَعْـذرتـي‬ ‫ترى ِ‬
‫عقْداً من الحُسْنِ أَ ْو نَوْعًا من الفتَنِ‬ ‫ِ‬ ‫رِيمٌ كأنّ لـه فـي كـل جـارِحةٍ‬
‫حوِيهِ إل أَعْينُ الـفـطَـن‬ ‫فليس تَ ْ‬ ‫كأنَ جوهرَ ُه من لُطْفـه عَـرَضٌ‬
‫حرَتْ ألفـاظُـ ُه أذُنـي‬ ‫إل وقد سَ َ‬ ‫ل ما ف َتنَتْ عيني محـاسـنُـهُ‬ ‫وا ّ‬
‫خصٍ مرتضىً حَسَـنِ‬ ‫لنه كل شَ ْ‬ ‫ن عنه لحظَها مَلَـلً‬ ‫ما تُصد ُر العي ُ‬
‫ول ُتعَذبْ ظُنوني فيك بالظّـنـن‬ ‫يا منتَهى أمَلِي ل ُتدْنِ لي أجَـلـي‬
‫ك َقدّ قُـ ّد مِـن غُـصُـنِ‬‫فإنَ ق ّد َ‬ ‫إنْ كان وجهُك وجهاً صِي َغ من قمرٍ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫على ذلك الشخص البعيدِ المُـ َودّع‬ ‫أل يا نسيمَ الريح عرّجْ مسـلّـمـاً‬
‫ت من نار َأضْلُعي‬ ‫سمُوماً بما استمَليْ َ‬
‫َ‬ ‫سمِي بعَـادُهُ‬ ‫وهُبّ على مَنْ شَفّ جِ ْ‬
‫شتَاقٍ بـحـبّـك مُـوجَـعِ‬‫س ُم ْ‬
‫َتنَف ُ‬ ‫ن قال‪ :‬ما هذا الحَرورُ؟ فقل له‪:‬‬ ‫فإ ْ‬
‫ومختارُ شعره كثير‪ ،‬وقد تفرّق منه قطعة كافية في أعراض الكتاب‪.‬‬
‫قال الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جدُ؟‬ ‫وقد أنجدَتْ دارًا فهل أنت ُمنْ ِ‬ ‫سعِد؟‬ ‫سعْدَى فهل لك مُ ْ‬ ‫لقد رحلَتْ ُ‬
‫عدُ ُب ْعدَ النَجْمِ بل هي أبْـعَـدُ‬‫َتبَا َ‬ ‫رعيتُ بطرفي النجْ َم لمّا رأيتهـا‬
‫ويشغل منها الطرف دُ ٌر مبَـدّد‬ ‫تُنيرُ الثريّا وهي قرص مسلسـل‬
‫ل من سكرٍ بـهـا وتَـمـيّدُ‬ ‫تَمي ُ‬ ‫وتعت ِرضُ الجوزاءَ وهي ككاعب‬
‫ترشّحَ بعدَ المشْيِ وهو مُـقَـّيدُ‬ ‫طوْراً أسِـيرَ جِـنَـايةٍ‬
‫وتحسبها َ‬
‫ل مِنْ غمدٍ جُرَا ٌز مهـنّـدُ‬ ‫كما سُ ّ‬ ‫ولحَ سُهيلٌ وهو للصُبح رَاقِـبٌ‬
‫دناني ُر لكن السمـاءَ َزبَـ ْرجَـدُ‬ ‫ط ْرفِي في النجوم كأنـهـا‬ ‫أ َر ّددُ َ‬
‫ح مم ّردُ‬ ‫صرْ ٌ‬‫قناديلَ والخضراءُ َ‬ ‫رأيتُ بها‪ ،‬والصبح ما حانَ و ْردُهُ‪،‬‬
‫ح ت ْكبُو وتركدُ‬ ‫إذا ما جرى فالري ُ‬ ‫وفيه لنا من مربط الشمسِ أشقرٌ‬
‫وقال أبو علي الحاتمي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سكَرُ‬
‫عْ‬‫إلى أن َبدَا للصُبح في الليل َ‬ ‫وليل أقمنا فيه نُ ْعمِـل كـأْسـنـا‬
‫ب مُـ َدنّـرُ‬
‫على حُلّةٍ زَ ْرقَاءَ جَـ ْي ٌ‬ ‫ونَجْمُ الثريا في السـمـاء كـأنـه‬
‫البحتري‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫أعجازَها بعزيمةٍ كالـكـوكَـ ِ‬
‫ب‬ ‫س َريْتُ مع الكواكب راكـبـاً‬ ‫ولقد َ‬
‫هو في حُلُو َكتِه وإن لم َينْـعَـبِ‬ ‫والليلُ في لونِ الغُـرَابِ كـأنـه‬
‫شيَبِ‬
‫ب عن ال َقذَالِ ال ْ‬‫صبّغ الخِضَا ِ‬ ‫ِ‬ ‫س َتنْصُ ُل من دُجَاه كما انجلَى‬ ‫والعِي ُ‬

‫كالما ِء يَ ْلمَعُ من خِلَلِ الطُحُْلبِ‬ ‫حتى تبدّى ال َفجْرُ من جَنبَـاتِـه‬


‫وقال المير أبو الفضل الميكالي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫جرّد من سَوَادِ قِرَابِ‬
‫كالسيف ُ‬ ‫ب الدّجى‬ ‫ج ٍر قد نَضى ثو َ‬ ‫أهلً بفَ ْ‬
‫ما بين ُثغْ َرتِها إلـى التـراب‬ ‫أو غادةٍ شقّتْ صِـداراً أزرقـاً‬
‫ل من بني الحارث بن كعب يصف الشمس‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقال رج ٌ‬
‫خفَى وأمّا بالنهار فـتـظـهـرُ‬ ‫فتَ ْ‬ ‫مخبأَة أمّـا إذا الـلـيلُ جَـنّـهـا‬
‫دُجَى الليلِ وانجابَ الحِجَابُ المستر‬ ‫إذا انشقّ عنها ساطِعُ الفَجْرِ وانْجَلَى‬
‫صفَرُ‬‫ب ُمعَ ْ‬ ‫على الفق الش ْرقِي ثو ٌ‬ ‫وألبس عرض الرضِ لوناً كأنـهُ‬
‫ل للعينِ القصير ِة مَنـظَـرُ‬ ‫ولم يع ُ‬ ‫تجلّتْ وفيها حين َي ْبدُو شعـاعُـهـا‬
‫ع تَلَل فهو أبيضُ أَصـفـرُ‬ ‫شعَا ٌ‬ ‫عليها كَ َردْع الزعـفـرانِ يشـبّـه‬
‫وجاَلتْ كما جَالَ المَنيحُ المشهَـرُ‬ ‫فلما عَلتْ وابيضّ منها اصفرارُها‬
‫بحرّ لها َوجْهَ الضّحَى تتـسـعـر‬ ‫ت الفـاقَ ضـوءاً ينـيرهـا‬ ‫وجلَل ِ‬
‫ت عن الرض ُينْشَـر‬ ‫تَراه إذا زال ْ‬ ‫ترى الظل يُطْوَى حين َت ْبدُو وتـارةً‬
‫تعود كما عادَ الكبيرُ المـعـمـر‬ ‫ت إذْ أشرقَت في َمغِيبـهـا‬ ‫كما بدأَ ْ‬
‫َيبِين إذا ولَت لـمـن يتـبـصَـرُ‬ ‫و َتدْنَفُ حتى ما يكادُ شـعـاعُـهـا‬
‫حيَا كـل يومٍ وتـنـشـرُ‬ ‫تموتُ وت ْ‬ ‫فَأ ْفنَت قروناً وهْيَ في ذاك لم تزَلْ‬
‫أحسن ما قالته العرب في الجاهلية‬
‫وقال عبد الملك بن مروان لبعض جلسائه يوماً‪ :‬ما أَحكم أربعة أبياتٍ قالتها العرب في الجاهلية؟ فأنشده‪ :‬الكامل‪:‬‬

‫‪230‬‬
‫وطلوعُها من حيث ل تمسي‬ ‫منع البقاءَ تقلّب الـشـمـسِ‬
‫وغروبُها صفراءَ كالـ َورْسِ‬ ‫وطلوعُها بيضـاءَ صـافـيةً‬
‫جرِي حِمامُ الموتِ في النفْسِ‬ ‫يَ ْ‬ ‫تجرىِ على َكبِدِ السماء كمـا‬
‫ومضَى ب َفصْل قضائِه َأمْـسِ‬ ‫اليوم َتعْلَـم مـا يجـي ُء بِـه‬
‫قال‪ :‬أحسنت‪ ،‬فأخبرني بَأمْدح بيتٍ قاَلتْه العرب في الشجاعة‪ ،‬قال‪ :‬قول كعب بن مالك النصاري‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ُقدُماً‪ ،‬ونلحقها إذا لم تـلـحـقِ‬ ‫خطْوِنا‬ ‫نَصِلُ السيوفَ إذا قصُرْنَ ب َ‬
‫قال‪ :‬فأخبرني بأفضل بيتٍ قيل في الجود‪ ،‬فأنشده لحاتم طيئ‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫صدْرُ‬‫ق بها ال َ‬ ‫حشْ َرجَتْ يوماً وضا َ‬ ‫إذا َ‬ ‫أماويّ‪ ،‬ما ُيغْني الثراءُ عن الفَـتَـى‬
‫وأنّ يدِي ِممّا بَخِلْـتُ بـه صِـفْـرُ‬ ‫تَرَيْ أنّ ما أبـقـيْتُ لـم أكُ َربّـهُ‬
‫ث والذكْـرُ‬ ‫ويبقَى من المالِ الحادي ُ‬ ‫ألـم تـرَ أنَ الـمـالَ غـادٍ ورائحٌ‬
‫فكلّ سَقانَا ُه بكأسيهـمـا الـدَهـرُ‬ ‫صعْلـك والـغِـنـى‬ ‫غنِيْنا زماناً بالت َ‬ ‫َ‬
‫غنَاناً‪ ،‬ول أَزرى بأحسابِنا الفَـقْـرُ‬ ‫ِ‬ ‫فما زادَنا َبغْياً علـى فـذي قـرابةٍ‬
‫قال‪ :‬فأخبرني عن أحسَن الناس وصفاً‪ ،‬قال‪ :‬الذي يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لدَى َو ْكرِها ال ُعنّاب والحَشَفُ البَالي‬ ‫كأن قلوب الطيرِ َرطْبـاً ويابـسـاً‬
‫والذي يقول‪ :‬الطويِل‪:‬‬
‫ج ْزعُ الذِي لم ُيثَقبِ‬ ‫وأرحُلِنا ال َ‬ ‫خبَائِنا‬‫حشِ حول ِ‬ ‫ن عيونَ الوَ ْ‬ ‫كأ َ‬
‫والذي يقوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حجُرْ‬ ‫ومن خَالِه ومن يزيدَ ومِنْ ُ‬ ‫ف فيه من أبيه شَـمـائلً‬ ‫وتعرِ ُ‬
‫سكِـرْ‬
‫صحَا وإذا َ‬ ‫ونائلَ ذَا‪ ،‬إذا َ‬ ‫سماح َة ذَا‪ ،‬مع بِ ّر ذَا‪ ،‬ووفا َء ذَا‬
‫يريد امرأ القيس‪.‬‬
‫ومن ألفاظ أهل العصر‬
‫في طلوع الشمس وغروبها‬
‫ومتوع النهار وانتصافه‪ ،‬وابتدائه‪ ،‬وانتهائه‬
‫ت مشا ِرقُها‪ ،‬وانتشر جناحُ الضوء في‬ ‫ت قِناعَها‪ ،‬ونثرتْ شُعاعَها‪ ،‬وارتفع سُرادِقُها‪ ،‬وأضاء ْ‬ ‫جبُ الشمس‪ ،‬ولمعَتْ في أجنحَة الطيرِ‪ ،‬وكشفَ ْ‬ ‫بدا حا ِ‬
‫شبَابُ النهار‪ ،‬وعل رونق الضحى‪ ،‬وبلغت‬ ‫طنّب شعاعُ الشمس في الفاق‪ ،‬وذهبَتْ أطراف الجدران‪ .‬أينع النهار وارتفع‪ .‬استوى َ‬ ‫أفق الجو‪َ .‬‬
‫جمَراتِ الظهر‪ .‬اصفرَتْ غِلَلَةُ الشمسِ‪ ،‬وصارت كأنها الدينارُ‬ ‫جرَة‪ ،‬ورمَت الشمس ب َ‬ ‫الشمسُ كبد السماء‪ .‬انتعل كل شيء ظله‪ ،‬وقام قائمُ الها ِ‬
‫ج ْنبُها للوُجوب‪.‬‬
‫شدّتْ َرحْلَها للرحيل‪ ،‬وتصوّبتْ الشمسُ للمغيب‪ ،‬وتضيّفتْ للغروب فَأذِن َ‬ ‫ت تِبراً على الصيل‪ ،‬و َ‬ ‫يلمعُ في قرارِ الماء‪ ،‬ونفضَ ْ‬
‫ت دَرج‬ ‫شاب النهارُ‪ ،‬وأقبل شبابُ الليلِ‪ ،‬ووقفت الشمسُ للعيان‪ ،‬وشافَهَ الليلُ لسان النهارِ‪ .‬الشمسُ قد أشر َقتْ بروجُها‪ ،‬وجنحت للغروب‪ ،‬وشافَه ْ‬
‫الوجوبِ‪ .‬الجوُ في أطما ٍر ُم ْنهَجَ ٍة من أَصائله‪ ،‬وشفوت مورّسَة من غَلَئله‪ .‬استتر َوجْهُ الشمسِ بالنّقَاب‪ ،‬وتوا َرتْ بالحجابِ‪ .‬كان هذا الم ُر من‬
‫ج ْفنَها‪ ،‬إلى أن تغمض طَرْفها‪،‬‬ ‫مطلع الفلق‪ ،‬إلى مجتمع الغَسَق‪ .‬فلنٌ يركبُ في مقدمة الصُبح‪ ،‬ويرجع في ساقة الشفق‪ ،‬ومن حين تفتحُ الشمس َ‬
‫ومن حين تسكنُ الطيرُ أوكارَها‪ ،‬إلى حينِ ينزلُ السّرَا ُة مِنْ أكوارِها‪.‬‬
‫ت بذكرِ الليلِ والنهار‪.‬‬ ‫صلَ ْ‬
‫مقامة لبي الفتح السكندري من إنشاء البديع‪ ،‬ات َ‬
‫ت من ال ُعمْرِ سائغه‪ ،‬ولبسْتُ من الدهر‬ ‫عمَاية‪ ،‬وأركضُ طِ ْرفِي لكل غَوَاية‪ ،‬حتى ش ِربْ ُ‬ ‫قال عيسى بن هشَام‪ :‬كنت وَأنا َفتِيّ السنّ أشدّ َرحْلي لكلّ َ‬
‫ح َبنِي في الطريق رَجُل لم أنكره من‬ ‫طئْتُ ظهْرَ المَرُوضةِ‪ ،‬لداء المفروضة‪ ،‬وصَ ِ‬ ‫سابغَه‪ ،‬فلما صاح النها ُر بجانب ليلي‪ ،‬وجمعتُ للمعادِ َذيْلِي‪ ،‬و ِ‬
‫سرْنا فلمّا حللْنا الكوف َة مِ ْلنَا إلى داره ودخلناها وقد بَقَل وجهُ‬ ‫ي و َمذْهَب صوفِيّ‪ ،‬و ِ‬ ‫سوء‪ ،‬فلمّا تخالينا‪ ،‬وحين تجالينا‪ ،‬س َفرَتِ القصّةُ عن أصل كوف ّ‬
‫ع علينَا البابُ‪ ،‬فقلْنا‪ :‬من القارعُ المُنتابُ؟ فقال‪َ :‬و ْفدُ الليل وبريده‪ ،‬وفَل الجوع‬ ‫جفْنُ الليل وطَرّ شا ِربُه قُر َ‬ ‫النهار‪ ،‬واخضرّ جانبُهُ‪ ،‬ولما اغتمض َ‬
‫جيْبِ المَرقوع‪ ،‬وغريب أُوقِدت‬ ‫وطريده‪ ،‬وأسير الضرّ‪ ،‬والزمن المرّ‪ ،‬وضيفٌ وطْؤُه خفيف‪ ،‬وضالته رَغِيف‪ ،‬وجا ٌر يَس َتعْدِي على الجوع‪ ،‬وال َ‬
‫عيْشُه تبريح‪ ،‬ومن دون أفراخه‬ ‫ت بعده العَرَصَات‪ ،‬فنِضْوُه طَليح‪ ،‬و َ‬ ‫النارُ على سفره‪ ،‬ونبحَ العَوّاء في أثره‪ ،‬و ُنبِذت خَلْفه الحُصياتُ‪ ،‬و ُكنِسَ ْ‬
‫َمهَامِهُ فيح‪.‬‬
‫ف العودِ‪ ،‬على أح َر من‬ ‫عرِض عَ ْر ُ‬ ‫ك نَوَالً‪ ،‬فقال‪ :‬ما ُ‬ ‫ث وبع ْث ُتهَا إليه‪ ،‬وقلتُ ِز ْدنَا سؤالً ن ِزدْ َ‬ ‫ت من كيسي َقبْضَةَ اللي ِ‬ ‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فقبَضْ ُ‬
‫ت فحقّق ال أملَك‪،‬‬ ‫ف بين ال والناس‪ ،‬وأما أَن َ‬ ‫نار الجُودِ‪ ،‬ول لُقيَ َوفْد البِرّ‪ ،‬بأَحسن من بريد الشكر‪ ،‬ومن ملك الفَضْل فَلْيواس‪ ،‬فل َيذْهبُ العُ ْر ُ‬
‫وجعَل اليدَ العُ ْليَا لك‪.‬‬
‫ت بك الخَصَاصَةُ‪ ،‬وهذا الزيُ خاصة! فتبسّم‬ ‫قال عيسى بن هشام‪ :‬ففتحْنا البابَ‪ ،‬فإذا شيخُنا أبو الفتح السكندري‪ ،‬فقلْنا‪ :‬يا أبا الفتح‪ ،‬شدّ ما بلَغ ْ‬
‫وأنشأ يقول‪ :‬مجزوء الخفيف‪:‬‬
‫أنـا فـيه مـن الـطَـلـــبْ‬ ‫ل يَغـــ َزنَـــكَ الــــذي‬
‫أنا في بُ ْردَة تُشَقّ لها بُ ْردَةُ الطَ َربْ‬
‫تُ شِـقَـاقـًا مـن الـذهَــبْ‬ ‫خذْ‬
‫أنا لو شِئتُ لت َ‬
‫عذْراً‪ ،‬وإن كان في الظاهر َمهَابة سيْف‪ ،‬إنه في الباطن سحابةُ‬ ‫وكتب البديعُ إلى بعض إخوانه‪ :‬غضبُ العاشقِ أقصرُ عمرًا من أن ينتظِرَ ُ‬
‫ن بينهما مساغاً‪ ،‬ول وال ل أرِيكَ‬ ‫صفْحاً؛ أفجدَاً قصدَ أ ْم مَزْحاً‪ ،‬ولو التبس القَ ْلبَان حق التباسهما ما وجد الشيطا ُ‬ ‫صيْف‪ ،‬وقد رَابَني إعراضه َ‬ ‫َ‬
‫صدَ مَزحاً فما أغناها عن مَزْح يحل عُقَد الفؤاد حتى نقف‬ ‫شتَرى بحبّةٍ‪ ،‬وإنْ كان ق َ‬ ‫جدَرُ محبة‪ ،‬أل تُ ْ‬ ‫شكّا ل ْ‬ ‫جدُ من ُه بدّا‪ ،‬وإن محبة تحتمل َ‬ ‫َردّا‪ ،‬أ ِ‬
‫على المراد‪ ،‬ول تسعنا إل العافية والسلم‪.‬‬
‫صدْر‪ ،‬ل ينفذه بصر‪ ،‬ول يُد ِركُه نَظَر‪ ،‬ولكنها ُتعْرَف ضرورة‪ ،‬وإن لم تظهر‬ ‫غيْب‪ ،‬وهو في مكان من ال ّ‬ ‫وله إليه‪ :‬المودة ‪ -‬أعزَك ال ‪َ -‬‬

‫‪231‬‬
‫صُورَة‪ ،‬ويدرِكها الناس‪ ،‬وإن لم تدركها الحوَاس‪ ،‬ويس َتمْلي المرءُ صحي َفتَها من صدره‪ ،‬ويعلم حالَ غيرِه من نفسه‪ ،‬ويعلم أنها حبّ وراء القلب‪،‬‬
‫وقلب وراء الخِلب‪ ،‬وخِلْب وراءَ العَظم‪ ،‬وعَظمٌ وراء اللحم‪ ،‬ولحم ورَاءَ الجلد‪ ،‬وجلد وراء البُرْد‪ ،‬وبُرد وراء البعد‪ .‬ولو كانت هذه الحجُبُ‬
‫ل عليها بغيرِ هذه الحاسة بدليل إل أن أزوره‪ ،‬وال لو التبست به التباساً‪ ،‬يجعل رأسينا رأساً‪ ،‬ما زدته وداً‪ ،‬ولو‬ ‫قوارير لم ينفذها نظر‪ ،‬فيستَدِ ّ‬
‫حال بيني وبينه سُورُ العرافِ‪ ،‬ورمْلُ الحقافِ‪ ،‬ما نقصته حقاً‪.‬‬
‫وقال المير أبو الفضل الميكالي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫فجازَى بالصدّ والنتحـاب‬ ‫ل مَنَحتُه ظهرَ الـودّ‬ ‫وغَزَا ِ‬
‫ردني والِهَ الفؤاد ِلمَا بـي‬ ‫لم ألمهُ إن ردني لحجـابٍ‬
‫حجَابِ‬ ‫ح تَوَارٍ عن ال َورَى ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫هو روح وليس ُي ْنكَر للـرّو‬
‫ن ِذكْرِي من قلبك‪،‬‬ ‫ن ُبعْدِي على ُقرْبك‪ ،‬ول تمحوَ ّ‬ ‫جنِي ّ‬
‫وللبديع إلى أخيه‪ :‬كتابي أطال ال بقاءَك‪ ،‬ونحن وإن َب ُعدَتِ الدا ُر فَرعَا نَ ْبعَة‪ ،‬فل يَ ْ‬
‫فالَخَوَان‪ ،‬وإن كان أحدُهما بخراسان والخر بالحجاز‪ ،‬مجتمعان على الحقيقةِ مفترقان على المجاز‪ ،‬والثنان‪ ،‬في المعنى واحد وفي اللفظ‬
‫اثنَانِ‪ ،‬وما بيني وبينك إل ستر‪ ،‬طولُ ُه فِترُ‪ ،‬وإن صاحبني رَفيق‪ ،‬اسمه توفيق‪ ،‬لنلتقينّ سريعًا ولنسعدَنّ جميعاً‪ ،‬والُّ وليُ المأمول‪.‬‬
‫ق يمثّلك‪،‬‬ ‫ب ‪ -‬أيّدك الّ ‪ -‬محلّك على تراخِيه‪ ،‬وتَصاقَب مستقرّك على تَنَائيه‪ ،‬لنّ الشو َ‬ ‫وكتب أبو الفضل بن العميد إلى بعض إخوانه‪ :‬قد ق ُر َ‬
‫والذكر يخيّلك؛ فنحنُ في الظاهر على افتراق‪ ،‬وفي الباطن على تلق‪ ،‬وفي التسميةِ ُمتَباينون‪ ،‬وفي المعنى متواصلُون‪ ،‬وإن تفارقت الشباحُ‪،‬‬
‫لقد تعانقت الرواح‪.‬‬
‫جملة من كلم ابن المعتز‬
‫في الفصول القصار‬
‫ب يُسَارُ بهم وهم نِيام‪ .‬والناسُ َو ْفدُ البِلَى‪ ،‬وسكّان الثّرَى‪ ،‬وَأقْران الرّدىَ‪ .‬المر ُء نُصْبُ الحوادثِ‬ ‫الدهرُ سريعُ الوثبة‪ ،‬شنيع ال َعثْرَة‪ .‬أهلُ الدنيا ك َركْ ٍ‬
‫سرُ‬
‫ص َينْقُصُ المر َء من َقدْرِه‪ ،‬ول يزيدُ في رِزْقه‪ .‬الكذب والحسدُ والنفاق أَثافِيّ الذل‪ .‬النّمام ج ْ‬ ‫حرْ ُ‬ ‫وأسيرُ الغترار‪ .‬المالُ حَصَا ِئدُ الرجالِ‪ .‬الْ ِ‬
‫الشرّ‪ .‬الحاسدُ اسمُه صديق ومعناه عدو‪ .‬الحاسدُ ساخِطٌ على القدَر‪ ،‬مغتاظٌ على من ل ذنْبَ له‪ ،‬بخيل بما ل يمِلكُه‪ ،‬يشفيك منه أنه يغتمّ في وقت‬
‫سلّم الشرف‪ ،‬والجُودُ صِوَانُ‬ ‫ت بَطيئةُ العَوْد‪ .‬الصب ُر من ذي المصيبة مصيبةٌ على ذوِي الشّمات‪ .‬التواضعُ ُ‬ ‫سرورِك‪ .‬الفُرْصَة سريعةُ الفَ ْو ِ‬
‫عبْدُ الشهوة أَذلّ من عبد‬ ‫العرْضِ من الذمّ‪ .‬الغَدر قاطع السرار إذا كثر خُزانها ازدادت ضياعاً‪ .‬السوءُ كشجرة النار يَحْرِق بعضُها بعضاً‪َ .‬‬
‫ق يلحم‪ .‬الوَعْدُ مرضُ المعروف‪ ،‬والنجازُ برؤه‪ ،‬والمَطْل تلفه‪ .‬إذا حَضرَ الجل‪ ،‬افتضح‬ ‫صمْت يختم‪ ،‬والخرق بالرفْ ِ‬ ‫الرقّ‪ .‬وعاء الخطأ بال ّ‬
‫المل‪ .‬ل تشَنْ َوجْهَ العفوِ بالتقريع‪ .‬ل تنكحْ خاطبَ سِرك‪ .‬ومن زَاد َأ َدبُه على عقله كان كالراعي الضعيف مع شا ٍء كثيرة‪.‬‬
‫قال أبو العباس الناشئ لبي سهل بن نوبخت‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ضُروبًا من الداب يجمعُها ال َكهْلُ‬ ‫زعمت أبا سهل بأنـك جـامـعٌ‬
‫تكونُ لذي عِلْمٍ وليس له عَـقْـلُ‬ ‫وهبكَ تقولُ الحقّ أي فـضـيلةً‬
‫والهمّ حبس الروح‪ .‬قلوب العقلءِ حصونُ السرار‪ .‬مَن ك ُرمَت عليه نفسه هان عليه ماله‪ .‬من جرى في عنان أمله؛ عثر بأجَلِه‪ .‬ما كل من‬
‫ن إنجازه‪ .‬ربما أوردَ الطمع ولم يصدِر‪ ،‬وضمن ولم يوفِ‪ .‬وربما شرق شارب الماءِ قبل ريّه‪ .‬من تجاوزَ الكفافَ لم يقنِعه‬ ‫ن وعدَه يحس ُ‬‫يُحْسِ ُ‬
‫إكثار‪ .‬كلّما عظُم قَدرُ ال ُمنَافَسِ فيه عظمت الفجيعةُ بفَ ْقدِه‪ ،‬ومن أَ ْرحَلَهُ ا ْلحِرْص أنضَاه الطلب‪ .‬الماني تعمي أعيُنَ البصائر‪ ،‬والحظ يأتي من لم‬
‫يؤمه‪ .‬وربما كان الطمع وعَاءً حَشوه المتالف‪ ،‬وسائقًا يَدعُو إلى الندامة‪ .‬ما أحْلَى تلقّي البغية‪ ،‬وأمرّ عاقبة الفراق‪ .‬من لم يتأمل الم َر بعَينِ‬
‫عقله‪ ،‬لم تَقَعْ حيلتُه إل على مَقَاتِلِه‪.‬‬
‫من شعر أبي العباس الناشئ في التعزية‬
‫وقال أبو العباس يَرثي المعتضد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إماماً إمـام الْـخَـلـق بـين َيدَيْه‬ ‫قضَوا ما قضَوا من أَمرهم ثم قدّموا‬
‫صفوفٌ قيام لـلـسـلمِ عـلـيه‬ ‫وصلّوا عليه خاشعـين كـأنـهـم‬
‫وقال يَرثيه الكامل‪:‬‬
‫قَلِقاً‪ ،‬وقد هدأَتْ عـيونُ الـنّـومِ‬ ‫قالت شريرة ما لجَفنِك سـاهـراً‬
‫صدْرِ ما لم َتعَْلمِي‬ ‫هذا‪ ،‬وتحت ال َ‬ ‫ما قد رأيت من الزمانِ أحل بـي‬
‫فهو المليء بما كر ْهتِ فسلّمـي‬ ‫يا نفس‪ ،‬صبراً للزمـانِ ورَيبِـه‬
‫هو ذاك في َقعْرِ الضريحِ المُظْلمِ‬ ‫إن الذي حاز الفضائلَ كـلّـهـا‬
‫لوله لم يَرْ َويْن من سَفْـكِ الـدّم‬ ‫ف فمن صنائع بَـأْسـهِ‬ ‫أما السيو ُ‬
‫فمتى يؤخّرهن ل تـسـتـقـدم‬ ‫حدَاثَ الـزمـانِ عـبـيدهُ‬ ‫وكأنّ َأ ْ‬
‫ومعوّل لل ُمعْوِلٍ الـمـتـظـلّـم‬ ‫سنَة المضيّع قَـلْـبَـهُ‬ ‫يَقْظَان من ِ‬
‫فإذا رآها أم َكنَـتْ لـم يُحْـجـمِ‬ ‫يَرْعَى الضغائن قبل ساع ِة فرصةٍ‬
‫ل تلـهّـف وتَـنَـدّمِ‬‫شجَى بطو ِ‬ ‫تَ ْ‬ ‫ت فصارَتْ غصّةً‬ ‫كم فرصة تُ ِركَ ْ‬
‫ق متجـهّـمِ‬ ‫في بشْرِ وَجْ ٍه مطلَ ٍ‬ ‫سجُد بـعـدهـا‬ ‫ل يَ ْ‬ ‫ب َكيْدٍ ظ ّ‬‫ولر ّ‬
‫يرمين في نَفْس الجلّ العْظـم‬ ‫وهي المنايا إن رمين ب َنبْـلِـهـا‬
‫والخي ُل تعثر بال َقنَا المتـحـطّـم‬ ‫للّـ ِه دَرّك أي لـيث كـتــيبةٍ‬
‫حر ٌم ول السلم بالمستـسـلـم‬ ‫ولقد عمرت ول حريم مـعـانـد‬
‫وقال للمعتضد يعزّيه بابنهِ هارون‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫صدَقَ الناسِ في بُؤْسى وإنعـام‬ ‫وأَ ْ‬ ‫يا ناص َر الدينِ إذ ُهدّتْ قـواعِـدُهُ‬
‫ت بـإسْـرَاجٍ وإلـجـامِ‬ ‫مذلّـلَ ٍ‬ ‫ت مـآزرُهُ‬ ‫ل مـذ شُـدّ ْ‬ ‫وقائدَ الخي ِ‬

‫‪232‬‬
‫يهزّهَا الزّخرُ في كـرّ وإقـدا ِم‬ ‫كأنهن قناً ليسَـتْ لـهـا عُـقَـدٌ‬
‫تقرّبُ النا َر بين البيض والـهـامِ‬ ‫ي ثيابِ العَصْب مضمـرة‬ ‫قُبّ كط ّ‬
‫ن نُـوّامِ‬ ‫إذا حَلَ ال َغمْضُ في أجفا ِ‬ ‫س الملك يَرْعـاه ويكـلـؤُهُ‬ ‫وسائ َ‬
‫عدَا ُه قاطـ ٌر دامِـي‬
‫ونَصلُه مِنْ ِ‬ ‫َتمْرِي أنَامِلُه الدنيا لصـاحـبـهـا‬
‫تَلْقى ال َرّدَى دونَه‪ ،‬والفُوقُ للرامِي‬ ‫س ْهمِ يبعثهُ الرّامِي فصفحـتـهُ‬ ‫كال ّ‬
‫حدّ صمـصـامِ‬ ‫ص ْعدَةٍ أو َ‬
‫إل إلى َ‬ ‫طبٌ أل ّم بـهِ‬ ‫شتَكي الدّهرَ إنْ خَ ْ‬‫ل يَ ْ‬
‫وإن طُوِينَا على حُزْنٍ وتـهـيام‬ ‫صبرًا ف َد ْينَاك إنّ الصبرَ عادَتُـنَـا‬
‫إنَ الجزوعَ صبُـو ٌر بـعـد أيامِ‬ ‫صبْر محتَسِبـاً‬ ‫فبادِر الجْ َر نحو ال ّ‬
‫ولما ماتت دُريدة‪ ،‬وهي جارِي ٌة المعتضد‪ ،‬وكانت َمكِينة عنده‪ ،‬جزع عليها جزعًا شديداً‪ ،‬فقال له عبيد ال بن سليمان‪ :‬مثلُك يا أمي َر المؤمنين‬
‫َتهُون عليه المصائبُ؛ لنّك تج ُد من كل فقيدٍ خَلَفاً‪ ،‬وتنالُ جميعَ ما تريد من العِوَض‪ ،‬والعِوَض ل يوجَد منك‪ ،‬فل ا ْبتَلى ال السلم بف ْقدِك‪،‬‬
‫عنَى أمير المؤمنين بقوله‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫عمْرك‪ ،‬وكأنّ الشاعر َ‬ ‫وعمره بطولِ بقاء ُ‬
‫ظ أكبادًا من البـلِ‬ ‫غلَ ُ‬
‫لنَحْنُ أ ْ‬ ‫حدٍ‬ ‫ُيبْكَى علينا ول َن ْبكِي على َأ َ‬
‫فضحك المعتضد وتسلّى وعاد إلى عادته‪.‬‬
‫قال محمد بن داود الجراح‪ :‬فلقيني عبيدُ ال فأخبرني بذلك‪ ،‬وقال‪ :‬أردت شعراً في معنى البيت الذي أنشدته فما وجدته؛ فقلت له‪ :‬قد قال البطين‬
‫البجلي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بهـم كُـنـت أعْـطِـي مَـنْ أشـاء وأمـنـعُ‬ ‫طوى الـمـوتُ مـا بـينـي وبــين أَحـــبّةٍ‬
‫ت نَــجْـــ َزعُ‬ ‫تَلِـينُ‪ ،‬ول أنـا مـن الـمـو ِ‬ ‫فل يحـسـب الـوَاشُـون أن قَـنـاتَـــنـــا‬
‫للّف ل بدّ لَوْعَةًإذا جعلت أقرانها تتطلَعُ‬ ‫ولكنّ ل ُ‬
‫ت عنه‪.‬‬ ‫فكتبه‪ ،‬وقال‪ :‬لو حفظته لما عدل ُ‬
‫رجع إلى ابن المعتز‬
‫وقال ابن المعتز‪ ،‬وذكر الموتى‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ب بعضٍ في المحلة من َبعْضِ‬ ‫على قُرْ ِ‬ ‫وسُـكّـانِ دا ٍر ل تَـزَاوُرَ بـينـهــم‬

‫فليس لها حتى القيامة من فَضّ‬ ‫كأن خواتيما من الطينِ فوقهـم‬


‫وقال يمدح عبيد ال بن سليمان‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إليّ قريبـاً كـنـتُ أو نـازحَ الـدارِ‬ ‫صلَ ال ُن ْعمَى عـلـى كـلّ حـالةٍ‬ ‫أيا مُو ِ‬
‫وإن جادَ في أَرضٍ سِواها بـإمـطـار‬ ‫ث الـبـلدَ بـسَـيْلِـه‬ ‫كما يلحق الغـي ُ‬
‫يقسّم َلحْـمِـي بـين نـاب وأظـفـارِ‬ ‫ي مُـعْـرضٌ‬ ‫ويا مقبلً والدّهْـ ُر عـنـ َ‬
‫س ل يَرَوْنً بـَأبْـصَـارِ‬ ‫وكم مـن أنـا ٍ‬ ‫ت بِـقـلـبـهِ‬ ‫ن يَرَانِي حيث كنـ ُ‬ ‫ويا مَ ْ‬
‫ت بـمـقـدار‬ ‫عنْـ َ‬
‫فيا َل ْهفَ نفسِي لو أُ ِ‬ ‫ل نـفـسـيَ كـلّـهـا‬ ‫لقد ُرمْتَ بي آما َ‬
‫ورفعت ناري كي يرى ضوءها الساري‬ ‫ت مُنى سَـمْـع المـام وعـينـه‬ ‫ذكر َ‬
‫ل بـعـد إمـرار‬ ‫ترجى ومكروهٍ حَـ َ‬ ‫ف نِـقْـمَةٍ‬ ‫وكم نعمةٍ للّـهِ فـي صـرْ ِ‬
‫س بـضَـرّار‬ ‫ل ما تخشى النفـو ُ‬ ‫ول ك ّ‬ ‫وما كل ما َتهْوَى النـفـوس بـنـافـعٍ‬
‫قوله‪:‬‬
‫سيْله‬
‫كما يلحق الغيثُ البلدَ ب َ‬
‫ل من المدينة‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫مأخوذ من قول نهشل بن حري وقد بعث إليه كثير بن الصّ ْلتِ كسوةً وما ً‬
‫بني الصّلْتِ إخوانَ السماحةِ والمجدِ‬ ‫جزَى ال خيراً والجزاءُ بـكـفّـه‬
‫ض سيل من تهامة أو نجـدِ‬ ‫كما انق ّ‬ ‫أتاني وأَ ْهلِي بالـعـراق نـداهُـمُ‬
‫وقال ابن المَوْلى‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫كما سُرّ المسافِـ ُر بـاليَابِ‬ ‫ت بجعف ٍر إذْ حَل َأرْضِي‬ ‫سُ ِررْ ُ‬
‫غ ِنيّا عن مطالَعة السّحـابِ‬ ‫َ‬ ‫كممطو ٍر ببلدتهِ فأَضْـحَـى‬
‫ف دِرْهم فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وبعث عب ُد ال بنُ طاهر إلى أبي الجنوب بن أبي حفصة وهو ببغداد عشرين أل َ‬
‫ببغدادَ من َأرْض الجزيرةِ وَابِلُهْ‬ ‫لعمري لنعم ال َغيْثُ غيثٌ أصابنا‬
‫ح ْتنِي رسائِلُـهْ‬ ‫بعشرين ألفاً صب َ‬ ‫و ِنعْمَ الفتى والبِي ُد بيني وبـينـهُ‬
‫حمَـائلُـهْ‬
‫ولم تنتجَع أظعانُه و َ‬ ‫فكنّا كحيّ صبّحَ ال َغيْثُ أهـلـهُ‬
‫رواحلَنا سيرَ الفَلَةِ رَوَاحِـلُـهْ‬ ‫أتى جو ُد عبدِ ال حتى كفت بهِ‬
‫من أخبار عضد الدولة في شجاع‬
‫خذِ الكوفة سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة‪ ،‬فبعث أبو شجاع عضد‬ ‫وكانت بنو كلب ومن والَها من العرب بنواحي الكوفة تجمّعوا وع َزمُوا على َأ ْ‬
‫الدولة دِنير بن لشكروز فأصلحهما‪ ،‬وكان أبو الطيب المتنبي بها فوصله وبعث إليه خلعاً وقاد إليه فرساً بسَ ْرجٍ ثقيل‪ ،‬فقال في قصيدة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ب يُ ْؤثِرْنَ الجِيادَ علـى الهْـلِ‬ ‫غرائِ َ‬ ‫س ْرنَـا إلْـيه بـأنـفُـسٍ‬ ‫فلو لم يَسِرْ ِ‬
‫ويعتَلّ في تَ ْركِ الزيار ِة بالـشّـغْـل‬ ‫وما أنا ممن َيدّعِي الشَـوق قـلـبُـه‬

‫‪233‬‬
‫صدِ وال َفضْل‬‫فكان لكَ الفَضلنِ في القَ ْ‬ ‫ولكن رأَيت ال َفضْلَ في القَصْد شِـ ْركَة‬
‫كمَنْ جاءه فـي دَارِه را ِئدُ الـ َوبْـل‬ ‫ولـيسَ الـذي يتّـبّـع الـ َوبْـلَ رائداً‬
‫عود إلى ابن المعتز‬
‫ن المعتز يمدحُ أبا أحمد بن المتوكل‪ ،‬ويلقّب بالناصر والموفّق‪ ،‬وكانت حالُه ترامَت في أيام المعتضد إلى غاية لم يبلغها الخليفة‪ ،‬وقد‬ ‫وكان اب ُ‬
‫ذكرها الصولي في قصيدة لصاحب المغرب‪ ،‬فقال وقد اقتصّ خلفاء بني العباس من أوّلهم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يُ َر ّددُ من إرث الخلفةِ مـا ذَهـبْ‬ ‫ن بـعـده ومـوفـق‬ ‫ومعتضـد مِـ ْ‬
‫سبْ‬‫وإنْ لم يكن في العدّ منهم ِلمَن حَ َ‬ ‫مُوَازٍ لهم في كل فَـضْـل وسـؤدد‬
‫وقال المعتضد‪ ،‬أو قِيلَ على لسانه‪ ،‬لما غلب الموفّق على أمره‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ن ممتنعاً علـيهِ‬
‫يرى ما هَا َ‬ ‫أليس من العجائبِ أنّ مثلي‬
‫وما مِنْ ذاك شيء في يديهِ‬ ‫سمِه الدنيا جميعـاً‬ ‫وتؤخذ با ْ‬
‫وشعر ابن المعتز فيه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صبْحِ طَ ْرفٌ بالظل ِم كَـحـيلُ‬
‫ولل ُ‬ ‫إليك امتطينا العِيسَ تنفخ في البُرى‬
‫سيوفٌ جَلها الصّقْل فهي تحُولُ‬ ‫صدِينَ من ال ّتهْجِير حتى كأنـهـا‬ ‫َ‬

‫ص دائ ٌم و َذمِـــي ُ‬
‫ل‬ ‫ق ونَـ ّ‬
‫عنِـي ٌ‬
‫َ‬ ‫فب ْتنَا ضيوفاً للـفَـلَ ِة قِـرَاهُـمُ‬
‫نسي ٌم كنَ ْفثِ الراقـياتِ عَـلِـيلُ‬ ‫ق متونِهـا‬ ‫ب فَوْ َ‬
‫يهرّ بُرُودَ ال َعصْ ِ‬
‫ضبَ وهو فَـلِـيلُ‬ ‫بعَزْ ٍم يردّ العَ ْ‬ ‫ي رمـيتَـهُ‬ ‫ولمّا طغى َأمْ ُر الدّع ّ‬
‫ف كـاد يَسـيلُ‬ ‫ضتْه الك ّ‬ ‫إذا ما انت َ‬ ‫وجرّد من أغماده كل مُـرْهَـف‬
‫تنفس فيه ال َقيْنُ وهـو صـقـيلُ‬ ‫جرَى فوق َم ْتنَيه الفر ْندُ كأنـمـا‬
‫ي مُحُولُ‬ ‫وكيف تُروّى البيضُ وَهْ َ‬ ‫وأعلمته كيف التصافُح بالـقَـنَـا‬
‫جهُه فـجـمـيل‬ ‫فماضٍ‪ ،‬وأمّا َو ْ‬ ‫سريعٌ إلى العداء‪ ،‬أَما جنـابُـه‬
‫ف حين يَنـيلُ‬ ‫ويستصغرُ المعرو َ‬ ‫ويقْري السؤال ال ُعذْر من بَعد ماله‬
‫أخذ معنى قوله‪ :‬نسيم كنفث الراقيات عليل عبدُ الكريم بنُ إبراهيم‪ ،‬فقال‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫إلى القَصرِ وال ّنهَرِ الخِض ِرمِ‬ ‫سلمّ على طِيب رَوْحاتـنـا‬
‫ب يقذِفُ با ْلبَانِ والسـاسَـم‬ ‫إلى مُزبِدِ المَوْج طامِي العبَا‬
‫يكرّ على قَـطَـ ٍم مُـقْـرمِ‬ ‫ل به قَطَمـًا مُـقـرَمـاً‬ ‫تخا ُ‬
‫ن تَسـهّـم بـالنـجُـم‬ ‫َيمَا ٍ‬ ‫ويَسجو فيسحـب فـي ذائل‬
‫سقَم وهي َل ْم تَـسْـقَـمِ‬‫بها َ‬ ‫كأنّ الشمال علـى وَجـهِـه‬
‫على كبد ال ُمدْنف المُـغْـرَمِ‬ ‫ش كنَفْثِ الرّقـى‬ ‫ضعيفة َر ّ‬
‫حبَك الزّ َردِ المحْكـمِ‬ ‫ه في َ‬ ‫إذا دَرجَتْ فـوقـه دَرَجَـت‬
‫فروعٌ غَذتْها نِطَافُ الـسّـمِ‬ ‫وقد جللـتـهُ بـأَوراقِـهـا‬
‫كما سجَعَ الن ْوحُ في مَـأتـمِ‬ ‫علَتها الحمامُ بـتـغـريدهـا‬
‫على السوسن الغضّ والخُرّمِ‬ ‫كأن شعاعَ الضحَى بينـهـا‬
‫على خسـروَانـيّة نُـعّـم‬ ‫وشائع مـن ذَهَـب سـائل‬
‫عَزَالي الربيع لهَا المرْهِـمِ‬ ‫رُبًا تتفقـأ مـن فـوقـهـا‬
‫سدّى على جَدوَلٍ مفـعَـم‬ ‫تَ‬ ‫على كل مـحـبـية خـلة‬
‫وكالرقم انْسَابَ لـلَرقـم‬ ‫كما فتل ال َوقْفَ صَـوّاغُـه‬
‫ي يريد صاحب الزنج بالبصرة‪ ،‬وكانت شوكته قد اشتدت وظُفر به بعد مواقعة كثيرة‪ ،‬وفي ذلك يقول ابنُ‬ ‫وقول ابن المعتز‪ :‬ولما طغا أمرُ الدع ّ‬
‫الرومي في قصيدة طويلة جدًا يمدح فيها أبا أحمد الموفق بن المتوكل‪ ،‬وصاعد بن خالد‪ ،‬والعلء بن صاعد ابنه‪ ،‬وهي من أجود شعره‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫الطويل‪:‬‬
‫بلءً سيرضا ُه ابنُ عمك أحمَـدُ‬ ‫ت أمّة أحـمـدٍ‬ ‫أبا أَحمدٍ‪َ ،‬أبْـلَـيْ َ‬
‫قُواه‪ ،‬وأَودى زادُه الـمـتـز َودُ‬ ‫حصرت عميدَ الزنج حتى تخاذَلتْ‬
‫وظلّ‪ ،‬ولم تأسِرْه‪ ،‬وه َو مـقَـيدُ‬ ‫فظلّ‪ ،‬ولم تقتلْه‪ ،‬بلفظ نـفـسـهُ‬
‫تحيّفهَا شَحْذًا كـأنـكَ مِـبـ َردُ‬ ‫ت نواحِيه كثَافاً فـلـم تَـزَلْ‬ ‫وكانَ ْ‬
‫ويزدادهم جندًا وجندك محصَـدُ‬ ‫تفرّق عنه بالـمـكـايد جُـنْـدُهُ‬
‫أَض ّر له من كـاسـديه وأكْـ َيدُ‬ ‫ن بعد استلبِـه‬ ‫سيْفِ القرْ ِ‬ ‫ولبِسُ َ‬
‫مكان قناةِ الظهر أسمرُ أَجـ َردُ‬ ‫فما ُرمْته حتى استقلّ بـرَ ْأسِـه‬
‫هذا مأخوذ من قول مسلم بن الوليد البسيط‪:‬‬
‫لدْنا يقوم مقامَ اللّيتِ والجـيدِ‬ ‫ت قُّلتَهُ‬ ‫ق قد ركبْ ُ‬ ‫ورأس مهْرا َ‬
‫الطويل‪:‬‬

‫‪234‬‬
‫ح مم ّردُ‬ ‫رأى أن مَتنَ البحرِ صَرْ ٌ‬ ‫ولم تأل إنـذاراً لـه غـيرَ أنـ ُه‬
‫ب يلبـدُ‬
‫عَماسٍ‪ ،‬كذاك الليث لل َوثْ ِ‬ ‫س َكنْتَ سكوناً كان رَهْناً بـ َوثْـبةٍ‬
‫هذا مأخوذ من قول النابغة‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫على براثنِهِ‪ ،‬لِ َو ْثبَةِ الضارِي‬ ‫ث مُنقبضٌ‬ ‫وقلت يا قومُ إنّ اللّي َ‬
‫ويقول في مدح صاعد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ف إل أنـه ل يحـ ّددُ‬
‫ويوصَـ ُ‬ ‫ل دونـهُ‬ ‫ن مـا قـي َ‬ ‫يقرّظُ إل أ ّ‬
‫جدُ‬
‫شبَاهُ وَأنْ َ‬
‫طِباعاً‪ ،‬وَأمْضَى من َ‬ ‫حسَامِه‬ ‫أرق من الماء الذي في ُ‬

‫كما اكتنّ في ال ِغ ْمدِ الجُرَا ُز المهنّـد‬ ‫له سَ ْورَة مُـكْـتَـنةٌ فـي سَـكـينةٍ‬
‫صعَدُ‬
‫رأى كيف يَ ْرقَى في المعالي و َي ْ‬ ‫كأن أباه حـين سـمَـاه صـاعـداً‬
‫لما سمع البحتري هذا البيت قال‪ :‬مني أخذه‪ ،‬في قوله في العلء بن صاعد‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫قصدوا بذلك أنْ يتمّ عُلَهُ‬ ‫سماه أسرته العَلَء وإنما‬
‫وهذا في قوله‪ ،‬كما قال ابن المرزبان وقد أنشد لبن المعتز في مناقضة الطالبيين‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ول تدخلوا بين َأنْيَابـهـا‬ ‫سدَ تسكنُ في غابهَا‬ ‫دَعُوا ال ْ‬
‫ن بـهـدّابـهـا‬ ‫فَِل ْم تجذِبُو َ‬ ‫فنحن ور ْثنَا ثيابَ النـبـي‬
‫قال‪ :‬قد أخذه من أقول‪ ،‬بعض العباسيين‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫شبَالَهـا‬
‫ول تقربوها وَأ ْ‬ ‫سدَ تسكن أَغيالها‬ ‫دَعُوا ال ْ‬
‫ولكنه سرق سَاجاً‪ ،‬وردّ عاجاً‪ ،‬وغلّ قطيفة‪ ،‬وردّ دِيباجاً‪.‬‬
‫ومن قصيدة ابن الرومي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وآثارُه فيها‪ ،‬وإنْ غابَ‪ ،‬شُـهّـدُ‬ ‫حرْبِ العَوَانِ بمنـزل‬ ‫تراه على ال َ‬
‫على الخلق طُرّاً ليس عنه ُمعَ ّردُ‬ ‫كما احتجب المقدارُ والحكم حكمهُ‬
‫عدُ‬
‫حلّها= ُمتَقارِبٌ‪ ،‬ومرامها مُتَبا ِ‬ ‫البحتري‪ :‬الكامل‪? :‬وَليَ المورَ بنفسه‪ ،‬ومَ َ‬
‫أَقصى‪ ،‬ويَتبَعهُ الَبيّ العانِـدُ‬ ‫َيتَكَ َفلُ الدنَى‪ ،‬ويدْ ِركُ رأيَهُ ال‬
‫ب فَه َو مِنَ المهابة شاهدُ‬ ‫أوْ غا َ‬ ‫إنْ غا َر فَهوَ مِنَ النباهة منجِـدٌ‬
‫ن آمن‪،‬‬‫وقال أعرابي يصف رجلً‪ :‬كان إذا ولى لم يطابق بين جفونه؟ ويرسل العيونَ على عيوق؛ فهوغائبٌ عنهم‪ ،‬شاهد معهم‪ ،‬والمحسِ ُ‬
‫والمسيء خائف‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سدُ‬ ‫جّ‬ ‫ومسكن ذاك الرّوحِ نو ٌر مُ َ‬ ‫فتى رُوحه روحٌ بسيطٌ كـيانـه‬
‫ل مصعّـد‬ ‫إذا ما استش ّفتْه العقو ُ‬ ‫ى فكـأنـهُ‬ ‫صفَا ونَفَى عنه القذ َ‬ ‫َ‬
‫إذا َرجَزُوا فيكمْ أَثبتُم فقصـدوا‬ ‫كرمتمْ فجاش المفحمون بمدحِكمْ‬
‫مَنالَ الثريّا وهو أكمَ ُه مُقْـعَـد‬ ‫أَرى مَنْ تعاطى ما بلغتم كـرائمٍ‬
‫جمُ الطي ِر فيها يغ ّردُ‬ ‫حتْ وعُ ْ‬ ‫فأضْ َ‬ ‫عدْنٍ وأَثمرَتْ‬ ‫كما أزهرتْ جناتُ َ‬
‫وفي هذه القصيدة يقول‪:‬‬
‫يكون بكاءُ الطفلِ ساع َة يُولـدُ‬ ‫ِلمَا تُ ْؤذِنُ الدنيا به من صروفها‬
‫ح ممّا كان فـيه وَأرْغَـدُ‬ ‫لفسَ ُ‬ ‫ل فما يُبكِيه منهـا وإنـهـا‬ ‫وإ ّ‬
‫ف يَلْقَى من رداها ُيهَ ّددُ‬ ‫بما سو َ‬ ‫إذا أبصر الدنيا استهل كـأنـهُ‬
‫قال الصولي‪ :‬افتتح ابنُ الرومي هذه القصيدة على ما ل يلزمه من فتح ما قبل حَ ْرفِ الروي اقتداراً‪ ،‬فحمله ذلك على أن قال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ص ْن ِددُ‬
‫تقوّض َثهْلنٌ عليه و ِ‬ ‫متاحٌ له مقداره فكأنـمـا‬
‫ثهلن‪ :‬اسم جبل‪ ،‬وهذا ل يصحّ‪ ،‬إنما هو صندِد بكسر الدال؛ لن فعلَل لم يجئ إلّ في أربعة أحرف‪ :‬درهم‪ ،‬و ِهجْرَع للحمق‪ ،‬و ِهبْلَع للذي يبلعُ‬
‫كثيراً‪ ،‬وقلعم للذي يقلع الشياء‪.‬‬
‫وقول ابن المعتز في وصف السيف‪ :‬كأنما تنفّس فيه القيْنُ وهو صَقيل( معنى بديع في وصف الفرند‪ ،‬وقد قال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فما يُنتضَى إلّ لسَ ْفكِ دمـاءِ‬ ‫ولي صار ٌم فيه المنايا كوامنٌ‬
‫ق دون سـمـاءِ‬ ‫غيْمٍ ر ّ‬ ‫بقيّه َ‬ ‫ترى فوق َم ْت َنيْهِ الفِ ِر ْن َد كأنهُ‬
‫وقال أيضاً إسحاق بن خلف‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫أمضى من الجل المتاحْ‬ ‫ألقى بجانـب خـصـره‬
‫ء عليه أَنفاسُ الـرياحْ‬ ‫وكأنـمـا ذَرّ الـهـبـا‬
‫ف عمرو بن معد يكرب الذي يسمّى الصمصامة إلى الهادي‪ - ،‬وكان عمرو وهبه لسعيد بن العاص‪ ،‬فتوارثَه ولدُه إلى أن مات‬ ‫ولما صار سي ُ‬
‫المهدي‪ ،‬فاشتراه موسى الهادي منهم بمال جليل‪ ،‬وكان أوس َع بني العباس كفّا‪ ،‬وأكثرهم عطاء ‪ -‬ودعا بالشعراء‪ ،‬وبين يديه ِمكْتَل فيه بدْرَة‪،‬‬
‫فقال‪ :‬قولوا في هذا السيف‪ ،‬فبدر ابن يامين البصري فقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ن جميع النام موسى المـينُ‬ ‫ي من بي‬ ‫حاز صمصامةَ الز َب ْيدِ ّ‬
‫ت عليه الجفونُ‬ ‫غ ِمدَ ْ‬
‫خيرَ ما أ ْ‬ ‫عمْرو وكان فيما س ِمعْنا‬ ‫سيف َ‬
‫س فيه المنـون‬ ‫ف يَمي ُ‬ ‫من ذُعَا ٍ‬ ‫أخضر اللون بين خـديه بـردٌ‬

‫‪235‬‬
‫ت فيه الذعـافَ الـقـيونُ‬ ‫ثم شابَ ْ‬ ‫ق نـاراً‬ ‫أوقدت فوقَه الصـواعِـ ُ‬
‫س ضياءً فلم تكد تـسـتـبِـينُ‬ ‫فإذا ما سللـتـهُ بـهـر الـشـم‬
‫ت بـهِ أو يَمـينُ؟‬ ‫أشِمالٌ سَطَـ ْ‬ ‫ن ا ْنتَـضَـاهُ لـحـرب‬ ‫ما ُيبَالي مَ ِ‬
‫عَل ما تستقـرّ فـيه الـعـيونُ‬ ‫يستطِي ُر البصارَ كالقَبسِ المـش‬
‫ري على صفحتيْه ما ٌء مـعِـين‬ ‫وكأن الف ِرنْد والجوهـر والـجـا‬
‫قال موسى‪ :‬أصبت ما في‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫الـقـري‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ْـ‬
‫ع‬ ‫ن‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫به‬ ‫َى‬‫ص‬ ‫ْ‬
‫ع‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫جاء‬ ‫الهب‬ ‫ِنعْ َم مخراق ذي الحفيظة في‬
‫نفسي‪ ،‬واستخفّه الفرح‪ ،‬فأمر له بال ِم ْكتَل والسيف؛ فلمّا خرج قال للشعراء‪ :‬إنما حُرمتم من أجلي‪ ،‬فشأنكم المكتل‪ ،‬وفي السيف غناي فقام‬
‫موسى فاشترى منه السيف بمالٍ جليل‪.‬‬
‫البحتري‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫جدْوَى يديك بمُنْصُـل‬ ‫لخِيك من َ‬ ‫جدْتَ بالطّرْفِ الجوا ِد َفثَـنّـهِ‬ ‫قد ُ‬
‫عفْواً‪ ،‬ويَ ْفتَحُ في الفضاء المُقفَل‬ ‫َ‬ ‫يتناولُ الرّوحَ البعـيدَ مـنـالُـهُ‬
‫س مَجْـهَـلِ‬ ‫وهدايةٍ في كل نف ٍ‬ ‫ف مُـظْـلِـمٍ‬ ‫حتْـ ٍ‬‫بإنارة في كلّ َ‬
‫ع ليس ب َمعْقِـلِ‬ ‫حدّه‪ ،‬والدّ ْر ُ‬ ‫مِنْ َ‬ ‫جنّةٍ‬ ‫َيغْشَى الوغى فالتّرسُ ليس ب ُ‬
‫صقَـلِ‬ ‫صقُولٌ وإن لم يُ ْ‬ ‫بَطَلٍ‪ ،‬ومَ ْ‬ ‫ماضٍ وإن لم تُمْضِ ِه َيدُ فـارسٍ‬
‫لم يلتفِتْ‪ ،‬وإذا قضَى لم َيعْـدِل‬ ‫حكْم الرّدى فإذا َمضَى‬ ‫مُصْغٍ إلى ُ‬
‫ما أدر َكتْ ولو أنّها فـي يَ ْذبُـل‬ ‫متوقّـد َيفْـرِي بـأوّل ضَـ ْربَةٍ‬
‫حفان يَعْصي بالسمَاكِ العْـزلِ‬ ‫فكأنّ فارسه إذا استعصى به الزّ‬
‫ب فما له من مَقْـتَـلٍ‬ ‫وإذا أُصي َ‬ ‫ب فكلّ شيء مَـقْـتَـلٌ‬ ‫فإذا أصا َ‬
‫وقال أبو القاسم بن هاني‬ ‫ع ْهدِ عادٍ غَضّةً لم تَـذْبُـلِ‬ ‫من َ‬ ‫حمَلَتْ حمائِلُهُ القـديمةُ بَـقْـلَةً‬ ‫َ‬
‫للمعز‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫س عليك ِمنْ ُه مَسـيل‬ ‫تَسِلِ النفو ُ‬ ‫عجَبًا ل ُمنْصُِلكَ المُقَّلدِ كـيفَ لـم‬ ‫َ‬
‫إل تَشحّطَ في الدمـا َء قـتـيل‬ ‫لم يَخْلُ جبّار الملـوكِ بـذكـرِهِ‬
‫للـنّـيّراتِ وَنـيّرًا مَـعْـلـول‬ ‫فإذا رأينـاهُ رأينـــا عِـــلةً‬
‫ُمتَنكّبًا ومَـضـاؤُه مَـسْـلُـول‬ ‫سنُ ُه ُمتَـقَـلّـداً وبَـهـاؤهُ‬
‫بك حُ ْ‬
‫طرْفُ الزمان كحـيل‬ ‫َي ْغدُو بها َ‬ ‫ضبْتَ عََلتْهُ دونـك ُربْـدةٌ‬ ‫غ ِ‬ ‫فإذا َ‬
‫شمس الظهيرة عَارِضًا مصقول‬ ‫وإذا طربت إلى الرّضا أهدَى إلى‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫ت فيه التـاجَ والكـلِـيل‬ ‫َفعَ َر ْف ُ‬ ‫َكتَبَ الف ِر ْندُ عليه بعضَ صفا ِتكُـمْ‬
‫ع أمُـونُ؟‬ ‫مَرحٌ وجائلةُ النّسـو ِ‬ ‫هل ُي ْدنِينّي من فـنـائِك سَـابـحٌ‬
‫ت كـمـينُ‬ ‫درّ له خَلْفَ الفـرا ِ‬ ‫و ُم َه َندٍ فـيه الـفـ ِرنْـدُ كـأنـهُ‬
‫وأهدَى الكندي إلى بعض‬ ‫س مَـسـكـون‬ ‫لكنه من َأنْـفُـ ٍ‬ ‫ب مُقْفِرًا من أعين‬ ‫عضْب المضار ِ‬ ‫َ‬
‫ك تهتز للمكارم اهتزاز الصارم‪ ،‬وتمضِي في المورِ‬ ‫ك بمنافع كمنافع ما أهديتَ‪ ،‬وجعل َ‬ ‫صَ‬ ‫إخوانِه سيفاً‪ ،‬فكتب إليه‪ :‬الحمدُ لّ الذي خ ّ‬
‫ف بالغماد‪ ،‬ويطْرد ماء الحياء في صفحات خدك المشوف‪ ،‬كما يشفّ‬ ‫حدّه المأثور‪ ،‬وتصونُ عرضك بالرفاد‪ ،‬كما تُصَانُ السيو ُ‬ ‫مضاء َ‬
‫ل مُتونُ المشرفيّات‪.‬‬ ‫الرونقُ في صفائح السيوف‪ ،‬وتصقلُ شرَفك بالعطياتِ‪ ،‬كما تصق ُ‬
‫من أخبار أبي جعفر المنصور‬
‫ث بن عبد الرحمن الغفاري‪ ،‬فتكلم جماع ٌة منهم‪ ،‬ثم‬ ‫قدم على أبي جعفر المنصور َو ْفدٌ من الشام بعد انهزام عبد ال بن علي‪ ،‬وفيهم الحار ُ‬
‫سنَا و ْفدَ مباهاة‪ ،‬ولكنا وف ُد توبة استخفًت حليمَنا؛ فنحن بما قدمنا معترِفون‪ ،‬وبما سلَف منا‬ ‫قام الحارث فقال‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬إنا َل ْ‬
‫ن تعاقبنا ف ِبمَا أج َرمْنا‪ ،‬وإن َتعْفُ عنا فطالما أحسنْتَ إلى من أساء‪ ،‬فقال المنصور‪ :‬أنتَ خطيب القوم‪ ،‬وردّ عليه ضياعه‬ ‫مُعتذِرون‪ ،‬فإ ْ‬
‫بالغُوطة‪.‬‬

‫شفَى غيظَه وانتصف‪ ،‬ومن عفا تفضل‪ ،‬ومن أخذ حقّه لم يَجِبْ شكره ولم‬ ‫ل من أهل الشام للمنصور‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬من انتقم فقد َ‬ ‫وقاد رج ٌ‬
‫حسْنِ الصفْحِ‬
‫جزَع‪ ،‬ولم يمدح أهلَ التقى والنهى من كان حليمًا بشدّة العقاب‪ ،‬ولكن ب ُ‬ ‫طرَفٌ من ال َ‬ ‫ظمُ الغيظِ حلم‪ ،‬والتشفي َ‬ ‫يذكر فَضْله‪ ،‬وكَ ْ‬
‫ن من مكافأتهم‪ ،‬ولن يُ ْثنَى عليك باتّسَاع‬ ‫ع لعداوةِ أوليا ِء الم ْذنِب‪ ،‬والعافي مسترعٍ لشكرهم آمِ ٌ‬ ‫والغتفارِ وشد ِة التغافل‪ ،‬وبعدُ‪ ،‬فالمعاقِب مستد ٍ‬
‫عثْرَتك من ر ّب ِهمْ‪ ،‬وموصول بعفوه‪ ،‬وعقابُك إياهم موصولٌ‬ ‫ت عبا ِد ال موجبٌ لقالةِ َ‬ ‫الصدْرِ خي ٌر من أن توصَف بضِيقِه‪ ،‬على أنّ إقالتك عثرا ِ‬
‫عرِضْ عن الجاهِلِينَ"‪.‬‬ ‫خذِ ال َعفْوَ و ْأمُ ْر بالعُرْف وأَ ْ‬
‫بعقابه‪ ،‬قال ال عزّ وجلّ‪ُ " :‬‬
‫العفو عند المقدرة‬
‫وقال بعض الكتاب لرئيس ِه وقد عتب عليه‪" :‬إذا كنتَ لم تَ ْرضَ مني بالساءةِ فلم رضيت من نفسك بالمكافأة"؟‪.‬‬
‫غفِ َر له مثلُ زَلّتي‪ ،‬قال‪ :‬ص َدقْتَ‬
‫س ثَوْبَ حرمتي‪ُ ،‬‬ ‫ل دالّتي‪ ،‬ولَب َ‬
‫وأذنب رجل من بني هاشم فقبضه المأمون‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬مَنْ حمل مث َ‬
‫وعفا عنه‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫ضعُني عندك خمولُ ال ّنبْوة‪ ،‬وزوال الثروة؛ فإ ّ‬
‫ن‬ ‫ض الكتّاب على أمي ٍر بعد نكبة ناَلتْه فرأى من المير بعضَ ال ْزدِرَاء‪ ،‬فقال له‪ :‬ل يَ َ‬ ‫ولمّا دخل بع ُ‬
‫صفْ نفسي عجباً‪ ،‬لكن شُكراً‪ .‬وقال‪،‬صلى ال عليه‬ ‫السيفَ العتيق إذا مسّ ُه كثيرُ الصدَإ أستغنى بقليل الجلءِ حتى يعودَ حدّه‪ ،‬ويظهر فِ ِر ْندُهُ؛ ولم أَ ِ‬
‫وسلم‪" :‬أنا أشرفُ وَلد اَدم ول فخر"‪ ،‬فجهر بالشكر‪ ،‬وترك الستِطَالة بالكبْرِ‪.‬‬
‫من أخبار المعتصم‬
‫وكان تميم بن جميل السدوسي قد أقام‪ ،‬بشاطئ الفرات‪ ،‬واجتمع إليه كثي ٌر من العراب‪ ،‬فعظُم أمرُه‪ ،‬و َبعُد ذكره؛ فكتب المعتصمُ إلى مالك بن‬
‫طَوْق في النهوض إليه‪ ،‬فتبدّد جمعُه‪ ،‬وظفر به فحمَل ُه مُوثَقاً إلى باب المعتصم‪ ،‬فقال أحمد بن أبي داود‪ :‬ما رأيتُ رجلً عاين الموت‪ ،‬فما هالَه‬
‫ب عليه أن يفعلَه إل تميم بن جميل؛ فإنه لمّا مَثلَ بين يدي المعتصم وأحضر السيفَ والنطَعَ‪ ،‬ووقف بينهما‪ ،‬تأمّله‬ ‫ج ُ‬‫ول شغله عما كان ي ِ‬
‫المعتصم ‪ -‬وكان جميلً وَسيماً ‪ -‬فأَحبّ أن يعلمَ أين لسانُه من منظره‪ ،‬فقال‪ :‬تكلّم يا تميم‪ ،‬فقال‪ :‬إذا إذ أذِنتَ يا أمير المؤمنين‪ ،‬فأنا أقولُ‪ :‬الحمدُ لِّ‬
‫ص ْدعَ الدّين‪،‬‬‫ل نَسْلَ ُه مِنْ سُلل ٍة من ماء َمهِينٍ" أيا أمير المؤمنين‪ :‬جبر ال‪ ،‬بك َ‬ ‫جعَ َ‬
‫ن من طينٍ‪ ،‬ثُمّ َ‬ ‫ق النسا ِ‬ ‫خلَقَهُ َوبَدأَ خَلْ َ‬
‫"الذي َأحْسَنَ كلّ شيءٍ َ‬
‫شهَابَ الباطل؛ إن الذنوبَ تخرس اللسُن الفصيحة‪ ،‬و ُت ْعيِي الفئدَة الصحيحة‪ ،‬ولقد‬ ‫سبُل الحقّ‪ ،‬وأخمدَ بِك ِ‬ ‫ح بك ُ‬ ‫شعَثَ المسلمين‪ ،‬وأوض َ‬ ‫ولمّ بك َ‬
‫ي أشبههما بك‪،‬‬ ‫ظمَتِ الجريرة‪ ،‬وانقطعَت الحجّة وساءَ الظنّ‪ ،‬فلم يبق إل عفوُك وانتقامُك‪ ،‬وأَرجو أَن يكونَ أقربهما مني وأسرعهما إل ّ‬ ‫عُ‬
‫وأولهما بكرمك‪ ،‬ثم قال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يُلحظني من حيثـمـا أتـلـفّـتُ‬ ‫أرى الموتَ بين السيفِ وَالنطْع كامناً‬
‫ي امرئ ممّا قضَى ال يفـلـت‬ ‫وأَ ّ‬ ‫وأكبَرُ ظني أنكَ الـيومَ قـاتِـلـي‬
‫ف المنايا بين عينيه مُصْـلَـتُ‬ ‫وسي ُ‬ ‫وأي امرئ يأتـي بـعُـذْرٍ وحُـجّة‬
‫لعلمُ أنّ الموتَ شـي ٌء مـوقّـتُ‬ ‫وما جزَعِي مِنْ أن أموتَ وإنـنـي‬
‫حسْـر ٍة تـتـفـتّـتُ‬‫وأكبادُهم من َ‬ ‫ولكنّ خَلْفي صبْي ًة قد تـركـتـهـم‬
‫ت مَ ّوتُـوا‬
‫أذُودُ ال ّردَى عنهم وإن م ّ‬ ‫فإنْ عشتُ عاشوا سالمين بغِـبـطةٍ‬
‫وآخـر جَـذْلنٌ يسـرّ ويشـمـتُ‬ ‫ل ل يبـعـد الـلـه دارَهُ‬ ‫وكم قـائ ِ‬
‫ك قيودِه‪ ،‬وخلع عليه‪ ،‬وعقد له على شاطئ الفُرات‪.‬‬ ‫صبْوَة‪ ،‬ثم أمر بف ّ‬ ‫فتبسّم المعتصم وقال‪ :‬يا جميل‪ ،‬قد وهبتُك للصّبية‪ ،‬وغفرت لك ال ّ‬
‫وكتب المعتصمُ ‪ -‬حين صارت إليه الخلفةُ ‪ -‬إلى عبد ال بن طاهر‪ :‬عافانا ال وإياك‪ ،‬قد كانت في قلبي منك َهنَاتٌ غفرها القتِدار‪ ،‬وبقيَتْ‬
‫سبُك معرفةً بما أنا ُمنْطَوٍ لكَ عليه إطْلَعِي إياك‬ ‫ف منها عليك عند نظري إليك؛ فإن أتاك أ ْلفُ كتابٍ أستقدمك فيهِ فل تقْدم‪ ،‬وحَ ْ‬ ‫حزازات أَخا ُ‬
‫على ما في ضميري منك‪ ،‬والسلم‪.‬‬
‫ت أكْ َرهَ الناسِ لجلوسي فيه‪ ،‬فقلت‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪،‬‬ ‫س كن َ‬‫قال العباس بن المأمون‪ :‬ولما أَفضَتِ الخلفةُ إلى المعتصم دخلتُ‪ ،‬فقال‪ :‬هذا مجل ٌ‬
‫أنتَ تعفُو عما تيقنته‪ ،‬فكيف تعاقب على ما توهّمته؟ فقال‪ :‬لو أردت عقابَك لتركت عتابك‪.‬‬
‫شهْماً‪ ،‬شجاعاً‪ ،‬عاقلً‪ ،‬مفوّهاً‪ ،‬ولم يكن في خلفاء‪ ،‬بني العباس أميّ غيره‪ ،‬وقيل‪ :‬بل كان يكتبُ خطّا ضعيفاً‪ ،‬وكان سبب ذلك أنه‬ ‫وكان المعتصم َ‬
‫رأى جنازة لبعضِ الخدَم‪ ،‬فقال‪ :‬ليتني مثله لتخلّص من ال ُكتّاب فقال الرشيد‪ :‬وال ل عذبتك بشيء تختارُ عليه الموتَ‪.‬‬
‫حكَى من غير رِواية صحيحة‪ ،‬إل أن جملته أنه كان ضعيفَ البَصر بالعربية‪.‬‬ ‫قال أبو القاسم الزجاجي‪ :‬وهذا شيء يُ ْ‬
‫وقرأ أحمد بن عمار المذري ‪ -‬وكان يتقلد العَرْضَ عليه في الحضرة ‪ -‬كتابًا فيه‪ :‬ومطرنا مطرًا كثُر عنه الكَل" فقال له المعتصم‪ :‬ما الكَل؟‬
‫فقال‪ :‬ل أدري‪ .‬فقال‪ :‬إنا ل وإنّا إليه راجعون! خليفة أمي وكاتبٌ أُمي! ثم قال‪ :‬مَن يقرب منا من كتاب الدار؟ فعرف مكان محمد بن عبد الملك‬
‫الزيات‪ ،‬وكان يتوَلَى َقهْ َرمَةَ الدار‪ ،‬ويُشْ ِرفُ على المطبخ‪ ،‬فأحضره‪ ،‬فقال‪ :‬ما الكَل؟ فقال‪ :‬النبات كله رطبُه ويابسه؛ فالرطب منه خاصة يقال‬
‫ن ذلك‬ ‫ت من لى ابتدائه إلى اكتماله إلى َهيْجِه‪ ،‬فاستحس َ‬ ‫ت النبا ِ‬ ‫له خلً‪ ،‬ومنه سمّيت المخلَة‪ ،‬واليابس يقال له حشيش؛ ثم اندفع في صفا ِ‬
‫المعتصم‪ ،‬وولّه العَرْض من ذلك اليوم‪ ،‬فلم يزَلْ وزيراً مدة خلفتهِ وخلفةِ الواثق‪ ،‬حتى نكبه المتوكل بحقودٍ حَ َقدَها عليه أيام أخيه الواثق؟‪.‬‬
‫وقال الرياشي‪ :‬كتب ملك الروم إلى المعتصم كتابًا يتهدّده فيه‪ ،‬فأمر بجوابه‪ ،‬فلما قُرئ عليه لم يَرْضَ ما فيه‪ ،‬وقال لبعض الكتاب‪ :‬اكْتب‪ :‬أمّا‬
‫ع ْقبَى الدار‪.‬‬‫بعدُ‪ ،‬فقد قرأت كتابك‪ ،‬وفهمت خطابَك‪ ،‬والجوابُ ما ترى‪ ،‬ل ما تسمع‪ ،‬وسيعلمُ الكاف ُر لمن ُ‬
‫وهذا نظيرُ قول قَطَري للحجاج‪ ،‬وقد كتب إليه كتابًا يتهدّده‪ ،‬فأجابه قطري‪ :‬أما بعد‪ ،‬فالحمدُ لِ الذي لو شاء لجمع شخصَينَا؛ فعلمت أن مُثاقَفة‬
‫الرجال أَقوم من تَسْطير المقَال‪ ،‬والسلم‪.‬‬
‫بين المهلب والحجاج‬
‫ولما افتتح المهلبُ خراسان‪ ،‬و َنفَى الخوارج عنها‪ ،‬وتفرّقت الزارقة‪ ،‬كتب الحجاجُ إليه أن اكتب لي بخبر الوقيعة‪ ،‬واشرح لي القصةَ حتى‬
‫ب كعب بن معدان الشعريّ‪ ،‬فأنشده قصيدة فيها ستون بيتاً تقتصّ خبرهم ل يخرم منه شيئاً؛ فقال له الحجاج‪:‬‬ ‫كأني شا ِهدُها‪ ،‬فبعث إليه المهل ُ‬
‫أخطِيب أم شاعر؟ قال له‪ :‬كلهما‪ ،‬أَعزّ ال المير! قال‪ :‬أخبرني عن بني المهلب‪ ،‬فقال له‪ :‬المغيرةُ سيدهم‪ ،‬وكفاك بيزيد فارساً‪ ،‬وما لقي‬
‫ج ِه ْز قبيصة‪،‬‬ ‫ستَ ْ‬
‫جدَةِ‪ ،‬وا ْ‬
‫ت ذُعَاف وسم ناقع‪ ،‬وحسبك بالمفضّل في النّ ْ‬ ‫البطال مثل حبيب‪ ،‬وما يستحي شجاع أن يف ّر من ُمدْرِك‪ ،‬وعبد الملك مو ٌ‬
‫ومحمد ليث غاب‪ ،‬فقال الحجاج‪ :‬ما أراك فضلت عليهم واحدًا منهم؛ فأخبِرْني عن جملتهم ومن أفضلهم؟ فقال‪ :‬هم ‪ -‬أَعزّ ال الميرَ! ‪ -‬كالحَلْقة‬
‫المفرَغَة ل ُيدْرَى أين طرفها‪ ،‬قال‪ :‬إنّ خبرَ حَ ْربِكم كان يبلغني عظيماً‪ ،‬أفكذلك كان؟ قال‪ :‬نعم أيها المير‪ ،‬والسماع دون العِيان‪ .‬قال‪ :‬أخبرني‬
‫كيف رِضَا المهلّبِ عن جنده و ِرضَا جنده عنه؟ قال‪ :‬أعزَ ال المير‪ ،‬له عليهم شفقة الوالد‪ ،‬ولهم به برّ الولد‪ .‬قال‪ :‬أخبرني كيف فاتكم قَطَري؟‬
‫قال‪ِ :‬كدْنَاه في منزله فتحوّل عنه‪ ،‬وتوهّم أنه كادنا بذلك‪ ،‬قال‪ :‬فهل اتبعتموه؟ قال‪ :‬الكلب إذا أُجحر عَ َقرَ‪ ،‬قال‪ :‬المهلبُ كان أَعلمَ بك حيث‬
‫أَرسلك‪.‬‬
‫سمُك‪.‬‬ ‫ب لمَا فرغ من َقتْل عبد ربه الْحَروري دعا بشرَ بن مالك فأنْفذه بالبشارة إلى الحجاج‪ ،‬فلمّا دخل إلى الحجاج قال‪ :‬ما ا ْ‬ ‫وقد رُوِي أنّ المهل َ‬
‫قال‪ :‬بِشر بن مالك‪ ،‬فقال الحجّاج‪ :‬بشارة وملك! وكيف خلفتَ المهلب؟ قال‪ :‬خلفته وقد أَمن ما خاف‪ ،‬وأَدرك ما طَلبَ؛ قال‪ :‬كيف كانت حالُكم‬
‫مع عدوكم؟ قال‪ :‬كانت البداءة لهم‪ ،‬والعا ِقبَةُ لنا‪ ،‬قال الحجاج‪ :‬العاقبة للمتقين‪ ،‬ثم قال‪ :‬فما حالُ الجند؟ قال‪ :‬وسعَهم الحق‪ ،‬وأغناهم النَفَل‪ ،‬وإنهم‬
‫لمع رجل يسوسهم سياسة الملوك‪ ،‬ويقاتِلُ بهم قتالَ الصعلوك‪ ،‬فلهم منْه برّ الوالد‪ ،‬وله منهم طاعة الولد‪ ،‬قال‪ :‬فما حال ولد المهلب؟ قال‪ :‬رعاةُ‬
‫ال َبيَاتِ حتى يؤمنوه‪ ،‬وحُماةُ الس ْرحِ حتى يردوه‪ ،‬قال‪ :‬فأيهم أفضل؟ قال‪ :‬ذلك إلى أبيهم‪ ،‬قال‪ :‬وأَنت أيضاً‪ ،‬فإني أرى لك لسانًا وعبارة‪ ،‬قال‪ :‬هم‬
‫كالحلْقة المفرغة ل يُدْرى أين طرفها‪ ،‬قال‪ :‬ويحك أكنت أعددت لهذا المقا ِم هذا المقال؟ قال‪ :‬ل يعلم الغيبَ إل الُ‪.‬‬
‫بين أبي الصقر وصاعد بن مخلد‬
‫‪237‬‬
‫ودخل أبو الصقر َقبْلَ وزارته على صاعِد بن مخلد‪ ،‬وهم الوَزير حينئذ‪ ،‬وفي المجلس أبو العباس بن ثَوَابةَ‪ ،‬فسأل الوزيرُ عن رجل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أنفي؟ يريد نفي؟ فقال ابن ثوابة‪ :‬في الخَ ْرءِ‪ ،‬فتضاحك به أهل المجلس‪ ،‬فقام أبو الصقر مُغضَباً‪.‬‬
‫بين أبي العيناء وابن ثوابة‬
‫حيَا‪ ،‬فقال ابنُ ثوابة‪ :‬أما تعرفني؟ فقال‪:‬‬ ‫ن ثوابة ل ُمعَاداتِه لبي صقر؛ فاجتمعا في مجلس صاعد في غ ِد ذلك اليوم‪ ،‬فتل َ‬ ‫وكان أبو العيناء ُيعَادِي اب َ‬
‫جدْ لك عزّا فبذلّه‪ ،‬ول‬ ‫بلى أعرفك ضيق الطعن‪ ،‬كثيرَ ال َوسَن‪ ،‬خارّا على الذقَن‪ ،‬وقد بلغني تعدّيك على أبي الصقر‪ ،‬وإنما حَلم عنك؛ لنه لم يَ ِ‬
‫ب إنسانانِ إل غلب َألَمهما‪ ،‬فقال أبو العيناءِ‪:‬‬ ‫ن ثوابة‪ :‬ما تسا ّ‬‫عُلوّا فيضَعه‪ ،‬ول مَجْداً فيهدمه؛ فعافَ لحمَك أن يأكلَه‪ ،‬ودمَك أن يسفكَه‪ ،‬فقال اب ُ‬
‫فلهذا غلبتَ بالمس أبا الصقر!‪.‬‬
‫مكارم أبي الصقر‬
‫ن ثَوابة دخل عليه في وزارتِه‪ ،‬فقال‪ :‬تال لقد آثرك ال علينا وإن كنّا لخاطئين‪ ،‬فقال أبو الصقر‪ :‬ل تَثريبَ‬ ‫ومما ُيعَ ّد من مكارم أبي الصقر أن اب َ‬
‫عليك‪ ،‬يغفر ال لك وهو أرحم الراحمين‪ ،‬فما قَصّرَ في الحسانِ إليه‪ ،‬والنعام عليه‪ ،‬مدة وزارته‪.‬‬
‫بين أبي الصقر وأبي العيناء‬
‫ولمّا ولي أبو الصقر الوِزارة خيّر أبا العيناء فيما يحبّه حتى يفعلَه به‪ ،‬فقال‪ :‬أُريد أن يكتبَ لي الوزير إلى أحمد بن محمد الطائي يع ّرفُه مكاني‪،‬‬
‫ويلزمُه قضاءَ حق مثلي‪.‬‬
‫فكتب إليه كتاباً بخطّه‪ ،‬فوصّله إلى الطائي‪ ،‬فسبب له في مدة شهر مقدار ألف دينار‪ ،‬وعاشره أجمل عشرة‪ ،‬فانصرف بجميع ما يحبّه‪.‬‬
‫عثْرةِ الدهر‪ ،‬و َكبْوَةِ ال ِكبَرِ وعلى‬ ‫ت بيدي عند َ‬ ‫وكتب إلى أبي الصقر كتاباً مضمنه‪ :‬أنا ‪ -‬أعزّك ال ‪ -‬طليقُك من الفقر‪ ،‬ونقيذك من البؤس‪ ،‬أخذْ َ‬
‫أية حالٍ حين فقدت الولياءَ والشكال والخوان والمثال‪ ،‬الذين يفهمون في غي ِر تَعب‪ ،‬وهم الناسُ الذين كانوا غياثاً للناس‪ ،‬فحللت عقدة الخَلّة‪،‬‬
‫ي المور‪ ،‬وأَحاطَتْ بي النوائب؛‬ ‫ي بعد النفور النعمة‪ ،‬وكتبت لي كتاباً إلى الطائي‪ ،‬فكأنما كان منه إليك‪ ،‬أتيت ُه وقد استصعبَتْ عل ّ‬ ‫و َر َددْتَ إل ّ‬
‫فكَثر من بِشْرِه؟ وبذَل من يُسرِه‪ ،‬وأعطى من ماله أكرمَه‪ ،‬ومن برّه أحكَمه‪ُ ،‬مكْرِماً لي مد َة ما أقمت‪ ،‬ومثْقِلً لي من فوائده لما ودّعت‪ ،‬حكمني‬
‫ي إذا تمكّنت‪ ،‬وزادني من طَوْله فشكَرْتُ؛ فأحسن ال جزاءك‪ ،‬وأَعظم حباءك‪ ،‬وقدّمني أمامك‪ ،‬وأعاذني‬ ‫في ماله فتحكّمت‪ ،‬وأنتَ تعرفُ جَور ِ‬
‫س َعتِهِ" فالحمدُ‬
‫سعَةٍ من َ‬ ‫ت من الشكر ما يسّره ال لي‪ ،‬والُّ عزَ وجلّ يقول‪" :‬ل ُينْفِقْ ذو َ‬ ‫ي مما مملكك ال‪ ،‬وأنفق ُ‬ ‫من َف ْقدِك وحمامِك؛ فقد أنفقتَ عل ّ‬
‫ث فيها من ِرفْ ِدكَ‪.‬‬ ‫عدْلِك‪ ،‬وب ّ‬‫ط فيها من َ‬
‫لّ الذي جعل لكَ اليدَ الغالبة‪ ،‬والرتبة الشريفة‪ ،‬ل أَزال ال عن هذه المة ما بَسَ َ‬
‫بين أبي العيناء وأحمد بن الخصيب‬
‫قطعة مختارة من نسخة الكتاب الذي عمله أبو العيناء في ذ ّم أحمد بن الخصيب َلمّا نكِب على ألسن ِة الكتّاب والقوّاد وأَرباب الدولة في ذلك‬
‫الوقت‪ .‬قال‪ :‬ذكره محمد بن عبد ال بن طاهر فقال‪ :‬ما زال يَخرق ول يرقَع‪ ،‬وما ِزلْتُ أتوقع له الذي وَقع فيه‪ .‬وذكره أتامش‪ ،‬فقال‪ :‬غدر بمن‬
‫ط َرتْه النعمة‪ ،‬ففجأته النقمة‪ .،‬وذكره وصيف فقال‪ :‬تَرك العقلء على يَ ْأسِ‬ ‫آثره‪ ،‬وتخطّى إلى ما ل يقدرهُ‪ ،‬فحل به ما يحذره‪ .‬وذكره ُبغَاءُ فقال‪ :‬أب َ‬
‫مرتبته‪ ،‬والح ْمقَى على رجاء درجته! وذكره موسى بنُ بغاء فقال‪ :‬لول أن ال َقدَر يعشي البَصَر‪ ،‬لما َنهَى فينا ول أَمر‪ .‬وذكره فارسُ بن بغاء‬
‫فقال‪ :‬لم تم ّم له ِن ْعمَة؛ لنه لم تكُنْ له في الخير همّة‪ .‬وذكره الفضل بن العباس فقال‪ :‬إن لم يكنْ تاريخ البلء فما أعظم البلوى‪ .‬وذكره هارون بن‬
‫ت من الدنيا والدّين‪ .‬وذكره المعَلّى بن أيوب‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما أعجَب ما نكبَ‪ ،‬فقال‪ :‬نعمتهُ أَعجبُ‬ ‫عيسى فقال‪ :‬كانت دولة من دُوَلِ المجانين‪ ،‬خرجَ ْ‬
‫من نكْبته! وذكره ميمون بن إبراهيم‪ ،‬فقال‪ :‬لو تأمّل فعاله فاجتنَبها‪ ،‬لستغنى عن الداب أن يطلبها! وذكره محمد بن نجاح فقال‪ :‬لئن كانت‬
‫ظمَت المصيبة على قومٍ نزل فيهم! وذكره علي بن يحيى بن المنجم‪ ،‬فقال‪ :‬لم يكن له أوّل يَ ْرجِ ُع إليه‪،‬‬ ‫ج عنهم لقد عَ ُ‬ ‫النعمةُ عظ َمتْ على قوم خر َ‬
‫ضدّه‪،‬‬ ‫ت ذَا َفضْل تنقّصه لما فيه من ِ‬ ‫ول آخر يعود عليه‪ ،‬ول عقل فيزكو لديه! وذكره محمد بن موسى بن شاكر المنجم فقال‪ :‬قبّحه ال إن ذكر َ‬
‫أو ذكرت ذَا نَقْص توله لما فيه من شكله‪ .‬وذكره ابنُ ثَوَابة فقال‪ :‬امرؤ أساءَ عِشْرَة الحرار‪ ،‬فأصبح مَقفِر الديار‪ .‬وذكره حجاج بن هارُون‬
‫ب ِمتَان‪ ،‬ول في الخير عادات حِسان‪ .‬وذكره أحمد بن حمدون فقال‪ :‬إن منحته القدرة لقد حملته النكبة‪ .‬وذكره‬ ‫فقال‪ :‬ما كان له في الشرف أسبا ٌ‬
‫ش بالنعمة حتى أَنس بالنقمة وذكره عبد ال بن فراس فقال‪ :‬كنت إذا نصحتهُ زنّاني‪ ،‬وإذا غششته منّاني‪.‬‬ ‫ح ُ‬ ‫محمد بن الفضل فقال‪ :‬ما زال يستو ِ‬
‫ط بحق‪ .‬وذكره سعيد بن حميد فقال‪ :‬إذا أصاب أحجم‪ ،‬وإذا أخطأ صمم‪.‬‬ ‫وذكره أبو صالح بن عمار فقال‪ :‬لئن عل بحظ لقد انح ّ‬
‫أخبار أبي بكر المعروف بسيبويه‬
‫شبِهه في حضورِ جوابِه وخطابِه‪ ،‬وحُسْن عبارته‪ ،‬و َكثْرَة رِوَايته‪ ،‬وكان‬ ‫وكان في هذا العصر بمصر أبو بكر المعروف بسيبويه ناقلة البصرة يُ ْ‬
‫قد تناول البلذُر؛ فعرضت له منه لوثة‪ ،‬وكان أكثرُ الناس يتبعونه ويكتبون عنه ما يقول‪.‬‬
‫قال يوماً للمصريين‪ :‬يا أهل مصر‪ ،‬أصحابنا البغدادِيون أحزَ ُم منكم‪ ،‬ل يقولون بالولد‪ ،‬حتى يتّخِذوا له العُقَد وال ُعدَد؛ فهم أبدًا يعتزلون‪ .‬ول‬
‫يقولون باتخاذ العَقَار خوفًا أن يمِلكَهم سوءُ الجوار؛ فهم أبداً يكنزون‪ .‬ول يقولون باتخاذ الحرائر خوفاً أن تتوقَ نفسُهم إلى السّرَارِي؛ فهم أبداً‬
‫يتسرّرُون‪ .‬ول يقولون أبدًا بإظهار الغنى في مكان عُرفوا بالفقر؛ فهم أبدًا يسافرون‪.‬‬
‫س َت ْدفَأُ بها من الريح‪،‬‬
‫خذَها‪ ،‬فقال‪ :‬يا أهل مصر‪ ،‬حيطانُ مقابر أنفعُ منكم‪ ،‬يُس َتنْزَ ُه بها من التعب‪ ،‬ويُ ْ‬ ‫ووقف يوماً بالجامع وقد أخذت الخلق مأ َ‬
‫ستَظَلّ بها من الشمس‪ .‬والبهائم خي ٌر منكم ُت ْمتَطى ظهورُها‪ ،‬و ُتحْتذى جلودها‪ ،‬وتؤكل لحومُها‪.‬‬ ‫ويُ ْ‬
‫وكان أبو الفضل بن خنزابَه الوزير‪ ،‬ربّما رفع أنفَه ييهاً‪ ،‬فقال له سيبويه‪ ،‬وقد رآه فعل ذلك‪ :‬أشمّ مني الوزيرُ رائحةً كريهة فشمر أنفَه‪ ،‬فأطرق‬
‫جنْسه‪.‬‬
‫وإستعمل النهوض‪ ،‬فخرج سيبويه‪ ،‬فقال له الرجل‪ :‬من أينَ أقبلت؟ فقال‪ :‬من عند الزَاهِي بنفسه‪ ،‬المدلّ بفرسه‪ ،‬المستطيل على أبناء ِ‬
‫واستأذن على مسلم بن عبيد ال العلوي‪ ،‬ومسلم من أهل الحجاز نزل مصر‪ ،‬فحجب عنه‪ ،‬فقال‪ :‬قولوا له‪ :‬يرجع إلى لبس العباء‪ ،‬و َمصّ النوى‪،‬‬
‫سكْنى الفَل‪ ،‬فهو أشبَ ُه به من نعيم الدنيا‪.‬‬ ‫وُ‬
‫وكان على شرطِ كافور الخشيدي أحدُ الخاصّةِ؛ فوجد عليه سيبويه في بعض المرِ‪ ،‬فعزل عن الشرطة‪ ،‬فوليها رَكى صاحب الراضي‪ ،‬فلم‬
‫يحمده أيضاً‪ ،‬فوقف لكافور وهو مارّ إلى الصلة يوم الجمعة‪ ،‬فقال‪ :‬أيها الستاذ‪ ،‬ولَيت ظالماً‪ ،‬وعز ْلتَ ظالماً‪ ،‬قليل الوفاء‪ ،‬كثير الجفاء‪ ،‬غليظ‬
‫القَفا‪ .‬فتبسّم ابن بُرك البغدادي‪ ،‬وكان يسايرُ كافوراً‪ ،‬فقال‪ :‬وهذا ابن برك ممن يغرّك‪ ،‬لن ينفعك ولن يضرّك‪.‬‬
‫ح به‪ ،‬فقال‪ :‬ل أنقى ال مغسولَه‪ ،‬ول بلّغه سُولَه‪ ،‬ول وقّاه من‬ ‫وأخلئ الحمام لمفلح الحسيني‪ ،‬فأتى سيبويه ليدخلَ‪ ،‬ف ُمنِع‪ ،‬وقيل‪ :‬المير مفل ٌ‬
‫ل لحدِ ثلثة‪ :‬مبتلًى في قُبله‪ ،‬أو مبتلًى في دُبره‪ ،‬أو سلطان يخافُ من شرّه‪ ،‬فأي‬ ‫العذاب َمهُولُه‪ ،‬وجلس حتى خرج‪ ،‬فقال‪ :‬إن الحمام ل يُخلى إ ّ‬
‫الثلثة أنت‪ .‬قال‪ :‬أنا المقدّم‪.‬‬
‫ح معامَلتك للشراف‪ ،‬فاحذَ ْر أن تعودَ فيناَلكَ مني أشدّ العقوبة؛ فخرج‬ ‫وأحضره أبو بكر بن عبد الّ الخازن فقال‪ :‬قد بلغني َبذَاءُ لسانِك‪ ،‬وقبي ُ‬

‫‪238‬‬
‫متحزناً‪ ،‬فكان الولدان يتولّعون به ويذكرون له الخازِنَ‪ ،‬فيشتدّ عليه ذلك‪ ،‬فينصرف ول يكلّمهم؛ فم ّر به رجل يكنى أبا بكر من ولد عقبة بن أبي‬
‫ح عليه بذلك‪ ،‬فضحك المعيطي‪ ،‬فقال للغلم‪ :‬ضرب ال عنق الخازن كما ضرب النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬عنق عقبة بن‬ ‫ُمعَيْطٍ‪ ،‬وغل ٌم قد أل ّ‬
‫ظهْرَ أبيك بالسوط كما ضرب عليّ بن أبي طالب بأمر عثمان‪ ،‬رضي ال عنهما‪ ،‬ظهر الوَليد بن عقبة على‬ ‫أبي معيط على الكُفْر‪ ،‬وضرب َ‬
‫ص ْبيَة‪ ،‬يريد قولَ النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد قال له عقبة لمَا أمر النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬علياً‪،‬‬ ‫ي بال ّ‬‫شُرْب الخمر‪ ،‬وألحقك يا صب ّ‬
‫ظهْرِها‪.‬‬‫ب إليه من َ‬ ‫رضي ال عنه‪ ،‬ب َقتْلِه‪" :‬فمَنْ للصّبية يا رسول ال؟" قال‪" :‬النارُ لك ولهم"‪ ،‬فانصرف المعيطي وبَطْنُ الرضِ أح ّ‬
‫رَجْع إلى أبي العيناء‬
‫شكُرْ لي ولوالديك"‬ ‫لّ قد قَرَن طاعتَه بطاعتي‪ ،‬فقال تعالى‪" :‬أَنِ ا ْ‬ ‫ل من أظهر العقوقَ لوالديه بالبَصرة‪ ،‬قال لي أبي‪ :‬إنَ ا َ‬ ‫وقال أبو العيناء‪ :‬أنا أو ُ‬
‫ن نَ ْر ُز ُقهُمْ وإيّاكم"‪.‬‬
‫ق نَحْ ُ‬ ‫شيَةَ إِمل ٍ‬‫خْ‬‫فقلتُ‪ :‬يا أبت‪ ،‬إن ال تعالى قد أمِنني عليك ولم يأمنك عليّ‪ ،‬فقال تعالى‪" :‬ول تَ ْقتُلُوا أَول َدكُمْ َ‬
‫عمُ أنا سواء‪ ،‬ولكن ل يحلّ‬ ‫ت بمثله إليك‪ ،‬ولست أز ُ‬ ‫وقال أعرابي لبيه‪ :‬يا أبت‪ ،‬إن كبيرَ حقّك ل يبطل صغير حفّي عليك‪ ،‬والذي َتمُتّ به إليّ أم ّ‬
‫لك العتداءُ‪.‬‬
‫ودخل على عبيد ال بن سليمان فضمّه إليه‪ ،‬فقال‪ :‬أنا إلى ضمّ الكفاية أحوجُ مني إلى ضَمّ الي َديْن‪.‬‬
‫وقال له مرة‪ :‬أنا معك مقبوض الظاهر‪ ،‬مرحوم الباطنِ‪.‬‬
‫قال أبو الطيب المتنبي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ك منه محسودُ‬ ‫أني بما أَنا با ٍ‬ ‫ت من الدنيا وأَعْجَبها‬
‫ماذا لَقي ُ‬
‫خلْقَهُ"‪.‬‬
‫وقال له رجل‪ :‬يا مخنّثُ‪ ،‬فقال‪" :‬وضَ َربَ لنا َمثَلً و َنسِيَ َ‬
‫ل من علنيته‪،‬‬ ‫وذكر أبو العيناء محمد بن يحيى بن خالد بن برمك‪ ،‬فقال‪ :‬بأبي وأمي دَامَ ال َوجْهُ الط ْلقَ‪ ،‬والقول الحقّ‪ ،‬والوعد الصّدق‪ ،‬نيّته أفض ُ‬
‫ت منه من النظر إليك أيها المير! وقال لعبيد ال بن‬ ‫وفعلُه أفضل من قوله‪ .‬وقال له المتوكل‪ :‬ما أشدّ ما م ّر عليك من فَ ْقدِ بصرك؟ فقال‪ :‬ما حُ ِرمْ ُ‬
‫يحيى‪ :‬مسّنا وأهلنا الضرّ‪ ،‬وبضاعتُنا الحمدُ والشكر‪ ،‬وأنت الذي ل يخيب عنده حرّ‪ .‬وقال له يوماً‪ :‬قد اشتدّ الحجاب‪ ،‬وفحش الحرمان‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ل فقال‪ :‬ل‬‫ارفق يا أبا عبد ال‪ ،‬فقال‪ :‬لو رفق بي فعلُك لرفق بك قولي! وقال له‪ :‬أيها الوزير‪ ،‬إذا تغافل اهلُ التفضّل هلك أهل التجمّل‪ .‬وذم رج ً‬
‫حيّر المحق‪ .‬وقيل له‪ :‬مات الحسن بن سهل‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ل فيُنكِره‪ .‬وقيل له‪ :‬ما أَبلغ الكلم؟ فقال‪ :‬ما أسكَت ال ُمبْطِل‪ ،‬و َ‬ ‫يعرفُ الحقّ فينصره‪ ،‬ول الباط َ‬
‫والّ لئن أتعب المادِحينَ‪ ،‬لقد أطال بكاء الباكين‪ ،‬والّ لقد أصِيب بموتِه النام‪ ،‬وخرست بفقده القلم‪.‬‬
‫باب الرثاء‬
‫قال أشجع بن عمرو السّلمي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ول مـغـربٌ إلّ لـه فـيه مـادِحُ‬ ‫ن سعيدٍ حين لم َيبْقَ َمشْـرِق‬ ‫مضى اب ُ‬
‫على الناس حتى غيّبتْه الـصـفـائحُ‬ ‫وما كنتُ َأدْرِي ما فواضـل كـفّـه‬
‫وكانت بِه حياً تضيق الصحـاصِـحُ‬ ‫فأصبح في لَح ٍد مـن الرض مـيّتـا‬
‫على أحـدٍ إل عـلـيك الـنـوائحُ‬ ‫كأن لم يمت ميتٌ سواك ولـم تَـقـمْ‬
‫ك فَـارحُ‬ ‫ول بسرو ٍر بعـدَ مـوتِـ َ‬ ‫فما أنا مـن رُزءٍ وإن جَـلّ جـازع‬
‫ل فـيك الـمـدائحُ‬ ‫ت من َقبْ ُ‬‫سنَ ْ‬‫لقد ح ُ‬ ‫سنَتْ فيك المراثي وذكـرُهـا‬ ‫لئن حَ ُ‬
‫فحسبُك مني ما ُتكِـنّ الـجـوانِـحُ‬ ‫سأَبكيك ما فاضَت دموعي‪ ،‬فإن َتغِض‬

‫قوله‪ :‬وكانت به حيّا تَضيقُ الصحاصِحُ يتعلق بقول الحسين بن مطير في َمعْن بن زائدة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫س َق ْتكَ الغوادِي مَرْبعًا ثـم مَـرْبـعَـا‬ ‫أَِلمّا على َمعْـنٍ وقُـول لـقـبـرِهِ‪:‬‬
‫ضجَعا‬‫خطّتْ للسماحة مَ ْ‬ ‫من الرض ُ‬ ‫فيا قب َر مـعـنٍ أنـت أولُ حُـفْـرَةٍ‬
‫وقد كان منه البَرّ والبح ُر ُمتْـرَعَـا؟‬ ‫ن كـيف واريتَ جـودَهُ‬ ‫ويا قب َر َمعْـ ٍ‬
‫ضقْتَ حتى تَـصَـدّعـا‬ ‫ولو كان حيّا ِ‬ ‫سعْتَ الجودَ والجُـودُ مَـيتٌ‬ ‫بلَى قد وَ ِ‬
‫كما كان بعد السيل َمجْرَاه مَ ْرتَـعَـا‬ ‫فتى عِيشَ في َمعْرُوفه بعـد مـوتِـه‬
‫وهذا كقول عبد الصّمد بن‬ ‫وأصبح عِرنِينُ المـكـارم أجْـدَعـا‬ ‫ولمّا مضَى َمعْنٌ مضى الجودُ وانقضى‬
‫المعذل عمرو بن سعيد بن سَلم الباهلي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ت إذاً لض ْقتَ بـه ذراعـا‬ ‫حملْ َ‬ ‫أقبـرُ أبـي أمـيةَ لـو عُـلهُ‬
‫فكيف أطَقْت يا قبرُ اضطلعا؟‬ ‫حويتَ الجودَ والتقوى وعمـراً‬
‫وقول أشجع‪ :‬لئن حسنت‬ ‫ق اتّـسـاعـا‬
‫ولول ذَاك لم تُطِ ِ‬ ‫طقْت لهـم ضـمـانـاً‬ ‫لموتهمُ أ َ‬
‫فيك المراثي وذكْرها من قول الخنساء‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫شانِيكَ باتَ بذلتي وصَـغـاري‬ ‫يا صَخرُ‪ ،‬بعدَك هاجَني استعباري‬
‫جنُوبُ أخت عمرو‬
‫وقالت َ‬ ‫ت تنَاحُ بالشـعـارِ‬ ‫فاليوم صر َ‬ ‫ح مـدّة‬
‫كنّا نعـد لـك الـمـدائ َ‬
‫ذي الكلب‪ :‬المتقارب‪:‬‬

‫‪239‬‬
‫ظ َعنِي حين ردّوا السـؤَال‬ ‫فأفْ َ‬ ‫صحْـبَـهُ‬ ‫ت بعمرٍو أخي َ‬ ‫سأل ُ‬
‫أغرّ السلح عـلـيه أجَـال‬ ‫فقالـوا‪ :‬أُتـيحَ لـه نـائمـاً‬
‫فنال لعمرك عـنـه ونَـال‬ ‫أُتـيحَ لـه نَـمِـرَا أجْـبُـلٍ‬
‫إذاً ن ّبهَا منـك داءً عُـضَـال‬ ‫فأقسمُ يا عمرُو لو نـبّـهَـاكَ‬
‫مُبيداً مُفتيًا نُفُـوسـًا ومـال‬ ‫إذًا نـبّـهـا لَـيْثَ عِـرّيسةٍ‬
‫ول طائشاً دهشاً حين صَـال‬ ‫إذًا نـبّـهـا غـيرَ رِعــيدةٍ‬
‫من الدهر ركنًا شديداً أَمـال‬ ‫ب المنون‬ ‫هما معْ تصرف ر ْي ِ‬
‫ن قد ورثنـا الـنّـبـال‬ ‫بآية أ ْ‬ ‫وقالوا‪ :‬قتلْـنـاهُ فـي غـارةٍ‬
‫فقد كان فذّا وكنتـم رجَـال‬ ‫فهلّ إذًا قبلَ ريب المـنـون‬
‫بأنهمُ لـك كـانـوا نِـفـال‬ ‫ت َفهْم عند اللـقـاء‬ ‫وقد عل َم ْ‬
‫فيخلوا نساءهمْ والـحِـجَـال‬ ‫كأنـهـمُ لـم يحـسّـوا بـهِ‬
‫به فيكونـوا عـلـيه عِـيال‬ ‫ولم ينزلوا بمحولِ الـسـنـين‬
‫ق وهبّت شمـال‬ ‫إذا اغبَرّ أُف ٌ‬ ‫وقد علم الضيفُ والمُرْملـونَ‬
‫ولم تَ َر عينٌ لـمـزنٍ بـلل‬ ‫ن أولدِها المرضعاتُ‬ ‫وخلّتْ عَ َ‬
‫لمن يَ ْعتَفيك وكنت الثّـمـال‬ ‫بأ ّنكَ كنتَ الربيع الـمـغـيثَ‬
‫جنَاء حَ ْرفٍ تشكي الكَـلَل‬ ‫بوَ ْ‬ ‫خرْقٍ تجاوزتَ مجـهـولَـهُ‬ ‫وَ‬
‫وكنتَ دجَى الليل فيه هـلل‬ ‫فكنت النهارَ بـه شـمـسَـه‬
‫غداة اللقاء منـايا عِـجـال‬ ‫وحيّ صبحت وحيّ أبـحْـتَ‬
‫قال عمرو بن شبة‪ :‬وكان‬ ‫أ َر ْد َتهُمُ منك بـاتـوا وجـال‬ ‫وكم من قبيل وإن لـم تـكـن‬
‫جنُوبَ‪ ،‬فقالوا‪ :‬أخاكِ؛ فقالت‪:‬‬
‫عمرو بن عاصم هذا َيغْزُو َفهْماً فيصيب منهم‪ ،‬فوضعوا له رصَداً على الماء‪ ،‬فأخذوه فقتلوه‪ ،‬ثم مرّوا بأخته َ‬
‫لئن طلبتموه لتجدُنّه منيعاً‪ ،‬ولئن ضفتموه لتجدُنّه مريعاً‪ ،‬ولئن وعدتموه لتجدنه سريعاً! فقالوا‪ :‬قد أخذناه فقتلْناه‪ ،‬وهذا نبله‪ .‬فقالت‪ :‬وال لئن‬
‫ب ثدي منكم قد افترشه‪ ،‬ونهب قد احتوَشَه؛ ثم قالت البياتَ المتقدمة الذكر‪.‬‬ ‫سلبتموه ل تجدون ثَّلتَه وافية‪ ،‬ول حجرته جافية‪ ،‬ولر ّ‬
‫وأنشد أبو حاتم ولم يقل قائله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بطونُ الثرى واستُودعَ البلَدُ القَ ْفرُ‬ ‫أل في سبيل ال ماذا تضمّـنـت‬
‫وإن أجدبَتْ يوماً فأيديهمُ ال َقطْـرُ‬ ‫بدو ٌر إذا الدنيا دَجَتْ أشرقَتْ بهم‬

‫حياتُـهُـمُ فـخـ ٌر ومـوتـهُـ ُم ذكْـ ُر‬ ‫فيا شامتاً بالموت ل تـشـمـتـنْ بـهـم‬
‫ظهْرُ‬‫وصاروا ببطن الرض فاستوحش ال ّ‬ ‫ظهْرِ الرض فاخض ّر عـودُهـا‬ ‫أقاموا ب َ‬
‫عمْرو كان يقول الشعر؛ فقال يرثيه‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ن له يكنى أبا َ‬ ‫وقال أبو عبد ال العتبي‪ ،‬وتوفي له بنون ُفجِع بهم ومات في آخرهم اب ٌ‬
‫عمْـرو‬ ‫وجومٌ أراها بعد موت أبي َ‬ ‫لقد شمت الواشون بـي وتـغـيرتْ‬
‫ولو كَان حيًّا لجترأتُ على الدهـرِ‬ ‫تجرّى عَلَيّ الدهرُ لـمـا فـقـدتـه‬
‫فدينا‪ ،‬وأَعطينا بكم ساكني الظـهْـر‬ ‫أسكان بطن الرض لو يُقبَلُ الفِـدَى‬
‫عليها ثَوَى فيها ُمقِيماً إلى الحَـشْـرِ‬ ‫ت مـن‬ ‫فيا ليت مَنْ فيها عليها‪ ،‬ولـي َ‬
‫فلما توفّى شطره مال في شَطْـرِي‬ ‫ي مُـشَـاطـراً‬ ‫وقاسمني دَهري بنـ ّ‬
‫فثكلٌ على ثكل وقبرٌ علـى قَـبْـرِ‬ ‫فصاروا كأن لم يعرفِ الموت غيرهم‬
‫وقاد في ابن توفي صغيراً‪ :‬مجزوء الرمل‪:‬‬
‫غيْرُ صغيرِ‬ ‫فالَسَى َ‬ ‫ن يكُنْ ماتَ صغيراً‬ ‫إْ‬
‫وهو رَيحَانُ القبُـورِ‬ ‫كانَ َريْحَانِي فأَمسـى‬
‫ن البلى َأ ْيدِي الدهورِ‬ ‫غَرَسَته فِي بسـاتـي‬
‫ومن هنا أخذ أبو الطيب المتنبي قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫طفَلً فالسَى ليس بالطفْلِ‬ ‫وإن َتكُ ِ‬ ‫فإن َتكُ في قبر فإنك في الحـشـا‬
‫وقال خلف بن خليفة القطع‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حزِينُ‬ ‫ك الموتورُ وَهْوَ َ‬ ‫حُ‬ ‫وقد يَض َ‬ ‫سمْتُ خَـالِـياً‬ ‫أعَاتِبُ نفسي إن تب ّ‬
‫دُوَين المصلّى والبقيعِ‪ ،‬شجُـونُ‬ ‫وبالبذّ أشجاني وكم من شَجٍ لـهُ‬
‫قَر ْينَك أشجاناً وهـنّ سُـكـونُ‬ ‫ُربًى حولها أمثالُها إن أتـيتـهـا‬
‫ولم يأتنا عـمّـا لـديك يَقـين‬ ‫كَفى الهجر أنّا لم يَضِح لكَ أمرُنا‬
‫وقال أبو عطاء السّندي في ابن هبيرة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جمُـودُ‬
‫عليك بباقي َدمْعها ل َ‬ ‫جدْ يوم واسطٍ‬ ‫ألَ إنّ عيناً لم ت ُ‬
‫ى مأتَـمٍ وخـدودُ‬ ‫ب بأبد َ‬ ‫جيو ٌ‬ ‫شقّقـت‬ ‫عشيةَ قام النائحاتُ و ُ‬

‫‪240‬‬
‫أقام به بعد الوفُـودِ وفُـو ُد‬ ‫س مهجُورَ ال ِفنَا فربما‬‫فإن ُتمْ ِ‬
‫ب بعيدُ‬ ‫بلى كلّ ما تحت الترا ِ‬ ‫فإنك لم َت ْبعَدْ عَلى متعـهّـدٍ‬
‫أعرابي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ث بما ز ّودْتنـي مـتـمـتّـعـا‬
‫وب ّ‬ ‫ومن عجب أن بتّ مستودع الثّـرَى‬
‫خلفك حتى َننْطَوي في الثرى معا‬ ‫فلو أنني أنص ْفتُك الـودّ لـم أبِـتْ‬
‫يميني إذا صار الثرى لك مضجعا‬ ‫سأحمي الكرى عيني وأفترش الثرى‬
‫ت فه ّونْت المصائب أجمـعـا‬ ‫ضيْ َ‬
‫َق َ‬ ‫وبعدك ل آسَـى لـعـظـم رزيّةٍ‬
‫ومعنى هذا البيت الخير تداوله الناس نظماً ونثراً‪.‬‬
‫قال أبو نواس في المين‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وليسَ لما تَطْوِي المنيّة ناشِـرُ‬ ‫ت ما بيني وبين محمدٍ‬ ‫طوَى المو ُ‬
‫ت ممن ُأحِبّ المقابِـرُ‬ ‫لقد عمر ْ‬ ‫ت دُو ٌر بمن ل أحبـهُ‬ ‫عمِ َر ْ‬
‫لئن َ‬
‫فلم َيبْقَ لي شيء عليه أُحـاذِر‬ ‫حذَرُ الموتَ وحـدَه‬ ‫ت عليه أ ْ‬ ‫وكن ُ‬
‫وقيل لمّ الهيثم السدوسية‪ :‬ما أسرع ما سلوت عن ابنك الهيثم! قالت‪ :‬أما وال لقد رُزِئته كالبدرِ في بهائه‪ ،‬والرمْحِ في استوائه‪ ،‬والسيفِ في‬
‫ت من بعده إل َأمْنَ المصائب لفقدِه‪.‬‬ ‫ض ُ‬
‫ت مصيبت ُه كبدي‪ ،‬وأفنى َف ْقدُه جلدي‪ ،‬وما اعتَ ْ‬ ‫مَضَائه؛ ولقد فتّت ْ‬
‫وعزّى أبو العيناء أحمد بن أبي دُواد عن ولدٍ له‪ ،‬فقال‪ :‬ما أصيب من أثيب‪ ،‬وال لقد هان لفقده‪ ،‬جليل المصائب من بعدِه‪.‬‬
‫سرِينَ مات بنوه بالطاعون فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ودخل أعرابي من بادية البصرة إلى الشام ومعه بنون‪ ،‬فلمّا كان بقنّ ْ‬
‫عمْري؟‬‫من العيش أو آسى لما فات من ُ‬ ‫أبعْدَ‪ ،‬بَنيّ‪ ،‬الدهـرَ أرجُـو غَـضـارَةً‬
‫فلهفي على تلك الغَطَـارِفة الـزّهْـر‬ ‫غطا ِرفَةٌ زُهرٌ مضَـوْا لـسـبـيلـهـم‬
‫بحاضر قنّسرين من صيّب الـقَـطْـر‬ ‫سقى ال أجسـاداً ورائي تـركْـتُـهـا‬

‫ك منهم على ذكْرِ‬


‫وشرّ‪ ،‬فما أَنف ّ‬ ‫يُذكّرنيهـم كـل خـير رأيتُـهُ‬
‫هذا البيت كقول الخر‪:‬الطويل‪:‬‬
‫ول أن يرعاك أولَى وأَوسَعُ‬ ‫رعاكِ ضمانُ ال يا ُأمّ مالك‬
‫أخاف وأرجو والذي أتوقّع‬ ‫يذكّرنيك الخير والشرّ والذي‬
‫وقال مسلم بن الوليد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لكال ِغمْدِ يوم الرّوع فارقَه النَصـلُ‬ ‫وإني وإسـمـاعـيل يوم ودَاعِـه‬
‫رسائل أدّتها المـودّة والـوصـلُ‬ ‫أما والحبالت الممـرّات بـينـنـا‬
‫بذكراك نأيٌ عن ضميري ول شغلُ‬ ‫لما خنتُ عهداً من إخـا ٍء ول نـأى‬
‫لفقـدك ل مـالٌ لـديّ ول أهـلُ‬ ‫وإنيَ في مالي وأهلـي كـأنـنـي‬
‫وقيلُ الخنى والحِ ْلمُ والعِلْمُ والجهلُ‬ ‫يذكّرنيك الخيرُ والشرّ والـحِـجَـا‬
‫وألقاك في محمودها ولك الفضـل‬ ‫فألقاك عن مذمومها مـتـنـزهـاً‬
‫بعِرْضك ل بالمال حاشَا لك البخْلُ‬ ‫وأح َم ُد من إخلفِك البـخـلَ إنـهُ‬
‫حمِلْ حاجةً ما لها ثِقْلُ‬ ‫دع الثّقلَ وا ْ‬ ‫أمنتجعًا مَـرْوًا بـأثـقـال هـمّة‬
‫ل بني بـرمـك أهـلُ‬ ‫وليس له إ ّ‬ ‫ثنا ًء َكعُرْف الطيب يهدي لهـلـه‬
‫فكالوحش يُ ْدنِيها مِنَ القَنص المحْل‬ ‫غشَ قومًا بعدهم أو أزورهـم‬ ‫فإن أ ْ‬
‫ومن ألفاظ أهل العصر‬
‫في التعازي وما يتعلّق بمعانيها‬
‫خبَر تصطكّ له المسامعُ‪ ،‬وترتجّ به الضالع‪،‬‬ ‫سمَعه‪ ،‬وأثّر في القلوب مَ ْو ِقعُه‪َ .‬‬‫س مَ ْ‬
‫ذكر البكاء والجزع وعظم المصائب‪ :‬خَبرٌ عزّ على النفو ِ‬
‫وتسقط له الحبالى‪ ،‬وتَصْحو منه السكارى‪ .‬خبرٌ كادت له القلوبُ تطيرُ‪ ،‬والعقول تَطيشُ‪ ،‬والنفوس تَطيح‪ .‬خبر يخفض البصر ويقذيه‪ ،‬ويَ ْقبِض‬
‫صدْرَ‪،‬‬ ‫الملَ ويقدح فيه‪ .‬الخبر في اثناءِ الرجاءَ قد انقطع؛ وأصمّ به الناعي وقد أَسمع‪ .‬ناعي الفضائل قائم‪ ،‬وأنفُ المحاسنِ رَاغم‪ .‬خبرٌ أحْرج ال َ‬
‫طأَته على أجزاء النفس‪ ،‬وتأدت معرته إلى سرّ القلب‪ .‬كتبتُ‬ ‫وأحل البكاء‪ ،‬وحَرّم الصبر‪ ،‬وأَطار واقع السكون‪ ،‬وأثار كامِنَ الوجوم‪ ،‬وثقلت وَ ْ‬
‫والرضُ واجِفةٌ‪ ،‬والشمسُ كاسفةٌ‪ ،‬للرزء العظيم‪ ،‬وال ُمصَاب الجسيم‪ ،‬في فلك الملك‪ ،‬و ُركْنِ المجد‪ ،‬وقريع الشَرق والغرب‪ ،‬وما عسى أن يُقَال‬
‫في الفلك العلى إذا ا ْنهَار من جوانبه‪ ،‬وتهافَتَ على مناكِبه‪ .‬أتى الناعي‪ ،‬فندب المساعي‪ ،‬وقامت بواكي المجد‪ ،‬وكسفت شمسُ الفَضْل‪ ،‬وعاد‬
‫ق الدَب‪ ،‬وقامت نوادب السماحة‪ ،‬ووقف فلكُ الكَرَم‪ ،‬ولطمت عليه المحاسن‬ ‫ب لموته نجمُ ال َفضْل‪ ،‬وكسدت سو ُ‬ ‫النهارُ أسودَ‪ ،‬والعيش أَنكَد‪ .‬غر َ‬
‫خدودَها‪ ،‬وشقّت له المناقب جيوبَها وبُرودها‪ ،‬وقد كانت الرزيّةُ بحيث مارت السما ُء مَوْراً‪ ،‬وسارت الجبالُ سيراً‪ ،‬حتى شوهدت الكواكبُ‬
‫حمَةُ‪ ،‬واضطربت المِلّة‪ ،‬وقامت نوادبُ المجد‪ ،‬وأصبح الناسُ‬ ‫لمّة‪ ،‬وانبسطت الظلمة؟ وارتفعت الرّ ْ‬ ‫ظهراً‪ ،‬ثم تهافتتْ شفعاً ووتراً‪ ،‬فارتاعت ا ُ‬
‫ظهْر‪ .‬كتابي وأنا‬ ‫من القيامةِ على وَعد‪ .‬إنّ المجدَ بعده لجاري الدمع‪ ،‬وإنّ الفضل لمنزعج النفس‪ ،‬وإن الكرمَ لَحرِجُ الصدر‪ ،‬وإن المُ ْلكَ لواهِنُ ال ّ‬
‫ي فلن فتنكر‬ ‫من الحياة متذمم‪ ،‬وبالعيش مُتبرّم‪ ،‬بعدما ماد الطَوْد الشامخ‪ ،‬وزال الجبل الباذخ‪ ،‬ونطقت نوادِب المجد‪ ،‬وأقيمت مآتم الفضل‪ُ .‬نعِ َ‬
‫ن بمائها‬ ‫ح بالدّم بعده‪ .‬كتبتُ والحشاءُ محترقة‪ ،‬والجفا ُ‬ ‫صدْعه‪ ،‬ول عين إل وهي ترش ُ‬ ‫ب إل قد تباين َ‬ ‫وَجْهُ الدهر‪ ،‬وقبضت ُمهْجَةُ الفَخْرِ‪ ،‬فل قَلْ َ‬
‫ب الدموع وفرَّقها‪ ،‬وأقلق أعشارَ القلوب وأحرقها‪ ،‬مصابٌ فضّ عقودَ الدموع‪،‬‬ ‫غَرِقة‪ ،‬والدمعُ وَاكِفٌ‪ ،‬والحزن عاكف‪ .‬مصالب أطلق أسْرا َ‬
‫ت عن عين‬ ‫ت مسالك السكون والستقرار‪ .‬كتب ُ‬ ‫وشب النا َر بين الضلوع‪ .‬مصاب أذاب دموعَ الحرار‪ ،‬فتحلبت سحائب الدموعِ الغِزار‪ ،‬وانسدّ ْ‬
‫ت مَصُون العَبرة‪ ،‬وحجبتُ وا ِفدَ الحيرة‪ ،‬ومدّ الهمّ إلى جسمي َيدَ السقم‪ ،‬وج ّر الدمعُ على خذي ذيولَ‬ ‫تَ ْدمَع‪ ،‬وقلْبِ يجزع‪ ،‬ونفس َتهْلَع‪ ،‬وقد َأذْلَلْ ُ‬
‫‪241‬‬
‫ش من‬ ‫ظهْري‪ ،‬وأَوْهى أَ ْزرِي‪ .‬إنّ الفجيعة إذا لم تحاربْ بجي ٍ‬ ‫ق من كلّ لسان وقلم‪ ،‬لخبرتُ عن بعض ما أَوْهَنَ َ‬ ‫ن بالدمع أنط ُ‬ ‫الدم‪ .‬لول أن العي َ‬
‫س َتذْريْتُه من أسراب الدموع‬ ‫ت غليلي بما ا ْ‬‫ف دَاؤها‪ ،‬وازدادَتْ أعباؤها‪ ،‬وعز دَواؤها‪ .‬قد شفي ُ‬ ‫البكاء‪ ،‬ولم يخفّفْ من أثقالِها بالشتكاء‪ ،‬تضاع َ‬
‫ت عني بعض البُرَحَاء بما امت َر ْيتُه من أخلفها المتحدّرة‪ .‬إن في إسبَال العَبرة‪ ،‬وإطلق ال ّزفْرَة‪ ،‬والجهاش بالبكاء والنشيج‪،‬‬ ‫المتحيرة‪ ،‬وخف ْف ُ‬
‫وإعلنِ الصياح والضجيج‪َ ،‬تنْفِيسًا عن بُرَحَاءِ القلوب‪ ،‬وتخفيفًا من أثقالِ الكُروبِ‪ .‬قد أتى الده ُر بما هدّ الصلب‪ ،‬وأطا َر اللبابَ‪ ،‬من النازلة‬
‫الهائلة؛ والفجيعة الفظيعة‪ .‬رُزءٌ أضعفَ العزائم القويةَ‪ ،‬وأبكى العيونَ البكيّة‪ .‬مصيبة َزلْزَلتِ الرض‪ ،‬وه ّدمَت الكرم المَحْض‪ ،‬وسلبت الجفان‬
‫ل ُمدَّلهَة‪ ،‬والنفوس مُولَهة‪ .‬رُزءٌ هضّ وهاضَ‪،‬‬ ‫ن قُوَاها‪ .‬فجيعةٌ ل يُدَاوِي كَ ْلمَها آسٍ‪ ،‬ول يسدّ ثَ ْلمَها َتنَاسٍ‪ .‬مصيبة تركتِ العقو َ‬ ‫كَرَاها‪ ،‬والبدا َ‬
‫وأَطال النخزال والنخفاض‪ ،‬ولم يَرْضَ بأن فضّ العضاء‪ ،‬حتى أفاض الدماءَ‪ .‬رز ٌء ملَ الصدورَ ارتياعاً‪ ،‬وقسم اللبابَ شَعاعاً‪ ،‬وترك‬
‫ن مَقروحة‪ ،‬والدموع مسفوحة‪ ،‬والقُوى مهدودة‪ ،‬وطرق العزا ِء مسدودة‪ .‬رز ٌء نكأَ القلوبَ وجرحَها‪ ،‬وأَح ّر الكْبادَ وقرّحها‪ ،‬ما لي يدٌ تخطّ‬ ‫الجفو َ‬
‫إل بكلفة‪ ،‬ول نفس تردد إل في غصّة‪ ،‬ول عين تنظر إل من وراء قذَى‪ ،‬ول صدر ينطوي إل على أذى‪ ،‬فالدموعُ واكفة‪ ،‬والقلوب وَاجِفة‪،‬‬
‫والهمّ وارِد‪ ،‬والنسُ شارد‪ :‬الكا مل‪:‬‬
‫في كل دارٍ َرنّةٌ وزفيرُ‬ ‫س مَأتمُهم عليه واحدٌ‬ ‫والنا ُ‬
‫عبْ َرةٍ و َزفْرَة‪ ،‬وَأنّة وحسرة‪ ،‬وتملمُل واضطراب‪ ،‬واشتعال والتهاب‪.‬‬ ‫كَأني ِكنْدَة وهي تََلهّفُ على حُجْر‪ ،‬والخنساء َتبْكي على صخر‪ ،‬أنا بين َ‬
‫مصيبة أصبحتُ ِل ُغمّتها وقيذاً‪ ،‬ولكُ ْربَتها أخيذاً‪ .‬كَتبتَ وقد ملك الج َزعُ عَزَائي‪ ،‬وحصل ناظري في إسار بكائي‪ ،‬فالقلْبُ دهش‪ ،‬والبنَان يرتعِش‪،‬‬
‫ع َقدَ الْحَ ْزمِ‪ ،‬واكتئابٌ ينقضُ‬ ‫وأنا من البقاء متوحّش‪ :‬قد انتهى بي الهلَع إلى حيث ل التَأسّي مُصحِب‪ ،‬ول التناسي مصاحِب‪ ،‬بي انزعاج يحلّ ُ‬
‫ن مبلغًا لم أبتذِلْه للنوائب‪ ،‬وإن جلت َوقْعاً‪ ،‬ونالَت مني مَنالً لم يعتد طرق المصائب‪ ،‬وإن عظُمت فجعاً‪ .‬كتبتُ عن‬ ‫شروط العَزْم‪ .‬قد بلغ الحز ُ‬
‫اضطرابِ نفسٍ‪ ،‬واضطرامِ صدر‪ ،‬والتهاب قلب‪ ،‬وانتهابِ صَبر‪ ،‬فما أعظمه مفقوداً! وما أكْرمه ملحوداً! إني لنوح عليه نَوْحَ المناقب‪ ،‬وأَ ْرثِيه‬
‫ت ب ُمهْجَة الفضل‪،‬‬ ‫مع النجوم الثواقب‪ ،‬وَأ ْبكِيه مع المعالي والمحاسن‪ ،‬وأثني عليه‪ ،‬بثناء المساعِي والمآثر‪ .‬ليت يمينَ الزمانِ شَلّتْ قبل أن فتكَ ْ‬
‫ب تعزّى‬ ‫ن تَ ْبكِيه‪ ،‬والمناق ُ‬
‫ن كُفّت قبل أن رأت مَصْرَع الفخر‪ .‬لقد رُزِئنا من فلن عالماً في شخص‪ ،‬وأمّة في نفس‪ .‬مضى والمحاس ُ‬ ‫عيْنَ الزما ِ‬‫وَ‬
‫ت به الصدور قبضها بفقْده المقدور‪ .‬قد ركبَ على العناق‪ ،‬بعد ال ِعتَاق‪ ،‬وعلى‬ ‫شرِحَ ْ‬ ‫ب المنون‪ ،‬ولما ُ‬ ‫فيه‪ .‬العيونُ لما قرّت به أسخنها فيه َريْ ُ‬
‫ك من مآثره‪ ،‬كما يَفُوحُ العنبرُ من مجامره‪ .‬كان منزلُه مَأْلفَ الضيافِ‪ ،‬ومَأنس الشراف‪ ،‬ومُنتجَع ال ّركْب‪،‬‬ ‫الجياد بعد الجِيادِ‪ ،‬وفاح فتيتُ المس ِ‬
‫ضجِيج النداء‬ ‫لدُمَ المآتم‪ ،‬ومن َ‬ ‫حمِ المراكب ت َ‬‫غبْرة‪ ،‬وبالبياض ظُ ْلمَة‪ ،‬واعتاض من تَزَا ُ‬ ‫لنْس وَحْشة‪ ،‬وبالغضارة ُ‬ ‫ومَقْصد ال َوفْد‪ ،‬فاستبدل با ُ‬
‫ت نواد ُبهَا مع نوادبه‪،‬‬ ‫حدَادَها من َبعْده‪ ،‬وهني المحاسنُ قد قامَ ْ‬ ‫ج البكاء والعويل‪ .‬هذي المكار ُم تبْدي شجْوَها لِ َف ْقدِهِ‪ ،‬وتَ ْلبَس ِ‬ ‫والصهيلِ‪ ،‬عجي َ‬
‫ظ ْعنِه عن الدنيا يكدرُ‬ ‫ش بمثله من إخوانِ الصفا يَصْفُو‪ ،‬وب َ‬ ‫ت مصائبُها بمصائبه‪ .‬لو َقبِلَت الف ْديَة لوق ْيتُه بنفسي وأيامِ عمري‪ ،‬عِلماً بأن العي َ‬ ‫واقترنَ ْ‬
‫ع ّدتِه‪ ،‬لكان‬
‫شدِهِ و ُ‬
‫حْ‬‫و َيعْفو‪ .‬لو وُقي من الموت عزي ُز قوم ِلعِ ّزتِه‪ ،‬أو كَبي ٌر بأولده وأُسرته‪ ،‬أو ذو سُلطان باستطالته وقُدرته‪ ،‬أو زعيم دولةٍ ب َ‬
‫ب ما كَ َرثَ وأَرْهَق؛ لكنه المرُ المسوي فيه بين مَنْ عزّ جانبُه وذَلّ‪،‬‬ ‫الماضي أَحق من وُقي وأولى من ُفدِيَ‪ ،‬و ُكنّا أقدر على دفع ما حدث‪ ،‬وذَ ّ‬
‫و َكثُر مالُه وقَلّ‪ ،‬حتى لحق المفضولُ بالفاضل‪ ،‬والناقصُ بالكامل‪.‬‬
‫ولهم فيما يطابق هذا النحو من وصف الدهر وذم الدنيا‪ :‬هو الده ُر ل ُيعْجَب من طوارقِه‪ ،‬ول ينكر هجوم بوائِقه‪ .‬عطاؤه في ضمانِ الرتجاع‪،‬‬
‫حبَاؤه في قِرَان النتزاع‪ .‬من عرفَ الزمان لم يستشعِر منه المان‪ ،‬وتصرف الحوادثِ‪ ،‬بين الموروث والوارث‪ .‬الدهرُ مشحون بطوارقِ‬ ‫وِ‬
‫ل نُقْلَة‪ ،‬فمن‬ ‫ن فيه بأسباب الجل‪ .‬قد جعل ال الدنيا دا َر قُلْعة‪ ،‬ومح ّ‬ ‫ال ِغيَر‪ ،‬مَشُوبٌ صَفْوُ أيامِه بالكَدَر‪ ،‬ممزوج صَابُه بالعسل‪ ،‬موصولَةٌ حبال الم ِ‬
‫ل متشوّف لجله‪ ،‬وجا ِر ل َمدِهِ‪ .‬ما الدنيا إل دار النقْلة‪ ،‬ول المقام فيها إلّ للزحلة‪ ،‬إنّ المرءَ حقيق إذا طرقه‬ ‫ل ليومه‪ ،‬ومن مؤخّر لغده‪ ،‬وك ّ‬ ‫راح ِ‬
‫صبْرَه ويتطرّق صدره‪ ،‬أن يعودَ إلى عِلمِه بالدنيا كيف نُصِبت على النقْلة‪ ،‬وجنبَتْ طويل المهلة‪ ،‬وابتدئت بالنقاد‪ ،‬وشُفع كونُها‬ ‫ما يتحيّف َ‬
‫بالفساد‪ ،‬وأنّ الثاوِي فيها رَاحِل‪ ،‬واليام فيها مَراحل‪ .‬موهوب الدنيا مسلوب وإن أرْجِئ إلى َمهَل‪ ،‬وممنوحها مجذوب وإن آخر إلى أَجل‪ .‬لو خلد‬
‫ل نجعة‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ت الدنيا دار قُلعة‪ ،‬ومح ّ‬ ‫ض مَنْ لحق؛ ولذلك جعل ِ‬ ‫سعَت الر ُ‬ ‫من سَبقَ‪ ،‬لما و ِ‬
‫جيْئَ ٍة وذُهـوبِ‬
‫ُم ِنعْنا بها من َ‬ ‫سبِقْنا إلى الدنيا فلو عاش أهلُها‬ ‫ُ‬
‫وفارقها الماضِي فراقَ سليبِ‬ ‫تملّكها التي تملُـكَ سـالـبِ‬
‫ب فِناؤها‪ ،‬وشُيد‬ ‫وقال عتبة بن هارون‪ :‬كنتُ مع فضل الرقاشي‪ ،‬فمرّ بمقبرة‪ ،‬فقال‪ :‬يا أهلَ الديار الموحِشة‪ ،‬والمحال الم ْقفِرة‪ ،‬التي نطق بالخرا ِ‬
‫ل هذِه المنازلِ متشاغلون‪ ،‬ل يتواصلون تواصُلَ الخوان‪ ،‬ول يتزا َورُون تزاورَ الجيران‪،‬‬ ‫بالتراب بناؤها‪ ،‬سا ِكنُها ُمغْترِب‪ ،‬ومحلّها مُ ْقتَرِب‪ ،‬أه ُ‬
‫جنْدَل والثرَى‪.‬‬ ‫قد طحنهم بكَلْكَلِه البِلَى‪ ،‬وأكلَهم ال َ‬
‫ص َبيْح‪ :‬لِوَحشَة الشكّ التمسنا أنْسَ اليقين‪ ،‬ومن ذلّ الجهل هربنا إلى عزّ المعرفة‪ ،‬ولخَوْفِ الضللةِ لزمنا الجادّة‪.‬‬ ‫وقال خاقان بن ُ‬
‫وقال بعض الحكماء‪ :‬كمونُ المصائب وسكونُ النوائب وبَغتات المنايا مطويّات في الساعات‪ ،‬متحركات في الوقات‪ ،‬ورب مغتَبطٍ بساع ٍة فيها‬
‫انقضاءُ أجلِه‪ ،‬ومتمتع بوقت صار فيه إلى َقبْرِه‪ ،‬ومنتظر ورودَ يوم فيه منيّتهُ‪.‬‬
‫حبّ َأمْ َريْك‬ ‫س تعذ منك‪ ،‬وأَ َ‬ ‫ووعظ أعرابيٌ ابناً له أفسدَ مالَه في الشراب‪ ،‬فقال‪ :‬ل الدهر َيعِظك‪ ،‬ول اليام تنذرك‪ ،‬والساعات ُت َعدّ عليك‪ ،‬والنفا ُ‬
‫إليك‪ ،‬أردّهما للمضرّة لديك‪.‬‬
‫من إنشاء بديع الزمان‬
‫ق العينُ فيهم تسهل‪ ،‬ليس منَا إل أمرد‬ ‫ومن إنشاء بديع الزمان في المقامات‪ :‬حدّثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬كنتُ في الهواز في ُرفْقة متى ما تر ّ‬
‫شرَة كيف نض ُع قواعدَها‪ ،‬والخُوّة كيف نحكم مَعاقدها‪،‬‬ ‫بكْر المال‪ ،‬بضّ الجمال‪ ،‬أو مختطّ حَسن القبال‪ ،‬مرجو اليام والليال؛ فأفضنا في العِ ْ‬
‫لنْس كيف نتَهاداهُ‪ ،‬وفائت الحظ كيف نتلفاه‪ ،‬والشراب من أين نخلصه‪ ،‬والمجلس كيف نرتبه؟ فقال أحدنا‪:‬‬ ‫والسرور في أي وقت نتعاطاه‪ ،‬وا ُ‬
‫على البيت والمنزل‪ ،‬وقال آخر‪ :‬على الشراب والنقل‪ ،‬وقال بعضُنا‪ :‬إلى السماع والجماع‪ ،‬وقمْنا نجرّ أذيال الفسوق‪ ،‬حتى انسلخْنا من السوق‪،‬‬
‫ضنَا عنها صَفْحاً‪ ،‬وطوينا دونها كَشْحاً‪ ،‬فصاح‬ ‫جنَازَةٌ؛ فتطيّرْنا لما رأينا الْجِنازة‪ ،‬وأعر ْ‬ ‫عكَازَة‪ ،‬وعلى كتفه ِ‬ ‫طمْرين‪ ،‬في ُيمْنَاه ُ‬ ‫واستقبلنا رجلٌ في ِ‬
‫صغْراً‪ ،‬ولتركبُنّها قَسراً‪ .‬ما لكم تكرهون مطِيةً ركبها أسلفكم‪ ،‬وسيركبها‬ ‫بنا صيحةً كادت الرضُ لها تنفَطِر‪ ،‬والنجو ُم تَن َكدِر‪ ،‬وقال‪ :‬لتر َونّها ُ‬
‫ن بهذه الجياد‪ ،‬إلى تلكم‬ ‫أخلفكم‪ ،‬وتتقذّرون سريراً وطِئه آباؤُكم‪ ،‬وسيطؤُه أبناؤُكم‪ .‬أما وال لتُحْملُنّ على هذه العِيدان‪ ،‬إلى تلكم الديدان‪ ،‬ولتنْقَلُ َ‬
‫طيّرون‪ ،‬كأنكم مخيرُونَ‪ ،‬وتتكرهون‪ ،‬كأنكم منزّهون‪ ،‬هل تنفع هذهِ الطيَرة‪ ،‬يا فجرة؟‪.‬‬ ‫الوهاد‪َ .‬ويْحَكم ت َ‬
‫ش َقنَا للفظك! ولو شئتَ‬ ‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فقد نقضَ علينا ما كنّا عَ َقدْناه‪ ،‬وأبطلنا ما كنّا أَر ْدنَاه؛ فَملْنا إليه‪ ،‬وقلنا‪ :‬ما أحوجَنا إلى وعْظِك‪ ،‬وأَعْ َ‬
‫حجّة‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ل ِزدْتَ‪ ،‬قال‪ :‬إنّ وراءكم موا ِر َد أنتم وا ِردُوها‪ ،‬وقد س ْرتُم إليها عشرين َ‬

‫‪242‬‬
‫إلى منهل من ِو ْردِه َلقَـرِي ُ‬
‫ب‬ ‫وإنّ امرًأ قد سار عشرينَ حَجّةً‬
‫ت منكم على ذكر‪ ،‬لئلّ‬ ‫وفوقكم مَنْ يعلم أسراكم‪ ،‬ولو شاء لهتك أستارَكم‪ ،‬يعامِلكم في الدنيا بحِلْم‪ ،‬و َيقْضي عليكم في الخرة بعِلم‪ ،‬فليكن المو ُ‬
‫جمَحُوا‪ ،‬ومتى ذكرتموه لم تمزحوا‪ ،‬وإن نسيتموه فهو ذاكِرُكم‪ ،‬وإن نمتُم عنه فهو ثائركم‪ ،‬وإن كرهتُموه‬ ‫تَأتوا بنكْر؛ فإنكم متى استشعرتموه لم ت ْ‬
‫حدّ‪ ،‬وأكثر من أن ُتعَدّ‪ ،‬قلنا‪ :‬فسانحُ الوقت؟ قال‪ :‬ردّ فائِت ال ُعمْرِ‪ ،‬و َدفْ ُع نازِل المرِ‪ ،‬قلنا‪:‬‬ ‫ل من أن تُ َ‬ ‫فهو زائركم قلنا‪ :‬فما حاجتُك؟ قال‪ :‬هي أطو ُ‬
‫ما إلى ذلكَ سبيل‪ ،‬ولكن لكَ ما شئت من متاعِ الدنيا وزخرفها‪ ،‬قال‪ :‬ل حاجةَ لي فيها‪.‬‬
‫قوله‪ :‬وإن امرأً سار عشرين حجة محرف عن قول قائِله‪ :‬وإن امرأ قد سار خمسين حجة والبيت لبي محمد التيمي‪ ،‬أنشده دِعبل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وخُلّ ْفتَ في قَرْنِ فأَنت غَـرِيب‬ ‫ت فيهمُ‬ ‫إذا ما مضى ال َقرْنُ الذي أن َ‬
‫والبيت بعده‪ .‬قال دعبل‪ :‬وتزعم الرواة أنه لعرابي من بني أسد‪ .‬وقال خلد الرقط‪ :‬كنا على باب أبي عمرو بن العلء ومعنا التيمي‪ ،‬فذكرنا‬
‫كتابَ الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم‪ :‬إني وإياك ِلدَتَان‪ ،‬وإن امرأ قد سار خمسين حجة لَقمن أن يَرده‪ .‬فأصلحنا ُه بيتاً‪ ،‬فاجتَلَبه التيمي في‬
‫شعره‪.‬‬
‫وكتب البديع إلى أبي القاسم الكرخي‪ :‬أنا وإن لم ألقَ تطاوُلَ الخوان إل بالتطوّل‪ ،‬وتجمل الحرار إل بالتجمّل‪ ،‬أحاسب الشيخَ على أخلقه‬
‫ض مجالٌ إن ضاقَتْ ظللُه‪ ،‬وفي الناس واصلٌ إن َرثَتْ‬ ‫ضنًا بما عقدت يدي عليه من الظن به‪ ،‬والتقدير في َمذْهَبه‪ ،‬ولول ذاك لقُ ْلتُ‪ :‬في الر ِ‬
‫خذُه بأفعاله؛ فإن أَعارني أذُناً واعيةً‪ ،‬ونَفْسًا مُرَاعية‪ ،‬وقلْبًا متّعظا‪ ،‬ورجوعًا عن الذهاب‪ ،‬ونزوعًا عمّا يقرعُه من هذا الباب‪ ،‬فرشت‬ ‫حبالُه‪ ،‬وأؤا ِ‬
‫غيْر مركب‪ ،‬وذهب من التغالي في غي ِر مذهب‪،‬‬ ‫عمْرِي؛ وإنْ ركب من التعالي َ‬ ‫لمودّته صدْرِي‪ ،‬وعقدت عليه جوامع حَصْري‪ ،‬ومجامع ُ‬
‫أقطعتهُ خطة أَخلقه‪ ،‬وولّيته جانبَ إعراضه‪ ،‬فكنت امرأ‪ :‬المديد‪:‬‬
‫قد بلوتُ الم ّر من ثَمرِهْ‬ ‫ل أذودُ الطيرَ عن شَجَرٍ‬
‫طرَي الدهر‪ ،‬ور ِكبْتُ ظهري البرَ والبَحْرِ‪ ،‬ولقيتُ َو ْفدَي‬ ‫فإني ‪ -‬أطال ال بقاء الشيخ مولي ‪ -‬وإن كنت في مقتبل السن والعمر‪ ،‬فقد حلبتُ ش ْ‬
‫ت ثديي العُرْف وال ّنكْر؛ فما‬ ‫ت إبطي العُسْر واليُسْر‪ ،‬وبلوتُ طعمي الحُلْو وال ُمرّ‪ ،‬ورضعْ ُ‬ ‫ت يدي النَفْع والضر‪ ،‬وضرب ُ‬ ‫الخيرِ والشرّ‪ ،‬وصافح ُ‬
‫ي سمعِه‬‫س ِمعُني من أقوالِها عجيباً‪ ،‬ولقِيت الفراد‪ ،‬وطارَحْتُ الحادة فما رأيتُ أحداً إل ملت حافت ْ‬ ‫تكادُ اليامُ تريني من أفعالها غريباً‪ ،‬وتُ ْ‬
‫وبصره‪ ،‬وشغلت حي َزيْ فكره ونَظَره‪ ،‬وأَثقلت َكفّه في ا ْلحُزن‪ ،‬وك َفتَه في الوَزْن؛ وودّ لو با َرزَ القِرنَ بصفحتي‪ ،‬أو لَقي الفَضْل بصحيفتي‪ ،‬فما‬
‫ل َقدْرَ الفضل‪ ،‬أو‬ ‫ص ْدتُه‪ ،‬ولزِم أرضَه وقد حضرته‪ ،‬وأنا أحاشيه أن يجه َ‬ ‫ب وقد قَ َ‬
‫صغُرتُ في عينه؟ وما الذي أ ْزرَى بي عنده؟ حتى احتج َ‬ ‫لي َ‬
‫ظهْرَ التّيه‪ ،‬على أهليه‪ ،‬وأسأله أن يختصّني من بينهم بفضل إنعام إن زلت بي مر ًة َقدَم رأي في قَصْده‪ ،‬وكأني به‬ ‫يَجْحَد فضلَ العلم‪ ،‬أو يمتطي َ‬
‫وقد غضب لهذه المخاطبة المجحِفة‪ ،‬والرتبة المتحيّفة‪ ،‬وهو في جنب جفائه يسير‪ ،‬وإن أقلع عن عادته إلى الوفاء‪ ،‬ونزع عن شيمته في الجفاء؛‬
‫فأطال ال بقاءَ الستاذ وأدام عزه وتأييده‪.‬‬
‫وله إليه رقعة‪ :‬يعزّ عليَ ‪ -‬أطال ال بقاء الشيخ الرئيس ‪ -‬أن ينوبَ في خِدمته قلمي‪ ،‬عن َقدَمِي‪ ،‬ويسعد برؤيته رسولي‪ ،‬دون وُصولي‪ ،‬ويَ ِردَ‬
‫شِرعَة النس به كتابي‪ ،‬قبل ركابي‪ ،‬ولكن ما الحيلةُ والعوائق جمّة‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫س عليَ إدراك النجاحِ‬ ‫وعليّ أن أسعى ولـي‬
‫عدَتِ‬
‫عشْق الحيطان‪ ،‬ولكن شوقاً إلى السكان‪ ،‬وحين َ‬ ‫وقد حضرتُ دارَه‪ ،‬وقبّلتُ جدارهُ‪ ،‬وما بي حبّ الجدرَان‪ ،‬ولكن شغفًا بالقطّان‪ ،‬ول ِ‬
‫خدْمةِ عَرَض‪ ،‬ولكني أقول‪:‬‬ ‫العَوادِي عنه‪ ،‬أمليتُ ضميرَ الشوقِ على لسان القلم‪ ،‬معتذِراً إلى الشيخ على الحقيقة‪ ،‬عن تقصيرٍ وقع‪ ،‬وفُتور في ال ِ‬
‫المديد‪:‬‬
‫عقَـابـا‬‫فكفى أل أرَاكَ ِ‬ ‫ص ِدكَ ذنباً‬ ‫ن َيكُنْ تَ ْركِي لقَ ْ‬
‫إْ‬
‫خذَ‬‫وله جواب إلى رئيس هراة عدنان بن محمد‪ :‬ورد كتاب الشيخ الرئيس سيدي‪ ،‬فظلت وفودُ النعم َتتْرَى عليّ‪ ،‬ومثلت لدي وبين يدي‪ ،‬وقد أ َ‬
‫عبْده وما أُشبّه رائع حُليِه‪ ،‬في نحر وَليّه‪ ،‬إل بالغُرّةِ اللئحةِ‪ ،‬على‬ ‫مكارمَ نفسِه‪ ،‬فجعلها قِلَدة غرْسه‪ ،‬وتتبّع المحاسنَ من عِنده‪ ،‬فحلّى بها نَحر َ‬
‫خلُقه‪ ،‬وأهداه إلى غير مستحقّه‪،‬‬ ‫الدّ ْهمَة الكالحة ل آخذَ ال الشيخ بوصفٍ نزعَه عن عرضه‪ ،‬وزَرَعه في غير أرضه‪ ،‬ونعتٍ سلَخه من خَلْقه و ُ‬
‫وفَضْل استفاده من فَرْعِه وأصله‪ ،‬وأوصله إلى مخير أهله‪ .‬ذكر حديث الشوقِ ولو كان المرُ بالزيارة حتماً‪ ،‬أو الذن جَزْماً أطلق عزماً‪ ،‬لكان‬
‫آخر نظري في الكتاب‪ ،‬أول نظري إلى الركاب‪ ،‬ولستعنْتُ على كُلَف السير‪ ،‬بأجنحة الطير‪ ،‬لكنه ‪ -‬أدام ال عزّه ‪ -‬صرعني بين يدٍ سريعة‬
‫النبْذ‪ ،‬و ِرجْل وشيكة الخذِ‪ ،‬وأراني زهداً في ابتغاء‪ ،‬كحسوٍ في ارتغاء‪ ،‬ونزاعاً في نزوع‪ ،‬كذهاب في رُجوع‪ ،‬ورغبة فيّ كرغبة عني‪ ،‬وكلماً‬
‫علِن بالزيارة وقد أس ّر بالنداء‪ ،‬ولو لم َيدْعني بلسان‬ ‫في الغِلف‪ ،‬كالضرب تحت اللحاف‪ ،‬فلم أصرّحْ بالجابة وقد عرّض بالدعاء‪ ،‬ولم أ ْ‬
‫المُحاجَاة‪ ،‬ولم يجاهِرْني بف ِم المناجاة‪ ،‬لكنتُ أسرعَ إليه‪ ،‬من الكرم إلى عطفيه‪ ،‬وفكرتُ في مُرَادِ الشيخ‪ ،‬فوجدْتُه ل يتعدّى الكرم يشبّ ناره‪،‬‬
‫والفضل يُدرك ثاره‪ ،‬وإذا كان الم ُر كذلك فما أوله بترفيهِ موله‪ ،‬عن زَفرَةٍ صاعدة‪ ،‬بسفرة باعدة‪ ،‬ونكباء جاهدة‪ ...‬وقد زاد سيدي في أمْرِ‬
‫المخاطبة‪ ،‬وما أحسن العتدال‪ ،‬وقد كفانا منه الستاذ‪ ،‬وأسأله أل يزيد‪ ،‬وقد بدأ ويجب أل يعيد‪ ،‬فل تنفع كثرة الع ّد مع قلّة المعدود‪ ،‬والزيادة في‬
‫خسْرَان‪ ،‬وزيادة أ ْفضَتْ إلى نُقْصَان‪ ،‬ورأي الشيخ في تشريفه بجوابه موفّق إن‬ ‫ب ربح أدّى إلى ُ‬ ‫الحدّ مع نقصان المحدود نقص من الحدود‪ ،‬ور ّ‬
‫شاء ال تعالى‪.‬‬
‫اجتلَب قولَه في أول هذه الرسالة من قول أبي إسحاق الصابي في جواب كتاب لبعض إخوانه‪ :‬وصل كتابك مشحوناً بلطيف بِرّك‪ ،‬موشّحاً‬
‫بغامِر فَضْلِك‪ ،‬ناطقًا بصحّةِ عهدك‪ ،‬صادقاً عن خلوص ودّك‪ ،‬وفهمتُه وشكرتُ ال تعالى على سلمتك شُكرَ المخصوص بها‪ ،‬ووقَفتُ على ما‬
‫ت إليه من التقريظ لي‪ ،‬فما زدتَ على أن أعزتَني خِللَك‪ ،‬ونح ْلتَني خِصالَك‪ ،‬ل ّنكَ بالفضائل أوْلَى‪ ،‬وهي بكَ‬ ‫وصفته من العتدادِ بي‪ ،‬وتنا َهيْ َ‬
‫حدّي إذا حددت‪ ،‬أو يحيط بكماله َوصْفي إذا وصَفْت‪ ،‬لَشَرَعْت في بلوغها والقرب منها‪،‬‬ ‫حرَى‪ ،‬ولو كنت في نفسي ممن يشتملُ على وصفه َ‬ ‫أْ‬
‫ح لك مستنْفِد لك وُسْعه وقد بخَسك‪ ،‬ومستغرق طَ ْوقَه وقد َنقَصَك‪ ،‬فأبلغُ ما يأتي به ال ُمثْني عليك‪ ،‬ويتوصّل إليه المُطْرِي لك‪ ،‬الوقوف‬ ‫لكن الماد َ‬
‫في ذلك دون منتهاه‪ ،‬والقرار بالعجز دون غايته و َمدَاه‪.‬‬
‫ونقل البديعُ ما ذكره من تَرْك السفر والبغية بما حضر من قولِ ابن الرومي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫له ال ّر ْفدَ والتّرفيه أوجـبَ وَاجـبِ‬ ‫ض مثلِك أن تَرى‬ ‫أما حق حامِي عر ِ‬
‫وتغني بوج ٍه ناضرٍ غير شـاحِـبِ‬ ‫ك نـعـمةً‬ ‫أقمت لكي تزدادَ ُن ْعمَـا َ‬
‫جمّ المـسـاغـب‬ ‫وعاقبه والقول َ‬ ‫وكي ل يقولَ الـقـائلـون أثـابـهُ‬

‫‪243‬‬
‫عدِيت به مـن آمـل لـك عـائب‬ ‫ُ‬ ‫وليس عجيبـاً أن ينـوبَ تـكـرّم‬
‫وحقّي ل حقّ القلص النـجـائب‬ ‫ي تَرْعـى ل ذِمـام سـفـينةٍ‬ ‫ذِمَا ِم َ‬
‫ن قد نهيتُك عن هذا؟ فقال‪ :‬وما عليك أن أتعوّد الخيرَ‪ ،‬وأنشأ عليه فقال‪ :‬يا بني‪ ،‬يحتاجُ‬ ‫ودخل على أبي العتاهية ابنُهُ‪ ،‬وقد تصوّف‪ ،‬فقال‪ :‬ألم أكُ ْ‬
‫المتصوف إلى رقّة حال‪ ،‬وحلوة شمائل‪ ،‬ولطافة معنى‪ ،‬وأنت ثقيلُ الظلّ‪ ،‬مظلم الهواء‪ ،‬راكِد النسيم‪ ،‬جامدُ العينين‪ ،‬فأقبل على سوقك؛ فإنها‬
‫أعْ َودُ عليك‪ ،‬وكان بزّازا‪.‬‬
‫فقر من كلم المتصوّفة والزهّاد والقصاص‬
‫نورُ الحقيقةِ‪ ،‬أحسن من نور الحديقة‪ .‬الزهد قَطْع العلئق‪ ،‬و َهجْر الخلئق‪ .‬الدنيا ساعة‪ ،‬فاجعلها طاعة‪ .‬التصوّف تَ ْركُ التكلّف‪ .‬قيل لمتصوّف‪:‬‬
‫أتبغ مُ َرقّعتك؟ قال‪ :‬أرأيتم صيادًا يبيع شبكَته! وقيل لبعضهم‪ :‬لو تزوّجْتَ! قال‪ :‬لو قدرت أن أطلق نفسي لطلقتها‪ ،‬وأنشد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سقطت إلى الدنيا وأنتَ مجرّد‬ ‫تج ّر ْد من الدنيا فإنـك إنـمـا‬
‫الدنيا نَوْم والخرة يقظة‪ ،‬والمتوسّط بينهما الموت‪ ،‬ونحن في أضغاث أحلم‪.‬‬
‫ذو النون‪ :‬العبد بين نعمة وذنبٍ‪ ،‬ل يصلحهما إل الشكر والستغفار‪.‬‬
‫ن يكون في الدنيا كالمريض ل بدّ له من قوت‪ ،‬ول يوافقه كل طعام‪ .‬ليس في الجنة نعيمٌ أعظم من علم أهلها أنها ل تزول‪.‬‬ ‫غيره‪ :‬ينبغي للعبد أ ْ‬
‫ب عنه‪ .‬من أطلق طرْفه كثر أسفُه‪ .‬من سُوءِ القدر فَضْل‬ ‫ابن المبارك‪ :‬الزهد إخفاء الزهد‪ .‬إذا هرب الزاهدُ من الناس فاطلبه‪ ،‬وإذا طلبهم فاهر ْ‬
‫حتْفَه‪ ،‬ومن نظر بعين الهوى حار‪ ،‬ومن حَكم على الهوى جار‪ ،‬ومن أطال النظر لم يدرِك الغاية‪ ،‬وليس لناظر‬ ‫النظر‪ .‬من طاوعَ طَرْفه‪ ،‬تابع َ‬
‫س من لحظة‪ ،‬وأنشد‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫غرِ َ‬ ‫جنِيت من لفظة‪ ،‬وربّ حبّ ُ‬ ‫صدَه‪ .‬وقيل‪ :‬ربّ حربٍ ُ‬ ‫شدَه‪ ،‬وأضلّ البصير قَ ْ‬ ‫نهاية‪ .‬ربما أبصر العمى ُر ْ‬
‫سرابيلَ أبدانِ الحديدِ المسَـ ّردِ‬ ‫نظرت إليها نظرةً لو كسوتها‬
‫ت لداودَ في ال َيدِ‬ ‫ت كما لَن ْ‬ ‫ولَن ْ‬ ‫لرقّت حواشيها وفُضّ حديدُها‬
‫وقال سعيد بن حميد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إليّ بمضمون الضمـي ِر تـشـيرُ‬ ‫حتْف نظـرة‬ ‫نظرتُ فقا َدتْني إلى ال َ‬
‫ن َمعَارِيضَ الـبـلء كـثـيرُ‬ ‫فإ ّ‬ ‫فل تصرفنّ الطّرْفَ في كل َمنْظَرٍ‬
‫ب كَيف يجُـورُ‬ ‫حكْم الح ّ‬ ‫ول مثل ُ‬ ‫ولم أَر ِمثْلَ الحبّ أسقـم ذا هـوىً‬
‫يُصان لدى الطّرْف النموم ضمِيرُ‬ ‫صنْتُ ما بي في الضمير لَ َو أنه‬ ‫لقد ُ‬
‫غيره‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وأن صاحبَه منه علـى خَـطَـرِ‬ ‫ب مَـتْـلَـفَةٌ‬
‫اليومَ أيقنْتُ أنّ الحـ ّ‬
‫من المنيّةِ بين الخوفِ والـحـذَر‬ ‫كيف الحيا ُة لمن أ ْمسَى على شَ َرفٍ‬
‫ويحملُ الذنبَ أحياناً على القـدر‬ ‫يلو ُم عينيه أحيانًا بـذنـبـهـمـا‬
‫وقلبُه أبدًا منه عـلـى سَـفَـرِ‬ ‫إذا نأى أو َدنَا فالقلبُ عـنـدكُـم‬
‫ونظر محمد بن أسباط الصوفي إلى أبي المثنى الشيباني وقد نظر في وجه غلم مليح‪ ،‬فقال‪ :‬إياك وإدْمانَ النظر فإنه‪ ،‬يكشف الخبر‪ ،‬ويفضَحُ‬
‫البشَر‪ ،‬ويطول به المكثُ في سقَر‪.‬‬
‫وقال المعَلى الصوفيّ‪ :‬شكوتُ إلى بعض الزهاد فسَاداً أجدُه في قلبي‪ ،‬فقال‪ :‬هل نظرتَ إلى شيء فتا َقتْ إليه نفسُك؟ قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬اح َفظْ‬
‫عينيك؛ فإنك إن أطلقتهما أوقعتَاك في مكروه‪ ،‬وإن مل ْك َت ُهمَا ملكْتَ سائرَ جوارِحِك‪.‬‬
‫وقال مسلم الخوّاص لمحمد بن علي الصوفي‪ :‬أ ْوصِني‪ ،‬فقال‪ :‬أوصيك بتقوى ال في أمرِك كله‪ ،‬وإيثار ما يحبّ على محبتك‪ ،‬وإياك والنظر إلى‬
‫كل ما دعاك إليه طَرْفك‪ ،‬وشوّقك إليه قلبك‪ ،‬فإنهما إن ملكاك لم تملك شيئاً من جوارحك‪ ،‬حتى تبلغ لهما ما يطالعانك به‪ ،‬وإن ملكتهما كنت‬
‫الداعي إلى ما أردت‪ ،‬فلم يعصيا لك أمراً ولم يردّا لك قولً‪.‬‬
‫قال بعض الحكماء‪ :‬إن ال عز وجل جعل القلبَ أميرَ الجسدِ‪ ،‬و َمِلكَ العضاءِ؛ فجميعُ الجوارح َتنْقا ُد له‪ ،‬وكُل الحواسن تُطِيعُه‪ ،‬وهو مديرُها‬
‫ضدُه الفهمُ‪ ،‬ورائده العينان‪ ،‬وطليعته الذنان‪ .‬وهما في‬ ‫ومصرفها‪ ،‬وقائدها وسائقها‪ ،‬وبإرادته تنبعثُ‪ ،‬وفي طاعته تتقلب؛ ووزيره العقل‪ ،‬وعا ِ‬
‫النقل سواء‪ ،‬ل يكتمانه أمراً‪ ،‬ول يطوِيانِ دونه سرّا‪ ،‬يريد العين والذن‪.‬‬
‫وقيل لفلطون‪ :‬أيهما أشذ ضرراً بالقلب السمع أم البصر؟ فقال‪ :‬هما للقلب كالجناحين للطائر‪ ،‬ل يستقل إل بهما‪ ،‬ول ينهض إل بقوتهما‪،‬‬
‫وربما قص أحدُهما فنهض بالخر على تعب ومشقة‪ .‬قيل‪ :‬فما بالُ العمى يعشق ول يرى‪ ،‬والصمّ يعشقُ ول يسمع؟ قال‪ :‬لذلك قلت‪ :‬إن‬
‫الطائر قد ينهضُ بأحد جناحيه ول يستقل بهما طيراناً‪ ،‬فإذا اجتمعا كان ذهابه أمضى‪ ،‬وطيرانه أَوْحَى‪.‬‬
‫وقال السود بن طالوت الجارودي‪ :‬نظر إليّ أبو الغمر الصوفي وقد أطلتُ النظرَ إلى غلم جميل‪ ،‬فقال‪ :‬ويحك! إنّ طرْفك لعظيم ما اجتنى من‬
‫حتْف قاتل للقلوب‪ ،‬وبل ٍء مُظْهر للعيوب‪ ،‬وعا ٍر فاضح للنفوس‪ ،‬ومكروه مُذهِل‬ ‫البل ِء قد عرّضَك للمكروه وطول العناءِ‪ ،‬لقد نظرت إلى َ‬
‫ف كيدَه؟ اِعل ْم أنك لم تكن في وقت من أوقاتك‪ ،‬ول حالةٍ من حالتك‪،‬‬ ‫خ ْ‬
‫ل هذا الغترار بال جرّأك عليه حتى أمنت َمكْرَه‪ ،‬ولم ت َ‬ ‫للعقول‪ ،‬أك ّ‬
‫أقرب إلى عقوبة ال منك في حالتك هذه‪ ،‬ولو أخذك لم يتخّلصْك الثقلن‪ ،‬ولم َي ْقبَلْ فيك شفاعةَ إنس ول جان‪.‬‬
‫ظرَ إلى كل ما‬ ‫ونظر محمد بن ضوء الصوفي إلى رجل ينظرُ إلى غلم مليح‪ ،‬فقال‪ :‬كفى بالعبد نقصًا عند ال‪ ،‬وضعة عند ذوي العقول‪ ،‬أن ين ُ‬
‫ح له من البلء‪.‬‬ ‫سَن َ‬
‫ونظر بو مسلم الخشوعي فأطال النظر‪ ،‬فقال‪ :‬إنّ في خَلْقِ السموات والرض واختلف الليل والنهار ليات لولي اللباب‪ .‬ثم قال‪ :‬سبحان ال!‬
‫ما أهجمَ طَرفي على مكروه نفسه‪ ،‬وأدمَنه على تسخّط سيده‪ ،‬وأغراه بما نهى عنه‪ ،‬وأ ْلهَجه بما حذّر منه! لقد نظرت إلى هذا نظرًا شديداً خشيتُ‬
‫ستَحِي من ال تعالى إن غفر لي! ثم صعق‪.‬‬ ‫أنه سيفضحني عند جميع مَنْ يعرفني في عَرصَة القيامة؛ ولقد تركني نظرِي هذا وأنا أَ ْ‬
‫طرْفي‪ ،‬ول بم أُعالج قلبي؟ ما أتوبُ إلى ال من ذنب إل‬ ‫ونظر غالبٌ المضرور إلى غلم جميل على فرس رائع‪ ،‬فقال‪ :‬ل أدري بم أداوي َ‬
‫رجعت فيه‪ ،‬ول أستغ ِفرُه من أمر إل أتيت أعظم منه‪ ،‬حتى لقد استحييتُ أن أسأله المغفرة لما يلحق قلبي من القنوط من عفوه‪ ،‬لعظيم حالي‬
‫ي منكر أتيت؟ فقال‪ :‬أتري ُد مني أكثرَ من نظري هذا؟ وال لقد خشيت أن يبطل كل عمل قدمته‪ ،‬وخير‬ ‫بالمنكر الذي أصنعهُ‪ .‬فقال له قائل‪ :‬وأ ّ‬
‫أسلفته‪ ،‬ثم بكى حتى ألصق خدّه بالرض‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫حكُ إلى غلم جَميل‪ ،‬فقال له‪ :‬يا خارب القلب‪ ،‬ويا مفتضح الطرْف؛ أما تستحي من كِرَام كاتبين‪ ،‬وملئكة‬ ‫ورأى بعضُ الزهّاد صوفيّا يض َ‬
‫حافظين‪ ،‬يحفظون الفعال‪ ،‬ويكتبون العمال‪ ،‬وينظرون إليك‪ ،‬ويشهدون عليك‪ ،‬بالبلء الظاهر‪ ،‬والغِلّ الدخيل المخامر‪ ،‬الذي أقمت نفسَك فيه‬
‫ن ل ُيبَالي من وقف عليه‪ ،‬ونظر من الخلق إليه‪.‬‬ ‫مقام مَ ْ‬
‫وقال أبو حمزة بن إبراهيم‪ :‬قلت لمحمد بن العلء الدمشقي ‪ -‬وكان سيدَ المتصوفة‪ ،‬وقد رأيتهُ يماشِي غلماً وضيئًا مدة ثم فارقه‪ِ :-‬لمَ هجرتَ‬
‫ت قلبي يدعوني إذا خلوت به‪ ،‬وقربت‬ ‫ن كنتَ له مواصلً‪ ،‬وإليه مائلً؟ فقال‪ :‬وال‪ ،‬لقد فارقته من غير قِلًى ول مَلَل؛ ولقد رأي ُ‬ ‫ذلك الفتى بعد أ ْ‬
‫منه‪ ،‬إلى أمر لو أتيته لسقطت من عيْن ال عزّ وجلّ؛ فهجرتُه تنزيهاً لِ ولنفسي عن مصارع الفتن‪ ،‬وإني لرجو أن يعقبني سيدي من مفارقته‬
‫ما أعقب الصابرين عن مَحارِمه عند صدق الوفا ِء بأحسنِ الجزاء؛ ثم بكى حتى رحمتهُ‪.‬‬
‫ت مع أحمد بن علي الصّوفي ببيت المقدس غلماً جميلً‪ ،‬فقلت‪ :‬منذ كم صحبك هذا الغلم؟ فقال‪ :‬منذ سنين‪ ،‬فقلت‪ :‬لو‬ ‫قال أبو حمزة‪ :‬ورأي ُ‬
‫ث يراكما الناس؟ فقال‪ :‬أخافُ احتيالَ الشيطان عليّ به وقت‬ ‫سرتما إلى بعضِ المناز ِه فكنتما فيه كان أحمد لكما من الجلوس في المسجد بحي ُ‬
‫خَلوتي‪ ،‬وإني لكره أن يراني ال فيه على معصية فيفرق بيني وبينه يوم يظفر المحبّون بأحبابهم‪.‬‬
‫قال أبو الفتح البستي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫فيه وظنّوه مشتقّا من الـصـوفِ‬ ‫تنازع الناسُ في الصوفيّ‪ ،‬واختلفوا‬
‫صافَى فصُوفِيَ حتى لقّب الصوفي‬ ‫ولست أنحل هذا السمَ غي َر فـتًـى‬
‫ب من‬ ‫حيَا‪ ،‬وكانت فائقة الجمال‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا الشغل الذي منعك الرويّة والفكرة؟ فقال‪ :‬التعج ُ‬ ‫ل من تلمذته يتفرّس في وَجْه أو َ‬ ‫ورأى بقراط رج ً‬
‫آثار حكمة الطبيعة في صورة أوحَيا‪ ،‬فقال‪ :‬ل تجعلنّ نظرك لشهوتك مركباً‪ ،‬فيجمع لك في الوحول الذية؛ ول َتكُنْ نفسُك منه على بال‪ ،‬إنّ آثار‬
‫الطبيعة في وَجْه أوحَيا الظاهرة تمحق بصرك‪ ،‬وإن فكرت في صورتها الباطنة تحدّ نظرَك‪.‬‬
‫صرَ جسمك عمّا ليس‬ ‫ص به‪ ،‬فغضّ ب َ‬ ‫وقال بعضُهم‪ :‬رأيت جارية حسناء الساعدِ‪ ،‬فقلت‪ :‬يا جارية‪ ،‬ما أحسنَ ساعدَك! فقالت‪ :‬أجل‪ ،‬لكنه لم تخت ّ‬
‫لك؛ لينفتح بصرُ عقلك فتَرَى ما لك‪.‬‬
‫الرأي والهوى‬
‫وقال بعضُ الفلسفة اليونانيين‪ :‬فضلُ ما بين الرأْي والهوى أنّ الهوَى يخُصّ والرأي يعمّ‪ ،‬وأن الهوى في حيز العاجل‪ ،‬والرأي في حيز الجل‪،‬‬
‫حسّ‪ ،‬والرأي في حيّز العقل‪.‬‬ ‫والرأي يبقى على طول الزمانِ‪ ،‬والهوى سريع الدثور والضمحلل‪ ،‬والهوى في حيز الْ ِ‬
‫وقال بعضُ الحكماء‪ :‬من انقاد ِلهَوَاه عرضته الشهوات‪.‬‬
‫طلْقا‪ ،‬جعل عليه للذلّ طرقا‪.‬‬ ‫جرَى مع هواه َ‬ ‫وقال آخر‪ :‬من َ‬
‫ل فقال‪ :‬آمرك بمجاهدة هواك؛ فإنه يقال‪ :‬إن الهوى مفتاحُ السيئات‪ ،‬وخصيم الحسنات‪ ،‬وكل أهوائك‬ ‫وقال ابن دُريد‪ :‬أَوصى بعضُ الحكماء رج ً‬
‫لك عدو‪ ،‬وأعداهما هوًى يكتُمك نفسَه‪ ،‬وأعدى منه هوى يمثّل لك الثم في صورةِ التقوى‪ ،‬ولن تفصل بين هذه الخصوم إذا تناظرت لديك إل‬
‫صدْقٍ ل يطمع فيه تكذيبٌ‪ ،‬ومَضَا ٍء ل يقاربُه التثبيط‪ ،‬وصبر ل يغتاله الجزع‪ ،‬وهمّة ل يتقسمها التضييع‪.‬‬ ‫بحَ ْز ٍم ل يشوبه وهَن‪ ،‬و ِ‬
‫وقاد أبو العتاهية‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ولو َتمَ َنعْتَ بالحُجّابِ والـحَـرَسِ‬ ‫ل َت ْأمَنِ الموتَ في طَرْف وفي نَفَس‬
‫ب ُمدّرعٍ منّـا ومُـتّـرسِ‬ ‫في جَن ِ‬ ‫ت نـافـذةً‬ ‫سهَامُ الـمـو ِ‬ ‫فما تزالُ ِ‬
‫ل من ال ّدنَـسِ‬ ‫وثوبُك الدهر مَغسو ٌ‬ ‫ما با ُل دينكَ تَرْضَى أن تُـدَنّـسَـهُ‬
‫إن السفينةَ ل تجرِي علـى َيبَـس‬ ‫ترجو النَجاةَ ولم تَسُْلكْ مسَالِـكَـهـا‬
‫من البد بدائه في مجالس الخلفاء‬
‫خرج شبيب بن شيبة من دا ِر المهدي‪ ،‬فقيل له‪ :‬كيف رأيتَ الناس؟ قال‪ :‬رأيتُ الداخل راجياً والخارجَ راضياً‪ ،‬نحا إلى هذا المعنى ربيعةُ ال ّرقّيّ‬
‫فقال‪ :‬السريع‪:‬‬
‫للناس والعفو عن الظالمِ‬ ‫قد بسطَ المهدي كفّ الندى‬
‫مبشرٌ للـواردِ الـقـادمِ‬ ‫فالراحلُ الصادر عن بابه‬
‫وقال مسلم بن الوليد في نحو هذا المعنى‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جزاءَ مق ّر بالصنـيعة شـاكِـرِ‬ ‫جزيت ابنَ منصورٍ على نَأْي دارهِ‬
‫وأرّثَ نيرانَ الندى للـعـشـائر‬ ‫فَتى راغمَ الموالَ واصطنع العُلَ‬
‫حدُو بِهِ حملُ صـادِرِ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫عَلَى آمِ ٍ‬ ‫ترى الناسَ أَرسالً على باب داره‬
‫وقال المتنبي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ع ْهدُهُ‬
‫قَرِيبٌ بذِي ال َكفّ المُ َفدّاةِ َ‬ ‫ضحّاكَ أَعَْلمُ أنـهُ‬‫وألقَى الفَمَ ال َ‬
‫دخل خالد بن صفوان على أبي العباس السفاح‪ ،‬وعنده أخواله من بني الحارث بن َكعْب‪ ،‬فقال‪ :‬ما تقولُ في أخوالي؟ فقال‪ :‬هم هامة الشرف‪،‬‬
‫شيَماً‪ ،‬وأطيبهم طعماً‪ ،‬وأوفاهم‬ ‫وعِ ْرنِينُ الكَرم‪ ،‬وغَرسُ الجود‪ ،‬إنّ فيهم لخصالً ما اجتمعَتْ في غيرهم من قومهم؛ إنهم لطولهم أمماً‪ ،‬وأكرمهم ِ‬
‫جدْبِ‪ ،‬والرأس في كل خَطْب‪ ،‬وغيرهم بمنزلة العَجْب‪ .‬فقال‪ :‬وصفت أبا صفوان‬ ‫ذمماً‪ ،‬وأبعدهم همماً‪ ،‬الجمرة في الحرب‪ ،‬وال ّرفْد في ال َ‬
‫فأحسنْتَ‪ ،‬فزادَ أخوالُه في الفخر فغضب أبو العباس لعمامه‪ ،‬فقال‪ :‬أَفخرٌ يا خالدُ؟ قال‪ :‬أعلى أخوال المؤمنين! قال‪ :‬وأنتَ من أعمامه؟ قال‪:‬‬
‫جرَذ‪ ،‬وملكتهم أ ّم ولد! فأشرق َوجْهُ أبي العباس‪.‬‬ ‫ل عليهم هدهُد‪ ،‬وغرّقهم ُ‬ ‫كيف أفاخر قومًا بين ناسج برد‪َ ،‬وسَائس قِرْد‪ ،‬ودابغ جِلْد‪ ،‬د ّ‬
‫جمْ ِع معايبهم‪ ،‬واختصار اللفظ في َمثَالبهم‪ ،‬بعد ذلك‬ ‫قال يموت ابن المزرّع‪ :‬سمعتُ خالي الجاحظ‪ ،‬وذكر كلم خالد هذا‪ ،‬فقال‪ :‬وال لو فكر في َ‬
‫سنَةً لكان قليلً‪ ،‬فكيف على بديهته لم يَرُض له فكراً‪.‬‬ ‫ح المهذب َ‬ ‫المد ِ‬
‫ل من هذا‪ ،‬وليس من شَرْطِنا‪.‬‬ ‫هكذا أورد هذه الحكاية الصولي‪ ،‬وقد جاءت بأطو َ‬
‫قال معن بن أَوس الهذلي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫على أيّنا تَـأْتـي الـمـنـيّة أولُ‬ ‫لعمرك مـا َأدْرِي وإنّـي لَوْجَـلُ‬
‫إذا ناب خطبٌ أو َنبَا بك مـنـزِل‬ ‫وإني أخوك الدائمُ الـودّ لـم أحُـلْ‬

‫‪245‬‬
‫وسُخْطِي‪ ،‬وما في رِيبتي ما َتعَجّلُ‬ ‫كأنك تشفِي منك داءَ مـسـاءتـي‬
‫ليعقبَ يوماً آخر منـك مُـقْـبـلُ‬ ‫وإن سُ ْؤتَني يوماً صبرتُ إلـى غـدٍ‬
‫ف تَـبـدّلُ‬
‫يمينَك فانْظُـرْ أيّ كـ ّ‬ ‫ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتـنـي‬
‫وفي الرض عن دارِ القلى ُمتَحَوّل‬ ‫وفي الناس إن رثّت حبالُك واصـلٌ‬
‫على طرف الهجران إنْ كان يعقلُ‬ ‫إذا أنت لم تنصفْ أخـاك وجـ ْدتَـهُ‬
‫حلُ‬ ‫ف مَزْ َ‬‫شفْرةِ السي ِ‬ ‫إذا لم يكن عن َ‬ ‫ويركب حدّ السيف من أن تَضِيمَـهُ‬
‫و َبدّل سوءاً بالـذي كـان يفـعـل‬ ‫وكنت إذا ما صاحبٌ رامَ ظنـتـي‬
‫عليه العهد إلّ ريثـمـا أَتـحـوّلُ‬ ‫ظهْرَ الـمِـجَـنّ ولـم أدُمْ‬
‫قلبتُ له َ‬

‫عليّ بوجهٍ آخر الدهـر تُـقـبـل‬ ‫إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد‬
‫شعُرْتَ بعدي يا أبا‬ ‫ودخل عبد ال بن الزبير على معاوية بن أبي سفيان وأنشد شعر َمعْن‪ ،‬فقال‪ :‬لمن هذا؟ فقال‪ :‬لي يا أمير المؤمنين‪ ،‬قال‪ :‬لقد َ‬
‫ظئْري فما كان له فهو لي‪ .‬أراد‬ ‫بكر! ثم دخل عليه َمعْن فأنشد الشعر بعينه‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا بكر‪ ،‬ألم تقل إنه شعرك؟ فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إنه ِ‬
‫معاتبة معاوية فعاتبه بشعر َمعْنٍ؛ ليبلغ ما في نفسه‪ ،‬وليس ادّعاؤه له على حقيقة منه‪.‬‬
‫وقال خالد بن صفوان‪ :‬دخلتُ على هشام بن عبد الملك‪ ،‬فاس َتدْنَاني حتى كنت أقربَ الناسِ إليه‪ ،‬ثم تنفّس الصعداء‪ ،‬وقال‪ :‬يا خالد‪ ،‬ربّ خالدٍ‬
‫جلس مجلسك هو أشهى إليّ حديثاً منك! فعلمت أنه أراد خالداً القَسرِي‪ ،‬فقلت‪ :‬أفل تعيده يا أمير المؤمنين؟ فقال‪ :‬هيهات؟ إن خالداً أدلّ فأملّ‪،‬‬
‫ل بهذا البيت‪ :‬الطويل‪:‬‬‫وأوجف فأعجف‪ ،‬ولم يَ َدعْ لراجع مرجعاً‪ .‬وتمث ّ‬
‫عليه بوجهٍ آخرَ الدهـر تُـقْـبِـلُ‬ ‫إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم َتكَد‬
‫سمَرِه مع أهل بيتِه وولده وخاصّته‪ ،‬فقال لهم‪ِ :‬ليَقُلْ كلّ واحدٍ منكم أحسن ما‬ ‫وروى أبو حاتم عن أبي عبيدة قال‪ :‬كان عبد الملك بن مروان في َ‬
‫قيل من الشعر‪ ،‬وليفضّل مَنْ رأى تفضيله‪ ،‬فأنشدوا وفضّلوا‪ .‬فقال بعضهم‪ :‬امرؤ القيس‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬النابغة‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬العشى‪ ،‬فلمّا‬
‫فرغوا قال‪ :‬أشعرُ الناس وال من هؤلء الذي يقول‪ ،‬وأنشد بعض هذه البيات التي أنشد‪ ،‬وهي لمعن بن أوس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي عنه وهو ليس لـه حِـلْـمُ‬ ‫بحلم َ‬ ‫وذي َرحِ ٍم قَلّمتُ أظفارَ ضِـغْـنِـهِ‬
‫ت عندي أن يَحُلّ به الرّغْـمُ‬ ‫وكالمو ِ‬ ‫يحاول رَغْمـي ل يحـاولُ غـيرهُ‬
‫وليس له بالصّفْح عن ذنبه عِـلْـمُ‬ ‫ف عنه أغْض عيناً على قَذىً‬ ‫فإن أع ُ‬
‫سها َم عد ّو يُستهاض بها الـعـظـمُ‬ ‫وإن أنتصر منه أكُنْ مـثـل رائشٍ‬
‫ب القارب والسّلـم‬ ‫حرْ ُ‬
‫وما يستوِيَ َ‬ ‫صبَ ْرتُ على ما كان بيني وبـينـهُ‬
‫على سهمه ما كان في كفَه السهـم‬ ‫ت منه النأيَ والمـرءُ قـادرٌ‬ ‫وبادر ُ‬
‫وليس لَهُ عندي هَـوَانٌ ول شـتـم‬ ‫ويشتم عرضي في المغيّب جاهـداً‬
‫قطيعتَها‪ ،‬تلك السـفـاهةُ والثـمُ‬ ‫س ْمتُه َوصْلَ القرابةِ سـامـنـي‬ ‫إذا ُ‬
‫و َيدْعُو لحكم جائرٍ غيرُهُ الْـحُـكـمُ‬ ‫فإن أدْعُه للنّصْف َيأْبَ إجـابـتـي‬
‫رِعايتها حقّ وتعطيلـهـا ظُـلـم‬ ‫فلول اتقاءُ اللـه والـرّحِـمِ الـتـي‬
‫شنَـارٍ ل يشـابـهـهُ وَسْـمُ‬ ‫سمِ َ‬‫بو ْ‬ ‫إذا لعَـلَه بـارقٌ وخَـطَـمْـتُـهُ‬
‫وليس الذي يبني كمن شَانُه الهَـدْمُ‬ ‫ويسعى إذا أبني ليهدِمَ صـالـحِـي‬
‫وأكرهُ جهدي أن يخالِطَه الـعُـدْم‬ ‫يودّ لَ َو أنّي معـدِم ذو خَـصـاصة‬
‫سنَـاءٌ ول غُـنْـم‬ ‫وما إنْ له فيها َ‬ ‫غنْماً في الحوادث نكـبـتِـي‬ ‫ويعتدّ ُ‬
‫عليه كما تحنو علـى الـولَـدِ المّ‬ ‫فما زِلتُ في لِيني له وتعـطُـفـي‬
‫ل ُتدْنيَهُ منـي الـقـرابةُ والـرّحْـمُ‬ ‫ح تـألّـفـا‬‫خفْضي له مني الجنـا َ‬ ‫وَ‬
‫ظمُ‬‫وكَظْمي عن غيظي وقد ينفع الكَ ْ‬ ‫صبْرِي على أشيا َء منه تَريبـنـي‬ ‫و َ‬
‫وقد كان ذا ضِغنٍ يصوبه الـحـزم‬ ‫ضغْن حتى استلـلْـتُـه‬ ‫ل منه ال ّ‬
‫ستَ ّ‬
‫لْ‬
‫برفقيَ أحيانًا وقد ي ْرقَـع الـثّـلْـمُ‬ ‫ت انثلمًا بينـنـا فـرقَـعْـتُـه‬
‫رأي ُ‬
‫بحلمي كما يُشْفَى بِالَدْ ِويَةِ الكَـلْـمُ‬ ‫وأبرأتُ غِلّ الصدرِ منه تـوسّـعـاً‬
‫ح بعد الحرب وهو لنا سَـلْـم‬ ‫فأصب َ‬ ‫فأطفأت نار الحرب بينـي وبـينـهُ‬
‫وكتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي عبد ال الطبري‪:‬‬
‫وصل كتابُك فصادفني قريبَ عهد بانطلق‪ ،‬من عنَتِ الفراق‪ ،‬وأوقفني مستريحَ العضاء والجوانح من حرّ الشتياق‪ ،‬فإنّ الدهرَ جرى على‬
‫حكمِه المألوف في تحويل الحوال‪ ،‬ومضى على رَسْمه المعروف في تبديل البدال‪ ،‬وأعتقني من مخالّتك عِتقاً ل تستحق به ولء‪ ،‬وأبرأني من‬
‫ب معها دَرَكًا ول استثناء‪ ،‬ونزع من عُنقي ِربْقَة الذلّ في إخائك ِب َيدَيْ جفائك‪ ،‬ورش على ما كان يحتدم في ضميري من‬ ‫ج ُ‬
‫عهدتك براءة ل تستو ِ‬
‫صدْري من ال َوجْد ماءَ اليأس‪ ،‬ومسح أعشار قلبي فلَ َم ُفطُورَها بجميل الصبر‪ ،‬وشعبَ‬ ‫نيرانِ الشوق ماء السلوّ‪ ،‬وشن على ما كان يلتهبُ في َ‬
‫أفلذَ كبدي فلحم صدوعَها بحُسْن العزاءِ‪ ،‬وتغ ْلغَل في مسالِك أنفاسي فعوض نفسي من النزاع إليك نزوعًا عنك‪ ،‬ومن الذهاب فيك رجوعاً‬
‫ك دُون نظري‪ ،‬حتى حدَر النقاب عن صفحاتِ‬ ‫سدَلَه الش ّ‬
‫ضبَابات ما ألقاهُ الهوَى على بصري‪ ،‬ورفِع عنها غيابات ما َ‬ ‫دونك‪ ،‬وكشفَ عن عيني َ‬
‫حبَْلكَ على‬
‫ت منها فِراراً‪ ،‬ومُلِئتُ رُعْباً‪ ،‬فاذهب فقد ألقيت َ‬ ‫شيَمك‪ ،‬وسفر عن وجوه خليقتِك؛ فلم أَج ْد إل منكراً‪ ،‬ولم ألق إل مستكبراً‪ ،‬فولي ُ‬ ‫ِ‬
‫غاربك‪ ،‬ورددتُ إليك ذميماً عهدك‪.‬‬
‫ض ْبعِه فانخفض‪ ،‬فقد‬ ‫ت تمهيدَه وتقريرَه فاستَ ْوفَزَ وأعرض‪ ،‬ورفعتَ ب َ‬ ‫سطَه فانقبض‪ ،‬وحاو ْل َ‬
‫وفي فصل من هذه الرسالة‪ :‬وأمّا عذرُك الذي ُرمْت بَ ْ‬

‫‪246‬‬
‫جهَه‪،‬‬ ‫ف بما بذلته لك من نفسِه‪ ،‬ولم يقم عند ظنك به‪ ،‬أنّى وقد غطى التذمّمُ و ْ‬ ‫ورد ولقيته بوجهٍ يؤثر قبولُه على َردّه‪ ،‬وتزكيته على جرحه‪ ،‬فلم ي ِ‬
‫ولفّ الحياء رَ ْأسَهُ‪ ،‬وغضَ الخجلُ طَرفَه؛ فلم تتمكن من استكشافه‪ ،‬وولّى فلم تقدر على إيقافه‪ ،‬ومضى يعثرُ في فضولِ ما يغشاه من كرب حتى‬
‫حمّلَ وِزْراً‪.‬‬ ‫سقَطَ‪ ،‬فقلْنا‪ :‬لليدِ والفم‪ .‬ثم أمر بمطالعة ما صحبه فلم أجده إل تأبط شرّا‪ ،‬أو تَ َ‬ ‫َ‬
‫وقوله هذا محلول من عقد نظمه إذ يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫َق ْدكَ ا ّتئِبْ أَ ْر َبيْتَ في الغُلَـوَاء‬ ‫ِاقْرَ السلمَ على المير وقلْ لـهُ‬
‫حتَ نارَ الشوق في أحشائي‬ ‫و َقدَ ْ‬ ‫شمْلَ مسـرّتـي‬ ‫أنتَ الذي شتّتّ َ‬
‫مني‪ ،‬فهل ِب ْعتَـنـي بـغـلء‬ ‫ورضيت بالثمن اليسير معوضةً‬
‫ت ب ِعذْرَةٍ شَـوْهـاء‬ ‫جدْ ُ‬ ‫أهلً‪ ،‬ف ُ‬ ‫وسألتك ال ُعتْبَى فلم تَ َرنِي لـهـا‬
‫طرْف‪ ،‬ولم ترزق من الصغاء‬ ‫ت مموّهة فلم يرفَعْ لـهـا‬ ‫و َردَ ْ‬
‫ت تمشِي على استِحْـيَاء‬ ‫فتراجعَ ْ‬ ‫وأعار منطقها التذمّـم سـكـتة‬
‫ب داء‬ ‫كبدٍ‪ ،‬ولم َتمْسَحْ جـوانـ َ‬ ‫لم تشف من كمدٍ‪ ،‬ولم تَبردْ على‬
‫من يستكفّ النارَ بالحَـلْـفَـاء‬ ‫دَاوتْ جوًى بجوىً وليس بحازم‬
‫أثرت جوارحُهُ عـلـى الدواء‬ ‫من يشف مِنْ كمد بآخر مِثـلـهِ‬
‫ح عن قَ ْلبِه‪ ،‬ويُريغ التفريجَ من كَ ْربِهِ؛ فأكاتب ُه مكاتبةَ‬ ‫ج يَرُوم التروي َ‬ ‫وله إليه رسالة‪ :‬أخاطب الشيخ سيدي ‪ -‬أطال ال بقاءه ‪ -‬مخاطبةَ مُحرَ ٍ‬
‫ض ما به‪ ،‬ويخفّف الشكوى من أوصابه‪ ،‬ولو بقيَتْ في التصبّر بقيةٌ لسكتّ‪ ،‬ولو وجدت في أثناء وجدي مَخرجة‬ ‫ث بع َ‬ ‫مصدور‪ ،‬يريدُ أن ينف َ‬
‫حتُ له عن هَناته‪ ،‬ولكني مغلوب على العزاء‪ ،‬مأخوذٌ من عادتي في الغضاء‪،‬‬ ‫يتحللها تجلّد لمسكت؛ فقديماً لبسْتُ الصديقَ على علّته‪ ،‬وصفَ ْ‬
‫ي من ُقبْحِ فعلِك في هجر يستمر‬ ‫فقد سل من جفائك ما ترك احتمالي جفاءً‪ ،‬وذهب في نفسي من ظلمك ما أنزف حلمي فجعله هباء‪ ،‬وتوالى عل ّ‬
‫ت منه صدورُهم‪ ،‬فهل أقدرُ على أل أقول‪ ،‬وهل نكِلُك إلى‬ ‫ط ِردٍ متّسِق‪ ،‬ما لو ُفضّ على الوَرى‪ ،‬وأُفيض على البشَر لمتل ْ‬ ‫على نسَق‪ ،‬وصدّ م َ‬
‫مراعاتك‪ ،‬وهل نشكوك إلى الدهرِ حليفك على الضرار‪ ،‬وعَقِيدك على الفساد‪ ،‬وأشكوه إليك؟ فإنكما وإن كنتما في قطيعة الصديق رضِيعَيْ‬
‫حدِك‪ ،‬وقاعد عما تقوم به من لطائف‬ ‫ت فيها نسيجُ َو ْ‬ ‫ِلبَان‪ ،‬وفي استيطاء مركب العقوق شريكي عنان‪ ،‬فإنه قاص ٌر عنك في دقائقَ مخترعةٍ‪ ،‬أن َ‬
‫ت فيها وحيدُ عصرك‪ ،‬أنتما متفقان في ظاه ٍر يَسُرّ الناظرَ‪ ،‬وباطن يسوءُ الخابر‪ ،‬وفي تبديل البدال‪ ،‬والتحوّل من حالٍ إلى حال‪،‬‬ ‫مبتدعة‪ ،‬أنْ َ‬
‫وفي بث حبائل الزورِ‪ ،‬ونَصْب أشراك الغرور‪ ،‬وفي خلف الموعود‪ ،‬والرجوع في الموهوب‪ ،‬وفي فظاعة اهتضام ما يعير‪ ،‬وشناعة ارتجاع‬
‫شيَمكما التي‬ ‫ص ِد مُشَارّة الحرار‪ ،‬والتحامل عند ذوي الخطار‪ ،‬وفي تكذيب الظنون‪ ،‬والميلِ عن النباهة للخمول‪ ،‬إلى كثير من ِ‬ ‫ما يمنح‪ ،‬وقَ ْ‬
‫أسندتما إليه‪ ،‬وسنتكما التي تعاقدتُما عليها‪ ،‬فأين هو ممن ل يجارى فيه نقض عُرى العهود‪ ،‬ونكْث قُوَى العقود؟ وأنّى هو عن النميمة والغيبة‪،‬‬
‫ومشي الضّراء في الغِيلة‪ ،‬والتنفق بالنفاق في الحيلة؟ وأين هُو ممن ادّعى ضروبَ الباطل‪ ،‬والتحلّي بما هو منه عاطل‪ ،‬وتنقّص العلماء‬
‫ظمُها‪ ،‬ومَخَازٍ متفرقة أنت جا ِمعُها‪ .‬أنت أيّدك ال إنْ سوّيته بنفسك‪ ،‬ووزنته بوزنِك‪ ،‬أظَلمُ منه‬ ‫والفاضل؟ هذا إلى كثير من مَسَاوٍ منثورة أنت نا ِ‬
‫سطَة‪ ،‬وأتمّ نصرة‪ ،‬وأطلق يداً في الساءة‪،‬‬ ‫لذويه‪ ،‬وأعق منه لبنيه‪ ،‬و َهبْك على الجملة قد زعمت ‪ -‬مفتريًا عليه ‪ -‬أنه أشدّ منك قدرة‪ ،‬وأعظ ُم بَ ْ‬
‫شدَاة‪ ،‬وأعظم في كل مكروه ُمتَغلغل‪ ،‬وآلف إلى كل محذور متوصلً‪ ،‬إن الدهر الذي ليس‬ ‫وأمضى في كل نكاية شباة‪ ،‬وأحد في كل عاملة َ‬
‫بم ْعتِب من يجزعُ‪ ،‬وإن ال ُع ْتبَى منك مأمولة‪ ،‬ومن جهتك مرقوبة‪ ،‬وهيهات! فهل توهّم أنه لو كان ذا روح وجثمان‪ ،‬مصوراً في صور ِة إنسان‪،‬‬
‫جرِ‪ ،‬وأذكّره من المودّة‪ ،‬وأستميل به إلى رعايةِ المِقَة‪ ،‬وأستعدّ على ما أشاعه الفراقُ في نفسي‬ ‫ثم كاتبتهُ أستعطفه على الصلة‪ ،‬وأستعفيه من اله ْ‬
‫ستَجَزْته من‬ ‫حسَنته من الضطراب عند جوابي‪ ،‬ويستجيز ما ا ْ‬ ‫ستَ ْ‬‫ضرَمه بالبعادِ في صدري من الحرقة‪ ،‬وكان يستَحْسِنُ ما ا ْ‬ ‫من اللوْعة‪ ،‬وأَ ْ‬
‫ف بكتابي‪.‬‬ ‫الستخفا ِ‬
‫وله فصل في هذه الرسالة‪ ،‬وقد ذكر دعواه في العلم‪ :‬وهبْك أفلطون نفسه‪ ،‬فأينَ ما سنَنته من السياسةِ‪ ،‬فقد قرأناه‪ ،‬أتجدُ فيه إرشاداً إلى قطيعة‬
‫سمْته من الخلق؟ فقد رأيناه فلم نر فيه هدايةً إلى شيء من ال ُعقُوق‪ ،‬وأما الهندسة فإنها باحثةٌ‬ ‫صديق‪ ،‬وأحسبك أرسطاطاليس ب َع ْينِه‪ ،‬أين ما َر َ‬
‫ح ومضطرب‪ ،‬ولسنا‬ ‫عن المقادير‪ ،‬ولن يعرفها إل مَنْ جهل مقدا َر نفسه‪ ،‬وقَدرَ الحقّ عليه وله؛ بل لك في رؤساء الداب العربية ِمنّا ري ٌ‬
‫نُشَاحّك‪ .‬لكن أتحب أن تتحقّق بالغريب من القول‪ ،‬دون الغريب من الفعل؟ وقد أغربت في الذهاب بنفسك إلى حيث ل تهتدي للرجوع عنه‪ .‬وأما‬
‫النح ُو فلن ُتدْفع عن حذق فيه‪ ،‬وبصَ ٍر به‪ ،‬وقد اختصرتُه أوْجزَ اختصار‪ ،‬وسهلت سبي َل تعليمه على من يجعلك ُقدْوة‪ ،‬ويرضى بك أسوةً‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫حبَهما مخفوض‪ ،‬وقد نصب الصديقُ عندك‪ ،‬ولكن غرضاً يرْشَق بسهام‬ ‫الغدرُ والباطلُ وما جرى مجراهما مرفوع‪ ،‬والصدق والحقّ وما صَا َ‬
‫الغيْبة‪ ،‬وعَلَماً يقصد بالوقيعة‪ ،‬ولست بالعروضي ذي اللّهجة فأعرف َقدْ َر حذقك فيه‪ ،‬إل أني ل أراك تتعرّض لكاملٍ فيه‪ ،‬ول وافرٍ‪ ،‬وليتك‬
‫ط المتقارب‪.‬‬‫سبحتَ في بحر المجتث حتى تخرج منه إلى شَ ّ‬
‫وفي فصل منها أيضاً‪:‬‬
‫وهبْني سكتّ لدعواك سُكوتَ متعجّب‪ ،‬ورضيتُ رِضا متسخّط‪ ،‬أيرضى الفضل اجتذابَك بأَهدابه‪ ،‬من يدي أهليه وأَصحابه‪ ،‬وأحسبك لم تزاحِمْ‬
‫خطابه‪ ،‬حتى عرفت ذلّة نَفَره وقلّة بصره‪ ،‬فاصدقني هل أنشدك‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ب بدَمِ‬‫ضُرّجَ ما َأنْفُ خَاط ٍ‬ ‫لو بأَبا َنيْنِ جاء يَخْطبُـهـا‬
‫حتَ بالمجرّة لم تكن إل‬ ‫طقْتَ بمنطقة الجوزاء‪ ،‬وتوشّ ْ‬ ‫وليت شعري بأي حلي تصدّيت لَهُ؛ وأنت لو تتوّجت بالثريّا‪ ،‬وقلّدت قِلدة الفلك‪ ،‬وتمنْ َ‬
‫ضعْفِ إخائك‪ ،‬وظلمة ما‬ ‫عطُلً‪ ،‬سيما مع قلّة وفائك‪ ،‬و َ‬ ‫عُطُلً‪ ،‬ولو توشّحْتَ بأنوارِ الربيع الزاهر وسرّجت جبينك غرّةَ البدرِ الباهرِ‪ ،‬ما كنتَ إل ُ‬
‫تتصرّف فيه من خِصالك‪ ،‬وتراكم الدّجَى على ضللِك‪ ،‬وقد ن ِدمْتُ على ما أعرتك من ودّي‪ ،‬ولكن أي ساع ِة َمنْدَم‪ ،‬بعد إفناء الزمان في‬
‫ع ِذيّا‪،‬‬
‫س إذا لم يوافق ثرى ثريا‪ ،‬وجوّاً َ‬ ‫ستُه‪ ،‬فإن الودادَ غر ٌ‬ ‫ابتلئك‪ ،‬وتصفّحي حالتِ الدهر في اختيارك‪ ،‬وبعد تضييع ما غرسْته‪ ،‬ونقض ما أس ْ‬
‫وماء رَ ِويّا‪ ،‬لم يُرْجَ زكاؤُه‪ ،‬ولم يجر نماؤُه‪ ،‬ولم تفتّح أزهارُه‪ ،‬ولم تجن ثمارُه‪ ،‬وليت شعري‪ ،‬كيف ملك الضللُ قيادي حتى أشكل عليّ ما‬
‫شكْلٍ وخَلْق‪ ،‬ومطابقة خِيم وخلُق‪ ،‬وما وصلتنا حال تجمعنا‬ ‫طبْع‪ ،‬وموافقة َ‬ ‫يحتاجُ إليه الممزوجان‪ ،‬ول يستغني عنه المتآلفان‪ ،‬وهما ممازجة َ‬
‫ل ما بيننا من البعاد‪ ،‬أكثر ممّا‬ ‫عنى ائتلف‪ ،‬وح َمتْنَا من اختلف‪ ،‬ونحن في طرفي ضدّين‪ ،‬وبين أمرين متباعدين؛ وإذأ حصّلت المر وجدت أق ّ‬
‫ل ما بيننا من النضار‪ ،‬وأكثر ما بين الليل والنهار‪ ،‬والعلن‬ ‫بين الوِهاد والنجَادِ‪ ،‬وأبعد ممّا بين البياض والسوادِ‪ ،‬وأيسر ما بيننا من النفار أق ّ‬
‫والسرار‪.‬‬

‫‪247‬‬
‫قضاء الحَاجة‬
‫خيَلَء‪ ،‬وهيبةُ العزّة‪ ،‬وظل الخلفة‪ ،‬يكفُ عن الطلب من أمير المؤمنين إلّ‬ ‫قال أسد بن عبد ال لبي جعفر المنصور‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬فَرْطُ ال ُ‬
‫ضيَتْ له‪.‬‬‫ج كثير ًة ُق ِ‬ ‫ت َمسْلَك الطلب؛ فسأل حوائ َ‬ ‫عن إذْنِه‪ ،‬فقال له‪ :‬قلْ‪ :‬فقد وال أصب َ‬
‫خدَمك العظام والهيبة عن ابتدائك بطلباتهم‪ ،‬وما عاقب ُة هذين لهم‬ ‫وقال عمرو بن نهيك لبي جعفر المنصور‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪ ،‬قد حضر َ‬
‫عندك؟ قال‪ :‬عطاء يزيدهم حياءً‪ ،‬وإكرامٌ يكسوهم هيبةَ الَبد‪.‬‬
‫قال عيسى بن علي‪ :‬ما زال المنصور يشاورُنا في أمره حتى قال إبراهي ُم بن هرمَة فيه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فناجَى ضميراً غير مختلف العَ ْقلِ‬ ‫إذا ما أراد المر ناجى ضمـيرهُ‬
‫حبْلِ‬
‫إذا اختلفت بالضعفين قُوَىَ ال َ‬ ‫ش ِركِ الدنين في جُل أمـرِه‬ ‫ولم يُ ْ‬
‫فِقَر في ذكر المًشُورة‬
‫المشورةُ لِقاحُ العقل‪ ،‬ورائدُ الصواب‪ ،‬وحَزْمُ التدبير‪ .‬المشاورة قبل المساوَرة‪ .‬والمشور ُة عينُ الهداية‪.‬‬
‫ابن المعتز‪ :‬من رضي بحالهِ استراح‪ ،‬والمستشِيرُ على طرف النجاح‪.‬‬
‫وله‪ :‬مَن أكثرَ المشورة لم يعدم في الصواب مادحاً‪ ،‬وفي الخطإ عاذراً‪.‬‬
‫بشار بن برد‪ :‬المشاور بين إحْدى الحسنيين‪ :‬صواب يفو ُز بثمرته أو خطأ يُشارك في مكروهه‪ ،‬وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بعَزْم نصيحٍ أو مـشـورةِ حـازمِ‬ ‫إذا بلغ الرأيُ المَشُورَةَ فاستَـعِـنْ‬
‫فإنّ الخوَافِـي قـوة لـلـقـوادمِ‬ ‫ول تحسَبِ الشّورى عليك غَضاضةً‬
‫وما خيرُ سيفٍ لـم يُ َؤّيدْ بـقـائمِ‬ ‫ختَـهـا‬‫وما خي ُر كَفّ أمسكَ الغُل ُأ ْ‬
‫نؤوماً فإن الحـرّ لـيس بـنـائم‬ ‫خلّ اله َو ْينَى للضعيف ول تـكـنْ‬ ‫وَ‬
‫ش ِهدٍ النجوى أمرأً غير كاتـم‬ ‫ول تُ ْ‬ ‫وأَذنِ إلى القرب المُ َقرّبَ نفـسـهُ‬
‫ول َتبْلُغُ العُلْيا بغيرِ الـمـكـارم‬ ‫ط ِردُ ال َغمّ بـالـمـنـى‬
‫ستَ ْ‬
‫فإنك ل تَ ْ‬
‫ن عليك‪ ،‬ولستَ تفعل شيئاً‬ ‫ن بك أو يستعا َ‬ ‫دخل الهذيل بن زفر على يزيد بن المهلب في حمالت ل ِز َمتْه فقال‪ :‬أيها المير‪ ،‬قد عظُم شأنك أن يُستعا َ‬
‫ب من أن تفعل‪ ،‬بلَ العجب من أل تفعل‪ ،‬فقضاها‪.‬‬ ‫من المعروف إل وأنتَ أكب ُر منه‪ ،‬وليس العج ُ‬
‫في التاريخ والنسب‬
‫لنْس به‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ل بن حباب الجمحيُ رجلً ل ُ‬ ‫استخلص القاضي أبو خليفة الفض ُ‬

‫غيّر ثيابي وأعود‪ ،‬قال‪ :‬ما أفعل‪ ،‬إيناسك وَعد‪ ،‬وإيحاشك نقد‪ ،‬وكان أبو خليفة من جلّةِ المحدثين‪ ،‬وله حَلو ُة معنى‪ ،‬وحسن عبارة‪،‬‬ ‫أَ‬
‫ي بعد نفوذِ الثاني‪ :‬وصل كتابك ‪-‬‬ ‫خ منها في كتابين‪ ،‬فكتب إل ّ‬ ‫وبلغةُ لفظ‪ .‬قال الصولي‪ :‬كاتبتُ أبا خليفة في أمور أرادها فأغفلتُ التاري َ‬
‫ل ‪ -‬مبْهَم الوان‪ ،‬مُظْلم المكان‪ ،‬فأدّى خيراً ما القرب فيه بأولى من ال ُبعْد؛ فإذا كتبت ‪ -‬أكرمك ال تعالى! ‪ -‬فلتكن كتبُك مرسومةً‬ ‫أعزك ا ّ‬
‫بتاريخ؛ لعرِف أدنى آثارك‪ ،‬وأقرب أخبارك‪ ،‬إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫ظ العهود‪.‬‬ ‫وقال بعض الكتاب‪ :‬التاريخ عمودُ اليقين‪ ،‬ونَافي الشكّ‪ ،‬به ُتعْرَف الحقوق‪ ،‬وتُح َف ُ‬
‫جدْ لي السبيل إلى‬ ‫وقال رجل لبي خليفة سَلّم عليه‪ :‬ما أحسبك تعرف نسبي‪ ،‬فقال‪ :‬وجهك يدلّ على نسبك‪ ،‬والكرا ُم يمنع من مسألتك‪ ،‬فأَوْ ِ‬
‫معرفتك‪.‬‬
‫ب بن شيبة‪ ،‬فانتسب له‪ ،‬فعرفه أبو جعفر‪ ،‬فأَثنى عليه وعلى قومه‪ ،‬فقال له‬ ‫وسأل أبو جعفر المنصور قبل أن تُ ْفضِيَ إليه الخلفةُ شبي َ‬
‫شبيب‪ :‬بأبي أنت وأمي! أنا أحبّ المعرفة وأجِلّك عن المسألة‪ ،‬فتبسّم أبو جعفر وقال‪ :‬لطف أهل العراق! أنا عبد ال بن محمد بن علي‪،‬‬
‫بن عبد ال بن العباس‪ ،‬فقال‪ :‬بأبي أنت وأمي! ما أشبهك بنسبك‪ ،‬وأدلّك على منصبك‪.‬‬
‫فِقر وأمثال يتداولها العمال‬
‫الولية حلة الرضاع مرّة الفطام‪ .‬غُبارُ العمل خيرُ من زعفران العطلة‪.‬‬
‫ابن الزيات‪ :‬الرجاف مقدمة السكون‪.‬‬
‫ل بن يحيى‪ :‬الرجاف رائد الفتنة‪.‬‬ ‫عبد ا ّ‬
‫حامد بن العباس‪ :‬غرس البلوى‪ ،‬يثمر الشكوى‪.‬‬
‫أبو محمد المهلبي‪ :‬التصرّف أعلى وأَثنى‪ ،‬والتعطّل أَصْفَى وأعفى‪.‬‬
‫إبو القاسم الصاحب‪ :‬وَعدُ الكريم‪ ،‬أَ ْلزَ ُم من دَين الغريم‪.‬‬
‫ل يضحك من تِيه الولية‪ .‬وقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬ ‫أبو المعتز‪ :‬ذلّ العَز ِ‬
‫وبعَزْلِه رَكضَ البَريدُ‬ ‫كم تـائهٍ بـــوليةٍ‬
‫وقال‪ :‬من ولي وليَةَ فتاه‬ ‫ب شديدُ‬ ‫صعْ ٌ‬‫وخُمارها َ‬ ‫سكْرُ الـوِلية طـيبٌ‬ ‫ُ‬
‫فيها فأَخبره أَن قدره دونها‪ .‬العزل طلق الرجال وحيض العمال‪ .‬وأنشدوا‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ض بَغـيضِ‬ ‫حيْ ٍ‬ ‫لحاهُ ال من َ‬ ‫وقالوا العَزْل للعمال حَـيْضٌ‬
‫منصور الفقيه‪ :‬المجتث‪:‬‬ ‫ض‬
‫ِ‬ ‫المحي‬ ‫من‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫س‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫ئ‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫اللئي‬ ‫من‬ ‫ن يكُ هكذا فَأبُـو عَـلـيّ‬ ‫فإ ْ‬
‫لنا الجفـا وتَـبـدّلْ‬ ‫يا مَن تولّى فأَبـدى‬
‫وقال أيضاً‪ :‬المتقارب‪:‬‬ ‫من لم يمتْ فسيُعْ َزلْ‬ ‫أليس منك سمِعـنَـا‬
‫وعند الوليةِ أستـكـبـرُ‬ ‫إذا عُزِل المرءُ واصلـتُـه‬
‫أخبار منصور الفقيه‬ ‫صبِرُ‬
‫ل ل تَ ْ‬ ‫ونفسي على الذ ّ‬ ‫لن المولّى لـه نـخـوة‬
‫ومنصور هذا هو منصور بن إسماعيل بن عيسى بن عمر التيمي‪ ،‬وكان يتفقّه على مذهب المام الشافعي‪ ،‬رضي ال عنه‪ ،‬وهو حلو‬

‫‪248‬‬
‫ف بصره‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫المقطعات‪ ،‬ل تزالُ تندر له البيات مما يستظرَف معناه‪ ،‬ويُستحلى مغزاه‪ ،‬ويبقى ثتاه‪ ،‬وهو القائل لما ك ّ‬
‫لعظم نازلةٍ نالَـتْـ ُه مـعـذورُ‬ ‫ف مُـدّتـه‬
‫ن قال ماتَ ولم يستَوْ ِ‬ ‫مَ ْ‬
‫به نِهايةَ ما يخشى الـمـقـاديرُ‬ ‫ى بلغَتْ‬
‫وليس في الحكم أن يحيا فت ً‬
‫عتَبَ على بعض‬ ‫وَ‬ ‫أو سوءِ مذهبه‪ :‬قد عاش منصورُ‬ ‫فقلْ له غي َر مرتَابٍ بغـفـلـتِـه‬
‫الشراف‪ ،‬وكانت أمّه أم ًة قيمتها ثمانية عشر ديناراً‪ ،‬فقال‪ :‬المجتث‪:‬‬
‫لم يَفـتْـنـي بـأمّـه‬ ‫من فاتـنـي بـأبـيه‬
‫وقال‪ :‬المجتث‪:‬‬ ‫ش ْتمِه‬
‫سكتّ عن نصفِ َ‬ ‫ورام شتميَ ظـلـمـاً‬
‫ممن حادث الزمانِ‬ ‫لو قيل لي خذْ أمانـاً‬
‫وقال‪ :‬المتقارب‪:‬‬ ‫إل مـن الخْـوَانِ‬ ‫ت أمـانـاً‬
‫لما أخَـذْ ُ‬
‫وفوّضت أمري إلى خالقي‬ ‫رضيت بما قسمَ اللـه لـي‬
‫وقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬ ‫كذلك يُحسن فيما بَـقِـي‬ ‫كما أحسن ال فيما مضـى‬
‫مك مَع مواصلة الكبائر‬ ‫لو كنت منتفعـاً بـعـلْ‬
‫وقال‪ :‬الهزج‪:‬‬ ‫َلمْ أنّ شرب السمّ ضائرْ‬ ‫ما ضرّ شُرب السمّ واع‬
‫ك والصّحّة والمن‬ ‫إذا القوتُ تأتّـى ل‬
‫حزْنُ‬‫فل فارقك ال ُ‬ ‫وأصبحتَ أخا حُزْن‬

‫ورأيت له في أكثر النسخ ‪ -‬على أن أكثر الناسِ يرويه لبراهيم بن المهدي‪ ،‬وهو الصحيح‪ :-‬الكامل‪:‬‬
‫ب يَعْلَقُ بالكبي ِر كبي ُر‬
‫والعي ُ‬ ‫لول الحياءُ وأنني مشهـورُ‬
‫ولكان منزلنا هو المهجورُ‬ ‫لحَللْت منزلنا الذي نحتلّـه‬
‫وهذا كقول الصاحب أبي القاسم‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫دعاء يكرر في كلّ ساعَهْ‬ ‫ي عيناك نحو الصبـا‬ ‫دعَتْن َ‬
‫ت لعينيك سمعاً وطاعَهْ‬ ‫لقل ُ‬ ‫فلول وحقك عذرُ المشيبِ‬
‫وقال ابن دريد في معنى البيت الول فأحسن‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫مُصَافِياً لك ما في ُودّه خَلَـلُ‬ ‫سرَته‬ ‫إذا رأيت امرأً في حال عُ ْ‬
‫فإنه بانتقال الحالِ ينـتـقـلُ‬ ‫فل تمن له أن يستفيدَ غِـنـىً‬
‫تغيّر بعد عسرة‬
‫ق قد نالته عُسرةٌ‪ ،‬ثم ولّي عملً؟‪،‬فأتاه محمد قاضياً حقّا ومسلمًا عليه‪ ،‬فرأى منه نبو ًة وتغيّرا‪ ،‬فكتب إليه‪:‬‬ ‫سهْل صدي ٌ‬ ‫وكان لمحمد بن الحسن بن َ‬
‫الطويل‪:‬‬
‫عسْرِ‬‫ت ذا ُ‬ ‫وأصبحت ذا يُسْرٍ‪ ،‬وقد ُكنْ َ‬ ‫لَئن كانتِ الدنـيا أَنـالـتْـكَ ثـروةً‬
‫ب من الفقر‬ ‫ت ثوْ ٍ‬ ‫من اللؤم كانت تح َ‬ ‫لقد كشف الثرا ُء مـنـك خـلئقـاً‬
‫ت رتبته معِ المأمون تغيّر عليه‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ل قبل ارتفاعِ حاله‪ ،‬فلما علَ ْ‬
‫وقال أبو العتاهية في عمرو بن مَسعَدة‪ ،‬وكان له خِ ّ‬
‫وضيّعت عهداً كان لي ونسـيتَـا‬ ‫غنِيتَ عن العهد القديم غـنـيتـا‬
‫أَبرّ وأَ ْوفَى منـك حـين قَـوِيتـا‬ ‫ضعْفٍ من القوى‬ ‫وقد كنت لي أيام َ‬
‫ومُت عن الحسان حين حَـيِيتـا‬ ‫تجاهلت عما كنت تُحسِن وَصفَـهُ‬
‫وكتب بديعُ الزمانِ إلى أبي نصر بن المرزبان فيما ينخرطُ في هذا السلك‪:‬‬
‫كنتُ ‪ -‬أطال ال بقاءَ الشيخ سيدي وأَدام عزّه ‪ -‬في قديم الزمان أتمنّى الخيرَ للخوان‪ ،‬وأسألُ ال تعالى أن ُيدِرّ عليهم أخْلَفَ الرزقِ‪ ،‬ويمدّ لهم‬
‫أكناف العيش‪ ،‬ويؤتيهم أصنافَ ال َفضْلِ‪ ،‬ويوطئهم أكنافَ العزّ‪ ،‬وينيلهم أعرافَ المجدِ‪ ،‬وقُصارايَ الن أن أرغبَ إلى ال تعالى أل يُنيلَهم فوق‬
‫ن عند النعمة ينالونها‪ ،‬والدرجةِ يعلونها‪ ،‬وسَ ُرعَ ما ينظرون من عال‪ ،‬ويجمعون من مال‪ ،‬وينسون في ساعة اللدونة‬ ‫طغَو َ‬ ‫الكفاية‪ ،‬فشد ما يَ ْ‬
‫أوقاتَ الخشونة‪ ،‬وفي أزمان العذوبة أيام الصعوبة‪ ،‬وللكتّاب مَزيّة في هذا الباب؛ فبينا هم في الغربة أَعوان كما انفرج المشط‪ ،‬وفي العُطْلَة‬
‫ب عهدهم‬ ‫حمْقَاء بمنشور عمالة‪َ ،‬أوْ صَك جعالةٍ ؛ عادَ عامر مودّتهم خراباً‪ ،‬وانقلب شرا ُ‬ ‫سمْطُ‪ ،‬حتى إذا لحظهم الجدّ لحظةً َ‬ ‫إخوان كما انتظم ال ّ‬
‫سبِلَت ستورُهم‪ ،‬ول أو ِقدَتْ نارُهم‬ ‫ت بدورهم‪ ،‬ول عَلت أمورُهم إل أ ْ‬ ‫سَرَاباً‪ ،‬فما اتسعت دورُهم وإل ضاقت صدورُهم‪ ،‬ول عَلت قدورُهم إل خبَ ْ‬
‫عتَاقهم إل فظعت أخلقهم‪ ،‬ول صلحت أحوالهم‪ ،‬إل فسدت أفعالهم‪ ،‬ول كثُ َر مالهم‪ ،‬إل قل جمالهم‪ ،‬وعزَ‬ ‫إل انطفأ نورهم‪ .‬ول َهمْلَجتْ ِ‬
‫معروفهم‪ ،‬وورمَتْ أنوفهم‪ ،‬حتى إنهم ليصيرون على الخوان مع الخطوب خَطْباً‪ ،‬وعلى الحرار مع الزمان ألباً‪ .‬قُصَارى أَحدهم من المجد أن‬
‫شفُوفها‪،‬‬‫سبُه من الشرف دارٌ يصهرجُ أرضَها‪ ،‬ويزخرف بعضَها‪ ،‬ويزوّق سقوفها‪ ،‬ويعلق ُ‬ ‫ختَه‪ ،‬وأن يوطئ استه دستَه‪ ،‬وحَ ْ‬ ‫ب تحته تَ ْ‬‫ينص َ‬
‫ب قداعية‪ ،‬يلبسها ملوماً‪ ،‬ويحشوها لُوماً‪،‬‬ ‫ن تغدو الحاشيةُ أمامَه‪ ،‬وتحمل الغاشية قدّامه‪ ،‬وكفاه من الكرم ألفاظ فقاعية‪ ،‬وثيا ٌ‬ ‫وناهيه من الشرف أَ ْ‬
‫حكَ الودّ أيام خُشكاره حتى إذا أخصب جعل ميزانَه و ِكيَله‪ ،‬وأسنانه أكَيله‪ ،‬وأنيسه كِيسه‪ ،‬وأَليفه رغيفَه‪،‬‬ ‫وهذه صفة أفاضلهم‪ .‬ومنهم من يمنَ ُ‬
‫سمِيره‪ ،‬وصندوقه صديقَه‪ ،‬ومفتاحه ضجيعَه‪ ،‬وخاتمه خا ِدمَه‪ ،‬وجمع الدرّة إلى الدرّة‪ ،‬ووضع ال َبدْرَة على البدرة‪ ،‬فلم تقع‬ ‫وأمينَه يمينه‪ ،‬ودنانيره َ‬
‫طرْفه‪ ،‬ول الدرّة من كفّه؛ ول يخرج ماله عن عهدة خاتمه‪ ،‬إلى يوم مَأتمه‪ ،‬وهو يجمعُ لحادثِ حياتِه‪ ،‬أو وارثِ وفاتِه‪ ،‬يسُلكُ في‬ ‫القَطْرَة من َ‬
‫ل طريق‪ ،‬ويبيعُ بالدرهم ألْف صديق؛ وقد كان الظنّ بصديقنا أَبي سعيد ‪ -‬أيّده ال تعالى ‪ -‬أنه إذا أخصب آواناً كنفاً من ظلّه‪ ،‬وحبَانَا من‬ ‫ال َغدْرِ ك ّ‬
‫صدْر اليوان افتضّ‬ ‫فضله‪ ،‬فمَنْ لنا الن بعدله؟ إنه ‪ -‬أطال ال بقاءَه ‪ -‬حين طارت إلى أُذنه عُقاب المخاطبة بالوزير‪ ،‬وجلس من الديوان في َ‬

‫‪249‬‬
‫صدُه أخرى‪،‬‬ ‫عذْره السياسة لديّ‪ ،‬بتعرض بعض المختلفة إليّ‪ ،‬وجعل يعرضه للهلك‪ ،‬ويتسبب إليه بمال التراك‪ ،‬وجعلت أكاتِبه مرة وأق ِ‬ ‫ُ‬
‫وأذكّره أنّ الراكب ربما استنزل‪ ،‬والوالي ربما عُزِل‪ ،‬ثم يجفّ ريق الخجل على لسان العذر‪ ،‬فتبقى الحزازة في الصدْرِ‪ ،‬وما يجمعني والشيخ‬
‫ي من علمه‪ ،‬فأقولُ ‪ -‬إذا رأيت ذِلّة السؤال مني‬ ‫جمَزَى في ظلمه؛ ويبرَأ إل ّ‬ ‫إن كان زَادَهُ قولي إل علوّا في تحكمه وغلوّا في تهكمه وجعل يمشي ال َ‬
‫وعزّةَ الردّ منه لي‪ :-‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫عة مـا أرى يا بَـيْذَقُ‬ ‫سرْ‬‫قلْ لي متى َفرْزَنتَ ُ‬
‫طعْته‪ ،‬هلمّ إلى الشيخ وشرعته‪ ،‬فقد نكأ القلب بقَرْحه‪ ،‬وكيف أصِفُ حالً ل يقرع الده ُر مَروَةَ حالِه‪،‬‬ ‫ض ْعتُه‪ ،‬وزمانًا بذكره ق َ‬ ‫وما أضيع وقتًا فيه أ َ‬
‫ول ينتقض عروة إجللِه؛ فما أولني بأَن أذكره مجْملً‪ ،‬وأتركه مفصّلً‪ ،‬والسلم‪.‬‬
‫وكتب إلى بعض إخوانه في أمر رجل ولي الشراف‪:‬‬
‫فهمت ما ذكرت ‪ -‬أطال ال بقاءك ‪ -‬من أمر فلن أنه ولي الشراف‪ ،‬فإن يصدق الطير يكن إشرافاً على الهلك‪ ،‬بأيدي التراك‪ ،‬فل تح ُز ْنكَ‬
‫وليتُه فالحبل ل يبرم إل للفتل‪ ،‬ول تعجبك خلعته فالثور ل يزينُ إل للقتل‪ ،‬ول يرعك نِفاقُه فأرخص ما يكون النفط إذا غل وأَسفل ما يكون‬
‫الرنب إذا عل‪ ،‬وكأنّي به وقد شنّ عليه جران العَ ْودِ‪ ،‬شنّ المطر الجَوْد‪ ،‬وقيّد له مركبُ الفجار‪ ،‬من مربط النجار‪ ،‬وإنما جر له الحبل‪ ،‬ليُصفَع‬
‫ب يُنثر‬‫حبَالة‪ ،‬فل يحسد الذئب على اللية ُيعْطَاها طعمة‪ ،‬ول يحسب الح ّ‬ ‫صفِع من قبل‪ ،‬وستعودُ تلك الحالة إحالة‪ ،‬وينقلبُ ذلك الحبلُ ِ‬ ‫كما ُ‬
‫للعصفور نعمة‪ ،‬وهبه وُلي إمارة البحرين أليس مرجعه ذلك العقل‪ ،‬ومصيره ذلك الفضل‪ ،‬ومنصبه ذلك الصل‪ ،‬وعصارته ذلك النسل‪،‬‬
‫وقعيدته تلك الهل‪ ،‬وقوله ذلك القول‪ ،‬وفعله ذلك الفعل‪ ،‬فكان ماذا؟ أليس ما قد سلب أكثر مما أُوتي‪ ،‬وما عدم أوفر ممّا غنم؟ ما لك تنظرُ إلى‬
‫ن قعيدتُه في بيتك‪ ،‬وبغلتُه من تحتك‪ ،‬أم كان يسرّك أن تكون َأخْلقُه في إهابك‪ ،‬وبوّابه على‬ ‫ظاهره‪ ،‬وتعمي عن باطنه؟ أكان يعجبك أن تكو َ‬
‫ت تَرْضَى أن تكون في مربطك أفراسُه‪ ،‬وعليك لباسُه‪ ،‬ورأسك راسُه؟‬ ‫جعَاؤه في إزارك‪ ،‬وغِلْمانه في دارك؟ أم كن َ‬ ‫بابك؟ أم كنت تودّ أن تكونَ َو ْ‬
‫جعلت فداك! ما عندك خير ممّا عنده‪ ،‬فاشكر الَ وحدَه على ما آتاك‪ ،‬واح َمدْه على ما أعطاك‪ ،‬ثم أنشد‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ل مَنْ يظلّ على القدا ِر مكتئبا‬ ‫إن الغنيّ هو الراضي بعيشتـه‬
‫بين البخل والجود‬
‫ألَف سهل بن هارون كتابًا يمدح فيه البخلَ ويذمّ الجودَ؛ ليظهر قدرته على البلغة‪ ،‬وأهداه للحسن بن سهل في وزارته للمأمون‪ ،‬فوقع عليه‪ :‬لقد‬
‫ل قوِلكَ فيه‪.‬‬‫ت ما ذمّه ال‪ ،‬وحسنت ما قبّح ال‪ ،‬وما يقوم صلحُ لفظك بفساد معناك‪ ،‬وقد جعلنا نوالك عليه قبو َ‬ ‫مدح َ‬
‫عيْلَتهم‪ ،‬ويسدّ خَّلتَهم‪ ،‬ولقد رفع ال‬ ‫ن من كرماء الناسِ وعقلئهم‪ .‬سُئل أبو العيناء عنه‪ ،‬فقال‪ :‬كأنما خَلف آدمَ في ولده‪ ،‬فهو ينفع َ‬ ‫وكان الحس ُ‬
‫للدنيا من شأنها‪ ،‬إذ جعله من سكَانِها‪.‬‬
‫أخذ هذا المعنى أبو العيناء من قول الشاعر‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫أَوصاك وَ ْه َو يجودُ بالْحَوْباء‬ ‫وكأن آدمَ كان قبل وفـاتِـه‬
‫عيْل َة البْـنَـاء‬
‫و َك َفيْتَ آدمَ َ‬ ‫عيْ َتهُـمْ‬‫ِببَنيه أن ترعاهُ ُم َفرَ َ‬
‫وأخذ أبو الطيب المتنبي آخر كلم أبي العيناء فقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وشرّفَ الناسَ إذ سوّاك إنسانا‬ ‫قد شرف ال دُنيا أنْتَ سَا ِكنُها‬
‫وقيل للحسن بن سهل‪ :‬لم قيل‪ :‬قال الول‪ ،‬وقال الحكيم؟ قال‪ :‬لنه كلم قد مزّ على السماع َقبْلَنا‪ ،‬فلو كان زللً لما نُقِل إلينا مستحسَناً‪.‬‬
‫ومن أمثال البخلء‬
‫واحتجاجهم‪ ،‬وحِكمهم‪:‬‬
‫طعْنا المساكين في‬ ‫أبو السود الدؤلي‪ :‬ل تُجاوِد ال‪ ،‬فإنه أجودُ وأمجد‪ ،‬ولو شاء أن يوسّع على خَلْقه حتى ل يكون فيهم محتاج فعل‪ .‬وقال‪ :‬لو أ َ‬
‫إعطائنا إياهم كنا أسوأ حالً منهم‪.‬‬
‫وقال الكندي‪ :‬قو ُل "ل" يدفع البلء‪ ،‬وقول "نعم" يزيل النعم‪ .‬وقال‪ :‬سماع الغناء بِرْسام حَادٌ؛ لن المر َء يسمع فيطرب‪ ،‬فيسمح فيفتقر‪ ،‬فيغتمّ‬
‫ظ متاعه‪.‬‬ ‫حفْ ُ‬ ‫فيمرض فيموت‪ .‬وقال لبنه‪ :‬يا بني‪ ،‬كُنْ مع الناس كاللعب بالقمار‪ ،‬إنما غَ َرضُه أَخذ متاعهم‪ ،‬و ِ‬
‫وقال غيره‪َ :‬منْعُ الجميع أَرْضى للجميع‪ .‬إذا قبح السؤال حسن المنع‪.‬‬
‫وقال عليّ بن الجهم‪ :‬من وَهَب في عمله فهو مخدوع‪ ،‬ومن وَهَب بعد ال َعزْلِ فهو أحمق‪ ،‬ومن وَهب من جوائز سلطانه أو ميراث لم ي ْتعَب فيه‬
‫فهو مخذول‪ ،‬ومن وهب مِنْ كِيسه وما استفاد بحيلته فهو المطبوع على قلبه‪ ،‬المختوم على سمْعه وبصره‪.‬‬
‫ومن إنشاداتهم‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ق بُخْلُ‬ ‫ليس في َمنْعِ غير ذي الح ّ‬ ‫جدْ بالعطاءِ في غـير حـق‬ ‫لتُ‬
‫وقال كثيّر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ق تُرَا ِفقُهْ‬
‫حقيق ُة تقوى أو صدي ٌ‬ ‫ب عليك عطا َءهُ‬ ‫ج ْ‬ ‫إذا المال لم يو ِ‬
‫ولم يفتلتك المالَ إلّ حَقـائِقُـهْ‬ ‫َمنَعْتَ‪ ،‬وبعضُ ال َمنْعِ حَ ْزمٌ وقوّة‬
‫ابن المعتز‪ :‬السريع‪:‬‬
‫فقام للناس مقـامَ الـذلـيلْ‬ ‫يا ربّ جُودٍ ج ّر َفقْ َر امـرئ‬
‫فالبُخْلُ خي ٌر من سؤال البخيلْ‬ ‫فاشدُد عُرا مَاِلكَ واس َتبْـقِـهِ‬

‫حيْنِ ال ُمتَاح‪ ،‬والشقاء الغالب‪ ،‬فرأيت أواني تروق‬ ‫ف بخيلً‪ :‬حضرت ‪ -‬أعزّك ال ‪ -‬مائد َة فلنٍ لل َقدَر المجلوب‪ ،‬وال َ‬‫وكتب بعضُ البخلء يص ُ‬
‫العيون محاسنُهَا‪ ،‬ويُونِقُ النفوسَ ظاهرها وباطنها‪ ،‬وتزهى اللحظات ببدائع غرائبها‪ ،‬وتستوفي الشهوات بلطائف عجائبها‪ُ ،‬مكَللَة بأَحسن من‬
‫حلي الحسان ووجوهِها وزَهْر الرياض ونَورها‪ ،‬كأنّ الشمسَ حلّت بساحتها‪ ،‬والبدر يغرف من جوانبها‪ ،‬فمددت يداً عَنتهَا الشراهة‪ ،‬وغلبها‬
‫شزْر‪ ،‬وفيما بين ذلك حُرَق قائمة‪ ،‬يَصْلَى بها‬ ‫القدر الغالب‪ ،‬وجرّها الطمع الكاذب‪ ،‬وإذا له مع كَسْر كل رغيف لحظة نكْر‪ ،‬ومع كل ُل ْقمَ ٍة نَظْرة َ‬
‫ي عليه من الموت؛ فلمّا وضعت الحربُ أوزارها‬ ‫مَنْ حضره من الغلمان والحشم‪ ،‬وقام بين يديه من الولدان‪ ،‬والخدم‪ ،‬ومع ذلك فترة المغش ّ‬
‫خوَان‪ ،‬وتخلّت عنه سمادير الغَشيان‪ ،‬بسط لسانَ ج ْهلِه‪ ،‬ونصر ما كان من بخله‪ ،‬ونظر إلى مؤاكِلِهِ‪ ،‬نظر المسترقّ له بأكَلته‪ ،‬المالك‬ ‫برفع ال ِ‬

‫‪250‬‬
‫ق بماله‪ ،‬من وَلده وعياله‪ ،‬يرى ذلك فضلً‪ ،‬وحقّا لزماً‪ ،‬وأمراً واجباً‪ ،‬نزل به الكتابُ‬ ‫ن أنه أولى من وَالديه بنسبته‪ ،‬وأح ّ‬ ‫ط رقبته! يظ ّ‬ ‫خيْ ِ‬‫لَ‬
‫سمَح به فغيرُ محمود عليه‪.‬‬ ‫ن دفعه ردّ حكم القضاة عليه‪ ،‬وإن َ‬ ‫ق عليه قُضاةُ المة‪ ،‬فإ ْ‬ ‫والسنة‪ ،‬واتف َ‬
‫فقر لبن المعتز وغيره‬
‫في الصديق والصدق‬
‫سمّي العد ّو عدواً ِلعَدْوِ ِه عليك إذا ظفر بك‪ .‬علمةُ الصديق إذا أراد القطيعةَ أن يؤخّر‬ ‫سمّي الصديقُ صديقاً لصدقه فيما يدّعيه لك‪ ،‬و ُ‬ ‫إنما ُ‬
‫ق أ ْنمَحَقَ السرو ُر به‪ ،‬وتسلّطت التهم‬
‫الجواب‪ ،‬ول يبتدئ بالكتاب‪ ،‬ل يفسدنك الظنّ على صديق قد أصلحك اليقين له‪ .‬إذا كثرت ذنوبُ الصدي ِ‬
‫عليه‪ .‬من لم يقدم المتحانَ قبل الثقة والثقة قبل الُنس أثمرت مودّته ندماٌ‪ .‬نُصْح الصديق تأديبٌ‪ ،‬ونصحُ العدو تأنيب‪ .‬ظاهرُ العتاب خي ٌر من‬
‫باطن الحقد‪ ،‬وما جُمش الود بمثل العتاب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ب ذريعةُ الهَجْرِ‬‫تَ ْركُ العتاب إذا استحق أخٌمنك العتا َ‬
‫س َريْنِ‪ ،‬لكني واقع‪ ،‬وعلى الطائر أن يغْشَى أخاه ويراجع‪ .‬من قل‬ ‫حبْسِ‪ :‬نحن في الصحبة كالنَ ْ‬ ‫وكتب أبو إسحاق الصابي إلى صديق له من ال َ‬
‫جزْ‬
‫صدقه قل صديقه‪ .‬من صدقت لهجته ظهرتْ حُجته‪ .‬الصادق بين المهابة والمحبة‪ .‬من عرِف بالصدق جاز كذبه‪ ،‬ومن عرف بالكذب لم يَ ُ‬
‫صدْقه‪ ،‬ومن تمام الصدق الخبار بما تحتمل العقول‪.‬‬ ‫ِ‬
‫من إنشاء الحسن بن وهب‬
‫حتَذي من البيان في النظام‪ ،‬مثل ما نقصد نحن في النثر من الفهام‪ ،‬والفضلُ لك‬ ‫وكتب الحسن بن وهب إنى أبي تمام أطائي‪ :‬أنت‪ ،‬حفظك ال‪ ،‬تَ ْ‬
‫ل متعقده‪ ،‬وتربط متشرّده‪ ،‬وتضم أقطاره‪،‬‬ ‫‪ -‬أعزّك ال ‪ -‬إذ كنت تأتي به في غاية القتدار‪ ،‬على غاية القتصار‪ ،‬في منظوم الشعار‪ ،‬فَتح ّ‬
‫ل فيستبهم‪ ،‬ول مشتركًا فيلتبس‪ ،‬ول متعقدًا فيطول‪ ،‬ول متكلفاً‬ ‫وتجلو أنواره‪ ،‬وتفصله في حدوده‪ ،‬وتخرجه في قيوده‪ ،‬ثم ل تأتي به مهم ً‬
‫فيحول؛ فهو منك كالمعجزةِ تضرب فيه المثال‪ ،‬وتشرح فيه المقال؛ فل أعدمنا ال هَداياك واردة‪ ،‬وفوائدك وافدة‪ ،‬وهي طويلة‪.‬‬
‫وفي هذه الرسالة يقول أبو تمام‪ ،‬وقد أَرى أنه قال ذلك في غيرها‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫جَوٍ‪ ،‬وأصاب شاكلةَ ال ّرمِيّ‬ ‫ل بَـثّ‬‫لقد جَلّى كتابُـك كـ ّ‬
‫غرائبُه عن الخبرِ الجـلِـيّ‬ ‫ضتُ خُتامَ ُه فتبلَجَتْ لـي‬ ‫فَضَ ْ‬
‫ج ِنيّ‬ ‫على كبدي من الزهر الْ َ‬ ‫عيْني وَأنْدَى‬ ‫وكان أغَضّ في َ‬
‫من البُشْرى أتت بَعد ال ّنعِـيّ‬ ‫حسَنَ موقعًا منّي وعنـدي‬ ‫وأَ ْ‬
‫ظ قـمِـيّ‬ ‫على أذن‪ ،‬ول لف ٍ‬ ‫ت به بل لـفـظٍ كـريهٍ‬ ‫كتب َ‬
‫ت من الحلِـيّ‬ ‫صدورُ الغانيا ِ‬ ‫ضمّنَ صَدره ما لم تُضمّـنْ‬ ‫و ُ‬
‫ب هديّة لك كـالـهَـديّ‬ ‫فر ّ‬ ‫ك من هداياك الصفـايا‬ ‫فإن َت ُ‬
‫لقد ُزفّتْ إلى سم ٍع كَـفِـيّ‬ ‫لئن غ ّر ْبتَها في الرض بكرا‬
‫وقال البحتري في الحسن بن وهب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ضبِه‬‫مصقولُ خِلتَ لسانَ ُه مِنْ عَ ْ‬ ‫ي كلمُـهُ ال‬ ‫وإذا تألّقَ في الّندِ ّ‬
‫بَ َر َقتْ مصابيحُ الدُجا في كُ ْتبِـهِ‬ ‫ت أقلمُه ثمّ انتـحَـتْ‬ ‫وإذا دَجَ ْ‬
‫ِمنّا‪ ،‬و َي ْبعُ ُد نَيْلُ ُه فـي قُـ ْربِـهِ‬ ‫ب َف ْهمُهُ في بُـعْـدِهِ‬
‫باللفظ يَقْ ُر ُ‬

‫ُم َت َدفّقٌ و َقلِي ُبهَا من قَـلْـبِـه‬ ‫ل بَـنـانِـهِ‬‫حكَ ٌم فَسائِحُها خِل َ‬


‫ِ‬
‫شبِهِ‬‫وأنيق زهرته وخُضْرة عُ ْ‬ ‫كالروض مؤتلق بحمرة ورده‬
‫صبِهِ‬
‫شيِهِ أو عَ ْ‬ ‫مِنْ خاله أو و ْ‬ ‫خيّ َرتْ ِلمُـتَـوّجٍ‬‫أو كالبُرُودِ تُ ُ‬
‫حبّـهِ‬‫ن مُ ِ‬ ‫وجهُ المحبّ بدا ِلعَي ِ‬ ‫سمْ ُع َمعْقُودٌ بـهـا‬‫وكأنها وال ّ‬
‫أنشد بعض الكتاب هذه البيات أبا العباس ثعلباً‪ ،‬فاستعادها حتى فهمها‪ ،‬ثم قال‪ :‬لو سمع الوائل هذا ما فَضّلُوا عليه شعراً‪.‬‬
‫وقال بعض الكتّاب‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫في النظم كالدّر ال ّنثِـيرْ‬ ‫ورسـالة ألـفـاظـهـا‬
‫توفيقُ في كل المـورْ‬ ‫جاءتْ إليك كـأنـهـا ال‬
‫سن من حياة في سُرُورْ‬ ‫ق من شـكـوى وأح‬ ‫بأر ّ‬
‫ف بَصِيرْ‬ ‫بَح وهو ذو طَ ْر ٍ‬ ‫لو واجهتْ أعمـى لصْ‬
‫من بعد يأسٍ في السرُورْ‬ ‫فكأنـهـا أمـل سَـرَى‬
‫لقدومهِ بشرى البـشـيرْ‬ ‫أو كالـفـقـيد إذا أتَـتْ‬
‫أو كالمان لمستـجـيرْ‬ ‫أو كالمنـام لـسـاهـرٍ‬
‫أو كُفْر نعمى من َكفُور‬ ‫كتبت بحبر كـالـنّـوَى‬
‫ق مُسْـتَـنـيرْ‬
‫ما بين ح ّ‬ ‫فكأنـمـا هـو بـاطـل‬
‫وقال أحمد بن أبي العباس بن ثوابة البسيط‪:‬‬
‫من رأيه وندى كفّيه عـن مـثـلِ‬ ‫في كل يوم صدو ُر الكتْب صـادِرةً‬
‫كلّ الخلئق بين البيض والسَـل‬ ‫ط أقلمِه يجري القضاءُ على‬ ‫عن خَ ّ‬
‫ك دَمعَ الواكف الخَضلِ‬ ‫حُ‬‫نَوْ ٌر يُضا ِ‬ ‫كأن أسطره في بطن مُـهْـ َرقِـه‬
‫وربما كان فيه النفع لـلـعـلـل‬ ‫لعابه علل والصـدر ينـفـثـهـا‬

‫‪251‬‬
‫جذَلِ‬
‫غمّ ومن َ‬
‫والدهر يعطيك من َ‬ ‫كالنار تعطيك من نُور ومن حُـ َرقٍ‬
‫وقال آخر‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ورَقّ مثل َرقْرَاقِ السرابِ‬ ‫مدا ٌد مثل خافية الـغـرابِ‬
‫وألفاظ كأيام الـشـبـابِ‬ ‫وأقلم كأرواح الجـواري‬
‫بلغة عمرو بن مسعدة‬
‫ي وقد‬‫قال أحمد بن يوسف‪ :‬دخلت على المأمون‪ ،‬وفي يده كتابٌ‪ ،‬وهو يعاود قراءَته مرة بعد مرة‪ ،‬ويصعّد فيه بصرَه ويصوّبه؛ فالتفت إل ّ‬
‫لحظني في أثناء قراءته الكتاب‪ ،‬فقال‪ :‬أراك مُ َفكَراً فيما تراه مني! فقلت‪ :‬نعم‪ ،‬وَقى ال أميرَ المؤمنين المخاوفَ! قال‪ :‬ل مكروه إن شاء ال‪،‬‬
‫ولكني قرأتُ كتاباً وج ْدتُه نظيرَ ما سمعت الرشيد يقوله عن البلغة‪ ،‬فإني سمعتُه يقول‪ :‬البلغةُ التباعد من الطالة‪ ،‬والتقرب من البغية‪،‬‬
‫والدللة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى‪ ،‬وما كنتُ أتوهّم أن أحداً يقدر على هذه البلغة حتى قرأت هذا الكتاب من عمرو بن مسعدة‬
‫جنْ ٍد تأخّرَتْ‬
‫ن ِقبَلي من الجناد والقوّاد في الطاعة والنقياد على أحسن ما تكون عليه طاعةُ ُ‬ ‫إلينا فإذا فيه‪ :‬كتابي إلى أمير المؤمنين ومَ ْ‬
‫أعطياتهم‪ ،‬واختلّت أحوالهم! أل ترى يا أحمد إلى إدماجه المسألة في الخبار‪ ،‬وإعفائه سلطانَه من الكثار؟ ثم أمرَ لهم برزق ثمانية أشهر‪.‬‬
‫وفي عمرو بن مسعدة يقول أبو محمد عبد ال بن أيوب التيمي‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫خفيّ كوحْيك بـالـحـاجـبِ‬ ‫ق نـاصـب‬ ‫عنّي علـى بـار ٍ‬ ‫أِ‬
‫َيدَا كـاتـبٍ أو يَدَا حـاسِـب‬ ‫كأن تألـقـه فـي الـسـمـاء‬
‫يهيج من شوقـك الـغـالـب‬ ‫فروّى مـنـازلَ تـذكـارُهَـا‬
‫و َيبْكي على عصره الـذاهـب‬ ‫ن لوطــانِـــه‬ ‫غريب يحـ ّ‬
‫مطـالـعة المَـلِ الـكـاذبِ‬ ‫كفاك أبو الفضل عمرو النـدى‬
‫لعمرو بن مسعدة الـكـاتـب‬ ‫صدْق الرجاء وحُسْن الوفـاءِ‬ ‫و ِ‬
‫ء في العزّ والشرف الثـاقـب‬ ‫عريض الفِناء طويل الـبـنـا‬
‫وأهل الخلفة مـن غَـالـب‬ ‫بنى الملـك طَـوْد لـه بـيتـهُ‬
‫ومعتصَم الراغبِ الـراهـب‬ ‫هو المرتجى لصروف الزمـان‬
‫على الضيف والجار والصاحب‬ ‫جوادٌ بمـا مـلـكـتْ كـفّـهُ‬
‫ب والطّرف والطّفْلَة الكاعِـبِ‬ ‫بُأدْمِ الركـاب ووَشْـي الـثـيا‬

‫وندعوه للجَلَـلِ الـكـاربِ‬ ‫نؤملـهُ لـجـسـام المَـورِ‬


‫بشيمتـه لـيّن الـجـانِـبِ‬ ‫خصيب الجناب مَطِير السحاب‬
‫و ُيغْرِق في الجودِ كاللّعـب‬ ‫يروّي القنا من نحور الـعـدا‬
‫حراجيج في َم ْهمَـهٍ لحـبِ‬ ‫إليك تـبـدّتْ بـأكـوارهـا‬
‫تزايل من بَـ َردٍ حـاصـب‬ ‫كأن َنعَامـًا تـمـادى بـنـا‬
‫ويقضين من حقّك الواجـبِ‬ ‫يردْن َندَى كفَك المرتَـجـى‬
‫سجْلٍ لقـومٍ ومـن خـارب‬ ‫بِ َ‬ ‫ولّ ما أنـت مـن جـابـر‬
‫ويسبق مسـألة الـطـالـبِ‬ ‫يُساقي العدا بكؤوس الـردى‬
‫ف من هارب‬ ‫حتْ ِ‬
‫وكم نلت بال َ‬ ‫وكم راغب نلْته بـالـعـطـا‬
‫و َفضْلٌ من المانع الواهـب‬ ‫وتلك الخلئق أعـطـيتـهـا‬
‫ل مكسبة الكـاسـب‬ ‫ءِ أفض ُ‬ ‫كسبت الثناء‪ ،‬و َكسْبُ الثـنـا‬
‫خبِـر بـالـغـائب‬ ‫وظنّك يُ ْ‬ ‫يقينك يجلو ستـور الـدجـى‬
‫وهذا الشعر يتدفّق طبعاً وسلسة‪.‬‬
‫بين الطبع والتكلّف‬
‫قلت‪ :‬والكلمُ الجيد الطبع مقبول في السمع‪ ،‬قريبُ ال ِمثَال‪ ،‬بعيد ال َمنَال‪ ،‬أنيق الديباجة‪ ،‬رقيق الزجاجة‪ ،‬يدنو من َفهْم سامعِه‪ ،‬كدنوّه من وهم‬
‫جنَبَاته‪ ،‬ويجول رَ ْونَق الحسن في صفحاته‪ ،‬كما يجول السّحْر في‬ ‫صانعه‪ ،‬والمصنوع مثقف الكعوب‪ ،‬معتدلُ النبوب‪ ،‬يطرد ماءُ البديع على َ‬
‫الطّرْف الكحيل‪ ،‬والثرُ في السيف الصقيل‪ ،‬وحمل الصانِع شعره على الكراه في التعمل وتنقيح المباني دون إصلح المعاني ُيعْفي آثار‬
‫صنعته‪ ،‬ويطفئ أنوار صيغته‪ ،‬ويخرجه إلى فسادِ التعسّف‪ ،‬و َقبْح التكلّف؛ وإلقاءُ المطبوع بيده إلى قبول ما يبعثه هاجسُه‪ ،‬وتنفثه وساوسه‪ ،‬من‬
‫حسَنُ ما أجري إليه‪ ،‬وأعول عليه‪ ،‬التوسّط بين الحالين‪،‬‬ ‫حدّ المشتهر الرثّ‪ ،‬وحيّز الغثّ؛ وأ ْ‬‫غير إعمال النظر‪ ،‬وتدقيق الفكر‪ ،‬يخرجه إلى َ‬
‫والمنزلة بين المنزلتين‪ ،‬من الطبع والصنعة‪.‬‬
‫وقد قال أعرابي للحسن البصري‪ :‬علمني ديناً وسيطاً‪ ،‬ل ساقطاً سقوطاً‪ ،‬ول ذاهباً فروطاً‪ ،‬قال الحسن‪ :‬أحسنت‪ ،‬خيرُ المور أوساطها‪.‬‬
‫والبحتري عن هذا القوس ينزع‪ ،‬وإلى هذا النحو يرجع‪.‬‬
‫مُلح في باب الشعر‬
‫ومن الشعر الذي يجري مع النفس قول ابن المعتز يمدح المكتفي؛ إذ قدم من الرقة بعد القبض على القرمطي فقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫فوق أغـصــانِ الـــقـــدودِ‬ ‫ل ورمّــان الـــنـــهـــودِ‬
‫غٍ و َورْد مـــن خُــــــدودِ‬ ‫وعـنـاقــي َد مِـــنَ أصـــدا‬
‫طالـعـات بـالـســـعـــودِ‬ ‫وبـــدور مـــن وُجـــــوهٍ‬

‫‪252‬‬
‫عاد مـن بَـعْـدِ الـــوعِـــيد‬ ‫ورسـول جـاء بـالـــمـــي‬
‫في قَـفَـا طـولِ الــصـــدود‬ ‫ونــعـــيم مـــن وِصَـــال‬
‫زارنـــي فـــي يوم عـــيد‬ ‫ما رأت عـينـي كـظــبْـــي‬
‫في َقبَاء فاختيّ اللون من لبس الجديد‬
‫يٌ بـســـيف وعَـــمُـــودِ‬ ‫كلما قاتل جند‬
‫نِ وخَــــدّينِ وجِـــــــيدِ‬ ‫قاتـل الـنـــاسَ بـــعـــي‬
‫ه عـلـى رغـم الـحَـسُـــودِ‬ ‫قد سقـانـي الـخـمـر مـن فـي‬
‫وهْـوَ فـي عَـقْـــدٍ شـــديدِ‬ ‫وتـعـانـقـنـــا كـــأنـــا‬
‫طيب عـــنـــد الــــورودِ‬ ‫نقـرع الـثـغـر بـثـــغـــر‬
‫قطْـر مُـزن بــجـــمـــود‬ ‫مثـل مـا عــاجـــل بـــردٌ‬
‫جع أرواح الـــوفــــــود‬ ‫سحـراً مـن قـبــل أن تـــر‬
‫ي كـجـبـــار عـــنـــيد‬ ‫ومضـى يخـطـر فـي الـمـش‬
‫دم بـالـجـدّ الــســـعـــيد‬ ‫مرحـبـاً بـالـمـلـك الـقـــا‬
‫تل حـيّات الـــحـــقُـــودِ‬ ‫يا مـذلّ لـبَــغْـــي يا قـــا‬
‫خالـــدٍ بـــاقٍ جـــــديدِ‬ ‫عش ودُ ْم فـي ظِـــلّ عَـــيش‬
‫ؤك كـالـز ْرعِ الـحــصِـــيدِ‬ ‫فلـقـد أصـــبـــح أعـــدا‬
‫مثــل عـــادٍ وثـــمـــود‬ ‫ثم قـد صـــاروا حـــديثـــاً‬
‫ل بُـــنُـــودِ‬ ‫تحـت أجـــيا ِ‬ ‫جاءهـم بـــحـــرُ حـــديد‬
‫فوقـهـا أســـدُ جُـــنـــودِ‬ ‫فيه عــقـــبـــان خـــيولٍ‬
‫ي مـــــديدِ‬‫كل خَـــطـــ ّ‬ ‫وَ َردُوا الـحــرب فـــمـــدُوا‬
‫دّ إلـى قَــطْـــعِ الـــوَرِيد‬ ‫وحــســـام شَـــرِهِ الـــح‬

‫رِ إمام من نـديد‬ ‫ما لهذا الفتح يا خي‬


‫ح المزيدِ‬
‫حمْدَ مفتا ُ‬
‫َ‬ ‫فاحمد الَّ فإن ال‬
‫وقول علي بن الخليل‪ ،‬مولى يزيد بن مؤيد الشيباني‪ ،‬وكان يُرمى بالزندقة‪ ،‬قال الفضل بن الربيع‪ :‬جلس الرشيد يوماً للمظالم‪ ،‬فجعلت أتصفّح‬
‫الناسَ‪ ،‬وأسم ُع كلمهم‪ ،‬فرميت بطَرْفي‪ ،‬فرأيت في آخرهم شيخاً حسَنَ الهيئةِ والوجْه ما رأيتُ أحسنَ منه؛ فوقف حتى َتقَوّضَ المجلسُ‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ن تعبيراً لخطّي من غيري ‪ -‬فقال له‪ :‬اقرأْ‪،‬‬ ‫يا أمير المؤمنين‪ ،‬رقعتي؛ فأمر بأخذها‪ ،‬فقال‪ :‬إنْ رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي بقراءتها؛ فأنا أحس ُ‬
‫ل عنايَته بأمري في الذن بالجلوس فعل‪ ،‬فقال‪ :‬اجلسْ‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬شيخ ضعيف‪ ،‬ومقامٌ صَعب‪ ،‬ول آمَنُ الضطراب؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يص َ‬
‫فجلس وأنشأ يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫جلْـسِ‬ ‫جبُ الركاب ب َمهْمَهٍ َ‬ ‫نُ ُ‬ ‫يا خيرَ من وخدتْ بأرحُـلِـهِ‬
‫طيَ التّجَارِ عمائمَ الـبِـرْسِ‬ ‫طوي السباسبَ في أزمتـهـا‬
‫سجدتْ لوجهك طلعة الشمْسِ‬ ‫لما رأتك الشمـسُ طـالـعة‬
‫في يومك الغادي وفي المْسِ‬ ‫خيرُ البَ ِريّ ِة أنـت كـلّـهـم‬
‫تمسِي وتصبح فوق ما تُمسِي‬ ‫وكذاك لن تنفـكّ خـيرَهُـم‬
‫عفّ السريرة طاهر النفْـسِ‬ ‫لّ ما هارون مـن مـلـك‬
‫تزداد جدّتها مع الـلّـبْـسِ‬ ‫تمّت علـيه لـربّـه نِـعَـمٌ‬
‫أهل العفاف ومنتهى القُـدْسِ‬ ‫من عترة طابَتْ أرومـتـهـا‬
‫ش ْمسِ‬ ‫ولدى الهياج مَصاعبُ ُ‬ ‫متهلّلين عـلـى أسِـرّتـهـم‬
‫قد كان ش ّردَني ومن لَـبْـسِ‬ ‫إني لجأتُ إلـيك مـن فَـزَع‬
‫يمّمتُ نحوك ِرحْلَة ال َعنْـس‬ ‫لما استخَرْتُ ال مجـتـهـداً‬
‫حتى أغيّبَ في ثَرَى َرمْسِي‬ ‫واخترت حِلْمـك ل أجـاوزهُ‬
‫ج كحالِك النـقْـسِ‬ ‫ليلً يمو ُ‬ ‫كم قد سريت إليك مُـدّرعـاً‬
‫كان التوكّل عنـده تُـرْسِـي‬ ‫س فـ َزعٌ‬ ‫إن راعني من هاج ٍ‬
‫أصبو إلى نَف ٍر مـن النْـسِ‬ ‫ما ذاك إل أنـنـي رجــلٌ‬
‫يقتلن بالتطويل والـحَـبْـس‬ ‫بيض أوانس ل قرون لـهـا‬
‫صفرا َء مثل مُجَاجةِ ال َورْسِ‬ ‫وأجاذب الفـتـيان بـينـهـمُ‬
‫نظم كرقم صحائف الفُـرسِ‬ ‫للماء في حافاتـهـا حـبَـبٌ‬
‫ما إن أضعت إقامَة الْخَمـسِ‬ ‫وال يعـلـمُ فـي بـنـيتـه‬
‫قال‪ :‬ومن تكون؟ قال‪ :‬علي بن الخليل‪ ،‬الذي يقال إنه زنديق‪ ،‬فقال له‪ :‬أنت آمن‪ ،‬وأمر له بخمسة آلف درهم‪.‬‬
‫وأنشد أبو العباس المبرّد لرجل يصف دعوة دعَا بها ال عزّ وجلّ‪ ،‬وقد رأيتها في شعر محمد بن حازم الباهلي‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫‪253‬‬
‫محلّ‪ ،‬ولم يقطع بها البِيدَ قاطـ ُع‬ ‫سرِ في الرض َتبْتغي‬ ‫وساريةٍ لم تَ ْ‬
‫لوردٍ‪ ،‬ولم يقصر لها القيد مانـعُ‬ ‫حدَ ال ّركَاب ولم تُنَخْ‬ ‫سَ َرتْ حيث لم تُ ْ‬
‫بجثمانه فيه سَـمِـيرٌ وهـاجـعُ‬ ‫تمرّ وراء الليل واللـيل ضـاربٌ‬
‫على أهلها‪ ،‬والُّ رَاءٍ وسـامـعُ‬ ‫إذا وردَتْ لم يَ ْردُدِ اللـه وفـدهـا‬
‫ب منهـنّ قـارعُ‬ ‫إذا قرع البوا َ‬ ‫ت دونـهـا‬ ‫تفتّحُ أبوابُ السـمـوا ِ‬
‫أرى بجميلِ الظنّ ما ال صانـع‬ ‫وإني لرجو الَّ حتى كـأنـنـي‬
‫أخبار معن بن زائدة‬
‫ودخل رجل من شيبان‪ ،‬على معن بن زائدة‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذه الغيبة‪ .‬فقال‪ :‬أيها الميرُ‪ ،‬ما غاب عن العَين مَنْ يذكرهُ القَلْب‪ ،‬وما زال شوقي إلى‬
‫المير شديداً‪ ،‬وهو دون ما َيجِب له‪ ،‬وذِكري له كثيراً‪ ،‬وهو دُون َقدْرِه‪ ،‬ولكن جفوة الحجّاب‪ ،‬وقِلّ َة بشر الغلمان‪ ،‬منعاني من التيان! فأمر‬
‫بتسهيل إذنه‪ ،‬وأجزل صلته‪.‬‬
‫ن فيك‬ ‫وقال أبو جعفر المنصور لمعن بن زائدة‪ :‬كبرت يا َمعْن! قال‪ :‬في طاعتك يا أّمير المؤمنين‪ ،‬قال‪ :‬إنك لجَلد‪ ،‬قال‪ :‬على اّعدائك‪ ،‬قال‪ :‬وإ ّ‬
‫ب إليك؛ هذه أم دولة بني أمية‪ .‬قال‪ :‬ذلك إليك يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن زاد برّك على‬ ‫لبقيّة‪ ،‬قال‪ :‬هي لك يا أَميرَ المؤمنين‪ ،‬قال‪ :‬فأي الدولتين أح ّ‬
‫برّهم كانت دولتُك أحبّ إليّ‪.‬‬
‫ومعن هذا هو‪ :‬معن بن زائدة بن عبد ال بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو أخي الحوفزان بن شريك بن عمرو بن قيس بن شرحبيل بن‬
‫منبه بن مرة بن ذُهْل بن شيبان‪ ،‬وبنو مطر بيت شيبان‪ ،‬وشيبان بيت ربيعة‪.‬‬
‫وكان معن أَجود الناسِ‪ ،‬وفيه يقول مَرْوان بن أبي حفصة ويعم بني مطر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫خفّان أشـبُـلَ‬ ‫أسود لها في غِيل َ‬ ‫بنو مطرٍ يومَ اللـقـا ِء كـأنـهـم‬
‫لجاره ُم بين السّماكَـيْنِ مـنـزلُ‬ ‫ه ُم يمنعون الجارَ حتى كـأنـمـا‬
‫وإن أَحسنوا في النائبات وأَجملُـوا‬ ‫ول يستطيعُ الفاعلون فعَـالـهـمْ‬
‫كأوّلهم فـي الـجـاهـلـية أولُ‬ ‫بهَاليلُ في السلم سادُوا ولم يكُـنْ‬
‫عطَوْا أطابوا وأجْزَلوا‬ ‫جابوا وإن أ ْ‬ ‫هم القومُ إن قالوا أصابوا وإن دُعُوا‬
‫أخذ البيتَ الولَ ابن الرومي‪ ،‬وزاد فقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫خفّانُ‬
‫سدِ ألبسها الجامَ َ‬ ‫كال ْ‬ ‫ط بينهُمُ‬
‫تلقاهمُ ورِماح الخ ّ‬
‫بين الجبن والحزم‬
‫سرْحَنا‪ ،‬فَأشِ ْر علينا بما نُدْرِك به الثّأر‪،‬‬ ‫ن عدوّنا استاق َ‬ ‫أتى قوم من العرب شيخاً لهم قد أَرْبى على الثمانين‪ ،‬وأَهدف على التسعين‪ ،‬فقالوا‪ :‬إ ّ‬
‫وننفي به العارَ‪ ،‬فقال‪ :‬الضعف فسخ ِهمّتي‪ ،‬ونكث إبرام عزيمتي‪ ،‬ولكن شاوروا الشجعان من ذوي العَزْم‪ ،‬والجبناء من ذوي الحزم؛ فإنّ‬
‫الجبان ل يَألو برأيه ما بَقِي مهجكم‪ ،‬والشجاع ل يألو برأيه ما يشيد ذكركم‪ ،‬ثم أخلصوا من الرأي بنتيجة تبعد عنكم معرّة نقصِ الجبان‪ ،‬و َتهَوّر‬
‫حسَام القاضب‪.‬‬ ‫سهْم الصائب‪ ،‬وال ُ‬ ‫الشجعان‪ ،‬فإذا نجمَ الرأيُ على هذا كان أنفذ عَلَى عدوكم من ال َ‬
‫بين الجهل والعقل‬
‫صوّر العَ ْقلُ لضاء معه الليل‪ ،‬وإنك من‬ ‫صمُه‪ :‬والّ لو صُوّر الجهل لَظلم معه النهار‪ ،‬ولو ُ‬ ‫قال الصمعي‪ :‬سمعت أعرابية تقول لرجل تخا ِ‬
‫ج المدّعي عنده إلى إحضار البيّنة‪.‬‬ ‫حكَمًا ل يحتا ُ‬
‫ن من ورائك َ‬ ‫أفضلهما لمعدم‪ ،‬فخَفِ ال‪ ،‬واعلم أ ّ‬
‫هجاء بني كليب‬
‫قال الفرزدق يهجو كليباً‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ضحَتْ لِساري‬ ‫نجومُ الليل ما و َ‬ ‫ولو يُرْمى بلؤ ِم بني كُـلـيبٍ‬
‫ل َدنّسَ لؤمُهمْ َوضَحَ النـهـارِ‬ ‫ولو لبس النهارَ بنـو كـلـيب‬
‫أقوال العراب في النثر والشعر‬
‫ل تَعبِي و َنصَبي فل‬ ‫وقاد سفيان بن عيينة‪ :‬سمعت أعرابياً يقول عشية عَرَفة‪ :‬اللهمّ‪ ،‬ل تح ِر ْمنِي خي َر ما عندك لِش ّر ما عندي‪ ،‬وإن لم تتقبّ ْ‬
‫تَحْرِمني َأجْرَ المصاب على مصيبته‪.‬‬
‫ت من تجاوُزك عنها‪ ،‬ولست أع َتذِرُ إليك منها إل بالقلع‬ ‫وقال آخر منهم لصديق استبطأه فلمه‪ :‬كانت لي إليك زَلة يمنعني من ذِكرها ما َأمّل ُ‬
‫عنها‪.‬‬
‫وقال آخر لبن عم له‪ :‬وال ما أَعْرف تقصيراً فأقلع‪ ،‬ول ذنباً فأعتب‪ ،‬ولست أَقولُ‪ :‬إنك كذبت‪ ،‬ول إنني أذنبت‪.‬‬
‫عذْرِك‪ ،‬وإن كنت من أحدهما على يقين‪ ،‬ومن الخر على شك‪ ،‬لتتمّ النعمة مني إليك‪ ،‬وتقومَ الحجةُ‬ ‫وقال آخر لبن عمّ له‪ :‬سأتخطّى ذنبك إلى ُ‬
‫لي عليك‪.‬‬
‫ي الن من الصبر؛ لن‬ ‫وأصيب أعرابيّ بابن له فقال ‪ -‬وقد قيل له‪ :‬اصبر ‪ -‬أَعَلَى ال أتجلّد‪ ،‬أم في مصيبتي أتبلّد؟ وال ل ْلجَزَع من أمره أحبّ إل ّ‬
‫الجزع استكانة‪ ،‬والصبر قَساوة‪ ،‬ولئن لم أجزع من النقص ل أفرح بالمزيد‪.‬‬
‫غنَاكَ‪ ،‬أو أضلّ في هدَاك‪ ،‬أو أذِلّ في عزّك أو أضام في سُلطَانك‪ ،‬أو أضْطَهد والمر إليك‪.‬‬ ‫ودعا أعرابي فقال‪ :‬الله ّم إني أعوذ بك أن أفتقرَ في ِ‬
‫ك منك‪ ،‬ولئن أظهر الشفقةَ عليك؟ إنّ عقاربه‬ ‫قال الصمعي‪ :‬سمعتُ أعرابيًا َيعِظُ رجلً وهو يقول‪ :‬وَيحَك! إنّ فلناً وإن ضحك إليك‪ ،‬فإنه يضح ُ‬
‫لتسري إليك؛ فإن لم تتّخذه عدوّا في علنيتك‪ ،‬فل تجعله صديقاً في سرِيرتك‪.‬‬
‫ك عليك‪.‬‬ ‫غفْل لم تَسِمك التجارب‪ ،‬وفي النصح لَسْعُ العقارب‪ ،‬كأني بالضاحك إليك‪ ،‬وهو با ٍ‬ ‫سمع أعرابيّ رجلً يقعُ في السلطان‪ ،‬فقال‪ :‬إنك ُ‬

‫‪254‬‬
‫ظ أول كلمك‬ ‫حذَر فلنًا فإنه كثيرُ المسألة‪ ،‬حسن البحث‪ ،‬لطيف الستدراج‪ ،‬يحف ُ‬ ‫وحذّر بعضُ الحكماء صديقاً له صحبه رجل‪ ،‬فقال‪ :‬ا ْ‬
‫ن قد تحرّزْت؛ وأعلمْ أَنّ من يقظة الفطْنة إظهارَ الغفلة مع شدة‬ ‫على آخره‪ ،‬ويعتبرُ ما أخّرت بما قدّمت‪ ،‬فل تظهرنّ له المخافة فيرى أ ْ‬
‫الحذر‪ ،‬فباثِثْ ُه مباثّ َة المن‪ ،‬وتحفّظ منه تحفّظ الخائف؛ فإنّ البحث يظهر‪ .‬الخفيّ الباطن‪ ،‬و ُيبْدي المستكنّ الكامن‪.‬‬
‫أتى أَعرابيّ رجل لم يكن بينه وبينه حرمة في حاج ٍة له‪ ،‬فقال‪ :‬إني امتطيتُ إليك الرجاءَ‪ ،‬وسَ َر ْيتُ على المل‪ ،‬ورافقت الشكر‪ ،‬وتوسّلت‬
‫حسِن المثوبة‪ ،‬وأكرم الصفَد‪ ،‬وَأقِم الَوَد‪ ،‬وعجّل السّراح‪.‬‬ ‫حسْنِ الظنّ‪ ،‬فحقق المل‪ ،‬وأَ ْ‬ ‫بُ‬
‫قال الصمعي‪ :‬وسمعتُ أعرابياً يقول‪ :‬إذا ثبتت الصول في القلوب‪ ،‬نطقت اللسنةُ الفروع! والّ يعلم أَنّ قلبي لك شاكر‪ ،‬ولساني ذاكِر‪،‬‬
‫ومحال أن يظهرَ الودّ المستقيم‪ ،‬من الفؤاد السقيم‪.‬‬
‫ومدح أعرابي رجلً‪ ،‬فقال‪ :‬إنه ليغسل من العار وجوهًا مسودّة‪ ،‬ويفتح من الرأي أبوابًا منسدّة‪.‬‬
‫وقال أعرابي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫دامي الظافرِ في الخميس ال ُممْطِرِ‬ ‫س قَـسْـ َورِ‬ ‫كم قد ولدتُمْ مـن رئي ٍ‬
‫وبنشر فـائدة وجـذو ِة مِـنْـبَـرِ‬ ‫سدِكَت أناملـه بـقـائم مـرهـف‬ ‫َ‬
‫درعاً سوى سربال طِيبِ العنصـرِ‬ ‫ما إن يريد إذا الرماحُ تشـاجـ َرتْ‬
‫ويقيم هامته مقـام الـمِـغْـفَـر‬ ‫يلقي السيوفَ بوجهه وبـنـحـره‬
‫فعقرتُ ركن المجد إن لم ُتعْـقَـرِ‬ ‫شبَا ال َقنَـا‬‫ويقول للطّرْفِ اصطبر ِل َ‬
‫متَسَرْبل سربال مَـحْـلٍ أغـبـرِ‬ ‫وإذا تأمّل شخصَ ضَيفٍ مـقـبـلٍ‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫حرَتنيَ العداء إن لم تـنـحـرِي‬ ‫نَ َ‬ ‫َأوْمى إلى الكَ ْومَـاء هـذا طـارق‬
‫جدَا‬‫فلم يرَ الناسُ وَجْداً كالذي و َ‬ ‫عمْداً لغفلـتـه‬‫قامت تَصدّى له َ‬
‫ظبْي ما خَضَدا‬ ‫وناهدٌ مثل قلب ال ّ‬ ‫جيداء َربْدَاء لم تعقد قـلئدَهـا‬
‫وقال آخر‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫صبْ ٌر ول يأمن العداء إن وردَا‬ ‫َ‬ ‫فراح كالحائم الص ْديَان ليس لـه‬
‫بأَرديةِ الظلماء ملتـحـفـاتِ‬ ‫ت بعد وَهْن طرقْننـي‬ ‫ومكتتما ٍ‬
‫ن مستَـتـراتٍ‬ ‫على رقب ٍة منه ّ‬ ‫دَسْسنَ رسولً ناصحًا وتلونـهُ‬
‫وبتْنَ على اللذّات معتكـفـات‬ ‫فبتّ أعاطيهنّ صرفَ صبـابةِ‬
‫وقال الحنف بن قيس‪ :‬من‬ ‫سليمى وجادَتْ بعدها عَبراتِي‬ ‫جدَ قلبي يوم أتبعتُ ناظري‬ ‫فيا َو ْ‬
‫ف من الردّ‪.‬‬
‫لم يستوحش من ذلّ المسألة لم يأن ْ‬
‫وقال سفيان الثوري لخ له‪ :‬هل بلغك شي ٌء مما تكرهُه عمن ل تعرف‪ .‬قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فأقلل ممن تعرف‪.‬‬
‫أخذه ابن الرومي‪ ،‬فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ت من الصحابِ‬ ‫فأَقلِلْ ما استطع َ‬ ‫عدوّك من صديقك مُسـتَـفـاد‬
‫ن من الطعام أو الشـراب‬ ‫يكو ُ‬ ‫فإنّ الـداءَ أكـثـر مـا تـراهُ‬
‫يُعاف‪ ،‬وكم قليل مستـطـابِ؟‬ ‫ف َدعْ عنك الكثيرَ فكـم كـثـير‬
‫باب المديح‬ ‫ويُلْفى الرّيّ في النّطَفِ العِذابِ‬ ‫وما الُلجَجُ الـمِـلح مُـ َروّياتٍ‬
‫شدّ‪ ،‬وتؤلف ما نَدّ‪.‬‬ ‫ل إنك ل َت ْبذُل ما جل‪ ،‬وتجبر ما انفلّ‪ ،‬وتكثر ما قلّ؛ ففضلك بديع‪ ،‬ورأيك جميع‪ ،‬تحفظ ما َ‬ ‫وقال رجل لخالدِ القسري‪ :‬وا ّ‬
‫وسئِل أعرابي عن قومه‪ ،‬فقال‪ :‬يقتلون ال َفقْر‪ ،‬عند شدّة القرّ‪ ،‬وأَرواح الشتاء‪ ،‬وهبوب الجِ ْر ِبيَاء‪ ،‬بأسنمة الجَزور‪ ،‬و ُمتْرَعَات القدور‪َ ،‬تهَشّ‬
‫وجو ُههُم عند طلب المعروف‪ ،‬وتعبس عند لمعانِ السيوف‪.‬‬
‫ك انفسحت آماُلهَا‪ ،‬وفَخ ُر آباء شَ ُر َفتْ‬ ‫س ليوث تتبعُها أشبالُها‪ ،‬وهِم ُم ملو ٍ‬ ‫ووصف أعرابي قوماً فقال‪ :‬لهم جودُ كرام اتسعت أحوالها‪ ،‬وبَأْ ُ‬
‫أخوالها‪.‬‬
‫عدْلِك‪ ،‬حتى كأنك من‬ ‫وقال خالد بن صفوان‪ ،‬وقد دخل على بعض ال ُولَة‪ :‬قدمت فأَعطيت كلّ ب ِقسْطِه من نظرك ومجلسك‪ ،‬وصوتك‪ ،‬و َ‬
‫كلّ أحد‪ ،‬وحتى كأنك لست من أحد‪.‬‬

‫جزْل اللفاظ‪ ،‬عربيّ اللسان‪ ،‬ثابت العقدة‪ ،‬رقيقَ الحواشي‪ ،‬خفيفَ الشفتين‪ ،‬بَلِيلَ‬ ‫ل فقال‪ :‬كان وال بديعَ المنطِق‪ ،‬ذَلِق الجرأة‪َ ،‬‬‫وذكر خالد رج ً‬
‫الريق‪َ ،‬رحْبَ الشرف‪ ،‬قليل الحركات‪ ،‬خفيّ الشارات‪ ،‬حُلْو الشمائل‪ ،‬حسن الطلوة‪ ،‬حييّا جريّا؛ قؤولً صموتاً‪ ،‬يفل الحز‪ ،‬ويصيب المفاصل‪،‬‬
‫لم يكن بالهذر في َمنْطِقه‪ ،‬ول بالزمر في مروءته‪ ،‬ول بالخرق في خليقته‪ ،‬متبوعاً غير تابع‪ ،‬كأنه علمٌ في رأسه نار‪.‬‬
‫ن من النعمة على ال ُمثْني عليك أنه ل يَ ْأمَنُ التقصير‪ ،‬ول يخاف الفراط‪ ،‬ول يحذر أن تَلْحقه نقيصةُ الكذب‪ ،‬ول‬ ‫وقال بعض البلغاء لرئيسه‪ :‬إ ّ‬
‫جدّك أن الداعي ل يعدم كثرةَ المشايعين‪ ،‬ومساعد َة النيّة على‬ ‫ينتهي به ال َمدْحُ إلى غاية إل َوجَد في فضلك عَوْناً على تجاوزها‪ .‬ومن سعادةِ َ‬
‫ظاهر القول‪.‬‬
‫ألفاظ لهل العصر‬
‫في ضروب ال َممَادح‬
‫قد وضعت كثرةُ التجارب‪ ،‬في يدهِ مرآةَ العواقب‪ .‬قد نَجدَته صروفُ الدهور‪ ،‬وحنكَتْه مصاي ُر المور‪ .‬قد أرض َعتْه الحُنكَة بلبانها‪ ،‬وأ َذ َبثْه الدّ ْربَة‬
‫ع َر َكتْه‪ .‬هو عارف بتصاريف اليام‪ ،‬آخذٌ برهان التجارب‪ ،‬نافذ في مجال التحصيل‬ ‫في إبانها‪ .‬فلن نوازلُ التجارب حنكته‪ ،‬وفوادِحُ اليام َ‬
‫ل والنهار‪ ،‬ودَارت‬ ‫حنْكةً وتجريباً‪ ،‬وعُوداً على الدهر صليباً‪ ،‬قد َأدّبه اللي ُ‬
‫والتمييز‪ .‬قد صحب اليام‪ ،‬وتولّى‪ ،‬النقض والبرام‪ .‬هو ابنُ الدهر ُ‬
‫على رأسه الدوار‪ ،‬واختلفت به الطوار‪ .‬له همّة عل جناحُها إلى عنان النجم‪ .‬وامتدّ صباحها من شرق إلى غرب‪ ،‬ل يتعاظمه إشراف المر‬

‫‪255‬‬
‫إذا أخطره بفكره‪ ،‬وانتساف الصّخْر إذا ألقاه في وَهْمه‪ِ ،‬همّته أب َعدُ من مَناطِ الفرقد‪ ،‬وأعلى من منكب الجوزاء‪ .‬أوسعُ من الرض ذات العرض‪.‬‬
‫صدْر‪ ،‬ذكيّ الذهن‪ ،‬شجاعُ الطبع‪ ،‬ليس بالنؤوم‪ ،‬ول السؤوم‪ ،‬فذّ فَرْد‪ ،‬وأَسد وَرْد‪ ،‬وكأنّ له في كل جارحة قلباً‪ .‬كأنّ‬ ‫هو حيّ القلب‪ ،‬منشرحُ ال ّ‬
‫ب مقدّم‪ ،‬و ِقدْحٌ مقوّم‪ .‬وهو شه ٌم مشدود النطاق‪ ،‬قائم على سَاق‪ ،‬قد جدّ واجتهد‪ ،‬وحشر وحَشَد‪ ،‬شمّر عن ساق‬ ‫سمَه سمع‪ .‬شها ٌ‬ ‫جْ‬‫قلبه عين‪ ،‬وكأن ِ‬
‫ج الدّهم والشهب‪ .‬هو‬ ‫سهُول‪ ،‬وقطع البر والبحر‪ ،‬وأعمل السيفَ والرمْحَ‪ ،‬وأسر َ‬ ‫جدّ ما أَطاق‪ ،‬قد ركب الصعب والذلول‪ ،‬وتجشَم الحَزْنَ وال ّ‬ ‫ال ِ‬
‫عصْره‪ ،‬وزبْنُ مِصْره‪ ،‬وهو عَلَم‬ ‫مولود في طالع الكمال‪ ،‬وهو جملة الجمال‪ .‬قد أصبح عينَ المكارم‪ ،‬و َزيْن المحافل‪ .‬هو َف ْردُ دهره‪ ،‬وشمسُ َ‬
‫الفضل‪ ،‬وواسطة عِ ْقدِ الدهر‪ ،‬ونادِرَة الفلك‪ ،‬ونكْتة الدنيا‪ ،‬وغُرّة العصر‪ .‬قد بايعته يَدُ المَجْد‪ ،‬ومالت به الشورى إلى النصر‪ .‬فلن يزيدُ عليهم‬
‫جمَة وِ ْردِهم‪ ،‬وواسطة عِقْدهم‪ .‬هو صَدرُهم و َبدْرُهم‪ ،‬ومن عليه‬ ‫ش نَبلهم‪ ،‬ونَبعَة فضلهم‪ ،‬و ُ‬ ‫طرِ‪ .‬هو رائ ُ‬ ‫زيادةَ الشمس على البدر‪ ،‬والبحر على القَ ْ‬
‫سدٌ هو قَلبه‪ ،‬ومملوك هو ربّهُ‪ .‬هو مشهور بسيادتهم‪،‬‬ ‫طبُه‪ ،‬وجَ َ‬‫يدورُ أَمرُهم‪ ،‬ينيف عليهم إنافة صفحة الشمسِ على كُرةِ الرض‪ ،‬كأنهم فلك هو قُ ْ‬
‫وواسطة قِلدتهم‪ .‬موضعه من أهل الفضل موضِع الواسطة من العِقد‪ ،‬وليلة التَ ّم من الشهر‪ ،‬بل ليلة ال َقدْر إلى مطلع الفجر‪ .‬أَفضَل وَأ ْنعَم‪،‬‬
‫وأَسدى في الحسان وأَلحم‪ ،‬وأَسرَج في الكرام وأَلجم‪ ،‬قسم من إنعامه ما يسَعُ أمماً‪ ،‬وتلقى السعادة أمَماً‪ ،‬أعطاه عنانَ الهتمام‪ ،‬حتى استولَى‬
‫على َقصَبِ المرام‪ُ .‬ر ّد عنه الدهرُ أَحَصّ الجناح‪ ،‬وملّكه َمقَادة النجاح‪ .‬أوله من معهود البرّ ومألوفه‪ ،‬وقَصّرت العداء عن مِئاتِه وأُلوفه‪ .‬أوله‬
‫ت عليه سحائبُ‬ ‫إسعافاً سمْحاً‪ ،‬وعطاء سحاً‪ ،‬ومنناً صفواً وعفواً‪ .‬أفاض عليه شِعابَ البِ ّر ومَسَايِله‪ ،‬وجمع له شعوبَ الجميل وقبائله‪ ،‬وهطَل ْ‬
‫عنايته‪ ،‬ورفرفت حوله أجنحة رعايته‪ .‬قد فكّه بكرمه من َقيْد السؤال‪ ،‬ومعرّة الختلل‪ .‬رَاشه بعدما حضَه الفقر‪ ،‬وأَرضاه وقد أسخطه الدهر‪.‬‬
‫ت من كرمِه أكرم سحاب‪ ،‬وحصلت من إنعامه في أخصبِ جَناب‪ .‬قد س ّد ثُ ْلمَة حالي‪ ،‬وأَدرّ‬ ‫مل العيونَ‪ ،‬وسهر دوننا لتحقيق الظنون‪ .‬قد شِم ُ‬
‫ت من‬ ‫ت منه بنَوْءٍ غزير‪ ،‬وسريتُ في ضوء قمر منير‪ .‬قد كرع ُ‬ ‫حَلُوبة آمالي‪ .‬ما أخلو من طَل إحسانه ووابله‪ ،‬وغابر إنعامه وقابله‪ .‬قد استمطر ُ‬
‫ت من طَوْله في ملبس تطول ول تقصُر‪ .‬إقامته في ظلّ ظليل‪ ،‬و َفضْل جزيل‪ ،‬وريحٍ بليل‪ ،‬ونسيم عليل‪،‬‬ ‫برّهِ في مَشَارع تغزر ول تنزُر‪ ،‬ورفَ ْل ُ‬
‫وماء رَ ِويّ‪ ،‬ومعاد وطيّ‪ ،‬وكنّ كنين‪ ،‬ومكان مكين‪ .‬أنا آوي إلى ظلّه كما يأوي الطير المذعور إلى الحرم‪ ،‬وأوَاج ُه منه وَجْهَ المجد وصورة‬
‫ت من دهري بظلّه‪ .‬ما أرددُ‬ ‫الكرم‪ .‬أنا من إنعامه بين خير مستفيض‪ ،‬وجاهٍ عريض‪ ،‬ونعم بيض‪ .‬قد استظهرت على جَوْرِ اليام بعَدْلِ‪ ،‬واستَتر ُ‬
‫فيه طَ ْرفِي وأعدّه من خالص ملكي مكتسب إلى عطائه‪ ،‬أو مكتَسَبٌ بجميل آرائه‪ .‬مسافة بصري تبعد إن سافَ ْرتُ في مواهبه‪ ،‬وركائب فكري‬
‫ح إن أنضيتُها في استقراء صنائعه‪ .‬نعمته نعمة عمّت المم‪ ،‬وسبقت النعم‪ ،‬وكشفت الهموم ورفعت الهمم‪ ،‬نعمه قد سطع صباحُها مستنيراً‪،‬‬ ‫تَطْلَ ُ‬
‫صدْري‪ِ .‬نعَمُه عندي مشرفةُ الجوّ‪ ،‬مغرقة‬ ‫ش ْكرَ لساني ويدي وأتعبت ظهري‪ ،‬وملت َ‬ ‫طنِبَ شعاعُها مستطيراً‪ ،‬قد عرفتني ِن َعمُه حتى استنفدت ُ‬ ‫وَ‬
‫ت نِعمُه تتابعَ القَطْر على القفر‪ ،‬وترادفت ِم َننُه ترادفَ الغني إلى ذوي الفقر‪ .‬نِعمُه أشر َقتْ بها أرضِي‪ ،‬ومُطِ َر بها‬ ‫النوء‪ ،‬مونقة الضوء‪ .‬تتابَع ْ‬
‫ن يعتذ ُر من إساءته‪ ،‬وجاءني الدهرُ ينتظ ُر أمري‪ .‬نِعمَهُ أنعمت البالَ‪ ،‬وسرّت النفس‬ ‫جدّي‪ ،‬وأتاني الزما ُ‬ ‫رَوْضي‪ ،‬ووَرى لها َزنْدي‪ ،‬وعل معها َ‬
‫صغُر القرائح عن اقتراحها‪ .‬له أيادٍ‬ ‫والحال‪ .‬نعم تعمّ عمومَ المطر‪ ،‬وتزيدُ عليه بإفراد النفع عن الضرر‪ .‬نعمٌ َتضْعف الخواطر عن التماسها‪ ،‬وتَ ْ‬
‫سعَةَ البرّ والبَحْر‪،‬‬ ‫ت تَوَالي القَطْر‪ ،‬واتسعت َ‬ ‫قد عمّت الفاق‪ ،‬ووسمت العناق‪ ،‬وأيادٍ قد حبست عليك الشكر‪ ،‬واستعبدت لك الحر‪ِ .‬منَنٌ توالَ ْ‬
‫وأثقلت كاهل الحرّ‪ .‬عندي قلدة منتظمة من ِمنَنه قد جعلتها َوقْفاً على نحور اليام‪ ،‬وجلوتها على أبصار النام‪ .‬أيادٍ يقصر عن حقوقها جهدُ‬
‫القولِ‪ ،‬وتزهر فيها سواطع النعام والطّوْل‪ .‬أياديه أَطواق في أَجياد الحرار‪ ،‬وأفلك تدورُ على ذوي الخطار‪ .‬له ِمنَن تضعف عن تحملها‬
‫سبْع الشداد‪ ،‬لو تحمل الثقَلن ثق َل هذا المتنان لثقل كواهلَهم وأضعف عواتقَهم‪ .‬أياد يفرض لها‬ ‫عواتق الطواد‪ ،‬ويتضاعفُ حملها على ال ّ‬
‫ب النامل‪ .‬مِنن تضعف ُمنَنَ الشكر‪ ،‬وينشر معها قوى النشر‪ ،‬منن هي‬ ‫ن ُتتْعِ ُ‬
‫ختَم‪ .‬أياد تثقل الكاهلَ‪ ،‬و ِمنَ ٌ‬ ‫الشكر ويحتم‪ ،‬ومنن يبتَدأ بها الذكر ويُ ْ‬
‫صرِها فسأطمع في‬ ‫أحسن أثراً من الغيث في أزاهير الربيع‪ ،‬وأَحْلى موقعًا من المن عند الخائف المروع‪ .‬إن أَتعبت نفسي في تعداد مننه وحَ ْ‬
‫إحصاء السحاب وقَطْرِها‪ .‬أياد ل تحصى أو تحصى محَاسِنُ النجوم‪ ،‬و ِمنَن ل تحصر أو تحصر أَقطارُ الغيوم‪ .‬أيا ٍد كعدد الرمل والنمل‪ ،‬أعيت‬
‫على العدّ‪ ،‬ولم تقف عند حد‪ .‬زادَتْ أياديه حتى كادت تجهد العداد‪ ،‬وتسبق العداد‪ .‬أَياديه عندي أغزر من قَطْرِ المطر‪ ،‬وعوارفه لديّ أسرعُ‬
‫سمْك السحاب‪ .‬استنبطه من الحضيض الوْهَد‪ ،‬إلى السناء المجد‪ ،‬وقد نبهَهُ عن خمول‪،‬‬ ‫من رَجْع البصر‪ .‬رفعتني من َقعْر التراب‪ ،‬إلى َ‬
‫طئَتْها‪ ،‬وتقصر ِهمَ ُم الفلكِ لو طلبتها‪،‬‬ ‫وأجرى الماءَ في عوده بعد ذبول‪ ،‬ورقاه إلى ذروَة من المجد بعد نزول‪ .‬فضائل تزل أقدام النجوم لو و ِ‬
‫طرَ بها رَوْضي‪ ،‬ووَرى لها َزنْدي‪ ،‬وعل‬ ‫ت بها أرضِي‪ ،‬ومُ ِ‬ ‫ض ْبعِه منأشرقَ ْ‬
‫ل المنيف‪ ،‬ومكنَه من جوامع التشريف‪ .‬جذب بِ َ‬ ‫ثبتَ ق َدمُه في المح ّ‬
‫ن يعتذ ُر من إساءته‪ ،‬وجاءني الده ُر ينتظ ُر أمري‪ .‬نِعمَ ُه أنعمت البالَ‪ ،‬وسرّت النفس والحال‪ .‬نعم تعمّ عمومَ المطر‪،‬‬ ‫جدّي‪ ،‬وأتاني الزما ُ‬ ‫معها َ‬
‫صغُر القرائح عن اقتراحها‪ .‬له أيا ٍد قد عمّت الفاق‪ ،‬ووسمت‬ ‫وتزيدُ عليه بإفراد النفع عن الضرر‪ .‬نعمٌ َتضْعف الخواطر عن التماسها‪ ،‬وتَ ْ‬
‫سعَةَ البرّ والبَحْر‪ ،‬وأثقلت كاهل الحرّ‪ .‬عندي‬ ‫ت تَوَالي القَطْر‪ ،‬واتسعت َ‬ ‫العناق‪ ،‬وأيا ٍد قد حبست عليك الشكر‪ ،‬واستعبدت لك الحر‪ِ .‬منَنٌ تواَل ْ‬
‫قلدة منتظمة من ِمنَنه قد جعلتها َوقْفاً على نحور اليام‪ ،‬وجلوتها على أبصار النام‪ .‬أيادٍ يقصر عن حقوقها جهدُ القولِ‪ ،‬وتزهر فيها سواطع‬
‫النعام والطّوْل‪ .‬أياديه أَطواق في أَجياد الحرار‪ ،‬وأفلك تدورُ على ذوي الخطار‪ .‬له ِمنَن تضعف عن تحملها عواتق الطواد‪ ،‬ويتضاعفُ‬
‫ل هذا المتنان لثقل كواهلَهم وأضعف عواتقَهم‪ .‬أياد يفرض لها الشكر ويحتم‪ ،‬ومنن يبتَدأ بها‬ ‫سبْع الشداد‪ ،‬لو تحمل الثقَلن ثق َ‬ ‫حملها على ال ّ‬
‫ن ُت ْتعِبُ النامل‪ .‬مِنن تضعف ُمنَنَ الشكر‪ ،‬وينشر معها قوى النشر‪ ،‬منن هي أحسن أثرًا من الغيث في‬ ‫ختَم‪ .‬أياد تثقل الكاهلَ‪ ،‬و ِمنَ ٌ‬
‫الذكر ويُ ْ‬
‫طرِها‪.‬‬ ‫أزاهير الربيع‪ ،‬وَأحْلى موقعًا من المن عند الخائف المروع‪ .‬إن أَتعبت نفسي في تعداد مننه وحَصْرِها فسأطمع في إحصاء السحاب وقَ ْ‬
‫أياد ل تحصى أو تحصى محَاسِنُ النجوم‪ ،‬و ِمنَن ل تحصر أو تحصر أَقطارُ الغيوم‪ .‬أيا ٍد كعدد الرمل والنمل‪ ،‬أعيت على العدّ‪ ،‬ولم تقف عند‬
‫حد‪ .‬زادَتْ أياديه حتى كادت تجهد العداد‪ ،‬وتسبق العداد‪ .‬أَياديه عندي أغزر من قَطْرِ المطر‪ ،‬وعوارفه لديّ أسرعُ من رَجْع البصر‪ .‬رفعتني‬
‫سمْك السحاب‪ .‬استنبطه من الحضيض الوْهَد‪ ،‬إلى السناء المجد‪ ،‬وقد نبهَهُ عن خمول‪ ،‬وأجرى الماءَ في عوده بعد‬ ‫من َقعْر التراب‪ ،‬إلى َ‬
‫ت ق َدمُه في المحلّ المنيف‪،‬‬ ‫ط َئتْها‪ ،‬وتقصر ِه َم ُم الفلكِ لو طلبتها‪ ،‬ثب َ‬ ‫ذبول‪ ،‬ورقاه إلى ذروَة من المجد بعد نزول‪ .‬فضائل تزل أقدام النجوم لو و ِ‬
‫ض ْبعِه من المسقط المنحطّ‪ ،‬إلى المرفع المشتطّ‪.‬‬ ‫ومكنَه من جوامع التشريف‪ .‬جذب بِ َ‬
‫ولهم في أدعية‬
‫من صدور الكتب تليق بهذه الثنية والممادح‬
‫أطال ال له البقاءَ‪ ،‬كطُول يدهِ بالعطاء‪ ،‬ومدّ له في العمر‪ ،‬كامتداد ظلّه على الحُرّ‪ ،‬وأدام له المواهب‪ ،‬كما أفاض به الرغائب‪ ،‬وحرس لديه‬
‫الفضائل؛ كما عوّذ به الشمائل‪ .‬تولّى ال عني مكافأَته‪ ،‬وأَعان على الخير نيّته و ِفعْله‪ ،‬وأصحب بقاءه عزّا يبسطُ يديه لوليائه على أعدائه‪،‬‬
‫ن منيع‪ ،‬وجنابٍ‬ ‫ل يأوي منه إلى ُركْ ٍ‬ ‫ب عن ودائع منَنه عِنده‪ ،‬وزاد في نعمه وإن عظمتْ‪ ،‬وبلغه آمالَه وإن انفسحَتْ‪ ،‬ول زال الفض ُ‬ ‫وكلء ًة تذ ّ‬
‫ن عليه بالثناء ناطقة‪ ،‬والقلوبُ على مودّته متطابقة‪ ،‬والشهاداتُ له بالفضل متناسقة‪ .‬ل زال يعطِف على الصادر والوارد‪،‬‬ ‫مريع‪ .‬ل زالت اللس ُ‬

‫‪256‬‬
‫عَطْفَ الم والوالد‪ .‬أبقاه ال للجميل ُيعْلِي معالَمه‪ ،‬و َيحْمي مكا ِرمَه‪ ،‬ويعمر مدَارِجَه‪ ،‬ويثمّر نتائجه‪ .‬أدام ال أيامَه التي هي أيام الفضائل‬
‫ومواقيتها‪ ،‬وأزمان المآثر وتواريخها‪ .‬أدامه ال للمواهب‪ ،‬ساميةَ الذوائب‪ ،‬موفِية على ُم ْنيَة الراجي وبغية الطالب‪ .‬أبقاه ال للعطاء يفضه بين‬
‫ل يتابعُ له أيامَ العلء والغبطة‪ ،‬والنماء والبسطة‪ ،‬ليرتَع أنواع الخدم في رياض فواضلِه‪ ،‬و َيكْرَع‬ ‫خدمه‪ ،‬والجمال يُفيضه على إنشاء نعمه‪ ،‬وا ّ‬
‫ض مواهبه‪ ،‬والُّ يبقيه طويلَ الذراع‪ ،‬مديد الباعِ‪ ،‬مليّا بالتصال والصطناع‪ .‬جزا ُه ال عن نعمةٍ هيّأها بعد أن أَسبغها‪،‬‬ ‫أصنافُ الحشم في حيا ِ‬
‫وعارفة مَلها بعد أن سوّغها‪ ،‬أفضلَ ما جازى به مبتدئ إحسان‪ ،‬ومُجير إنسان‪ ،‬ل زال مكانُه مَصاناً للكرم‪ ،‬مَعانًا للنعم‪ ،‬ل تريمه المواهب‪،‬‬
‫غدُه‪ ،‬ول زالت اليام والليالي مطاياه؛ في أمانيه وآماله وأيامه‪،‬‬ ‫ول ترومُه النوائب‪ ،‬بُسِطَت بالعل َيدُه‪ ،‬وقُرِن بالسعادة جَده‪ ،‬وجُعل خي ُر يو َميْهِ َ‬
‫صرَفَ صروف الغِيَرِ عن إصابة إقباله وكماله‪.‬‬ ‫و َ‬
‫وقال ابن المعتز في القاسم بن عُبيد ال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سطَ عَـسْـكَـرِ‬ ‫إذا ما رآه غازياً وَ ْ‬ ‫أيا حاسداً يكوي التلـهـفُ قـلـبَـهُ‬
‫نظي ٌر ترى ثم اجتـهـدْ وتـفـكـرِ‬ ‫تصفّحْ بني الدنيا فهـل فـيهـمُ لـهُ‬
‫ل بين جنبيك مُضْـمَـر‬ ‫بنَجْوى ضل ٍ‬ ‫س أنـك مـثـلُـه‬ ‫فإن ح ّد َث ْتكَ النفـ ُ‬
‫شدّ عن الثمِ المـآزِرَ واصـبِـر‬ ‫وُ‬ ‫جدْ‪ ،‬وأجد رأياً‪ ،‬وأقدم على الـعِـدا‬ ‫فَ ُ‬
‫وائب وا ْرفَعْ صرعَةَ الضرّ واجبـرِ‬ ‫وعاصِ شياطين الشباب وقارع الـن‬
‫لحكامه واستغفـرِ الـلـه يغـفـرِ‬ ‫عتَرِفْ‬‫فإن لم تطق ذا فاعذر الدهر وا ْ‬
‫صناعة الكلم‬
‫ل ول يُقْلَى‪ ،‬وهو العيارُ على كلّ‬ ‫قال الجاحظ‪ :‬صِناعةُ الكلم عِلْق نفيس‪ ،‬وجَوه ٌر ثمين‪ ،‬هو الكنز الذي ل يَ ْفنَى ول َيبْلَى‪ ،‬والصاحبُ الذي ل ُيمَ ّ‬
‫صناعة‪ ،‬والزمامُ لكل عبارة‪ ،‬والقِسْطاسُ الذي به يَسْتبينُ نَ ْقصُ كلّ شيء و ُرجْحانه‪ ،‬والراوُوق الذي ُيعْرفُ به صَفاءُ كلّ شيء و َكدَره‪ ،‬والذي‬
‫عيَال‪ ،‬وهو لكلّ تحصيل آل ٌة ومثال‪.‬‬ ‫كل عِلم عليه ِ‬
‫وقال ابن الرومي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫كَفّاه ُم ْعتَزليّا ِمثْلَـه صـفَـدا‬ ‫ي مُوس ٍر منعَتْ‬ ‫عذْ ُر معتزل ّ‬ ‫ما ُ‬
‫عقَدا‬‫ل ذاك َف َقدْ حل اّلذِي َ‬ ‫إن قا َ‬ ‫أيَزْعم ال َقدَر المحتوم ثبّـطَـه‬
‫وقال ابن الرومي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل عن الهدى وتَجُورُ‬ ‫حُجَجٌ تض ّ‬ ‫غدَوا لجدالهم‬ ‫لذوي الجدال إذا َ‬
‫فهوَت‪ ،‬وكلّ كاس ٌر َمكْسـورُ‬ ‫ن كآنيةِ الزّجاج تَصَادمـتْ‬ ‫وُهُ ٌ‬
‫ولوهيِه‪ ،‬والسرُ المَـأْسُـورُ‬ ‫ضعْـفـه‬ ‫ل ثَمّ ِل َ‬
‫فالقاتِلُ المقتو ُ‬
‫وقال أبو العباس الناشئ يفتخر بالكلم الطويل‪:‬‬
‫سنِنا زينتْ صدورُ المحافـلِ‬ ‫بأل ُ‬ ‫س فَضْلَنا‬ ‫ونحن أناس َيعْرفُ النا ُ‬
‫إذا أظلمتْ يوماً وُجُوهُ المسائلِ‬ ‫ق عند جَوابِـنـا‬ ‫تُنير ُوجُوهُ الح ّ‬
‫ك مَقالً لِـقـائل‬‫وقُ ْلنَا فلم نتر ْ‬ ‫ص َم ْتنَا فلم نت ُركْ مقالً لصامتٍ‬
‫وقال يصفُ أصحابه‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫يوْمَ الخصام وماءُ الموت يَطّردُ‬ ‫ت مقاماتي وأنْـ ِديَتـي‬ ‫ش ِهدْ ُ‬‫فلو َ‬
‫لهم شبيهًا ول يُ ْلفَوْن إنْ فقـدوا‬ ‫في فتيةٍ لم يلق الناسُ مذْ وُجِدوا‬

‫ع ْمدُ النّهى الوُطُـدُ‬


‫قوى محلّ الهدى ُ‬ ‫مجاورو الفضل َأفْلكُ العُل سبل الت‬
‫تحسنُ ما أخطئوا فيها وما عَـمَـدُوا‬ ‫كأنهم في صـدورِ الـنـاسِ أفـ ِئدَةٌ‬
‫جدُوا منهـا الـذي َوجَـدوا‬ ‫كأنهم َو َ‬‫ُيبْدون للناس ما تخْفِي ضـمـائرهـم‬
‫ب عنه ْم بالذِي شَـهـدوا‬ ‫وعِلْم ما غا َ‬ ‫ن الدنيا بظـاهـرهـا‬ ‫دلوا على باط ِ‬
‫ب يَقِـدُ‬
‫إل َو ِم ْنهُـمْ لـدينـا كـوكـ ٌ‬
‫مطالع الحق ما مِن شبهَةٍ غَسِـقـتْ‬
‫وقال سعيد بن حميد‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫بالعزيز ال ُمهَـ ْيمِـنِ الـجَـبّـارِ‬ ‫قالت‪ :‬اكتمْ هوايَ واكنِ عن اسمي‬
‫ل بـالجْـبَـارِ‬ ‫ت بعدي تَقو ُ‬ ‫صرْ َ‬ ‫ستَطِيع ذلك‪ ،‬قـالـت‪:‬‬ ‫قلت‪ :‬ل أ ْ‬
‫ن غياث لمَـذْهـب الـنـجّـارِ‬ ‫ت عن مـقـالة بـشـرب‬ ‫وتخليْ َ‬
‫وقال أبو القاسم بن عباد الصاحب‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫شنَـاعَـهْ‬‫جبْرَ ضلّةً و َ‬ ‫وأَرى ال َ‬ ‫كنتَ دهراً أقولُ بالستطـاعـهْ‬
‫ي؛ فسمعاً للمُخبِرين وطَاعَـه‬ ‫ففقدت استطاعتي في هوى ظَب‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عيَانٍ إلى وَهْمِ‬ ‫وصرْنا جميعًا من ِ‬ ‫ب ِديَارُهُ‬
‫ت بـالـحـبـي ِ‬
‫ولما تناءَ ْ‬
‫ن من خَـصْـمِ‬ ‫ي قد تَمكّ َ‬ ‫كمعتزل ّ‬ ‫ق غير مُخالِـسٍ‬ ‫تمكّن منّي الشو ُ‬
‫باب النسيب‬
‫ض هذه البيات التي أنشدها‪ ،‬وزعم أنها لبي كبير الهذلي‪ ،‬ورُويت ليزيد بن الطّث ِريّة وغيره‪ ،‬والرواة ُيدْخلون بعض‬ ‫وأنشد محمد بن سلم بع َ‬
‫الشعر في بعض‪ ،‬وهي‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫‪257‬‬
‫فَوَعـثٌ‪ ،‬وأمّـا خَـصـرهـــا فـــبَـــتِـــيلُ‬ ‫عُقَـــيْلِـــيةٌ‪ ،‬أمّـــا مَـــلَثُ إزارِهــــــا‬
‫بنَـعْــمـــان مـــن وَادِي الراك مَـــقِـــيلُ‬ ‫ظ أكـنَـاف الـحِـمَـــى‪ ،‬ويُظِـــلّـــهـــا‬ ‫تقَـيّ ُ‬
‫لنـا مـن أَخـلّء الــصـــفـــاءِ خَـــلـــيلُ‬ ‫فيا خُـلّةَ الـنـفـس الـتـي لـــيس دُونَـــهـــا‬
‫عدوّ‪ ،‬ولـــم يُ ْؤمَـــنْ عـــلـــيه دَخِـــــيلُ‬ ‫ويا مـن كَـتَـمْـنَـا حُـبّـه‪ ،‬لـــم يُطَـــعْ لَـــه‬
‫وخَـوْفَ الـعِــدا فـــيه إلـــيكِ سَـــبِـــيلُ؟‬ ‫أمَـا مِـن مـقـام أشْـتَـكـي غُـرْبةَ الـــنـــوى‬
‫إلـيكِ؟ وكـل لـــيس مِـــنـــك قـــلـــيلُ‬ ‫ألـيس قـلـيلً نـظـرةٌ إنْ نــظـــرتُـــهـــا‬
‫عنُودَ النوى محجوبةً لطويلُ‬ ‫وإن عناءَ النفسِ ما دمت هكذا َ‬
‫مع الـرّكـبِ لـم يكـتـب عـلـــيك قـــتـــيل‬ ‫ي فَرائح‬ ‫أراجعة قلبي عل ّ‬
‫َفحَـمْـلُ دمـي يوم الـحــســـاب ثَـــقـــيلُ‬ ‫فل تـحـمِـلــي وِ ْزرِي وأنْـــت ضـــعـــيفةٌ‬
‫ويا نُـور عـينـي‪ ،‬هــل إلـــيك ســـبـــيلُ؟‬ ‫فيا جـنّةَ الـدنـيا‪ ،‬ويا مُـنـتـهَـى الــمـــنـــى‬
‫ك قَـــلِـــيلُ‬
‫بعــيدٌ‪ ،‬وأشـــياعـــي لـــدي ِ‬ ‫فديتـكِ‪ ،‬أعـدائي كــثـــير‪ ،‬وشُـــقّـــتـــي‬
‫فأفـنـيت عِــلّتـــي‪ ،‬فـــكـــيف أقـــول؟‬ ‫ت بـــعـــلّةٍ‬ ‫وكـنـتُ إذا مــا جـــئتُ جـــئ ُ‬
‫ول كـــل يوم لـــي إلـــيك رســـــــولُ‬ ‫فمـا كــل يوم لـــي بـــأرْضـــكِ حـــاجةٌ‬
‫وأنشد ابنُ سلّم لبي كبير الهذلي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لوى الدّينَ ُم ْعتَل وشَـحّ غَـريمُ‬ ‫سقٍ لها ال كُـلّـمـا‬ ‫وإني لمستَ ْ‬
‫ول مُحرقَاتٍ ماؤهـنّ حَـمِـيمُ‬ ‫صيّبٍ ذي صَوَاعِق‬ ‫ب ل من َ‬ ‫سحائ َ‬
‫إليهنّ هوجاءُ ال َمهَـبّ عَـقـيمُ‬ ‫ن بنَـسْـمَةٍ‬ ‫ول مخلفات حين ِهجْ َ‬
‫َب َكيْنَ بهِ حتى يَعـيش هَـشِـيمُ‬ ‫ت َنبْتُـهُ‬
‫ع قد ما َ‬ ‫إذا ما َهبَطْنَ القا َ‬
‫عمران بن حطان‬
‫ق ابن الفاجرة‪ ،‬فقال عمران‪ :‬لبئسما أدّبك أهلُك يا حجّاج! كَيف أمنت أن أُجيبك‬ ‫عنُ َ‬
‫ولمّا ظفر الحجّاج بعمران بن حطان الشاري قال‪ :‬اضربوا ُ‬
‫طرَق الحجاج استحياءً‪ ،‬وقال‪ :‬خَلّوا عنه؛ فخرج إلى أصحابه‪ ،‬فتقالوا‪ :‬وال ما أطْلَقك‬ ‫بمثْلِ ما لقيتني به؟ أبعدَ الموت منزلةٌ أصانِعك عليها؟ فأ ْ‬
‫ق قبةً ُم ْعتِقُها! وأنشد‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫إل ال‪ ،‬فا ْرجِعْ إلى حَرْبه معنا‪ ،‬فقال‪ :‬هيهات! غلّ يداً مطلقها واستر ّ‬
‫بيدٍ تُقرّ بأنهـا مَـوْلتُـهُ؟‬ ‫أأقاتل الحجاجَ عن سُلْطَانِه‬
‫عفّتْ عَلَى عرفانِهِ جَهلتُهُ‬ ‫َ‬ ‫إني إذاً لخُو الدناءة‪ ،‬والذي‬

‫في الصفّ واحتجّتْ له َفعَلتُهُ؟‬ ‫ماذا أقول إذا وقـفـت مُـوَازِياً‬


‫حنْظَلَتْ نخَلتُـه‬ ‫ت لدَيّ ف َ‬
‫غُ ِرسَ ْ‬ ‫ث الكْفَاء أنّ صـنَـائعـاً‬ ‫وتحدّ َ‬
‫ق مَنْ جارَتْ عليه ُولَتـه‬ ‫لح ّ‬ ‫أأَقول جار علي؟ إنـي فـيكُـم‬
‫لتُـه‬
‫وجوارحي وسِلَحـهـا آ َ‬ ‫تال مـا كـدت المـير بـآلةٍ‬
‫أخذ أبو تمام هذا فقال معتذراً إلى أبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافعي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ع ْندِي‬
‫إذاً لهجَاني عنه معروفُه ِ‬ ‫ل مَن لو َهجَوْتهُ‬ ‫أألبِسُ ُهجْرَ الْقو ِ‬
‫َمعِي‪ ،‬وإذا ما ل ْمتُه ُل ْمتُه َوحْلِمي‬ ‫كريم متى أ ْمدَحْه أمدحه والورَى‬
‫وعمران بن حطان هو القائل‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫جلُ‬‫ت فَانٍ إذا ما غَاله الَ َ‬ ‫والمو ُ‬ ‫لم يعجز الموتَ شيءٌ دون خالقهِ‬
‫ت فيما بعدُه جَلَل‬ ‫بالموت‪ ،‬والمو ُ‬ ‫ت ُمنْقَطِـعٌ‬‫وكلّ كرب أمامَ المو ِ‬
‫وكان الفرزدَقُ عمل بيتاً‪ ،‬وحلف بالطلق أنّ جَريراً ل ينقضه‪ ،‬وهو‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت مُحَاولُهْ‬‫بنفسك فانظُ ْر كيف أنْ َ‬ ‫فإنّي أنا الموتُ الذي هو نـازلٌ‬
‫فاتصل ذلك بجرير‪ ،‬فقال‪ :‬أنا أبو حَزْرَة‪ ،‬طلقت امرأةَ الخبيث‪ ،‬وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فجئْنِي بمثلِ الدهرِ شيئًا يُطاوِلُـهْ‬ ‫أنا الدَهْ ُر يُ ْفنِي الموتَ والدهرُ خاِلدٌ‬
‫وإنما أشار جرير إلى قول عمران‪.‬‬
‫عمْران بن حِطَان بن ظبيان بن سهل بن معاوية بن الحارث بن سدوس بن سنان بن ذهل بن ثعلبة‪ ،‬ويكنى أبا شهاب‪ ،‬وكان من الشُراة‪،‬‬ ‫وهو ِ‬
‫وكان من أَخطب الناس وَأ ْفصَحهم‪ ،‬وكان إذا خطب ثارت الخوارُج إلى سلحها‪ ،‬وكان من أقبح الناسِ وَجْهاً‪ ،‬قالت له امرأته وكانت في الجمال‬
‫مثله في القبح‪ :‬إني لرجو أن أكون وإياك في الجنة؛ لن ال رزقك ِمثْلي فشكرت‪ ،‬وابتلني بمثلك فصبرت!‪.‬‬
‫بين أعرابي وبعض الولة‬
‫سعَر حَ ْربٍ‪ ،‬و َركّاب نُجُب‪ ،‬شديدٌ على العداء‪ ،‬ل ّينٌ‬ ‫ودخل أعرابي على بعض الوُلة فقال‪ :‬أصْلَحَ ال المير‪ ،‬اجعلني زِماماً من أزمّتك‪ ،‬فإني مِ ْ‬
‫ك مني ال ّدمَامة‪،‬‬
‫على الصدقاءِ‪ ،‬منطوي الحصيلة‪ ،‬قليلُ ال ّثمِيلة‪ ،‬قليل غرار النوم‪ ،‬قد غ َذتْني الحروبُ أفَاوِيقها‪ ،‬وحََلبْتُ الدهرَ أشْطُره‪ ،‬فل َي ْمنَ ْع َ‬
‫شهَامة‪.‬‬
‫ن تحتَها ل َ‬
‫فإ ّ‬
‫الدنيا وأهلها‬
‫قال المسيح عليه السلم‪ :‬ال ّدنْيَا لبليس مزرعة‪ ،‬وأهلها له حُرّاث‪ .‬وقال إبليس لعنَه الّ‪ :‬العجَب لبني آدم يحبّونَ ال و َيعْصونَه‪ ،‬ويُبغضونني‬
‫ويطيعونني‪.‬‬
‫أربع كلمات فيهن صلح الملك‬

‫‪258‬‬
‫خرج الزهري يومًا من عند هشام بن عبد الملك فقال‪ :‬ما رأيتُ كاليومِ‪ ،‬ول سمعت كأربع كلمات تكلّم بهنّ رجلٌ عند هشام؛ دخل عليه فقال‪ :‬يا‬
‫ح مُلْكك‪ ،‬واستقامةُ رعيّتك‪ .‬قال‪ :‬هاتهنّ؟ قال‪ :‬ل َتعِدن عِد ًة ل َتثِقُ من نفسك بإنجازها‪ ،‬ول‬ ‫أمي َر المؤمنين‪ ،‬اِحفظْ عني أ ْربَع كلمات‪ ،‬فيهنّ صل ُ‬
‫ت فكُنْ على حذَر‪.‬‬ ‫سهْلً إذا كان المُنحَدرُ وَعْرأ‪ ،‬واعلمْ أن للعمال جزاءً فاتّق العواقبَ‪ ،‬وأنّ للمو ِر َب َغتَا ٍ‬ ‫يغرّنك الم ْر َتقَى وإن كان َ‬
‫عدْ عليّ! فقلت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أَسِغْ‬ ‫قال عيس بن دَأْب‪ :‬فحدّثت بهذا الحديث الهادي وفي يده لُقْمة قد رفعها إلى فِيهِ فأمسكها‪ ،‬وقال‪ :‬ويحك أ ِ‬
‫لقْمتك‪ ،‬فقال‪ :‬حديثك أحب إليّ‪.‬‬
‫بيعة يزيد‬
‫ن يزيد بن‬ ‫ولمّا عقد معاوي ُة الب ْيعَةَ ليزي َد قام الناسُ يخطبون؛ فقال لعمرو بن سعيد‪ :‬قمْ يا أبا أمية‪ ،‬فقام فحمد ال وأثنى عليهِ ثم قال‪ :‬أمّا بعد‪ ،‬فإ ّ‬
‫جذَع قَارح‪،‬‬ ‫جتُم إلى رَأْيه أَرشدكم‪ ،‬وإن افتقرْتم إلى ذاتِ يده أعناكم‪َ ،‬‬ ‫سعَكم‪ ،‬وإن احت ْ‬ ‫حلْمه وَ ِ‬
‫ل تؤملونه‪ ،‬إن استضفتم إلى ِ‬ ‫ل تؤمونه‪ ،‬أم ٌ‬ ‫معاوية أج ٌ‬
‫جدَ‪ ،‬وقُورع فقَ َرعَ‪ ،‬وهو خَلف أمير المؤمنين‪ ،‬ولمل خلف عنه‪ ،‬فقال له معاوية‪ :‬اجلس‪ ،‬فقد َأبَْلغْتَ‪.‬‬ ‫جدَ فمَ َ‬‫سبَقَ‪ ،‬ومُو ِ‬ ‫سُوبِق ف َ‬
‫شدَق‪ ،‬وإنما سُمي الشدق لتشادقه في الكلم‪ ،‬وقيل‪ :‬بل كان َأفْقم مَائل الشدق‪ ،‬وهذا قول عوانة بن الحكم الكلبي‪،‬‬ ‫وعَمرو بن سعيد هذا هو الَ ْ‬
‫وهو خَلفُ قول الشاعر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وكل خَصيبٍ ل أباً لكَ أشْـدَقُ‬ ‫تشادق حتى مال في القول شدقةُ‬
‫وكان أبو ُه سعيد بن العاصِ أَحدَ خطباء بني أمية وبلغائهم‪.‬‬
‫ل معاوية‪ :‬وفي هذه العلّة إلى من‬ ‫ت سعيد دخل عمرو على معاوية فاستَنطَقه فقال‪ :‬إن أوّل كل مركب صَعب‪ ،‬وإن مع اليوم غداً‪ ،‬فقا َ‬ ‫ولما ما َ‬
‫أَوصى بك أبوك‪ .‬قال‪ :‬أوصى إليّ ولم يُوصِ بي‪ ،‬فقال معاوية‪ :‬إن ابن سعيد هذا لشدق!‪.‬‬
‫تواضع الرشيد‬
‫جمَالً وحَسَباً‪ ،‬فواسَى في مَالِه‪ ،‬وعفّ‬ ‫ضعُك في شرفك أفضَلُ من شرفك؛ إنّ رجلً آتاه ال مالً و َ‬ ‫قال ابن السماك للرشيد‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬توا ُ‬
‫في جماله‪ ،‬وتَواضعَ في شربِه‪ ،‬كُتب في ديوان ال عزّ وجلّ‪.‬‬
‫المتنبي يصف علّة أصابته بمصر‬
‫نالت أبا الطيب المتنبي علّة بمصر‪ ،‬فكان بعض إخوانه من المصريين يُكثر اللما َم به؛ فلمّا أب ّل قطعه‪ ،‬فكتب إليه‪ :‬وص ْلتَني‪ ،‬أعزك ال‪ ،‬مُعتلً‪،‬‬
‫وقطعتني مُبِلّ‪ ،‬فإن رأيت أل َت ْكدُر الصحةُ عليّ‪ ،‬وتحبّب العلّة إليّ‪َ ،‬فعَلْتَ‪.‬‬
‫وفي هذه العلّة يقول‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫خبّ بيَ الرّكابُ‪ ،‬ول أمامـي‬ ‫تَ ُ‬ ‫ض مِصْرَ؛ فل ورائي‬ ‫أقمتُ بأر ِ‬
‫سكْ ِر من غيرِ الـمُـدَامِ‬ ‫شديدُ ال ّ‬ ‫جسْ ِم ُم ْمتَـنِـعُ الـقـيامِ‬‫عَليلُ ال ِ‬
‫س تَزُورُ إل في الـظّـلمِ‬ ‫فَليْ َ‬ ‫وزائِ َرتِي كَـأنّ بـهـا حَـياءً‬
‫فعافَتهَا‪ ،‬وباتَتْ في عِظـامِـي‬ ‫بَذَلْتُ لها المَطارِفَ والحَـشـايَا‬
‫سعُهُ بـأنـواعِ الـسـقَـامِ‬
‫فتُو ِ‬ ‫ج ْلدُ عن نَفَسِي وعنهـا‬ ‫يضيق ال ِ‬
‫كأنا عاكِفـانِ عـلـى حَـرَامِ‬ ‫إذا ما فارقَتني غسّـلـتْـنـي‬
‫مَدا ِمعُهـا بـأربـعةٍ سِـجَـام‬ ‫كأنّ الصبح يَطْرُدها َفتَـجْـرِي‬
‫مُراقَبةَ المَشُوقِ المُسْـتَـهـامِ‬ ‫أُرا ِقبُ َو ْقتَها مِنْ غـيرِ شَـوقٍ‬
‫إذا ألقاكَ في الكُرَبِ العِظـامِ‬ ‫صدْقُ شَـرّ‬ ‫عدُها وال ّ‬ ‫صدُقُ وَ ْ‬ ‫ويَ ْ‬
‫ألفاظ لهل العصر في العيادة وما جانسها‬
‫شكّي والمرض وتلوّنه‪ ،‬وسوء أثره‪ ،‬والنزعاج لِعوارضه‪:‬‬ ‫من ذكر التّ َ‬
‫حمّى ل ُتغِبّ‪ ،‬و ُزكَام‬‫صدَاع ل يخفّ‪ ،‬و ُ‬ ‫عرض لي مرضٌ أساء بالنجاة ظنّي‪ ،‬وكاد يصرف وجه الفاقة عني‪ ،‬هو شُورى بين أمراض أربعة‪ُ :‬‬
‫ل تعالى إذ جعلها عِظة‬ ‫سرِها مُعتَقل‪ ،‬وب َق ْيدِها مُكبل‪ .‬أمراض تلوَنت عليّ‪ ،‬وأساءت بي وإليّ‪ ،‬فأنا أشكرُ ا ّ‬ ‫ل يجفّ‪ ،‬وسُعال ل َيكُفّ‪ .‬علّة هو في أ ْ‬
‫ق منها الن إل يسيراً‪ ،‬أحسب أن المراض قد أقسمت على أن تجعل أعضائي مَرَاتعها‪ ،‬واَلت على أن تُصيّر جوارحي‬ ‫وتذكيراً‪ ،‬ولم ُيبْ ِ‬
‫ل إل بولي عهد‪ .‬قد كرّت تلك العلة فعادت عِللً‪ ،‬وسقتني بعد َنهَل عَلَلً‪ .‬علل‬ ‫ت إل لتكدير وِرْد ول يعزل منها وا ٍ‬ ‫مرا ِبعَها‪ .‬عِلَل ل يصدر منها آ ٍ‬
‫جثّة‪ ،‬والطيفُ أَوفر منه قُوّة‪ .‬عرض له‬ ‫سعَتْ ُه مَرَضاً‪ ،‬وغادرته والخيالُ أَكثَفُ من ُ‬ ‫بَ َرتْه بَرْي الخلّة‪ ،‬ونقصته َنقْصَ الهلّة‪ ،‬وتركته حَرَضا‪ ،‬وأو َ‬
‫ط ُيغَاديه ويُراوِحه‪ ،‬واليأس يُخاطبه و ُيصَافحه‪ .‬قد و َر َد من سوء الظنّ أَوْخمَ المناهل‪ ،‬وبات من حسن الرجاء‬ ‫من المرض ما صار معه القنو ُ‬
‫ن ل يُقل رأسَه‪ ،‬ول يحور‬ ‫على مرَاحل‪ .‬طالعتُ الكرم يترجّح نجمه بين الضاءة والفول‪ ،‬وتمثلُ شمسه بين الشراق والغروب‪ .‬أصبح فل ٌ‬
‫ظلّه‪ ،‬ويدُ المنية تَقْرَع بابه‪ .‬ما هو للعلّة إل عَرض‪ ،‬ولسهام المنيّة إل غَرَض‪ .‬شاهدتُ نفسي وهي تَخرج‪ ،‬ولقيت رُوحي وهي َتعْرُج‪ ،‬وعَرفت‬
‫طعْ ُم البعد والفراق‪ ،‬وكيف تلتفّ الساق بالساق‪ .‬مرض لحقتني رَوْعته‪ ،‬وملكتني لَوْعته‪ .‬وجدت‬ ‫كيف تكون السكْرة‪ ،‬وكيف تقع ال َغمْرة‪ ،‬وكيف َ‬
‫عرَضَ لك‬ ‫حشُ ُه آنَسُه‪ ،‬وَآنَسُه أوحشُه‪ .‬بلغني من شكايته ما أَوحش جناب الُنس‪ ،‬وأَرَاني الظلمة في مَطْلع الشمس‪ .‬قد بلغني ما َ‬ ‫في نفسي ألماً أوْ َ‬
‫من المرض‪ ،‬وأل ّم بك من اللم‪ ،‬فتحاملَ على سوداء صدري‪ ،‬وأقْذَى سوادَ طَرْفي‪ ،‬وقد استنفد ال َقلَق لعلّتك ما أَعدّه الصبرُ من ذخيرة‪ ،‬وأضعف‬
‫ي من الخبر‬ ‫ما قواه العزم من بصيرة‪ .‬قَلْبي يتقلّب على حدّ السيف إلى أن أعْرف انكشافَ العارض و ِزيَاله‪ ،‬وأتحقّق انحساره وانتقاله‪ .‬أنهى إل ّ‬
‫العارض‪ ،‬حسمَ ال مادّته‪ ،‬وقصّر مدّته‪ ،‬ما أراني الفق مُظْلماً‪ ،‬والعيش ُم ْبهَماً‪.‬‬
‫فقر في تهوين العلّة بحسن الرجاء‬
‫وذكر المشاركة والهتمام بحُلُولها والستبشار بزوالها‪:‬‬
‫ضعْفِه قد أضعف المنّة‪ ،‬وإنْ لم يُضعف الظنّ بالّ والثّقة‪ .‬قد استشفّ العافية من ثوب رقيق‪ .‬ما أكثر ما رأينا هذه العلل‬ ‫ن الذي بلغني من َ‬ ‫إّ‬
‫ت وتوالت ثم تولّت‪ .‬خبّرني فلن بعلّتك فأشركني فيها ألماً وقلَقاً‪ ،‬فل أَعَل ال لك جسماً ول حالً‪ ،‬فليست ِنكَاية الشغل في قلبي بأقلّ‬ ‫حَلّتْ ثم تَجلّ ْ‬
‫من ِنكَايةِ الشكايةِ في جسمك‪ ،‬ول استيلء القَلَقِ على نفسي بأيسر من اعتراضِ السّقم لبدنك‪ ،‬ومَنْ ذَا الذي يصحّ جسمه إذا تألّمت إحدى يديه‪،‬‬
‫شكَاتك‪ ،‬مبتهج ب ُمعَافاتك‪ ،‬إن كانت علَتك قد قَ َرحَت وجرَحتْ‪ ،‬فإنّ صحتك قد آسَت وآنست‪ .‬بلغتني‬ ‫ومن يحل محلّها في القرب إليه؟ أنا منزعج ل َ‬

‫‪259‬‬
‫حنَة وال ِمنْحة‪ ،‬والنقمة والنعمة‪ ،‬وعلى أنّا لم نتهالك بأيدي المخافة‬ ‫ب المدة بين ال ِم ْ‬ ‫خفّتها فا ْرتَحْت‪ .‬الحمد لّ على ُقرْ ِ‬ ‫شكَاتك فا ْرتَعْت‪ ،‬ثم عرفت ِ‬ ‫َ‬
‫حتى تدارك بحُسْنِ الرأفة‪ ،‬ولم نستسلم لخطّة الحذر حتى سَل َم من وَرْطَة القدر‪.‬‬
‫ولهم في شكاة أهل الفضل والسؤود‬
‫حرِجَت لها صدورُ أهل الدب‬ ‫جدِ‪ ،‬و َ‬‫غضَت بها حلوقُ ال َم ْ‬ ‫حضُ‪ .‬شكاته التي َ‬ ‫شكاتُه التي تتألَم منها المروءةُ والفضل‪ .‬ويسقم منها الكرم الم ْ‬
‫شرُ على غُزَة المروءة‪ .‬قد اعتل بعلّته الكَرَم‪ ،‬وشكا بشكايته السيفُ والقلم‪ .‬شكاة‬ ‫ب معها على وَجْه الحرية‪ ،‬وحرم معها البِ ْ‬ ‫والعلم‪ ،‬وبدا الشحو ُ‬
‫ت بها‪ ،‬وساعة أنس تفقدها لبذلتها‪ ،‬عالماً‬ ‫عرضت منه لشَخص الكرم الغضّ‪ ،‬والشرف المَحْض‪ .‬لو قبلت مهجتي فديةً‪ ،‬دون وَعكَة تجدها‪َ ،‬لجُد ُ‬
‫بأني أ ْفدِي الكرم ل غير‪ ،‬والفضل ول ضَير‪.‬‬
‫ولهم في تنسّمِ القبال وذكر البلل‬
‫ش ِممْت رائحةَ الصحة‪ .‬أقبل صنع ال من حيث لم أَحتسب‪ ،‬وجاءني لطْفه من حيث ل أرْتقب؟ وتدرّجْت إلى البلل‬ ‫قد شمْت با ِرقَة العافية‪ ،‬و َ‬
‫شطّ العافية لما تداركني ال تعالى بلطيفة من لطائفه وجعل هبة الروح‬ ‫وقد حسبته حلْماً‪ ،‬ورضيت به دون الستقلل غُنماً وقد تخلَصت إلى َ‬
‫شفَيث على الوفاة‪ ،‬وثنيْت وجهي إلى الدنيا بعد مواجهتي للدار الخرى‪ .‬قد صافَحَ القبال‬ ‫عارِفة من عَوَارفه‪ ،‬وتنسمت روح الحياة؟ بعد أن أَ ْ‬
‫والبلل‪ ،‬وقارب النهوض والستقلل‪ .‬سيُرِيك ال من العافية التي أذاقك ويُسْبغ‪ .‬ثوبها‪ ،‬ول يعيد عنيد مكَروهَها‪ .‬قد استقلّ استقللَ السيف‬
‫ث عهدُه وأعِيد فِر ْندُه‪ ،‬والقمر انكشف سِرَارُه‪ ،‬وذاعت أَسراره‪ .‬حين استقلّت يدي بالقلم‪ ،‬بشَرتك بانحسار اللم‪ .‬قد أتاك ال بالسلمة‬ ‫حود َ‬
‫سمَك وعافاه‪ ،‬ومحا عنه أثرَ السقم‬ ‫شرَحَت الصدور‪ ،‬وشمل السرور‪ .‬الحمد لّ الذي حرس جِ ْ‬ ‫الفائضة‪ ،‬وعافاك من الشكاة العارضة‪ .‬أبلّ فان َ‬
‫وعَفّاه‪ .‬الحمد لّ الذي جعل العافيةَ عقْبى ما تشكيت‪ ،‬والسلمة عِوَضًا عمّا عايَنت‪ .‬الحمد ل الذي أعفاك من ُمعَاناة اللم‪ .‬وعافاك لل َفضْلِ‬
‫والكرم‪ ،‬ونظمني معك في سِلكِ النعمة‪ ،‬وضمَني إليك في ُمنْبلج الصحّة‪ .‬الحمد لّ الذي جعل السلم َة ثوبك الذي ل تنضوه‪ ،‬وسيفك فيما تأمله‬
‫جعَل السلمةَ أطول ب ْردَيك‪ ،‬وأشدّهما سُبوغًا عليك‪ ،‬ويدفع في صدوره المكارِم دون ربعك‪ ،‬وفي نحور المحاذير قبل النتهاء إلى‬ ‫وتَرْجُوه‪ .‬ال يَ ْ‬
‫شعَارَك‪ ،‬ما واصل ليُلكَ نها َركَ‪.‬‬ ‫ظلّك‪ .‬ل زالت العافية ِ‬
‫فقر في أدْعية العيادة والستشفاء بكتبها‬
‫صوْبَ‬‫أَغناك ال عن الطبّ والطباء‪ ،‬بالسلمة والشفاء‪ ،‬وجعله عليك َتمْحيصًا ل تنغيصاً‪ ،‬وتذكيرًا ل نكيراً‪ ،‬وأدباً ل غضباً‪ .‬ال يدرّ لك َ‬
‫العافية‪ ،‬ويُضفي عليك ثوبَ الكفاية الوافية‪ .‬أوْصَل ال تعالى إليك من بَردِ الشفاء ما يكفيك حَ ّر الدواء‪ .‬كتابك قد َأدّى َروْحَ السلِمة في‬
‫أعضائي‪ ،‬وأَوصَل بَردَ العافية إلى أحشائي‪ .‬تركني كتابك والنعم َتثِب إلى صحتي‪ ،‬والخطوب تتجافى عن مُهجتي‪ ،‬بعد أمراضٍ اكتنفت‪ ،‬وأسقام‬
‫ضمَار تجاريا‪ .‬أبدلني كتابُك من حزون الشكايه شهُولَ‬ ‫اختلفت‪ .‬قد استبق كتابك والعافية إلى جسمي كأنهما فرَسَا رِهَان تباريا‪ ،‬ورَسيل مِ ْ‬
‫المعافاة‪ ،‬ومن شدّة التألّم‪ ،‬رخاءَ التنعم‪.‬‬
‫قطعة من كلم الطباء والفلسفة‬
‫العاقل يترك ما يحبّ ليستغنيَ عن العلج بما يكره‪.‬‬
‫ض طبيعي‪.‬‬ ‫جالينوس‪ :‬المرض هَرَم عارِض‪ ،‬والهَرَم مر ٌ‬
‫حمّى الروح‪.‬‬ ‫وله‪ :‬مجالسة الثقيلِ ُ‬
‫بختيشوع‪ :‬أكلُ القليل ممّا يَضرّ أصلح من أكل الكثير مما ينفع‪.‬‬
‫حدُث‪ ،‬ومن الشراب بما َقدُم‪.‬‬ ‫يحوحنا بن ماسويه‪ :‬عليك من الطعام بما َ‬
‫ن ما يُتنقّل به على النبيذ؟ قال‪ :‬قول أبي نواس‪ ،‬يريد قوله‪ :‬المنسرح‪:‬‬ ‫وقال له المأمون‪ :‬ما َأحْسَ ُ‬
‫خمري شرابي َونَقْليَ القُبلُ‬ ‫الحمد لّ ليس لي مَـثَـلُ‬
‫ثابت بن قُرة‪ :‬ليس شيء أضرّ بالشيخ من أن تكونَ له جارية حسناء‪ ،‬وطبّاخ حاذق؛ لنه يُكثر من الطعام فيَسقَم‪ ،‬ومن الجماع ف َيهْرَم‪.‬‬
‫غيره‪ :‬ليس لثلث حيلة‪ :‬فقرٌ يخاِلطُه كسل‪ ،‬وخصومة يخامرها حَسَد‪ ،‬ومرضٌ يمازِجه هرم‪.‬‬
‫ثلثة يجب مداراتهم‪ :‬السلطان‪ ،‬والمريض‪ ،‬والمرأة‪.‬‬
‫ثلثة ُيعْذَرون على سوء الخلق‪ :‬المريض‪ ،‬والمسافر‪ ،‬والصائم‪.‬‬
‫فقر في ذكر المرض والصحة والموت‬
‫والحياة لغير واحد‪:‬‬
‫شيئان ل يُعرفان إل بعد ذهابهما‪ :‬الصحة والشباب‪ .‬بمرارة السقم توجد حلوةُ الصحة‪ .‬هذا كقول أبي تمام‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شهْدُ‬
‫إليّ‪ ،‬ولول الشَرْيُ لم ُيعْرَفِ ال ّ‬ ‫ن فِعـلِـهِ‬ ‫إساءة دَهْ ٍر أ ْذكَرَت حسْ َ‬
‫وقوله أيضا‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ف نعيمُها‬ ‫فهو الذي أدْراك كي َ‬ ‫والحادثاتُ وإنْ أصابك بُؤْسها‬
‫ما سلم ُة بدن معرّض للفات‪ ،‬وبقاء عمر معرض للساعات؟ قال أبو النجم‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫كالغَرض المنصوب للسّهام‬ ‫إنّ الفتى يصبح للـسـقـام‬
‫أخطأ رامٍ وأصـابَ رَام‬
‫حذَرُ المربوب‪ ،‬و ِنعْمَ الدواء‬ ‫وقيل لبعض الطباء وقد نهكته العلّة‪ :‬أل تتعالج؟ فقال‪ :‬إذا كان الداء من‪ ،‬السماء بطل الدواء‪ ،‬وإذا قدّر الرب بطل َ‬
‫المل‪ ،‬وبئس الداء الجل‪.‬‬
‫بزرجمهر‪ :‬إنْ كان شيء فوق الحياة فالصحة‪ ،‬وإن كان شيء فوق الموت فالمرض‪ ،‬وإن كان شيء مثل الحياة فال ِغنَى‪ ،‬وإن كان شيء مثل‬
‫الموت فالفقر‪.‬‬
‫غيره‪ :‬خير من الحياة ما ل تطِيبُ الحيا ُة إل به‪ ،‬وشرّ من الموت ما يُتمنّى الموت له‪.‬‬
‫قال المتنبي في مرثية سيف الدولة‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫َت َمنّتْهُ البَواقِي وا ْلخَوَالِـي‬ ‫ت مَوْتاً‬‫ك مُ ّ‬‫س أن ِ‬
‫أطَابَ النفْ ُ‬
‫س فِيهِ بالـزوالِ‬‫سرّ النَفْ ُ‬ ‫تُ َ‬ ‫وزُ ْلتِ ولم تَرَيْ يوماً كريهاً‬

‫‪260‬‬
‫ك في كمَالِ‬
‫ي ابنِ ِ‬
‫ومُ ْلكُ عل ّ‬ ‫سبَطِرّ‬ ‫ك مُ ْ‬
‫رِوَاقُ العِ ّز فَ ْو َق ِ‬
‫الموت باب الخرة‪.‬‬
‫ك ل يقين فيه من الموت‪.‬‬ ‫ك فيه أشبه بش ّ‬ ‫الحسن‪ :‬ما رأيتُ يقيناً ل ش ّ‬
‫سهْ ٌم مُ ْرسَل إليك‪ ،‬وعمرك بقدر سفره نحوك‪ .‬أخذه بعض أهل العصر فقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬ ‫ابن المعتز‪ :‬الموت َ‬
‫ن وخَفْ بوادرَ آ َفتِهْ‬ ‫ل َت ْأمَن الدهرَ الخؤو‬
‫والعم ُر قَدْر مسا َفتِهْ‬ ‫سهْ ٌم مُ ْرسَلٌ‬ ‫فالموت َ‬
‫البستي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ك أنني ليّن المسّ فعزمي إذا انتضيتُ حُسام‬ ‫ل يغر ْن َ‬
‫ثم فـــيه لخــــــرين ُزكَـــــــام‬ ‫أنا كالورد فيه راح ُة قَوْمٍ‬
‫وقال آخر‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ضرر السّعال لمن به استسقاءُ‬ ‫إن الجهولَ تضرّني أخـلقـهُ‬
‫ولخر‪ ،‬وهو البستي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫فليس يحمد قبل النّضج بُحرَانُ‬ ‫فل تكن عَجِلً في المر تطلبهُ‬
‫وقال آخر‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫إنّ الكبار أطبّ للَوجاع‬ ‫ل تعتمِدْ إلّ رئيساً فاضلً‬
‫وقال آخر‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫عبَامـا‬ ‫وإن كان َفدْماً ثقيلً َ‬ ‫ص بعض الرجال‬ ‫ختَ ّ‬ ‫وإني ل ْ‬
‫شهّي الطعامـا‬ ‫ثقيل وخي ٌم يُ َ‬ ‫جبُـنّ عـلـى أنـهُ‬ ‫فإن ال ُ‬
‫وقال المتنبي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وربّما صحّتِ الجسامُ با ْلعِلَلِ‬ ‫ك محمودٌ عواقـبُـهُ‬ ‫ع ْتبَ َ‬
‫لعلّ َ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ح َم فيمَنْ شَحمُهُ وَرَمُ‬ ‫حسِبَ الشَ ْ‬ ‫أنْ ت ْ‬ ‫أُعِيذُها نَظَرات مِـنْـكَ صـادِقةً‬
‫الجواب المفحم‬
‫جلْداً حين ا ْبتُلي‪ ،‬أحضره يوسف بن عمر في قيودِه لبعض المر‪ ،‬وهُم‬ ‫قال أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي‪ :‬كان بللُ بن أبي بردة َ‬
‫ت يدًا من طاعة‪ ،‬ثم‬‫حبَسني ولم أفارِق جماعة؛ ول خلعْ ُ‬ ‫ن عدو ال بللً ضربني و َ‬ ‫بالحِيرة؛ فقام خالدُ بن صفوان فقال ليوسفَ‪ :‬أيها الميرُ‪ ،‬إ ّ‬
‫ت شديدَ الحجاب‪ ،‬مستخفاً بالشريف‪،‬‬ ‫التَفت إلى بللٍ فقال‪ :‬الحمدُ لّ الذي أَزال سلطانَك‪ ،‬وهدّ أركانك‪ ،‬وأَزال جَمالك‪ ،‬وغيّر حالك‪ ،‬فوال لقد كن َ‬
‫مظهرًا للعصبية! فقال بلل‪ :‬يا خالد‪ ،‬إنما استطلت علي بثلث معك هن عليّ‪ :‬المير ُم ْقبِل عليك‪ ،‬وهو عني ُمعْرِض‪ .‬وأنت مُطلَق‪ ،‬وأنا‬
‫مأسور‪ .‬وأنت في طينتك‪ ،‬وأنا غريب! فأفحمه‪ ،‬ويقال‪ :‬إن آل الهتم زعنفة دخنت في بني منقر فانتسبت إليهم‪.‬‬
‫ن بللً مَ ّر بخالد في موكب عظيم‪ ،‬فقال خالد‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وكان سبب ضرب بلل خالداً في وليته أ ّ‬
‫ف عن قليل تَقشّعُ‪.‬‬ ‫سحابة صي ٍ‬
‫حبْسِه‪.‬‬‫فسمعه بلل‪ ،‬فقال‪ :‬وال ل تقشع أو يصيبك منها شؤبوب برد‪ ،‬وأمر بِضَربه و َ‬
‫ما قيل في القداح‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم يرثي َقدَحاً له انكسر‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ض فَـدَح‬ ‫فبعضاً أطَ ْقتُ‪ ،‬وبعـ ٌ‬ ‫ن بـأحْـدَاثـه‬ ‫عَرَاني الـزمـا ُ‬
‫وليس كفج َعتِـنـا بـالـقَـدَحْ‬ ‫وعندي فَجـائع لـلـحـادثـات‬
‫و ُم ْدنِي السرور‪ ،‬ومُ ْقصِي التّرَحْ‬ ‫وِعاءُ ال ُمدَام‪ ،‬وتـاجُ الـبـنـان‬
‫ويُستودع الس ّر مـنـهـا يبـحْ‬ ‫ومعرض رَاحٍ متى تـكـسـه‬
‫يُرَى للهـواء بـكـفّ شَـبـحْ‬ ‫وجسـم هـواءً وإن لـم يكـن‬
‫وإن تتـخِـذْه مِـرَاةً صَـلـح‬ ‫يردّ على الشخْصِ تـمـثـالـهُ‬
‫فتحسب منه عَـبِـيرًا نَـفَـحْ‬ ‫و َيعْبَقُ من نكـهـاتِ الـمُـدَام‬
‫ختِها مـا رَجَـحْ‬ ‫ول شيء في أ ْ‬ ‫ورَقّ‪ .‬فـلـو حـلّ فـي كِـفّة‬
‫لما فيه ممن شكله ينـفـسـح‬ ‫يكادُ مـع الـمـاء إن مـسّـه‬
‫فيا عجبًا مِـنْ لـطـيفٍ رَزَح‬ ‫هوَى من أَنـامـل مـجـدولةٍ‬
‫به للـزمـان غَـرِيم مَـلـحْ‬ ‫فَأفْـقَـ َدنِـيه عـلـى ضِــنّة‬
‫فمتى يَتعَمّـدُ غَـيْرَ الـمُـلـحْ‬ ‫كأنّ لـه نـاظـراً ينـتـقـي‬
‫ت منه وفي العين َدمْـعٌ يسُـح‬ ‫ب مـا أبـقـتِ الـحـادثـا‬ ‫أقلَ ُ‬
‫على القَلْبِ من ناره مـا قـدح‬ ‫وقد قدح الـوجـد مـنـي بـهِ‬
‫وآخرَ يسلب تـلـك الـمِـنَـحْ‬ ‫وأعجـب مـن زمـن مـانـح‬
‫عليك كَـلِـيمٍ وقَـلْـب قَـرِحْ‬ ‫فل تبعدنّ فـكـم مـن حَـشـاً‬
‫وتُوحِش منك مغَاني الصّـبـحْ‬ ‫سيُقف ُر بعدك رَسـم الـغـبُـوق‬
‫ومن أحسن ما قيل في وصف قدح‪ ،‬ابن الرومي يصف قدحاً أهداه إلى علي بن يحيى المنجم‪ :‬الخفيف‪:‬‬

‫‪261‬‬
‫كلّ عقل‪ ،‬ويَطّبي كلّ طَـرْ ِ‬
‫ف‬ ‫وبدي ٍع مـن الـبـدائع يَسْـبِـي‬
‫ما يوفّيه واصفٌ حق وَصْـفِ‬ ‫رَقّ في الحسنِ والملحةِ حتـى‬
‫هى وإن كان ل يناجي بحرْفِ‬ ‫حبّ في الملحة بـل أَش‬ ‫كفم الْ ِ‬
‫أخطَأتْه من ِرقّةِ المستـشَـفّ‬ ‫ن فيه حتـى تـراهـا‬ ‫تنفذ العي ُ‬
‫بضياءٍ‪ ،‬أً ْرقِقْ بـذاك وأصْـفِ‬ ‫كهواء بـل هـبـاء مـشُـوب‬
‫ل علجًا بكِيمِـيَاء مُـصَـفّ‬ ‫صِيغ من جوهر مصفّى طباعاً‬
‫مُتوالٍ‪ ،‬ولم يصغّـر لـرَشْـفِ‬ ‫وسط ال َقدْرِ‪ ،‬لم يكبّـر لِـجَـرْع‬
‫بل حليم عنهنّ في غير ضعفِ‬ ‫ل عجول على العقول جَهـولٌ‬
‫ح َكمَاءُ القيون أحكم عَـطْـفِ‬ ‫فيه نون معقرب عـطّـفَـتْـه‬
‫من حبيب يُزْهى بحُسْنٍ وظرْفِ‬ ‫جنَاتٍ‬ ‫مثل عطف الصداغ في و َ‬
‫مثله فارِساً على بطـن كَـفّ‬ ‫ما رأى الناظرون قدّا وشـكـلً‬
‫وقال أبو القاسم التنوخي‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫َبدَتْ لك في َقدَح من نهارْ‬ ‫ح من الشمس مخلوقةٍ‬ ‫ورا ٍ‬
‫وماءٌ ولكنه غـير جَـارْ‬ ‫هواءٌ ولـكـنـه جـامـدٌ‬

‫تأمّلت نورًا محيطًا بِنَـا ْر‬ ‫إذا ما تأمّلتها وهـي فـيه‬


‫وهذا النهاية في الحمرارْ‬ ‫فهذا النهاية في البيضاضِ‬
‫لفَرْطِ التّنافِي وبعد النّفَارْ‬ ‫ق أن يُقرَنا‬ ‫وما كان في الح ّ‬
‫بسيطَانِ فاتّفقا في الْجِوارْ‬ ‫ولكن تجاور شكلهمـا ال‬
‫إذا قام للسّقْي أو باليَسـار‬ ‫ن المديرَ لها بالـيمـين‬ ‫كأَ ّ‬
‫له َف ْردُ كُ ّم مِنَ الجلّـنـار‬ ‫تدرّع ثوباً من الياسـمِـين‬
‫نماذج شعرية في وصف منديل وثلج‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم يرثي منديل كُمّ‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ستَـجَـ ْه‬‫فإنما َأ ْبكِي عَلى دَ ْ‬ ‫جدٍ على هالكٍ‬ ‫ك من َو ْ‬‫من َي ْب ِ‬
‫فجادتِ النفسُ بها مح َرجَـهْ‬ ‫جا َذبَـنِـيْهـا رَشـأٌ أَغْـ َيدٌ‬
‫سجَـهْ‬ ‫يفقد من يحسِن أَنْ َينْ ُ‬ ‫بديعةٌ في نَسْجِها‪ ،‬مثـلـهـا‬
‫خرَجهْ‬ ‫من رقةِ العشاق مُستَ ْ‬ ‫كأنمـا ِرفَةُ أشـكـالِـهـا‬
‫ق مُزْوجَه‬ ‫أيدي َدبَى في نَسَ ٍ‬ ‫كأنما مفتـولُ أهـدابِـهـا‬
‫ختَال أو دُرّجـهْ‬ ‫طَاوُوسة ت ْ‬ ‫كأنما تفـريقُ أعـلمـهـا‬
‫ك ول مُ ْنهَجـه‬ ‫ل رَثه السّ ْل ِ‬ ‫جدّدَهـا حُـسْـنُـهـا‬ ‫لَبيسَةٌ َ‬
‫تُ ْرسَلُ في أثنائها مُـدْرَجَـه‬ ‫كم رقع ٍة من عند َمعْشُـوقةٍ‬
‫ُتبْردُ حرّ ال َك ِبدِ المُنضَـجَـه‬ ‫أو مسحة من شَـفَةٍ عَـ ْذبَة‬
‫ن مني ُمهْجَ ًة مُزْعَجـه‬ ‫سكِ ُ‬
‫تُ ْ‬ ‫إلى تحياتٍ لِـطـافٍ بـهـا‬
‫منها لثارِ القذَى مخرجـه‬ ‫كانت لمَسحِ الكأس حتى ترى‬
‫ت مِنْ كفيَ أن أخْ ِرجَـه‬ ‫آثر ُ‬ ‫وخاتمي ُيعْـقَـدُ فـيهـا إذا‬
‫كلّله المـازجُ أو تَـوّجَـه‬ ‫وأتّقي الجامَ بهـا كـلّـمـا‬
‫ذو همّة مُجْلِية مُرْهـجَـه‬ ‫فاست ْأثَ َر الدّهْر بـهـا؛ إنـهُ‬
‫مُلجمَة في هَجْرِنا مُسْرجَه‬ ‫صبَحَتْ في َك ّم مُخْـتَـالَةٍ‬ ‫فَأ ْ‬
‫وقال أيضًا يصف سقوط الثلج‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫أ ّم ذا حَصَا الكافورِ ظَـلّ يفـ ّركُ؟‬ ‫ن يُسْـبَـك‬ ‫الثلج يَسْقُـط أم لُـجَـيْ ٌ‬
‫في كل ناحية بثغـ ِر تـضـحَـكُ‬ ‫راحت به الرضُ الفضاء كأنـهـا‬
‫طوراً‪ ،‬وعهدي بالمَشيب ُينَـسـكُ‬ ‫شابت مَفار ُقهَا فبيّن ضِـحْـكـهـا‬
‫كالدرّ في قُضُب الزبرجدِ يُسـلـك‬ ‫حتْ‬
‫أرْبى على خُضر الغصون فأصب َ‬
‫عمّا قلـيل بـالـرياح تَـهَـتّـكَ‬ ‫وتردّتِ الشجـا ُر مـنـه مُـلءةً‬
‫ن أبيضَ وهو أسود أحـلـكُ‬ ‫في لَو ِ‬ ‫كانت كعودِ الهند طُرّيَ فانـكـفـى‬
‫خِلَ ٌع ُتعَنـبَـ ُر تَـار ًة وتُـمَـسّـكُ‬ ‫والج ّو من أَرَجِ الـهـواء كـأنـهُ‬
‫يتحرّك الطرابُ حـين تـحـ ّركُ‬ ‫فخذِي من الوتار حـظّـك إنـمـا‬
‫ل فيه دَمُ الـدَنـان وُيسْـفَـكُ‬ ‫طّ‬‫سيُ َ‬ ‫فالـيوم يوزَنُ بـالـمـلحة‪ ،‬إنـهُ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫واليوم يومٌ سـمـاؤه ثَـرّهْ‬ ‫باكر فهذي صَـبِـيح ٌة قَـرّهْ‬
‫‪262‬‬
‫والرضُ من كل جانب غُرّهْ‬ ‫ثَلْج وشمس وصَوْبُ غَـا ِديَة‬
‫فأصبحَت قد تحـوّلـت دُرّه‬ ‫باتَتْ وقيعانـهـا َزبَـرْجَـدَةٌ‬
‫ُتعَارُ ممن أحِـبّـه ثَـغْـره‬ ‫كأنها والثلوجُ تضحـكـهـا‬
‫دُرّاً علينا فأسرعت نـثـره‬ ‫كأنّ في الجو أيديًا نَـثَـرَتْ‬
‫س َتكْرَه‬
‫وكان عهدي بالشيب يُ ْ‬ ‫شا َبتْ فسُرّتْ بذاك وابتهجَتْ‬
‫حمْرَه‬
‫فاجْل علينا الكؤوسَ بال ُ‬ ‫قد جلّيت بالبياض بلـدتـنـا‬
‫وقال الصنوبري‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫ن ذَا يومٌ مـفَـضّـ ْ‬
‫ض‬ ‫م فـإ ّ‬ ‫ذَهّـب كـؤوسـك يا غــل‬
‫حلَى الكافور يُعرضْ‬ ‫ض وفي ُ‬ ‫الجـ ّو يُجـلـى فـي الـبـيا‬
‫َو ْردٌ على الغصان ُينْفَـضْ؟‬ ‫ج وذا‬ ‫أزعـمـت ذا ثَـلْـــ ٌ‬
‫والوَرْد في تـشـرين َأبْـيَضْ‬ ‫وردُ الـربـــيع مـــو ّردٌ‬
‫وقال البستي‪ :‬الخفيف‪:‬‬

‫وجعَ ْلنَا الزمانَ لِّلهْوِ سِلْـكَـا‬ ‫ظ ْمنَا عقود لهـوٍ وُأنْـسٍ‬ ‫كم نَ َ‬
‫سكَا‬
‫س فيه رُشْدًا ونُ ْ‬ ‫عُزل الكأ ُ‬ ‫وفتقْنا الدنان فـي يوم ثـلـجٍ‬
‫سكَـا‬
‫ق مِ ْ‬ ‫ن نَ ْفتِ ُ‬
‫راً علينا‪ ،‬ونح ُ‬ ‫ل كـافـو‬‫فكأن السماءَ تنحـ ّ‬
‫وقال المير أبو الفضل الميكالي يصف الْجَمد‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫مهتك الستارِ والضـمـيرِ‬ ‫حيَا النـمـير‬
‫جنِين من َ‬ ‫ربّ َ‬
‫كأنها صحائف الْـبَـلُـورِ‬ ‫سللته من رحـم الـغـدير‬
‫أو قِطَ ٌع من خَاِلصِ الكافور‬ ‫ت مـن نُـور‬ ‫أو أكُ ٌر تجسم ْ‬
‫ت قلئد الـنـحُـور‬ ‫لعطّل ْ‬ ‫لو بقيت سِلكاً على الدهـور‬
‫وسميت ضرائر الثـغـور‬ ‫وأخجلت جواهرَ البـحـور‬
‫إذا َقيْظُه مثل حَشَا المَهجُور‬ ‫حسْنهُ َفي زَمنِ الحـرور‬ ‫يا ُ‬
‫رَوحًا يُجلّي نَ ْفثَةَ المصدور‬ ‫ُيهْدِي إلى الكبادِ والصـدُورِ‬
‫ويَخِلبُ السرورَ لل َمقْـرورِ‬
‫ألفاظ لهل العصر‬
‫في وصف الثلج والبرد واليام الشتوية‬
‫جرَانه‪ ،‬واستقلّ بأركانه‪ ،‬وأناخ بنوازله‪،‬‬ ‫ل نِطَاقه‪ .‬ضرب الشتاء ب ِ‬ ‫ل بنا أثقاله‪ .‬مدّ الشتاء أرِواقه‪ ،‬وألقى أوراقه‪ ،‬وح ّ‬ ‫ألقى الشتا ُء كَ ْلكَله‪ ،‬وأح ّ‬
‫وأَ ْرسَى بكلكله‪ ،‬وكلح بوجهه‪ ،‬وكشّر عن أنيابه‪ .‬قد عادت هامات‪ ،‬الجبال شِيبَاً‪ ،‬ولبست من الثلج بُردًا قَشِيباً‪ .‬شابت مفارق البروج لتراكم‬
‫ضقِض العضاء‪،‬‬ ‫الثلوج‪ ،‬ألمّ الشيب بها وابيضّت ِل َممُها‪ .‬قد صار البردُ حجاباً‪ ،‬والثلج حجازاً‪ .‬بَرْد يغير اللوان‪ ،‬وينشف البدان‪ .‬بر ُد يُقَ ْ‬
‫صفِيره‪ ،‬والماء‬ ‫وينفض الحشاء‪ .‬برد يُجْمد إلريقَ في الشداق‪ ،‬والدمعَ في الماق‪ .‬بَرْد حال بين الكلب وهَرِيره‪ ،‬والسَد وزئيره‪ ،‬والطير و َ‬
‫سكِيّ النقاب‪ ،‬عبوس َقمْطَرير‪ ،‬كشّر عن ناب‬ ‫ت لهَوْلِه‪ .‬يوم فضّي ا ْلجِ ْلبَاب‪ ،‬مِ ْ‬
‫وخرِيره‪ .‬نحن بين لثق‪ ،‬ورثق‪ ،‬وزلق‪ ،‬يوم كأنّ الرضَ شا َب ْ‬
‫ن الدنيا فيه كافُورة‪ ،‬والسماء بلّورة‪ .‬يوم أرضه‬ ‫الزمهرير‪ ،‬وفرش الرض بالقوارير‪ .‬يوم أخذت الشّمال زِمامه‪ ،‬وكسا الصّرُ ثيابه‪ .‬يوم كأ ّ‬
‫كالقوارير اللمعة‪ ،‬وهواؤه كالزنانير اللسعة‪ .‬يوم أَرضه كالزجاج‪ ،‬وسماؤه كأطراف الزّجَاج‪ .‬يوم يثقل فيه الخفيف إذا هجم‪ ،‬ويخفّ الثقيل إذا‬
‫جمْرِ‪ .‬إذا كَلِبَ الشتاء‪ ،‬فترياق‬ ‫خ ْمرِ‪ ،‬وال َ‬
‫هجَر‪ ،‬نحن فيه بين أطباق البَرْد فما نستغيث إل بحرّ الراح‪ ،‬وسَ ْورَة القداح‪ .‬ليس للبرد كالبُرْد‪ ،‬وال َ‬
‫سمومه الصَلء‪ ،‬ودَرَقُ سيوفِه الطّلء‪.‬‬
‫نقيض ذلك من كلمهم‬
‫في وصف القيظ وشدة الحرّ‬
‫سطَ بساط الجَمر‪ .‬حَر الصيف‪ ،‬كحدّ السيف‪ .‬أوقدت الشمس نارَها‪ ،‬وأذكت أُوارها‪ .‬حرّ يلفح حرّ الوجه‪ .‬حَ ٌر يشبه قَلْبَ‬ ‫قوِي سلطان الحَرّ‪ ،‬وبُ ِ‬
‫ضبّ‪ .‬هاجرة كأنها من قلوب العشّاق‪ ،‬إذا اشتعلت فيها نارُ الفراق‪ .‬هاجرة تحكي نارَ الهَجْر‪ ،‬وتذيب قَلبَ الصخر‪ .‬كأن‬ ‫الصّبّ‪ ،‬ويُذيب دماغ ال ّ‬
‫حرْباء من الشمس‪ ،‬قد صهَرَت الهاجر ُة البدان‪ ،‬وركبت الجنادبُ العيدان‪ .‬ح ّر يُنْضِج‬ ‫البسيطة من وَقدة الحرّ‪ ،‬بساط من الجمر‪ .‬حَرٌ تهرب له ال ِ‬
‫ب معه عيش‪ ،‬ول ينفع معه ثلج ول خيش‪ .‬حمارة القيظِ‪،‬‬ ‫الجلود‪ ،‬ويُذيب الجلمود‪ .‬أيام كأيام ال ُفرْقة امتداداً‪ ،‬وح ّر كحرّ الوَجد اشتداداً‪ .‬ح ّر ل يطي ُ‬
‫ب َيجِيش مِرْجَلُه‪ ،‬و َيثُور قَسطَلُه‪ .‬هاجرة كقلب المهجور‪ ،‬أو التنور المَسْجور‪ .‬هاجرة كالجحيم الجاحم‪ ،‬تجرّ أذيالَ‬ ‫تغلي كدم ذي الغيظ‪ .‬آبَ آ ٌ‬
‫السمائم‪.‬‬
‫العجلة أُم الندامة‬
‫قال بعض الحكماء‪ :‬إياك والعجَلة فإنّ العرب كانت ت ْكنِيها أ ّم الندامة؛ لنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم‪ ،‬ويجيب قبل أن يفهم‪ ،‬ويعزم قبل أَنْ يفكّر‪،‬‬
‫خبُر‪ ،‬ولن يصحب هذه الصفَةَ أحدٌ إل صحب الندامة‪ ،‬واعتزل السلمة‪.‬‬ ‫ويقطع قبل أن يُ َقدّر‪ ،‬ويَح َمدُ قبل أن يجرّب‪ ،‬ويذ ّم قبل أن يَ ْ‬
‫قضاء الحاجة‬
‫ن بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوي حُ ْرمَته‪ ،‬فقال‪ :‬أعزّ ال الوزيرَ‪ ،‬أنا خادمك المؤمّل لدولتك‪ ،‬السعيدُ بأيامك‪.‬‬ ‫ولما َولّى المهتدي سليما َ‬
‫المنطوي القلب على ُودّك‪ ،‬المنشورُ اللسان بمدحك‪ ،‬المرتهن بشكر نعمتك‪ ،‬وقد قال الشاعر‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫إل المؤمل دولتي وأيّامي‬ ‫ت كل صديق ودّني ثمناً‬ ‫وفي ُ‬

‫‪263‬‬
‫ل بتسويغه َفضْلِي وإنعامي‬ ‫إّ‬ ‫ل أكُـافِـئَهُ‬
‫فإنني ضامـنٌ َأ ّ‬
‫ل فغضّ البصرَ‪ ،‬ومحا الثر‪ ،‬أقام بدني‪ ،‬وسافر‬ ‫وإني لكما قال القيسي‪ :‬ما زلت َأ ْمتَطِي النها َر إليك‪ ،‬وأستدلّ بفضلك عليك‪ ،‬حق إذا جنّني اللي ُ‬
‫ف بوسيلتك‪ ،‬محتاج إلى كفايتك واصطناعك‪ ،‬ولست أؤخر عن يومي‬ ‫عذْر‪ ،‬فإذا بلغتك فَ َقدِ‪ .‬قال سليمان‪ :‬ل عليك‪ ،‬فإني عار ٌ‬ ‫أملي‪ ،‬والجتهاد ُ‬
‫خبَرهُ‪ ،‬إن شاء ال‪.‬‬ ‫هذا توليتك ما يَحْسُنُ عليك أثره‪ ،‬ويطيب لك َ‬
‫وكتب محمد بن عباد إلى أبي الفضل جعفر بن محمود السكافي وزير المعتز بال‪ ،‬وكان المعتز يخْتصّ به؛ ويتقرب إليه قبل الوزارة‪ :‬ما زلت‬
‫ب له إل عاقبة محمودة تكون لك بزوال حاله‪،‬‬ ‫عقْباه‪ ،‬وأتمنى زوال حال من ل َذنْ َ‬ ‫‪ -‬أيدك ال تعالى ‪ -‬أذمّ الدهر بذمّك إياه؛ وأنتظر لنفسي ولك ُ‬
‫شعْري إل عن مستحقّه‪.‬‬ ‫حبْساً ل ِ‬‫وأترك العذار في الطلب على الختلل الشديد؛ ضناً بالمعروف عندي إلّ عن أهله‪ ،‬و َ‬
‫فوقّع في كتابه‪ :‬لم أُؤَخر ذكرك ناسياً لح َقكَ‪ ،‬ول مهْمِلً لواجبك‪ ،‬ول مرجيًا ل ُمهِ ّم أمْرِك‪ ،‬ولكني ترقبت اتساع الحال‪ ،‬وانفساحَ المال‪ ،‬لخصّك‬
‫ت ممن يَحْفِزه العجال‪ ،‬ول يتّسِع له‬ ‫بأسْناها خطَراً‪ ،‬وبأجلّها َقدْراً‪ ،‬وأَعْوَدها بنَفْ ٍع عليك‪ ،‬وأوفرها رِزْقاً لك‪ ،‬وأقربها مساف ًة منك؛ فإذا كن َ‬
‫المهال‪ ،‬فسأختار لك خيرَ ما يشير إليه الوقت‪ ،‬وأنعم النظر فيه‪ ،‬وأجعله أول ما أمضيه‪ ،‬إن شاء ال‪.‬‬
‫ولما ولي سليمان بن وهب الوزارة كتب إليه عبيد ال بن عبد ال بن طاهر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ب ونكـرمُ‬ ‫سعَ َفنَا فيمن نح ّ‬ ‫وأَ ْ‬ ‫أبى دهرُنا إسعافَنا في نفوسنا‬
‫و َدعْ أمرَنا؛ إن المهمّ المقدّمُ‬ ‫فقلت له‪ :‬نُعْماك فيهم أَتمّهـا‬
‫فعجب من لطيف شكواه في تهنئته‪ ،‬وقَضى حَوائِجَه‪.‬‬
‫ووقّع عبيد ال في كتاب رجل اعتدّ عنده بأثرٍ جميل‪ :‬وقفت على ما ذكرته من شكايتك‪ ،‬فوقع ذلك عندنا الموقع الذي أ َردْته‪ ،‬وصدَر جوابنا إليك‬
‫بما شكرته‪ ،‬ولم َت ْعدُ ظننا‪ ،‬وما قدرنا فيك‪ ،‬ثم اعتدت العتداد حتى كأنك لم تكاتبنا؛ فل تفسدنَ تالد إحسانك بطارف امتنانك‪ ،‬واقتصر من‬
‫وصف سالفك على ذكر مستأنفك‪.‬‬
‫التقسيم‬
‫ووقّع عبيد ال في أَمر رجل خرج عن الطاعة‪ :‬أنا قادرٌ على إخراج هذه ال ّنعَرَة من رَأسه‪ ،‬والوَحَرة من نفسه‪.‬‬
‫ل قتيبة بن مسلم بخراسان‪ :‬من كان في يده شيء من مال عبد ال فلينبذه؛ أو في فمه فَ ْليَ ْلفِظْه‪ ،‬أو في صدره فلينفثه‪.‬‬ ‫ونحو هذا التقسيم قو ُ‬
‫ن قتل من بني أمية‪ ،‬لسماعيل بن عمرو‪ :‬أساءك ما فعلت بأصحابك؟ قال‪ :‬كانوا يداً فقط ْعتَها‪ ،‬وعضداً ففَتتَها‪،‬‬ ‫وقال عبد ال بن علي‪ ،‬بعد قتْله مَ ْ‬
‫صتَه‪ ،‬قال‪ :‬إني لخليقٌ بأَن أُلحقك بهم‪ ،‬قال‪ :‬إني إذاً لسعيد‪.‬‬ ‫ضتَهُ‪ ،‬وجناحاً فقَصَ ْ‬ ‫ل َفهِ ْ‬ ‫وعقدةً فنقضتَها‪ ،‬وركْنًا فهَ َد ْمتَه‪ ،‬وجب ً‬
‫عدّك لمر كبير! قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬قد أعدّ ال لك مني قلبًا معقودًا بنصيحتك‪ ،‬ويداً مبسوطةً‬ ‫وقال المنصورُ لجرير بن عبد ال‪ :‬إني لُ ِ‬
‫بطاعتك‪ ،‬وسيفاً مسلولً على أعدائك‪.‬‬
‫وكتب الحسن بن وهب إلى القاسم بن الحسن بن سهل يعزّيه‪َ :‬مدّ ال في عمرك موفورًا غير منتقَص‪ ،‬وممنوحًا غير ممتحَن‪ ،‬و ُمعْطًى غير‬
‫ستَلب‪.‬‬
‫مُ ْ‬
‫لفَنِ والغِشّ‪ ،‬وليس مَنْ جمع إلى الكفاية المانَ َة كمن‬ ‫ومن جيد التقسيم مع المطابقة قولُ بعض الكتاب‪ :‬إنّ أهل النصح والرّأْي ل يساويهم أَهْلُ ا َ‬
‫جزِ الخيانة‪.‬‬
‫أَضافَ إلى العَ ْ‬
‫وقالت هند بنت النعمان بن المنذر لرجل دَعَتْ له وقد أَولها يداً‪ :‬شكَر ْتكَ يدٌ نالتها خَصَاصة بعد ثروة‪ ،‬وأغناك ال عن يد نالتها ثروة بعد فاقة‪.‬‬
‫ومن بديع التقسيم في هذا النوع قولُ البحتري‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وال َغيْث وَابِلُ ُه الدّانِي وَ َريّقُهُ‬ ‫حدّاه ورَ ْونَقُهُ‬ ‫كأنك السيفُ َ‬
‫أو المواهب إل ما تف ّرقُهُ؟‬ ‫هل المكارم إل ما تُجمّعـه‬
‫سنِيّ ما أَعطاك؛ إذ قَسم لك الخلفة‪ ،‬ووهب لك معها‬ ‫ن بن سهل يوماً للمأمون‪ :‬الحمد ل يا أمير المؤمنين على جزيل ما آتاك؛ و َ‬ ‫وقال الحس ُ‬
‫الحجة‪ ،‬ومكّنك بالسلطان‪ ،‬وحلّه لك بالعَدل‪ ،‬وَأيّدك بالظفَر‪ ،‬وش َفعَه لك بالعفو‪ ،‬وأَوجب لك السعادة‪ ،‬وق َرنَها بالسياسة‪ ،‬فمن فُسِحَ له في مثل‬
‫عطيّة ال لك؟ أم مَنْ ألبسه ال تعالى من زينة المواهب ما أَلبسك؟ أم من ترادفَتْ ِنعَمُ ال تعالى عليه ترادفَها عليك؟ أم من حاولها وارتبطها‬
‫بمثل محاولتك؟ أم أي حاجة بق َيتْ لرعيّتك لم يجدوها عندك؟ أم أي قيّم للسلم انتهى إلى غايتك ودَرَجتك؟ تعالى ال! ما أعظم ما خَصّ القرنَ‬
‫الذي أنت ناصره! وسبحان ال! أية نعمة طبقت الرض بك إن ُأدّيَ شكرها إلى بارئها‪ ،‬والمنعم على العباد بها؟ إن ال تعالى خلق الشمس في‬
‫فَلكها ضيا ًء يستني ُر بها جميعُ الخلئق؛ فكلّ جوهر زَها حسن ُه ونوره فهي ألبسته زينتَهُ لما اتصل به من نورِها‪ .‬وكذلك كل وَلي من أوليائك‬
‫سعَدتَه من حسنك وتقويمك‪.‬‬ ‫سنَتْ صنائعه عند رعيتك‪ ،‬فإنما نالها بما أيّدته من رأيك وتدبيرك‪ ،‬وأَ ْ‬ ‫سعِد بأفعاله في دولتك‪ ،‬وحَ ُ‬ ‫َ‬
‫قينة تعشق أربعة رجال‬
‫قال بعضُ الظرفاء‪ :‬اجتمع ل َق ْينَةٍ أربعةٌ من عشَاقها‪ ،‬وكلهم يُوَرّي عن صاحبه أمرَه‪ ،‬ويُخْفِي عنه خبرَه‪ ،‬ويُومئ إليها بحاجبه‪ ،‬ويناجيها بلَحْظِه‪،‬‬
‫عزَم على الشخوص‪ ،‬والثالث قد سلَ َفتْ أيامُه‪ ،‬والرابع مستأنف ٌة مودّته‪ ،‬فضحكَتْ إلى واحد‪ ،‬و َبكَتْ إلى‬ ‫وكان أحدُهم غائباً فقدمِ‪ ،‬والخر مقيمًا قد َ‬
‫جعِلت فِدَاكِ‪ ،‬أتحسنين‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫آخر‪ ،‬وأقصت آخر‪ ،‬وأطمعَتْ آخر؛ واقترح كل واحد منهم ما يشاكِلُ بثه وشأنه؛ فأجابته‪ ،‬فقال القادم‪ُ :‬‬
‫وقَ ْولَ لَعلّي أو عَسى سَـيكـون‬ ‫ومن يَنْأَ عن دار الهوى ُيكْثِر ال ُبكَا‬
‫ولكنْ مَقـاديرٌ لـهـنّ شـؤونُ‬ ‫وما اخترت نَ ْأيَ الدار عنك لِسَلْوةٍ‬
‫حذَقُ‪ ،‬ثم غنّت‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫حسِنه‪ ،‬ول أقيمُ َلحْنه‪ ،‬ولكن مُطَارحه لتستغني به عنه‪ ،‬لقُرْبه منه‪ ،‬وأنا به أ ْ‬ ‫فقالت‪ :‬أ ْ‬
‫أ َؤمّلُ منك العَطْفَ حين تـؤُوبُ‬ ‫وما زلت مُذ شَطَتْ بك الدارُ باكياً‬
‫ت قَـرِيبُ‬ ‫عذاباً وإعراضاً وأنـ َ‬ ‫فأضعفْتَ ما بي حين أبتَ و ِز ْد َتنِي‬
‫وقال الظاعن‪ :‬جْعلت ِفدَاك‪ ،‬أتحسنين‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫سفْـرُ‬‫ودَعِي العتابَ فإننا َ‬ ‫عاً‬‫أزفَ الفِراق فأعني جَزَ َ‬
‫فإذا تباعد شَفّه الـ ّذكْـر‬ ‫إنّ المحبّ يصد مقتـربـاً‬
‫قالت‪ :‬نعم‪ ،‬وأحسن منه ومن إيقاعه‪ ،‬ثم غنت‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫غيْرُ النّحيبِ‬ ‫ليس بعد الفراق َ‬ ‫لقيمنّ مأتمـاً عـن قـريب‬

‫‪264‬‬
‫ثم ل سيما فراقُ الحـبـيبِ‬ ‫ربما أَ ْوجَع النّوى للقـلـوب‬
‫ثم قال السالف‪ :‬جعلت فداك‪ ،‬أتحسنين‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ق وفيكُ ُم مس َتعْـتَـبُ‬‫حُلْوُ ال َمذَا ِ‬ ‫كنّا نُعاتبكُمْ لـيالـيَ‪ ،‬عُـودُكـمْ‬
‫ذهب ال ِعتَابُ فليس عنكم مَذْهَبُ‬ ‫فالن حين بَدَا التنكّر مـنـكـم‬
‫قالت‪ :‬ل‪ ،‬ولكن أحسن منه في معناه‪ ،‬ثم غنّت‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأَعرضتُ لما صار َنهْباً مقَسّما‬ ‫ك لمّا كان ودّك خالـصـاً‬ ‫وص ْل ُت َ‬
‫إذا كثر الورّادُ أن يتـهـدمـا‬ ‫ولن يلبث الحوض الجديدُ بنـاؤه‬
‫فقال المستأنف‪ :‬أتحسنين‪ ،‬جعلت فداك‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫وإذا ق َرأْت صحيفتي فتفهّمي‬ ‫إني لعْظِمُ أن أبوح بحاجتي‬
‫أحداً ول آذنته بـتـكـلـم‬ ‫ع ْه ُد ال إن أبثثـتِـه‬ ‫وعليك َ‬
‫فقالت‪ :‬نعم‪ ،‬ومن غناء صاحبه؛ ثم غنّت‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سوانا‪ ،‬حِذارًا أن َتذِيعَ الـسـرائرُ‬ ‫سرّي وسرّهَا‬ ‫لعمرك ما استودَعْتُ ِ‬
‫فتعلم نَجْوَانا العيونُ الـنـواظـرُ‬ ‫ي بـنَـظْـ َرةٍ‬ ‫طتْها مُقْلَتـا َ‬
‫ول خالَ َ‬
‫رسولً فَأدّى ما تُجِنُ الضـمـائرُ‬ ‫ولكن جعلت الوَهْ َم بيني وبينـهـا‬
‫مخاف َة أن يُغرى بذِكـرك ذَاكِـرُ‬ ‫أكُاتم ما في النفس خوفًا من الهوى‬
‫فتفرّقوا وكلهم قد أومأ بحاجته‪ ،‬وأَجابته بجوابه‪.‬‬
‫من أخبار ابن المعتز وشعره‬
‫قال أبو العباس بن المعتز‪ :‬كان لنا مجلس حظ أرسلت بسببه خادمة إلى قينة فأجابت‪ ،‬فلمّا مرَت في الطريق وجدَت فيه حارساً فرجعت‪،‬‬
‫جهَ ُه المبارك وأُجيب دعاءه‪ ،‬إل لعلة قد ع َر َفتْها فلنة‪ ،‬ثم‬ ‫فأرسلتُ أُعاتبها فكتبت إلي‪ :‬لم أتخلف عن المسير إلى سيدي في عشيتي أَمس لرى وَ ْ‬
‫ي من‬ ‫ت بغير عذر؛ فأحبَبْتُ أن تقرأَ عذري بخطي‪ ،‬ووال ما أقدر على الحركة‪ ،‬ول شيء أسر إل ّ‬ ‫خفْتُ أن يسبقَ إلى قلبه الطاهر أني قد تخلّ ْف ُ‬ ‫ِ‬
‫سنَدي‪ ،‬ل فَ َقدْت قربك‪ ،‬ولك رأيك في بسط العُذر موفقاً‪.‬‬ ‫رؤيتك‪ ،‬والجلوس بين َيدَيْك‪ ،‬وأنت‪ ،‬يا مولي‪ ،‬جاهي و َ‬
‫وكتبت في أسفل الكتاب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأحْ َوجَني فيه البلءُ إلى الـعُـذْرِ؟‬ ‫أليس من الحرمان حظٌ سُـلـبـتـهُ‬
‫ث ل َأدْرِي‬ ‫َرمَتْني به القدار مِنْ حي ُ‬ ‫فصبرًا فمـا هـذا بـأؤّل حـادثٍ‬
‫ت آمَنُ بعضَ خواطره أن تشير‬ ‫فأجبتها‪ :‬كيف أَردّ عُذر من ل تتسلط التهمة عليه‪ ،‬ول تهتدي المَوْجِدة إليه! وكيف أعلمه قبولَ المعاذير‪ ،‬ولس ُ‬
‫ت من ذلك فمن يُجيرني من توكله على تقديم ال ُعذْر‪ ،‬ووقوعه مواقع التصديق في كل وقت‪،‬‬ ‫إلى انتهاز فرصة فيما دعا إلى الفرقة‪ ،‬وإن سَلِم ُ‬
‫ل مد ُة الغيبة‪ ،‬و َتدْرُس آثار المودّة‪ ،‬وكتبْتُ في آخر الرقعة‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫فتتّصل أيامُ الشغل والعِلة‪ ،‬وتنقضي أيامُ الفراغ والصحة‪ ،‬فتطو ُ‬
‫ولم يلق نفسي َلهْوها وسُرُورها‬ ‫غبْت لم تعرف مكانـيَ لـذةٌ‬ ‫إذا ِ‬
‫ضمِيرُها‬ ‫لقولي‪ ،‬وعيناً ل يراني َ‬ ‫وحدثتُ سمعاً واهنًا غير ُممْسِك‬
‫خرَفه‪،‬‬‫صبُ الحبائلَ‪ ،‬ويطلب الغوائل‪ ،‬حتى انتهز فرصته‪ ،‬وأَبلغك تشنيعاً زَ ْ‬ ‫وكتب إلى بعض الوزراء‪ :‬ما زال الحاسدُ لنا عليك أيها الوزير يَنْ ِ‬
‫سكُ؟ مرتصداً ل َيغْفل ومَاكِرًا ل يَفتر‪ ،‬وربما استنصح الغاش‪ ،‬وصدق الكاذب؛‬ ‫وكذباً زَوّره‪ ،‬وكيف الحتراس ممن يحضر وأغِيبُ‪ ،‬ويقول وأمْ ِ‬
‫سبَب والوسيلة‪.‬‬‫والحظوة ل ُتدْ َركُ بالحيلة‪ ،‬ول يجري أكثرها على حسب ال ّ‬
‫ج عنك‪ ،‬وما تقرّر عندنا من نيّتك وطوّيتك ُيغْنِي عن اعتذارِك‪.‬‬ ‫فأجابه‪ :‬حصول الثقة بك ‪ -‬أعزك ال! ‪ُ -‬تغْني عن حضورك‪ ،‬وصدق حالتك يحت ُ‬
‫وقد قال ابن المعتز‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫والدهرُ ألم غالب ظَـفـرا‬ ‫خنَى عليك الدهر مقـتـدراً‬ ‫أَ ْ‬
‫حنَاك وبيّض الشّـعَـرَا‬ ‫حتى َ‬ ‫ما زلت تَلْقَـى كـلّ حـادثةٍ‬
‫شيْب والكِـبَـرا‬ ‫فلقد بلغت ال َ‬ ‫فالن هل لك في مُـقَـاربةٍ؟‬
‫سكنوا بطونَ الرض والحُفَرا‬ ‫للـه إخـوان فـقـدتـهــمُ‬
‫أم من يحدّث عنهمُ خَـبـرا؟‬ ‫أين السبيلُ إلـى لـقـائهـمُ؟‬
‫صنِه ثَـمـرَا‬‫ل أَجتني من غُ ْ‬ ‫كم مورِق بالبِشْر مُبـتـسـم‬
‫وصبرت أَرقُبه وما صَبـرا‬ ‫ما زال يولـينـي خـلئقـهُ‬
‫لو يستطيعُ لجاوز الـقَـدَرا‬ ‫وعدو غيْبٍ طَالـب لـدمـي‬
‫ويُطير في أثوابيَ الـشّـرَرا‬ ‫يُورِي زنادي كي يُخادِعـنـي‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لتجمح مني نَظْرَ ٌة ثـم أطـرِقُ‬ ‫وإني على إشفاق عيني من القذى‬
‫ي تَـفـرَقُ‬ ‫تمدّ إليه جِيدها وَهْـ َ‬ ‫ت من بَ ْردِ ماءٍ طَـرِيدةٌ‬ ‫كما حُلّئ ْ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫غنايَ لغيري وافتقاري على نفسـي‬ ‫ت مذ شدَت يدي عقد ِمئْزَري‬ ‫وما زل ُ‬
‫كما دلّ إشراقُ الصّباح على الشمسِ‬ ‫ودلّ عليّ الحمدَ مَجْدي وعِـفّـتـي‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ساقٍ توشَحَ بالمنديل حين َوثَبْ‬ ‫ل َينْقُرهُ‬ ‫سعَى إلى الدّنَ بال ِمبْزَا ِ‬ ‫َ‬

‫‪265‬‬
‫سيْرًا من أدي ِم ذَهَبْ‬
‫كأنما َقدّ َ‬ ‫لمّا وَجاها بَدَتْ صفراءَ صافيةً‬
‫وقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ن قد رأيتـهـا وعُـقُـولِ‬ ‫عيُ ٍ‬‫أْ‬ ‫ت مـن‬ ‫لبسَتْ صفر ًة فكم فتَنـ ْ‬
‫ص َبغَتْهُ بزَعْفَـرَانِ الصـيلِ‬‫َ‬ ‫حبُ ذيلً‬ ‫شمْس الغروب تَسْ َ‬ ‫مثل َ‬
‫والشمس عند طلوعها‪ ،‬وعند غروبها‪ ،‬تمكّن الناظر إليها فيمكن التشبيه بها؛ قال قيس بن الخطيم‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫في الحسن أو كدنوّها لغروبِ‬ ‫فرأيت مثل الشمس عند طلوعها‬
‫جرير وأهل المدينة‬
‫حزْرَة‪ ،‬أنشدنا من شعرِك‪ ،‬قال‪ :‬ما تصنعون به؟ وفيكم من يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫طفَي المدينَةَ اجتمع إليه أهلُها‪ ،‬وقالوا‪ :‬يا أبا َ‬ ‫ولما قدم جرير بن الخَ َ‬
‫و ُتقَرّبُ الحلمُ غـيرَ قـريبِ‬ ‫س َربْتِ وكنتِ غيرَ سرُوبِ‬ ‫أنى َ‬
‫في النوم غي َر مصردٍ محسوب‬ ‫ما ُت ْمنَعي يَ ْقظَى فقد نـولـتـهِ‬
‫فَلهَوتُ عن لهوِ امرئ مكذوب‬ ‫كان ال ُمنَى يُلقي بها فلقـ ْيتُـهـا‬
‫ن أو كدُنوّها لغروب‬ ‫في الحس ِ‬ ‫ت مثل الشمسِ عند طلوعها‬ ‫فرأي ُ‬
‫ق بِسَاحَةِ حـائر يَعـبُـوب‬ ‫غدِ ٌ‬ ‫َ‬ ‫غذَاهُـمـا‬ ‫تخطو على بردِ ّي َتيْنِ َ‬
‫يزيد بن خالد الكوفي‬
‫وقّع يزيد بن خالد الكوفي رقعة إلى يعقوب بن داود ضمّنها‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫عمَـل‬ ‫ل يح ِرزُ الجْ َر إل مَن له َ‬ ‫قل لبن داودَ والنـبـاءُ سـائرةٌ‪:‬‬
‫فيها لباغي نَدَاه العَلّ والـنّـهَـلُ‬ ‫يا ذا الذي لَ ْم تزل ُيمْنَاه ُمذْ خُِلقَـتْ‬
‫فضل شكرٍ فإني ذلك الـرجـلُ‬ ‫إن كنت مسديَ معروفٍ إلى رجلٍ‬
‫فإنني شاكرُ المعروف محتمـلُ‬ ‫ي بب ّر منك َينْعَـشُـنـي‬ ‫فا ْمنُنْ عل ّ‬
‫قال يعقوب‪ :‬قد جرَبنا شكرك فوجدناه قد سبق برّنا‪ ،‬وقد أمرتُ لك بعشرة آلف درهم تصلح حالك‪ ،‬وليست آخر ما عندنا لك‪ ،‬فاستوفاها حتى‬
‫مات‪.‬‬
‫ق بغُصّتك‪ ،‬قال‪ :‬ألم أرفع‬ ‫جدَتك‪ ،‬شَرِ َ‬
‫ولما سخط المهديّ على يعقوب أحضره‪ ،‬فقال‪ :‬يا يعقوب‪ ،‬قال‪ :‬ل ّبيْك يا أمير المؤمنين تلبية مكروبٍ ِلمَ ْو ِ‬
‫َقدْرَك وأنتَ خامل‪ ،‬وأسيّر ذكرك وأنت هامل‪ ،‬وألبِسكَ من ِنعَمِ ال تعالى و ِنعَمي ما لم أجدْ عندك طاقةً لحمله‪ ،‬ول قيامًا بش ْكرِه؟ فكيف رأيت ال‬
‫تعالى أظهر عليك‪ ،‬وردّ َكيْدَك إليك؟‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن كنت قلت هذا بتيقن وعلم فإني معترف‪ ،‬وإن كان بسعاية الباغين‪ ،‬ونمائم المعاندين‪ ،‬فأنت أعلم بأكثرها؛ وأنا عائذ‬
‫بكرمك‪ ،‬وعميم شرفك‪.‬‬
‫حنْثُ في دَمك للبستك قميصًا ل تشدّ عليه زرّا؛ ثم أمر به إلى الحبس‪ ،‬فتولّى وهو يقول‪ :‬الوفا ُء يا أمير المؤمنين كَرَم‪ ،‬والمودة‬ ‫فقال‪ :‬لول ال ِ‬
‫رَحِم‪ ،‬وما على العفو َندَم‪ .‬وأنت بالعفو جَدير‪ ،‬وبالمحاسن خَليق‪ .‬فأقام في السجن إلى أن أخرجه الرشيد‪.‬‬
‫أخذ معنى قول المهدي‪" :‬للبسنّك قميصًا ل تشدّ عليه زرّا" أبو تمام فقال‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫أغناه عن َمسّ طَ ْوقِه بيدِه‬ ‫طوّقته بالحسام طَوْق ردًى‬
‫وقال ابن عمر في معنى قول الطائي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫شدّ أزرارِ‬ ‫ل يستطي ُع عليه َ‬ ‫ق داهيةٍ‬ ‫طوّقته بحسام طَ ْو َ‬
‫ولما قبض المهدي على يعقوب ورأى أبو الحسن النميري َميْلَ الناس عليه‪ ،‬وكان مختلطًا به قال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فلبكينّ كما بكى الغُصْن النّدَى‬ ‫ب ل تَبعَد وجُنبتَ الـردى‬ ‫يعقو ُ‬
‫عند الذين عدَوْا عليك لما عَـدَا‬ ‫لو أنّ خيرك كان شرّا كـلّـه‬
‫أخذ هذا المعنى بعض المحدثين في الغزل فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ممّا أقاسي منك كان قلـيل‬ ‫ل كلّه‬ ‫لو أن هجرك كان وَصْ ً‬
‫بين أحمد بن أبي دواد والواثق‬
‫قال أبو العيناء‪ :‬قال لي أحمد بن أبي دُوَاد‪ :‬دخلت على الواثق فقال لي‪ :‬ما زال اليوم قوم في ثَلْبك ونَقْصك! فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬لكل امرئ‬
‫منهم ما اكتسب من الثم‪ ،‬والذي تولَى ِكبْرَه منهم له عذاب عظيم‪ ،‬والُّ وليّ جزائه‪ ،‬وعقابُ أَمير المؤمنين من ورائه‪ ،‬وما ذَلّ ‪ -‬يا أمير‬
‫ن كنت نَاصِره‪ ،‬وما ضاق مَنْ كنتَ جاراً له‪ ،‬فما قلت لهم يا أمير المؤمنين؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬يا أبا عبد ال‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫المؤمنين ‪ -‬م ْ‬
‫جعل اللهُ خُدودَهنّ ِنعَالَهـا‬ ‫شرٌ‬‫ي بصرمِ عَزّ َة َمعْ َ‬ ‫وسعى إل ّ‬
‫قال الفتح بن خاقان‪ :‬ما رأيت أظرف من ابن أبي دواد؛ كنت يوماً أُلعب المتوكل بالنرْد‪ ،‬فاستُؤْذن له عليه‪ ،‬فلمّا قَرُب منا هممت برفعها‪،‬‬
‫ستُره من عباده؟ فقال له المتوكل‪ :‬لما دخَلْتَ أراد الفتح أن يرفع النّرْد! قال‪ :‬خاف يا أمير المؤمنين أن أعلم‬ ‫فمنعني المتوكل وقال‪ :‬أجاهرُ ال وَأ ْ‬
‫عليه! فاستحليناه‪ ،‬وقد كنا تجهّمناه‪.‬‬
‫شبيب بن شيبة وخالد بن صفوان‬
‫قيل لبعض المراء‪ :‬إن شبيب بن شيبة يتعمّل الكلم ويستدعيه‪ ،‬فلو أمرته أن يصعدَ المنبر فجأة لفتضح؛ فأمر رسولً فأخذ بيده فصعد به‬
‫المنبر‪ ،‬فحمد ال وأثنى عليه‪ ،‬وصلّى على النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن لمير المؤمنين أشباهاً أربعة‪ :‬السد الخَادِر‪ ،‬والبحر الزاخر‪،‬‬
‫والقمر الباهر‪ ،‬والربيع الناضر؛ فأما السد الخادر فأشبه صولته ومَضَاءَه‪ ،‬وأما البحر الزاخر فأشبه جودَه وعطاءه‪ ،‬وأما القمرُ الباهر فأشبه‬
‫سنَه وبهاءه‪ ،‬ثم نزل‪.‬‬ ‫نورَه وضياءه‪ ،‬وأما الربيعُ الناض ُر فأشبه حُ ْ‬
‫وهذا الكلم ينْسَبُ إلى ابن عباس يقوله في علي بن أبي طالب‪ ،‬رضي ال عنهما‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫وكان شبيب بن شيبة من أفصح الناس وأخطبهم‪ ،‬ويشبّه بخالد بن صفوان؛ غير أن خالداً كان أعلى منه قدراً في الخاصة والعامة‪ .‬وذكر خالد‬
‫شبيباً فقال‪ :‬ليس له صديقُ في السر ول عدوّ في العلنية‪ .‬وكانت بينهما معارضة للنسب والجوار والصناعة‪ ،‬ولما قال الشاعر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأدْنِ شبيبًا من كل ٍم مُلَفّق‬ ‫فنَحّ شبيبًا عن قراع كتيبةٍ‬
‫وكأن ل ينظر إليه أحد وهو يخطب إل تبين فيه الخجل‪.‬‬
‫وقال أبو تمام لعلي بن الجهم‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫لزعمت أنّك نِ ْلتَ شكلَ عُطَا ِردِ‬ ‫صدّقـاً‬‫لو كنت يوماً بالنجوم مُ َ‬
‫ت بلغَةُ خَالِد‬ ‫من َلفْظِك اشتق ْ‬ ‫ت بـأنّـه‬‫أو قدمَتك السنّ خِلـ ُ‬
‫ي عمودُ الجمال ول ِردَاؤه‪ ،‬ول بُ ْرنُسه؟ عمودُه الطول‪ ،‬ولست بطويل‪،‬‬ ‫وقالت له امرأة‪ :‬إنكَ الَجميل يا أبا صفوان‪ .‬قال‪ :‬كيف تقولين هذا وما ف ّ‬
‫شعَرِ‪ ،‬وأنا أشمط! ولكن قولي‪ :‬إنك لمليح‪.‬‬ ‫و ِردَاؤه البياض‪ ،‬ولست بأبيض‪ ،‬وبُرْنسه سواد ال ّ‬
‫وكان خالد حافظاً لخبار السلم‪ ،‬وأيام الفتن‪ ،‬وأحاديث الخلفاء‪ ،‬ونوادر الرواة‪ ،‬وكل ما تصرّف فيه أهل الدب‪ ،‬وله يقول مكي بن سوادة‪:‬‬
‫الطويل‪:‬‬
‫َذكُـورٌ لـمـا سـدّاهُ أولَ أول‬ ‫عليم بتنزيل الكتـاب مـلـقّـنٌ‬
‫ب ودَغفل‬ ‫ولو كان سحبانَ الخطي ُ‬ ‫َيبُ ّذ قَرِيعَ القوم في كل مَحْـفـل‬
‫كأنهمُ الكروانُ صَـادف أَجْـدَلَ‬ ‫طبَاءَ الناس يومَ ارتجالـه‬ ‫ترى خُ َ‬
‫حبَان الذي ذكره فهو خطيبُ العربِ بأسْرِها غير منازع ول مدافع‪ ،‬وكان إذا خطب لم ُي ِعدْ حرفاً‪ ،‬ولم يتوقّف‪ ،‬ولم يتحبّسْ‪ ،‬ولم يفكر في‬ ‫سْ‬‫أما َ‬
‫حرٍ‪.‬‬‫ي بَ ْ‬‫استنباط‪ ،‬وكان يسيل غَزباً‪ ،‬كأنه آذ ّ‬
‫ن معاوية قدم عليه وفد من خراسان وجّههم سعيد بن عثمان‪ ،‬وطلب سَحْبان فلم يوجد عامّة النهار‪ ،‬ثم ا ْقُتضِبَ من ناحية كان فيها‬ ‫ويقال‪ :‬إ ّ‬
‫صنَع موسى عليه الصلة‬ ‫اقتضاباً‪ ،‬فدخل عليه فقال‪ :‬تكلّم‪ ،‬فقال‪ :‬انظروا لي عصًا تُقيم من أودي‪ ،‬فقال له معاوية‪ :‬ما تصنعُ بها؟ فقال‪ :‬ما كان يَ ْ‬
‫والسلم وهو يخاطبُ ربّه وعصاه بيده‪ ،‬فجاءوه بعصا فلم يَرْضَها‪ .‬فقال‪ :‬جيئوني بعصاي‪ ،‬فأخذها‪ ،‬ثم قام فتكلّم منذ صلة الظهر إلى أن فاتت‪،‬‬
‫سعَلَ‪ ،‬ول توقف‪ ،‬ول تحبّس‪ ،‬ول ابتدأ في معنى فخرج منه إلى غيرِه حتى أتمّه ولم يبق منه شيء‪ ،‬ول سأل عن‬ ‫حنَحَ‪ ،‬ول َ‬ ‫صلةُ العصر‪ ،‬ما َتنَ ْ‬
‫أي جنس من الكلم يخطب فيه‪ ،‬فما زالت تلك حالَه وكلّ عين في السماطين شاخصةٌ إلى أن أشار له معاويةُ بيده أن اسكُت‪ ،‬فأشار سحبان بيده‬
‫أن دَعْني ل تَقْطَعْ عليّ كلمي‪ ،‬فقال له معاوية‪ :‬الصلة‪ ،‬فقال‪ :‬هي أمامك ونحن في صلة يتبعها تحميد وتمجيد‪ ،‬وعظة وتنبيه وتذكير ووعد‬
‫ووعيد‪ ،‬فقال معاوية‪ :‬إنك أخطبُ العرب‪ ،‬فقال سحبان‪ :‬والعجم‪ ،‬والجن‪ ،‬والنس‪.‬‬
‫بعض ما قيل في عجلن بن سحبان‬
‫وكان ابنه عجلن حُلْوَ اللسان‪ ،‬جّيدَ الكلم‪ ،‬مليح الشارة‪ ،‬يجم ُع مع خطابته شعرًا جيداً‪ ،‬ويضرب المثال إذا خطب‪ ،‬وينزع الناد َر من الشعر‪،‬‬
‫ن كلمَه َوزْناً‪.‬‬ ‫حلُو خُطبته‪ ،‬وكان يَز ُ‬ ‫والسائ َر من المثل‪ ،‬فتَ ْ‬
‫دغفل بن حنظلة النسابة‬
‫حنْظلة بن يزيد أحد بني ذهل بن ثعلبة النسّابة‪ ،‬وكان أعلمَ الناس بأنساب العرب‪ ،‬والباء‬ ‫وأما دغفَل الذي ذكره مكي بن سَوادة فهو دَغْفَل بن َ‬
‫والمهات‪ ،‬وأحفظهم ل َمثَالبها‪ ،‬وأشدّهم تنقيراً وبحثاً عن معايب العرب‪ ،‬ومثالب النسب‪.‬‬
‫قال له معاوية يوماً‪ :‬وال لئن قلت في هذا البيت من قريش ما تجد في آل حَ ْربٍ مقالً‪ ،‬فتبسم دَغفل؛ فقال له معاوية‪ :‬وال لتخبرنّي بتبسمك‪ ،‬وما‬
‫ن أن تكْذب أو تزيد‪.‬‬ ‫انضمّتْ عليه جوانحُك‪ ،‬أو لضربنّ عنقك‪ ،‬وما آمَ ُ‬
‫عذْب‪ ،‬وأكَمةٍ بارزة‪ ،‬فهل يوجد في سَنام هذه‬ ‫سنَام كَوْماء فتيّة‪ ،‬ذاتِ مرعًى خصيب‪ ،‬وماءٍ َ‬ ‫فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أنتم من بني عبد مناف ك َ‬
‫ت غير هذا؛ أما على ذلك لو رأيت هنداً وأباها‪ ،‬وزوجها‪ ،‬وأخاها‪ ،‬وعمّها‪ ،‬وخالها‪،‬‬ ‫ب ُقرَاد من عاهة؟ فقال له معاوية‪ :‬أَوْلى لك! لو قلم َ‬ ‫مَدَ ّ‬
‫ل َتحَارُ أبصا ُر مَن رآهم فيهم‪ ،‬فل تجاوزهم إلى غيرهم‪ ،‬جلل ًة وبهاءً‪.‬‬ ‫لرأيت رجا ً‬
‫ي ذكر العصا‬ ‫فٍ‬
‫عدّها ِل ُعدَاتي‪،‬‬
‫لتِي‪ ،‬وأُ ِ‬
‫وعلى ذكر العصا لقي الحجّاج أعرابياً فقال‪ :‬من أين أقبلت؟ قال‪ :‬من البادية‪ ،‬قال‪ :‬ما بيدك؟ قال‪ :‬عصا أركِزُها لصَ َ‬
‫عبُرُ بها النهر فتؤمنني‪ ،‬وأُلقي عليها كسائي فتسترُني‬ ‫عتَمدُ بها في مشيتي‪ِ ،‬ليَتّس َع بها خَطْوِي‪ ،‬وأ ْ‬ ‫ق بها دابّتي‪ ،‬وأقْوَى بها على سَفري‪ ،‬وأَ ْ‬ ‫وأسو ُ‬
‫سفْرتي‪ ،‬وعَلقة إدَاوَتي‪ ،‬ومِشجَب ثيابي‪ ،‬أعتمدُ بها عند الضَراب‪ ،‬وَأقْرَع بها‬ ‫حمَل ُ‬ ‫من الحرّ‪ ،‬وتقيني من القُرّ‪ ،‬و ُتدْني ما بعد مني‪ ،‬وهي مِ ْ‬
‫حرْز عند منازلة القْرَان‪ ،‬و ِر ْثتُها عن أبي‪ ،‬وأور ُثهَا بعدي ابني‪،‬‬ ‫البواب‪ ،‬وأتقِي بها عَقُور الكِلَب‪ ،‬تنوبُ عن الرّمح في الطّعان‪ ،‬وعن الْ ِ‬
‫حصَى‪.‬‬‫غ َنمِي‪ ،‬ولي فيها مآرِب أخرى‪ ،‬كثيرة ل تُ ْ‬ ‫ش بها على َ‬‫وأَهُ ّ‬
‫الخليل بن أحمد‬
‫قال النضر بن شميل‪ :‬كتب سليمان بن علي إلى الخليل بن أحمد يستدعيه الخروج إليه‪ ،‬وبعث إليه بمال كثير‪ ،‬فردّه وكتب إليه‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ت ذا مَـالِ‬ ‫س ُ‬‫وفي غنًى غيرَ أني لَ ْ‬ ‫أبلغْ سليمانَ أني عنـه فـي سَـعَةٍ‬
‫يموت ُه ْزلً ول َيبْقَى علـى حَـال‬ ‫يسخُو بنفسـيَ أنـي ل أرى أحـداً‬
‫و ِمثْلُ ذاك الغنى في النفس ل المالِ‬ ‫والفَ ْقرُ في النفس ل في المال َنعْرِفهُ‬
‫ل َيغْشَى أُصول ال ّد ْندِنِ البالـي‬ ‫سيْ ِ‬
‫كال ّ‬ ‫ل َيغْشَى أناساً ل خَلقَ لـهـم‬ ‫والما ُ‬
‫ل بـالـي‬ ‫فاعمَلْ لنفسك؛ إني شاغ ٌ‬ ‫كلّ امرئ بسبيل الموت مرتَـهَـنٌ‬
‫أخذ هذا الطائي فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فالسيلُ حربٌ للمكانِ العـالـي‬ ‫ل تُنكِري عطلَ الكريم من ال ِغنَى‬
‫وقال أيضًا يصف قوماً خصّوا بابن أبي دوادٍ الخفيف‪:‬‬
‫ع َد ْتنَا من دون ذاك العَوَادِي‬ ‫وَ َ‬ ‫نَزَلُوا مركز الـنّـدى وذَرَاهُ‬
‫واء َأ ْدنَى‪ ،‬والحظُ حظّ الوِهَادِ‬ ‫سبُـل الَن‬ ‫غير أن الرّبا إلى ُ‬

‫‪267‬‬
‫وهذا الشعر من أصلح شعر الخليل‪ ،‬وكان شعره قليلً ضعيفاً‪ ،‬بالضافة إليه وهو أستاذ النحو والغريب‪ ،‬وقد اخترع علم العروض من غير‬
‫مثال تقدمه‪ ،‬وعنه أخذ سيبويه‪ ،‬وسعيد بن مسعدة‪ ،‬وأئمة البصريين‪ ،‬وكان أوسع الناس فِطنَةً‪ ،‬وألطفهم ذهناً‪ .‬قال الطائي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫رَزاياه على فِطَنِ الخليلِ‬ ‫فلو نُشر الخليل إذاً لعفّت‬
‫في التعزية‬
‫وكتب أبو إسحاق الصابي إلى محمد بن عباس يعزيه عن طفل‪ :‬الدنيا‪ ،‬أطال ال بقاء الرئيس‪ ،‬أقدا ٌر تَ ِردُ في أوقاتها‪ ،‬وقضايا تَجْرِي إلى‬
‫غاياتها‪ ،‬ول يُ َردُ منها شي ٌء عن َمدَاه‪ ،‬ول يص ُد عن مطلبه و َمنْحَاه؛ فهي كالسهام التي تثبت في الغراض؛ ول ترجعُ بالعتراض‪ ،‬ومن عرف‬
‫ذلك معرفَة الرئيس لم يغض من الزيادة‪ ،‬ولم يَ ْقنَط من النقيصة‪ ،‬وَأمِنَ أن يستخفّ أحدُ الطرفين حلمه‪ ،‬ويستنزل أح ُد المرين حَ ْزمَه‪ ،‬ولم ي َدعْ‬
‫حنَة بالصبر‪ ،‬فيتخيّر فائدةَ‬ ‫أن يوطّن نفسه على النازلة قبلَ نزولها‪ ،‬ويأخذ الُ ْهبَة للحادثة قبل حلولها‪ ،‬وأن يجاور الخيرَ بالشكر‪ ،‬ويساورَ المِ ْ‬
‫الولى عاجلً‪ ،‬ويستمرئ عائدةَ الخرى آجلً‪.‬‬
‫وقد ن َفذَ من قضاء ال تعالى في المولى الجليل َقدْراً‪ ،‬الحديث سناً‪ ،‬مَا َأ ْرمَض‪ ،‬وأَومَض‪ ،‬وَأقْلَق وأقضّ؛ ومسني من التألم له ما يحق على مثلي‬
‫خبَا‪،‬‬
‫ممن توافَتْ أيادي الرئيس إليه‪ ،‬ووجبت مشاركتُه في الملمّ عليه‪ ،‬ف "إنّا لِ وإنّا إليه راجعونَ" وعند ال نحتسبه غُصْنًا ذَوي‪ ،‬وشهاباً َ‬
‫وفرعًا دَلّ على أَصله‪ ،‬وخَطّيًا أنبته وَشِيجُه‪ ،‬وإياه أسألُ أن يجعلَه للرئيس فَرَطاً صالحاً‪ ،‬وذُخْراً عتيداً‪ ،‬وأَن ينفَعه يوم الدين‪ ،‬حيث ل ينفعُ إل‬
‫جدِه‪.‬‬
‫مثلُه بين البنين‪ ،‬بجوده و َم ْ‬
‫ف الثام‪،‬‬ ‫ولئن كان المصابُ عظيماً‪ ،‬والحادثُ فيه جسيماً‪ ،‬لقد أحسن ال إليه‪ ،‬وإلى الرئيس فيه؛ أما إليه فإن ال نزّهه بالخترام‪ ،‬عن اقترا ِ‬
‫وصانه بالحتضار‪ ،‬عن ملبسة الوزار‪ ،‬فورد دنْياه رشيداً‪ ،‬وصدَر عنها سعيداً‪ ،‬نقي الصحيفة من سوادِ الذنوب‪ ،‬بري الساحة من دَرَن‬
‫سهَم له الثواب مع أهل الصواب‪ ،‬وأَلحقه‬ ‫ق به الصغائر والكبائر‪ ،‬قد رفع ال عنه دقيقَ الحساب‪ ،‬وأَ ْ‬ ‫العيوب‪ ،‬لم تدنّسه الجرائرُ‪ ،‬ولم تعلَ ْ‬
‫سعْي ول اجتهاد‪.‬‬ ‫بالصدّيقين الفاضلين في ال َمعَاد‪ ،‬وبَوّأه حيث أفضلهم من غير َ‬
‫ف معها‬ ‫وأما الرئيس‪ ،‬فإن ال‪ ،‬عزَ وجل‪ ،‬لما اختار ذلك له قبضَه قبل رؤيته إياه على الحالة التي تكون معها الرقة‪ ،‬ومعاينته التي تتضاع ُ‬
‫حمَاه من ِف ْتنَة المرافقة‪ ،‬ليرفعَه عن جزع المفارقة‪ ،‬وكان هو المبقي في دنياه‪ ،‬وهو الواحدُ الماضي الذخيرة لخراه‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن‬ ‫حرْقة‪ ،‬و َ‬ ‫ال ُ‬
‫ب فَ ْقدِه‪ ،‬فهو له سُلَلة‪ ،‬ومنه بَضعة‪،‬‬ ‫تسلم الجِلّةُ فالسّخْل هدر؛ وعزيز عليّ أن أقول قولَ المهون للمر من بعده‪ ،‬وأل أوفي التوجع عليه واج َ‬
‫ولكن ذلك طريقُ التسلية‪ ،‬وسبيل التعزية‪ ،‬والمنهَجُ المسلوك في مخاطبة مثله‪ ،‬ممن يقبل منفعة الذكرى وإن أغناه الستبصار‪ ،‬ول يأبى ورودَ‬
‫حمَا ُه الذي ل يُرام‪،‬‬ ‫الموعظة‪ ،‬وإن كَفَاه العتبار‪ ،‬وال تعالى يقي الرئيسَ المصاب‪ ،‬ويعيذُه من النوائب‪ ،‬ويرعاه بعينه التي ل تنامُ‪ ،‬ويجعله في ِ‬
‫و ُيبْقيه موفورًا غير منتقَص‪ ،‬ويقدّمنا إلى السوء أمامه‪ ،‬وإلى المحذور قدّامه‪ ،‬ويبدأ بي من بينهم في هذه الدعوة‪ ،‬إذْ كنت أراها من أَسعد‬
‫عدُها من أبلغ أمانيّ وآمالي‪.‬‬ ‫أحوالي‪ ،‬وأَ ُ‬
‫وكتب إلى بعض الرؤساء‪ :‬قد جَ َرتِ العادةُ ‪ -‬أطال ال بقا َء المير! ‪ -‬بالتمهيد للحاجة قبل موردها‪ ،‬وإسلف الظنون الداعية إلى نجاحها‪،‬‬
‫س فضلَه إل جزاء‪ ،‬ول يستدعي طَوْله إل قضاء؛ والميرُ بكرمه الغريب‪ ،‬ومذهبه‬ ‫ك هذه السبيل يسيء الظن بالمسؤول؛ فهو ل يلتم ُ‬ ‫وسال ُ‬
‫ق الثقة به منه‪ ،‬والحمدُ ل الذي أَفرده بالطرائق الشريفة‪،‬‬ ‫ف له‪ ،‬والبتدا ُء منه‪ ،‬ويوجب للمهاجم برغبته عليه ح ّ‬ ‫البديع‪ ،‬يؤثر أن يكون السل ُ‬
‫وتوحّده بالخلئق المنِيفة‪ ،‬وجعله عين زمانه البصيرة‪ ،‬ولمْعته الثاقبة المنيرة‪.‬‬
‫شبْ ُه مَقْت‪ ،‬في كل وقت؛ ولعمري إن ذا الحاجة مَقِيتُ‬ ‫وكتب البديع في بابه إلى بعض أصحابه‪ :‬لك‪ ،‬أعزَك ال‪ ،‬عادةُ فضل‪ ،‬في كل فصل‪ ،‬ولنا ِ‬
‫الطّ ْلعَة‪ ،‬ثقيل الوطأة‪ ،‬ولكن ليسوا سواء؛ أولو حاجة تحتاج إليهم الموال‪ ،‬وأولو حاجة تحوجهم المال‪.‬‬
‫خدَمه‪ ،‬وإن أهانه فكثيرًا ما أكرمه ونعّمه‪.‬‬ ‫ن فطالما َ‬ ‫والمير أبو تمام عبدُ السلم بن الفضل المطي ُع ل أمير المؤمنين ‪ -‬أيده ال ‪ -‬إن أحوجه الزما ُ‬
‫ضلُ ظاهر‪ ،‬وإن ابتله ال فِليَ ْبتَليكم به‬ ‫وقديماً أقلّه السرير‪ ،‬وعرَفه الخَ َو ْرنَقُ والسدير‪ .‬وإن نقصه المال فالعِ ْرضُ وافر‪ ،‬وإن جفاه الملك فالفَ ْ‬
‫حتَهُ شرفٌ عال‪ ،‬ول تقس على‬ ‫ب بال‪ ،‬فتَ ْ‬
‫ق من الكرام‪ ،‬فل تنظرن إلى ثو ٍ‬ ‫فينظر كيف تفعلون‪ .‬وأنت تقابلُ مورده عليك من العظام‪ ،‬بما يستح ّ‬
‫البُ ْردِ‪ ،‬ما وراءه من المجد‪ ،‬ولكن إن نظرت ففي شامخ أصلِه‪ ،‬وراسخ عقله‪ ،‬وشهادة الفراسة له‪ .‬ثم ليأت بعد هذه اليات ما هو قضية المروءة‬
‫حمْده‪.‬‬
‫غمْده‪ ،‬والحمد ل حق َ‬ ‫ف ل يرى في ِ‬ ‫سيْ ُ‬
‫معه‪ ،‬والخوة معي‪ ،‬بَالِغاً في ذلك غاية جهده‪ ،‬وال ّ‬
‫وله إلى أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن حمزة‪:‬‬
‫ي تجري‪ ،‬لخترت أن أضرب بهذه الحضرة أطناب عمري‪ ،‬وأنفق على هذه الخدمة أيام‬ ‫لو كانت الدنيا‪ ،‬أطال ال بقاءَ الشيخ! ‪ -‬على مراد َ‬
‫ت من خدمة الشيخ المحسن بشرعة أنس نغصها بعض الوشاة عليّ‪،‬‬ ‫دهري‪ ،‬ولكن في أولد الزنا كثرة‪ ،‬ولعين الزمان نظرة‪ ،‬وقد كنت حَظِي َ‬
‫وذكر أني اقمت بطوس بعد استئذْاني إلى مَرْوَ وفي هذا ما يعلمه الشيخ‪ ،‬فإن رأى أن يحسن جَبرِي بكتاب يطرز به مقدمي فعل إن شاء ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫وله في هذا الباب إلى أبي نصر الميكالي‪ :‬الشيخ ‪ -‬أعزه ال ‪ -‬مََلكَ من قلبي مكاناً فارغاً‪ ،‬فنزله غير منزل قلعَة‪ ،‬ومن مودتي ثوبَاً سابغاً‪ ،‬فلبسه‬
‫غير لبْسَةِ خلعة‪ ،‬ومن نصب تلك الشمائل شبكاً‪ ،‬وأرسل تلك الخلق شركاً‪َ ،‬قنَصَ الحرار فاستحثّهم‪ ،‬وصاد الخوان واسترقهم‪.‬‬
‫ل ما يُغبَنُ إل من اشترى عبداً وهو يجدُ حرّا بأرخص من العبد ثمناً‪ ،‬وأقلّ في البيع غبناً‪ ،‬ثم ل يهتبل غرّة وجوده‪ ،‬وينتهز فرصة امتلكه‬ ‫وتا ّ‬
‫بجوده‪ ،‬وأنا أنم للشيخ على مكرمة يتيمة‪ ،‬ونعمة وسيمة‪ ،‬فليعتزل من الرأي ما كان بهيماً‪ ،‬وليطلق من النشاط ما كان عقيماً وليحلل حَبوة‬
‫عمْرتها‪ ،‬برأي يجذبُ المجد باعه‪ ،‬ويعمر النشاط رِباعَه؛ وتلك حاجة‬ ‫عذْرَتها‪ ،‬وينقض حجّتها و ُ‬ ‫التقصير‪ ،‬وليتجنبْ جانب التأخير‪ ،‬وليفتضّ ُ‬
‫عدٌ هو مستنجزُه‪ ،‬ول َبعُدَ أم ٌر هو منتهزه‪ ،‬ول ضاعت نعمة أنا بَرِيدُ‬ ‫سيدي أبي فلن وقد ورد من الشيخ بحراً‪ ،‬وعقد به جسراً‪ ،‬وما عَسُر وَ ْ‬
‫شكرها‪ ،‬وعزيم نشرها‪ ،‬ووليّ أمرها؛ وهذا الفاضل قرارة مائها‪ ،‬وعماد بنائها؛ وقد شاهدت من ظَرْفه‪ ،‬ما أعجز عن وصفه‪ ،‬وعرفت من‬
‫ت من أوله ما نَمّ على آخر‪،‬ه ثم له البيت المرموق‪ ،‬والنسب الموموق‪ ،‬والولية القديمة‪ ،‬والشيمة الكريمة؛ وقد‬ ‫باطنه ما لم يُد َر بظاهره‪ ،‬ورأي ُ‬
‫غدَقًا ل يُخْلف سحابه؛‬ ‫ج َم َعتْنا في الودّ حلْقة‪ ،‬ونظ َمتْنا في السفر رفقة‪ ،‬وعرفني بما أنهض له وفيه‪ ،‬فضمنت له عن الشيخ كَرَمًا ل يغلَق بابه‪ ،‬و َ‬ ‫َ‬
‫صدْقَ‬
‫ت ليعلم ِ‬ ‫فليخرجني الشيخ من عهدة هذه الثقة‪ ،‬زادها إليه تأكدأً‪ ،‬وإن رأى أن أسأل الشيخ في معناه عرفني كيف المأتى له‪ ،‬وإنما أطَلْ ُ‬
‫اهتمامي‪ ،‬وفَرْطَ تقليدي للمنّة والتزامي‪.‬‬
‫وله جواب عن صنيعة بصاحب هذه العناية‪ :‬ورد فلن‪ ،‬سيدي‪ ،‬وهو عينُ بلدتنا وإنسانُها‪ ،‬ومُقْلتها ولسانها؛ فأظهر آيات فضله ل جرم أنه‬
‫وصلَ إلى الصميم‪ ،‬من اليجاب الكريم‪ ،‬وهو الن مقي ٌم بين رَوْح ورَيحان وجنّة نعيم‪ ،‬تحيته فيها سلم‪ ،‬وآخر دعواه ذكرك وحسن الثناء عليك‬
‫سنَه‪ ،‬فما ظنّك به‪ ،‬وقد‬ ‫ي بمتاع موله؟ وقد عرفته ولسَنه‪ ،‬وكَيف يَجرّ في البلغة رَ َ‬ ‫بما أنت أهله‪ ،‬وأنا أصدق دعواه؛ وأفتخر به افتخار الخص ّ‬

‫‪268‬‬
‫ملكتها المجالس ولحظتها العيون‪ ،‬وسلّ صارمًا من فيه‪ ،‬يعِيدُ شكرك ويبدِيه‪ ،‬وينشر ذكرك ويطويه؛ والجماعة تمدحُ لمدحه‪ ،‬وتجرح بجرحه‪،‬‬
‫فرأيك في تحفظ أخلقك التي أثمرت هذا الشكر‪ ،‬وأنتجت هذه المآثر الغرّ‪ ،‬موفقاً إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫ومن إنشائه في مقامات السكندري‪ ،‬قال‪ :‬حدّثنا عيسى بن هشام‪ ،‬قال‪ :‬لما نَطّقني الغِنى بفاضل ذَيلِه‪ ،‬اتّهمت بمال سلَبتُه‪ ،‬أو كنز أصبتُه‪،‬‬
‫ب وتجاوزتُ‬ ‫خفَرَني الليلُ‪ ،‬وسرَت بي الخيلُ‪ .‬وسلكْتُ في هربي مساِلكَ لم يَرُضها السيرُ‪ ،‬ول اهتدَتْ إليها الطيرُ‪ ،‬حتى طويت أرضَ الرّعْ ِ‬ ‫فَ‬
‫ح ِفيَت الرواحلُ‪ ،‬وأكلتها المراحل‪ ،‬ولما بلغتها‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫حمَى المنِ ووجدتُ بَردَه‪ ،‬وبلغتُ أذربيجان وقد َ‬ ‫حدّه‪ ،‬وصِرت إلى ِ‬
‫فطابَتْ لنا حتى أقمنا شهْرا‬ ‫نزلنا على أن المقام ثـلثةٌ‬
‫طيْلَسَها؛ فرفع عقيرته‬ ‫فبينا أنا يوماً في بعض أسواقِها إذ طلع رجل ب َركْوَ ٍة قد اعتضدها‪ ،‬وعصا قد اعتمدها‪ ،‬ودنيّة قد تَقَلّسَها‪ ،‬وفوط ٍة قد ت َ‬
‫وقال‪ :‬الله ّم يا مبدئ الشياء ومعيدَها‪ ،‬ومحيي العظام ومبيدَها‪ ،‬وخالق المصباح ومديره‪ ،‬وفالقَ الصباح ومنيره‪ ،‬وموصِلَ اللءِ سابغة إلينا‪،‬‬
‫سقْفاً‪ ،‬والرض فراشاً‪ ،‬وجاعلَ الليل سكَناً والنهار معاشاً‪،‬‬ ‫و ُممْسِك السماءِ أن تق َع علينا‪ ،‬وبارئ النّسَم أزواجاً‪ ،‬وجاعل الشمس سراجاً؟ والسماءِ َ‬
‫ومنشئ السحاب ثِقالً‪ ،‬ومرسل الصواعق نكالً‪ ،‬وعاِلمَ ما فوق النجوم‪ ،‬وما تحت التخوم‪ .‬أسألُك الصلة على سيد المرسلين محمد وآلِه‬
‫طهْرَة‪ ،‬وسعِد‬ ‫ن فَطَ َرتْهُ الفِطْرة‪ ،‬وأطل َعتْه ال ُ‬ ‫ي مَ ْ‬‫سرَةِ أعدو ظلّها‪ ،‬وأن تُسهّل لي على يدَ ْ‬ ‫حبْلَها‪ ،‬وعلى العُ ْ‬ ‫الطاهرين‪ ،‬وأن تعينني على الغربة أثني َ‬
‫بالدّين المتين‪ ،‬ولم َيعْمَ عن الحق المُبين‪ ،‬راحلةُ تطْوي هذا الطريق‪ ،‬وزاداً يسعني والرفيق‪.‬‬
‫ح من إسكندريّنا أبي الفتح‪ ،‬والتفتّ لفتةً‪ ،‬فإذا هو أبو الفتح‪ ،‬فقلتَ‪ :‬يا أبا الفتح‪ ،‬بَلَغ هذه‬ ‫ن هذا الرجلَ أفص ُ‬ ‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فناجيتُ نفسي بأ ّ‬
‫ب صيدك؟! فأنشأ يقول‪ :‬مجزوء الخفيف‪:‬‬ ‫شعْ ِ‬ ‫ض كيدُك‪ ،‬وانتهى إلى هذا ال ّ‬‫الر َ‬
‫لفُـق‬ ‫دِ وجَوّابةُ ا ُ‬ ‫جوّالةُ الـبـل‬
‫أنا َ‬
‫عمّارة الطُرُقْ‬ ‫نِ و َ‬ ‫خذْرُوفَةُ الزمـا‬
‫أنا ُ‬
‫دُ على ُك ْديَتي وذُقْ‬ ‫ل تَُل ْمنِي لك الرش‬
‫وقال الطرماح بن حكيم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫من الدهر إذ أهل الصفاء جميعُ‬ ‫وما أنس م الشياء ل أنس بـيعةً‬
‫سَواكِنُ في أوكَارهـنّ وقـوعُ‬ ‫طيْرُنـا‬‫وإذ دهرُنا فيه اعتزاز‪ ،‬و َ‬
‫وأيامهنّ الصالحـات رُجـوعُ؟‬ ‫فهل لليالينا بنـعـف مـلـيحة‬
‫ومثل فراق الظاعـنـين يَرُوعُ‬ ‫كأن لم يَرُعكَ الظاعنون إلى بلًى‬
‫شعر في وصف الشباب والمشيب‬
‫وقال علي بن محمد بن الحسن العلوي‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫ب وما َلبِـسْـنَ مـن الـزخـارفْ‬ ‫واهــاً ليام الـــشـــبـــا‬
‫نَ من المـنـاكـر والـمَـعَـارِفْ‬ ‫وذهـابـهـنّ بـمــا عـــرفْ‬
‫وين الصّبـا صـدْزَ الـصـحـائفْ‬ ‫أيام ذكْـــرك فـــــــي دوا‬
‫واهًا ليّامي وأَيام الشهياتِ المَرَاشفْ‬
‫بانـاً عـلـى كُـثُـبِ الــرَوَادِفْ‬ ‫الغارسات البَان قُضْ‬
‫بين الـحـواجـبِ والـسـوالِـفْ‬ ‫والـجـاعـلتِ الـبَــدْرَ مـــا‬
‫ف بـغـير نِـيّاتِ الـمـخـالـفْ‬ ‫َ‬ ‫أيام يُظْـهِـــرْنَ الـــخـــل‬
‫وزللت مـن تِـلْـكَ الـمـواقِـفْ‬ ‫وقف النـعـيم عـلـى الـصّـبَـا‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأَلقت قناعَ الخزّ عن وَاضح الثغْر‬ ‫دَعَ ْتنِي إلى عهد الصّبا َربّةُ الخـدْرِ‬
‫صفْرَةِ ماء الزعفران على النّحرِ‬ ‫ب ُ‬ ‫ط كُحْلَـهـا‬ ‫وقالت وما ُء العينِ يخل ُ‬
‫عنانك عن ذات الوِشاحين والشذْرِ؟‬ ‫ب الدنيا إذا كنت قابـضـاً‬ ‫لمن تطل ُ‬
‫كأن هللَ الشهرِ ليس من الشهر‬ ‫أراك جعلتَ الشيب للهَجْـرِعِـلةً‬
‫وقال أحمد بن أبي طاهر‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫كلَفي بكاسـاتِ الـعـقـارْ‬ ‫يا من كَـلِـفـتُ بـحـبّـهِ‬
‫ك من الشقائق والـبَـهـار‬ ‫وحياة مـا فـي وجـنـتـي‬
‫رج تَحْتَ خَصْرك في الزار‬ ‫وولـوع ِر ْدفِـكَ بـالـتـرَجْ‬
‫هك في البريّة من نِـجـار‬ ‫ما إن رأيت لـحـســن وج‬
‫وجهي بما يحكي الخـمـار‬ ‫لمـا رأيت الـشَـيب مــن‬
‫ك فقلت ذا غير الـغـبـار‬ ‫قالـت غـبـار قـد عــل‬
‫ك إلى القبـور مـن الـديار‬ ‫هذا الـذي نـقـل الـمـلـو‬
‫عني بحـسـن العـتـذار‬ ‫قالت ذهبـت بـحـجّـتـي‬
‫ت بـل نَـهَـار؟‬ ‫ل مذ خلق ِ‬ ‫ً‬ ‫يا هـــذه أرأيت لــــي‬
‫وقال خالد الكاتب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن مَ ْقتَلي‬
‫لمّا تمكَنَ طَ ْر ُفهَا مِ ْ‬ ‫ي بعينِ مَنْ لم َيعْدلِ‬ ‫نظرتْ إل َ‬
‫ق متحمّلِ‬ ‫ت صدودَ مُفَار ٍ‬ ‫صدّ ْ‬
‫َ‬ ‫لما رأتْ شيباً ألمّ بمفـرَقـي‬

‫‪269‬‬
‫ب يغمزها بأل تَ ْفعَلي‬
‫والشي ُ‬ ‫صلَها بتملّقٍ‬ ‫وظل ْلتُ أطلُب وَ ْ‬
‫وقال ابن الرومي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫قَصيرُ الليالي والمشيبُ مخـلّـد‬ ‫كفى حَزَناً أن الشباب معـجـلٌ‬
‫شدُ‬ ‫فقالوا‪ :‬نَهار الشيب أ ْهدَى وأرْ َ‬ ‫وعَزّاك عن ليل الشباب مَعاشـرٌ‬
‫ل أنْـدى وأبْـ َردُ‬ ‫ولكنّ ظِل اللي ِ‬ ‫فقلت‪ :‬نهارُ المرء أ ْهدَى لسعـيِه‬
‫ومرجوعُ وهّاج المصابيح ِر ْم ِددُ‬ ‫مَحَارُ الفتى شيخوخة أو مـنـية‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫في لذةٍ لستُ أدرِي ما دواعيهـا‬ ‫ب وقلبي فيه منغمـسٌ‬ ‫كان الشبا ُ‬
‫بَ ْردَ النسيم ول ينفـكّ يحـييهـا‬ ‫رَوْح على النفس منه كادَ ُيبْ ِردُها‬
‫في جنّةٍ بات ساقي المُزْن يسقيها‬ ‫كأنّ نفسيَ كانت منـهُ سـارحةً‬
‫ك يُشْجيها‬ ‫شَجْوٌ على النفس ل ينف ّ‬ ‫يمضي الشباب ويبقى من لبَانتـه‬
‫لنفسه ل لحلم كان يُصـبـيهـا‬ ‫ما كان أعظم عندي َقدْ َر نعمتـه‬
‫والنفسُ أوجب إعجابًا بما فيهـا‬ ‫ما كان يُوزَن إعجاب النساء بـهِ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫غدوتَ وطَرْفُ البيض نحوك َأصْوَرُ‬ ‫صدّت‪ ،‬و ُربّـمـا‬ ‫إذا ما رأتك البِيضُ َ‬
‫وإن كان في أحكامهـا مـا يُجَـوّرُ‬ ‫وما ظلَمتك الغـانـياتُ بـصـدّهـا‬
‫بعينيك عنك الشيبُ فالبِيضُ أعـذرُ‬ ‫ط ْر َفكَ المرآةَ وانظرْ؛ فإنْ نبـا‬ ‫أعِرْ َ‬
‫فعيْنُ سِوَاء بـالـشـنـاءة أجْـدَر‬ ‫شيْب نـفـسـه‬ ‫شنِئت عين الفتى َ‬ ‫إذا َ‬
‫وقال كشاجم‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫حكَ ٍة بعُبـوسِ‬ ‫ت َب ْعدَ ض ْ‬
‫وثنَ ْ‬ ‫ن وبُوس‬ ‫َوقَ َف ْتنِي ما بين حُزْ ٍ‬
‫وَ ِهيَ البنوس بالبـنـوسِ‬ ‫إذْ رأتني مشَطْتُ عاجاً بعاج‬
‫وقال أبو نواس‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل أهتدي لـمـذاهـب البـرارِ‬ ‫بكرت تبصّرني الرّشاد كأنـنـي‬
‫و َرمَى الزمانُ إليك بـالَعْـذَارِ‬ ‫حكَ قد كبرت عن الصّبا‬ ‫وتقول‪َ :‬ويْ َ‬
‫متقلّـب فـي راح ِة القـتـارِ‬ ‫فإلى متى تصبُـو وأنـت مـتـيّمٌ‬
‫فصَ َرفْتُ معرفتي إلى الِنكـارِ‬ ‫ع َرفْتُ مـذاهـبـي‬ ‫جبْتُها إني َ‬ ‫فَأ َ‬
‫وقال أحمد بن زياد الكاتب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل ومرحبا‬ ‫بمَفْرَق رأسي قلت‪ :‬أه ً‬ ‫ل بـياضـه‬ ‫ولمّا رأيتٌ الشيبَ ح ّ‬
‫ن يتنـكّـبـا‬ ‫تنكّبَ عني ُرمْتُ أ ْ‬ ‫ولو خِلْتُ أني إن تركت تحـيتـي‬
‫به النفسُ يوماً كان للكُرْه َأذْهَبَـا‬ ‫ولكن إذا ما حلّ كرهٌ فسامـحـت‬
‫ن هذا البيت ينظر إلى قول الول‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫كأ ّ‬
‫فَ ُردّت إلى معروفها فاستقرّتْ‬ ‫وجاشت إليّ النفس أولَ مـرةٍ‬
‫أبو الطيب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ثم اعترفتُ بها فصارت َديْدنَا‬ ‫أنكَرْت طارقةَ الحوادثِ مرّة‬
‫ابن الرومي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫مَ َرحَ الطّرْف في العِذَارالمُحَلى‬ ‫ح فـيه‬ ‫ت أمْ َر ُ‬‫شيْبي فصر ُ‬ ‫لح َ‬
‫في ميادين بَاطِلِـي إذ تـولّـى‬ ‫وتولى الشبـابُ فـازددْتُ غَـيّا‬
‫لحقّ الورى بـأن يتـسـلّـى‬ ‫ن من ساءه الزمـانُ بـشـيء‬ ‫إَ‬
‫المتنبي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ساءني الدهر؟ ل‪ ،‬لعمريَ‪ ،‬كلّ‬ ‫أتراني أسوء نـفـسـيَ لـمّـا‬
‫المتنبي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫عمّا َمضَى فيهما وما ُيتَ َوقّـعُ‬ ‫َ‬ ‫تَصْفُو الحياةُ لجاهِلٍ أوغافـلٍ‬
‫طمَعُ‬ ‫ل َفيَ ْ‬ ‫ويَسُومُها طَلَبَ المُحا ِ‬ ‫ن يُغالِطُ في الحقائق نَ ْفسَه‬ ‫ولم ْ‬
‫البحتري‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫تردى به نَفْسُ اللّهيف فترجعُ‬ ‫خيّلُ بـاطـلٍ‬ ‫ق َت َ‬
‫يكفيك من حَ ّ‬
‫ح مغالطات أهل العقول‪ ،‬عند أهل التحصيل‪ ،‬وما أحسن ما قال الطائي‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫وقلّما تص ّ‬
‫جدّ فََأ ْبكَى ُتمَاضراً ولعوبا‬ ‫لعِبَ الشيبُ بالمَفَارِقِ‪ ،‬بل َ‬
‫حسـنـاتـي عـنـد الـحـسـان ُذنُــوبـــا‬ ‫يا نسيبَ الثّغام ذنبُك أبقى‬
‫جا َو َرتْـهُ البـرار فـي الـخُـلْـدِ شِــيبـــا‬ ‫لو رأى الـلـه أنً فـي الـشـيب فَــضْـــلً‬

‫‪270‬‬
‫وقد جاء في التشاغل عن الدهر وأحداثه‪ ،‬ونكباته‪ ،‬ومصائبه‪ ،‬وفجعاته‪ ،‬والتسلي عن الهموم‪ ،‬بماء الكروم‪ ،‬شع ٌر كثير؛ فممّا يتعلّق منه بذكر‬
‫الشيب قول ابن الرومي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأشربها صِـرْفـاً وإن لمَ لُـوّمُ‬ ‫عمّنْ أَغرَضَ الدهرُ دونهُ‬ ‫عرِض َ‬ ‫سأ ْ‬
‫َو َفتْ لي ورأسي بالمشيب ُم َعمّـمُ‬ ‫فإني رأيت الكـأس أكـ َرمَ خُـلّةً‬
‫ل عنّي تـكْـتُـم‬ ‫وقد بخِلَتْ بالوص ِ‬ ‫وصَ ْلتُ فلم َتبْخَلْ عليّ بوصْلِـهـا‬
‫غمَ دهراً ساءهُ فـهـو أرغـم‬ ‫ِليُرْ ِ‬ ‫ومَنْ صارمَ اللذات إنْ خان بعضها‬
‫إلى ضيق َمثْوَاه من القبر يَسْـلَـم‬ ‫أمِنْ بعد َمثْوَى المرءِ في بَطْن ُأمّهِ‬
‫أبى ال! إن ال بالعـبـد أرحـم!‬ ‫ق بين الضيق والضيق فرجة‬ ‫ولم َيبْ َ‬
‫وقال العَطوي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ر فَحا َك ْمتُهُ إلـى القـداحِ؟‬ ‫خ بـيَ الـده‬ ‫ج ْبتُنّ إنْ أنـا َ‬
‫أعَ ِ‬
‫ب ماءِ قـراحِ‬ ‫شرْ ِ‬ ‫حدَاداً بِ ُ‬
‫راً ِ‬ ‫شبْنَ أظـفـا‬ ‫ل ت َر ّد الهمُوم ُينْ ِ‬
‫دون إخوانيَ الثقاتِ جراحي‬ ‫أحمد ال‪ ،‬صارت الكأس تَ ْأسُو‬
‫وقال ابن الرومي ونحله بشاراً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وإرعاءها قلبي لهتز معـجـبـا‬ ‫ل ادّكـارهـا‬ ‫وقد كنت ذا حال أُطِي ُ‬
‫ب مَـغْـرِبـا‬ ‫ي ذِكراها ِل َتغْرُ َ‬ ‫تناس ّ‬ ‫فبُذّلْت حالً غير هاتيك‪ ،‬غـايتـي‬
‫ل مسروراً بهـا ولطْـ َربَـا‬ ‫جذَ َ‬
‫لْ‬ ‫و ُكنْتُ أُدير الكـأس مَـلى رَ ِويّةً‬
‫ت مَفَرّا من همومي و َمهْربَا‬ ‫ح ْ‬
‫َفأَضْ َ‬ ‫وكانت مزيداً في سروري و ُمتْ َعتِي‬
‫وهذا كما قال في َقيْنَة وإن لم يكن من هذا الباب‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫كأنّمـا يَ ْومُـهـا يومـان فـي يومِ‬ ‫س ِمعَةً‬ ‫شاهدت في بعض ما شاهدتُ ُم ْ‬
‫بذاك‪ ،‬بل طلباً للسّـكْـرِ والـنـومِ‬ ‫ظل ْلتُ أشربُ بالرطال‪ ،‬ل طَـرَبـاً‬
‫ومن مليح شعره في الشيب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صغَاراً عظائمُ‬
‫ومِنْ نكد الدنيا إذا ما تنكّرتْأمو ٌر وإن عدّت ِ‬
‫ن الداهِـــمُ‬ ‫ُأتِـيح لـه مـــن بـــينـــهـــ ّ‬ ‫ت بالمنقاش نتفَ أَشَاهبي‬ ‫إذا ُرمْ ُ‬
‫ت نَـــوَاجِـــمُ‬ ‫وهُـنَ لـعَـيْنـي طـالــعـــا ٌ‬ ‫يرَ ّوعُ مـنـقـاشـي نـجــوم مـــســـائحـــي‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي منها في عذاب وفي حَـ ْربِ‬ ‫فإن َ‬ ‫أخي‪ُ ،‬قمْ فعا ِونّي على َنتْفِ شَـ ْيبَةٍ‬
‫جنْبِ‬ ‫وقد أخذت من دونها جارة ال َ‬ ‫إذا ما مضى المنقلش يأتِي بها َأتَتْ‬
‫شدّةِ الـرّعْـبِ‬ ‫َتعَلّقَ بالجيرانِ من ِ‬ ‫جزَى بذَ ْنبِـهِ‬ ‫كجانٍ على السلطان يُ ْ‬
‫وقد وشّحت هذا الكتاب بقطع مختارة في الشيب والشباب‪ ،‬وجئت ههنا بجملة‪ ،‬وهذا النوغ أعظم من أن نحيط به اختياراً‪ ،‬أو نبلغه اختباراً‪.‬‬
‫شذور لهل العصر‬
‫في وصف الشيب ومدحه وذمّه‬
‫شيْب بجيوشه‪ ،‬طَرّز الشيبُ شبابَهُ‪َ ،‬أ ْقمَرَ ليلُ شبابه‪ ،‬أَلجمه‬ ‫ذَوَى غُصْنُ شبابه‪َ .‬بدَت في رأسه طلئع المشيب‪ ،‬أخذ الشيب بعِنَان شبابه‪ ،‬غزاه ال ّ‬
‫بلجامه‪ ،‬وقاده بزِمامه‪ ،‬عله غبارُ وقائع الدهرِ‪ .‬وزن هذا لبن المعتز‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫هذا غبارُ وقائعِ الدهرِ‬
‫بينا هو راقد في ليل الشباب‪ ،‬أيقظه صبحُ المشيب‪ .‬طوى مراحلَ الشباب‪ ،‬وأنفق عمره بغير حساب‪ .‬جاوز من الشباب مَرَاحل‪ ،‬وور َد من‬
‫ق نَضَا َرةَ الزمان‪ .‬أَخْلَق بُ ْردَة الصّبا‪ ،‬ونهاه النهي عن‬ ‫ب َمنَاهل‪ .‬فَلّ الدهرُ شبَا شبابه‪ ،‬ومَحا محاسنَ ُروَائه‪ .‬قضى باكورة الشباب‪ ،‬وأنْ َف َ‬ ‫الشّي ِ‬
‫حلَك‬‫شدّ الكهل‪ ،‬واستعاض من َ‬ ‫الهوى‪ .‬طار غرابُ شبابه‪ .‬انتهى شبابه‪ ،‬وشاب أترابه‪ .‬استبدل بالدهم البْلَقَ‪ ،‬وبالغراب العَقْعق ‪ 0‬انتهى إلى أَ ُ‬
‫ض بلِجام الدّهرِ‪ ،‬وأدرك عصر ا ْلحُنكة وأوان المسكة‪ .‬جمع قوّة الشباب‬ ‫جذَ الحلم‪ ،‬وارتا َ‬‫الغراب بقادمةِ النّسر‪ .‬افت ّر عن نَابِ القارح‪ ،‬وقرع نَا ِ‬
‫حبَرَةَ الصبا‪ ،‬ووَلى داعية‬ ‫غرّةِ الغَرَارة‪ .‬نَفَض ِ‬ ‫إلى َوقَار المشيب‪ .‬أسفر صبح المشيب‪ ،‬وعََلتْه أبهة ال ِكبَر‪ .‬خرج عن حد الحداثة؛ وارتفع عن ِ‬
‫خضَتها اليام‪،‬‬ ‫الحجا‪ .‬لما قام له الشيب مقام النصيح‪ ،‬عدل عن علئق الحداثة بتَوْبة نَصُوح‪ .‬الشيب حِلية العقل وشِيمة الوقار‪ .‬الشيب زبدةٌ م َ‬
‫شيْب‪ .‬الشيخ يقول عن عيِان‪،‬‬ ‫وفِضّة سبكتها التجارب‪ .‬سرى في طريق الرشد بمصباح الشيب‪ .‬عصى شياطين الشباب‪ ،‬وأطاع ملئكة ال ّ‬
‫والشاب عن سَماع‪ .‬في الشيب استحكام ال َوقَار وتناهي الجلل‪ ،‬ومِيسَم التجرِبة‪ ،‬وشاهد الحنكة‪ .‬في الشيب مق ّدمَة الموت والهَرَم‪ ،‬والم ْؤذِن‬
‫خرَف‪ ،‬والقائد للموت‪ .‬الشيبُ رسول المنية‪ .‬الشيب عنوَان الفساد‪ .‬والموتُ ساحل‪ ،‬والشيبُ سفينة تقرب من الساحل‪ .‬صفا فلن على طول‬ ‫بال َ‬
‫خطِه‪ ،‬وخَبطه‬ ‫ب بوَ ْ‬
‫شيْ ُ‬
‫العمر‪ ،‬صفاء ال ّتبْر على شغب الجمر‪ .‬لقد تناهت به اليا ُم تهذيباً وتحليماً‪ ،‬وتناهت به السّن تجريبَاً وتحنيكاً‪ .‬قد وعظه ال ّ‬
‫ضعْفُ الشيخوخة‪ ،‬وأساء إليه أثر السنّ‪،‬‬ ‫السنّ بابنه وسِبطه‪ ،‬قد تضاعفت عقودُ عمره‪ ،‬وأخذت اليام من جسمه‪ .‬وجَد مَسّ الكبر‪ ،‬ولحقه َ‬
‫ن من عَقْله‪ ،‬كما أخذ من عمره‪ .‬ثََلمَه الدهر‬ ‫واعتراض الوهن‪ .‬هو من ذوي السنان العالية‪ ،‬والصحبَة لليام الخالية‪ .‬هو ِهمّ هَرِم‪ ،‬قد أخذ الزما ُ‬
‫ن أديمه‪ .‬كسر الزمانُ جناحَه‪،‬‬ ‫ثَلْ َم الناء‪ ،‬وتركه كذِي الغارب المنكوب‪ ،‬والسّنام المجبوب‪ .‬رماه من قوسه ال ِكبَر‪ .‬أُريق ماءُ شبابه‪ ،‬واستش ّ‬
‫سفَان المقيّد‪ ،‬هو شيخ مجتثّ الجثّة‪ ،‬واهِي ال ُمنّة‪ ،‬مغلول القوة ومفلول الفتوة‪،‬‬ ‫ونقض مِرّته‪ .‬طوى الدهر منه ما نشر‪ ،‬وقيّده الكبر‪ ،‬يرسف ر َ‬
‫ثقُلَت عليه الحركة؟ واختلفت إليه رسل المنية‪ .‬ما هو إل شمسُ العصر‪ ،‬على القصر‪ .‬أركانه قد وهَتْ‪ ،‬ومدّتُه قد تنا َهتْ‪ .‬هل بعد الغاية منزلة‪،‬‬
‫أو َبعْدَ الشيب سوى الموت مرحلة؟ ما الذي يُرْجَى ممن كان مثله في تعاجز الْخُطا‪ ،‬وتخاذُل‪ ،‬القُوَى‪ ،‬و َتدَاني المدى‪ ،‬والتوجّه إلى الدار‬
‫ضعْف الحسّ‪ ،‬وتخاذل العضاء‪ ،‬وتفاوت العتدال‪ ،‬والقُرْب من الزوال‪ .‬والذي بقي منه ذَماء يَرقُبه‬ ‫الُخرى‪ ،‬أبعد ِدقّة العظم‪ ،‬ورقّة الجلد‪ ،‬و َ‬

‫‪271‬‬
‫المنُون بمَرْصد‪ ،‬وحُشاشة هي هَامَة اليوم أو غد‪ .‬قد خَلق عمره‪ ،‬وانطوى عيشُه‪ ،‬وبلغ ساحلَ الحياة‪ ،‬ووقف على َثنِيّةِ الوداع‪ ،‬وأشرف على دار‬
‫س معدودة‪ ،‬وحركات محصورة‪ .‬نَضب غديرُ شَبابه‪.‬‬ ‫المقام‪ ،‬فلم يبق إل أنفا ٌ‬
‫فقر لغير واحد في المشيب‬
‫ب نومُ الموت‪.‬‬‫قيس بن عاصم‪ :‬الشيبُ خطام المنية‪ .‬أكثم بن صيفي‪ :‬المَشِيب عنوان الموت‪ .‬الحجاج بن يوسف‪ :‬الشيب نذير الخرة‪ .‬غيره‪ :‬الشي ُ‬
‫ل مَواعد الفَناء‪ .‬وقال‪:‬‬
‫ب أحد الميتتين‪ .‬ابن المعتز‪ :‬الشيبُ أو َ‬ ‫ب نذير المنيّة‪ .‬محمود الوراق‪ :‬الشي ُ‬ ‫العتبي‪ :‬الشيبُ مجمع المراض‪ .‬العتابي‪ :‬الشي ُ‬
‫ب َقذَى عين‬
‫طرُه الغموم‪ .‬الشي ُ‬ ‫عظّم الكبير فإنه عَرف ال قَبلك‪ ،‬وارحَم الصغير فإنه أغ ّر بالدنيا منك‪ .‬غيره‪ :‬الشيب ِقنَاعُ الموتِ‪ .‬الشيب غَما ٌم قَ ْ‬
‫الشباب‪.‬‬
‫ب ل عدمناه!‪.‬‬
‫عيْ ٌ‬
‫نظر سليمان بن وهب في المرآة فرأى الشيب‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫وقيل لبي العيناء‪ :‬كيف أصبحت‪ .‬فقال‪ :‬في داء يتمنّاه الناس!‪.‬‬
‫ابن المعتز‪ :‬المديد‪:‬‬
‫بدموع في الرداءِ سُجُـومِ‬ ‫أنكَرَتْ شرّ مشيبي ووَلّـتْ‬
‫س نَوْ ُر الهمومِ‬ ‫إنّ شيبَ الرأ ِ‬ ‫اعذري يا شرّ شيبتي بـهـمّ‬
‫مسلم بن الوليد‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫عجِبْ لشيء على البغضاء مَ ْودُودِ‬ ‫أْ‬ ‫شيْبُ كرهٌ‪ ،‬وكُـرهٌ أن أفـارقُـه‬ ‫ال َ‬
‫ب يذهبُ مفقوداً بمفـقـودِ‬ ‫والشي ُ‬ ‫ب فيأتي بعـده بـدلٌ‬ ‫َيمْضِي الشبا ُ‬
‫وقال آخر‪ :‬مخلع البسيط‪:‬‬
‫ش ْيبُه فَـذَالِـكْ‬
‫كان له َ‬ ‫حسَابٌ‬ ‫عمْرَ الفتى ِ‬ ‫لو أنَ ُ‬
‫وقال بعضهم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فلمّا التقيْنا كان أكْ َرمَ صَـاحـبِ‬ ‫ولي صاحب ما كنتُ أَهوى اقترابَهُ‬
‫ن مُجَانـبـي‬ ‫تمنَيتُ دهرًا أن يبهو َ‬ ‫ق بـعـدمـا‬ ‫ن يفار َ‬ ‫عزيزٌ علينا أ ْ‬
‫يعني الشيب‪ ،‬يقول‪ :‬لم أكن أشتهي اقترابه‪ ،‬فلما حلّ كان أكرم صاحب‪ ،‬عزيز عليّ مجانبته‪ ،‬لنه ل يجانَبُ إل بالموت‪.‬‬
‫أبو إسحاق الصابي‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫سب في أواخرها ال َقذَى‬ ‫والعم ُر مثلُ الكـاس ير‬
‫أبو الفضل الميكالي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫سمْعَ مُـكـتَـ ِرثِ‬ ‫ول تُصِخْ لملمٍ َ‬ ‫أ ْمتِعْ شبابك من َلهْوٍ ومـن طـرَب‬
‫ب من خ َبثِ‬ ‫والعم ُر من فضة والشي ُ‬ ‫عمْرِ الفتى َر ْيعَـانُ جـدّتـهِ‬ ‫فخير ُ‬
‫في ذكر الخضاب‪ :‬الخضاب أحدُ الشبابين‪.‬‬
‫عبدان الصبهاني‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫وهو ناعٍ منغّصٌ لي حياتي‬ ‫في مشيبي شمَات ٌة لعدَاتـي‬
‫ليَ أنسٌ إلى حضور وَفاتي‬ ‫ب َقوْمٌ‪ ،‬وفيهِ‬‫ويعيب الخِضا َ‬
‫ما تطلّبت خَلّة الغـانـيات‬ ‫ل ومَنْ يعلم السرائ َر إنـي‬
‫ل يو ٍم مِرَاتـي‬ ‫ما تُرِينيه ك ّ‬ ‫ب عنّـي‬ ‫ن ُي َغيّ َ‬
‫إنما ُرمْتُ أ ْ‬
‫سرّه أن يرى وجوهَ النعَاة؟‬ ‫وهو ناعٍ إليَ نفسي‪ ،‬ومَن ذا‬
‫ابن المعتز‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ولم تتعهّدها أكُفّ ا ْلخَـواضـبِ‬ ‫رأت شيبةً قد كُنتُ أغف ْلتُ قصّهـا‬
‫فقالت‪ :‬لقد شانتكَ عند الحـبـائب‬ ‫شيَبٌ ما أرى؟ قلت‪ :‬شامةٌ‬ ‫فقالت‪ :‬أَ ْ‬
‫المير أبو الفضل الميكالي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫فيه وَج ٌد بكتـم ِسِـرّي وَلـوعُ‬ ‫خضَابَ شَيبي فـؤاد‬ ‫قد‪.‬أبى لي ِ‬
‫ونصولُ الخِضاب شي ٌء بَـدِيعُ‬ ‫ب نُصُولً‬ ‫خافَ أن يحدث الخضا ُ‬
‫وقالوا‪ :‬الخضاب من شهود الزور‪ ،‬والخضاب حدادُ المشيب‪ ،‬إن خضب الشعر‪ ،‬فكيف يخضب ال ِكبَر‪ .‬الخضاب كفن الشيب‪.‬‬
‫ابن الرومي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ن الديمُ‬ ‫ود شـيئًا إذا اسـتـشـ ّ‬ ‫ليس ُت ْغنِي شهادةُ الشّـعَـر الس‬
‫شاهد الخضب؟ أين ضلّ الحليمُ؟!‬ ‫أفـيرجـو مُـسَـوّد أن يُ َزكّـى‬
‫صار إل التكـذيبُ والـتـأثـيمُ‬ ‫ل لعمري ما لِلخِضاب لدَى البْ‬
‫قد تولّى به الشـبـابُ الـقـديمُ‬ ‫يدّعي للكبـير شَـرْخَ شـبـابٍ‬
‫بًا إذا كذّب السـوادُ الـصـمـيمُ‬ ‫والسوادُ الدّعِيّ أوْجَـب تـكـذي‬
‫وله أيضاً في هذا المعنى‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ب تعذّرا‬ ‫مَشيباً ولم يَأْتِ المشي ُ‬ ‫ن نُحِيلَ شبابنـا‬ ‫كما لو أردْنا أ ْ‬
‫شباباً إذا ثوبُ الشباب تحسّرا‬ ‫كذلك ُيعْنينا إحالةُ شـيبـنـا‬
‫وأنى يكون العبد إل ُم َدبّرا؟‬ ‫أَبى ال تدبير ابن آدم نفسـه‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬

‫‪272‬‬
‫غشّ الغَوَانِي في الهوَى إيّاكا‬ ‫ِ‬ ‫قل للمسوّد حين شيب‪ :‬هكـذا‬
‫ن كَـذَاكـا‬
‫فكذبنه في ودهـ ّ‬ ‫كَذَبَ الغوانِيَ في سوادِ عذارِهِ‬
‫ن دَهَاكا؟‬ ‫أيّ الدواهي غيره ّ‬ ‫هيهات غَرّك أن يُقَال غرائرٌ‬
‫ع ْتكَ ُمنَاكا‬
‫بل َأنْتَ ويحك خادَ َ‬ ‫خدَعْ َتهُنّ بـحـيلةٍ‬ ‫ل تحسبن َ‬
‫وقال أبو الطيب المتنبي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ن مَشِيبي غيرَ مخضـوب‬ ‫تركْتُ لو َ‬ ‫ت مُمـوّهة‬ ‫ل منْ ليس ْ‬ ‫ومِنْ هَوَى ك ّ‬
‫شعَرٍ في الوج ِه مكذوب‬
‫رغِبتُ عن َ‬ ‫صدْقِ في قولي وعادتهِ‬ ‫ومِنْ هوى ال ّ‬
‫ِمنِي بحِ ْلمِي الذي أعطتْ وتجريبي‬ ‫ع ْتنِي الـذي أخـذَتْ‬ ‫ليتَ الحوادثَ با َ‬
‫قد يوجد الحلْم في الشبّانِ والشـيبِ‬ ‫فما الحداثَ ُة مِنْ حِـلْـ ٍم بـمـانـعةٍ‬
‫غيره‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ستْرًا من النـارِ‬
‫سَلِ اللهَ له ِ‬ ‫ستُرهُ‬ ‫يا خاضبَ الشيب بالحنّاء يَ ْ‬
‫وقد سلك أبو القاسم مسلكاً طريفاً قوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫نَفَسًا يشيع عِيسَهـا إذْ آبـا‬ ‫َأ ْفدِي المغاضبة التي أ ْتبَ ْع ُتهَـا‬
‫ل بعضُ القائلين تَصَابَى‬ ‫ويقو َ‬ ‫سفّهني الصبـا‬ ‫ن يُ َ‬
‫وال لول إ ْ‬

‫ت من فِيهَا البرودَ ُرضَابا‬ ‫ولثَمْ ُ‬ ‫عنَاقـهِ‬‫لكسرت دُمُلجَها لضِيق ِ‬


‫عتباً وألقاكم عليّ غضـابـا‬ ‫بِنتُم فلول أن أغير لـمّـتـي‬
‫ت مَحْوَ النّقْس منه شَبابا‬ ‫ومحو ُ‬ ‫عذَاري كامناً‬ ‫شيْباً في ِ‬‫لخضبت َ‬
‫واعتضت من جِلبابه جِلبَابـا‬ ‫وخلعته خَلْعَ النجاد مذمـمـاً‬
‫خضَابـا‬ ‫جدُ البياض ِ‬ ‫لو أَنني أَ ِ‬ ‫حدَاد عليكـم‬ ‫ولبست م ْبيَضّ ال ِ‬
‫فاجْعل إليه مطيّك الَحْقَـابَـا‬ ‫وإذا أردتَ إلى المشيب وفادةً‬
‫ولتدفعنّ إلى الزمانِ غُرَابـا‬ ‫ن من الزمان حـمـامة‬ ‫فلتأخذ ّ‬
‫حبَـابـا‬ ‫جمَع العِدَاةَ وفرّقَ ال ْ‬‫َ‬ ‫ماذا أَقول ِلرَيب دَهْـرٍ خـائن‬
‫من أخبار الوليد بن يزيد‬
‫وقيل للوليد بن يزيد بن عبد الملك َلمّا غلبت عليه لذّاته‪ ،‬وملكته شهواته‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬إن الرعيّة ضاعت بتضييعك َأمْرَها‪ ،‬وتركك ما‬
‫يجب عليك من مصْلحتها‪ .‬فقال‪ :‬ما الذي أَغفلْناه من واجب حقّها‪ ،‬وأسقطناه من مفروض ذمامها؟ َأمَا كَرمُنا دائم‪ ،‬ومعروفُنا شامل‪ ،‬وسلطانُنا‬
‫قائم؟ وإنما لنا ما نحن فيه‪ ،‬بُسِط لنا في النعمة‪ ،‬و ُمكَن لَنا في المكرمة‪ ،‬وأذلّت لنا المة‪ ،‬و ُمذَ لنا في الحُرمة‪ ،‬فإن تركتُ ما به وسع‪ ،‬وامتنعت‬
‫عمّا به أنعم‪ ،‬كنت أنا المزيل لنعمتي بما ل ينال الرعيّة ضرّه‪ ،‬ول يؤُودُهم ثِقْلُه‪ .‬يا حاجب‪ ،‬ل َت ْأذَنْ لحد في الكلم‪.‬‬
‫لنْس‪ ،‬وأنا أَسكت بال َه ْيبَة‪ ،‬وأَراك تأمرنا بأَشياء أنا أخافُها‬ ‫وقال عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد‪ ،‬وكان خاصّا به‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أنطقتني با ُ‬
‫ل منك‪ ،‬معلوم فيه ثقتك‪ ،‬ول فينا عِلْمُ غيب نحن صائرون إليه! وتعود فتقول‪ :‬فقتل الوليد‬ ‫عليك‪ ،‬أفأَسكت مطيعاً أم أقول مشفقاً؟ قال‪ :‬كل مقبو ٌ‬
‫بعد ذلك بشهر‪.‬‬
‫الحجاج وأهل العراق‬
‫وقال عبد الملك بن مَرْوان للحجاج‪ :‬إني استعملتك على العراق‪ ،‬فاخْرُج إليها َكمِيشَ الزار‪ ،‬شديد الغِرَار‪ ،‬قَليل العثار‪ُ ،‬منْطَوِي الخصيلة‪ ،‬قَلِيل‬
‫حبِق منها البصرة‪.‬‬ ‫ضغْطة تَ ْ‬
‫الثميلة‪ ،‬غرار النوم‪ ،‬طويل اليوم‪ ،‬واضغط الكوفة َ‬
‫وشكا الحجاجُ يوماً سوءَ طاعةِ أهل العراق‪ ،‬وسقم مذهبهم‪ ،‬وسخط طريقتهم‪ ،‬فقال له جامع المحاربي؛ أَما إنهم لْو أَحبّوك لطاعوك‪ ،‬على أنهم‬
‫ت َيدِك‪ ،‬إل ِلمَا نَ َقمُوه من أفعالك؛ فدَع ما يُبعِدهم عنك إلى ما يدنيهم منك‪ ،‬والتمس العافية ممن دونك تُعْطَها ممن فوقك‪،‬‬ ‫ما ش ِنئُوك لبلدك‪ ،‬ول لذا ِ‬
‫وليكن إيقاعك بعد وعيدك‪ ،‬ووعيدُك بعد وَعْدك ثلثاً‪.‬‬
‫فقال له الحجاجُ‪ :‬والّ ما أَرى أن أردّ بني اللَخناء إلى طاعتي إل بالسيف‪ .‬فقال جامع‪ :‬أيها المير‪ ،‬إنّ السيف إذا لقى السيفَ ذهب الخيارُ‪ .‬قال‬
‫الحجاج‪ :‬الخيا ُر يومئذ ل‪ .‬قال جامع‪ :‬أجل‪ ،‬ولكن ل ندري لمن يجعله الّ‪ .‬فغضب الحجاج وقال‪ :‬يا َهنَاه‪ ،‬إنك من محارب‪ ،‬فقال جامع‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا ما القنَا َأ ْمسَى من الطعن أحمرا‬ ‫سمّينا وكـئا مـحـاربـاً‬ ‫وللحرب ُ‬
‫ص َدقْناك أغضبْناك‪ ،‬وإن ك َذبْناك أغْض َبنَا الّ‪ .‬فقال‬ ‫ب به وجهك‪ .‬فقال جامع‪ :‬إن َ‬ ‫فقال له الحجاج‪ :‬وال لقد هممتُ أن أَخْلع لسانك‪ ،‬فأَضر َ‬
‫الحجاج‪ :‬أجل‪ ،‬وسكن سلطانه‪ ،‬وشغل ببعض المر‪ ،‬وخرج جامع وانسلّ من صفوف الناس‪ ،‬وانحاز إلى جبل العراق‪.‬‬
‫وكان جامعِ لَسِنًا ُمفَوّهاً‪ ،‬وهو الذي يقولُ للحجاج حين بنى واسطاً‪َ :‬ب َنيْتَها في غير بَلدك‪ ،‬وأَور ْثتَها غيْ َر ولدك‪.‬‬
‫ضرِيّ َأفْصح من الحجاج ومن الحسن البصري‪ .‬وكان يحبّ أهل الجهارَة والبلغة‪،‬‬ ‫ج من الفصحاء البلغاء‪ ،‬ويقال‪ :‬ما رُئي ح َ‬ ‫وكان الحجا ُ‬
‫ويؤثرهم ويقربهم‪.‬‬
‫ت لهذا‬
‫ولما دخل أيوب بن القرّية على الحجاج ‪ -‬وكان فيمن أُسر من أصحاب عبد الرحمن بن الشعث بن قيس الكندي ‪ -‬قال له‪ :‬ما أعدد َ‬
‫الموقف؟ قال‪ :‬ثلثة حروف‪ ،‬كأنها ركب وُقوف‪ُ :‬دنْيا‪ ،‬وآخرة‪ ،‬ومعروف‪.‬‬
‫فقال له الحجاج‪ :‬بئسما َمنَيْتَ به نفسك يا ابْنَ القرّية‪ ،‬أتراني ممن تخدعُه بكلمك وخُطبك؟ وال لنت أقربُ إلى الخرة من موضع َنعْلي هذه‪.‬‬
‫صبْوَة‪.‬‬
‫سغْني رِيقي‪ ،‬فإنه ل بد للجواد من كَبْوة‪ ،‬والسيف من نَبْوة‪ ،‬والحليم من َ‬ ‫عثْرتي‪ ،‬وَأ ِ‬
‫قال‪ :‬أقِلْني َ‬
‫ب منك إلى العفو‪ ،‬ألستَ القائل وأنت تحرض حِ ْزبَ الشيطان‪ ،‬وعدو الرحمن‪ :‬تغدّوا بالحجاج قبل أن يتعشى بكم؟ وقد‬ ‫قال‪ :‬أنت إلى القبر أقر ُ‬
‫رُويت هذه اللفظة للغضبان بن القبعثرى‪ .‬ثم قدمه فضرب عنقه‪.‬‬
‫قال الخُ َريْمي لبي دلف وأخذه من قول ابن القّرية‪ :‬المتقارب‪:‬‬

‫‪273‬‬
‫إزاءَ القلوب ك َركْب وقو ْ‬
‫ف‬ ‫له كَلِمٌ فـيك مـعـقـولةٌ‬
‫ل فيهم كثير بن أَبي كثير‪ ،‬وكان عربيّا فصيحاً‪ ،‬فقال كثير‪ :‬ما أراني‬ ‫ختَرْ لِي عشَرة من عندك‪ ،‬فاختار رجا ً‬ ‫وبعث الحجاجُ إلى عامله بالبصرة‪ :‬ا ْ‬
‫ت من يد الحجاج إل باللّحْن‪ ،‬فلمّا دخلْنا عليه دعاني فقال‪ :‬ما اسمُك؛ فقلت‪ :‬كثير‪ ،‬قال‪ :‬ابن مَنْ؟ فقلت في نفسي‪ :‬إن قلت ابن أبي كثير لم آمن‬ ‫أفْلِ ُ‬
‫ن بعث معك!!‪.‬‬ ‫أن يتجا َوزَها‪ ،‬قلت‪ :‬ابن أبا كثير‪ ،‬فقال‪ :‬أَعْ ِزبْ‪ ،‬لعنك ال ولعن مَ ْ‬
‫فقر في المديح‬
‫ج ْفنَة‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقال النابغة الذبياني يمدحُ آل َ‬
‫أَض ّر بمن عادى وأكثـر نـافـعـا‬ ‫ل قُـبةٍ‬
‫ول عـينـاَ مـن رأى أَهْـ َ‬
‫وأفضل مشفوعاً إلـيه وشَـافِـعـا‬ ‫وأَعْظَـم أحـلمـاً وأكـثـر سـيّدا‬
‫فل الضيف ممنوعاً ول الجارُ ضَائِعا‬ ‫متى تَلْ َقهُم ل تَلْقَ لـلـبـيت عـورة‬
‫وأنشد محمد بن سلم الجمحيّ للنابغة الجعدي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جوادّ فـمـا ُيبْـقـي مـن الـمـال بــاقـــيا‬ ‫فتـى كَـمُـلَـتْ أخـلقُــه غـــيرَ أنـــهُ‬
‫علـى أنَ فــيه مـــا يســـوءُ العـــاديا‬ ‫فتـى تـ ّم فـيه مـا يَسُـــرّ صـــديقَـــهُ‬
‫إذا لـم يَرُحْ لـلـمـجـد أصـبــح غـــاديا‬ ‫أشـمّ طـويل الـسـاعــدين شَـــمَـــرْدل‬
‫ومن حُرّ المدح وجيّد الشعر قول الحطيئة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ومَـن ُيعْـطِ أثـمـانَ الـمـحـامـدِ يُحْـمَــدِ‬ ‫تزور امْ َرًأ ُيعْطِي على الحمدِ ماله‬
‫ويعـلـم أنّ الـمـرءَ غـي ُر مــخـــلَـــدِ‬ ‫ل ل ُيبْـقِـي عـلـى الـمـرء مـالـه‬ ‫يَرى البخـ َ‬
‫تهـلَـلَ واهـتـزّ اهـتـزازَ الـمـهــنّـــدِ‬ ‫ب ومِـتـلفٌ إذا مـا ســألـــتـــهُ‬ ‫كَسُـو ٌ‬
‫تَجِـدْ خـيرَ نـارٍ عـنـدهـا خَـيْ ُر مُـوقـــدِ‬ ‫متـى تـأتِـه تَـعْـشُـو إلـى ضـوء نـــاره‬
‫وسمع عمر بن الخطاب‪ ،‬رضي ال تعالى عنه‪ ،‬هذا البيت فقال‪ :‬ذاك رسول الّ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وإن غضبوا جاء الحفيظةُ والجِـدّ‬ ‫يسوسون أحلمًا بعـيداً أنـاتُـهـا‬
‫سدّوا‬ ‫سدّوا المكانَ الذي َ‬ ‫من اللومِ أو ُ‬ ‫أقِلّوا عـلـيهـم ل أَبـًا لبـيكُـم‬
‫شدّوا‬ ‫وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا َ‬ ‫أولئك قو ٌم إن َبنَوْا أحسنوا الـبـنـا‬
‫وإن أنعموا ل كدّرُوها ول كَـدّوا‬ ‫وإن كانت النعماءُ فيهم جَزَوْا بهـا‬
‫َبنَى لهمُ آباؤهم وبَـنَـى الـجَـدّ‬ ‫مَطَاعِين في الهيجا َمكَاشِيفُ للدجَى‬
‫وما قلت إلّ بالذي عَِل َمتْ سَـعْـدُ‬ ‫وتعذلني أبناءُ سَـعْـدٍ عـلـيهـمُ‬
‫وقال منصور النمري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وَي ْروَى ال َقنَا في َكفّهِ وال َمنَاصِـلُ‬ ‫ظمَأن تحتهُ‬ ‫ترى الخيل يوم الحرب يَ ْ‬
‫حرامٌ عليها منه َمتْـنٌ وكـاهِـلُ‬ ‫طرَاف السِـنّة نَـحْـرُهُ‬ ‫حللٌ ل ْ‬
‫وقال آخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫قفي بَ ْأسِه شطرٌ وفي جودِه شَطْرُ‬ ‫ن فيمـا َينُـوبـهُ‬ ‫طرَا ِ‬
‫فتًى دهره شَ ْ‬
‫ول مِنْ زئير الحرب في ُأذْنِه َوقْرُ‬ ‫فل مِنْ ُبغَاة الخير في عينه قـذى‬
‫?الشارب‬
‫وقال بعضُ الظرفاء‪ :‬الشرابُ أولُ الخراب‪ ،‬و ِم ْفتَاح كل باب‪َ ،‬يمْحَق الموال‪ ،‬ويُذهِبُ الجمال‪ ،‬و َي ْهدِم المروءة‪ ،‬ويُوهِنُ القوة‪ ،‬ويَضع الشريف‪،‬‬
‫شنَار‪.‬‬
‫و ُيهِين الظريف‪ ،‬ويُذِلُ العزيز‪ ،‬ويفلس التجار‪ ،‬و َي ْهتِك الستار‪ ،‬ويورث ال ّ‬
‫وقال يزْيد بن محمد المهلبي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وإن كـان فـيهـا لَـذَةٌ ورَخـاءُ‬ ‫حصَى على الكأس شَرّها‬ ‫لعمرُك ما يُ ْ‬
‫تخيّل أن المـحـسـنـين أسـاءوا‬ ‫مرارًا تُريك الغَـيّ رشـداً‪ ،‬وتـارةً‬
‫ن مديحَ الـمـادحـين هِـجَـاء‬ ‫وأ ّ‬ ‫وأن الصديق الماحض الو ّد مبغِـضٌ‬
‫يدومُ لخوان النبيذ إخـاء‬ ‫وجرّبت إخوان النبيذ فقلما‬
‫التطفيل‬
‫عوتِب طفيلي على التطفيل فقال‪ :‬ول ما ُبنِيت المنازلُ إل ِلتُدْخَل‪ ،‬ول نصبت الموائد إل لتُؤكل‪ ،‬وإني لجمع فيها خللً؛ أدخل مُجالِساً‪ ،‬وأَقعد‬
‫مؤانساً‪ ،‬وأنبسط وإن كان ربّ الدار عابساً؛ ول أتكلّف َمغْرَماً‪ ،‬ول أنفِق درهماً‪ ،‬ول أتعب خادماً‪.‬‬
‫وقال ابن الدراج الطفيلي لصحابه‪ :‬ل يهولنّكم إغلقُ الباب‪ ،‬ول شدّة الحِجاب‪ ،‬وسوء الجواب‪ ،‬وعبوس البواب‪ ،‬ول تحذير الغراب‪ ،‬ول‬
‫طمَة المزمنة‪ ،‬في جنب الظفر‬ ‫ن ذلك صائر بكم إلى محمول النوال‪ ،‬و ُمغِنٍ لكم عن ذُلّ السؤال‪ ،‬واحتملوا الّلكْزَة المُوهِنة‪ ،‬واللّ ْ‬ ‫منابذة اللقاب؛ فإ ّ‬
‫خفّة للواردين والصادرين‪ ،‬والتملّق للمُلْهين والمطربين‪ ،‬والبشاشة للخادمين‬ ‫بال ُب ْغيَة؟ والدرَك للُمنية‪ ،‬والزَموا الطَوْ َزجَة للمعاشرين‪ ،‬وال ِ‬
‫والموكلين؛ فإذا وصلتم إلى مُرَادكم فكلُوا محتكرين‪ ،‬وادّخروا لغؤكم مجتهدين؛ فإنكم أحقّ بالطعام ممن دعِي إليه‪ ،‬وأولَى به ممن وُضع له‪،‬‬
‫شمّرين‪ ،‬واذكروا قول أبي نواس‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫فكونوا لوقته حافظين‪ ،‬وفي طَلبه ُم َ‬
‫طنَةٍ للط ّيبَاتِ َأكُـولِ‬
‫وفِي بِ ْ‬ ‫ل ال من كلّ فاجر‬ ‫ِلنَخمس ما َ‬
‫س َتنْدَر كلّها‪ ،‬ويستظرف جّلهَا‪ ،‬وهي‬ ‫هذا يقوله أبو بواس في أبيات تُ ْ‬
‫َتهُـ ّم يدَا مَـنْ رامَـهـا بِـزَلـيل‬ ‫س مُـنِـيفةٍ‬‫خيْم ِة نَـاطـورٍ بـرَأ ِ‬
‫وَ‬
‫ت بـدُخـولِ‬ ‫وإن وَاج َهتْـهـا آذنَـ ْ‬ ‫إذا عارضتها الشمسُ فاءت ظللُهـا‬

‫‪274‬‬
‫عبُو ِريّ ٍة تُـذْكـى بـغَـيْرِ فَـتِـيل‬
‫َ‬ ‫ل فَـلّ هـجـيرةٍ‬ ‫ططْنَا بها الثْقـا َ‬ ‫حَ‬
‫ث النـاء ضَـئيلِ‬ ‫من الظلّ فـي ر ّ‬ ‫ت بـمَـ ْذقَةٍ‬ ‫تأنّت قـلـيل ًثـم فـا َء ْ‬
‫ك ومَـقِـيل‬ ‫جَفَا زَوْرُها عن َمبْـ َر ٍ‬ ‫ي نَـعَـامةٍ‬ ‫كأنّا ل َديْها بين عِـطـفَـ ْ‬
‫بصفرا َء من ماءِ الكروم شَـمُـولِ‬ ‫حَلَبت لصحابي بها دِرّةَ الـصّـبـا‬
‫دعا همّهُ مـن صـدْرِه بـ َرحِـيلِ‬ ‫إذا ما أتت دون اللّها ِة من الـفـتـى‬
‫تصا َبيْت واستجملتُ غـيرَ جـمـيلِ‬ ‫فلمّا توافَى الليل جنْحًا من الـدّجـى‬
‫صعْبـًا كـان غـير ذلـول‬ ‫وذلّ ْلتُ َ‬ ‫ث كما بَـدَا‬ ‫وأعطيت مَن أهوى الحدي َ‬
‫إل ربما طالـبـتُ غَـيْ َر مُـنـيلِ‬ ‫فغنّى وقـد َوسّـدت يُسـرايَ خَـدّه‬
‫وإن كان أدنى صاحـبٍ‪ ،‬وخـلـيل‬ ‫فأنز ْلتُ حاجاتي بحِقْوَي مُسـاعـدي‬
‫إل ربّ إحسـان عـلـيكَ ثـقـيل‬ ‫سكْرَ والسكرُ محسنٌ‬ ‫فأصبحت أَلحَى ال ُ‬
‫عليه‪ ،‬ول معروفَ عـنـد بـخـيل‬ ‫كفى حَزَناً أنّ الـجـواد مـقـتّـرٌ‬
‫يقومُ سـواءً أو مـخـيفَ سـبـيلِ‬ ‫سأبغي الغِنـى إمـا وزيرَ خـلـيفة‬
‫ن بـاسـم قـتـيل‬ ‫حفَـا ِ‬
‫إذا نوّه الز ْ‬ ‫بكل فـتًـى ل يُسْـتَـطـارُ فـؤادهُ‬
‫وذي بِطْـنَةٍ لـلـطـيبـات أكُـول‬ ‫خمُس مالَ ال مـن كـل فـاجـرٍ‬ ‫لنَ ْ‬
‫وَليْسَ جَـوَادٌ مُـعْـدِ ٌم كـبَـخِـيلِ‬ ‫ألم تر أنّ المال عَوْنٌ على الثُـقـى‬
‫ألفاظ لهل العصر‬
‫في صفة الطفيليين والكلة وغيرهم‬
‫ل من النار‪ ،‬وأشرَبُ من الرمل‪ .‬لو أكل الفيلَ ما كفَاه‪ ،‬ولو شرب النيلَ ما َأرْوَاه‪ ،‬يجوبُ البلد‪،‬‬ ‫شيطان مَعدته َرجِيم‪ ،‬وسلطانها ظلوم‪ .‬هو آكَ ُ‬
‫سفّود الشّوّاء وأنامله كالشبكة‪ ،‬فى صيد السمكة‪ .‬هو‬ ‫ب البريد‪ ،‬في حضور الثّريد أصابعه ألزم للشَواء‪ ،‬من َ‬ ‫ج ْفنَة جَوَاد‪ .‬يرى ركو َ‬ ‫حتى يقع على َ‬
‫ع من ذئب ُم ْعتَس بين أعاريب‪ .‬العيون قد تقلّبت‪ ،‬والكباد قد تلهبت‪ ،‬والفواه قد تحلبت‪ .‬امتدت إلى الخوان العناق‪ ،‬واحتدت نحوه‬ ‫أجْ َو ُ‬
‫الحداق‪ ،‬وتحلّبت له الشداق‪.‬‬
‫?وصف طائر‬
‫ن بحسن الصورة‪ .‬قال‪ :‬صِفْه‬ ‫سأل المهدي صباح بن خاقان عن طائر له جاء من آفاق الغابة فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬لو لم يَبنْ بحسن الصفة َلبَا َ‬
‫ج ْمرَتين‪ ،‬ويلفظ بدرّتين‪ ،‬ويمشي على عقيقتين‪ ،‬تكفيه الحبّة‪ ،‬وتُرويه‬ ‫لي‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬يا أمير المؤمنين‪ُ ،‬ق ّد َقدّ ا ْلجَلَم‪ ،‬وقوّم تقويم القلَم‪ ،‬ينظر من َ‬
‫ال ُغبّة‪ ،‬إن كان في قفص َفلَقه‪ ،‬أو تحت ثوب خرقه‪ ،‬إذا أقبل َف َديْنَاه‪ ،‬وإذا أدبر حميناه‪.‬‬
‫?من أخبار المهدي‪ :‬ودخل عبد ال بن مصعب الزبيري على المهدي‪ ،‬فقال‪ :‬ويحك ب زبيري؛ دخَلتُ على الخيزران‪ ،‬فلمّا قامت ِلتُصلِح من‬
‫لكِثِ بالْقا_عِ سِرَاعاً‬
‫شأنها نظرت إلى حُسنة! فقلت‪ :‬يا أمير المؤمنين؛ أدركك في ذلك ما أدرك المخزومي حيث قال‪ :‬الخفيف‪? :‬بينما نحنُ بالبَ َ‬
‫س َتهْوي هُ ِويّا‬
‫والعِي ُ‬
‫ت مُـضِـيا‬ ‫طعْ ُ‬
‫راكِ وَهْناً فما است َ‬ ‫خَطَرتْ خَطْرَةٌ على القلب من ذك‬
‫قُ وللحا ِديَيْنِ‪ :‬كُـرّا الـمُـطِـيّا‬ ‫قلتُ‪ :‬لبّيكِ إذ دعاني لـكِ الـشَـوْ‬
‫فأمر فرفعت الستور عن حُسْنة‪.‬‬
‫ثم قال لي‪ :‬يا زبيري‪ ،‬واسوأتاه من الخيزران! ثم انثنى راجعاً إليها فقلت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أدركك في هذا ما أدرك جميلً حيث يقول‪:‬‬
‫الطويل‪:‬‬
‫إليّ وأوطاني بلدٌ سواهمـا‬ ‫شغْباً إلى بَداً‬ ‫حّببْتِ َ‬‫وأنْتِ التى َ‬
‫ن كِل ُهمَا‬ ‫بهذا فطاب الوا ِديَا ِ‬ ‫ت بهـذاحَـلّةً ثـم حَـلّةً‬ ‫حَلَ ْل ِ‬
‫فدخل على الخيزران‪ ،‬فما لبث أَنْ خرج‪ ،‬قال الزبيري‪ :‬فدخلت‪ ،‬فقال‪ :‬أنشدني فأنشدته لصخر بن الجعد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عقدنا لكأس موثِقًا ل نخونـهـا‬ ‫ل بعدمـا‬ ‫جذّها الحي َ‬ ‫هنيئاً لكأس َ‬
‫ش َتدّتْ عَلَيّ ضغونهـا‬ ‫حواليّ وا ْ‬ ‫وإشما ُتهَا العداء لما تـألّـبـوا‬
‫ت أعدائي فقرّت عيونهـا‬ ‫وأشم ّ‬ ‫ت عينيّ بالبكـا‬ ‫فإن تصبحي وكّلْ ِ‬
‫بيَ ْليَل قُمريّ الحمامِ وجُونُـهـا‬ ‫فإن حراماً أن أخونك مـا دعـا‬
‫على َفنَنٍ َو ْرقَاء شاكٍ رَنينهـا‬ ‫وما طرد الليلُ النهار‪ ،‬وما دَعَتْ‬
‫فأمر لي على كل بيت بألف دينار‪ ،‬وكانت الخيزران وحسنة أحظى النساء عند المهدي‪.‬‬
‫?وصف الغلم‬
‫ووصف اليوسفي غلماً فقال‪ :‬كان يعرفُ المراد باللَحْظ‪ ،‬كما يعرفه باللَفْظ‪ ،‬ويُعايِنُ في الناظر‪ ،‬ما يجري في الخاطر‪ ،‬أقرب إلى داعيه‪ ،‬من يد‬
‫ُمعَاطِيهِ؛ حديدُ الذهن‪ ،‬ثاقبُ الفهم‪ ،‬خفيفُ الجسم‪ ،‬يُغنيك عن الملمة‪ ،‬ول يحوجك إلى الستزادة‪.‬‬
‫وقال أبو نواس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صنَا‬
‫إذا ما انثنى من لينه فَضَح الغُ ْ‬ ‫ومنتظرٍ رَجْعَ الحديث بِطَـ ْرفِـهِ‬
‫جعلت له عيني لتفهـمـه ُأ ْذنَـا‬ ‫ي كـلمَـهُ‬ ‫إذا جعل اللحْظَ الخف ّ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت ل يَخفَى عليّ ضميرُ‬ ‫فقد كدْ ُ‬ ‫وإني لطَرْفِ العَيْن بال َعيْنِ زَاجِر‬
‫وقد طرق هذا المعنى وإن لم يكن منه من قال‪ :‬المتقارب‪:‬‬

‫‪275‬‬
‫ت بالهَجر منهم نَصِيبي‬ ‫فَأقْلَلْ ُ‬ ‫بَلَوتُ أخِلّءَ هذا الـزمـان‬
‫صديقُ ال ِعيَان عد ّو المغيبِ‬ ‫وكّلهُ ُم إن تَـصـفَـحْـتـه‬
‫فإنّ العُيونَ وجوهُ القلـوبِ‬ ‫تف ّقدْ مسا ِقطَ لَحْظِ المـريب‬
‫وهو كقول المهدي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي دلـيلُ‬ ‫عليه من اللحظ الخفـ ّ‬ ‫ومطّلع من نفسـه مـا يَسُـرُهُ‬
‫ففي اللّحْظ واللفاظ منه َرسُولُ‬ ‫إذا القلبُ لم يُ ْبدِ الذي في ضميرِه‬
‫?بين خالد بن صفوان وعلي بن الجهم‬
‫ي بن الجهم بن أبي حذيفة‪ ،‬فألفاه يريد الركوب‪ ،‬فقُرّب إليه حمار ليركبه‪ ،‬فقال خالد‪ :‬أما علمت أن العيْر عار‪،‬‬ ‫ودخل خالد بن صَفْوان عَلى عل ّ‬
‫حمَار شَنار‪ ،‬مُنكَر الصوت‪ ،‬قبيح ال َفوْت‪ُ ،‬متَزلّج في الضّحْل‪ ،‬مرتطم في الوحل‪ ،‬ليس بركوبه فحل‪ ،‬ول بمطيّة َرحْل‪ ،‬راكبهُ مقرف‪،‬‬ ‫وال ِ‬
‫ومسايره مُشرف‪.‬‬
‫فاستوحش أبن أبي حذيفة من ركوب الحمار ونزل عنه‪ ،‬وركب فرسًا ودُفع الحمار إلى خالد فركبه‪ ،‬فقال له‪ :‬ويحك يا خالد! أ َتنْهي عن شيء‬
‫جلَة‪ ،‬ويبلغ العقبة‪ ،‬ويمنعني أن أكونَ جَباراً‬ ‫عيْر من بنات الكُرْبال‪ ،‬واضح السربال‪ ،‬مختلج القوائم‪ ،‬يحمل الرّ ْ‬ ‫وتأتي مثله؟ فقال‪ :‬أصلحك الّ! َ‬
‫عنيداً‪ ،‬إن لم أعترف بمكاني فقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين‪.‬‬
‫?تنقل الزمان‬
‫ل من أصحاب الموال الظاهرة في حال رثّة‪،‬‬ ‫قال ابن دأب‪ :‬خرجت مع بعض المراء في سفر إلى الشام‪ ،‬فمرّ بي رجل كنت أعرفه حَسَنَ الحا ِ‬
‫حدْثان؛ فآثرت الضرْب في البُ ْلدَان‪ ،‬والبُ ْعدَ عن المعارف والخُلّن‪ ،‬وقد كان‬ ‫ي فقلت‪ :‬ما الذي غيّر حالك‪ .‬فقال‪ :‬تنقلُ الزمان‪ ،‬وكَرّ ال ِ‬ ‫فسلّم عل ّ‬
‫المير الذي أنت معه صديقاً لي فاخترت ال ُب ْعدَ من الشكال‪ ،‬حين حَصّني القلل‪ ،‬واستعملت قول الشاعر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ح َدثَانِ‬ ‫غنَى ال َ‬ ‫غنى المال يوماً أو ِ‬ ‫عمِل نَصّ العِيسِ حتى يكفّنـي‬ ‫سأُ ْ‬ ‫َ‬
‫على المرءِ في العلياء مَسّ هَوَانِ‬ ‫فَللمَوتُ خي ٌر من حياة يُرى لـهَـا‬
‫وإنْ لم يَقُلْ قالـوا عَـدِي ُم بَـيَانِ‬ ‫لمِـهِ‬ ‫متى يتكلّم يلغَ خـكْـ ُم كـ َ‬
‫بغير لسانٍ نـاطـق بـلـسـانِ‬ ‫كأن الفتى في أهله بورك الفتـى‬
‫قال ابن دَأْب‪ :‬فلمّا اجتمعتَ مع المير في المنزل وصفت له الرجل‪ ،‬فقال لي‪ :‬ويحك! اطلبه حتى أُصلح من حاله‪ ،‬فطلبته فأَعْوَزَني‪.‬‬
‫?باب الرثاء‬
‫وقال أبو الشيص يرثي قتيلً‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ن قنََا ونِصَالِ‬ ‫ن مِ ْ‬‫َبيْنَ صَ ّفيْ ِ‬ ‫ختََلتْ ُه المنونُ َب ْعدَ اخـتـيالٍ‬
‫َ‬
‫ص من الحديد مُـذَالِ‬ ‫وقمي ٍ‬ ‫في ردا ٍء من الصّفيحِ صقيلِ‬
‫وقال حارثة بن بدر الغُداني يرثي زياداً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫سفَى فَ ْوقَـهُ الـمُـورُ‬ ‫عند الثوبّة يُ ْ‬ ‫صَلّى الِلهُ على َقبْـرٍ وطـهّـرَهُ‬
‫فثمَ حَلّ الندى والعـزّ والـخِـيرُ‬ ‫ش َنعْـشَ سَـيّدهـا‬ ‫تهدي إليه قري ٌ‬
‫وإنّ مَنْ غَرّت الدنيا لـمَـغْـرُور‬ ‫أبا المغيرة‪ ،‬والـدنـيا مـفـجّـعة‬
‫وكان عندك لِلنكْـرَاء تَـنـكِـيرُ‬ ‫قد كان عندك للمعـروف عَـا ِرفَةٌ‬
‫فالنَ بابُك أمسى وهو مهـجـور‬ ‫سعَةٍ‬ ‫ل من َ‬ ‫وكنت ُتغْشَى ف ُتعْطِي الما َ‬
‫ت َميْسُـورُ‬ ‫وكان َأمْرَك ما يُوسِ ْر َ‬ ‫ول تلين إذا عوشِرت معـتـسـراً‬
‫ولم يُجَلّ ظلماً عَـنْـهُـمُ نـور‬ ‫ت ف ْت َيتَـهُـمْ‬ ‫س مذ غيّبْ َ‬ ‫لم َيعْرِف النا ُ‬
‫ت فـيهـا العَـاصِـيرُ‬ ‫كأنما نفّخَ ْ‬ ‫فالناس بعدك قد خفّت حلـومـهـمُ‬
‫حبْوَته‪ ،‬ولم ينطق أحد إل مجيباً له‪ ،‬إجللً ومهابة‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫أخذ هذا البيت من قول مهلهل بن ربيعة في أخيه كليب‪ ،‬وكان إذا انتدى لم تحلّ َ‬
‫ب بعدك ياكليبُ المجلـسُ‬ ‫واست ّ‬ ‫أنبئت أنّ النار بعـدك أوقـدت‬
‫لو كنت حاضر َأمْرِهم لم َي ْنبِسوا‬ ‫وتحدّثوا في أمرِ كل عـظـيمة‬
‫وكان حارثة ذَا بيان وجَهارة وأدب‪ ،‬وكان شاعراً عالماً بالخبار والنساب‪ ،‬وكان قد غلب على زياد‪ ،‬وكان حارثة منهوماً في الشراب‪ ،‬فعُوتب‬
‫ل يُسايرني مذ دخلت العراق‪ ،‬ولم يص ُككْ ركابُه ركابي‪ ،‬ول تقدّمني فنظرت إلى قَفَاه‪ ،‬ول تأخر‬ ‫زيادٌ في الستئثار به‪ ،‬فقال‪ :‬كيف أطّرِح رج ً‬
‫عني فلويت عنقي إليه‪ ،‬ول أخذ عليّ الشمس في شتاء قطّ‪ ،‬ول الرّوْح في صيف‪ ،‬ول سألته عن باب في العلم إل قدّرت أنه ل يحسن غيره‪.‬‬
‫وقال له زياد‪ :‬من أخطب؟ أنا أم أنت؟ فقال‪ :‬المير أخطب إذا تَوَعّد أو وعد‪ ،‬وبرَق ورَعد‪ ،‬وأنا أخطبُ في الوفادة‪ ،‬والثناء‪ ،‬والتحبير‪ ،‬وأنا‬
‫ن العدل‪ ،‬ول يزي ُد في كلمه‪ ،‬ول ينقص منه‪.‬‬ ‫أكْذب إذا خطبت‪ ،‬وأحشو كلمي بزيادات مليحة‪ ،‬شهيّة‪ ،‬والمير يَقْصد إلى الحقّ‪ ،‬وميزا ِ‬
‫فقال له زياد‪ :‬قاتلك الّ‪ ،‬لقد أجدتَ تخليص صفتي وصفتك‪.‬‬
‫ولمّا مات زياد جفاه عبيدُ ال ابنهُ‪ ،‬فقال له حارثة‪ :‬أيها المير‪ ،‬ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة؟ فقال له عبيد الّ‪ :‬إن أبا‬
‫المغيرة بلغ مبلغًا ل يلحقه فيه عيب‪ ،‬وأنا أنسَب إلى من يغلبُ عليّ‪ ،‬وأنت ُتدِيمُ الشرابَ‪ ،‬وأنا حديثُ السنّ؛ فمتى قرّبتك فظهرت منك رائحة‬
‫ن بي ذلك‪ ،‬فدَع الشراب وكُنْ أول داخل وآخر خارج‪.‬‬ ‫ن أن يُظَ ّ‬ ‫الشراب لم آمَ ْ‬
‫فقال له حارثة‪ :‬أنا ل أدعه لمن يملك ضرّي ونَفْعي‪ ،‬أََأدَعهُ للحال عندك؟ ولكن صَرّفني في بعض أعمالك‪ .‬فولّه سُرّق من بلد الهواز‪.‬‬
‫وقال أبو السود الدؤلي‪ ،‬وكان صديقاً لحارثة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن وتَسْـرقُ‬ ‫جرَذاً فيها تَخُو ُ‬ ‫فكنْ ُ‬ ‫ت وليةً‬ ‫ن بَدْرٍ‪ ،‬قـد وَلـي َ‬
‫أحا ِر ب َ‬
‫سرّقُ‬ ‫فحظُك مِنْ مُ ْلكِ العِراقين ُ‬ ‫ول تَدَعَنْ للناس شيئًا تصـيبـه‬
‫يقول بما َيهْوَى وإمّا مُصَـدّقُ‬ ‫س إل قائل فـمـكـذّبٌ‬ ‫فما النا ُ‬

‫‪276‬‬
‫فإن قيل هاتوا حقّقوا لم يحقَقوا‬ ‫يقولون أقوالً بظـنّ وتـهـمة‬
‫فقال له حارثة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فقد قلت معروفاً وأوْصيت كافيا‬ ‫خيْرَ جـزائهِ‬ ‫جزاك إلهُ العرش َ‬
‫للفيتني في ِه لَمرك عَـاصِـيا‬ ‫ت بغـيرهِ‬ ‫ت بشيء لو أمَرْ َ‬‫أمر َ‬
‫?وصف امرأة‬
‫طفْلة‪ ،‬تنظر بعينَيْ شادنٍ‬ ‫خصَة‪َ ،‬قبّاء َ‬ ‫عرْماء رَ ْ‬ ‫قال الصمعي‪ :‬سمعت امرأة من العرب تصفُ امرأةً وهي تقول‪ :‬سَطعاء بَضّةٌ‪ ،‬بيضاء غضّة‪َ ،‬‬
‫لمُها رخيم‪ ،‬فهي كما قال الشاعر‪ :‬الرجز‪:‬‬ ‫ظَمآن‪ ،‬وتبسم عن ُمنَوّر القحوان‪ ،‬في غبّ التّهتان‪ ،‬وتشير بأساريع الكُثبَان‪ ،‬خلقها عميم‪ ،‬وكَ َ‬
‫مُخّة ساق بين كَفّـيْ سـاقِ‬ ‫كأنها في ال ُقمُصِ الـرقـاق‬
‫أعْجَلَها الشاوي عن الِحراقِ‬
‫ووصف أعرابي امرأة يحبّها فقال‪ :‬هي زينة في الحضور‪ ،‬وباب من أبواب السّرور‪ ،‬ولَذكرها في المغيب‪ ،‬والبعد من الرقيب‪ ،‬أشهى إلينا من‬
‫كل ولد ونسيب‪ ،‬وبها عرفت فضل الحور العين‪ ،‬واشتقت بها إليهن يوم الدين‪.‬‬
‫عود إلى كلم العراب‬
‫وسئل أعرابي عن سفر أكْدى فيه‪ ،‬فقال‪ :‬ما غنمنا إل ما قَصَرنَا من صلتنا‪ ،‬فأمّا ما أكلته منّا الهواجر‪ ،‬ولق َيتْه منا الباعر‪ ،‬فأمر استخففناه‪ ،‬لما‬
‫أمّلناه‪.‬‬
‫ت فيها‬
‫وقال عبد قيس بن خُفَاف البرْجمي لحاتم الطائي‪ ،‬وقد وَفد عليه في دماء حملها‪ ،‬قام ببعضها وعجز عن بعض‪ :‬إني حملت دماء عَوّل ُ‬
‫حمِلْها فكم من حقّ قضيت‪ ،‬وهمّ كفيت‪ ،‬وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك‪،‬‬ ‫على مالي وآمالي‪ ،‬فأمّا مالي فقدّمته‪ ،‬وكنتَ أكبرَ آمالي‪ ،‬فإن ت ْ‬
‫غدِك‪.‬‬
‫ولم آيس من َ‬
‫ت مع ذلك واثقًا ِبنُجْحٍ طَلِبتي‪ ،‬ول معتقداً‬ ‫وقيل لعرابي‪ :‬لم ل تَضْ ِربُ في البلد؟ فقال‪ :‬يمنعني من ذلك طفل بارك‪ ،‬ولِصّ سافك‪ ،‬ثم إني لس ُ‬
‫بقضاء حاجتي‪ ،‬ول راجياً عطف قرابتيَ؛ لني أقْدم على قوم أَطغَاهم الشيطان‪ ،‬واستمالَهم السلطان‪ ،‬وساعدهم الزّمان‪ ،‬وأسكر ْتهُم حداثة‬
‫السنان‪.‬‬
‫ت عنهم العيون‪ ،‬وفدَحَتهم الدّيون؛‬ ‫وخرج المهدي بعد َهدْأَة من الليل يطوفُ بالبيت‪ ،‬فسمع أعرابية من جانب المسجد تقول‪ :‬قوم متظلّمون‪َ ،‬نبَ ْ‬
‫عيَالهم‪ ،‬أبناءُ سبيل‪ ،‬وَأنْضَاء طريق‪ ،‬وصية ال‪ ،‬ووصية رسول ال‪ ،‬فهل آمِرٌ بخير‪،‬‬ ‫ضتْهم السنون‪ ،‬بَادَ رجالهم‪ ،‬وذهبت أموالهم‪ ،‬وكثر ِ‬ ‫وع ّ‬
‫سفَره‪ ،‬وخلفه في أهله‪ .‬فأمر نصراً الخادم‪ ،‬فدفع إليها خمسمائة درهم‪.‬‬ ‫كلَه ال في َ‬
‫من إنشاء بديع الزمان‬
‫ومن إنشاء البديع في مقامات أبي الفتح السكندري‪ :‬حدثني عيسى بن هشام قال‪ :‬كنت ببغداد‪ ،‬في وقت الزاذ؛ فخرجتُ إلى السوق أَعتا ُم من‬
‫ت غير بعيد إلى رجل قد أخذ أنواعَ الفواكه وصفّفها‪ ،‬وجمع أنواع الرّطَب وصنّفها؛ فقبضتُ من كل شيء أحسنه‪،‬‬ ‫أنواعه‪ ،‬لبتياعه‪ ،‬فسر ُ‬
‫ت عينايَ رجلً قد لفّ رأسه ببرقع‪ ،‬حياء‪ ،‬ونصب جسده‪،‬‬ ‫ت من كل نوع أجوده؛ وحين جمعت حواشيَ الزار على تلك الوزار‪ ،‬أخذَ ْ‬ ‫وقرض ُ‬
‫وبسط يدَه؛ واحتضَنَ عِيالَه‪ ،‬وتأبّط أطفالْه‪ ،‬وهو يقول بصوت يَدفَع الضعف في صدره والحَرضَ في ظهره‪ :‬لرجز‪:‬‬
‫ب بالدقيقِ‬‫حمَة تُضْ َر ُ‬
‫أو شَ ْ‬ ‫ويلي على كَفّين من سَويقِ‬
‫تَ ْفثَأ عنّا سَطَوَاتِ الـرّيقِ‬ ‫أو قصعة تُمل من خِ ْردِيق‬

‫يا رازِقَ الثرو ِة بعد الضيقِ‬ ‫ن َم ْنهَج الـطـريق‬ ‫تُقيمنا عَ ْ‬


‫ذي حسَبٍ في مَجدِه عريقِ‬ ‫ف فتًى لبـيق‬ ‫سهّلْ على ك ّ‬ ‫َ‬
‫عيْشي من يد الترنـيقِ‬ ‫ُينْقذ َ‬ ‫يُهدي إلينا قدم الـتـوفـيق‬
‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فأخذت من فاضل الكيس أخذةً وأنَلْته إياها‪ ،‬فقال‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫َأ ْفضَى إلى ال بِحُسن سرّه‬ ‫يا من حَباني بجمـيل بـرّه‬
‫إن كان ل طاقةَ لي بش ْكرِه‬ ‫وأستحفظ ال جميل ستـره‬
‫فالُ ربّي من وراءَ أمره‬
‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فقلت‪ :‬إنّ في الكيس َفضْلً‪ ،‬فابْرُزْ لي عن باطنك أخرج لك عن آخره‪ ،‬فأماط لِثامه‪ ،‬فإذا شيخنا أبو الفتح السكندري‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫ويحك! أي داهية أنت‪ .‬فقال‪ :‬مجزوء الوافر‪:‬‬
‫على الناس و َتمْويهَا‬ ‫نُقضّي العمر تشبيهاً‬
‫عنى حال فأحكيها‬ ‫أرى اليا َم ل َتبْقـى‬
‫ويوماً شِ ّرتِي فِيهـا‬ ‫فيوماً شرّهـا فـيّ‬
‫من رسائل بديع الزمان‬
‫وسأل البديع أبا نصر بن المرزبان ‪ -‬عاريَ ًة ‪ -‬بعضَ ما يتجمّل به‪ ،‬فأمسك عن إجابته؛ فأعاد الكتاب إليه بما نسخته‪ :‬ل أزالُ ‪ -‬أَطال ال تعالى‬
‫ح جبينَ الخجل‪ ،‬وأم ّد يمين العَجَل‪ ،‬ولضعف الحاسّة‪ ،‬في الفِراسة‪ ،‬أحسب الوَ َرمَ‬ ‫بقاء مولنا الشيخ! ‪ -‬لسوء النتقّاد‪ ،‬وحسن العتقاد‪ ،‬أمْسَ ُ‬
‫جدْ شيئاً‪.‬‬
‫شحماً‪ ،‬والسرابَ شراباً‪ ،‬حتى إذا تجشمت موارده‪ ،‬لَشرب بَارِده‪ ،‬لم َأ ِ‬
‫وما حسبت الشيخَ سيدي ممن لعنيه هذه الجملة حتى عرضت على النار عودَه‪ ،‬ونشرت بالسؤال جُودَه‪ ،‬وكا َت ْبتُه أستعيره حلية جمال‪ ،‬سحابةَ‬
‫س نَظراً دقيقاً‪ ،‬وقال‪ :‬هذا رجل مشحوذ المُدْية‪ ،‬في أبواب‬ ‫طنَة غوصاً عميقاً‪ ،‬ونظَر في ال َكيْ ِ‬ ‫يوم أو شَطْرَه‪ ،‬بل مسافةَ ميل أو قَدْرَه‪ ،‬فغَاص في الفِ ْ‬
‫ال ُكدْية‪ ،‬قد جعل استعارة العلق طريقَ افتراسها‪ ،‬وسبب احتباسها‪ ،‬وقد منّى ضِرسه‪ ،‬وحدّثَ بالمحال نفسه‪ ،‬ول لطيفة في هذا الباب‪ ،‬أحسن‬
‫من التغافل عن الجواب‪ ،‬فَضْلً عن اليجاب‪ ،‬وكل فما في أبواب الر ّد أقبح مما قرع‪ ،‬ول في شرائع البخل أوحش ممّا شَرع؛ ثم العُذر له من‬
‫جهتي مبسوط إن بسطه ال َفضْل‪ ،‬ومقبوك إن َقبِله المجد‪ ،‬وإنما كاتبت ُه لعيد الحال القديمة‪ ،‬وأشرط له على نفسي أن أُريحه من سَوْم الحاجات‬
‫طنِي‪ ،‬لم يستحْي له من أعفني؛ وعلى حسب جوابه أجري المودّة فيما بعد‪ ،‬فإن رأى أن يجِيبَ فعل إن شاء الّ‪.‬‬ ‫عِ‬‫ستَحْي من أ ْ‬ ‫من بعد‪ ،‬فمن لم يَ ْ‬
‫‪277‬‬
‫خدْمَة مولي ‪ -‬أطال ال بقاءه ‪ -‬يوماً لم أرفع له بصَري‪ ،‬ولم أعدّه من عمري‪ ،‬وكأني‬ ‫وله إلى سهل بن محمد بن سليمان‪ :‬أنا إذا طويت عن ِ‬
‫صدِ حضرته‪ ،‬والمثولِ في حاشيته‪ ،‬وجملة غاشيته‪ ،‬يقول‪ :‬إن هذا الجائع َلمّا شَبع تضلّع‪،‬‬ ‫خدْمته‪ ،‬من قَ ْ‬ ‫بالشيخ ‪ -‬أعزّه الّ ‪ -‬إذا أغفلت مفروض ِ‬
‫ظهَ ُر بهذا الباب؛ وأنا الرجل الذي آواه من قَ ْفرِ‪ ،‬وأغناه من فَقْرِ‪،‬‬ ‫ف بهذا ا ْلجَناب‪ ،‬ول يَ ْ‬
‫واكتسى وتلفّع‪ ،‬وتجلّل و َتبَ ْرقَع‪ ،‬تربّع وترفّع‪ ،‬فما يطو ُ‬
‫سمِي قال‪:‬‬ ‫ش َيمِه‪ ،‬ونَظَر في عنوانها ا ْ‬ ‫ظرْف ِ‬ ‫وآمنه من خَوْف‪ ،‬إذ ل حَرّ بوالِي عَوف؛ حتى إذا وردت عليه رقعتي هذه‪ ،‬وأعارها طَرْف كرمه‪ ،‬و َ‬
‫ل من عقدته‪ ،‬وانتبه من َرقْدَته‪.‬‬ ‫طعْناً وَلعْناً‪ ،‬فما أكذبَ سَرَابَ أخلقه‪ ،‬وأكثر أسْراب نفاقه‪ ،‬فالن انح ّ‬ ‫بُعداً وسحقاً‪ ،‬وسبّا وتبّا وحتّا ونحتاً‪ ،‬و َ‬
‫ل ل أزَوّجُهُ الرّضا ول قلَمة‪ ،‬ول أمنحه المُنَى ول كرامة‪ ،‬بل أدعهُ يركب رَأسه‪ ،‬ويُقاسي أنفاسَه‪ ،‬فستأتيني به الليالي‪،‬‬ ‫وكاتبني يستعيدني‪ ،‬ك ّ‬
‫حفَاوة‪ ،‬ووَطر سَاقَهُ‪ ،‬ل نِزَاعٌ‬ ‫ن َقدْره‪ ،‬وُأذِيقُه وبالَ أمره‪ ،‬خى إذا بلغ موضع الحاجة من الرقعة قال‪ :‬مَأرُبةٌ ل َ‬ ‫والكيس الخالي‪ ،‬ثم أُرِيه ميزا َ‬
‫شَاقَه‪ ،‬فهذا بِذَا‪ ،‬ول أبعد من تلك الهمم العالية‪ ،‬والخلق السامية أن يقول‪ :‬مرحباً بالرّقعة وكاتبها‪ ،‬وأهلً بالمخاطبة وصاحبها وقضاء الحاجة‬
‫بإنْحَائها‪ ،‬وإبرازها‪ ،‬وهي الرقعة التي سالت إلى من التمسته‪ ،‬كما اقترحته بما طالبته‪ ،‬فرأيهُ فيه موفق إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫وله أيضاً إلى بعض الرؤساء يسأله إطلق محبوس بسببه‪.‬‬
‫عنُق الدهر‪ ،‬وصاغها إكليلً لجبين الشكر‪ .‬وما‬ ‫الشيخ ‪ -‬أطال ال بقاءه ‪ -‬إذا وصل يدي بيده لم ألمس الجوْزَاء‪ ،‬إل قاعداً‪ ،‬وقد نَاطَها ِمنّة في ُ‬
‫ي كتيبة‬ ‫أقْصَر يَدِي عن الجزاء‪ ،‬ولساني عن الثناء‪ .‬وهذا الجاهل قد عرف نفسَه‪ ،‬وقلع ضرسه‪ ،‬ورأى ميزان قدْرِه‪ ،‬وذاق وبال أمره‪ ،‬وجهز إل ّ‬
‫عجائز عاجزات؛ فَأطْلَقْن العويل والليل‪ ،‬وبعثنني شفيعاً إليّ‪ ،‬واستعنّ بي علي‪ ،‬وتوسّلْن بكلمة الستسلم‪ ،‬ولحمة السلم‪ ،‬في َفكّ هذا الغلم؛‬
‫فإن أَحبّ الشيخُ أن يجمعَ في الطّ ْولِ بين الحوض والكوثر‪ ،‬وينظم في ال َفضْل ما بين الروض والمطر‪ ،‬شفع في إطلقه َمكَا ِرمَه‪ ،‬وشرّف بذلك‬
‫خادمه‪ ،‬وأنجزنا بالفراج عنه‪ ،‬مُ َوفّقاً إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫تسامح المأمون‬
‫عدَاد العُصاة‪ ،‬فقال للمأمون‪ :‬ليس‬ ‫حبْسه‪ ،‬وكان محبوساً في ِ‬ ‫وقال رجل لبراهيم بن المهدي‪ :‬اشفعْ لي إلى أمير المؤمنين في َفكّ أخي من َ‬
‫للعاصي بعد ال ُقدْرة عليه ذَنب‪ ،‬وليس للمصاب بعد الملك عذر‪ .‬فقال‪ :‬صدقت‪ ،‬فما طَِلبَتك؟ قال‪ :‬فلن َهبْه لي‪ .‬قال‪ :‬هولك‪.‬‬
‫وسأل أبو عبادة أحمد بن أبي خالد أن يطلق له أسارى‪ ،‬ففعل‪ ،‬فقال له‪ :‬قد فككْنا أسْرَاكَ‪ .‬فقال‪ :‬ل فَك ال ِرقَابَ الحرار من أياديك!‪.‬‬
‫ألفاظ لهل العصر‬
‫في التهنة بالطلق من السر‬
‫عتْق‪ ،‬ومن تَصِليَةِ جحيم‪ ،‬إلى جنَ ِة نعيم‪ .‬خَرج من‬ ‫ح ْمدَ الخلص‪ ،‬على حسن الخَلَصِ‪ ،‬الذي أفْضى بك من ذِلَةِ رِق‪ ،‬إلى عزَة ِ‬ ‫الحمدُ ل َ‬
‫ف من الصّقال‪ .‬خرج من إساره‪ ،‬خروج البَد ِر من سِرارِه‪ .‬الحمدُ ل الذي فكّ أسراً‪ ،‬وجعل من بعد العُس ِر يُسْراً‪ .‬خرج من‬ ‫العِقَال‪ ،‬خروج السي ِ‬
‫البلء‪ ،‬خروج السيف من الجلء‪ .‬قد جعل ال لك من َمضَايق المور مخرجًا نَجِيحاً‪ ،‬ومن مغالق الهوال مسْرحاً فسيحاً‪.‬‬
‫باب المديح‬
‫مدح أبو نواس المين محمداً في أول خلفته بقصيدته التي يقول فيها‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫صعْرَ ال ِزمّة من َمثْنى و ُوحْدانِ‬ ‫ُ‬ ‫س تَعْرَوْرى الفَل َة بنا‬ ‫أقول والعِي ُ‬
‫تقبيلُ راحته والـ ّركْـن سِـيّان‬ ‫يا ناقُ‪ ،‬ل تسأمي أو َتبْلُغي مَلِكـاً‬
‫ول دتان من المنصور ِثنْـتـانِ‬ ‫ل بين َأمْلكٍ تـفـضّـلـه‬ ‫مقاب ً‬
‫ج ِمعِي الْخلقَ في تمثال إنسانِ‬ ‫ستَ ْ‬ ‫تَ ْ‬ ‫حلَ سالـمةً‬ ‫متى تُحِطّي إليه الرّ ْ‬
‫ن أمه أمة‬ ‫قال الحسن‪ :‬هذا لنّ محمداً ولدهُ المنصور مرتين من ِقبَل أن أباه هارون الرشيد بن المهدي بن أبي جعفر المنصور‪ ،‬ومن قِبل أ ّ‬
‫العزيز بنت جعفر بن أبي جعفر‪ ،‬المنصور‪ ،‬وكان المنصور دخل عليها وهي طفلة تلعب‪ ،‬فقال‪ :‬ما أنت إل ُز َبيْدة‪ ،‬فغلب عليها هذا اللقب‪ ،‬ولم‬
‫يَلِ الخلفة مَنْ أبواه هاشميان غير علي بن أبي طالب وَأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم‪ ،‬وابنه الحسن‪ ،‬وأمّه فاطمة بنت النبي‪ ،‬صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬والمين محمد بن الرشيد‪.‬‬
‫سمَع مدحُك بعد قولك في الخصيب بن عبد الحميد‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫رجع القول ‪ -‬فلمّا أنشده القصيدة قال‪ :‬ما ينبغي أن يُ ْ‬
‫ب تـزورُ؟‬ ‫ي فتًى َبعْدَ الخصي ِ‬ ‫فأ ّ‬ ‫إذا لم تَزُز أرضَ الخصيب ركابُنا‬
‫ت تـدورُ‬ ‫و َيعْـلَـمُ أنّ الـدائرا ِ‬ ‫فتًى يَشْتري حُسنَ الثناء بمـالـهِ‬
‫ولكنْ يسيرُ الجود حـيث يسـيرُ‬ ‫ل دونـه‬ ‫فما فاته جـودٌ‪ ،‬ول حَـ ّ‬
‫فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬كلّ مدح في الخصيب وغيره ف َمدْح فيك؛ لني أقول‪ ،‬ثم أرتجل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وجاءت لك العليا ُء مُ ْق َتبِلَ الـسّـنّ‬ ‫ملكْتَ على طير السعادة والـيُمـنِ‬
‫بحسن وإحسان مع ال ُيمْن والمْـن‬ ‫بمحيا وجود الدّين تـحـيا مـهـنـأ‬
‫حسْناً إلى حُـسْـن‬ ‫وزادت به اليامُ ُ‬ ‫لقد طابتِ الدنـيا بـطـيبِ ثـنـائِه‬
‫ف المْنِ‬ ‫وأسكن أهل الخوف في كَنَ ِ‬ ‫لقد فكّ أرقاب العُـفـاة مـحـمـدٌ‬
‫ت كما نُثني وفوق الذي نثْـنـي‬ ‫فأَن َ‬ ‫ن أ ْثنَينا عـلـيكَ بـصـالـحٍ‬ ‫إذا نحْ ُ‬
‫ك إنساناً فأنْتَ الذي نَـعْـنـي‬ ‫لغير َ‬ ‫ظ يومـًا بِـمِـدْحَةٍ‬ ‫جرَت اللفا ُ‬ ‫وإن َ‬
‫قال‪ :‬صدقت‪َ ،‬مدْحُ عبدي مدحٌ لي؛ ووَصَلَهُ وقرّبه‪.‬‬
‫وأما قول أبي نواس‪:‬‬
‫ن أثنينا عليك بصالح‬ ‫إذا نح ُ‬
‫فمن قول الخنساء‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وإن أطنبوا إل الذي فيك أ ْفضَلُ‬ ‫س مِـدْحَةً‬‫فما بلغ ال ُم ْهدُونَ للنا ِ‬
‫من المجد إل والذي نِلْتَ أطْوَلُ‬ ‫ف امرئ متنـا َولَ‬ ‫وما بلغتْ ك ّ‬
‫شّب ْهتَني بالحيّة‪ ،‬أو السد‪ ،‬أو الصقر‪ ،‬فل حاجةَ لي بها‪ ،‬وإن‬ ‫حتُك بأبيات فاسمعْها‪ ،‬فقال‪ :‬إن كنت َ‬ ‫وفد الخطل على معاوية‪ ،‬فقال‪ :‬إني قد امتد ْ‬
‫سنَتْ‪ ،‬وقد قلت فيك بيتين ما هما بدونهما‪ ،‬ثم أنشد‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫كنت قلت كما قالت الخنساء‪ ،‬وأنشد البيتين‪ ،‬فقلْ‪ .‬فقال الخطل‪ :‬وال لقد أح َ‬
‫‪278‬‬
‫ل من قلـيل مُـصَـ ّردِ‬
‫فلم يبق إ ّ‬ ‫إذا مُتّ ماتَ العُرْفُ وانقطع ال َندَى‬
‫عن الدين والدنيا بحزن مـجـ ّددِ‬ ‫و ُردّت أكفّ السائلين وأمسـكـوا‬
‫وقول أبي نواس‪:‬‬
‫جرَت اللفاظ يوماً ب ِمدْحَةٍ‬ ‫وإن َ‬
‫من قول كثير في عبد العزيز بن مروان‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فما هي إل لبن ليلى المعَـظّـم‬ ‫مَتى ما أقلْ في سالف الدهْر ِمدْحَةً‬
‫وقال الفرزدق‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ضمِـيرُهَـا‬‫حدٍ إل إليك َ‬ ‫إلى َأ َ‬ ‫وما أمرتني النفس في رِحْلَةٍ لها‬
‫ولما أنشد أبو تمام أحمد بن أبي دُوَاد قصيدته‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ع ْهدَ الحمى صوبُ العِهاد‬ ‫سقى َ‬
‫وانتهى إلى قوله‪:‬‬
‫جدْوَاك راحِلَتي وزادي‬ ‫ومِنْ َ‬ ‫وما ساف ْرتُ في الفـاق إل‬
‫وإنْ َقلِقَتْ رِكابي في البلدِ‬ ‫مُقيمُ الظنَ عندكَ والمانـي‬
‫قال له ابن أبي دُوَاد‪ :‬هذا المعنى لك أو أخذته؟ قال‪ :‬هُو لي‪ ،‬وقد ألممت فيه بقول أبي نواس‪:‬‬
‫لغيرك إنساناً فأنتَ الذي نَعْني‬ ‫جرَت اللفاظ يوماً ب ِمدْحَةٍ‬ ‫وإنْ َ‬
‫وأخذه المتنبي فقال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫نز ْلتُ بهمْ فرحت بغير زَادِ‬ ‫ح قَ ْومٍ‬ ‫سيْن بمد ِ‬ ‫شرْتَ أبا الْحُ َ‬ ‫أَ َ‬
‫ح ُتهُ ُم مُـرَادِي‬
‫ت بما مَدَ ْ‬ ‫وأن َ‬ ‫ح ُتهُـ ُم قَـدِيمـاً‬
‫ظنّوني َمدَ ْ‬ ‫وَ‬
‫وأما قول أبي تمام‪ :‬وما سافرتُ في الفاق ‪ -‬البيت فمن قول المثقب العبدي‪ ،‬وذكر ناقَته‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫جدَات والمجد الرصين‬ ‫أخي النّ ْ‬ ‫عمْرِو بن حمدَانٍ أبـينـي‬ ‫إلى َ‬
‫وأما قولُ أبي نواس‪:‬‬
‫ل دونه‬ ‫حّ‬‫فما فاته جود ول َ‬
‫البيت‪ ،‬فمن قول الشمردل بن شريك اليربوعي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ل مـسـعـودِ‬ ‫ولتجاوزكُـمْ يا آ َ‬ ‫ما قَصّر المجدُ عنكُمْ يا بني حكـم‬
‫ما عاقبَ الدّهْر بين البيض والسّودِ‬ ‫يحل حيث حللْـتـم ل يَرِيمـكُـمُ‬
‫خدْناً وليس إذا غابوا بـمَـوْجُـودِ‬ ‫ِ‬ ‫إن يشهدوا يوجد المعروف عندهـم‬
‫وقد قال الكميت السلمي‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ح والمكرمَات مَعاً حيث سَارَا‬ ‫يسير أبان قـريع الـسـمـا‬
‫وقول أبي نواس أيضاً‪:‬‬
‫شتَرِي حُسْنَ الثناء بماله‬ ‫فتًى يَ ْ‬
‫مأخوذ من قول الراعي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جدِ َب ْيهَسُ‬‫إذا ما اشترى المَخْزَاةَ بالمَ ْ‬ ‫فتى يشتري حُسْنَ الثناء بـمـالِـه‬
‫بين السفاح وأبي نخيلة‬
‫خيْلة على أبي العباس السفاح‪ ،‬فاستأذنه في النشاد‪ ،‬فقال‪ :‬لعنك ال! ألستَ القائل لمسلمة بن عبد الملك‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫دخل أبو نُ َ‬
‫ويا فارس ال َهيْجَا ويا جبلَ الرضِ‬ ‫أمسلم ٌة يا نَجْـلَ خـير خـلـيفةٍ‬
‫ل من أَوليته نعمةً يقضِـي‬ ‫وما ك ّ‬ ‫ل من التقـى‬ ‫حبْ ٌ‬
‫شكرتك إن الشكر َ‬
‫عليّ لحافاً سابغَ الطولِ والعرضِ‬ ‫وألقيتَ لـمـا أن أتـيتـك زائراً‬
‫ولكن بعض‪ ،‬الذكر أنبَهُ من بعض‬ ‫ونبهْتَ من ذكرى وما كان خامـلً‬
‫ثم أمره بأن ينشد‪ ،‬فأنشده أرجوزة يقول فيها‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫ونركب العْجَاز والوراكا‬ ‫كنا أناساً نرهَبُ الهُـلّكـا‬
‫زُورٌ‪ ،‬وقد كفّر هذا ذاكـا‬ ‫ل ما قد مَرّ في سواكـا‬ ‫وك ّ‬
‫واسم أبي نخيلة الجنيد بن الجون‪ ،‬وهو مولى لبني حماد‪ ،‬كان مقصّدا راجزاً‪.‬‬
‫قيل للخنساء‪ :‬لئن مدحْت أخاك لقد هجوت أباك! فقالت‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ن مُلءةَ الحُـضْـر‬ ‫يتعاوَرَا ِ‬ ‫جارَى أباهُ فأقبـل وهُـمـا‬
‫ساوَى هناك القدر بالقـدر‬ ‫جدّ الجـراء وقَـدْ‬ ‫حتى إذا َ‬
‫قال المجيب هناك‪ :‬ل أدْرِي‬ ‫وعَلَ صياح الناسِ‪ :‬أيهمـا؟‬

‫غلَوائه يَجري‬ ‫ومضى على ُ‬ ‫برقتْ صحيفَةُ َوجْهِ والـدهِ‬


‫لول جَللُ السّنّ والكِـبْـرِ‬ ‫أولى فـأولـى أن يُسَـا ِويَهُ‬
‫صَقْرَانِ قد حَلطّا على َوكْر‬ ‫وهما كأنهمـا وقـد بَـرَزا‬

‫‪279‬‬
‫وقيل لبي عبيدة‪ :‬ليس هذا في شعر الخنساء‪ .‬فقال‪ :‬العامّة أسقط من أن يجاد عليها بمثل هذا‪.‬‬
‫وقد أحسن البحتري في نحو هذا؛ إذ يقول في يوسف بن أبي سعيد‪ ،‬ومحمد بن يوسف الطائي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫تَ َركَ السّماكَ كأنـه لـم يَشـرُفِ‬ ‫جدّ كـجِـدّ أبـي سـعـيدٍ إنــهُ‬ ‫ِ‬
‫لِل ُمعْتدي وهي النّدى لل ُمعْـتَـفِـي‬ ‫س ْمتَهُ أخـلقَـهُ وَهْـيَ الـ ّردَى‬ ‫قا َ‬
‫أخرى التقى شَأواكما في ال َمنْصَف‬ ‫ت فـي‬ ‫وإذا جرى في غايةٍ َوجَ َريْ َ‬
‫قول الخنساء‪:‬‬
‫يتعا َورَان ملءة الحُضْر‬
‫أبرع استعارة‪ ،‬وأنصع عبارة؛ وقد قال عدي بن الرقاع‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫غبْرَاء محكمة هما نَسَجَاها‬ ‫يتعاوران من ال ُغبَار مُـل َءةً‬
‫شرَاها‬ ‫ت نَ َ‬
‫فإذا السنابكُ أِسهل ْ‬ ‫تطوَى إذَا وردا مكاناً جاسياً‬
‫وإلى هذا أشار الطائي في قوله‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫يهي ُم بها عديّ بنُ الرّقاعِ‬ ‫ُتثِيرُ عَجَاجةٌ في كل ثَغرٍ‬
‫وأول من نظر إلى هذا المعنى شاعر جاهلي من بني عقيل فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عفَت حِججًا بعدي وهُنّ ثمـان‬ ‫َ‬ ‫ألَ يا ديارَ الحيّ بالسّـبُـعَـانِ‬
‫وغي ُر أثَافٍ كال ّركِـيّ رِعَـانِ‬ ‫ي مُـهَـدّم‬ ‫فلم يبق منها غي ُر نُؤ ٍ‬
‫به الريحُ والمطارُ كلّ مكـان‬ ‫وآياتُ هابٍ أورقِ اللونِ سافَ َرتْ‬
‫وتمسي بها الجابان تقتـربـان‬ ‫قِفَا ٌر مَرَ ْورَاةٌ تحارُ بها القـطـا‬
‫قميصين أسـمـالً و َيرْتـديانِ‬ ‫ن نَسْجِ الغُبار عليهمـا‬ ‫ن مِ ْ‬
‫يثيرا ِ‬
‫ومن مستحسن رثاء الخنساء وليلى‬
‫وغيرهما من النساء‪:‬‬
‫قال أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي‪ :‬أنشد أبو السائب المخزومي قول الخنساء‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫شتُو لنحّار‬ ‫وإنّ صَخْرًا إذا نَ ْ‬ ‫وإنّ صخرًا لمَ ْولَنا وسيّدُنا‬
‫كأنه عََلمٌ في رأسه نَـارُ‬ ‫وإن صخراً َل َتأْت ّم الهدا ُة بـهِ‬
‫فقال‪ :‬الطلق لي لزم إن لم تكن قالت هذا وهي تتبختر في مشيها‪ ،‬وتنظر في عطفها‪.‬‬
‫ومن مستحسن رثاء الخنساء قولُها ترثي أخاها صخراً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ب لوتـارِ‬ ‫منّاع ضـيمٍ وطَـلّ ٍ‬ ‫ب فل يبعدَ ْنكَ ال من رجـل‬ ‫اذه ْ‬
‫ب غير خَـوّار‬ ‫مركّباً في نصا ٍ‬ ‫قد كنتَ فينا صريحاً غير مؤتشب‬
‫وما أضاءت نجومُ الليلِ للسارِي‬ ‫ت مُطـوّقةٌ‬ ‫ح ْ‬‫فسوف أبكيك ما نَا َ‬
‫وكلّ نفسٍ إلى وقتٍ بمـقـدار‬ ‫أبكي فتى الحيّ نالتْه مـنـيّتـه‬
‫وقولها تعنيه‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫قطّاع أودية للـ ِوتْـرِ طـلبـا‬ ‫شهّـاد أنـجـيةٍ شـدّاد أوهـية‬
‫لقَى الوغَى لم يكن للموت هيّابا‬ ‫سُم العُداة وفكاك الـعُـنـاة إذا‬
‫شمْرِ رَكابـا‬ ‫َن ْهدَ التليل لزُرْق ال ُ‬ ‫ل إذا جار السبيلُ بهم‬ ‫يهدي الرّعي َ‬
‫صدَاقُ‬
‫صيّة بن خُفاف بن امرئ القيس‪ ،‬وتكنى أم عمرو‪ ،‬ومِ ْ‬ ‫والخنساء اسمها تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عُ َ‬
‫ذلك قول أخيها صخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جعِي ومكاني‬ ‫ضَ‬
‫وملّتْ سليمى مَ ْ‬ ‫أرى أم عمرو ل تملّ عيادتـي‬
‫سليمى‪ :‬امرأته‪ ،‬وإنما لقبت الخنساء كناية عن الظبية‪ ،‬وكذلك تسميتهم الذلفاء‪.‬‬
‫والذلف‪ :‬قصر في النف؛ وإنما يريدون به أيضاً أن ذلك من صفات الظباء‪ ،‬وهي أشعر نساء العرب عند كثير من الرّواة؛ وكان الصمعي‬
‫يقدم ليلى الخيلية‪ ،‬وهي ليلى بنت عبد ال بن كعب بن ذي الرحَالة بن معاوية بن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة‪،‬‬
‫وقيل لها الخيلية لقول جدّها كعب‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حتى يَدِبّ على العصا مذكورا‬ ‫ل غلمُنـا‬ ‫نحن الخايل ما يَزَا ُ‬
‫سمّيت به‪ ،‬وليلى أغزر بحراً‪ ،‬وأكثر تصرّفا‪ ،‬وأقوى لفظاً؛ والخنساء أذهب في عمود الرثاء‪.‬‬ ‫قال أبو زيد‪ :‬هذا البيت لها ف ُ‬

‫ل ذلك‪ ،‬فالجملة ما‬


‫قال المبرد‪ :‬كانت الخنساءُ وليلى الخيلية في أشعارهما متقدمتين لكثر الفحول‪ ،‬وقلّما رأيت امرأ ًة تتقدّم في صناعة‪ ،‬وإن ق ّ‬
‫غيْ ُر مُبِينٍ"‪.‬‬
‫ن ُينَشَأُ في الْحِ ْليَةِ وَهُوَ في الخِصامِ َ‬
‫قال ال تعالى‪" :‬أَ َو مَ ْ‬
‫ح بتفجّع على المرثي‪ ،‬فإذا وقع ذلك بكلم صحيح‪ ،‬وَلهْجَة معربة‪ ،‬ونظام غير متفاوت‪ ،‬فهو الغاية من كلم‬ ‫ومن أحسن المراثي ما خلط فيه مد ٌ‬
‫المخلوقين‪.‬‬
‫ن من أجَلّ الكلم قولُ الخنساء‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫واعلمْ أ ّ‬
‫أ ْهلُ المياهِ فما في و ْردِه عَـارُ‬ ‫صخْرُ ورّاد ما ٍء قد تـنـاذَرَه‬ ‫يا َ‬
‫لها سِلَحَان‪ :‬أنيابٌ وأظـفـارُ‬ ‫س َبنْتَى إلى َهيْجَاء ُمعْضلةٍ‬ ‫مَشْيَ ال ّ‬
‫لها حنينان‪ :‬إعـلنٌ وإسـرارُ‬ ‫ف بـهِ‬‫وما عجولٌ على بَ ّو تُطِي ُ‬

‫‪280‬‬
‫ل وإدبـا ُر‬
‫فإنمـا هـي إقـبـا ٌ‬ ‫ترتع في غفلة حتى إذا ادّكرَ ْ‬
‫ت‬
‫صَخْرٌ‪ ،‬وللعيش إحْلءٌ‪ ،‬وإمْرَارُ‬ ‫يوماً بأَ ْوجَع مني حين فارقنـي‬
‫لريبةٍ حين يُخْلِي بيتَه الـجـارُ‬ ‫لم تَرَهُ جار ٌة يمْشِي بساحتـهـا‬
‫قال‪ :‬ومن كامل قولها‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ت َنفْسِـي‬ ‫على إخوانهم لقتَلْ ُ‬ ‫فلول كثرةُ الباكِين حـولـي‬
‫ُأسَلّي النفسَ عنه بالتـَأسّـي‬ ‫وما يبكون مثلَ أَخي‪ ،‬وَلكِـنْ‬
‫وَأذْكُره لكلّ غروبِ شمـس‬ ‫يذكّرنىِ طلوعُ الشمسِ صَخْراً‬
‫يعني أنّها تذكره أول النهار للغارة‪ ،‬ووقت المغيب للضياف‪.‬‬
‫وقد قال ابن الرومي فيما يتعلّق بطَرف من هذا المعنى‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ويُوسِي أو يعوّض أو ُينَسّي‬ ‫رأَيتُ الدهرَ َيجْرَحُ ثم َيأْسـو‬
‫كفى شجوًا لنفي رُزء نفسي‬ ‫أبتْ نفسي الهُلَع لرُ ْزءِ شيء‬
‫وقد وطنتُها لحلـو َرمْـسِ‬ ‫أتجزعُ وحشة لفـراق إلْـف‬
‫وقد أنكر على من تعلّل بالتأسي بما قال غيرُه‪ ،‬فقال في ذلك‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فأنعمتما لـو أنـنـي أتَـعَـلّـل‬ ‫خليليّ قد علّلتمـانـي بـالسـى‬
‫وعيشكما إل ضللٌ مـضَـلّـل‬ ‫أللناس آثارِي‪ ،‬وإلّ فمـا السـى‬
‫ل عنه بعضَ ما يتـحـمّـلُ‬ ‫حمِ ُ‬
‫أيَ ْ‬ ‫وما راحةُ المرزوء في رُزْء غيره‬
‫وليس معينًا ُمثْقَل الظه ِر ُمثْـقَـلُ‬ ‫كِل حامَِليْ عِبْء الرزيّة ُمثْـقَـلٌ‬
‫تعزيكَ بّالمرزوء حـين تـأمـلَ‬ ‫ي مكانـه‬ ‫وضربٌ من الظلم الخف ّ‬
‫بل بَصَر لو أن جـورَك يَعْـدِل‬ ‫لنك يأسوك الذي هـو كـلـمـهُ‬
‫وقالت الخنساء‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لتدركه‪ :‬يا لَهفَ نفسي على صَخْرِ‬ ‫وقائلةٍ والنعش قد فات خـطـوهـا‬
‫حمِلُونَ إلى القبر؟!‬ ‫إلى القبر! ماذا يَ ْ‬ ‫أل ثكـلـتْ ُأ ّم الـذين غَـدَوْا بـهِ‬
‫من الجود يا بُ ْؤسَ الحوادثِ والدهر‬ ‫وماذا يُوَارِي القب ُر تحـت تـرابـهِ‬
‫لتغدو على ال ِف ْتيَانِ بعدك أو تَسْـرِي‬ ‫فشأْنُ المنايا إذا أصـابـكَ َر ْيبُـهـا‬
‫وهذا المعنى كثير قد مرّت منه قطعة جيدة‪ ،‬ولم تزل الخنساء تبكي على أخويها صخ ٍر ومعاوية‪ ،‬حتى أدركت السلم؛ فأقبل بها بنو عمّها‬
‫وهي عجوز كبيرة إلى عمر بن الخطاب رضي ال تعالى عنه‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬هذه الخنساء‪ ،‬وقد قرّحت آماقَها من البكاء في الجاهلية‬
‫خيْ َر بني مضر صخراً‬ ‫والِسلم‪ ،‬فلو َن َه ْيتَهَا لرجونا أن تنتهي‪ ،‬فقال لها عمر رضي ال عنه‪ :‬اتّقي ال وأيقني بالموت‪ ،‬قالت‪ :‬أبكي أبي و َ‬
‫جمْرَة فىِ النار؟ قالت‪ :‬ذلك أشدّ لبكائي عليهم! فرقّ لها عمر وقال‪ :‬خلّوا عن‬ ‫ومعاوية‪ ،‬وإنّي لمو ِقنَة بالموت‪ ،‬قال‪ :‬أتبكِين عليهم وقد صاروا َ‬
‫عجوزكم ل أبا لكم! فكل امرئ يبكي شَجْوَهُ‪ ،‬ونام ا ْلخَليّ عن بكاء الشجي‪.‬‬
‫خيْرَى مضر‪ ،‬فمن أنكر فليغيّر‪ ،‬فل يغير ذلك عليه أحد‪ ،‬وكان‬ ‫خذُ بيد ابنيه معاوية وصخر في الموسم‪ ،‬ويقول‪ :‬أنا أبو َ‬ ‫وكان عمرو بن الشريد يَأ ُ‬
‫يقول‪ :‬من أتى بمثلهما أخوين من قبل فله حكمه‪ ،‬فتُقرّ له العرب بذلك‪.‬‬
‫وكان النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يقول‪" :‬أنا ابن الفواطم من قريش‪ ،‬والعواتك من سُليم‪ ،‬وفي سُليم شرف كثير"‪.‬‬

‫صمّة‬
‫وكان يقال لمعاوية‪ :‬فارس الجَوْن‪ ،‬والجَوْن من الضداد‪ ،‬يقال للسود والبيض‪ ،‬وقتلته بنو مرّة‪ ،‬قتله هاشم بن حَ ْرمَلة‪ ،‬فطلبه دُرَيد بن ال ّ‬
‫حتى قتله‪ ،‬وأما صخر فغزا أسد بن خزيمة فأصاب فيهم‪ ،‬وطعنه ثوْر بن ربيعة السدي‪ ،‬فأدخل في جوفه حلقًا من الدرع فانْ َدمَل عليه‪ ،‬فنتأت‬
‫قطعة من جنبه مثل اليد‪ ،‬فمرض لها حولً‪ ،‬ثم أشير عليه بقطعها‪ ،‬فأحموا له شفرة ثم قطعوها‪ ،‬فما عاش إل قليلً‪.‬‬
‫ح َميّر الخفاجي‪ ،‬وكان لها محبّا‪ ،‬وله فيها شع ٌر كثير‪ ،‬وقتله بنو عوف بن عُقيل‪ ،‬قتله عبد ال بن‬
‫ومن جيد شعر ليلى الخيلية ترثي تَ ْوبَةَ بن ال ُ‬
‫سالم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأركان جسمي أيّ نظرة ناظـرِ‬ ‫عمَايَة دونـنـا‬ ‫ن من َ‬ ‫نظرتُ و ُركْ ٌ‬
‫سَوابقُها مثل القَطَا المـتـواتـرِ‬ ‫ي مُـغـيرةً‬ ‫فآنست خيلً بالـ ّرقَـ ّ‬
‫فتى ما قتلتمْ آل عَوْفِ بن عامـرِ‬ ‫ن َتكُنِ ال َقتْلَـى بَـوَا ًء فـإنـكـم‬‫فإ ْ‬
‫لقاءُ المنايا دَارِعاً مثـل حـاسِـرِ‬ ‫فل يُ ْب ِعدَنْك اللـه يا تَـ ْوبَ إنـمـا‬
‫وأسمرَ خَطيّ وجرداء ضَـامِـرِ‬ ‫أتتْهُ المنـايا بـين دِ ْرعِ حـصـينةٍ‬
‫قلئص يَ ْفحَصْنَ الحصَى بالكَراكِرِ‬ ‫ن فتَى الفتـيان تَـ ْوبَة لـم يُنـخْ‬ ‫كأ ّ‬
‫وللحرب تَ ْرمِي نَارُها بالشَـرَائرِ‬ ‫حفَاظِ وللـنُـهـى‬ ‫ولم ُي ْدعَ يوماً لِلْ ِ‬
‫وللخيل َتعْدُو بال ُكمَاةِ المَسَـاعِـرِ‬ ‫وللبازل الكَ ْومَاء يَرْغُو حُـوَارُهـا‬
‫ل دون جـا ٍر مُـجَـاوِرِ‬ ‫عيَا ً‬
‫ِل ِقدْرٍ ِ‬ ‫فتى ل َتخَطّاه الـ ّرفَـاق‪ ،‬ول يَرَى‬
‫وأشجع من َليْثٍ بخـفّـانَ خـادرِ‬ ‫حيَا مـن فـتـاةٍ حَـيِيةٍ‬ ‫فتى كان أَ ْ‬
‫حدَى الكبـائر‬ ‫ت بالناس إ ْ‬ ‫ختَلَجَ ْ‬
‫إذا ا ْ‬ ‫فتى ل تراهُ النّابُ إلْفاً ِلسَقـبِـهـا‬
‫أتاكَ فلمْ يقنعْ سِوَاك بِـنَـاصِـرِ‬ ‫وكنتَ إذا مـوله خـاف ظـلَمة‬
‫لّسَان ومدلج السّرَى غيرَ فاتـرِ‬ ‫وقد كنت مَرْهُوبَ السّنان و ِبيّن ال‬

‫‪281‬‬
‫لتوبةَ في حدّ الشتاء الصّـنَـابِـرِ‬ ‫ول تأخذ الكُومُ الجِلدُ سـلحَـهـا‬
‫شرَطه‪ :‬ائتني به وإياك أن تَرُوعه‪ .‬فأتاه فقال‪ :‬أجب أمير المؤمنين‪ ،‬فقال‪ :‬إياه‬ ‫وقال بعض الرواة‪ :‬بينا معاوية يسير إذ رأى راكباً‪ ،‬فقال لبعض ُ‬
‫أردت‪ ،‬فلما دنا الراكب حدَر لثامه فإذا ليلى الخيلية‪ ،‬فأنشأت تقول‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ب َرحْلي نحو ساحتك الركابُ‬ ‫معاوِيَ لم أ َكدْ آتيك تَـهْـوي‬
‫لكَ ُم قَنعها السّـرَابُ‬ ‫إذا ما ا َ‬ ‫تجوبُ الرضَ نحوك ما تَأنّى‬
‫ِل َتنْعشها إذا بخل السـحـابُ‬ ‫وكنتَ المرتجى وبك استغاثت‬
‫قال‪ :‬فقال‪ :‬ما حاجتُك؟ قالت‪ :‬ليس مثلي يَطْلُب إلى مثلك حاجة‪ ،‬فتخيّر أنت! فأعطاها خمسين من البل؛ ثم قال‪ :‬أخبريني عن مُضَر‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫فاخِرْ بمضر‪ ،‬وحَارِب بقيس‪ ،‬وكاثِ ْر بتميم‪ ،‬وناظر بأسد‪ ،‬فقال‪ :‬ويحك يا ليلى! أكما يقول الناس كان تَوْبة؟ قالت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬ليس كل‬
‫شجَى‬‫سبْطَ البنان‪ ،‬حديدَ اللسان‪َ ،‬‬
‫الناس يقول حقّا‪ ،‬الناسُ شجر ُه بَغْي‪ ،‬يحسدون النّعم حيث كانَتْ‪ ،‬وعلى مَنْ كا َنتْ؛ كَان يا أمير المؤمنين َ‬
‫ق فيه‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫خبَر‪ ،‬عفيف المِئزر‪ ،‬جميل النظر‪ ،‬وكان كما قُلت‪ ،‬ولم أتعدّ الح ّ‬ ‫القران‪ ،‬كريم المَ ْ‬
‫أَلدّ مُِلدّ َيغْلِبُ الحق باطِلُـهْ‬ ‫بعيدُ الثرى ل يبلغُ القَ ْو ُم َقعْرَهُ‬
‫فقال معاوية‪ :‬ويحك يا ليلى! يزعم الناس أنه كان عاهراً خارباً‪ ،‬فقالت من ساعتها مرتجلة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جمّا نوافلُـهْ‬ ‫جواداً على العِلّت َ‬ ‫َمعَاذَ إلهي كـان والـلـه تـوبةٌ‬
‫تحَالِف كفّاه النّدَى وأنـامِـلُـهْ‬ ‫جيّا يرى البخـلَ سُـبّة‬ ‫أغرّ خَفَا ِ‬
‫جميلً محَـيّاه قـلـيةً غـوائِلُة‬ ‫عفيفًا َبعِيدَ الهَمّ صُلبًا قَـنَـاتُـهُ‬
‫لديه أتاه نَـيْلُـه وفَـوَاضِـلُـهْ‬ ‫وكان إذا ما الضيفُ أَرْغَى بعيرهُ‬

‫على الضيف والجيرانِ أنك قاتلُة‬ ‫وقد علم الجوعُ الذي كان سـاريَاً‬
‫ت َمنَازِلُـهْ‬ ‫إذا ما لئيمُ القوم ضَاقَ ْ‬ ‫حبُ الباع يا تَوْبُ بالقرَى‬ ‫وأنك رَ ْ‬
‫ضيْفُ ُه و ُمنَا ِزلُـهْ‬‫ويُضحِي بخيرٍ َ‬ ‫يَبيت قريرَ العين مَنْ كان جَـارَهُ‬
‫ت بتوبة َقدْرَه‪ ،‬فقالت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬وال لو رأيتَهُ وخبَ ْرتَهُ لعلمت أني مقصّرة في َنعْتِهِ‪ ،‬ل أبلغ ُكنْهَ‬ ‫فقال لها معاوية‪ :‬ويحك يا ليلى! لقد جُ ْز ِ‬
‫ما هو له أهل‪ .‬فقال لها معاوية‪ :‬في أي سنّ كان؟ فقالت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل قِرْن ُينَاضِلُـهْ‬ ‫وأقْص َر عنه ك ّ‬ ‫أتتْهُ المنايا حين تَـ ّم تَـمَـامُـهُ‬
‫فترضى به أشبالُه وحـلئِلُـهْ‬ ‫ب يَحْمي عَرينَه‬ ‫وصار كليثِ الغا ِ‬
‫ب مَقَاتـلُـهْ‬‫وسُ ّم ذُعَافٌ ل تصَا ُ‬ ‫عطوفٌ حلي ٌم حين يُطَْلبُ حِ ْلمُـهُ‬
‫جدْتُ حيث‬ ‫فأمر لها بجائزة‪ ،‬وقال‪ :‬أي ما قلت فيه أشعر؟ قالت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬ما قلت شيئاً إل والذي فيه من خِصال الخير أكثر‪ ،‬ولقد أ َ‬
‫أقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فتًى من عُقيلٍ سادَ غيرَ ُمكَلّـفِ‬ ‫جَزَى ال خيراً والجزا ُء بكَـفّـه‬
‫عليه فلم ينفكّ جَمّ الـتّـصَـرّفِ‬ ‫فتى كانت الدنيا َتهُون بأسْـرِهـا‬
‫ق مُسَوّف‬ ‫عيَتْ كلّ خِ ْر ٍ‬ ‫إذا هي أَ ْ‬ ‫ينالُ عَلِـيّات المـور بِـهَـ ْونَةٍ‬
‫ن قَ ْرقَـفِ‬ ‫خمْر َبيْسَا َ‬
‫ِبدِ ْريَاقَ ٍة من َ‬ ‫ش ْبتُهُ‬‫هو المِسْك بالَرْي الضحاكيّ ِ‬
‫ت توبة كان؟ قالت‪ :‬أصلح الُ المير! وال ما قلتُ إل حقّا‪ ،‬ولقد قصرت‪،‬‬ ‫ويقال‪ :‬إنها دخلت على مروان بن الحكم فقال‪ :‬ويحك يا ليلى! أكما َنعَ ّ‬
‫حمَى الوطيس بالطّعن والضرب‪ ،‬كان وال‬ ‫وما رأيت رجلً قطّ كان أ ْربَطَ على الموت جَأْشاً‪ ،‬ول أَقل انحياشاً حين تحتدم بَرَاكاءُ الحرب‪ ،‬ويَ ْ‬
‫كما قلت‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫شيْبُ فوق المسايحِ‬ ‫إلى أن عَلَهُ ال ّ‬ ‫خيْراً َلدُن نَشـا‬ ‫ل يزداد َ‬ ‫فتى لم يَ َز ْ‬
‫ضَرُوباً على أقْرَانِهِ بالصـفـائحِ‬ ‫تراه إذا ما الموت حَـلّ بـوردِه‬
‫إذا انْحَازَ عن أقْرَانِه كلّ سَابـحِ‬ ‫شجاعٌ لدى الهيجاء َثبْتٌ مـشَـايحٌ‬
‫َوصُولً ل ُقرْباه يُرَى غيرَ كالـحِ‬ ‫فعاش حميدًا ل ذميماً فـعـالـهُ‬
‫فقال لها مروان‪ :‬كيف يكون تَوبة على ما تقولين وكان خارباً؟ والخارب سارق البل خاصة‪ ،‬فقالت‪ :‬والِ ما كان خارباً‪ ،‬ول للموت هائباً‪،‬‬
‫ب ال نَحْبه‪ ،‬وأقصر عن لهوه‪ ،‬ولكنه كما قال ابن عمّه‬ ‫ولكنه كان فتًى له جاهِلية‪ ،‬ولو طال عمره وأَنسأَه الموتُ لرْعَوَى قلبه‪ ،‬ولقضى في ح ّ‬
‫مسلمة بن زيد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫قتيلً صريعاً للسيوف الـبـواتـرِ‬ ‫فلله قوم غـادروا ابـن حُـمَـيّرٍ‬
‫صبْراً على اليوم العبوس القُماطرِ‬ ‫و َ‬ ‫لقد غادَرُوا حَزْماً وعزمـًا ونـائلً‬
‫عظيم الحوايا ُلبّ ُه غـيْرُ حـاضـرِ‬ ‫ض ْنفَـر‬ ‫إذا هابَ وِ ْردَ الموت كلّ غَ َ‬
‫سيْبٍ في السنين القـواشـر‬ ‫وجاد ب َ‬ ‫مضى قدُماً حـتـى يلقِـيَ وِ ْردَهُ‬
‫فقال لها مروان‪ :‬يا ليلى‪ ،‬أعوذ بال من درك الشقاء‪ ،‬وسوء القضاء‪ ،‬وشماتة العداء‪ ،‬فوال لقد مات تَوْبة‪ ،‬وإن كان من فتيان العرب وأشدّائهم‪،‬‬
‫ولكنه أدركه الشقاءُ؛ فهلك على أحوالِ الجاهلية‪ ،‬وترك لقومه عداوة‪.‬‬
‫ثم بعث إلى ناس من عقيل فقال‪ :‬وال لئن بلغني عنكم أمرٌ أكرهُه من جهة توبة لصلبنكم على جُذوع النخل‪ ،‬إياكم ودَعْوَى الجاهلية‪ ،‬فإن ال قد‬
‫جاء بالسلم‪ ،‬و َهدَم ذلك كلّه‪.‬‬
‫وروى أبو عبيدة عن محمد بن عمران المرزباني قال‪ :‬قال أبو عمرو بن العلء الشيباني‪ :‬قدمَتْ ليلى الخيلية على الحجاج بن يوسف وعنده‬

‫‪282‬‬
‫س معهم إذ أقبلت جارية فأشار إليها وأشارت إليه؛ فلم ثلبث أن جاءت جارية من أجمل النساء وأكملهن‪،‬‬ ‫وجوهُ أصحابه وأشرافهم‪ ،‬فبينا هو جال ٌ‬
‫ت منه سلّمتْ؛ قالتْ‪ :‬أتأذنُ أيها المير‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬فأنشدت‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن محاورةً؛ فلمّا دن ْ‬
‫وأتمهنّ خَلْقاً‪ ،‬وأحسنه ّ‬
‫يُ َقصّ ُر عنها منْ أراد مَداها‬ ‫أحجّاجُ إن ال أعطاك غايةً‬

‫ث يَرَاهـا‬‫منايا بكفّ ال حـي ُ‬ ‫ج ل ُيفْلَلْ سِلحُك إنما ال‬ ‫أحجّا ُ‬


‫تتبّع أقصى دائها فشـفـاهَـا‬ ‫إذا ورد الحجاجُ أرضاً مريضةً‬
‫غُل ٌم إذا َهزّ القنا َة ثَـنـاهـا‬ ‫شفاها من الداء العَياء الذي بها‬
‫ل قِـراهـا‬ ‫أعدّ لها َقبْلَ النزو ِ‬ ‫سمِع الحجاجُ صَوْت كتيبةٍ‬ ‫إذا َ‬
‫بأيدي رجال َيحْلُبون صَراهـا‬ ‫أعدّ لها مَصْقُـول ًة فَـارِسـيّةً‬
‫حتى أتت على آخرها‪ .‬فقال الحجاج لمنْ عنده‪ :‬أتعرفون مَنْ هذه؟ قالوا‪ :‬ما نعرفها‪ ،‬ولكن ما رأينا امرأة أطْلَقَ لساناً منها‪ ،‬ول أجملَ وَجْهاً‪ ،‬ول‬
‫أحسن لَفْظاً‪ ،‬فمَنْ ِهيَ أصلح ال المير؟ قال‪ :‬هي ليلى الخيلية صاحبة توبة بن الحمير التي يقول فيها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جنْـدَلٌ وصـفـائحُ‬ ‫عليّ ودوني َ‬ ‫خيَليّة سَـلّـمَـتْ‬ ‫ولو أن ليلى ال ْ‬
‫إليها صدًى من جانب القبر صَائِحُ‬ ‫لسّل ْمتُ تسليمَ البـشـاشة أو َزقَـا‬
‫ثم قال لها‪ :‬يا ليلى‪ ،‬أنشدينا بعضَ ما قاله فيك توبة‪ ،‬فأنشدته‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وشطّتْ نواها واستـمـ ّر مَـرِيرُهـا‬ ‫نََأ ْتكَ بِلـيلـى دارُهـا ل تَـزُورُهـا‬
‫وقد رَابني منها الغَـداةَ سـفـورُهـا‬ ‫وكنتُ إذا ما زُ ْرتُ ليلى تبـ ْرقَـعَـتْ‬
‫يَرَى لي ذَنبـاً غـيرَ أنـي أزورُهـا‬ ‫ي دِماءُ البُـدْن إن كـان زَوْجُـهـا‬ ‫عل ّ‬
‫سلَمي ما يَصِيرُها؟‬ ‫فهل كان في قول ا ْ‬ ‫وأني إذا ما ز ْرتُها قلت‪ :‬يا اسْلَـمـي‬
‫سقَاك من الغُرّ الغوادي مَـطـيرُهـا‬ ‫ن تَـ َرنّـمـي‬ ‫حمام َة بَـطْـن الـوا ِديَيْ ِ‬
‫ن بَـرِيرُهـا‬ ‫ول ِزلْتِ في خَضْرا َء دا ٍ‬ ‫أبيني لنـا ل زال رِيشُـك نـاعـمـاً‬
‫س ما ل يَضِيرُهـا‬ ‫خشَى النف ُ‬ ‫شَعاعًا وتَ ْ‬ ‫وقد تذهب الحاجات يطلبها الـفـتـى‬
‫عَرَائ َر من َه ْمدَانَ بيضًا نُحُـورُهـا؟‬ ‫أيذهب َر ْيعَان الـشـبـاب ولـم أَزرْ‬
‫بنَجْرَانَ للتفّتْ علـيّ قـصـورُهـا‬ ‫ولو أن ليلى فـي ذُرَى مُـتَـمَـنّـع‬
‫بنا نحو ليلى وهي تجري صقورُهـا‬ ‫س تَـرْتـمـي‬ ‫يق ّر بعيني أنْ أرى العِي َ‬
‫أرى نَار ليلى أو يَرَاني بَـصِـيرُهـا‬ ‫شرِفُ بالغَ ْورِ اليَفـاع لـعـلّـنـي‬ ‫وأ ْ‬
‫ن نَ ِقيّات الحـواشـي تُـدِيرُهـا‬ ‫عيو ٌ‬ ‫حمَام المَ ْوتِ لـيلـى‪ ،‬ورَاقَـنـا‬ ‫أرتنا ِ‬
‫ط إل متبرقعة‪ ،‬فأرسل إليّ رسولً إنه ملمّ بنا‪ ،‬فنظر‬ ‫حتى أتت على آخرها‪ .‬فقال‪ :‬يا ليلى‪ ،‬ما رابه من سفورك؟ فقالت‪ :‬أيها المير‪ ،‬ما رآني ق ّ‬
‫ت لذلك من أمرهم‪ ،‬فلمّا جاء ألقيت بُرقعي وسَ َفرْت فأنكر ذلك‪ ،‬فما زاد على التسليم وانصرف‬ ‫طنْ ُ‬ ‫أهلُ الحيّ رسوله فأعدّوا له وكمنوا؛ ف َف ِ‬
‫ت أنه خضع‬ ‫ل فظننْ ُ‬
‫راجعاً‪ .‬فقال لها الحجاج‪ :‬ل درّك! فهل كانت بينكما ريبة قط؟ قالت‪ :‬ل والذي أسأله صلحك‪ ،‬إل أني رأيت أنه قال قو ً‬
‫لبعض المر‪ ،‬فقلت‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حيِيتَ سبـيلُ‬ ‫فليس إليها ما َ‬ ‫وذِي حاجة قلْنا له‪ :‬ل تبحْ بها‬
‫وأنت لُخْرى صاحبٌ وخليلُ‬ ‫ب ل ينبغي أن نَخُونَهُ‬ ‫لنا صاح ٌ‬
‫فما كلّمني بشيء بعد ذلك حتى فرّق الموت بيني وبينه‪ .‬فقال لها‪ :‬حاجَتكِ؟ قالت‪ :‬أن تحملني إلى قتيبة بن مسلم على البريد إلى خراسان‪ ،‬فحملها‬
‫فاستظرفها قتيبة ووَصلها‪ ،‬ثم رجعت فماتت بساوَة‪ ،‬و َقبْرُها هناك‪.‬‬
‫وروى المبرّد أنها لمّا أنشدته البيات "أحجاج إنّ ال أعطاك"‪ ...‬إلى قولها‪" :‬غلم إذا هزّ القناة ثناها" قال لها‪ :‬ل تقولي غلم‪ ،‬ولكن قولي‪:‬‬
‫ت سعيد بن العاص الموية‪ ،‬وهند‬ ‫همام‪ ،‬ثم قال لها‪ :‬أي نسائي أحَبّ إليك أن أُنزلك عندها؟ قالت‪ :‬ومن نساؤك أيها المير؟ قال‪ :‬أم الجلس بن ُ‬
‫بنت أسماء بن خارجة الفزارية‪ ،‬وهند بنت المهلب بن أبي صفْرة ال َعتَكية‪ .‬قالت‪ :‬هذه أحبّ إليّ‪ .‬فلمّا كان الغد دخلت إليه فقال‪ :‬يا غلم‪ ،‬أعطها‬
‫خمسمائة‪ .‬قالت‪ :‬أيها المير‪ ،‬اجعلْها أُدماً‪ .‬قيل لها‪ :‬إنما‪ ،‬أمر لك بشاء‪ ،‬فقالت‪ :‬الميرُ أكرم من ذلك‪ ،‬فجعلها إبلً أُدماً استحياء؛ وإنما كان أمر‬
‫لها بشاء أولً‪ ،‬والدم أكرمها‪.‬‬
‫وأول هذا الحديث عن رجل من بني عامر بن صعصعة يقال له َورْقاء قال‪ :‬كنت عند الحجاج فدخل الذِن فقال‪ :‬أصلح ال المير! بالباب‬
‫امرأة َت ْهدِ ُر كما يَ ْهدِرُ البعير النادّ‪ ،‬قال‪َ :‬أدْخِلْها‪ ،‬فلمّا دخلت نَسبها فانتسبَتْ له‪ .‬فقاد‪ :‬ما أَتى بك يا ليلى؟ قالت‪ :‬إخلفُ النجوم‪ ،‬وقلّة الغيوم‪ ،‬وكلَبُ‬
‫ج ْهدِ‪ ،‬وكنت لنا بعد ال ال ّر ْفدَ‪.‬‬ ‫البَرْد‪ ،‬وشدّة ال َ‬
‫قال لها‪ :‬أخبريني عن الرض‪ .‬قا لت‪ :‬الرض ُم ْغبَرّة‪ ،‬والفجَاج مقشعرّة‪ ،‬وأصابتْنا سنون ُمجْحِفة مُظْلِمة‪ ،‬لم تَ َدعْ لنا ُهبَعاً ول ُربَعاً‪ ،‬ول عافِطة‬
‫ول نافطة أهلكت الرجال‪ ،‬ومزَقت ال ِعيَال‪ ،‬وأفسدت الموال‪ ،‬وأنشدت البيات التي مضت آنفاً‪ ،‬فالتفتَ الحجاج إلى أصحابه‪ .‬وقال‪ :‬هل تعرفون‬
‫هذه؟ قالوا‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬هذه ليلى الخيلية التي تقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حتى يَدِبّ على العَصَا مذكورا‬ ‫نحن الخايلُ ل يزالُ غُلمُنـا‬
‫ق بُـحـورا‬ ‫حُزْنًا وتلقانا الرّفا ُ‬ ‫ح إذا َف َقدْنَ َأ ُكفّـنـا‬
‫تبْكِي الرما ُ‬
‫وفي آخر حديثها قال لها‪ :‬أنشدينا بعض شعرك‪ ،‬فأنشدته‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صبْهُ في الحياة الـمَـعَـايِرُ‬ ‫إذا لم تُ ِ‬ ‫ل َعمْرك ما بالموتِ عارٌ على الفتـى‬
‫فل ُبدّ يومًا أن يُرَى وَهْوَ صَـابِـرُ‬ ‫ومن كان ممّا يُحدِثُ الدهر جازعـاً‬
‫لدى الحرب إن دارَت عليك المقادرُ‬ ‫فل يُ ْب ِعدَ ْنكَ ال يا تَـوْبُ هـالـكـاً‬

‫‪283‬‬
‫وكل امرئ يوماً إلى اللـه صـائ ُر‬ ‫فكل جديد أو شبـاب إلـى بِـلًـى‬
‫ضنّا وطال التعَـاشُـر‬ ‫شتَاتٍ وإن َ‬ ‫َ‬ ‫وكل قَـ ِر ْينَـيْ ألـفَةٍ لِـتَـفَـرّقٍ‬
‫ل من دارتْ علـيه الـدوائرُ‬ ‫وأحْف ُ‬ ‫فأقسمت أبكي بعد تـوبةَ هـالـكـاً‬
‫فقال الحجاج لصاحب له‪ :‬اذهب بها فاقطعْ عني لسانها‪ ،‬فدعا لها بالحجّام ليقطع لسانها‪ .‬فقالت له‪ :‬ويحك! إنما قال لك المير‪ :‬اقطع لساني‬
‫بالعطاء‪ ،‬فارجع إليه فاسْأَله‪ ،‬فسأله فاستشاط غيظاً‪ ،‬وهّم بقطع لسانه‪ ،‬ثم أمر بها فأدخلت فقالت‪ :‬أيها المير‪ ،‬كاد يقطع مِقْولي‪ ،‬وأنشدته‪:‬‬
‫البسيط‪:‬‬
‫س َتغْفَرُ الـصّـمَـدُ‬
‫إل الخليفةَ والمُ ْ‬ ‫حجّاج أنت الذي ما فـوقَـه أَحَـدٌ‬
‫وَأنْتَ للناس نورٌ في الدّجَـا يَقـدُ‬ ‫حرْب إن لقحتْ‬ ‫حجّاج أَنتَ شهابُ ال َ‬
‫حنَين مائة من البل‪ ،‬وأعطى العباس‬ ‫احتذى الحجاجُ في قوله‪" :‬اقطع لسانها" قولَ النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لمّا أعطى المؤلفة قلوبهم يوم ُ‬
‫بن مرداس أربعين فسخطها وقال‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ِد بين عُـ َي ْينَةَ والقـرعِ‬ ‫أتجعل َن ْهبِي و َنهْبَ ال ُعبَـيْ‬
‫جمَعِ‬‫يفوقان مِرْداسَ في َم ْ‬ ‫وما كان حِصنٌ ول حَابسٌ‬
‫ومن تَضَع اليوم ل يرفعِ‬ ‫وما كنت إل امرًأ منـهُـمُ‬
‫حصْن بن حذيفة بن َبدْر سيد فزارة‪ ،‬وحابس‪ :‬أبو القرع بن حابس‪ ،‬وقد تقدّم نسبه ‪-‬‬ ‫ع َييْنة بن ِ‬
‫العُبيد‪ :‬اسم فرسه‪ ،‬وحصن الذي ذكره‪ ،‬هو أبو ُ‬
‫فأمر النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بإحضاره‪ ،‬فقال‪ :‬أنت القائل‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫د بين القرع وعيينة‪.......‬‬ ‫أتجعل نهبي ونهب العبـي‬
‫شعْرَ وماينبغي لهُ"‪ .‬فقال‪ :‬قم يا علي فاقطع لسانه‪ .‬قال العباس‪ :‬فقلت‪:‬‬ ‫وكان النبي‪ ،‬عليه الصلة والسلم‪ ،‬كما قال ال‪ ،‬عزَ وجل‪" :‬وما عّلمْناهُ ال ّ‬
‫ض فيك ما أمرت‪ ،‬فمضى بِي حتى أدخلني الحظائر‪ ،‬فقال‪ :‬اعت ّد ما بين الربعين إلى مائة‪ ،‬قلت‪ :‬بأبي‬ ‫يا عليّ‪ ،‬وإنك َلقَاطِعٌ لساني؟ قال‪ :‬إني ُممْ ٍ‬
‫أنت وأمي! ما أَحلمكم وأعلمكم وأعدلكم وأكرمكم! فقال‪ :‬إن رسولَ ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أعطاك أربعين‪ ،‬وجعلك من المهاجرين فإن شئت‬
‫خذْ مائة‪ ،‬وكن من المؤلَفة قلوبهُم‪ .‬فقلت‪ :‬أشِرْ عليّ؟ فقال‪ :‬إني آمرك أن تأخذ ما أعطاك‪ .‬فأخذتها‪.‬‬ ‫خذْها‪ ،‬وإن شئت ف ُ‬
‫فُ‬
‫جعْدي فأَفحمته‪.‬‬ ‫وكانت ليلى الخيلية قد حاجّت النابغة ال َ‬
‫س فيك حين ولّوك! فضحك عبدُ‬ ‫ودخلت على عبد الملك ابن مروان وقد أسنّت فقال‪ :‬ما رأى تَ ْوبَ ُة فيك حتى أحبك؟ قالت‪ :‬رأى فيّ ما رأى النا ُ‬
‫الملك حتى بدَتْ له سن سوداء كان يُخْفيها‪.‬‬
‫وقالت هند بنت أسد الضبابية‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فتى كان َزيْناً للمواكب والشّـ ْربِ‬ ‫حمَى‬
‫لقد مات بالبيضاء من جانب ال ِ‬

‫كما لَذتِ العَصْماء بالشاهقِ الصعب‬ ‫يلوذُ به الجاني مخـافة مـا جَـنَـى‬
‫ي لَ يرْ َويْن بالبا ِردِ الـعَـذْبِ‬
‫صَوادِ َ‬ ‫تظلّ بناتُ العمّ والـخـالِ حَـولـه‬
‫وقالت أم خالد النميرية تشبب بأثال الكلبي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ب هبـوبُـهـا‬ ‫أتتْنا بريّاه فطا َ‬ ‫ح من نحو أرضهِ‬ ‫إذا ما أتتْنا الري ُ‬
‫جنُوبُهـا‬ ‫وريح خزامى باكَ َر ْتهَا َ‬ ‫عنْبَـرٌ‬ ‫أتتْنا ِبمِسك خالط المِسْك َ‬
‫ت تَفِيضُ غُروبهـا‬ ‫وتنهلّ عبرا ٌ‬ ‫أحِن لذِكراه إذا مـا ذَكَـرْتـهُ‬
‫حبِيبُها‬ ‫ل نَ ْفسٍ غاب عنها َ‬ ‫وإعوا َ‬ ‫حنينَ أسي ٍر نـازح شُـ ّد قـيدُهُ‬
‫ل من الضّباب حبّا شديداً‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫وأنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب‪ ،‬لمّ الضحاك المحاربية وكانت تحبّ رج ً‬
‫جدُ‬‫ج أبثّك عن بعض الذي َأ ِ‬ ‫عرّ ْ‬ ‫يا أيها الراكب الغادي لِطـ ّيتِـهِ‬
‫ت به فوق الذي وجَدوا‬ ‫جدْ ُ‬‫إل َو َ‬ ‫ض ّم َنهُمْ‬ ‫جدٍ تَ َ‬ ‫س من َو ْ‬ ‫ما عالَج النا ُ‬
‫وودّه آخـر اليام أجـتـهـد‬ ‫حسبي رِضاه وأنّي في مَسَ ّرتِه‬
‫وقالت‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لدى ال ُركْنِ أو عند الصّفَا َيتَحَرّجُ‬ ‫لقَى الضبَابيّ خالياً‬ ‫هل القلبُ إن َ‬
‫حديثٌ كتنفيس المريضين مُزْعجُ‬ ‫وأَزْعَجنا قُ ْربُ الفراقِ‪ ،‬وبينـنـا‬
‫غَرِيضاً أَتى أصحابَه وهو منْضَجُ‬ ‫شوَى بحـرّه‬ ‫حديثٌ لَوَ أنّ اللح َم يُ ْ‬
‫شمِيّ وهو أشبه‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وأنشد الزبير بن بكار لحليمة الخُضرية‪ ،‬وقد أنشدها المبرد لنبهان ال َعبْ َ‬
‫ذُرَى عَقداتِ البرعِ ال ُمتَـقَـاودِ‬ ‫يق ّر بعيني أن أَرى مَن مكـانُـهُ‬
‫خدِ‬
‫سَُل ْيمَى وإن ملّ السّرى كل وا ِ‬ ‫ت بـه‬ ‫وأَنْ أَ ِردَ الماءَ الذي شَ ِربَـ ْ‬
‫وإنْ كان مخلوطاً بسمّ الَسـا ِودِ‬ ‫وألصِقَ أحْشائي ببَـ ْر ِد تُـرَابِـه‬
‫وقالت الفارعَة بنت شداد ترثي أخاها مسعوداً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫شجْـوُه بـادِي‬ ‫عبَرات َ‬ ‫بكا َء ذِي َ‬ ‫يا عينُ بَكي لمسعـود بـن شـدّادِ‬
‫ل إذا ما ضُنّ بـالـزادِ‬ ‫جفُو العِيا َ‬‫يَ ْ‬ ‫ف ول‬ ‫شحْمُ السّـدي ِ‬ ‫من ل يذابُ له َ‬
‫يخشى الر ِزيّة بين المالِ والنـادِي‬ ‫ل مُـنـتـبِـذاً‬ ‫ول يحل إذا ما حـ ّ‬
‫فتّاح ُمبْـهَـمَةٍ‪ ،‬حـبّـاس أَ ْورَادِ‬ ‫حكَمة‪ ،‬نَقّـاض مُـبْـ َرمَةٍ‬ ‫قوال مُ ْ‬
‫ع َمغْـلَـبَة‪ ،‬فـكَـاكُ أقـيادِ‬‫َمنّا ُ‬ ‫ب مَـ ْرقَـبَةٍ‬‫ل مَسغَـبةٍ‪َ ،‬وثّـا ُ‬ ‫قتّا ُ‬

‫‪284‬‬
‫لعُ أنـجـاد‬ ‫حمّال مُضِْلعَة‪ ،‬طَـ ّ‬ ‫ل مُمرِعَة‪ ،‬فَرّاج مُفْـظِـعة‬ ‫حَل ُ‬
‫شدّاد أَوهِـيَة‪ ،‬فـرّاج أَسْــدَادِ‬ ‫حمّـالُ ألـويةٍ‪ ،‬شـهّـادُ أنْـدية‬
‫َ‬
‫َزيْنُ القَرِين و ِنكْل الظالمِ العـادِي‬ ‫جمّاع كل خصال الخير قد علموا‬
‫يَوْماً رهينُ صفيحـاتٍ وأَعْـوَادِ‬ ‫ل فـتًـى‬ ‫أبا ُزرَارة ل تَبعَدْ فـكـ ّ‬
‫نَ ْفسِي فداؤُك من ذي كرْبة صَادِي‬ ‫هل سق ْيتُمْ‪ ،‬بني جَ ْرمٍ‪ ،‬أسـي َركَـم‬
‫يَخْلُو به الحيّ أو َيغْدو به الغَادِي‬ ‫نعم الفتى‪ ،‬ويمينِ ال‪ ،‬قد علمـوا‬
‫عند الشتاءِ وقد َهمّوا بـإخـمـاد‬ ‫ن مشـهـدَهُ‬ ‫هو الفتى يحمدُ الجيرا ُ‬
‫مُث َعنْجِرًا بعد ما َتغْلـي بـإ ْزبَـاد‬ ‫الطاعن الطعنةَ النّجلء يَت َبعُـهـا‬
‫إلى ذَرَاهُ وغيثُ المُحْوَجِ الغَـادِي‬ ‫والسابئ الزّقّ للضيافِ إن نزلُوا‬
‫والمحسنات من النساء كثير‪ ،‬وقد تفرّق لهنّ في أضعاف هذا الكتاب ما اختير‪.‬‬
‫دموع العاشقين‬
‫وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫على الخ ّد ممّا ليس يَ ْرقَـأ حـائرُ‬ ‫ن َدمْـعـاً كـأنـه‬ ‫ومستنجد بالحُزْ ِ‬
‫أوائلُ أخرى ما لـهـنّ أواخـرُ‬ ‫ت تـهـلّـلـتْ‬ ‫إذا ديمةٌ منه استقلّ ْ‬
‫ِلمَا انهلّ من عينيه في الماءِ ناظر‬ ‫مَلَ مقْلتيه الدمعُ حـتـى كـأَنـه‬

‫رمَى الشوقُ في إنسانِها َفهْوَ سَا ِهرُ‬ ‫وينظر من بين الدمـوعِ بـمُـقْـل ٍة‬
‫وقال آخر ‪ -‬ورُ ِويَتْ لقيس بن الملوّح‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إلى الدار من ماء الصبابة أنظرُ‬ ‫نظرْتُ كأني من وراءِ زجـاجةٍ‬
‫فأَعشى‪ ،‬وطورًا تحسِرانِ فأُبصرُ‬ ‫ن من البُكـا‬ ‫فعيناي طوْرًا يَغْرقا ِ‬
‫وقال غيلن‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سقَى بهما ساقٍ ولمّا َتبَـلّـل‬ ‫شنّتا خَرْقاءَ واهية الكُلَـى‬ ‫وما َ‬
‫ت منزل‬ ‫سمْ َ‬ ‫توهمْتَ رَبعاً أو تو ّ‬ ‫بأَضي َع من عينيكَ للدّمع كلّمـا‬
‫وقال آخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تولت وماءَ الجفن في العين حَائرُ‬ ‫وممّا شجاني أنـهـا يوم ودّعـت‬
‫إليّ التفاتاً أسَْلمَته المـحَـاجِـرُ‬ ‫فلمّا أعادت من بَعيد بـنَـظـرةٍ‬
‫أبو عبَادة البحتري‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫يُغاِلبُ طَرفَها نَظ ٌر كَلِيلُ‬ ‫شغّـلتٌ‬ ‫وق ْفنَا والعيون ُم َ‬
‫ض ول يَسِيلُ‬ ‫ق ل يَغي ُ‬ ‫َتعَلّ َ‬ ‫َنهَتْه رِقبةُ الواشِين حتـى‬
‫وأنشد أبو الحسن جحظة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا هو أبدى من ثناياه لي بَرْقـا‬ ‫ومن طاعتي إياه َأمْطَ َر ناظـري‬
‫سبْقـا‬ ‫فمن أجله تَجْرِي لتدركه َ‬ ‫ن دموعي تبْصرُ الوَصلَ هارباً‬ ‫كأَ ّ‬
‫أخذ البيت الول المتنبي فقال‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ن مَطَ ٍر بَ ْرقُ ُه ثنايَاهَا‬
‫مْ‬ ‫خدّاي كلّما ابتسمت‬ ‫يبتلّ َ‬
‫وقال أبو الشيص‪ ،‬واسمه محمد بن عبيد ال‪ ،‬وهو ابن ع ّم دعبل‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫حدِرٍ سَـكـوبِ‬ ‫على الخدّين مُنْ َ‬ ‫ت بِـدَمْـعٍ‬
‫وقائل ٍة وقد بَصُـ َر ْ‬
‫جسَرْتَ على الذنوبِ‬ ‫قديماً ما َ‬ ‫أتكذبُ في البكاء وأنتَ جَلْـدٌ؟‬
‫وقلبك ليس بالقلب الـكَـئيبِ‬ ‫ل فـيهِ‬ ‫قميصُك والدموعُ تجـو ُ‬
‫عليه عـشـيةً بـدَ ٍم كَـذوب‬ ‫كمثل قميص يوسف حين جاءوا‬
‫جمْتِ بسوء ظنّك في الغيوبِ‬ ‫رَ َ‬ ‫فقلت لها‪ :‬فداك أبـي وأمـي‬
‫ل وبالـنـحـيب‬ ‫لسرّك بالعوي ِ‬ ‫أما والِّ لو فتّشـت قـلـبِـي‬
‫بظهْر الغيب أَلسِنةُ القـلـوبِ‬ ‫دموعُ العاشقـين إذا تـلقَـوْا‬
‫من أخبار العباس بن الحنف‬
‫خلُ نفسَه فينا ويُخ ِرجُها منّا حتى قال‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫حنِيفة يُدْ ِ‬ ‫وقال بشار بن برد‪ :‬ما زال فتى من بني َ‬
‫عينًا لغيرك دَ ْمعُهـا مِـدْرَارُ‬ ‫س َتعِرْ‬ ‫ع عينك فا ْ‬ ‫نزف البكا ُء دمو َ‬
‫عيْنًا للبكـاء تُـعَـار؟!‬ ‫أرأيت َ‬ ‫مَنْ ذَا يعيرك عينَه تَبْكي بـهـا‬
‫قال‪ :‬وهذا الذي عناه بشار هو أبو الفضل العباس بن الحنف بن طلحة بن هارون بن كلدة بن خزيم بن شهاب بن سالم بن حبة بن كليب بن‬
‫حدّث استماعاً‪ ،‬وأمسكهم عن‬ ‫حدّث حديثاً‪ ،‬وأحسنهم إذا ُ‬ ‫عدي بن عبد ال بن حنيفة‪ ،‬وكان كما قال بعض مَنْ وصفه‪ :‬كان أحسن خَلْقِ ال إذا َ‬
‫مُلَحا ٍة إذا خُولف‪ ،‬وكان ملوكيّ المذهب‪ ،‬ظاهر النّعمة‪ ،‬حسنَ الهيئة‪ ،‬وكانت فيه آلتُ الظّرْفِ‪ ،‬كان جميلَ الوجه‪ ،‬فَارِه المركب‪ ،‬نظيفَ‬
‫حسَنَ اللفاظ‪ ،‬كثير النوادر‪ ،‬رطيب الحديث‪ ،‬باقياً على الشراب‪ ،‬كثيرَ المساعدة‪ ،‬شديد الحتمال‪ ،‬ولم يكن هجّاء‪ ،‬ول مدّاحا‪ ،‬كان يتنزّه‬ ‫الثّوْب‪َ ،‬‬
‫شبّه من المتقدّمين بعمر بن أبي ربيعة‪.‬‬ ‫عن ذلك‪ ،‬ويُ َ‬

‫‪285‬‬
‫وسُئل أبو نواس عن العباس وقد ضمّهما مجلس فقال‪ :‬هو أرق من الوَهْم‪ ،‬وأحسن من الفهم‪.‬‬
‫وكان أبو ال ُهذَيل العلف المعتزلي إذا ذكره َلعَنه وزنّاه لجل قوله‪ :‬البسيط‬
‫حتُقرْتُ وما ِمثْلِي بمحتَقَـرِ‬ ‫حتى ا ْ‬ ‫وضعتُ خدّي لدنى من يُطِيف بكم‬
‫قلبي‪ ،‬وما أنا من قلبي بمُنتصَـرِ‬ ‫إذا أ َردْتُ انتصارًا كان ناصرَكـم‬
‫فكل ذلك محمول على الـقَـدرِ‬ ‫فأكثروا أو أقِلّوا من مـلمـكـم‬
‫وقوله في البيت الوسط كقوله‪ :‬السريع‪:‬‬
‫يُكثرُ أَسْقامي وأَوْجـاعـي‬ ‫قلبي إلى ما ضرّني داعِـي‬
‫يوشك أن ينعانيَ النـاعـي‬ ‫لَقلّما أبْقَى علـى مـا أرى‬
‫كان عدوي بين أضلعـي؟‬ ‫كيف احتراسي من عدوي إذا‬
‫وقيل لعنان جارية الناطفي‪ :‬من أشعرُ الناس؟ قالت‪ :‬الذي يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت بسالٍ عن هواك إلى الحَشْرِ‬ ‫ولس ُ‬ ‫وأهجركُمْ حتى يقولوا‪ :‬لقـد سَـلَ‬
‫يحبّ شفيقًا نازع الناس بالهَـجْـرِ‬ ‫ولكن إذا كان المحبّ علـى الـذي‬
‫وقال العباس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت له من مقلـتـيّ غـروبُ‬ ‫ض ْ‬ ‫وفا َ‬ ‫جرى السيلُ فاستبكانيَ السيلُ إذْ جرى‬
‫يمـ ّر بـوا ٍد أنْـتِ مـنـه قـريب‬ ‫ومـا ذاك إل أن تـيقـنْـتُ أنــهُ‬
‫إليكُ ْم تلقّـى طِـيَبـكُـ ْم فـيَطِـيب‬ ‫يكون أجاجًا دونكُمْ فـإذا انـتـهـى‬
‫إلى القلب من أجل الحبيبِ حبـيبُ‬ ‫ي دجـلةَ كـلّـكـمْ‬ ‫فيا سا ِكنِي شَ ْرقِ ّ‬
‫ل ُيعْرَف بالمتفقه الموصلي في العباس بن الحنف والعتّابي‪ ،‬فعمل عليّ في ذلك رسالة‬ ‫وقال الصولي‪ :‬ناظرَ أبو أحمد علي بن يحيى المنجم رج ً‬
‫ط العتّابي لتقديمها على العباس في الشعر‪ ،‬ولو‬ ‫أنفذها لعلي بن عيسى؛ لن الكلمَ في مجلسه جَرَى‪ .‬وكان ممّا خاطبه به أن قال‪ :‬ما أَهل نفسَه ق ّ‬
‫خاطبه مخاطبٌ َل َدفَعه وأنكَره؛ لنه كان عالمًا ل يُؤتَى من قلّة معرفة بالشعر‪ ،‬ولم أر أحدًا من العلماء بالشعر مثل العتّابي والعباس‪ ،‬فضلً عن‬
‫عذْب‪ ،‬وكل ُم ذاك متعقّد كَزّ‪ ،‬وفي شعر هذا رقّة‬ ‫تقديم العتّابي عليه لتباينهما في ذلك وإن العتابي متكلّف‪ ،‬والعباس يتدفق طبعاً؛ وكل ُم هذا سهل َ‬
‫ن العتّابي فلم يخرج في شيء منه عمّا‬ ‫شعْرُ هذا في فنّ واحد وهو الغزل؛ وأ ْكثَرَ فيه وأحسن‪ ،‬وقد افت ّ‬ ‫وحلوة‪ ،‬وفي شعر ذاك غِلَظ وجَسَاوة‪ ،‬و ِ‬
‫وصفْناه‪.‬‬
‫وإن من أحسن شعر العتابي قصيدته التي مدح بها الرشيد وأولها‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫حتى تكلّمَ في الصبح العصافيرُ‬ ‫يا ليلةً ليَ في حورانَ ساهـرةً‬
‫وقال فيها‪:‬‬
‫ق تَقْصِيرُ؟‬ ‫ن الما ِ‬ ‫أمْ في الجفون عَ ِ‬ ‫أفي المَاقي انقباضٌ عن جفونِهما‬
‫وهذا البيت أخذه من قول بشار الذي أحسن فيه كل الحسان‪ ،‬وهو قوله‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫كأنَ جفونَها عنهـا قِـصـارُ‬ ‫عيْني عن التغميضِ حتّى‬ ‫جفَتْ َ‬ ‫َ‬
‫فمسخه العتابي‪ ،‬على أن بشاراً أخذه من قول جميل‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫صرِ‬‫قصيرُ الجفون ولم تَقْ ُ‬ ‫كأنّ المحبّ لِطول السّهادِ‬
‫ص ْنعَة السابق إليه‪ ،‬أو يزيد عليه‪ ،‬حتى‬ ‫ق من أخذ معنًى قد سُبق إليه أن يصنعه أجود من َ‬ ‫إلّ أنّ بشاراً أحسن فيه؛ فنازعهما إياه فأساء‪ ،‬وإنّ ح ّ‬
‫يستحقّه‪ ،‬وأمّا إذا قصّر عنه فهو مسي ٌء َمعِيب بالسرقة‪ ،‬مذموم على التقصير‪.‬‬
‫ف ُمنّة أبي قابوس في الشعر‪ ،‬ثم قال في هذه القصيدة‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫ضعْ ِ‬‫ب عليه في كثي ٍر ممّا جرى بينهما على َ‬ ‫ي فغُلّ َ‬
‫ولقد هاجى أبا قابوس النصران ّ‬
‫نادَاك بال َوحْي تقديسٌ وتطهيرُ‬ ‫ماذا عسى مَادِحٌ ُي ْثنِي عليك وقد‬
‫مستعلنات بما تُخْفي الضمائير‬ ‫فُتّ الممادحَ إل أنّ ألسـنـنـا‬
‫صحّة اللفظ‪ ،‬وهذا‬
‫فختم البيت فيها بأثقل لفظة لو وَقعت في البَحر لكدّرته‪ ،‬وهي صحيحة‪ ،‬وما شيء أملك بالشعر بعد صحّ ِة المعنى من حُسْنِ ِ‬
‫عمل التكلف‪ ،‬وسوء الطبع‪.‬‬
‫وللعباس بن الحنف إحسان كثير‪ ،‬ولو لم يكن إل قوله‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ل َة قد أَوْسَع المشـارعَ طِـيبـا‬ ‫ك من دجْ‬ ‫سِ‬‫أنكرَ الناسُ ساطِعَ المِ ْ‬
‫ن قد حَلَلْت منه قـريبـا‬ ‫رُون أ ْ‬ ‫جبُـون مـنـه ومـا يَدْ‬ ‫فهمُ يح َ‬
‫فاجعلي لي من التعزّي نصيبـا‬ ‫قاسمينـي هـذا الـبـلءَ‪ ،‬وإلّ‬
‫بِ‪ ،‬ويؤذِي به المحبّ الحبـيبـا‬ ‫ب يدعو إلى ال َعتْ‬ ‫ن بعضَ العتا ِ‬ ‫إّ‬
‫طفَ ال ِعتَابُ القلوبـا‬ ‫ف فلن يَعْ ِ‬ ‫َ‬ ‫وإذا ما القلوبُ لم تُضْمر العَـطْ‬
‫وقوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ض العائدُ‬ ‫وَ ْهيَ الصحيحةُ والمري ُ‬ ‫ت َفعُ ْدتُها فتبـ ّرمَـتْ‬ ‫قالت مرض ُ‬
‫ما رَقّ للولد الصغيرِ الـوالـدُ‬ ‫تالِ لو أَنّ القلوبَ كقَـلْـبـهـا‬
‫إني على كَسْبِ الذنوب لَجَاهِـدُ‬ ‫ن كان ذنبي في الزيارة فاعَْل ِميٍ‬ ‫إْ‬
‫فإلى متى أنا سَاهِـرٌ يا رَاقِـدُ؟‬ ‫ألقيت بين جفون عينـي فُـ ْرقَةً‬
‫وبـلءُ حُـبّـك كـل يوم زائِدُ‬ ‫يقع البل ُء و َينْقضِي عن أَهـلـه‬

‫‪286‬‬
‫َل ِهيَ التي تَشْقَى بها وتُكابدُ‬ ‫سمّاك لي ناسٌ وقالوا‪ :‬إنها‬
‫حدُ‬
‫إني ليعجبني المحبّ الجا ِ‬ ‫ظنّهم‬ ‫فجحدتهم ليكونَ غيرك َ‬
‫وقوله‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ف منك غـدا‬ ‫يَوْمَ لراجٍ للعَطْ ِ‬ ‫ت قد أسأت بيَ ال‬ ‫إني وإن كن ِ‬
‫لم أر منكم ما أرتجي أبـدا‬ ‫أستمتع ال بـالـرجـاء وإن‬
‫وله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فبكى وأشفق من عِيافة زاجرِ‬ ‫أ ْهدَى له أحـبـابـه أُتـ ُرجّةً‬
‫لفُ الظّاهـر‬ ‫لونان بَاطنها خِ َ‬ ‫سمُـهـا‬ ‫جْ‬ ‫متطيراً منها أتَته و ِ‬
‫ولئن وفّى أبو أحمد العباسَ حقّه‪ ،‬لقد ظلم العتّابي ما كان مستحقّه‪ ،‬من سرّ الكلم‪ ،‬وجَ ْودَةِ رصف النظام‪ .‬قال الصولي في نسب العباس ‪ -‬وكان‬
‫من خؤولته‪ :-‬هو العباس بن الحنف بن السود بن قُدامة بن هيمان من بني هفّان بن الحارث بن ذهل بن الديل بن حنيفة‪ .‬وله يقول الصريع‬
‫يهجوا‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫سبَا‬‫فاتْ ُركْ حنيفةَ واطُْلبْ غيرها نَ َ‬ ‫بنو حنيف َة ل يَ ْرضَى الدّعِيّ بهـمْ‬
‫إني أرى لك لونًا يُشبه العربـا‬ ‫ب تَ ْرضَى بنسبتِهم‬ ‫اذهبْ إلى عَرَ ٍ‬
‫وقال أبو أحمد‪ :‬قال‪ ،‬العباس‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ك مَ ْولَ ُه وأبـكـاه‬ ‫حَ‬‫طوْعاً فَأضْ َ‬ ‫َ‬ ‫حُ ّر دعاهُ الهوَى سِرّا فَـلَـبّـاهُ‬
‫عدَّلتْها بفِيض الدمع عَـيْنَـاه‬ ‫وَ‬ ‫فشا َهدَتْ بالذي يُخْفي لَوَاحِظُـه‬
‫وكّ ْلتِ طَ ْرفِي بنجم الليل يرعاه‬ ‫جا َز ْيتِني إذا رعيتُ الودّ بعدكِ أن‬
‫ن يَشْـهَـد الـلـهُ‬
‫كفاك بيّنة أ ْ‬ ‫خنْـك هـوًى‬ ‫ل يشهدُ أني لم أ ُ‬ ‫ا ُ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ف نفسي قبل أن تتبرّمـا‬ ‫سأك ّ‬ ‫يا من يُكاتمني تَغيّر قَـلْـبِـه‬
‫ل ودّك قبل أن يتص ّرمَا‬ ‫حبْ ِ‬
‫من َ‬ ‫ص ّد عنك وفي يديّ بـقـيّة‬ ‫وأ ُ‬
‫ن يتكلّمـا‬ ‫غيْرِ أ ْ‬
‫وتخاطَبا من َ‬ ‫يا للرجال لعاشقين تَـواقَـفـا‬
‫جعل الشارةَ بالنامل سُلّمـا‬ ‫حتى إذا خافَا العيونَ وأشفقـا‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫إل مساتر َة العدوّ الكاشـحِ‬ ‫ال يعلمُ ما أردْتُ بهجركُـم‬
‫أ ْبقَى ل َوصْلِك من دُن ّو فَاضحِ‬ ‫وعلمْتُ أنّ تسّري وتباعـدي‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فيها غَزالٌ فاترُ الطَرْفِ سَاحِرُهْ‬ ‫َيهِي ُم بحرّان الجـزيرة قَـلْـبُـه‬
‫ي يُؤَازِ ُرهْ‬ ‫َيدَانِ بمَنْ قلبي عَـلَـ ّ‬ ‫يُؤَازِرُه قَلْبي عليّ ولـيس لـي‬
‫فقر في الغزل‬
‫وقد قال سهل بن هارون‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫سمِي عـلـى دَائي‬ ‫بنَظْرَةٍ َو َقفَتْ ج ْ‬ ‫طرْفي على قلبي وأعضـائي‬ ‫أعان َ‬
‫ل عِلْمَ لي أن بعضِي بعضُ أعدائي‬ ‫وكنتُ غِرّاً بما يجني على بَـدَنـي‬
‫وقال النظام‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫كانت بَِليّتَها علـى الجـسـادِ‬ ‫جنَت‬ ‫ن العيونَ على القلوبِ إذا َ‬ ‫إَ‬
‫البحتري‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫حقّا إذا كان قلبِي فيك َيعْصينـي‬ ‫صيَان قلبكَ لي‬ ‫ع ْ‬ ‫ب من ِ‬ ‫ج ُ‬‫ولستُ أَعْ َ‬
‫وقال الصمعي‪ :‬سمعتُ الرشيد يقول‪ :‬قَ ْلبُ العاشق عليه مع َمعْشُوقِه‪ .‬فقلت‪ :‬هذا وال يا أمي َر المؤمنين أحْسَنُ من قول عُروة بن حزام لعَفْراء‬
‫في أبياته التي أنشدها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لها بين جِ ْلدِي والعـظـام دبـيبُ‬ ‫وإنّي ل َتعْرُونـي لـ ِذكْـراكِ روعة‬
‫فُأ ْبهَـتَ حـتـى ل أكـاد أجِـيبُ‬ ‫وما هو إل أن أراها فيه فُـجـاءةً‬
‫ويقرب مِـنّـي ِذكْـرُه و َيغِـيبُ‬ ‫ف عن دائي الذي ُكنْت أرتئي‬ ‫صرَ ُ‬ ‫وأُ ْ‬
‫عليّ‪ ،‬وما لي في الفؤاد نَـصِـيبُ‬ ‫ويضمر قَلْبي غدرها و ُيعِـينـهـا‬
‫فقال الرشيد‪ :‬من قال ذلك وَهْماً‪ ،‬فقد قلته علماً‪.‬‬
‫باب الحكمة‬
‫ن النس بك فإنه ُيغْزِر حظّك‪ ،‬ول تستكثر من الطمأنينة إل بعد استحكام الثّقة؛ فإن‬ ‫قال علي بنُ عبيدةَ الريحاني‪ :‬اِحْ ِم و ّدكَ فإنه عِ ْرضُك‪ ،‬وصُ ِ‬
‫حبَاء تُوجب به الشكر على من اصطفيت‪.‬‬ ‫حبَك‪ ،‬ول ِ‬ ‫النس سريرةُ العقل‪ ،‬والطمأنينة بذلَة المتحابّين‪ ،‬وليمس لك بعدهما تحفَة َتمْنحها صا ِ‬
‫ب كان منه‪ ،‬أو هجرِه لخلفٍ بما يكْرَه عنده‪ ،‬إذا كان ل يعتدّ في سالف أيام العشرة إل‬ ‫وقال‪ :‬ما أنصف مَنْ عاتب أخاه بالعراض على ذَنْ ٍ‬
‫ظ الغتفار‪ ،‬وإن لم يكن وفَى له‬ ‫شكَا جميع ما ستَره من أخيه أو ل‪ ،‬فلقد ُت َتمّمُ الموافقة ح ّ‬ ‫بالرضا عنه‪ ،‬ومشاكلته فيما يُؤْنسه منه‪ .‬فإن كان العاتِب َ‬
‫شمْلِ‪ ،‬وأَشبَهُ بأهل التصافي‪ ،‬وأك َرمُ في‬ ‫ص ِممّا وجَب منه عليه لخيه بقدر ذنبه‪ ،‬ثم العودة إلى اللفة أولى من تشتّت ال ّ‬ ‫ق منه فليقت ّ‬ ‫بكلّ ما استح ّ‬
‫الحدوثة عند الناس‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫صمَة‪ ،‬وعين‬ ‫ستْر من المساوي‪ ،‬وأَخُو العفاف‪ ،‬وحَلِيف الدّين‪ ،‬و ُمصَاحب بالصّنع‪ ،‬ورَقيب من العِ ْ‬ ‫حجَاب وَاق‪ ،‬و ِ‬‫وقال‪ :‬الحياءُ ِلبَاسٌ سابغ‪ ،‬و ِ‬
‫كَاِلئَةٌ تذودُ عن الفساد‪ ،‬وتنْهى عن الفحشاء والدناس‪.‬‬
‫خلْقَةِ‪ ،‬منقوص البِنْية‪ ،‬أو على خلف تركيب العتدال‪.‬‬ ‫سيَ الْ ِ‬‫صبْوَةٍ إل أن يكونَ جَا ِ‬
‫وقال‪ :‬ل يخلو أحد من َ‬
‫وصف الهوى‬
‫ورأى سعيد بن سلم بن قتيبة ابناً له قد شرع في رقيق الشعر وروايته‪ ،‬فأنكر عليه‪ ،‬فقيل له‪ :‬إنه قد عشق‪ ،‬فقال‪ :‬دعُوه فإنه يلطُف‪ ،‬وينظُف‪،‬‬
‫ويَظْرُف‪.‬‬
‫وقال الفضل بن أحمد بن أبي طاهر واسم أبي طاهر طيفور‪ :‬وَصَف الهوى قوم وقالوا‪ :‬إنه فضيلة‪ ،‬وإنه ينتج الحيلة‪ ،‬ويشجع قَلْبَ الجبان‪،‬‬
‫ويسخّي قَلْبَ البخيل‪ ،‬ويصفّي ذِهن الغبي‪ ،‬ويطلق بالشّعر لسات المُفحَم‪ ،‬ويبعث حَزْم العاجز الضعيف‪ ،‬وإنه عزيز تذلُ له عزّةُ الملوك‪،‬‬
‫ق به‬‫ل باب به تُفتّ ُ‬‫وتَضْرع فيه صولَةُ الشجاع‪ ،‬و َتنْقَاد له طاع ُة كل ممتنِع‪ ،‬ويذَلّل كلّ مستصعَب‪ ،‬ويُبرز كل محتجب‪ ،‬وهو داعية الدب‪ ،‬وأو ُ‬
‫شيَم‪ ،‬يُمتّع جليسه‪ ،‬ويُؤْنس أليفَه‪ ،‬وله‬‫حيَل‪ ،‬وإليه تستريح ال ِهمَم‪ ،‬وتسكن نوافِرُ الخلق وال ّ‬ ‫الذهان والفطَن‪ ،‬وتستخرج به دقائقُ المكايد وال ِ‬
‫ل المودّة‪ ،‬ويتّصل أهْل الُلفة‪ ،‬وعليه تتألّف الشكال‪ ،‬وله صَ ْولَت على‬ ‫ح مستكِن في القلب‪ ،‬وبه يتعاطف أَه ُ‬ ‫سرورٌ يجول في النفس‪ ،‬وفرَ ٌ‬
‫خلَق‪ ،‬وأرواح تَسْطَع من أهلها‪ ،‬و َتعْبق من ذويها‪.‬‬ ‫ظهَرُ في الخلق وال ِ‬ ‫القدر‪ ،‬ومكَايد ُتبْطِلُ لطائف الحيل‪ ،‬وظَرْف يَ ْ‬
‫وقال اليماني بن عمرو مولى ذي الرياستين‪ .‬كان ذو الرياستين َيبْعَثُ بي وبأحداثٍ من أهله إلى شيخ بخراسان ويقول‪ :‬تعّلمُوا منه الحكمة؛ فكنّا‬
‫ضنَا ذُو الرياستين يسألُنا عمّا أفادنا فنخبره؛ فسِرْنا إلى الشيخ يوماً فقال لنا‪ :‬أنتم أدباء‪ ،‬وقد س ِم ْعتُم الحكمة‪،‬‬ ‫نَأْتيه‪ ،‬وإذا انصرفنا من عنده اعتر َ‬
‫جبِلّة البليد‪ ،‬ويسخّي كفّ البخيل‪ ،‬و َي ْبعَثُ على‬ ‫وفيكم أحداث‪ ،‬ولكم نِعَم‪ ،‬فهل فيكم عاشق؟ قلْنا‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬اعشقوا؛ فإنّ العشق يُطْلِق الغبيّ‪ ،‬ويَ ْفتَحُ ِ‬
‫النظافة وحُسنِ الهيئة‪ ،‬و َيدْعُو إلى الحركة والذكاء‪ ،‬وشرف الهمّة وإياكم والحرام‪.‬‬
‫صدَقَ‪ ،‬أتعلمون من أين أَخ َذ هذا‬ ‫قال‪ :‬فانصرفنا‪ ،‬فسألنا عمّا أَفادنا في يومنا؛ فهبْناه أَن نخبره‪ ،‬فعزَم علينا‪ .‬فقلنا له‪ :‬أمرنا بكذا وكذا‪ ،‬قال‪َ :‬‬
‫ن َبهْرَام جور كان له ابن رشّحَه للملك من بعده‪ ،‬فنشأ ساقطَ ال ِهمّة‪ ،‬خامل المروءة‪ ،‬دَنيء النفس‪ ،‬سّيئ الدب‪ ،‬كليل‬ ‫الدب؟ قلنا‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬إ ّ‬
‫ن يُل ِزمُه و ُيعَلّمه‪ ،‬وكان يسألهم فَيحكُون له ما يسوءُه‪ ،‬إلى أن‬ ‫القريحة‪َ ،‬كهَام ال ِفكْرِ؛ فغمّه ذلك‪ ،‬ووكّل به من المؤدّبين والمنجّمين والحكماء مَ ْ‬
‫ص ْرنَا إلى اليأس منه‪ ،‬قال‪ :‬وما ذلك؟ قال‪ :‬رأى ابنةَ فلن المرزُبان فعَشقها‬ ‫قال له بعض مؤدبيه‪ :‬قد كنّا نخافُ سو َء أدبه فحدَث من أَمره ما ِ‬
‫ت عليه‪ ،‬فهو ل يهذِي إل بأمرها‪ ،‬ول يتشاغَلُ إل بذِكرها‪ ،‬فقال بهرام جُور‪ :‬الن رَجوتُ صلحه‪.‬‬ ‫فغلبَ ْ‬
‫ق ابنته ت وأنه يريد أن يُنكِحها إياه‪ ،‬وأَمره أن‬ ‫ستْره فأعلمه أن ابنَه قد عش َ‬ ‫سرّ لك سرّا فل َي ْعدُ َونّك‪ .‬فضَمن له َ‬ ‫ثم دعا بأبي الجارية فقال‪ :‬إني م ِ‬
‫ت عليه‪ ،‬وهجَ َرتْه‪ ،‬فإذا استعتبها أَعلمته‬ ‫طمَعه فيهما تجنّ ْ‬ ‫يأخذها بإطماعه بنفسها‪ ،‬ومراسلته من غير أَن يراها‪ ،‬أو تَقَع عَينه عليها؛ فإذا استحكم َ‬
‫خبَرَه‪ ،‬ول يُطلِعها على ما َأسَرّ إليه‪ ،‬فقبل ذلك‬ ‫خبَرَها و َ‬ ‫أنها ل تَصْلُح إل لملك‪ ،‬أو مَنْ ِه ّمتُه همةُ ملك‪ ،‬وأن ذلك يمنعها من مُوَاصلته‪ ،‬ثم ليعلمه َ‬
‫أبوها منه‪.‬‬

‫جعْه على مراسلة الجارية‪ ،‬ففعل ذلك‪ ،‬وفعلت الجاريةُ ما أمرها به أبوها؛ فلمّا انتهت إلى التجنّي عليه‪ ،‬وعلم‬ ‫ثم قال للمؤدّب‪ :‬خ ّوفْه بي‪ ،‬وش ّ‬
‫الفتى السببَ الذي كرِهَته من أجله أخذَ في الدب‪ ،‬وطلب الحكمة‪ ،‬والعلم والفروسية‪ ،‬ولعب الصّوالجة‪ ،‬والرماية‪ ،‬حتى َمهَر في ذلك‪ ،‬ورُفع‬
‫سرّ الملِك بذلك‪ ،‬وأمر له بما أراد‪ ،‬ودعا بمؤدّبه‪،‬‬ ‫ج من المطاعم واللت والدوابّ والملبس والوزراء فوق الذي كان له؛ ف ُ‬ ‫إلى أبيه أنه يحتا ُ‬
‫ب هذه المرأة ل يُزْرِي به‪ ،‬فتقدمْ إليه أن يرفع أمرَها إليّ ويسألني أن أزوّجَه إياها‪ ،‬ففعل‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬إنّ الموضع الذي وَضع ابني نفسَه فيه بح ّ‬
‫حدِثْ شيئاً حتى أَصير إليك‪ .‬فلمّا اجتمعا صار إليه فقال‪ :‬يا بني‪ ،‬ل‬ ‫فزوّجها منه‪ ،‬وأمر بتعجيل نَقْلِها إليه‪ ،‬وقال له‪ :‬إذا اجتمعت أَنت وهي فل ُت ْ‬
‫س ِمنّة عليك‪ ،‬بما دَعَتك إليه من طلب الحكمة‪،‬‬ ‫يضعنّ منها عندك مراسََلتُها إياك‪ ،‬وليست في حِبالِك‪ ،‬فأَنا أم ْرتُها بذلك‪ ،‬وهي من أَعظم النا ِ‬
‫ق منك‪ .‬ففعل الفتى ذلك‪،‬‬ ‫ك بعدي؛ ف ِزدْهَا في التشريف والكرام بقدْرِ ما تستح ّ‬ ‫ح منه للمُ ْل ِ‬
‫والتخلُق بأخلق الملوك‪ ،‬حتى بَلغْتَ الحدّ الذي تصل ُ‬
‫وعاش مسروراً بالجارية‪ ،‬وأبوه مسروراً به‪ ،‬وزاد في إكرام المرزبان‪ ،‬ورَفع مرتبته وشرفه بِصيانته لسرّه وطاعته‪ ،‬وأحسن جائزته وجائزة‬
‫ع َقدَ لبنه الملك من بعده‪ .‬قال اليماني‪ :‬وكان الشيخ الحسن بن مصعب‪.‬‬ ‫المؤدّب بامتثاله أمره‪ ،‬و َ‬
‫ثم قال ذو الرياستين‪ ،‬قال علي بن بلل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ث الدّهرِ غائلُهْ‬ ‫إذا غال ُه مِنْ حادِ ِ‬ ‫سيهلك في الدنيا شَفيق علـيكُـمُ‬
‫وللناس أَشغالٌ‪ ،‬وحبّك شَاغِـلـهْ‬ ‫ويُخْفي لكم حبّا شـديداً ورهْـبَة‬
‫إذا استخبروه عن حديثك‪ ،‬جَاهِلُهْ‬ ‫كري ٌم ُيمِيت السّرّ حتى كـأنـه‪،‬‬
‫إذا سمعت عنه بشكوى تُرَاسِلُـهْ‬ ‫يَ َودّ بأن ُيمْسِي عليلً لـعـلّـهـا‬
‫حمَد يوماً عند َليْلَى شَمـائِلُـه‬ ‫ِلتُ ْ‬ ‫ويَ ْرتَاحُ للمعروف في طَلَب العُلَ‬
‫ظهَر ويبطن‪ ،‬و َي ْكثُف ويَلْطُف‪ ،‬فامتنعَ‬ ‫وذكر أعرابي الهوى فقال‪ :‬هو أَعظ ُم مَسْلَكاً في القَلْب من الرُوح في الجسم‪ ،‬وأَملك بالنفس من النّفس‪ ،‬يَ ْ‬
‫ي عنه البيانُ! فهو بين السّحْرِ والجفون‪ ،‬لطيفُ المسلك وال ُكمُون‪ .‬وأنشد‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫عيِ َ‬‫صفِه اللسانُ‪ ،‬و َ‬
‫عن وَ ْ‬
‫ب يُ َدبّر بالعقل‬‫ح ّ‬ ‫خيْرَ في ُ‬ ‫ول َ‬ ‫يقولون لو دبّرت بالعَقْلِ حبّها‬
‫من إنشاء الميكالي وشعره‬
‫فصل للمير أبي الفضل الميكالي‪ :‬ل زالت الَيام تَزِيدُ ُر ْتبَتَه ارتفاعاً‪ ،‬وباعَه اتَساعاً‪ ،‬وع َزتَه غلبةً وامتناعاً‪ ،‬فل يبقى مجدٌ إل شّي َدتْه معاليه‬
‫عتْهُ صرا ِئمُه وصوَا ِرمُه‪.‬‬ ‫ومكا ِرمُه‪ ،‬ول ملك إل ا ْفتَرَ َ‬
‫خدْمة ُودَه مرتسمة‪ ،‬وغنائم الشكر بين‬ ‫وله فصل‪ :‬ل زالت حياة الحرار بفضله متسِمة‪ ،‬ووجو ُه المكارم بغُرَرِ أيامه مبتسمة‪ ،‬وأهواء الصدور ب ِ‬
‫محاسن قوله وفعله مقتسمة‪.‬‬
‫صعَابُه‪ ،‬ول ُيمَارِس أمراً إل‬ ‫خطْباً إل تذلّلت به ِ‬ ‫وله‪ :‬ال يُديم رايةَ المير الجليل محفوفةً بال َفلْج والنصر‪ ،‬مكنوفة بالغَلبة والقهْر‪ ،‬حتى ل يزاول َ‬
‫ل من آماليه‬‫ل لمعْقد لوائه‪ ،‬ومنثنى عنانه‪ ،‬إلى أن ينا َ‬ ‫خضَع لسيفه وسِنانِه‪ ،‬وذ ّ‬ ‫ل إل أذْعَن لهيبته وسُلْطانه‪ ،‬و َ‬ ‫تيسّرَتْ أسبابُه‪ ،‬ول يَرُوم حا ً‬
‫أَقاصِيهَا‪ ،‬و َيمْلِك من َمبَاغِيه َأ ِزمّتها ونواصيهَا ويُسامِي الثريّا بعلوّ هقته ويناصيها‪.‬‬
‫ضعْفَ ما وَهب‪ ،‬وفَجع بأكثَرَ مما َأ ْمتَع‪ ،‬وأوحش فوق ما آنس‪ ،‬وعنف في نزعِ ما ألبس؛ فإنه لم ُي ِذ ْقنَا‬ ‫وله فصل‪ :‬إنما أَشكو إليك زماناً سَلَب ِ‬
‫ن التلهّفِ والشتياق‪ ،‬والحمدُ ل تعالى على كلّ حال‬ ‫حلوة الجتماع‪ ،‬حتى جَرّعَنا مرارةَ الفراق‪ ،‬ولم يمتعنا بأنس اللتقاء‪ ،‬حتى غادَرَنا رَهْ َ‬
‫‪288‬‬
‫ن بعين‬ ‫صنْع يجعل َر ْبعَه ُمنَاخي‪ ،‬ويُ َقصّر مدّة ال ِبعَاد والتراخي‪ ،‬فأُلحظ الزما َ‬ ‫يُسيء ويسر‪ ،‬ويَحْلو ويُمر‪ ،‬ول أَيأس من رَوْح ال في إباحة ُ‬
‫راض‪ ،‬و ُي ْقبِلُ إليّ حظّي بعد إعراض‪ ،‬وأستأنف بعزّته عيشاً سابغَ الذيول والعطاف‪ ،‬رقيقَ المعانىِ والوصاف‪ ،‬عَذْب الموا ِردِ والمناهل‪،‬‬
‫ن الفاتِ والغوائل‪.‬‬ ‫مأمو َ‬
‫وله فصل‪ :‬انا أسأل ال تعالى أَن يردّ علي بَ ْردَ العيش الذي فَ ًق ْدتُه‪ ،‬وفسحة السرور الذي عَه ْدتُه؛ فيَقْصر منِ الفراق أَمدُه‪ ،‬ويعلو لللتقاء حكمه‬
‫و َيدُه‪ ،‬ويَ ْرجِع ذلك العهدُ الذي َرقّت غلئله‪ ،‬وصفت من ال ْقذَاء َمنَاهله‪ ،‬فلم أتهنأ بعده بأُنس مقيم‪ ،‬ول تعلّقت يومًا إل بعيش بَهيم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صيْفًا مثل صيفي و َمرْبعي‬ ‫بذي الثْلِ َ‬ ‫فلو تَرْجـع اليا ُم بـينـي وبـينـهُ‬
‫مرائرَ إن جا َذ ْب ُتهَـا لـم تَـقَـطـعِ‬ ‫شدّ بأَعنـاق الـنـوى بـعـد هـذهِ‬ ‫أَ ُ‬
‫ق الشتياق أسيراً‪.‬‬ ‫سهّل عسيراً‪ ،‬ويفكّ من ر ّ‬ ‫ب بعيداً‪ ،‬و َيهَب طالعًا سعيداً‪ ،‬و ُي َ‬ ‫وما على ال بعزيز أن يقرّ َ‬
‫سرَى السرورُ في الجوانح‪ ،‬واهتزَت النفسُ له اهتزازَ الغُصن‬ ‫وله فصل من كتاب إلى أبي منصور عبد الملك الثعالبي‪ :‬قرأتُ خب َر سلمته‪ ،‬ف َ‬
‫تحت البارح‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫طرُ‬
‫ول فرحة العطشان فَاجأَهُ القَ ْ‬ ‫أَليس لِخبـار الحـبّة فـرحةٌ‬
‫صدْرُ‬‫فتَنتشر البشرى وينشرِحُ ال ّ‬ ‫يقولون‪ :‬قد أَ ْوفَى لوقتِ كتـابـهِ‬
‫ثم سألت ال تعالى أن يحرسَ علينا سلمَته سابغةَ الملبس والمطَارف‪ ،‬موصولة التاِلدِ بالطَارِف‪.‬‬
‫طرُقُ العَزاء والسلوة ُمبْهمة‪ ،‬لقد حلّت‬ ‫وله فصل من كتاب َتعْزية عن أبي العباس بن المام أبي الطيب‪ :‬لئن كانت الرزيّة ُممِضّة مؤلمة؛ و ُ‬
‫صبْ ٍر مشيح‪،‬‬ ‫صدْ ٍر فسيح‪ ،‬يحمي أن يبيح الحُرن جنابَه‪ ،‬و َ‬ ‫ضعُف عن احتمالها بَصَائِره‪ ،‬قد يتلقّاها ب َ‬ ‫بساح ِة من ل تَنتفِض بأمثالها مَرَائِرُه‪ ،‬ول تَ ْ‬
‫حبِطَ الجَزعُ أجرَه وثوابَه؛ كيف ل وآدابُ الدين من عنده تُ ْلتَمس؛ وأحكامُ الشرع من لسانه ويده تُستفاد و ُت ْقتَبس‪ ،‬والعيون تَ ْرمُقه في‬ ‫يحمي أن يُ ْ‬
‫سنَنه‪ ،‬فإن تعرت القلوب فبحَسب تماسكه عزاؤُها‪ ،‬وإن حسنت الفعال فإلى حميد أفعاله ومذاهبه‬ ‫هذه الحال لتَجْري على سنَنه‪ ،‬وتأخذَ بآدابه و ُ‬
‫اعتزاؤُها‪.‬‬
‫من شعر الميكالي‬
‫جملة من شعره في تحسين القوافي والغزل‪ :‬قال‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ح ِر من عينَيْ غزالِ‬ ‫سهْمِ السّ ْ‬
‫بَ‬ ‫عذِيري من جفونٍ رامـياتٍ‬
‫لنتصرن منه بمَنْ غَزَالـي‬ ‫سبَـانـي‬‫ط ْرفُه حتى َ‬ ‫غزاني َ‬
‫وله أيضاً‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫بزَ ْورَةِ وَصلٍ وتأوي لهُ؟‬ ‫ن يشتفي المُستَهامُ‬ ‫َأمَا حان أَ ْ‬
‫ويعلم عِلـمُـك تـأويلَـهُ‬ ‫يجمجم عن سُؤلـه هَـيْبة‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت مُؤْتلي‬ ‫رويدًا ففي حكم الهوى أنْ َ‬ ‫شكوتُ إليه ما أُلقي فقـال لـي‪:‬‬
‫لقلّ بما أ ْلقَى إذاً أن تمـوتَ لـي‬ ‫فلو كان حقّا ما ادّعيتَ من الجوى‬
‫وقال أيضَاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فريقٌ وعندي شُعـبةٌ وفَـرِيقُ‬ ‫تفرق قلبي في هواه‪ ،‬فـعـنـده‬
‫فإن لم يكن راحٌ لـديك فَـرِيقُ‬ ‫إذا ظَمئَت نفسي أقول لها‪ :‬اسقِني‬
‫وقال أيضاً‪ :‬مجزوء الرجز‪:‬‬
‫ب ُقبْلَةٍ ما شَـفَـتِ‬ ‫شَافَهَ َكفّي رَشـأ‬
‫يا ليت كفَي شفتِي‬ ‫فقلت إذ َقبّلـهـا‬
‫وقال‪:‬البسيط‪:‬‬
‫قد كان يوسف لمّا مـات َولّه‬ ‫يا شادناً غاب نجم الحسن لوله‬
‫ن تولّه‬ ‫فاشتطّ في الحكم لول أ ْ‬ ‫ولّه رقّيَ ظرفٌ في شمائلـهِ‬
‫جدِ إل أنت وَالُ‬ ‫غمْرَةِ الوَ ْ‬‫من َ‬ ‫خلّصه‬ ‫ن يُ َ‬‫ارح ْم فتًى مُدنَفًا مَا إ ْ‬
‫قضاء الحاجة‬
‫ف قلمه ول‬ ‫قال أبو عثمان عمرو بن بَحْرٍ الجاحظُ‪ :‬حدّثني أبو الهيثم بن السندي بن شاهك قال‪ :‬قلت في أيام وليتي الكوفة لرجل من أهلها ل يج ّ‬
‫تستريح َيدُه‪ ،‬ول تسكُن حركتُه في طلب حوائج الناس‪ ،‬وإدخال المنافع على الضعفاء‪ ،‬وكان رجلً مفوّهأ‪ :‬أخبرني عن الشيء الذي هوّن عليك‬
‫خفْق أوتا ِر العيدان‪ ،‬وترجيحَ‬ ‫سحَارِ على أفنان الشجار‪ ،‬وسمعتُ َ‬ ‫النصب‪ ،‬وقوّاك على التّعبِ‪ ،‬ما هو؟ قال‪ :‬قد‪ ،‬والِّ‪ ،‬سمعتُ تغريدَ الطيار بال ْ‬
‫ل قد أحسن‪ ،‬ومن شاكر مُنعِم‪ ،‬ومن شفاعة شفيع محتسب لطالب‬ ‫ت من صوتٍ قطُ طَرَبي من ثناء حسن‪ ،‬على رج ٍ‬ ‫أصوات القيَان‪ ،‬فما طَ ِر ْب ُ‬
‫ذاكر‪.‬‬
‫ت عليك ال ُمعَاوَدة والطلب؟ قال‪ :‬ل أبلُغ المجهود‪ ،‬ول أسأل إل ما يجوز‪،‬‬ ‫سهُلَ ْ‬
‫ل أبوك! لقد خشيت كرماً! فبأي شيء َ‬ ‫فقال أبو الهيثم‪ :‬فقلت له‪ّ :‬‬
‫جبَ حقاً عليّ للذي قدم‬ ‫ي من إنجاز الوعد‪ ،‬ولست لكراه السائل بأَكرهَ مني لجحاف المسؤول‪ ،‬ول أرى الراغب أوْ َ‬ ‫وليس صدق العذر بأَكره إل ّ‬
‫ت كلماً قطّ أشدّ مؤالفة لموضعه‪ ،‬ول أليق بمكانه‪ ،‬من هذا الكلم‪.‬‬ ‫من حُسْنِ ظنه من المرغوب إليه للذي احتمل من كله‪ .‬قال إبراهيم‪ :‬ما سمع ُ‬
‫بين أسيد بن عنقاء الفزاري وعميله الفزاري‬
‫ن أكبر أهل زمانه‪ ،‬وأشدّهم عارضةً ولساناً‪ ،‬وطال‬ ‫شقَير النحوي عن أحمد بن عبيد قال‪ :‬كان أُسيد بن عنقاء الفزاري مِ ْ‬ ‫وروى أبو بكر بن ُ‬
‫خلُ‬
‫عمَيلة الفزاري‪ ،‬فسلّم عليه‪ ،‬وقال‪ :‬يا عمّ؛ ما أصارك إلى ما أرى؟ قال‪ :‬بُ ْ‬ ‫عمرُه‪ ،‬ونكبَه دهرُه؛ فاختلّت حالُه‪ ،‬فخرج يتبقّل لهله؛ فم ّر عليه ُ‬
‫عنْقاء إلى أهله فأخبرهم بما‬ ‫مثلك بماله‪ ،‬وصَوْنُ وجهي عن مسألة الناس‪ .‬قال‪ :‬أما والّ لئن بقيتُ إلى غدٍ لغيرَن من حالك ما أرى‪ ،‬فرجع ابن َ‬
‫ت م َتمَ ْلمِلً بين رجاء ويأس‪ ،‬فلقا كان السحَر سَمع رُغاء البل‪،‬‬ ‫جنْحَ ظلم فكأنما ألقموا فاهُ حجراً؛ فبا َ‬ ‫قال عُميلة‪ ،‬فقالوا له‪ :‬غرّك كلمُ غلمٍ ُ‬

‫‪289‬‬
‫عمَيلة قد ساق إليك مالَه‪ ،‬فخرج ابن عنقاء له‪ ،‬فقسم مالَه شَطْرَين‪ ،‬وساهمَ‬ ‫جبَ الموال‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا؟ قالوا‪ُ :‬‬ ‫و ُثغَاء الشاء‪ ،‬وصهيل الخيلِ‪ ،‬ولَ َ‬
‫عليه‪ ،‬فأنشأ ابن عنقاء يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫إلى ماله حالِي‪ ،‬أَسَ ّر كما جَـهَـرْ‬ ‫عمَيلةُ فاشتكـى‬ ‫رآني على ما بي ُ‬
‫ضرْ‬ ‫ن ل َبدْ ٌو يُرَجّى ول حَ َ‬ ‫على حي َ‬ ‫دعاني فواساني‪ ،‬ولو ضَنّ لم يُلَـمْ‬
‫وأوفاك ما أوليت مَنْ ذَمّ أو شكـرْ‬ ‫فقلت له خيراً‪ ،‬وأَثنـيت فِـعْـلَـهُ‬
‫تردّى بثوبٍ سابغ الـذيل واتـزَرْ‬ ‫ت ثـيابُـهُ‬ ‫جدَ استُعير ْ‬ ‫ولمّا رأى المَ ْ‬
‫له سِيمِيَا ٌء ل تَشُقّ على البـصـرْ‬ ‫غلمٌ رماه ال بالحـسـن يافـعـاً‬
‫شعْرَى وفي خدّه القمرْ‬ ‫وفي أنفه ال َ‬ ‫ت فـي جـبـينـهِ‬ ‫كأنّ الثريا عُلّقَ ْ‬
‫ل بل دُلّ‪ ،‬ولو شاء لنتـصـرْ‬ ‫ذلي ٌ‬ ‫إذا قيلت العوراءُ أغْضى كـأنـهُ‬
‫كلبي يمدح غنوياً‬
‫ي يمدح‬ ‫وأنشد أبو حاتم عن أبي عبيدة لِ ْلعَ َر ْندَس أحد بني بكر بن كلب يمدح بني عمرو ال َغنَويين‪ ،‬وكان الصمعي يقول‪ :‬هذا من المحال‪ ،‬كلب ّ‬
‫غنَوياً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫َ‬
‫س مَـكْـ ُرمَ ٍة أبـنـاءُ أيسـارِ‬‫سُوّا ُ‬ ‫َه ْينُون لَـ ْينُـون أيسـا ٌر ذوو كـرم‬
‫ج ْهدِ ُأدْ ِركَ منهم طيبُ أخبـار‬ ‫في ال َ‬ ‫ف يُعْطُوهُ‪ ،‬وإن خُبروا‬ ‫إن يُسْألوا العُ ْر َ‬
‫ول يُمارونَ إن مـارَوْا بـإكـثـار‬ ‫ل َينْطقون عن الهواء إن نَطَـقُـو‬
‫مثلَ النجوم التي يسري بها السارِي‬ ‫ق منهم تَقُلْ لقـيتُ سـيّدهـم‬ ‫مَنْ تَلْ َ‬
‫ول ُيعَـدّ نَـثَـا خِـ ْزيٍ ول عـارِ‬ ‫منهم وفيهم ُي َعدّ الـخـي ُر مـتـلِـداً‬
‫الدهر ل ينصف‬
‫حيْفِ! هل ضمن الده ُر أن ُينْصِف ول يَحِيفَ‪ ،‬أو ُيبْرِم فل َينْقُض‪ ،‬أو ُيعَافي فل ُيمْرِض‪ ،‬أو‬ ‫فصل لبعض الكتاب ‪ -‬ما تعجّبك ممّا لقيت من ال َ‬
‫حكْ ُم الدنيا ل تترك حامداً لها إل أسكتته‪ ،‬ول ضاحكًا إل أبكتْه‪،‬‬ ‫يصفو فل يكدّر‪ ،‬أو يَفي فل َيغْدر‪ .‬قَدر أن َتعْذب لي مَشَا ِربُه‪ ،‬وتَلين لي جوانبُهُ‪َ ،‬ف ُ‬
‫أقوى ما كان بها ثقة‪ ،‬وأشذ ما كان لها مِقَة‪ ،‬وأوكد ما كان رُكوناً إليها‪ ،‬وأعظم ما كان حرصاً عليها‪.‬‬
‫الستخفاف بحقّ النعم‬
‫حمْلُها‪،‬‬
‫ل عليه َ‬
‫ف من ثَ ُق َ‬
‫وقال بعض الكتّاب يصف رجلً بالذمّ‪ :‬ما ظنك بمن يعنف بالنعم عنف من سا َءتْهُ مجا َو َرتُها‪ ،‬ويستخفّ بحقّها استخفا َ‬
‫ويَطَ ِرحُ الشكر عليها اطّراح مَنْ ل َيعْلَمُ أنّ الشك َر يَ ْر َتبِطها‪.‬‬
‫فقر في المدح‬
‫وقال أبو الشيص‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫سأَ ْلتَ أبا بشْر ف ُتعْطاها؟‬ ‫هل َ‬ ‫يا من تمنّى على الدنيا َمبَاِلغَها‬
‫ول ا ْرتَقى غاية إل تخطّاها‬ ‫ب نَائِلُـهُ‬
‫ما هبّت الريحُ إل َه ّ‬
‫غيره‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ك قَصِيرُ‬ ‫وباعُ العادِي عن َمدَا َ‬ ‫طِلَبُ العُلَ إل علـيك يسِـيرُ‬
‫ولل َفضْـلِ فـيه أولٌ وأخِـيرُ‬ ‫إذا عُدّ أهلُ الفضل كنت الذي لهُ‬
‫وقال أبو الحجناء الصغر نُصيب يصف إسحاق بن صباح‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا ما َبدَا‪َ ،‬بدْ ٌر تَوَسّط أنـجـمـا‬ ‫كأن ابنَ صباحٍ‪ ،‬وكندةُ حَـوْلـهُ‬
‫تمامٌ فـمـا يزداد إل تـتـمـا‬ ‫على أنّ في البدر المحاقَ‪ ،‬وإن ذا‬
‫إذا ما عل أعْوادَهُ وتـكـلّـمـا‬ ‫ترى المنبر الغربي يهترّ تحـتـهُ‬
‫ومن قبلها كنت السنام الم َقدّمـا‬ ‫فأنت ابن خير الناس إلّ نـبـوةً‬
‫ونُصيب هو القائل في البرامكة‪ ،‬وكان منقطعاً إليهم‪ :‬الكَامل‪:‬‬
‫ضرّ وتنفعُ‬ ‫وأرى البرامكَ ل تَ ُ‬ ‫عند الملوك مَضرّةٌ ومنـافـعُ‬
‫أثّ النبات بها وطاب المَزرَع‬ ‫إن العروق إذا استس ّر بها الثّرى‬
‫وقَديمَة فانظر إلى ما يَصنَـع‬ ‫ت من امرئ أعراقَـهَ‬ ‫فإذا جهل َ‬
‫أخذ هذا من قول سَلم الخاسر‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫جهِه شاهدّ من الخبرِ‬ ‫في وَ ْ‬ ‫ل تسأل المرءَ عن خلئٍقِه‬
‫وقال نُصَيب في بني سليمان بن علي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وليس فوقكَم فَخرٌ لمفـتـخـرِ‬ ‫ل مَـكـرمةٍ‬ ‫بنِي سليمانَ ح ْزتُم ك ّ‬
‫خبَرِ‬ ‫في وجهِهِ شَا ِهدٌ ينبِيك عن َ‬ ‫ل تسأل المرءَ يوماً عن خلئقـه‬
‫سدْتَ جَميعَ الجنّ والبشَر‬ ‫وأنت ُ‬ ‫ب أمرئ شرفاً أن ساد أُس َرتَهُ‬ ‫حَس ُ‬
‫سأَل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت رجلً حاجة‪ ،‬فلم يقضها‪ ،‬وسأل آخر‪ ،‬فقضاها‪ ،‬فقال للول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تَوَلّى سواكُمْ شكرَها واصطناعها‬ ‫ت بحـاجة‬ ‫ذُممت وَل ْم تُحمد‪ ،‬وأبّ ُ‬
‫ونَفسٌ أضاق ال بالبخل بَاعَهـا‬ ‫أبى لك فعلَ الخيرِ رأيٌ مقصّـر‬
‫عصاها‪ ،‬وإن َهمّتْ بشرّ أطاعَها‬ ‫إذا ما أرادته على الخـي ِر مَـرّةً‬
‫الجود والعطاء‬

‫‪290‬‬
‫قال رجلٌ لهشام بن عبد الملك‪ :‬قد افتقرْتُ يا أميرَ المؤمنين إلى ظهور حسْن رأيك‪ ،‬فإن رأيتَ إظهارَه بسرور الصّديق‪ ،‬ورَغم العدوّ‪ ،‬فعلت‪،‬‬
‫قال هشام‪ :‬أوجزت وملحتَ فيما سألت‪ ،‬فل تردّ لك طَِلبَة‪ ،‬فما سأله شيئَاً إل أعطا ُه أكثر منه‪.‬‬
‫عمْرو بن مَسعَدة فارس وكرمان‪ ،‬فقال له بعض أصحابه‪ :‬أيها المير‪ ،‬لو كان الحياءُ يظهر سؤالً لدعاك حيائي من‬ ‫قال حميد بن بلل‪ :‬ولي َ‬
‫حسَد عدوي‪ ،‬دون أن أسألك‪ ،‬فقال عمرو‪ :‬ل تَبغ ذلك بابتذالك ماءَ وجهك‪ ،‬ونحن نُغنِيك عن‬ ‫ي بما يكثر به َ‬‫كرمك في جميع أهليك إلى القبال عََل ّ‬
‫إراقته في خوض السؤال‪ ،‬فَارفع ما تريده في رُقعة يصل إليك سرّا ففعل‪.‬‬
‫وقال رجل من أهل فارس‪ :‬قدم على محمد بن طيفور‪ ،‬وهو عامل على بلد أصبهان لبعض أهلها‪ :‬كم تقدّرون صلت محمد في كلّ سنة‬
‫للشعراء والمتوسّلين؟ قالوا‪ :‬مائة ألف دينار‪ ،‬سوى الخِلع والحُملن‪.‬‬
‫ل بغيرك إليك‪ ،‬وأن‬‫ل من أن ُيتَوَسّ َ‬
‫ب من بعض إخوانه في شأن رجل استماحه له في دَرجِه‪ :‬أنتَ أعَزّك ال تعالى أجَ ّ‬ ‫وورد عليه يوماً كتا ٌ‬
‫ستَماح جُودُك إل بك‪ ،‬غير أني أذكرك بكتابي في أمر حامله‪ ،‬ما شرَع كرمُك من الشكر وزَرَع إحسانك من الجر‪ِ ،‬قبَل الصادرين والوا ِردِين؛‬ ‫يُ ْ‬
‫فهنّاك ال تعالى ذلك‪ ،‬ولزالَت َيدُ ال بجميل إحسانه ونعمته متواتر ًة عليك‪.‬‬
‫ف دينار‪ ،‬ولمن كتب له مثلي‪.‬‬ ‫فقال محمد للرجل‪ :‬احتكم لك وله؛ فأخذ منه أل َ‬
‫جلّك عن كَشْفه‪ ،‬فقال له إبراهيم‪ :‬لكني أكشف‬ ‫وقال رجلي لبراهيم بن المهديّ‪ :‬قد أوحشني منك ت َردّدُ غليلِ في صدري أهابُك عن إظهاره‪ ،‬وأ ِ‬
‫لك معروفي‪ ،‬وأُظهر إحساني؛ فإن يكن غير هذين في خََلدِك‪ ،‬فاكتُبْ رقعة يخرج توقيعي سرّا لت ِقفَ على ما تحب‪ ،‬فبلَغ كلمه المهدي فقال‪:‬‬
‫هذا والّ غاية الكرم‪.‬‬
‫ت ِن ْعمَتكَ وجوهَ الشكر لك‪ ،‬وغُ َررَ الحمدِ فيما سلف منك‪،‬‬ ‫وكتب محمد بن طيفور لبعض خاصته بمالٍ وصّاه به‪ ،‬فكتب الرجلُ إليه‪ :‬قد استغوقَ ْ‬
‫ولول فَرْطُ عجزي عن تلقّي ما يجب لك من الحمد لقبلْتُ ما أنفذتَه‪.‬‬

‫خذْ ما أنفذْناه ثوابًا عن معرفتك بِشُكرِ التافه عندي‪ ،‬وإلّ سمح شكرُك بما رأيناك له أهلً‬ ‫فكتب إليه محمد‪ :‬قد صغّرَ شكرُك لنا ما أسلفناه إليك؛ ف ُ‬
‫ل الثناء‪ ،‬إن شاء ال تعالى‪.‬‬ ‫إلى أَنْ يتّسع قبول مثلك‪ ،‬ما يستحق به جميلَ الدعاء‪ ،‬وجزي َ‬
‫رثاء قرد وثور‬
‫ولما مات قِ ْردُ زُبيدة بنت جعفر ساءها ذلك‪ ،‬ونالها من الغمّ ما عَرَفه الصغير والكبير من خاصّتها‪ ،‬فكتب إليها أبو هارون العبديّ‪ :‬أيتها السيدة‬
‫خطْب بذهاب الصغير المعجب كموقع السرور بنيْلِ الكثير المفرِح‪ ،‬ومَن جهل َقدْرَ التعزية عن التافِهِ الخفي‪ ،‬عَميَ عن‬ ‫ن موقعَ ال َ‬ ‫الخطيرة؛ إ ّ‬
‫صكِ ال الزائدَ في سرورك‪ ،‬ول حَ َر َمكِ أجرَ الذاهب من صغيرك‪.‬‬ ‫التهنئة بالجليل السّنيّ‪ ،‬فل نَ َق َ‬
‫فأمَ َرتْ له بجائزة‪.‬‬
‫وكتب أبو إسحاق الصابي عن ابن بقية في أيام وزارته إلى أبي بكر بن قريعة يعزّيه عن ثور أبيض بقوله‪ ،‬وجلس للعزاء عنه تَرَاقُعاً وتحامُقاً‪:‬‬
‫التعزيةُ على المفقود أطال ال بقاءَ القاضي إنما تكونُ بحسب محلّه من فا ِقدِه‪ ،‬من غير أن تُرَاعَى قِيمتُهُ ول‪َ ،‬قدْرُهُ‪ ،‬ول ذاتُهُ ول عينُهُ؛ إذ كان‬
‫خمَادَ اللَوْعَة‪ ،‬وتسكين ال ّزفْرَة‪ ،‬و َتنْفيس الكُزبة‪ ،‬فربّ وََلدٍ عاق‪ ،‬وشقيق مُشَاقّ‪ ،‬وذي رحم أصبح لها قاطعاً‪ ،‬ولهله‬ ‫الغرض فيها تبريدَ الغُلّة‪ ،‬وإ ْ‬
‫شنَاراً‪ ،‬فل لوم على تَرْك التعزية عنه‪ ،‬وأحْرِ بها أن تستحيل تهنئةً بالراحة منه؛ وربّ مالٍ صامتٍ‬ ‫فاجعاً‪ ،‬وقريب قوم قد قلدَهم عاراً‪ ،‬وناطَ بهم َ‬
‫غيرِ ناطقٍ‪ ،‬قد كان صاحبُه به مستظهراً‪ ،‬وله مستثْمراً‪ ،‬فالفجيع ُة به إذا فقد موضوعه موضعها‪ ،‬والتعزي ُة عنه واقعةٌ منه موقعها‪ .‬وقد بلغني أن‬
‫جهَش عليه باكياً‪ ،‬والتدَم عليه وَالِهاً‪ ،‬وحُكيت عنه حكاياتٌ‪ ،‬في التأبين له‪ ،‬وإقامة‬ ‫القاضي أصيب بثور كان له‪ ،‬فجلس للعزاء عنه شاكياً‪ ،‬وأَ ْ‬
‫ت فيه وَحدَه‪ .‬فصار كما قال أبو نواس‪ ،‬في مثله من الناس‪:‬‬ ‫النَدبة عليه‪ ،‬وتعديد ما كان فيه من فضائل البقْر التي تفرقتْ في غيره‪ ،‬واجتمعَ ْ‬
‫السريع‪:‬‬
‫حدِ‬‫أن يجمع العالم في وَا ِ‬ ‫ليس على ال بمستنكَـرٍ‬
‫ل مستخفّا؛‬ ‫لنه َيكْرُب الرض مغمورة ط ويُثيرها مزروعة‪ ،‬ويرقص في الدواليب ساقياً وفي الرحاء طاحناً‪ ،‬ويحمل الغلّتِ مستقلّ‪ ،‬والثقا َ‬
‫فل يَؤُوده عظيم‪ ،‬ول يعْجزه جسيم‪ ،‬ول يجري في الحائط مع شقيقه‪ ،‬ول في الطريق مع رفيقه‪ ،‬إل كان جَلدًا ل يُسبَق‪ ،‬ومبرّزًا ل يُلحق‪ ،‬وفائتاً‬
‫طبٍ جلّ‬ ‫ل يُنال شَأْوه وغايتُه‪ ،‬ول يبلغ َمدَاه ونهايتُه‪ .‬ويشهدُ ال أن ما ساءه ساءني‪ ،‬وما آلمه آلمني‪ ،‬ولم يَجُزْ عندي في حق ودّه استصغارُ خَ ْ‬
‫ب بلغ منه وأرمضه‪ ،‬وشَفّه وأمرضه؛ فكتبت هذه الرقعة‪ ،‬قاضيًا بها من الحقّ في مصابه هذا ب َقدْرِ‬ ‫عنده‪ ،‬فأرّقه وأمَضّه وأقلقه‪ ،‬ول تهوين صع ٍ‬
‫ن من إعظامه له‪ ،‬وأسأل ال تعالى أن يخصّه من المعوضة بأفضل ما خصّ به البشر‪ ،‬عن البقر‪ ،‬وأن يُفْ ِر َد هذه‬ ‫ما أظهر من إكباره إيّاه‪ ،‬وأبا َ‬
‫البهيمة العجماء بأثَرَ ٍة من الثواب‪ ،‬يضيفها إلى المكلّفين من أهل اللباب؛ فإنها وإن لم تكن منهم‪ ،‬فقد استحقت إل تُفرد عنهم‪ ،‬بأن مسّ القاضي‬
‫سببُها‪ ،‬وصار إليه منتسبُها‪ ،‬حتى إذا أنجز ال ما وعد به عباده المؤمنين‪ ،‬من تمحيص سيئاتهم‪ ،‬وتضعيف حسناتهم‪ ،‬والفضاء بهم إلى الجنة‬
‫التي رَضيَها لهم داراً‪ ،‬وجعلها لجماعتهم َقرَاراً؛ وأورد القاضي ‪ -‬أيّده ال تعالى ‪ -‬مواردَ أهل النعيم؛ مع أَهْل الصراط المستقيم‪ ،‬جاء وثَ ْورُه هذا‬
‫مجنوب معه‪ ،‬مسموح له به؛ وكما أن الجن َة ل يدخلها الخبث‪ ،‬ول يكون من أهلها الحدث‪ ،‬ولكنه عَرَق يجري من أعواضهم‪ ،‬كذلك يجعل ال‬
‫ثَوْر القاضي مركبًا من ال َع ْنبَرِ الشّحري‪ ،‬وماءِ ال َورْد الجُوري؛ فيصير ثوراً له طورا؛ وجُونَةَ عطرٍ له طورا وليس ذلك بمستبعد ول مستنكر‪،‬‬
‫ول مستصعَب ول متعذّر؛ إذ كانت قدرةُ ال بذلك محيطةً‪ ،‬ومواعيده لمثاله ضامنة؛ بما أعدّه الّ في الجنة لعبادِه الصادقين‪ ،‬وأوليائه‬
‫الصالحين؛ من شهوات أنفسهم وملذّ أعينهم‪ ،‬وما هو سبحانه مع غامر فضله وفائِض كرمه‪ ،‬بمانعه ذلك مع صالح مساعيه‪ ،‬ومحمود شيَمه؛‬
‫وقلبي متعلّق بمعرفة خبره‪ ،‬أدام الُّ عزه فيما ادرعه من شعار الصبر‪ ،‬واحتفظ به من إيثار الخر‪ ،‬ورفع إليه من السكون لمْرِ ال تعالى في‬
‫ط َرقَه‪ ،‬والشكر له فيما أزعجه وأقلقه‪ ،‬فليعرفني القاضي من ذلك ما أكُونُ ضاربًَا معه بسَهمِ المساعدة عليه‪ ،‬وآخذاً بقسطِ المشاركة فيه‪.‬‬ ‫الذي َ‬
‫فصل من جواب أبي بكر‪ :‬وصل توقيعُ سيّدنا الوزير أطال ال بقاه‪ ،‬وأدام تأييده ونعماه‪ ،‬وأكمل رفعته وعُله‪ ،‬وحَرس مهْجته ووَقاه‪ ،‬بالتعزية‬
‫ث مثيراً‪ ،‬وللدواليب ُمدِيراً‪ ،‬وبالسبْقِ إلى سائر المنافع شهيراً‪ ،‬وعلى شدائد الزمان مساعداً وظَهيراً‪ .‬لعمرُك‬ ‫حرْ ِ‬
‫عن الثور البيض‪ ،‬الذي كان لل َ‬
‫شرْواه‪ ،‬ول شروى له؛ فإنه كان من أعيان البقر‪ ،‬وأنفع أجناسه للبشر‪ ،‬مضاف‬ ‫لَقد كان ِبعَملِه ناهضاً‪ ،‬ولحماقات البقر رافضَاً‪ ،‬وأنّى لنا بمثله و َ‬
‫ن عليه غير مَلُوم‪.‬‬ ‫ذلك إلى خَلّت لول خَوفي من تجدّد الحزن عليه‪ ،‬وتهييج الجزَع وانصرافه إليه لعدَدتُها؛ ليعلمَ ‪ -‬أدام ال عزّه ‪ -‬أنّ الحزي َ‬
‫ت ما مثّله الوزير من‬ ‫وكيف يُلم امرؤ فقَد من ماله قطعةً يجب في مثلها الزكاة‪ ،‬ومن خَدم معيشته بهيمة تُعين على الصوم والصلة‪ ،‬وقد احتذي ُ‬
‫جميل الحتساب‪ ،‬والصبر على المُصَاب؛ فقلت‪" :‬إنّا لِّ وإنّا إليه راجِعونَ‪ ،‬قول من علم أنه أملك لنفسه وماله وأهله‪ ،‬وأنه ل يملك شي َئًا دونه؛‬
‫إذ كان جلّ ثناؤه‪ ،‬وتقدّست أسماؤه‪ ،‬هو الملك الوهّاب‪ ،‬المرتجع ما ارتجع ممّا يعوض عليه نفيس الثواب‪ .‬وقد وجدت ‪ -‬أيّد ال الوزير ‪ -‬للبقر‬

‫‪291‬‬
‫خاصة فضيلةً على سائر بهيْمة النعام‪ ،‬تشهد بها العقولُ والفهام‪ ،‬وذكَر جملة من فضائلها‪.‬‬
‫ن أبَا نواس في قوله‪ :‬السريع‪:‬‬
‫وكأ ّ‬
‫أن يجمع العالم في واحد‬ ‫ليس على ال بمستنكـر‬
‫نَظَر في هذا المعنى إلى قول جرير‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫س كّلهُمُ غِضابا‬‫سبْتَ النا َ‬
‫حَ ِ‬ ‫ت عليك بنو تميمٍ‬
‫ضبَ ْ‬
‫إذا غ ِ‬
‫رثاء الشخاص‬
‫وقالت امرأة من العرب‪ ،‬يقال‪ :‬إنها امرأ ُة العباسِ عمّ النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ترثي بنيها‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫حتى إذا كملت أظماؤهـمْ و َردُوا‬ ‫رَعَوا من المجد أكنافاً إلى أجـل‬
‫تٌ بالحجاز‪ ،‬مَنايا بينـهـم بَـدَدُ‬ ‫مَيت بمصر‪ ،‬ومَيتٌ بالعراق‪ ،‬ومَي‬

‫إذا القعاديدُ عن أمثاله ْم قعـدوا‬ ‫كانت لهم ِه َممٌ فرقن بـينـهـ ُم‬
‫طاء الجزيل الذي لم يعطِه أحدُ‬ ‫بَث الجميل‪ ،‬وتفريغ الجليل‪ ،‬وإع‬
‫وقال عبدة بن الطبيب في قيس بن عاصم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ورحمتُهُ ما شاء أن يترحّمـا‬ ‫عليك سلمُ ال قيس بنَ عاصمٍ‬
‫ط بلَدك سلّما‬ ‫إذا زار عن شَح ٍ‬ ‫ستَه منك نـعـمةً‬ ‫تحيةَ مَن أَلبَ ْ‬
‫ن قـو ٍم تَـهَـدّمـا‬‫ولكنه بنْيا ُ‬ ‫حدٍ‬‫فما كان قَيسٌ هُلكُهُ ه ْلكَ وا ِ‬
‫وقيس بن عاصم هو القائل‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫س يُغـيّره ول أَفــنُ‬ ‫َدنَـ ٌ‬ ‫حسَبـي‬ ‫إني امرُ ٌؤ ل يَعتَرِي َ‬
‫والصل َينْبتُ حوله الغصْنُ‬ ‫ت َمكَـرمةٍ‬ ‫من مِنقَر في بي ِ‬
‫بِيضُ الوجوهِ أعفّة لُـسْـنُ‬ ‫خُطباء حين يقول قائلـهـمْ‬
‫حسْن جوارِه فُطْـنُ‬ ‫و ُهمُ ل ُ‬ ‫ل يَفطِنون ِلعَيبِ جـارِهُـم‬
‫وقالت أخت الوليد بن طريف الشيباني ترثيه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫كأنك لم تَجْ َزعْ على ابنِ طَريفِ‬ ‫ك مُورِقـاً‬ ‫أبا شجَر الخابورِ ما ل َ‬
‫ل إل من قَناً وسـيوفِ‬ ‫ول الما َ‬ ‫ل من التّقـى‬ ‫فتى ل َي ُعدّ الزادَ إ ّ‬
‫أرى الموت َوقّاعًا بكل شريف‬ ‫عليك سلمُ ال وقفـاً؛ لنـنـي‬
‫َف َديْنَاك من فتيانـنـا بـأُلـوف‬ ‫فقدناك فِ ْقدَان الربيع‪ ،‬ولـيتـنـا‬
‫وخرج الوليد في أيام الرشيد‪ ،‬فقتله يزيد بن مَزْيد‪ ،‬وفي ذلك يقول بكر بن النطاح الحنفي‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫من يزيدٍ سيوفُ ُه بـالـولـيدِ‬ ‫ج َعتْـكُـمْ‬‫يا بني تغلبٍ‪ ،‬لقد فَ َ‬
‫عتْ ُه لقَتْ خِلفَ السعودِ‬ ‫قارَ َ‬ ‫ف يزيدٍ‬ ‫لَوْ سيوفٌ سوى سيو ِ‬
‫ل يَفلّ الحديدَ غيرُ الحـديدِ‬ ‫ل َبعْـضـاً‬ ‫وات ٌر بعضُها يُ َقتّ ُ‬
‫عود إلى المديح‬
‫ح فيهم‪ ،‬وهو القائل‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وكان بكر كثيرَ التعصب لربيعة والمد ِ‬
‫سأَلِ‬‫ومن يفتق ْر من سائر الناس يَ ْ‬ ‫ومن يَفْتق ْر ِمنّا َيعِشْ بحُسـامِـه‬
‫بشدّة بأْس في الكتاب المنـزّلِ‬ ‫ص ْفنَا دون كـل قـبـيلةٍ‬ ‫ونحن وُ ِ‬
‫ب قَـ َرنْـفِـلِ‬ ‫فتا ٌة بعِقْد أو سِخَا ِ‬ ‫وإنّا لنَ ْلهُو بالسيوف كما لَـهَـتْ‬
‫س شديدٍ"‪ .‬جاء في بعض التفاسير أنهم بنو حنيفة قوم مُسيلمة الكذاب‪.‬‬ ‫ستُدْعَوْنَ إلى قوم أَولي بَأْ ٍ‬ ‫يريد قول الّ عزّ وجل‪َ " :‬‬
‫وبكر القائل أيضاً في أبي دُلَفَ‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حيّا لقد كانت بـغـير عِـمَـادِ‬ ‫يا عصمة العرب الذي لو لم يكن‬
‫رجعت من الجلل غيرَ حِـدَادِ‬ ‫ن العيون إذا رَأتْـك حِـدادُهـا‬ ‫إّ‬
‫ت منه مـواضـعَ السـداد‬ ‫ح َ‬ ‫فتّ ْ‬ ‫وإذا رميت الثغر منك بـعَـزْمةٍ‬
‫ل من فـرْصَـاد‬ ‫وكأنّ سيفك سُ ّ‬ ‫فكأن رمحَك ُمنْقَعٌ في عصـفُـرٍ‬
‫بِيض السيوف لذُبْنَ في الغمـاد‬ ‫ضبٍ أبو دلف على‬ ‫لو صال من غَ َ‬
‫نارَين؛ نارَ وغًـى ونـار زنـاد‬ ‫أَذكى وأَوقد للعـداوة والـقِـرَى‬
‫وأبو دلف هو القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير بن شنج بن معاوية بن خُزَاعي بن عبد العزّى بن دلف بن جشم بن قيس بن سعد‬
‫بن عجل بن لجيم‪.‬‬
‫وقد روِيت البيات التي مرت لخت الوليد بن طريف لعبد الملك بن بجرة النميري‪.‬‬
‫وقال أبو هَفّان واسمه منصور بن بجرة‪ ،‬قال‪ :‬أنشدني دعبل لنفسه‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫وفقدُك مثل افتقاد الـدّيَم‬ ‫َودَاعُك مثل َودَاع الربيع‬
‫أفارق منك وك ْم من كَرَمْ‬ ‫عليك السلم فكم من وفاءٍ‬
‫فقلت‪ :‬أحسنت‪ ،‬ولكن سرقت البيتين من ربيعيين‪ :‬الول من قول القَطَامي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ب ميعادي‬ ‫شيْ َ‬ ‫خذْنَ ال ّ‬
‫عنَني واتّ َ‬ ‫َودّ ْ‬ ‫ما للكواعب ودّعْنَ الحياةَ كمـا‬

‫‪292‬‬
‫والثاني من قول ابن بجرة‪:‬‬
‫فقدناك فقدان الربيع وليتنا‬
‫وأنشد البيت‪ .‬فقال‪ :‬بلى‪ ،‬والّ سرق الطائي من ابن بجرة بيتاً كاملً فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫رأيت الكريمَ الحُرّ ليس له عُمرُ‬ ‫عليك سلم ال وقفًا فـإنـنـي‬
‫كذا وردت الحكاية من غير وجه‪ ،‬وكان يجب إذا كان من ربيعيين أن يكون فَقَدناك فقدان الربيع لخت الوليد‪.‬‬
‫وقد قار السموأل في قصر العمر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫و َتكْرَهه آجاُلهُم َفتطـولُ‬ ‫يقربُ حبّ الموتِ آجالَنا لنا‬
‫وقال ابن قتيبة‪ :‬أخذ النميريَ قوله‪ :‬أيا أيا شجر الخابور من قول الجن في عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫له الرض تهتزّ العِضَاه بأسْواقِ‬ ‫أبعد قتيلٍ بالمـدينة أظـلـمـت‬
‫وقد أنشده أبو تمام الطائي للشماخ في أبيات أولها‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يدُ ال في ذاك الدِيمِ المـمـزّقِ‬ ‫جزى ال خيرًا من أميرٍ وباركت‬
‫سبَـقِ‬ ‫ليدرك ما قدمت بالمس يُ ْ‬ ‫ومن يَسعَ أو يركب جناحي نعامةٍ‬
‫نوافج في أكمامها لم تـفـتّـق‬ ‫ت بعدهـا‬ ‫ت أموراً ثم غادر َ‬ ‫قضي َ‬
‫س َبنْتَى أزرق العين مُطرِق‬ ‫بكفّي َ‬ ‫وما كنت أخشى أن تكونَ وفاتُـه‬
‫ي مـعـلّـق‬ ‫نثا خبر فوق المط ّ‬ ‫تظلّ الحَصَان البِكر تلقى جنينهـا‬
‫وقد قال بشار قريبًا من قوله‪ :‬ول المال إلّ من قنا وسيوف‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عبْلُ الساعدَين قَرُوعُ‬ ‫وفي الدّرع َ‬ ‫على جَنبات الملك منه مَـهَـابةٌ‬
‫خزائنـهـم خَـطّــي ٌة ودُروعُ‬ ‫إذا اختزنَ المال البخيلُ فإنـمـا‬
‫وهذا كقول أبي الطيب المتنبي في فاتك الخشيدي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل دَا ٍر بَلقـعُ‬
‫ذَهباً فماتَ وك ّ‬ ‫كنا نَظنّ دِيارَه مَـمـلـو َءةً‬
‫وبناتُ أعوَجَ كلّ شي ٍء يَجمعُ‬ ‫وإذا المكارمُ والصّوارمُ والقنا‬
‫ومن بارع هذا النحو قول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي‪:‬الطويل‪:‬‬
‫لسُكنى سعي ٍد بين أهل المقابـر‬ ‫وإني لرباب القبور لـغـابـطٌ‬
‫عداتي ولم أهتف سِواه بنَاصِـر‬ ‫ع به إذ تكـاثـرت‬ ‫وإني لمفجو ٌ‬
‫وقد ح ّز فيه نصل حَرّان باتـرِ‬ ‫وكنت كلمغلوبٍ على نَصل سَيفه‬
‫من البَث والداء الدخيل المخامِر‬ ‫أتيناه زوّاراً فأمجـدَنـا قـرى‬
‫من الوجد يُسقَى بالدمُوع البَوادِرِ‬ ‫ع قد نما في صدورنـا‬ ‫وأُبنَا بِزَر ٍ‬
‫أصبْنا عظيمات اللّهى والمآثِـرِ‬ ‫ولمّا حضَرنَا لقتسـام تُـراثِـه‬
‫أي لم نصب مالً‪ ،‬ولكنا أصبنا فعَالً‪.‬‬
‫من نوادر العراب‬
‫سنَ ُة اشتدّ بلؤها‪،‬‬ ‫حدَرتنَا إليك َ‬ ‫دخلت أعرابية على عبد ال بن أبي بكرة بالبصرة‪ ،‬فوقفت بين السماطين‪ ،‬فقالت‪ :‬أصلح ال المير‪ ،‬وأَمتَعَ به؛ َ‬
‫ت من الدهر بَرَين عَظْمي‪،‬‬ ‫وانكشف غطاؤها‪ ،‬أقودُ صِبية صغاراً‪ ،‬وآخرين كباراً‪ ،‬في بلد شاسعة‪ ،‬تَخ ِفضُنا خافضة‪ ،‬وترفعُنا رافعة‪ِ ،‬لمُلما ٍ‬
‫وأذهبْنَ لحمي‪ ،‬وتر ْكنَني والهة أدورُ بالحضيض‪ ،‬وقد ضاق بي البلدُ العريض‪ ،‬فسألت في أحياءِ العرب‪ :‬مَن الكامل ُة فضائلُه‪ ،‬ال ُمعْطَى سائلُه‪،‬‬
‫ي نَائله‪َ ،‬فدُلِلْت عليك ‪ -‬أصلحك ال تعالى ‪ -‬وأنا امرأة من هوازن؛ وقد مات الوالد‪ ،‬وغاب الرّافد‪ ،‬وأ ْنتَ بعد ال غياثي‪ ،‬ومنتهى أمَلي‪،‬‬ ‫المكف ّ‬
‫جرِي على‬ ‫ل يُجرِي عليها كما يُ ْ‬ ‫فافعلْ بي إحدَى ثلث‪ ،‬أما أن تردّني إلى بلدي‪ ،‬أو تحسن صَفَدي‪ ،‬أو تقيم أوَدي فقال‪ :‬بل أجمعها لك‪ ،‬فلم يَزَ ْ‬
‫عياله‪ ،‬حتى ماتت‪.‬‬
‫قال العتبي‪ :‬وقف أعرابيّ بباب عبيد ال بن زياد‪ ،‬فقال‪ :‬يا أهل الغَضَارة‪ ،‬حَ ِقبَ السحابُ‪ ،‬وانقشعَ ال ّربَابُ‪ ،‬واستأسدت الذّئَاب‪ ،‬وردم ال ًثمَد‪ ،‬وقل‬
‫حيّ حِلَل وع َددٌ ومالٌ‪ ،‬قتفرَقنا‬ ‫حفَد‪ ،‬ومات الولد‪ ،‬وكنت كثيرَ العفَاةِ‪ ،‬صخِب السقاة‪ ،‬عقي َم الدّلة‪ ،‬ل أتضاءك للزمان‪ ،‬ول أحفل با ْلحِدثَان‪َ ،‬‬ ‫ال َ‬
‫حمَى‪ ،‬وقومي أسى‪ ،‬وعَزمي جَداً؛ قضى ال‬ ‫سبَا‪ .‬بعد فقد البناء والباء‪ ،‬وكنت حسنَ الشارة‪ ،‬خصيب الدَارَة‪ ،‬سليم الجارةِ وكان محلّي ِ‬ ‫أ ْيدِي َ‬
‫شخْصُه شاهدُه‪ ،‬ولسانُه وَافدُه‪ ،‬وف ْقرُه سائقُهُ وقا ِئدُه‪.‬‬ ‫سوَافِ المال‪ ،‬وشتات الرجال‪ ،‬و َت َغيّر الحال‪ ،‬فأغيثوا مَن َ‬ ‫ول رجْعان لما قضى‪ ،‬بِ َ‬
‫ومن مقامات السكندري‪ ،‬من إنشاء بديع الزمان‪ ،‬قال‪:‬‬
‫حدثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬دخلت البَصرة وأنا من سنيّ في فَتاء‪ ،‬ومن الزّيّ في حِبرٍ ووِشاء‪ ،‬ومن الغنى في بَ َقرٍ وشَاء؛ فأتيت المِ ْربَد مع رفْقَة‬
‫عمَدنا لِ ِقدَاح اللَهو فأجَ ْلنَاهَا‪،‬‬
‫ض فحللْناها‪ ،‬و َ‬ ‫شيْنا في تلك ال ُمتَوَجّهات‪ ،‬وملكتنا أر ٌ‬ ‫تأخذهم العيون‪ ،‬ودخلْنا غير بعيد في بعض تلك المتنزهات‪ ،‬وم َ‬
‫سرَع من ارتداد الطَرْف حتى عنّ لنا سَوَادٌ‪ ،‬تخفِضُه وهاد‪ ،‬وترفعه نِجَاد‪ ،‬وعلمنا أنه يهمّ‬ ‫شمَةِ‪ ،‬إذْ لم يكن فينا إل منّا‪ ،‬فما كان إل بأَ ْ‬ ‫مُطّرِحِينَ للحِ ْ‬
‫بنا‪ ،‬فأتلعْنا له‪ ،‬حتى انتهى إلينا سيرُه‪ ،‬ولقينا بتحية السلم‪ ،‬ورددنا عليه مقتضى السلم؛ ثم أجال فينا طَرْفه وقال‪ :‬يا قوم‪ ،‬ما منكُ ْم إل من‬
‫ل من أهل السكندرية‪ ،‬من الثغور الموية‪ ،‬وقد وطّأ لي الفضل كنَفَه‪،‬‬ ‫يلحظني شَزْراً‪ ،‬ويوسعني زَجراً‪ ،‬ول ينبئكم عني‪ ،‬بأصدقْ مني؛ أنا رج َ‬
‫حمْر الحواصل‪ :‬الرجز‪:‬‬ ‫جعْجَعَ بي الده ُر عن ثمّهِ ورمّهِ‪ ،‬وَأتْلنِي زغاليلَ ُ‬ ‫ورحبت بي عبس‪ ،‬ونَمانِي بيت‪ ،‬ثم َ‬
‫س ّمهُمْ‬
‫فلو َيعَضّونَ َلذَكّى َ‬ ‫حيّاتُ أرض مَحْلَةٍ‬ ‫كأنهُمْ ُ‬
‫وإن رَحَلنَا َر ِكبُوني كُّلهُمْ‬ ‫إذا نزَ ْلنَا أرسلوني كاسباً‬
‫عفْر‪ ،‬وهذه البصرة‬ ‫ونشرت علينا البيض‪ ،‬وشمسَتْ منا الصّفْر‪ ،‬وأكلتْنا السّودُ‪ ،‬وحطمتنا الحمر‪ ،‬وانتابنا أبو مالك‪ ،‬فما تَلَقّانا أبو جابر إل عن ُ‬
‫ماؤها هَضوم‪ ،‬وفقيرها مهضوم‪ ،‬والمر ُء من ضِزسِه في شُغل‪ ،‬ومن نفسه في كلّ‪ ،‬فكيف بمن‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫حدّدَة العـيونِ‬ ‫غبٍ م َ‬ ‫إلى زُ ْ‬ ‫طوّف ثم يَأوي‬ ‫يطَوّف ما اي َ‬

‫‪293‬‬
‫جيَاع الناس ضامِ َر َة العيونِ‬ ‫ِ‬ ‫شعْثًا فتمْسِـي‬
‫كَسَاهُنّ البِلَى ُ‬
‫ضضْنَ عقد الضلوع‪ ،‬وأ َفضْنَ ماء‬ ‫ي ك َميْتٍ‪ ،‬وفي بيت كل بيت‪ ،‬وقلبْنَ الكفّ على لَيت‪ ،‬فقَ َ‬ ‫صبَحْنَ اليَوْمَ وقد سَرّحْنَ الطرف في ح ّ‬ ‫ولقد أ ْ‬
‫الدموع‪ ،‬و َتدَاعَينَ باسمِ الجوع‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫لمَهْ‬
‫مِ لكلّ في كَ َرمٍ عَ َ‬ ‫والفَقْر في َزمَنِ اللثـا‬
‫وقد اخترتُكم يا سادة‪ ،‬ودلّتني عليكم السعادة‪ ،‬وقلت‪ :‬قسماً‪ ،‬إن فيهم شِيماً‪ ،‬فهل من فتى يعشّيهنّ‪ ،‬أو يغشّيهِنّ؟ وهل من ح ّر ي َغذّيهنّ‪ ،‬أو يردّيهن؟‪.‬‬
‫س ْمعِي كلم رائع ابرع ممّا سَمعت‪ ،‬ل جرمَ أنا استَمَحْنا الوساط‪ ،‬و َنفَضنا الكمام‪ ،‬و َبحَثنا الجيوب؛‬ ‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فوالّ ما استأذن على َ‬
‫عنّا بعد شكر وفّاه‪ ،‬ونش ٍر مَلَ بِ ِه فَاهُ‪.‬‬ ‫وأن ْلتُ ُه مُطرَفي‪ ،‬وأخذت الجماعةُ أَخْذي‪ ،‬وقلْنا له‪ :‬الحقّ بأطفالك‪ ،‬فأعرض َ‬
‫عنَانِ الحلم‪ ،‬فسيح رُقعة الصدر‪:‬‬ ‫جنَانِ الصدر‪ ،‬جموح ِ‬ ‫ومن رسائله إلى بعض الرؤساء‪ :‬خُلقت ‪ -‬أطال ال بقاء السيد وأدام تأييده ‪ -‬مشروحَ َ‬
‫الطويل‪:‬‬
‫لسِرْتُ إليه مشْرِقَ الوَجْهِ راضيا‬ ‫حمُولً صبوراً لو َت َعمّدَني الردى‬ ‫َ‬
‫شيْبي فوجَعَ القلب باكِيا‬ ‫لفارقت َ‬ ‫صبَـا‬
‫ألوفاً وفَياً لو ُردِدت إلى ال ّ‬
‫ل لَحيلنّ السيد على اليام‪ ،‬ولكِلَنّ استحالة رأيه فيّ على الليالي؛ ول أزال أصفيه الولء‪ ،‬وأسنيه الثناء‪ ،‬وأفرش له من صدري الدّهنَاء‪،‬‬ ‫وا ّ‬
‫ن موقف اعتذار‪ ،‬وليعلمنّ ِبنُصح أتى الواشون أم بِحبول‪ ،‬ول أقول‪ :‬يا حالف‬ ‫وأُعيره أذناً صماء‪ ،‬حتى يعلم أيّ عِلقٍ باع‪ ،‬وأيّ فتى أضاع‪ ،‬وليقفَ ّ‬
‫سبْطه‪ ،‬ولكني‬ ‫ستَاقُ إلى رمي يزيد لِ ِ‬ ‫اذكر حِلّ ولكن يا عاقِد إذكر حَلّ ولست كمن يشكو إلى رسول ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪َ ،‬أذَى رَهطِهِ‪ ،‬و َي ْ‬
‫أقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ستَحَلّتِ‬
‫لعَزّ َة مِنْ أَعراضنا ما ا ْ‬ ‫هنيئاً مريئاً غيرَ داءِ مخَـامِـرٍ‬
‫ن من لقائه‪ ،‬فإن نشط للجابة فلتكن المخاطبةُ قرأت رقعتك‪ ،‬فهو أخفّ‬ ‫وأنا أعلم أنّ السيدَ ل يخرج عن تلك الحلية‪ ،‬بهذه ال ّرقْية‪ ،‬وأنّ جوابَه أخش ُ‬
‫ل تَبِعة‪.‬‬
‫مؤنة‪ ،‬وأق ّ‬
‫وله إلى الشيخ العميد‪:‬‬

‫أنا ‪ -‬أطال ال بقاء الشيخ العميد ‪ -‬مع إخوان نيسابور‪ ،‬في ضيعة ل فيها أعان‪ ،‬ول عنها أصان‪ ،‬وشيمة ليست بي تناط‪ ،‬ول عنّي تمَاط‪ ،‬وحرفة‬
‫ي تبِعتُها وليس لْي منفعَتهإ‪ ،‬فهل للشيخ العميد أن يلطف بصنيعته لطفًا يحط عنه دَرَنَ العار‪،‬‬ ‫عنّي تزَال‪ ،‬ول فيها أدَال‪ ،‬وهي الكُدية التي عل ّ‬ ‫ل َ‬
‫شخْصُهً‪ ،‬بإتمام ماكان عَرَضَه عليه من‬ ‫وشيمة التكسب بالشعار‪ ،‬ليخفّ على القلوب ظلّه ويرتفع عن الحرار كَلّه ول يثقل على الجفان َ‬
‫ل عن إذلله‪ ،‬واشترى حُسنَ الثناء بجاهه‪ ،‬كما يشتريه بماله‪،‬‬ ‫أشغاله‪ ،‬ليعلَقَ بأذياله‪ ،‬ويستفي َد من خلله؛ فيكون قد صان العلم عن ابتذاله‪ ،‬والفض َ‬
‫والشيخ العميد فيما يوجبه من وَعدٍ يعتمده‪ ،‬ووفاء يَتلو ما يَعده‪ ،‬عالٍ رأيه إن شاء ال‪.‬‬
‫رجع إلى المديح‬
‫وقال بعضُ أهل العصر؟ وهو أبو العباس الناشئ‪ ،‬يمدحُ سعد الدولة أبا المعالي شريف بن سيف الدولة علي بن عبد ال بن حمدان‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫يَرَى بها غائبَ الشياء لم يَغِـبِ‬ ‫كأنّ مرآةَ فهمِ الـدَهـرِ فـي يدهِ‬
‫إل علها شريفٌ كوكبُ العربِ‬ ‫ما يرفع الفَلكُ العالي سماءَ عُـلً‬
‫طبِقُ أجفاناً على ال َغضَبِ‬ ‫ل يُ ْ‬
‫والبُخْ ُ‬ ‫يا من ب َعيْنِ الرضا يلقَى مُؤمَـلـهُ‬
‫أعطاك موضع بسم ال في الكُتُبِ‬ ‫لو يكتب المَلْك أسماء الملـوك إذاً‬
‫فليس ِذكْرُك في أرض بمغترِبِ‬ ‫غرّبت في كل يوم منك مكـرمةً‬
‫بيته الول كقول القائل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫له من وراء الغَيْب ُمقْلَةُ شاهدِ‬ ‫أطل على الشياء حتى كأنمـا‬
‫وكما قال أبو تمام الطائي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ض في عينيه دارُ‬ ‫كأنّ الر َ‬ ‫أطَل على كِلَ الفقين حتى‬
‫وأفرط ابن الرومي فقال‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫ض في يديه كُرَهْ‬ ‫كأَنما الر ُ‬ ‫أحَاطَ علمًا بكـلّ خـافـيةٍ‬
‫وقال محمد بن وهيب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫يخاطبه من كلّ أمر عواقبُهْ‬ ‫عليمٌ بأعقاب المور‪ ،‬كأنمـا‬
‫وقال بعض شعراء بني عبد ال بن طاهر‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫أقرّ الخلفة فـيَ دارهـا‬ ‫وقوفك تحت ظلل السيوف‬
‫إذا ما تناجَتْ بأسـرارهـا‬ ‫كأنك مطّلع في القـلـوب‬
‫وقال البحتري للفتح بن خاقان‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تَرَى ما عليه مستقيمٌ ومائل‬ ‫كأنك عينٌ في القلوب بصيرةٌ‬
‫وقال في سليمان بن عبد ال بن طاهر‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫إذا تََلبّس دون الظّـنّ ايقـانُ‬ ‫ينال بالظن ما فات اليقين بـه‬
‫تريه كل حفي وهْـوَ إعـلن‬ ‫كأنّ آراءَه والظن يجمـعُـهـا‬
‫وإن َتنَ ْم عينه فالقلب يَقْظـانُ‬ ‫ما غاب عن عينه فالقلبُ يذكره‬
‫وقال أبو الحسن أحمد بن محمد الكاتب يمدح عبيد ال بن سليمان بن وهب الوزير‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ج َودَانِ البحرُ والمـطَـرُ‬ ‫ح َمدِ ال ْ‬
‫لم ي ْ‬ ‫إذا أبـو قـاسـمٍ جـادَتْ لـنـا يدُهُ‬
‫تضاءَل النورانِ الشمسُ والقـمـرُ‬ ‫وإنْ أضاءتْ لنـا أنـوارُ غُـ ّرتِـه‬

‫‪294‬‬
‫تأخّر الماضيانِ السـيفُ والـقَـدَ ُر‬ ‫حدّ عـزمـتـه‬ ‫وإن مضى رأيه أو َ‬
‫لم يَدرِ ما المُزْعِجَانِ الخوف والحذر‬ ‫حذِراً من خوف سَطوَتـه‬ ‫من لم يبت َ‬
‫والشاهدانِ عليه الـعَـيْنُ والثـر‬ ‫ن بـهِ‬‫ينال بالظنّ ما يَعْـيَا الـعِـيَا ُ‬
‫إذا تعاقب منه النفـع والـضـرر‬ ‫كأنه الدهر في نُعمى وفـي نـعـمٍ‬
‫ب مـا يأتـي ومـا يَذَرُ‬
‫يرى عواق َ‬ ‫كأنـه وزِمـامُ الـدهـر فـي يدهِ‬
‫حجَر‪ :‬المنسرح‪:‬‬ ‫وأصل هذا قولُ أوسِ بن َ‬
‫ن بك الظنّ كأن قد رأى وقد سمعَا‬ ‫اللمعيّ الذي يظ ّ‬
‫وهذا المعنى قد مرّ في أثناء الكتاب‪.‬‬
‫قال أبو الحسن جحظة ألبرمكي‪ :‬قلت لخالد الكاتب‪ :‬كيف أصبحت؟ قال‪ :‬أصبحت أر ّ‬
‫ق‬
‫الناس شعراً‪ ،‬قلت‪ :‬أتعرف قولَ العرابي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صُروف الــــلـــــــيالـــــــي حـــــــيث لـــــــم‬
‫فما وَجد أعرابية َق َذفَت بها‬
‫تَـــــــكُ ظَـــــــنّـــــــت‬
‫بنَـــجْـــدٍ‪ ،‬فـــلـــم يُقـــدَرْ لـــــــهـــــــا مـــــــا‬
‫تمـــــــنّـــــــت أحـــــــالـــــــيبَ الـــــــرعـــــــاء‪ ،‬وخَــــــــــــــيمَةً‬
‫تـــــــمـــــــنّـــــــت‬
‫وريح الـــصـــبــــــا مـــــــن نـــــــحـــــــو‬
‫إذا ذكـــــــرتَ مـــــــاءَ الـــــــعـــــــضَـــــــاهِ وطِـــــــيبَــــــــــــــهُ‬
‫نـــــــجـــــــدٍ أرنّـــــــت‬

‫غداة غدَ ْونَا غدوة واطمأنّـ ِ‬


‫ت‬ ‫بأعظم من وجدٍ بليلى وَجدتـه‬
‫ضنّت‬
‫ت تلك الرياح و َ‬ ‫َف َقدْ بًخَِل ْ‬ ‫ج بيننا‬ ‫وكانت رياح تحمل الحا َ‬
‫فصاح خالد وقال‪ :‬ويحك! ويلَك يا جحظة! هذا والِ أرَقّ من شعرِي‪.‬‬
‫فصل لبي العباس بن المعتز‬
‫حمْلِ على النفس والجال‪ ،‬والنهوض بحمل الثقال‪ ،‬و َبذْل الجاهِ والمالِ‪ ،‬ولو كانت‬ ‫لن تكَسب ‪ -‬أعزّك الُ ‪ -‬المحامد‪ ،‬وتستوجب الشرفَ‪ ،‬إل بال َ‬
‫المكار ُم ُتنَال بغير مؤونة لشترك فيها السفَل والحرَار‪ ،‬وتسا َهمَها الوُضعَاء مع ذوي الخطار؛ ولكن ال تعالى خصّ الكُرماء الذين جعلهم‬
‫صغَر أقدارهم عنها‪ ،‬وبُعد طباعهم منها‪ ،‬ونفورِها عنهم‪ ،‬واقشعرارها‬ ‫حظَرها على السّفِلَة ل ِ‬ ‫أهْلَها‪ ،‬فخفّف عليهم حملها‪ ،‬وسوغهم َفضْلَها‪ ،‬و َ‬
‫منهم‪.‬‬
‫وقال أبو الطيب المتنبي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫الجُ ْو ُد يُفْقرُ والقدا ُم َقتّـالُ‬ ‫س كّلهُمُ‬‫لول المشقّة سادَ النا ُ‬
‫وقال الطائي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫يجنيه إل من نقيع الحَنظلِ‬ ‫ش ْهدٌ ل يرى مشتارُه‬ ‫والحمد َ‬
‫لم يؤذ عاتقه خفيفَ المحملِ‬ ‫شْرٌ لحامله‪ ،‬ويسحبهُ الـذي‬
‫آخذه الطائي من قول مسلم بن الوليد‪ ،‬وقيل غيره‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ف مُستلـبِ‬ ‫من أن تبزّكمو كَ ّ‬ ‫طرٍ‬‫الجودُ أخشن مسًّا يا َبنِي م َ‬
‫للدّمّ لكنه يأتي على النّشـب‬ ‫ما أعلَم الناس أن الجودَ مدفعةَ‬
‫وقال بعض الجواد‪ :‬إنا لنجِد كما يجد البخلء‪ ،‬ولكنا نصبر ول يصبرون‪.‬‬
‫وقال الجاحظ‪ :‬قيل لبي عبّاد وزير المأمون‪ ،‬وكان أسرعَ الناس غضباً‪ :‬إنّ لقمان الحكَيم قال لبنه‪ :‬ما الحمل الثقيل؟ قال‪ :‬الغَضب‪ .‬قال أبو‬
‫ل ل يَقوَى على احتمال الغضب من الناس‬ ‫ي من الريش! قيل له‪ :‬إنما عنى لقمان أنً احتمالَ الغضَب ثقيل‪ ،‬فقال‪ :‬ل‪ ،‬وا ّ‬ ‫عباد‪ :‬لكنه والّ أخفّ عل ّ‬
‫إل الجمل!‪.‬‬
‫ض كتابه‪ ،‬فرماه بدَوَا ٍة كانت بين يديه فشجه فقال أبو عبّاد‪ :‬صدق ال تعالى في قوله‪" :‬والذينَ إذا ما غَضِبوا هم‬ ‫وغضب يوماً على بع ِ‬
‫ن فأحضره وقال له‪ :‬ويحك! مأ تُحسِن تقرأ آيةً من كتاب ال تعالى؟ قال‪ :‬بلى يا أمير المؤمنين‪ ،‬إني لحفظ من سورة‬ ‫َيعْقِرون"‪ .‬فبلغ ذلك المأمو َ‬
‫ف آية؛ فضحك المأمون وأمر بإخراجه‪.‬‬ ‫واحدة أل َ‬
‫نبذة من لطائف ابن المعتز‬
‫وفضل تحققه بالبديع والستعارات ممّا تتعيّن العناية بمطالعتها‪:‬‬
‫قال أبو بكر الصولي‪ :‬اجتمعت مع جماع ِة من الشعراء عند أبي العباس عبد ال بن المعتز‪ ،‬وكان يتحقّق بعلم البَديع تحققًا يَنصُره دعواه فيه‬
‫حسَنَ ما قيلَ في بابه‪ ،‬إلى أن قال أبو العباس ما أحسن‬ ‫شعَبًا من شِعابه‪ ،‬وأوردنا أ ْ‬ ‫ق مَسْلَك من مسالك الشعراء إل سلك بنا ِ‬ ‫لسانُ مذكراته‪ ،‬فلم يَب َ‬
‫استعارة أشتمل عليها بيت واحد من الشعر؟ قال السدي‪ :‬قول لبيد‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ت بيدِ الشّمالِ زمامها‬ ‫إذ أصبحَ َ‬ ‫وغداةِ ريح قد كشفتُ وقَـرّةٍ‬
‫قال أبو العباس‪ :‬هذا حسن‪ ،‬وغيره أحمد منه‪ ،‬وقد أخذ من قول ثعلبة بن صغَيرة المازني‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ألقَت ذُكا ُء يمينَها في كَافرِ‬ ‫فتذَاكرَا ثَقلً رَثيدًا بعدمـا‬
‫ي منه‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقول ذي الرمة أعجب إل ّ‬
‫جنّحٌ في المغاربِ‬ ‫وأيدِي الثّريّا ُ‬ ‫أل طرقت ميّ َهيُوماً بذكرهـا‬
‫وقال بعضُنا‪ :‬بل قول لبيد أيضَاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫شكّتيفرُط‪ ،‬وِشاحي إن غدوت لجامُها‬ ‫ح َميْتُ الخيلَ تحمل ِ‬ ‫ولقد َ‬

‫‪295‬‬
‫قال أبو العباس‪ :‬هذا حسن‪ ،‬ولكن نَعدل عن لبيد‪.‬‬
‫وقال آخر‪ :‬قول الهذلي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عيْنُها ورَسُولُها‬ ‫إليه المنايا َ‬ ‫ولو أنني استودَعته لهتدَتْ‬
‫وقال أبو العباس‪ :‬هذا حسن‪ ،‬وأحسن منه ‪ -‬في استعارة لفظِ الستيداع ‪ -‬قول الحصَين بن الحَمام؛ لنه جمع الستعارة والمقابلة في قوله‪:‬‬
‫الطويل‪:‬‬
‫س ْمهَرِيّ المُقوّما‬ ‫ويستودِعُونا ال ّ‬ ‫نطَارِدهُم نستودعُ البيضَ ها َمهُمْ‬
‫وقال آخر‪ :‬بل قول ذي الرّمة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وسَاقَ الثّريّا في ملَ َءتِهِ الفَـجْـرُ‬ ‫ى العودُ في الثّرى‬ ‫أقامَتْ به حتى ذَوَ َ‬
‫قال أبو العباس‪ :‬هذا لعمري نهايةُ الخبرة‪ ،‬وذو الرمة أبدع الناسِ استعارة‪ ،‬وأبرعهم عبارة‪ ،‬إل أنّ الصواب حتى ذوى العود والثرى؛ لن‬
‫العود ل َيذْوي ما دام في الثرى‪ ،‬وقد أنكره على ذي الرمة غير ابنِ المعتز‪ .‬قال أبو عمرو بن العلء‪ :‬كانت يدي في يد الفرزدق فأَنشدته هذا‬
‫ش ْدنِي‪ ،‬فقال‪ :‬إن العود ل يَذوِي في الثّرى‪ ،‬والصوابُ‪ :‬حتى ذوىَ العود والثرى‪.‬‬ ‫البيت‪ ،‬فقال‪ :‬أُرشِدك أم أدَعُك‪ .‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬بل أرْ ِ‬
‫قال الصولي‪ :‬وكأنه نبّه على ذي الرمة؛ فقلت‪ :‬بك قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حياةَ الذي يقضي حشاشَ َة نَازعِ‬ ‫ولمّا رأيت الليل والشمس حيّة‬
‫وقال أبو العباس‪ :‬اقتدحْتَ زَندك يا أبا بكر فأَوْرَى‪ ،‬هذا بارعٌ جداً‪ ،‬وقد سبقَه إلى هذه الستعارة جرير حيث يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫لمْطـارُ‬ ‫بعد البِلَى ف ُتمِيتهُ ا َ‬ ‫جدّه‬ ‫تحيي الروامس ربعها وت ِ‬
‫جدّة‪ ،‬ولكِن ذو الرمة قد إستوفى ِذكْرَ الحياءِ والماتة في موضع‬ ‫وهذا بيت جمع الستعارةَ والمطابقة‪ ،‬لنه جاء بالحياء والماتة‪ ،‬والبلى وال ِ‬
‫حسَن‪ ،‬وهو قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫آخر فأ ْ‬
‫حبَْليْن في مَشْطُـونةٍ يَتـرجّـحُ‬ ‫بَ‬ ‫س كـأنـهُ‬ ‫ونَشْوَانَ من طولِ النّعا ِ‬
‫بذكرك والعِيسُ المراسِلُ جُـنّـحُ‬ ‫إذا مات فوق الرّحْلِ أحييت روحهُ‬
‫فما أحد من الجماعة انصرف من ذلك المجلس إل وقد غمره من بَحْرِ أبي العباس ما غاض معه َمعِينة‪ ،‬ولم ينهض حتى زودناه من برّه ولطفه‬
‫نهاية ما اتسعت له حالُه‪.‬‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫و َنمَتْ عليّ شواهدُ الصّبّ‬ ‫لما رأيت الحبّ يفضحنِـي‬
‫ستَرت َوجْهَ الحبّ با ْلحُبّ‬ ‫وَ‬ ‫ألقيتُ غي َركِ فى ظنونهـم‬
‫وقال العباس بن الحنف في هذا المعنى‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وفرّق الناسُ فينا قوَلهُ ْم فِرَقـا‬ ‫قد جرّر الناسُ أذيالَ الظنون بنا‬
‫وصادقٌ ليس َيدْري أنه صدَقا‬ ‫ب قد رمى بالظّن غيركُم‬ ‫فكاذ ٌ‬
‫وقريب من هذا المعنى قول الفارضي رضي ال عنه‪ ،‬وإن لم يكن منه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل بيننا ما لها أصـلُ‬ ‫ب َرجْم أُصو ٍ‬ ‫تخالفت القوال فينـا تـبـاينـاً‬
‫وأرْجفَ بالسلوان قومٌ ولم أسْـلُ‬ ‫فشنع قومٌ بالوِصَالِ‪ ،‬ولـم أصـل‬
‫وقد َكذَبَتْ عني الرَاجِيفُ والنقل‬ ‫صدَقَ التشنيعُ عنها لشقْوَتـي‬ ‫وما َ‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫غمِ‬ ‫تُبيت أُنوفَ الحاسدين علَى رَ ْ‬ ‫لنا عَ ْزمَة صمّاء ل تسمعُ الرّقى‬
‫ش ْئنَا لمِلْنا مع الظلمِ‬ ‫علينا‪ ،‬ولو ِ‬ ‫ق من غير حاكم‬ ‫وإنّا لنعطي الح ّ‬
‫وقد أخذه أبو العباس من قول أعرابي الطويل‪:‬‬
‫بك الناسُ حتى يعلموا ليلةَ القـدْرِ‬ ‫أل يا شفاءَ النفسِ ليس بـعـالـمٍ‬
‫ن يُصِيب ول يَدْرِي‬ ‫مرارًا وفيهم مَ ْ‬ ‫سوى رَجْمهم بالظنَ والظنُ كاذِبٌ‬
‫وقال الحسين بن مطير‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫خمُودُهـا‬ ‫على َكبِدِي نارًا بَطيئاً ُ‬ ‫لقد كنتُ جَلْدًا قبل أن تُوقِد النـوى‬
‫ولكنّ شوقـًا كـل يوم يَزِيدُهـا‬ ‫ولو تُرِكتْ نارُ الهوى لتض ّرمَـتْ‬
‫إذا َقدِمتْ أيامُها وعـهـودُهـا‬ ‫وقد كنتُ أرجو أن تموتَ صبابتي‬
‫ق ُيعِيدُهـا‬ ‫عهَادُ الهوَى تُولَى بشو ٍ‬ ‫ِ‬ ‫فقد جعلتْ في حبّةِ القلبِ والحشَا‬
‫ف نهـودُهـا‬ ‫عِذابٌ ثناياها عجا ٌ‬ ‫خصُورُها‬ ‫بمرتَجةِ الرداف هِيفٌ ُ‬
‫وسودٌ نواصيها‪ ،‬وبيض خدودُهـا‬ ‫ح ْمرٌ أكفّـهَـا‬
‫صفْر تَراقيها‪ ،‬و ُ‬ ‫و ُ‬
‫بأحْسَن‪ ،‬مّا زيّنتْها عـقـودُهـا‬ ‫مُخَضّرة الوساطِ‪ ،‬زانتْ عقودَها‬
‫ل يَجُودُها‬ ‫رفيفَ الْخُزامَى بات طَ ّ‬ ‫ف قـلـوبُـنـا‬
‫يمنّيننَا حتى تَـرِ ّ‬
‫مَهاة بتُ ْربَانٍ طوِيلٌ عـمـودُهـا‬ ‫وفيهنّ مِقْلق الوِشاح كـأنـهـا‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ن ُم ْغمِضُ‬ ‫أُحبّك حتى يُغمض العي َ‬ ‫ت بارحاً‬ ‫قضى ال يا أسماءُ أنْ َلسْ ُ‬

‫وإن كان بَلْوَى أنني لـك مُـبْـغِـضُ‬ ‫فحبّك بَـلْـوَى غـير أن ل يَسُـرّنـي‬

‫‪296‬‬
‫ذكرتُ ومن رفض الهوى حين يرفض‬ ‫فوا كبدًا من لَـوْعَةِ الـبَـيْن كـلـمـا‬
‫تقضقض أطرافَ الحشَا ثم تنـهـض‬ ‫ومن عبرة تُـذْري الـدمـوع وزفـرة‬
‫وأقرضَني صبْراًعلى الشوق ُمقْـرِضُ‬ ‫فيا ليتني أ ْقرَضْت جَلْداً صـبـابَـتـي‬
‫حبّـهـا مـن دونـه يتـعـرّض‬ ‫َبدَا ُ‬ ‫إذا أنا ُرضْتُ القلب في حُـب غـيره‬
‫وكان الحسين قويّ َأسْرِ الكلم‪ ،‬جَزْلَ اللفاظ‪ ،‬شديدَ العارِضة‪ ،‬وهو القائل في المهدي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ويومُ نـعـيمٍ فـيهِ لـلـنـاس أنْـعُــمُ‬ ‫س فـيه لـلـنـاس أبــؤُسٌ‬ ‫له يو ُم بُـؤ ٍ‬
‫و َيقْطرُ يومَ البـؤس مـن كـفَـه الـدمُ‬ ‫ن كـفّـه الـنّـدَى‬ ‫فيُمطر يوم الجودِ مِـ ْ‬
‫على الناس لم يصبح على الرض مُجْرمُ‬ ‫فلو أن يومَ الـبُـؤْس خـلّـى عـقـابـهُ‬
‫على الرض لم يصبح على الرض ُم ْعدِمُ‬ ‫ن يوم الـجـود خَـلّـى نَـوَالـهُ‬ ‫ولـو أ ّ‬
‫وأنشد أبو هفان له‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫أين جيرانُنا علـى الحْـسـاء؟‬ ‫ل العتاب بـالـدَهـنـاء؟‬ ‫أين أه ُ‬
‫رَ القاحي تُـجَـادُ بـالنْـواء‬ ‫جاورونا والرض ملبَـسة نَـوْ‬
‫حكُ الرضُ من بكاء السماء‬ ‫ضَ‬‫تَ ْ‬ ‫كل يوم بـأقـحـوان جَـــديد‬
‫أخذ هذا المعنى دعبل‪ ،‬ونقله إلى معنى آخر‪ ،‬فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫أم أين يُطلَب؟ ضَلّ‪ ،‬بل هلكا‬ ‫أين الشبابُ؟ وأيةً سـلـكـا؟‬
‫ب برأْسِه ف َبكَى‬‫ضَحِك المشي ُ‬ ‫ل َتعْجبي يا سَلْ َم مِـنْ رجـلٍ‬
‫وقال مسلم بن الوليد في هذا المعنى‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ضحَك فيه المشيبُ‬ ‫ورأسُه يَ ْ‬ ‫مُستعبر يبكي علـى دمـنةٍ‬
‫وأنشد الزبير بن بكّار‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وأكره أنْ أعيبَ وأنْ أُعابـا‬ ‫جهْـدِي‬ ‫أُحبّ معاليَ الخلق َ‬
‫س مَنْ حَبّ السبابـا‬ ‫وشرّ النا ِ‬ ‫وأصفح عن سباب الناسِ حِلْماً‬
‫عيَا الجـوابـا‬
‫لِهْلكه وما أَ ْ‬ ‫وأترك قائل العوراء عَـمْـداً‬
‫ل فلن يُهابا‬‫ومن حقر الرجا َ‬ ‫ومَنْ هابَ الرجال تهـ ّيبُـوهُ‬
‫رياضة النفس على الفراق‬
‫وعلى ذكر قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حبّ غيرها‬ ‫إذا أنا ُرضْتُ القلبَ في ُ‬
‫أنشد الصمعي لغلم من بني فزارة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جرُ‬ ‫بيَ الهَجْرُ‪ ،‬ل وال ما بي لها هَ ْ‬ ‫سبَ الناسُ أنمـا‬ ‫وأُع ِرضُ حتى يح َ‬
‫إذا فارقتْ يوماً أحبّتهـا صَـبْـرُ‬ ‫ولكنْ أروضُ النفسَ أنظر هل لها‬
‫قال إسحاق الموصلي‪ :‬قال لي الرشيد‪ :‬ما أحْسَنُ ما قيل في رياضة النفس على الفراق؟ قلت‪ :‬قول أعرابي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ستَبقي المودّة بالهـجْـرِ‬ ‫كثيراً‪ ،‬وأ ْ‬ ‫حيِي عيونـاً‪ ،‬وأتّـقـي‬ ‫ستَ ْ‬
‫وإني ل ْ‬
‫صبْر‬ ‫لعلم عند الهَجْر هل ليَ من َ‬ ‫فأُنذِرُ بالهجران نفسي أرُوضـهـا‬
‫فقال الرشيد‪ :‬هذا مليح‪ ،‬ولكني أستملح قول أعرابي آخر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فهاجَ ْرتُها يومين خوفًا من الهَجْـرِ‬ ‫خشيت عليها ال َعيْنَ من طول وَصْلِها‬
‫ولكنني ج ّربْتُ نفسي بالـصـبـرِ‬ ‫وما كان ِهجْراني لها عـن مَـللةٍ‬
‫قال الصولي‪ :‬قال لي المبرد‪ :‬عمّك إبراهيم بن العباس أَحزمُ رأياً من خاله العباس بن الحنف في قوله‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫وحادثاً من حـوادثِ الـزمـنِ‬ ‫كان خُروجي من عندكُ ْم قـدَراً‬
‫قَلْبي‪ ،‬وأن أستعدّ لـلـحَـزَنِ‬ ‫من قبل أن أعرض الفراق على‬
‫وقال عمك إبراهيم‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صبْري‬ ‫فقالت‪ :‬رُ َويْداً ل أغرّك من َ‬ ‫وناجيتُ نفسي بالفراق أرُوضُـهـا‬
‫فقالت أأ ْمنَى بالفراقِ وبالهَـجْـرِ؟‬ ‫فقلت لها‪ :‬فال َهجْرُ والبَـيْنُ وَاحِـدٌ‬
‫فقلت له‪ :‬إنه نقلَ كلمَ خاله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صبْري‬ ‫س ل أَغرك من َ‬ ‫من الن فايَْأ ْ‬ ‫ضتُ على قلبي الفِراق فقال لي‬ ‫عر ْ‬
‫جمْـرِ‬ ‫وفرق ُة مَنْ أهوى أحرّ من ال َ‬ ‫صدّ من أهْوَى رجوتُ وِصـالَـه‬ ‫إذا َ‬
‫وقال العباس بن الحنف‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سكُ لي أسبابُها حين أهـجُـرُ‬ ‫تَما َ‬ ‫ن نفسي لعلّها‬ ‫أرُوض على ال ِهجْرَا ِ‬
‫إذا صدق الهجرانُ يومًا وتغـدرُ‬ ‫وأعلم أنّ النفسَ تكذِبُ وَعْـدَهـا‬
‫فأَنظ ُر إل ُمثّلَتْ حـين أنـظـرُ‬ ‫وما عرضَتْ لي نظر ٌة ُمذْ عر ْفتُها‬
‫وقال المتنبي من المعنى‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وقد كان غدارًا فكن أنتَ وافيا‬ ‫ي مَنْ نأَى‬ ‫حبّ َ‬
‫ك قَلْبي قبلَ ُ‬ ‫ح َب ْبتُ َ‬
‫َ‬

‫‪297‬‬
‫فلستَ فؤادي إن وج ْدتُكَ شاكيا‬ ‫شكِيكَ بعدهـا‬ ‫ن البيْنَ يُ ْ‬
‫وأَعَْلمُ أ ْ‬
‫قال الحاتمي‪ :‬والذي أراه وأذهب إليه أنّ أحسن من هذا المعنى قول أبي صخر الهذلي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا ظلمت يوماً وإن كان لـي عُـذْرُ‬ ‫ض إنكارِ ظُلْـمِـهـا‬ ‫ويمنعني من بع ِ‬
‫صبْرُ‬‫جرِها َ‬ ‫ج ُر منها ما على هَ ْ‬ ‫ليَ الهَ ْ‬ ‫مخاف ُة أنّي قد عـلـمـت لـئن بَـدَا‬
‫على هَجْرِها ما َيبْلغنَ بيَ الهـجـرُ‬ ‫وإني ل أدري إذا النفـسُ أشـرفـت‬
‫ع ُدكِ الحَـشْـرُ‬ ‫ويا سَلْوَة الحزان مَوْ ِ‬ ‫فيا حبّهـا ِزدْنِـي جـوًى كـل لـيلةٍ‬
‫شذور من كلم أهل العصر‬
‫في مكارم الخلق‬
‫جهِل قَدره‪.‬‬ ‫عقَل لسانه‪ ،‬والجاهلُ من َ‬ ‫ل من َ‬ ‫ابن المعتز ‪ -‬العقلُ غريزة تزيّنها التجارب‪ .‬وله‪ :‬العاق ُ‬
‫حسْنُ الصورة الجمالُ الظاهر‪ ،‬وحسن الخلق الجمالُ الباطن‪ .‬ما أبينَ وجوه الخيرِ والشرَ في مِرْآةِ العقل إذا لم‬ ‫ل نقص الكلم‪ُ ،‬‬ ‫غيره‪ :‬إذا تم العق ُ‬
‫سكُ أعنَة النفوس عن الهوى‪ .‬أحْر بمن‬ ‫ل ُتمْ َ‬‫ح بما أظهر من محاسنه‪ .‬بأَيدي العقو ِ‬ ‫ل ل َيدَعُه ما ستر ال من عيوبه أن يفْرَ َ‬ ‫صدِئها الهوى‪ .‬العاق ُ‬ ‫يُ ْ‬
‫ن عمّا ل َيعْنِيه غافلً‪ .‬التواض ُع من مصايد الشرف‪ .‬من لم يتّضِ ْع عند نفسه لم يرتفع عند غيره‪.‬‬ ‫ل أن يكو َ‬ ‫كان عاق ً‬
‫ن كساه الحيا ُء ثوبَه‪ ،‬ستر عن الناس‬ ‫حيَا منه‪ .‬مَ ْ‬ ‫ستَ ْ‬
‫يحيى بن معاذ ‪ -‬التكبّر على المتكبر تواضع‪ .‬الحلم حجابُ الفات‪ .‬أحيوا الحياءَ بمجاورة من يُ ْ‬
‫عيْبَه‪ .‬الصبرُ تجرّع الغُصص‪ ،‬وانتَظارُ الفُرَص‪ .‬قلوبُ العقلء حصون السرار‪ .‬انفَ ِردْ بسرّك ول تودعْه حازماً فيزل‪ ،‬ول جاهلً فيخون‪ .‬الناة‬ ‫َ‬
‫حُسْنُ السلمة‪ ،‬والعجلة مفتاح الندامة‪ .‬من حَسُنَ خُلقه وجَب حقه‪ .‬إنّما يستحقّ اسم النسانية مَنْ حَسُنَ خُلقه‪ .‬يكاد سيئ الخلق ُي َعدّ من البهائم‬
‫والسباع‪.‬‬
‫أرسطاطاليس ‪ -‬المروءة استحياءُ المرءَ نفسه‪ .‬المعروف حصْنُ النعم من صروف الزمن‪ .‬للحازم كنز في الخرة من علمه‪ ،‬وفي الدنيا من‬
‫معروفه‪ .‬ل تستحي من القليل فإن الحرمان أقل منه‪.‬‬
‫أبو بكر الخوارَزْمي ‪ -‬الطَرف يجري وبه ُهزَال والسيف يمضي وبه انفلل‪ ،‬والح ّر ُيعْطِي وبه إقلل‪ .‬بَذلُ الجاه أحدُ المالين‪ .‬شفاعةُ اللسانِ‬
‫ف الدنيا‪،‬‬
‫أفضلُ زكاة النسان‪ .‬بَذلُ الجاهِ ِر ْفدٌ للمستعين‪ .‬الشفيعُ جناحُ الطالب‪ .‬التقوى هي ال ُعدّة الباقية‪ ،‬والجُنة الواقية‪ .‬ظاهرُ التقوى شر ُ‬
‫وباطنها شرف الخرة‪ .‬من عفت أطرافه‪ ،‬حسنت أوصافه‪ .‬قال أبو الطيب المتنبي الطويل‪:‬‬
‫ولكنها في الكَفّ والفَ ْرجِ والفمِ‬ ‫ول عِفَةٌ في سيفهِ وسِـنـانـهِ‬
‫حكْمٌ وقليل فاعِلُه‪ .‬أرْبعُ كلمات صدرت عن أربعة ملوك كأنما ُرمِيت عن قَوْسٍ واحدة؛ قال كسرى‪ :‬لم أندم على ما لم أقل‪،‬‬ ‫صمْتُ ُ‬ ‫لقمان ‪ -‬ال َ‬
‫وندِمْتُ على ما قلت مراراً‪.‬‬
‫جبْتُ‬
‫قيصر‪ :‬أنا على ردّ ما لم أقل أقدرُ مني على ردّ ما قلت‪ .‬ملك الصين‪ :‬إذا تكلّمت بالكلمة ملكتني‪ ،‬وإذا لم أتكلّم بها ملكتها‪ .‬ملك الهند‪ :‬عَ ِ‬
‫ل من ظاهر الرجل على باطنه‪،‬‬ ‫ممن يتكلّم بالكلمة إن ُر ِفعَتْ ضَرّته‪ ،‬وإن لم تُ ْرفَع لم تنفعه‪ .‬ما الدّخان على النار‪ ،‬ول العَجَاج على الريح‪ ،‬بأد ّ‬
‫وأنشد‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حيث الدخان فثَ ّم مَ ْو ِقدُ نارِ‬ ‫قد يُستدلّ بظاهر عن باطنٍ‬
‫صدِ بين الطرفين‪،‬‬ ‫مَنْ أَصلح ماله فقد صان الكرَمين المالَ والعِرْضَ‪ .‬من لم يجمد في التقدير ولم يَذب في التدبير فهو سديد التدبير‪ .‬عليك بال َق ْ‬
‫ستَرط‪ ،‬ول مرّا فتُلفَظ‪.‬‬ ‫ل مَنعَ ول إسراف‪ ،‬ول بخل ول إتراف‪ .‬ل تكن رطبًا فتُعْصَر‪ ،‬ول يابساً فتكسر‪ ،‬ول حلواً فت ْ‬
‫ق وهذَر‪ ،‬والتقصير عِيّ وحَصَر‪.‬‬ ‫المأمون بن الرشيد ‪ -‬الثناء أكثر من الستحقاق مَلَ ٌ‬
‫إكرامُ الضياف‪ ،‬من عادة الشراف‪ .‬وفي الخبر‪ :‬ل تتكلّفوا للضيف فتبغضوه؛ فمن أبغض الضيفَ أبغضه الّ‪ .‬ينبغي لصاحب الكريم أن‬
‫جمَعتهما َنبْوة الزمان‪ ،‬فليس ينتفع بالجوهرة الكريمة من لم ينتظر نَفَاقها‪.‬‬ ‫يصبر عليه إذا َ‬
‫مواعظ عقلها بعض أهل العصر‬
‫تتعلّق بهذا الفصل‬
‫جمِل الطلبَ فسيأتيك ما ُقدِر لك‪ ،‬صُنْ عرضك‪ ،‬وإلّ أخْلَقْت وجهك‪ .‬جاور الناسَ ‪ -‬بالكفّ عن مساويهم‪.‬‬ ‫ض أبداً‪ .‬أ ْ‬‫أُغْضِ على ال َقذَى‪ ،‬وإلّ لم تَرْ َ‬
‫ت فيضيع ما‬ ‫ف ما ُكفِي َ‬ ‫س وعدَك‪َ ،‬كذّبْ أسواء الظنون بأحسنها‪ .‬أغْنِ من ولَيته عن السرقة‪ ،‬فليس يكفيك من لم تكفه‪ .‬ل تتكل ْ‬ ‫انْسَ ِر ْفدَك‪ ،‬ول َتنْ َ‬
‫أوليت‪.‬‬
‫ط منه‪ .‬ل تذكر الميتَ بسوء فتكون‬ ‫ابن المعتز ‪ -‬ل تسرعْ إلى أرفع موضع في المجلس‪ ،‬فالموضع الذي تُ ْرفَعُ إليه خي ٌر من الموضع الذي تُحَ ُ‬
‫الرض أكتم عليه منك‪ .‬ينبغي للعاقل أن ُيدَاري زمانه مداراةَ السابح للماء الجاري‪.‬‬
‫العتابي ‪ -‬المداراةُ سياسة رفيعة تجِْلبُ المنفعة‪ ،‬وتدفع المضرّة‪ ،‬ول يستغني عنها ملك ول سُوقَة‪ ،‬ول يدع أحدٌ منها حظّه إل غمرته صروف‬
‫المكاره‪.‬‬
‫أخبار العتابي‬
‫وكتب العتابي إلى بعض إخوانه‪ :‬لو اعتصم شوقي إليك بمثل سلوّك عني لم أبذل َوجْهَ الرغبة إليك‪ ،‬ولم أتجشّم مرار َة تماديك‪ ،‬ولكن استخف ْتنَا‬
‫ق من اقتصّ لصلتنا من جفائه‪ ،‬ولشوقنا من إبطائه‪.‬‬ ‫سوَتك‪ ،‬لعظيم َقدْ ِر مودّتك‪ ،‬وأنت أح ّ‬ ‫صبابتنا‪ ،‬فاحتملْنا قَ ْ‬
‫وله‪ :‬كتبتُ إليك ونفسي رهينة بشكرك‪ ،‬ولساني علق بالثناء عليك‪ ،‬والغالبُ على ضميري لئمة لنفسي‪ ،‬واستقللٌ لجهدي في مكافأتك‪ ،‬وأنت ‪-‬‬
‫أصلحك الُّ! ‪ -‬في عزّ الغنى عني‪ ،‬وأنا تحت ذُلّ الفاقةِ إلى عطفك‪ ،‬وليس من أخلقك أن تُوليَ جانبَ النّبوَة منك مَنْ هو عَانٍ في الضّراعة‬
‫إليك‪.‬‬
‫ح َمدُ المرءُ بأول صوابه‪ ،‬ول ُيذَمّ بأول خطئه؛ لنه بين كلم‬ ‫ودخل العتابي على الرشيد فقال‪ :‬تكلّم يا عتابي؛ فقال‪ :‬اليناسُ قبل البساس‪ ،‬ل يُ ْ‬
‫زوّره‪ ،‬أو عِيّ حَصره‪.‬‬
‫ومرّ العتابي بأبي نُوَاس وهو ينشد الناس‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫صبْـ َوةً ولَت أَوانِ‬ ‫فبكى َ‬ ‫خ نازح الوطان‬ ‫ذكر الكَرْ َ‬
‫فلمّا رآه قام إليه‪ ،‬وسأله الجلوس‪ ،‬فأتى وقال‪ :‬أين أنا منك وأنت القائل‪ ،‬وقد أنصفك الزمان‪ :‬الخفيف‪:‬‬

‫‪298‬‬
‫أمّنتنا طوارقَ الحـدثَـانِ‬ ‫حبَا ً‬
‫ل‬ ‫قد عَِلقْنا من الخصيب ِ‬
‫وأنا القائل وقد جار عليّ‪ ،‬وأساء إليّ‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫فاء دوني‪ ،‬ومَلّني جِيرَانـي‬ ‫لفظتني البلدُ‪ ،‬وانطوت الك‬
‫جتْ بكَ ْلكَل وجِـرانِ‬‫رِ فما َ‬ ‫ي من الـدّه‬ ‫والتَقت حَلْقة عل ّ‬
‫س وهدّت خطوبُها أرْكاني‬ ‫نازعتْني أحداثُها ُم ْنيَة النـف‬
‫ب لنائبات الـزمـانِ‬ ‫ب كَئي ٌ‬ ‫خاشعٌ للهموم معترف القـل‬
‫من كلم العراب‬
‫ص ْيدَاء‪ ،‬وكان‬
‫قال عبد الرحمن بن أخي الصمعي‪ :‬سمعت عمّي يحدث قال‪ :‬أ ِرقْتُ ليلةً من الليالي بالبادية‪ ،‬وكنت نازلً عند رجل من بني ال ّ‬
‫ت من الغُ ْربَة‪ ،‬واشتقْتُ إلى‬
‫واسعَ الرّحْل‪ ،‬كريم المَحَلّ! فأصبحتُ وقد ع َزمْتُ على الرجوع إلى العراق‪ ،‬فأتيت أبا َمثْوايَ‪ ،‬فقلت‪ :‬إني قد هَِل ْع ُ‬
‫أهلي‪ ،‬ولم ُأ ِفدْ في َقدْمتي هذه كبيرَ علم‪ .‬وإنما كنت أغتفِرُ وحشة الغربة وجفاءَ البادية للفائدة‪ ،‬فأظهر الجفاوة حتى أبرز غداء له فتغدّيت‪ ،‬وأمر‬
‫س ْرنَا كبير مسير حتى َلقِينَا شيخ على حمارٍ‪ ،‬له‬ ‫جيْن فارتحلها واكتفلها‪ ،‬ثم رَكبَ وَأ ْردَفني‪ ،‬وأقبلها مطلعَ الشمس؛ فما ِ‬ ‫بناقة َمهْ ِريّةٍ كأنها سبيكة ل َ‬
‫صبَغها بالوَ ْرسِ‪ ،‬كأنها قنبيطة‪ ،‬وهو يترنّم‪ ،‬فسلّم عليه صاحبي‪ ،‬وسأله عن نسبه فاعْتزى أسديًا من بني َثعْلبة‪ .‬قال‪ :‬أتروي أم تقول؟‬ ‫جمّة قد َ‬ ‫ُ‬
‫خذْ بيد عمّك فأنزله عن حماره‪ ،‬ففعلت‪،‬‬ ‫ب من الموضع الذي نحن فيه فأناخ الشيخ‪ ،‬وقال لي‪ُ :‬‬ ‫قال‪ :‬كُلّ قال‪ :‬أين تؤُمُ؟ فأشار إلى موضعٍ قري ٍ‬
‫وأَلقى له كساءً قد اكتفل به‪ ،‬ثم قال‪ :‬أنشدْنا‪ ،‬يرحمك ال‪ ،‬وتصدق على هذا الغريب بأبيات يبثهنّ عنك‪ ،‬ويذكرك بهن‪ ،‬فأنشدني له‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل منك الفرَاقد‬ ‫جدَا المأمو ِ‬ ‫ودون ال َ‬ ‫سوْداء ِمنْكِ المَواعـدُ‬‫لقد طال يا َ‬

‫شيْمُ جائد‬ ‫صحْوٌ‪ ،‬ول ال َ‬ ‫ضَبابٌ‪ ،‬فل َ‬ ‫ُتمَنّينَنَا بالوصل وَعْداً‪ ،‬وغَـيْمـكـم‬
‫ب َفضْلِ الغِنى أُلفِيتَ ما َلكَ حامـدُ‬ ‫إذا أنْتَ أُعْطِيتَ الغِنى ثم لم تَجُـدْ‬
‫إذا صار ميراثـاً ووَاراك لحِـدُ‬ ‫ل غنا ًء عنك مالٌ جَـمَـعْـتَـهُ‬ ‫وق ّ‬
‫ك الباعـدُ‬ ‫ب من الدنى رما َ‬ ‫يَرِي ُ‬ ‫إذا أنت لم َتعْرُك بجنبيك َبعْضَ ما‬
‫ك بُـروقٌ جَـمّة ورواعِـدُ‬ ‫علـي َ‬ ‫إذا الحِ ْلمُ لم َيغْلِبْ لك الجهلَ لم تَزَلْ‬
‫جنِيبًا كما استَتْلَى الجـنـيب َة قَـا ِئدُ‬
‫َ‬ ‫إذا العزمُ لم يَفْ ُرجْ لك الشكّ لم تَزلْ‬
‫ول مَ ْقعَدًا تَدْعُـو إلـيه الـولئدُ‬ ‫إذا أنت لم تترك طعامًا تُـحِـبّـهُ‬
‫عليك الرجال نثرُهم والقَـصَـا ِئدُ‬ ‫ل يَشُـبّـهُ‬
‫تجللْـتَ عـاراً ل يزا ُ‬
‫وأنشدني لنفسه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وليس على َر ْيبِ الزمان مُـعَـوّلُ‬ ‫َتعَزَ فإنَ الصبرَ بالـحُـرّ أجـمـلُ‬
‫لنازلةٍ أو كان يُغْـنِـي الـتـذلُـلُ‬ ‫فلو كان ُيغْني أن يُرى المرءُ جازعاً‬
‫ونازلةٍ بالحـرّ أولـى وأجْـمَـلُ‬ ‫لكان التعزّي عنـد كـل مُـصـيبةٍ‬
‫وما لمْرِئ ممّا قضى ال مَزْحَـلُ‬ ‫فكيف وكلّ ليس َيعْدُو حِـمـامَـهُ‬
‫ث َتفْـعـلُ‬ ‫بنعمى وبؤسَى والحواد ُ‬ ‫فإن تكـن اليا ُم فـينـا تـبـدّلَـتْ‬
‫ول ذَلََل ْتنَا لـلـذي لـيس يَجْـمُـلُ‬ ‫فما ليّنت مـنـا قَـنَـاةً صَـلِـيبةً‬
‫حمّل ما ل يستطاعُ فـتَـحْـمـلُ‬ ‫تُ َ‬ ‫حلْناها نـفـوسـًا كـريمةً‬ ‫ولكن ر َ‬
‫َفصَحّت لنا العراضُ والناسُ ُهزّلُ‬ ‫و َق ْينَا بحدّ العَزْم منـا نـفـوسَـنـا‬
‫حبّ‬ ‫ض ْنكُ العيش‪ ،‬سروراً بما سمعت‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا بني؛ من لم يكن الدب والعلمُ أ َ‬ ‫قال‪ :‬فقمت إليه‪ ،‬وقد نسيت أهلي‪ ،‬وهانَ علي طولُ الغربة‪ ،‬و َ‬
‫إليه من الهل والولد لم َينْجُب‪.‬‬
‫بين قرشي وعمر بن عثمان‬
‫عمَر بن عثمان بن موسى بن عبيد ال بن معمَر‪ ،‬فأسرع إليه القرشي فقال‪ :‬على ِرسْلك‪ ،‬فإنك لسريعُ اليقاد‪ ،‬وَشِيكُ‬ ‫خاصم بعضُ القرشيين ُ‬
‫الصريمة‪ ،‬وإني وال ما أنا مكافئك دون أن تبلغَ غاي َة التعدّي‪ ،‬فأبلغ غايةَ العذار‪.‬‬
‫ادّعاء‬
‫قال عبد ال بن عبد العزيز‪ ،‬وكان من أفاضل أهل زمانه‪ :‬قال لي موسى بن عيسى‪ :‬أنهِيَ إلى أمير المؤمنين‪ ،‬يعني الرشيد‪ ،‬أنك تشتمه‪ ،‬وتَدْعُو‬
‫ي من نفسي‪ ،‬وأمّا الدعاء عليه فوال ما قلتُ‪" :‬اللهم إنه أصبح عبئاً ثقيلً‬ ‫ل إذاً أكرمُ عل ّ‬
‫ش ْتمُه فهو وا ّ‬ ‫عليه‪ ،‬فبأيّ شيء استجزت ذلك‪ .‬قال‪ :‬إمّا َ‬
‫على أكتافنا‪ ،‬ل تطيقه أبدانُنا‪ ،‬وقَذى في عيوننا‪ ،‬ل تنطبق عليه أجفانُنا‪ ،‬وشجى في حلوقنا‪ ،‬ل تسيغه أفواهنا؛ فاكْفِنا مؤنته‪ ،‬وفرّق بيننا وبينه"!‬
‫شدْه‪ ،‬أو أتى غير ذلك‪ ،‬فراجع به‪ ،‬اللهم إْن له في السلم بالعباس حقّا على كلّ مسلم‪ ،‬وله‬ ‫ن تَسمّى الرشيد ليرشد فأرْ ِ‬ ‫ولكني قلت‪" :‬اللهمّ إن كا َ‬
‫س ِعدْنا به‪ ،‬وَأصْلحْه لنفسه ولنا"‪ .‬فقال له‪ :‬يغفر ال لك يا عبد العزيز‪ ،‬كذلك‬ ‫عدْهُ من كلّ شرّ‪ ،‬وأَ ْ‬ ‫بنبيّك قرابة ورَحِماً‪ ،‬فق ّربْه من كل خير‪ ،‬وبا ِ‬
‫بلغنا‪.‬‬
‫من أخبار الخليفة الرشيد‬
‫ولمّا حج الرشيد سنة ست وثمانين ومائة دخل مكة وعديله يحيى بن خالد؛ فانبرى إليه ال ُعمَري فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬قف حتى أكُلّمك! فقال‪:‬‬
‫أرسلوا ِزمَام الناقة‪ ،‬فأرسلوه‪ ،‬فوقفت فكأنما أو ِتدَت‪ ،‬فقال‪ :‬أقول؟ قال‪ :‬قل‪ ،‬فقال‪ :‬اعزل عنّا إسماعيل بن القاسم قال‪ :‬ولم؟ قال‪ :‬لنه يقبل‬
‫الرشوة‪ ،‬ويُطِيل النّشوة‪ ،‬ويضرب بالعشوة‪ ،‬قال‪ :‬قد عزلناه عنك‪ ،‬ثم التفت إلى يحيى فقال‪ :‬أعندك مثل هذه البديهة؟ فقال‪ :‬إنه ليجب أن يحسن‬
‫إليه‪ ،‬قال‪ :‬إذا عزلنا عنه من يريد عَزْله فقد كا َف ْأنَاه‪.‬‬
‫حُ ْرمَة الكعبة‬

‫‪299‬‬
‫صيَه‪ ،‬قال السود بن الهيثم النخعي‪ :‬يا أمير‬ ‫ولمَا وجّه عبدُ الملك بن مروان الحجاج بن يوسف إلى عبد ال بن الزبير وَأوْصاه بما أراد أن يُو ِ‬
‫المؤمنين‪ ،‬أَوْصِ هذا الغلم الثقفي‪ ،‬بالكعبة أل َيهْدِم أحجارَها‪ ،‬ول َي ْه ِتكَ أستارَها‪ ،‬ول يُنفّر أطيارها‪ ،‬وليأخذ على ابنِ الزبير شِعابها‪ ،‬وعِقابها‪،‬‬
‫وأنقابها‪ ،‬حتى يموتَ فيها جوعاً‪ ،‬ويخرج مخلوعاً‪.‬‬
‫من أخبار عبد ال بن طاهر‬
‫جنْده‪ ،‬فوجده متحصّنا منه‪ ،‬فكتب إليه‪ :‬اعتصامُك بالقِلَل قيّد عزمَك عن‬ ‫وكتبَ عبدُ ال بن طاهر إلى َنصْر بن شبيب وقد نزل به ليحا ِربَه في ُ‬
‫ت من أمير المؤمنين‪ ،‬فإمّا فارس مُطَاعِن‪ ،‬أو راجل مستَأْمن‪ .‬فلمّا قرأه‬ ‫ت بمُفْل ٍ‬
‫القتَال‪ ،‬والتجاؤُك إلى الحصون ليس ينجيك من ال َمنُون‪ ،‬ولس َ‬
‫حصره الرعب عن الجواب‪ ،‬فلم يلبث أن خرج مستَأْمناً‪.‬‬
‫من حكم الفرس‬
‫حذَر‪ ،‬ول تهازل فتحقَر فجعلهنّ الملك َنقْشَ خاتمه بدلً من اسمه واسم أبيه‪.‬‬ ‫ب ُت ْ‬
‫قال بزرجمهر بن البختكان لبعض الملوك‪ :‬أَنعم تُشكر‪ ،‬وأَرهِ ْ‬
‫ولما قتل أنوشروان بزرجمهر وجد في منطقته رقع ًة فيها مكتوبٌ‪ :‬إذا كانت الحظوظ بالجدود فما الحِرْص؟ وإذا كانت المور ليست بدائمة فما‬
‫السرور؟ وإذا كانت الدنيا غرّارة فما الطمأنينة؟‪.‬‬
‫ل همّه على ما فاته استراحت نفسُه وصفا ذِهْنه وطال عمره‪ .‬وقال‪ :‬من‬ ‫قال سقراط‪ :‬من كثر احتمالُه وظهر حِلمُه قلّ ظلمُه وكثر أعوانه‪ ،‬ومن ق ّ‬
‫حبَالُ الجهل‪ ،‬وال ِعشْرَةُ الحسنة وقايةٌ من السواء‪.‬‬ ‫تعاهد نفسَه بالمحاسبة أمن عليها ال ُمدَاهنة‪ .‬وقال‪ :‬المانيّ ِ‬
‫جنْسك‪ ،‬ولكن ردّ كلّ جنس إلى جنسه وتعال‬ ‫حلَل وبِزّة ‪ -‬فقال له سقراط‪ :‬إنما تفخر عليّ بغير ِ‬ ‫شتَمه بعضُ الملوك ‪ -‬وكان على فرس وعليه ُ‬ ‫وَ‬
‫الن فلنتكلّم‪.‬‬
‫حكْمة فل يجزع لِ َف ْقدِ الذهب والفضّة؛ لن من أعطى السلمة والدّعة ل يجزع ل َف ْقدِ اللم والتعب؛ لن ثمارَ الحكمة‬ ‫وقال سقراط‪ :‬من أُعطي ال ِ‬
‫ل همومكم‪ .‬وقال‪ :‬ال ُقنْية مخدومة‪ ،‬ومن خدم‬ ‫السلمة والدّعة‪ ،‬وثمار الذهب والفضة الَلم والتعب‪ ،‬وقال‪ :‬القُنية ينبوع الحزان‪ ،‬فأقلّوا القنية تق ّ‬
‫غير نفسه فليس بحرّ‪.‬‬
‫وقال أبو الطيب‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫يا فـيا لـيتَ جُـودَهـا كـــان بُـــخْـــلَ‬ ‫أبـداً تَـسْـتَـ ِردّ مــا تَـــهَـــبُ الـــدن‬
‫جدَ خِلً‬‫ل يُغادِرُ ال َو ْ‬ ‫ت كَوْنَ َفرْحَ ِة تُو ِرثُ الهَمّ وخِ ّ‬ ‫وك َف ْ‬
‫من حكم الهند‬
‫علْمًا بأنه ل ينالُ أحدٌ منها شيئاً إل قل إمتاعه به و َكثُر عناؤه فيه‪ ،‬ووبالُه عليه‪،‬‬ ‫ن تسخو نفسه عن الدنيا‪ِ ،‬‬ ‫وفي كتاب الهند‪ :‬العاقلُ حقيقٌ أ ْ‬
‫واشتدت مؤنته عند فِراقِه‪ ،‬وعلى العاقل أن يدوم ذِكْرُه لما بعد هذه الدار‪ ،‬ويتنزه عمّا تسيره إليه نفسه من هذه العاجلة‪ ،‬ويتَنحّى عن مشاركة‬
‫ب هذه الفانية التي ل يألفها ول ينخدع بها إل المغترون‪.‬‬ ‫الكَفَرةِ والجهال في ح ّ‬
‫حبَتهم على ما فيها من السرور كثيرةُ الذى‪،‬‬ ‫صْ‬‫وفيه‪ :‬ل يجدّن العاقلُ في صحبة الحباب والخلء‪ ،‬ول يحرصن على ذلك كل الحِرْص‪ .‬فإن ُ‬
‫والمؤنات‪ ،‬والحزان‪ ،‬ثم ل يفي ذلك بعاقبة الفراق‪.‬‬
‫حزْناً‪ ،‬كالماء المالح الذي كلّما ازداد له صاحبُه شرباً ازداد عطشاً‪ ،‬وكالقطْعة من‬ ‫ت الدنيا ولذاتِها شيء إل وهو موّل ٌد أذًى و ُ‬ ‫وفيه‪ :‬ليس من شهوا ِ‬
‫سفَلها سم للذائق؛ فيه حلوة عاجله‪ ،‬وله في أسفلها سم ذُعاف‪ ،‬وكأحلم النائم التي تسرُه في منامه‪ ،‬فإذا استيقظ ا ْنقَطَع السرور‪،‬‬ ‫العسَل في أَ ْ‬
‫ت من الخروج‬ ‫ت عليه لفاً إل ازدادَ ْ‬ ‫وكالبرق الذي يُضِيء قليلً‪ ،‬ويذهب وشيكاً‪ ،‬ويبقى صاحبُه في الظلم مُقيماً‪ ،‬وكدودة البْ ِريْسَم ما ازدادَ ْ‬
‫بعداً‪.‬‬
‫ب الدين قد فكر؛ َفعََلتْه السكينة‪ ،‬وسكَن فتواضع‪ ،‬وقَنع فاست ْغنَى‪ ،‬ورَضي فلم يهتمّ‪ ،‬وخلع الدنيا َفنَجا من الشرور‪ ،‬ورفض الشهوات‬ ‫وفيه‪ :‬صاح ُ‬
‫فصار حراً‪ ،‬وطرح الحسد فظهرت له المحبَة‪ ،‬وسخَتْ نفسه عن كل فَانٍ‪ ،‬فاستَ ْكمَل العقل‪ ،‬وأبصَر العاقبة‪ ،‬فَأمِنَ الندامة‪ ،‬ولم يُ ْؤذِ الناسَ‬
‫فيخافهم‪ ،‬ولم يُ ْذنِب إليهم فيسألهم العفو‪.‬‬
‫وصية عتبة بن أبي سفيان‬
‫لموله سعد القصر‪:‬‬
‫ع ْتبَة أموالَه بالحجاز‪ ،‬فلما ودّعته قال‪ :‬يا سعد‪ ،‬تعا َهدْ صغيرَ مالي فيكبر‪ ،‬ول تجف كبيره‬ ‫وقال سعد القصر مولى عُتبة بن أبي سفيان‪َ :‬ولَني ُ‬
‫ل ما عندي من كثير ما ينوبني‪ .‬قال‪ :‬فقدمت الحجازَ‪،‬‬ ‫فيصغر؛ فإنه ليس يمْنَعني كثير ما عندي‪ ،‬من إصلح قليل ما في يدي‪ ،‬ول يمنعني قلي ُ‬
‫فحدثت به رجالً من قريش‪ ،‬ففرّقوا به الكتبَ إلى الوكلء‪.‬‬
‫من حكم يزيد بن معاوية‬
‫عذْر‪ ،‬فقد اتكلت منك على كِفاية‪،‬‬ ‫وقال يزيد بن معاوية لعبيد ال بن زياد‪ :‬إن أباك كفَى أخاه عظيماً‪ ،‬وقد استكفيتُك صغيراً‪ ،‬فل ت ّتكِلن مني على ُ‬
‫ح نفسَك وأَنت في أدنى حظّك‪ ،‬حتى َتبْلُغ أقصاه؛‬ ‫ن إذا أخلف فيك أخلف منك‪ ،‬فل تُرِ ْ‬ ‫ولَنْ أقولَ لك‪ :‬إياك‪ ،‬أحبّ إليّ من أن أقول‪ :‬إياي؛ فإن الظ ّ‬
‫غدِك‪ ،‬واستَ ِز ْدنِي بإحسانك إلى أهل الطاعة‪ ،‬وإساءتك إلى أهل المعصية‪ ،‬أَ ِزدْك إن شاء ال تعالى‪.‬‬ ‫واذكرْ في يومك أخبارَ َ‬
‫أبو السود الدؤلي والعمامة‬
‫جنَةٌ في الحرب‪ ،‬و ِدثَارٌ في البرد‪ ،‬وكنّة في الحرّ‪ ،‬وَ َوقَار في النَدِيّ‪ ،‬وشرف في الحدوثة‪ ،‬وزيادةٌ‬ ‫ذكرت العمامة عند أبي الَسود الدؤلي فقال‪ُ :‬‬
‫في القامة‪ ،‬وهي بعد عادةٌ من عاداتِ العرب‪.‬‬
‫من إنشاء ابن العميد‬
‫وكتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي عبد ال الطبري‪ :‬وقفت على ما وصفت من ب ّر مولنا المير لك‪ ،‬وتَ َوفّره بال َفضْل عليك‪ ،‬وإظهار جميل‬
‫ب أن يَ ْقصُر شيء من مساعِيه عن َنيْلِ‬ ‫رَ ْأيِه فيك‪ ،‬وما أنزله من عارف ٍة لديك؛ وليس العجب أن يتناهى ِمثْلُه في الكرم إلى أبْعدِ غاية‪ ،‬وإنما العجَ ُ‬
‫ع ذلك‪،‬‬ ‫ضمَنه للرّيع وال َنمَاء‪ ،‬فا ْر َ‬
‫ت أن يكونَ ما يغرسه من صنيع ٍة عندك أجدر غرس بالزَكاء‪ ،‬وأ ْ‬ ‫المجد كلّه‪ ،‬وحِيازة الفضلِ بأَجمعه؛ وقد رجو ُ‬
‫ستَ ْرسِلْ إلى حسن القبول كل السترسال؛ فلن‬ ‫خدْمَة طريقة تُبْعدك من الملَل‪ ،‬وتوسطك في الحضور بين الكثار والقلل‪ ،‬ول تَ ْ‬ ‫واركب في ال ِ‬
‫ل ومن السهاب‪ ،‬ول يعجبنّك تَأتي كلمة محمودة فيلج‬ ‫ن تُقْصَى من قريب‪ ،‬وليكن كلمُك جواباً تتحرّز فيه من الخطَ ِ‬ ‫تُدعَى من بعيد خي ٌر من أ ْ‬
‫ب تَ َوقّعًا لمثلها؛ فربما هدمت ما بنتْه الولى‪ ،‬وبضاعَتك في الشرف مُزْجاة‪ ،‬وبالعقل يزمّ اللسان‪ ،‬ويرام السّداد‪ ،‬فل يستفزّنك طَ َربُ‬ ‫بك الطنا ُ‬
‫الكلم على ما يفسد تمييزك؛ والشفاعة ل تعرض لها فإنها مُخِْلقَةٌ للجاه؛ فإن اضطررت إليها فل تهجم عليها حتى تعرفَ موقعها‪ ،‬وتحصّلَ‬

‫‪300‬‬
‫ن عليك في الرد‬ ‫سمْحَة‪ ،‬وإلى السعاف هَشّة‪ ،‬فَأظْهر ما في نفسك غير محقّق‪ ،‬ول توهم أ ّ‬ ‫وزنها‪ ،‬وتطالعَ موضعها؛ فإن وجَدتَ النفس بالجابة َ‬
‫ف كلمك‪ ،‬ول يثقل على‬ ‫ما يُوحشك‪ ،‬ول في المَنع ما يغيظك‪ ،‬وليكن انطلقُ وجهك إذا ُد ِفعْت عن حاجتك أكثر منه عند نجاحها على يَدك‪ ،‬ليخ ّ‬
‫جمّل الُّ خصالَك‪ ،‬وحسّن خللك‪ ،‬وفضّلك في ذلك كلّه؛ لكني أُنبّه تنبيه المشارِك له‪،‬‬ ‫غيْرَ واعظ ول مُرشدِ‪ ،‬فقد َ‬ ‫سامعه منك‪ .‬أقول ما أقولُ َ‬
‫وأعلم أنّ للذكرى موضعاً منك لطيفاً‪.‬‬
‫حبّي له‪ ،‬وزَعمت أني لو شئت لذهلت عنه‪ ،‬ولو أردت لعتَضت منه‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫جدِي به‪ ،‬وشغفني ُ‬ ‫ضاَ‪ :‬سأَلتَني عمن شفّني وَ ْ‬ ‫وله أي َ‬
‫زعماً‪ ،‬لعَم ُر أبيك‪ ،‬ليس بمزعَم‬
‫كيف أَسلُو عنه وأنا أراه‪ ،‬وأَنساهُ وهو لي تُجاه؛ هو أغلب عليّ وأَقربُ إليّ‪ ،‬من أن يُرخي لي عناني‪ ،‬أو يخِيلني واختياري‪ ،‬بعد إختلطي‬
‫حبّه بقلبي نَائِط وسَاطَه بدمي سائط‪ .‬وهو جا ٍر مَجْرَى الرّوح في الَعضاء‪ ،‬متنَسم َتنَسّم روح الهواء؛‬ ‫بملكه‪ ،‬ونْخِرَاطِي في سِلكِه‪ ،‬وبعد أن ناط ُ‬
‫ت منه وقَعتُ عليه وما أحِبّ السل ّو عنه مع هنَاتِه‪ ،‬وما أُوثر الخل ّو منه مع مَلته؛ هذا على أنه إنْ أَقبل عليّ‬ ‫إن ذهَبْتُ عنه رجعت إليه‪ ،‬وإن ه َربْ ُ‬
‫َبهَتني إقبالُه‪ ،‬وإن أَعْرض عني لم يَطْرُقنِي خياله‪ ،‬يبعد عني مثاله‪ ،‬ويقرب من غيري نَوالُه‪ ،‬ويردّ عيني خاسئة‪ ،‬و َيثْني يدي خالية‪ ،‬وقد بسط‬
‫آفات العيون المقاربة‪ ،‬وصدَق مرامي الظنون الكاذبة‪ ،‬وَصلُه ُينْذِ ُر بصدّه‪ ،‬و ُقرْبه يُ ْؤذِن ببعده‪ُ ،‬ي ْدنِي عندما ينزح‪ ،‬ويَأْسُو مثل ما يجرح‪ ،‬محالتُه‬
‫سنَا ُء من نعوته وسِماتِه‪ ،‬اسمُه‬ ‫صفَاته‪ ،‬وال ّ‬ ‫ل من منائحه‪ ،‬والبها ُء من أُصوله و ِ‬ ‫جمَا ُ‬
‫حسْنُ في عَوَارِفه‪ ،‬وال َ‬ ‫أحوال‪ ،‬وخلّته خِلل‪ ،‬وحكمه سِجَال‪ ،‬ال ُ‬
‫ق لنَجْواه‪ ،‬يتشابه حاله‪ ،‬ويتضارَع قُطْراه‪ ،‬من حيث تلقاه يستنير‪ ،‬ومن حيث َتنْسَا ُه يستدير‪.‬‬ ‫ق لمعناه‪ ،‬وفَحْواه مواف ٌ‬ ‫مطاب ٌ‬
‫وباء الكوفة‬
‫وقع بالكوفة وباءٌ‪ ،‬فخرج الناسُ وتفرّقوا بالنجف‪ ،‬فكتب شريح إلى صديق له خرج بخروج الناس‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإنك بالمكان الذي أَنت فيه بعَيْن من‬
‫ت ل يعجّلِ لحد حِمامَه‪ ،‬ول يظلمه َأيّامه‪ ،‬وإنّا وإياك لعلى بساطٍ واحد‪ ،‬وإنّ النجف من‬ ‫ل ُيعْجزه هرَب‪ ،‬ول يَفُوتُه طلب؛ وإن المكانَ الذي خلّفْ َ‬
‫ذي قدرة لقريب‪.‬‬
‫حذَاراً من الطاعون‪ ،‬فبينما هو سائر إذ سمع قائلً يقول‪ :‬الرجز‪:‬‬ ‫وهرب أعرابي ليلً على حمار ِ‬
‫ول على ذِي مَ ْيعَةٍ طيارِ‬ ‫لن يُسبق الُ على حمـارِ‬
‫قد يصبح الُ أَمام الساري‬ ‫أَو يأتيَ الحَتفُ على مقدار‬
‫ت حين مَهرب‪.‬‬ ‫فكرّ راجعاً‪ ،‬وقال‪ :‬إذا كان ال أمام الساري فل َ‬
‫جوى الشوق‬
‫قال الصمعي‪ :‬أخبرني يونس بن حبيب قال‪ :‬أتى قومٌ إلى ابن عباس بفتًى محمول ضَعفاً‪ ،‬فقالوا‪ :‬استشفِ لهذا الغلم‪ ،‬فنظر إلى فتًى حُلْو‬
‫الوجه‪ ،‬عاري العظام‪ ،‬فقال له‪ :‬ما بك؟ فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تكادُ لها نفسُ الشفـيق تَـذُوبُ‬ ‫بنا من جوى الشوق المبرّح لَوْعَةٌ‬
‫على ما به عُودٌ هناك صَلِـيبُ‬ ‫ولكنما أبقَى حُشاشة مـا نَـرَى‬
‫ن عبّاس‪ :‬أرأيتم وجهاً أعتق‪ ،‬ولسانًا أذْلَق‪ ،‬وعُوداً أصلب‪ ،‬وهوًى أغلب‪ ،‬ممّا رأيتم اليوم‪ .‬هذا قتيل الحبّ‪ ،‬ل قوَد ول ِديَة!‪.‬‬ ‫فقال اب ُ‬
‫حبْرَ قريش وبَحْرَها‪ ،‬وله يقول رسول ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪" :‬اللهمّ ف ّقهْه في الدين وعَّلمْه التأويل"‪.‬‬ ‫وكان ابنُ عباسٍ‪ ،‬رضي ال عنهما‪َ ،‬‬
‫وفيه يقول حسان بن ثابت‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بملتقطات ل ترَىَ بينها فـصـلً‬ ‫إذا قال لم يترك مـقـالً لـقـائل‬
‫جدّاً ول َهزْل‬ ‫لذي َلسَنٍ في القول ِ‬ ‫شفَى وكفَى ما في النفوس؛ فلم يَ َدعْ‬
‫ت ذُرَاهـا ل دَنِـيّاً ول وَغْـلَ‬‫فنِلْ َ‬ ‫سموتَ إلى العَلْيا بغـير مَـشـقّةٍ‬
‫من أخبار مسلم بن الوليد وشعره‬
‫وقال مسلم بن الوليد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫س فيها المطامِـعُ‬ ‫إذا عاودَت باليأ ِ‬ ‫أُعَا ِو ُد ما ق ّد ْمتُـهُ مِـنْ رَجـائهـا‬
‫ت إل أن تثير الصابـع؟‬ ‫وهل خِف ُ‬ ‫رأتنِي غَنيّ الطّرْفِ عنها فأعْرضتْ‬
‫ولكنْ جَرَى فيها الهوى وهو طَائع‬ ‫وما زيّنتْها الن ْفسُ لي عن لَـجـاجةٍ‬
‫ستْـرُ واقـع‬ ‫وقد فاجأتْها العينُ وال ّ‬ ‫فأقسمت أنْسَى الداعياتِ إلى الصّبـا‬
‫كأيدي السارى أثْقَل ْتهَا الجـوامِـعُ‬ ‫ت بأيديها ِثمَـا َر نُـحُـورِهـا‬ ‫فغط ْ‬
‫وكان مسلم أنصارياً صريحاً‪ ،‬وشاعراً فصيحاً‪ ،‬ولقّب صريعًا أيضاً لقوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ي همّا أو أُصيب فتًى مثلـي‬ ‫ضَ‬‫لمْ ِ‬ ‫سأنقاد للّـذَات مُـتّـبـع الـهـوى‬
‫ح َميّا الكأس والعين النجْلِ؟‬ ‫صريعَ ُ‬ ‫هل العيش إل أن تروح مع الصبـا‬
‫واجتلب له هذا السم لجل هذا البيت؛ وقد قال القطامي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫َلدُنْ شبّ حتى شاب سودُ الذّوائبِ‬ ‫صريع غوانٍ راقهـنّ و ُرقْـنَـهُ‬
‫ومسلم أول من لطّف البديع‪ ،‬وكسا المعاني حُلل اللفظ الربيع‪ ،‬وعليه يعوّل الطائي‪ ،‬وعلى أبي نواس‪ ،‬ومن بديع شعره الذي امتثله الطائي قوله‪:‬‬
‫الطويل‪:‬‬
‫ط ُي ْمنَاه الندى وشِمالُه الرّدى وعيونَ القول َمنْطقُهُ الفَصلُ‬ ‫تُساقِ ُ‬
‫سُلَفة مـا مـجّـتْ لفـراخـهـا الـــنّـــحْـــلُ‬ ‫ن َنعَم في فِيه تجري مكانَها‬ ‫كأ ّ‬
‫َمنُـوط بـهـا المـالُ‪ ،‬أَطْـنـابُـهـا الـسّـــبْـــلُ‬ ‫له هَـضْـبَة تَــأْوِي إلـــى ظـــل بَـــ ْرمَـــكٍ‬
‫َيعُـدّ الـنّـدى غُـنْـمـًا إذا اغـتُـنِـمَ الـبُـــخْـــلُ‬ ‫عَجُـولٌ إلـى أن يُوْ ِدعَ الــحـــمـــدُ مـــالـــهُ‬
‫فأمـوالُـهُـ ْم نَـهْـبٌ وأعـراضُـهُـــ ْم بَـــسْـــل‬ ‫وقـد حَـرّمَ العْـراضَ بـالـبـــيض والـــنـــدى‬
‫إذا هـي حُـلـتْ لـم يَفُـتْ حَـلّـــهـــا ذَحْـــلُ‬ ‫حبـًا ل يَطِـيرُ الـجَـهْـلُ فـي عـ َرصَــاتـــهـــا‬

‫‪301‬‬
‫وتُسْـتَـنْـزَلُ الـنُـعْـمَـى وُيسْـتَـرعَـفُ الـنَـصْـ ُ‬
‫ل‬ ‫ِبكَـفّ أبـي الـعـبـاس يُسْـتَـمْـطَـرُ الـغِــنَـــى‬
‫إذا أنـت زُ ْرتَ الـفَـضْـلَ أو َأذِنَ الـــفَـــضْـــل‬ ‫متـى شِـئْتَ َرفَـعْـتَ الـسُـتـورَ عـن الـغِــنَـــى‬
‫وقوله أيضاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فليس يضر الجودَ أن ُكنْت ُم ْعدِما‬ ‫إذا كنت ذا نَ ْفسٍ جوادٌ ضميرُهـا‬
‫أردت فلم أ ْفغَرْ إليه بـه فَـمَـا‬ ‫رآني ب َعيْنِ الجود فانتهـز الـذي‬
‫جعلتَ إلى شكري نوالَك سُلّمـا‬ ‫ظلمتك إنْ لم أجزل الشك َر بعدما‬
‫لغيرك من شكري ول متلوّمـا‬ ‫فإنك لـم يتـرك نـداك ذخـيرةً‬
‫وقال ليزيد بن َم ْزيَد‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ل يَسْـعَـى إلـى أمـلِ‬ ‫كأنه َأجَـ ٌ‬ ‫مُوفٍ على ُمهَجٍ في يوم ذي رَهَـجٍ‬
‫س َتعْجِلً يأْتي على َمهَـلِ‬ ‫كالموت مُ ْ‬ ‫ل بـهِ‬ ‫ينال بال ّرفْق ما َيعْيَا الـرجـا ُ‬
‫سبُـلِ‬ ‫كالبيت يُضْحي إليه مُلْتقى ال ّ‬ ‫ل يَ ْرحَلُ الناسُ إل نحو حَجْـ َرتِـه‬
‫يَ ْقرِي الضيُوفَ شحومَ الكُوم والبُزُلِ‬ ‫يَقْرِي المنيّةَ أرواحَ الكُمـاةِ كـمـا‬
‫ويجعلُ الها َم تِيجانَ ال َقنَـا الـ ّدبُـلِ‬ ‫س الناكثين بـه‬ ‫يكسو السيوفَ رؤو َ‬
‫ن َيتْ َب ْعنَهُ في كـل مُـ ْرتَـحـل‬ ‫فهُ ّ‬ ‫قد عَ ّودَ الطيرَ عاداتٍ َوثِقْـنَ بـهـا‬
‫وهذا المعنى كثير‪.‬‬
‫أبيات في وصف الجيش‬
‫قال عمرو الوراق‪ :‬سمعت أبا نُوَاس ينشد قصيدته المديد‪:‬‬
‫س َمرِهْ‬‫ت مِنْ َليْلي ول َ‬ ‫لس َ‬ ‫أيّها ال ُمنْتـابُ عُـفُـ ِرهْ‬
‫قد بَلَوْتَ الم ّر من َثمَرِهْ‬ ‫ل أَذودُ الطّيرَ عن شَجَرٍ‬
‫فحسدته عليها‪ ،‬فلمّا بلغ إلى قوله‪:‬‬
‫وتراءى الموتُ في صُوَ ِرهْ‬ ‫وإذا مَجّ القَـنَـا عـلَـقـاً‬
‫شبَـا ظُـفُـرِه‬
‫سدٌ َي ْدمَى َ‬‫َأ َ‬ ‫ي مُفاضَـتِـهِ‬ ‫راحَ في ِثنْيَ ْ‬
‫ثقةً بالشّبع مـن جَـزَرهْ‬ ‫تتأبّى الـطـيرُ غَـزوتـه‬
‫فهي تتلوه عـلـى أثـره‬ ‫ح تتبـعـهُ‬ ‫تحت ظلّ الرم ِ‬
‫فقلت‪ :‬ما تركت للنابغة شيئاً حيث يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عصائب طيْ ٍر تهتدِي بعصـائبِ‬ ‫إذا ما غزَوْا بالجيش حَلّقَ فو َقهُمْ‬
‫إذا ما التَقى الجمعان أَوّلُ غالبِ‬ ‫ن قـبـيلَـهُ‬ ‫جَوَانِح قد أيقـنّ أ ّ‬
‫فقال‪ :‬اسكت‪ ،‬فلئن أحسن الختراع‪ ،‬لما أسأت التباع‪.‬‬
‫أخذه الطائي فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بعقبانِ طيرٍ في الدماءِ نوا ِهلِ‬ ‫عقْبانُ راياته ضُحًى‬ ‫وقد ظُلّلت ِ‬
‫من الجيش إل أنها لم تقاتِـلِ‬ ‫أقامتْ على الراياتِ حتى كأنها‬
‫وقال المتنبي يصف جيشاً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ِبنَاجٍ‪ ،‬ول الوحْشُ المُثا ُر بِسالِـم‬ ‫ب ل ذو الجنَاحِ أمـامَـهُ‬ ‫ج ٍ‬ ‫وذي لَ َ‬
‫تُطاِلعُ ُه من بين ريش القَشـاعـمِ‬ ‫تمرّ عليه الشمس وَ ْهيَ ضعـيفةٌ‬
‫ض مثلَ الدراهِـمِ‬ ‫َتدَوّرَ فوق البَيْ ِ‬ ‫إذا ضَ ْوءُهَا لقَى من الطي ِر ُفرْجَةً‬
‫ب بَوّان‬
‫شعْ ُ‬
‫وصف ِ‬
‫ونظير قول أبي الطيب في هذا البيت وإن لم يكن في معناه قولُه يصف شِعب بَوّان‪ ،‬وسيأتي‪ ،‬وفي هذا الشّعب يقول أبو العباس المبرد‪ :‬كنت‬
‫مع الحسن بن رجاء بفارس؛ فخرجتُ إلى شِعب بَوّان‪ ،‬فنظرت إلى تُرْبة كأنها الكافور‪ ،‬ورياض كأنها الثوب الموشّى وماء ينحدر كأنه سَلسِلُ‬
‫حصَى الدرّ؛ فجعلت أطوف في جَنباتها‪ ،‬وأدور في عَرَصاتها‪ ،‬فإذا في بعض جدرانها مكتوب‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫الفضة‪ ،‬على حصباء كأنها َ‬
‫ب بوّان أفاق من الكَرْب‬ ‫شعْ ِ‬ ‫على ِ‬ ‫س تَ ْلعَةٍ‬ ‫إذا أشرفَ المكروب من رَأ ِ‬
‫جرِي من البارد العَـذْبِ‬ ‫ومطّرِد يَ ْ‬ ‫وأَلهاه بَطْنٌ كالـحـرير لـطـافَةً‬
‫وأغصانُ أشجارٍ جَناها على قُرْبِ‬ ‫وطيبُ رِياض في بـل ٍد مَـرِيعَةٍ‬
‫بعينك ما ُلمْتَ المحبين في الحـبّ‬ ‫حظْـتَـهُ‬ ‫س من لوِ لَ َ‬ ‫يدِير علينا الكا َ‬
‫شعْب بوّان سل َم فتًى صَـبّ‬ ‫إلى ِ‬ ‫فبال يا ريحَ الشمال تـحـمّـلـي‬
‫قال أبو العباس‪ :‬فأخبرت سليمان بن وهب بما رأيت‪ ،‬فقال‪ :‬وقد رأيت تحت هذه البيات‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫خَلْفَنا بالعراق هل ذَكَرُونا؟‬ ‫ليت شعري عن الذين تَرَكنَا‬
‫َقدُمَ ال َع ْهدُ بيننا فَنسُـونَـا؟‬ ‫أم يكون المدَى تطا َولَ حتى‬
‫لهمُ في الهوى كما عهدونا‬ ‫إن جفَوْا حرمة الصّفاء فإنا‬
‫وشعر المتنبي‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫بمنزلة الربيع من الـزمـانِ‬ ‫مَغاني الشّعب طِيباً في المَغاني‬
‫غرِيبُ الوجه واليدِ واللسـانِ‬ ‫ولكنّ الفتى العَربـيّ فـيهـا‬
‫‪302‬‬
‫سليمانٌ لسا َر بِـتُـرْجُـمـان‬ ‫جنَةٍ لو سـار فـيهـا‬
‫مَلعِبُ ِ‬
‫خشِيتُ وإن كَ ُرمْنَ من الحِرانِ‬ ‫ت فُرْسانَنا والخيلَ حـتـى‬
‫طبَ ْ‬ ‫َ‬
‫على أَعْرافِها ِمثْلَ ا ْلجُـمـانِ‬ ‫ن فـيه‬
‫غدَوْنا َتنْ ُفضُ الغصـا ُ‬ ‫َ‬
‫وجئْن من الضياء بما كفانِـي‬ ‫جبْنَ الشمسَ عني‬ ‫حَ‬‫جئْتُ وقد َ‬ ‫فِ‬
‫دَنانيرًا تَفِ ّر مِـن الـبَـنـانِ‬ ‫ق منها في بَنانِـي‬
‫وأ ْلقَى الشّرْ ُ‬
‫ومنها‪:‬‬
‫ن هذا يُسارُ إلى الطّعانِ؟‬ ‫أعَ ْ‬ ‫ب بَوّانٍ حِصانـي‪:‬‬ ‫شعْ ِ‬
‫يقول بِ ِ‬
‫وعَلّمكُ ْم مُفارقَةَ الجِـنـانِ‬ ‫أبوكُمُ آدمٌ سَنّ المعـاصـي‬
‫إنما أردت هذا البيت‪ .‬ومنها‪:‬‬
‫بأشْربةٍ َوقَفْـنَ بـل أوانِـي‬ ‫لها َثمَ ٌر تُشـيرُ إلـيكَ مـنـه‬
‫حلْيِ في َأيْدِي الغوانِي‬
‫صَلِيلَ الْ َ‬ ‫صلّ بها حَـصـاهـا‬ ‫وَأمْوَا ٌه يَ ِ‬
‫رَجْعٌ إلى وصف الجيش‬
‫وأول من ابتكر هذا المعنى الول الفوه الودي في قوله‪ :‬الرمل‪:‬‬
‫عيْن ثقةً أَنْ ستُمارْ‬
‫رأْيَ َ‬ ‫وأرى الطير على آثارنا‬
‫وقال حميد بن ثور وذكر ذئباً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫من الطير َينْظرْنَ الذي هو صانعُ‬ ‫إذا ما غـدا يَوْمـاً رأيتُ غـيابة‬
‫وإن ضاق أمرٌ مرةً فهو وَاسِـعُ‬ ‫فهمّ بـأمْـ ٍر ثـم أَزمـع غـيْره‬
‫وقال مسلم بن الوليد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فسيح وَأَقلى الشَحّ إل على عِ ْرضِي‬ ‫وإني لستحيي القُنوع ومَـذْهـبـي‬
‫ن فتى مَحضِ‬ ‫ولكن أساءت نعمة م ْ‬ ‫وما كان مثلي يعـتـريك رَجَـاؤهُ‬
‫لكالمبتَغي ُزبْدًا من الماءِ بالمَخْضِ‬ ‫وإني وإشرافي عليك بـهـمّـتـي‬
‫أخذه أبو عثمان الناجم فقال‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫َزبَداً حين رمت بالجهل ُزبْدا‬ ‫حصّل بمخْضِك الماء إلّ‬ ‫لم تُ َ‬
‫في وصف سفينة‬
‫وقال مسلم أيضاً يصف السفينة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل بِـكْـ ِر‬
‫بجاريةٍ محمـولةٍ حَـامـ ٍ‬ ‫كَشَ ْفتُ أهاويلَ الدّجَى عن َمهُـولـهِ‬
‫ي نَـسْـرِ‬ ‫وإن أَدبرتْ راقتْ بقادمَتَ ْ‬ ‫عتْ بـقُـنّ ِة قَـرْهَـبٍ‬ ‫إذا أقبلَتْ را َ‬
‫وق ّومَها كبْحُ اللّجـام مـن الـ ّدبْـرِ‬ ‫ت بمجْـدَافـينِ َيعْـتـوِرانِـهـا‬ ‫أطلّ ْ‬
‫خدْرِ‬
‫شيَ العروس إلى ال ِ‬ ‫صبَا مَ ْ‬
‫نسيمَ ال ّ‬ ‫كأنّ الصّبا تحكي بها حين واجَـهَـتْ‬
‫في وصف الساطيل‬
‫وقال أبو القاسم بن هانئ يصف أسطول المعز بال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لقد ظاهَ َرتْـهـا عُـدّةٌ وعَـدِيدُ‬ ‫أمَا والجوارِي المنشآتِ التي سَ َرتْ‬
‫ضمّت عـلـيه أُسُـودُ‬ ‫ولكنّ من ُ‬ ‫ب كما تُ ْرخَى القبابُ على ال َمهَا‬ ‫قِبا ٌ‬
‫ُتنَشّـرُ أعـلمٌ لـهـا وبُـنُـود‬ ‫وما راع مَ ْلكَ الروم إل اطّلعهـا‬
‫مُسَوّم ٌة يجري بـهـا وجـنـودُ‬ ‫وللـه مـمّـا ل يرون كـتـائبٌ‬
‫فمن وقفتْ خَ ْلفَ الصفوفِ ُردُودُ‬ ‫أطال لها أنّ الملئكَ خَلْـفَـهـا‬
‫وأنّ النجومَ الطالعـاتِ سُـعـودُ‬ ‫ت كـتـائبٌ‬ ‫وأنّ الرياح الـذاريا ِ‬
‫له بـارقـاتٌ جَـمّةٌ ورُعُــودُ‬ ‫عليها غَما ٌم ُمكْفَـهـرّ صَـبِـيرُهُ‬
‫لِعزمك بَ ْأسٌ أو ِلكَـفّـك جـودُ‬ ‫خرُ في طامي ال ُعبَاب كأنهـا‬ ‫موا ِ‬
‫بناءٌ على غير العَـرَاء مَـشِـيد‬ ‫ت بها آطامُها َوسَـمـا بـهـا‬ ‫أنأفَ ْ‬
‫س مَـصِـيدُ‬ ‫وليس لها إلّ النفـو َ‬ ‫من الطير إل أنـهـن جـوارحٌ‬
‫وليس من الصّفّاح وهو صَلُـودُ‬ ‫وليسو بأعلى َك ْبكَبٍ وهو شاهِـقٌ‬
‫فمنهـا قِـنَـانٌ شُـمّـخٌ و ُريُودُ‬ ‫من الراسيات الشّمّ لول انتقالُـهـا‬
‫فليس لها يومَ اللـقـاء خُـمـودُ‬ ‫ضرَمُ للصّلَى‬ ‫من القادحات النا َر تُ ْ‬
‫كما شُبّ من نارِ الجحـيم وقُـودُ‬ ‫ت بمـارجٍ‬ ‫غيْظاً ترامَ ْ‬ ‫إذا زَف َرتْ َ‬
‫سَليطٌ له فـيه الـ ّذبَـالُ عَـتِـيدُ‬ ‫ُتعَانِق مَوْجَ البحرِ حتـى كـأنـه‬
‫كما باشَرَتْ َر ْدعَ الخَلُوق جُلـودُ‬ ‫خضَابـهُ‬ ‫ترى الماء فيها وهو قَانٍ ِ‬
‫وأفوا ُههُـن الـزافـراتُ حـديدُ‬ ‫فأنفاسُهن الحامـياتُ صـواعِـقٌ‬
‫وما هي من آل الطريد بَـعِـيدُ‬ ‫يُشَبّ للِ الجَاثَلِـيقِ سَـعِـيرُهـا‬
‫دِما ٌء تلقّيهـا مَـلَحِـفُ سُـودُ‬ ‫شعَلٌ فوق ال ِغمَار كـأَنـهـا‬ ‫لها ُ‬

‫‪303‬‬
‫س ّومَةٌ تحت الفوارس قُـودُ‬ ‫أنها مُ َ‬ ‫وغي ُر المذاكي نَـجْـرُهَـا غـيرَ‬
‫ب كَـدِيد‬
‫وليس لها إل الـعُـبَـا َ‬ ‫فليس لـهـا إل الـرياحَ أَعِـنّةٌ‬
‫سوالفُ غِيدٍ أعرضـت وخُـدود‬ ‫ترى كلّ قوداءِ التليلِ كما انثنـتْ‬
‫بغيرِ شَوًى عذراءُ وهـي وَلُـود‬ ‫رحيب ُة َمدّ الباعِ وهي نـضـيجة‬
‫مَوَالٍ وجُ ْردُ الصافنـات عَـبِـيدُ‬ ‫ن عن نَقْ ٍع يُثـا ُر كـأنـهـا‬‫تكَبّرْ َ‬
‫مُ َف ّوفَ ٌة فيها النّـضَـارُ جَـسِـيدُ‬ ‫ي مَلَبـسٌ‬ ‫لها من شُفوف ال َعبْ َقرِ ّ‬
‫ت فوق المنابـر صِـيدُ‬ ‫أو التَ َفعَ ْ‬ ‫ت فوق الرائك خُـ ّردٌ‬ ‫كما اشتمل ْ‬
‫وتدرَُأ بَـ ْأسَ الـيَمّ وهـو شـديد‬ ‫س تكفّ المَ ْوجَ وهو غُطامِـطٌ‬ ‫لبو ٌ‬
‫خفَـاتـينٌ لـهـا وبُـرود‬‫ومنها َ‬ ‫فمنه دُروعٌ فوقهـا وجَـواشـنٌ‬
‫وقال علي بن محمد اليادي يصف أسطول القائم فأجاد ما أراد‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫وَلحسنه وزمانه المُستـغـر ِ‬
‫ب‬ ‫جبْ لسطول المام محـمـدٍ‬ ‫اِعْ َ‬
‫يبدو لعين الناظرِ المتعـجّـب‬ ‫لبِست به المواجُ أحسنَ منظـر‬
‫صدْرِ الجدل المتنصّبِ‬ ‫إشراف َ‬ ‫من كل مُش ِرفَة على ما قابلـت‬
‫سبِي العقولَ على ثياب تَرَهّبِ‬ ‫تَ ْ‬ ‫ب تَصَـنـع‬ ‫دَهْمَاء قد ل ِبسَت ثيا َ‬
‫منها وأسحمَ في الخليج ُمغَـيّبِ‬ ‫من كل أبيض في الهواء منشّر‬
‫في البحر أنفاسُ الرياح الشذّب‬ ‫كمُلَءة في البرّ يقطع شـدّهـا‬
‫في جانبين دُ َويْنَ صُ ْلبِ صُلّـب‬ ‫محفوفة بمجاذِف مـصـفـوفة‬
‫من كاسيات رِياشه المتـهـدّبِ‬ ‫كقَوَادم النّسر المرفرِفِ عُ ّريَتْ‬
‫بمصعّد منه ُبعَـيْد مُـصَـوّبِ‬ ‫ح َتثّها أيدي الرجـال إذا َونَـتْ‬ ‫تَ ْ‬

‫في كل أوْبٍ للـرياح ومَـذْهَـ ِ‬


‫ب‬ ‫ب إن يدٌ لـم تـهـدهـا‬ ‫خرقاء تذه ُ‬
‫ل بـمَـوْكـبِ‬ ‫يومَ الرهان وتستقـ ّ‬ ‫جَوفاء تحمل موكباً في جَـ ْوفِـهـا‬
‫طوعَ الرياح وراحةِ المتـطـرّب‬ ‫ح يسـتـعـار يُطِـيرُهـا‬ ‫ولها جنا ٌ‬
‫في كل لجّ زاخ ٍر مُـغْـلَـوْلَـب‬ ‫يعلو بها ح َدبُ ال ُعبَـاب مُـطـارةً‬
‫عريان منسـوج الـذؤابة شَـ ْوذَبِ‬ ‫تسمو بأجردَ في الهـواء مـتـوّجٍ‬
‫لو رام يركبها القَطَـا لـم يَ ْركَـب‬ ‫يتـنـزّل الـمـلّح مـنـه ذؤابةً‬
‫للسـمـع إل أنـه لـم يُشْـهَـبِ‬ ‫فكأنمـا رام اسـتـراقَ َة مَـقْـعَـدٍ‬
‫ف مَـ ْركَـب‬ ‫عنَـ ِ‬ ‫ركبوا جوانبها بأ ْ‬ ‫ن دَاودٍ هُـمُ‬‫وكـأنـمـا جـنّ ابـ ِ‬
‫منها بأ ْلسُن مـارج مـتـلـهّـبِ‬ ‫حمَ نارِها فتـقـاذفـوا‬ ‫سجَروا جوا ِ‬
‫من سجنه ا ْنصَلَتَ انصلتَ الكوكبِ‬ ‫ل مسجورِ الحريق إذا انبـرى‬ ‫من ك ّ‬
‫ح يكرّ على الظلم الغَـيهَـبِ‬ ‫صب ٌ‬ ‫عُريان يقدمـه الـدخـانُ كـأنـهُ‬
‫لحق المَطَالب فائتات المَـهْـرَبِ‬ ‫ولواحـق مـثـل الهِـلّة جُـنَـحٌ‬
‫ويجئن فعل الطائر المـتـغـلّـبِ‬ ‫يَذ َهبْن فيمـا بـينـهـن لَـطـافةً‬
‫حتى يَ َقعْنَ ببرك مـاء الـمـيزَب‬ ‫كنضائض الحيّات رُحنَ لـواعـبـاً‬
‫شَأْوَ الرياح لها ولمّـا تَـتْـعَـبِ‬ ‫شرعوا جوانبها مجادفَ أتـعـبـتْ‬
‫طوراً‪ ،‬وتجتمع اجتماع الـ ّربْـرَبِ‬ ‫ب كما نفر الـقَـطَـا‬ ‫تنصاع من َكثَ ٍ‬
‫ل يقرّبُ عقربًا مـن عَـقْـرَب‬ ‫لي ٌ‬ ‫والبح ُر يجمع بـينـهـا فـكـأنـه‬
‫عدَد السلح المُـذْهَـب‬ ‫تختالُ في ُ‬ ‫وعلى كواكبِـهـا أُسـود خِـلَفةٍ‬
‫ثوبَ الجمال من الربيع المعجـب‬ ‫فكأنما البحرُ اسـتـعـار بـزيّهـم‬
‫في المودة‬
‫كتب العباس بن جرير إلى الفضل بن يحيى‪ :‬ل أعلم منزلةً توحشني من المير ول توحشه مني‪ ،‬لنني في المودّة له كنفسه‪ ،‬وفي الطاعة َكيَدِه‪،‬‬
‫وإنما أُلطِفُه من فضله‪ ،‬وقد بعثت بعض ما ظننت أنه يحتاج إليه في سفره‪ .‬وذكر ما بعث‪.‬‬
‫ف دليل محبّةٍ‪ ،‬ومِيسَم قُربة‪ ،‬كفى قليلُه عن كثيره‪ ،‬وناب يسيرُه عن خطيره‪ ،‬ل سيما إذا كان المقصودُ‬ ‫وكتب غيره في هذا المعنى‪ :‬إذا كان اللّطَ ُ‬
‫به ذا هم ٍة ل يستعظم نفيساً‪ ،‬ول يستصغر خسيساً؛ وقد حُزْت من هذه الصفة أجَلّ فضائلها‪ ،‬وأرفع منازلها‪.‬‬
‫ل ما بلغت‪ ،‬منبسطة بكلّ ما أدركت‪ ،‬من حيث يدُ الحشمة قصيرة عن كلّ ما حَ َوتْ‪ ،‬مقبوضة دون ما‬ ‫وفي هذا المعنى‪ :‬إن يَد النس طويلة بك ّ‬
‫أمّلَتْ؛ لن بابَ القول مطلقٌ لذوي الخصوص‪ ،‬محظور عند ذوي الهموم‪ ،‬ولتمكّن ما بيننا عاطيتك من لَطفي ما ل دونه قلّة‪ ،‬ثق ًة منك بأنه يَرِد‬
‫على ما ل فوقَه َكثْرة‪.‬‬
‫ومن ألفاظ أهل العصر‬
‫في إقامة رسم الهدية‬
‫في المهرجان والنيروز‪:‬‬

‫‪304‬‬
‫ل له‪ ،‬أن يَ ْقبَل ويشرف‪ .‬لليوم رسمٌ إن‬ ‫لمثل هذا اليوم الجديد والوانِ السعيد سنةٌ‪ ،‬وعلى مثلي فيها أن يتحف ويُلطف‪ ،‬وعلى مثل سيدنا‪ ،‬ول مِثْ َ‬
‫ع ّد هفوة‪ ،‬وإن منع منه الرؤساء حُسب جَفْوة‪ ،‬ومولي يسوّغني الدّالة فيما اقترن بالرّقعة‪ ،‬ويكسبني بذلك الشرف والرفعة‪.‬‬ ‫ل به الولياءُ ُ‬
‫أخ ّ‬
‫الهدايا تكونُ من الرؤساء مكاثرةً بالفضل‪ ،‬ومن النظراء مقارضة بالمثل‪ ،‬ومن الولياء ملطفة بالقُلّ‪ ،‬وقد سلكت في هذا اليوم مع مولي سبيلَ‬
‫أَهلِ طبقته من الرباب‪ ،‬وقد حملت إلى مولي هدية الملطف‪ ،‬ل هدية المُحتَفِل‪ ،‬والنفس له‪ ،‬والمال منه‪.‬‬
‫ولهم في التهنئة بالنيروز والمهرجان‬
‫وفصل الربيع‪:‬‬
‫هذا اليوم غُرّةٌ في أيام الدهر‪ ،‬وتاجٌ على مفرق العَصْر‪َ .‬أسْعد ال مولنا بنَوْرُوزِه الوارِد عليه‪ ،‬وأَعاده ما شاء وكيف شاء إليه‪ .‬أَسعد ال تعالى‬
‫ل يلبَس اليا َم ويُبليها وهو جديد‪ ،‬ويقطعُ مسافة نَحْسها‬ ‫سيدنا بالنوروز الطالع عليه ببركاته‪ ،‬وأيْمنَ طائرَه في جميعِ أيامه ومتصرّفاته‪ ،‬ول يزا ُ‬
‫جيّته‪ ،‬ومستصحبًا من أنواره‬ ‫سِ‬ ‫سعْدها وهو سعيد‪ .‬أقبل النيروزُ إلى سيدنا ناشراً حُلَله التي استعارها من شيَمتِه‪ ،‬و ُمبْدياً حالته التي اتخذها من َ‬ ‫وَ‬
‫ل بقائه حتى يمل العمر‪ ،‬ويستغرق الدهر‪.‬‬ ‫ما اكتساه من محاسن فضلِه وإكرامه‪ ،‬ومن أنظاره ما اقتبسه من جوده وإنعامه‪ .‬ويوكد الوعد بطُو ِ‬
‫غمَامه‪ ،‬ول تتبدّل أيامه؛ فأسعده ال تعالى بهذا الربيع المتشبّه‬ ‫سحَرُه‪ ،‬ول ينقط ُع ثمرُه‪ ،‬ول يُقْلِعُ َ‬ ‫سيدُنا هو الربيع الذي ل يَذْبل شجرُه‪ ،‬ول يزول َ‬
‫بأخلقه‪ ،‬وإن لم ينَلْ قدرها‪ ،‬ولم يحمل فَضْلها‪ ،‬ولم يجد ُبدّا من القرار بها‪.‬‬
‫سيدُنا هو الربيع الذي يتصل مطرُه‪ ،‬من حيث يُؤمَن ضررهُ‪ ،‬و َيدُومُ زهرُه‪ ،‬من حيث يتعجّل ثمرُه؛ فل زال آمراً ناهياً‪ ،‬قاهراً عالياً‪ ،‬تتهيّأ‬
‫العيادُ بمصادفة سلطانه‪ ،‬وتستفيدُ المحاسنُ من رياض إحسانِه‪ .‬أسعد ال سيدنا بهذا النّوْرُوز الحاضر‪ ،‬الجديد الناضر‪ ،‬سعادةٌ تستمرّ له في‬
‫ن متشابهات في اكتناف المواهب لها‪ ،‬واتصالِ المسار فيها‪ ،‬ل يفرق إل بمقدار يزيد التالي على‬ ‫جميع أيامه على العموم دون الخصوص‪ ،‬لتكو َ‬
‫الخالي‪ ،‬ويدرج الني على الماضي‪ .‬عرّف ال سيدَنا بركة هذا المهرجان‪ ،‬وأسعدَه فيه‪ ،‬وفي كل زمان وأَوان‪ ،‬وأَبقاه ما شاء في ظللِ الماني‬
‫والمان‪ .‬هذا اليو ُم من محاسن الدهر المشهورة‪ ،‬وفضائلِ الزمنة المذكورة‪ ،‬فلقى ال تعالى سيدنا بركة ُورُودِهِ‪ ،‬وأجزل حظّه من أقسام‬
‫غرَر الدهور‪ ،‬ومواسم السرور‪ ،‬معظّم في الملك الفارسي‪ ،‬مستظرَف في الملك العربي؛ فوفر ال تعالى فيه على مولي‬ ‫سعوده‪ ،‬هذا اليو ُم من ُ‬
‫السعادات‪ ،‬وعرّفه في أيامه البركات‪ ،‬على الساعات واللحظات‪.‬‬
‫?صاحب الشرطة‬
‫ن المانة‪،‬‬ ‫ل دائ َم العبُوس‪ ،‬طويلَ الجلوس‪ ،‬سمي َ‬ ‫وقال الحجاج بن يوسف‪ :‬دلُوني على رجل للشرطة‪ ،‬فقيل‪ :‬أي رجل تريد؟ فقال‪ :‬أُريد رج ً‬
‫سبَالُ الشريف في الشفاعة! فقالوا‪ :‬عليك بعبد الرحمن بن عبد ال التميمي‪ ،‬فأرسل إليه يستعمله‪ ،‬فقال‪ :‬لست أَعمل‬ ‫جفَ الخيانة‪ ،‬يهونُ عليه ِ‬ ‫أعْ َ‬
‫لك عملً إل أن تكفيني ولدكَ‪ ،‬وأهل بيتكَ‪ ،‬وعيالك وحاشيتك‪ ،‬فقال‪ :‬يا غلم‪ ،‬ناد‪ :‬مَنْ طلب إليه حاجة منهم فقد برئت منه الذمّة‪.‬‬
‫ح في هذا المعنى إبراهيم بن عثمان بن نَهيك صاحب شرطة الرشيد‪ ،‬وكان جباراً عنيداً‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وقال أشجع بن عمرو السّلمي يمد ُ‬
‫بذوي النفاق‪ ،‬وفيه أمْنُ الَمسلـمِ‬ ‫في سيفِ إبراهيمَ خـوفٌ واقـعٌ‬
‫مالَ المُضِيع و ُمهْجَةَ المُسْتسلـمِ‬ ‫ويبيت َيكْلُ والعـيونُ هـواجـعٌ‬
‫حتى استقام له الذي لم يُخْـطَـم‬ ‫ف كل مُخـالـفٍ‬ ‫شدّ الخطامَ بأَن ِ‬‫َ‬
‫ل َذنْبِ المُجْرمِ‬ ‫َتغْشى البريّ ب َفضْ ِ‬ ‫ل ُيصْلِحُ السـلـطـانَ إل شِـدّة‬
‫شفْ َرتَاهُ من الـدم‬ ‫طرُ َ‬ ‫ف تَقْ ُ‬
‫والسي ُ‬ ‫ومِنَ الولة مُفَـخّـ ٌم ل َيتّـقـي‬
‫بالمر تكرَهُهُ وإن لم تَـعْـلَـمِ‬ ‫ت مهاب ُتكَ النفوسَ حديثَـهـا‬ ‫َمنَعَ ْ‬
‫??من كلم العراب‬
‫ن ِبذْل الوَجْه في السؤال؛ فقد قلّ النوالُ‪ ،‬وكثر ال ُبخّالُ‪ ،‬وقد أتلفت‬ ‫حبْس المالِ‪ ،‬أنْفعُ للعِيَال‪ ،‬مِ ْ‬ ‫عذلَتْ أعرابية أباها في الجود وإتلف ماله‪ ،‬فقالت‪َ :‬‬
‫الطارِفَ والتّلد‪ ،‬وبقيت تطلبُ ما في أَيدِي العباد‪ ،‬ومن لم يحفظ ما ينفعه‪ ،‬أوشك أن يسعى فيما يضرّه‪.‬‬
‫عدْتَ‪ ،‬وخوفًا ممّا‬ ‫قال الصمعي‪ :‬سمعت أعرابية تقول‪ :‬اللهمّ ارْزُقني عمل الخائفين‪ ،‬وخوفَ العاملين‪ ،‬حتى أتنعّم بترك التنعّم‪ ،‬رجاءً لما و َ‬
‫أوعدت‪.‬‬
‫سخْه على هَامَتِه‪ ،‬كرسوخ السّجيل‪ ،‬على هامِ أصحاب الفيل‪.‬‬ ‫حطْه به كإحاطةِ القلئد‪ ،‬بأَعناق الولئد‪ ،‬وَأرْ ِ‬ ‫وقال آخر‪ :‬الله ّم من أراد بنا سوءاً فأَ ِ‬
‫حدَادة فخرّبت البلدَ‪ ،‬وأهلكت‬ ‫غيُوم جَرَاد‪ ،‬بمناجل ِ‬ ‫ي عبقريّ؛ ثم أتتْنا ُ‬ ‫سمِيّ‪ ،‬وخَلفَه وَليّ؛ فالرضُ كأنها َوشْ ٌ‬ ‫وقال بعضُ العراب‪ :‬نالنا َو ْ‬
‫ي الكول‪ ،‬بالضعيف المكول‪.‬‬ ‫العبادَ؛ فسبحان من يُهلك القو ّ‬
‫من أخبار أبي العباس السفاح‬
‫وخالد بن صفوان‪:‬‬
‫وقال عمارة بن حمزة لبي العباس السفاح ‪ -‬وقد أمر له بجوائز نفيسة‪ ،‬و ُكسْوَة وصلة‪ ،‬وَأدْنى مجلسه‪ :-‬وصلك ال يا أمير المؤمنين وبَرّك‪،‬‬
‫فوال لئن أَردنا شكْرَك على ُكنْهِ صلتك‪ ،‬فإنَ الشكرَ َليَ ْقصُ ُر عن نعمتك‪ ،‬كما َقصُ ْرنَا عن منزلتك‪ ،‬غير أن ال تعالى جعل لك فضلً علينا‬
‫بالتقصير منّا‪ ،‬ولم تَح ِر ْمنَا الزيادة منك ِلنَ ْقصِ شكرنا‪.‬‬
‫وقال أبو العباس السفاح لخالد بن صفوان‪ :‬كيف عِ ْلمُك بأَخْوالي بني الحارث بن كعب؟ قال‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪ ،‬هم هامَةُ الشرف‪ ،‬وعِرْنينُ‬
‫جمْرَة‬‫شيَماً‪ ،‬وأَهْناهم طعماً‪ ،‬وأَوْفاهم ذِمماً‪ ،‬وأَبعدهم هِمماً‪ ،‬هم ال َ‬ ‫الكَرَم‪ ،‬وفيهم خصالٌ ليست في غيرهم من قومهم‪ ،‬هم أحسنهم أمماً‪ ،‬وأكرمهم ِ‬
‫في الحَرب‪ ،‬والر ْأسُ في كل خطب‪ ،‬وغيرهم بمنزلة العَجْب‪.‬‬
‫ق بك‪ ،‬والحمدُ ل الذي جعل نبوّتكم رَحمة‪،‬‬ ‫صفْوَان عمر بن عبد العزيز وهنّأَه بالخلفة‪ ،‬فقال‪ :‬الحمد ل الذي مَنّ على الخَلْ ِ‬ ‫وعزّى خالدُ بن َ‬
‫صمَة‪ ،‬ومصائبكم أُسوة‪ ،‬وجعلكم ُقدْوَة‪.‬‬ ‫وخلفتكم عِ ْ‬
‫عدْلك‪ ،‬حتى كأنك من كل أحد‪ ،‬وحتى كأنك‬ ‫صفْوان لبعض الولة‪ :‬قدمت وأعطيت كلً بقِسْطِه من نظرك وَمجْلسك‪ ،‬في صوتك و َ‬ ‫وقال خالدُ بن َ‬
‫لست من أُحد‪.‬‬
‫عنَاء‪ ،‬فيا جامع شَ ّر أبويه!‪.‬‬ ‫ن أمّك كانت حسناء‪ ،‬ولكنها كانت رَ ْ‬ ‫وقال رجل لخالد‪ :‬إن أباك كان دَميماً‪ ،‬ولكنه كان حليماً‪ ،‬وإ ّ‬
‫شذور في المقابح ومساوي الخلق‬
‫علي بن عبيدة الريحاني ‪ -‬أدْنسُ شعارِ المرء جهلُهُ‪.‬‬
‫ل إل مُفْرطاً‬ ‫حتْفه‪ .‬ل ترى الجاه َ‬ ‫ت نعمةُ الجاهل ازداد فيها ُقبْحاً‪ .‬لسانَ الجاهل مفتاحُ َ‬ ‫سنَ ْ‬
‫ابن المعتز‪ :‬نعَم الجاهلِ‪ ،‬كالرياض في المزابل‪ .‬كلما ح ُ‬
‫‪305‬‬
‫أو مُ َفرّطاً‪.‬‬
‫جبْنُ غريزةٌ واحدة‪ ،‬يجمعهما سوءُ الظن بال‪ .‬البخل َي ْهدِمُ مبانيَ الشرف‪.‬‬ ‫الجاحظ ‪ -‬البخلُ وال ُ‬
‫وقال ابن المعتز‪ :‬لمّا عرف أهلُ النَقْصِ حالَهم عند ذوي الكمال‪ ،‬استعانوا بال ِكبْر ليعظّمَ صغيراً‪ ،‬ويرفَعَ حقيراً‪ ،‬وليس ينفعُ الطمع في وثاق‬
‫ب ينبئ عن كامن الحقد‪ .‬من أطاع‬ ‫ن فيرتكبه‪ ،‬ول صورة قبيح فيجتنبه‪ .‬الغض ُ‬ ‫الذل‪ .‬الغضب يصدئ العقلَ حتى ل يرى صاحبُه صورةَ حَسَ ٍ‬
‫غضبَه أضاع أدبه‪ .‬حدّةُ الغضب تعثر المنطق‪ ،‬وتقطع مادَة الحجّة‪ ،‬وتفرق ال َفهْم‪ .‬غضب الجاهل في قوله‪ ،‬وغضبُ العاقل في ِفعْله‪ .‬عقوبة‬
‫ستْر غيره‬ ‫الغضبِ تبدأُ بالغضبان‪ :‬تقبّح صورتَه‪ ،‬وتثلّم دِينَه‪ ،‬وتعجل َندَمه‪ .‬ما أقبح الستطالة عند الغِنى‪ ،‬والخضوع عند الفقْر‪ .‬من يهتك ِ‬
‫تكَشّفتْ عورات بيته‪ .‬نفاق المر ِء من ذلّة‪.‬‬
‫ن بالناس خيرًا لنه يراهم بعين طبعه‪ .‬من عدد نعمه محق كرمه‪ .‬خُلفُ الوعد خُلُق الوَغْد‪ ،‬من أَسرع َكثُر عثَاره‪.‬‬ ‫الشرير ل يظ ُ‬
‫في المفاخراتْ‬
‫ب نديماً‪ ،‬فقال الكاتب‪ :‬أَنا َمعُونة‪ ،‬وأنت مَؤُونة‪ ،‬وأنا للجدّ‪ ،‬وأنت للهَزْل؛ وأنا للشدة وأنت للّذة؛ وأنا للحرب‪ ،‬وأنت للسلم‪ .‬فقال النديم‪:‬‬ ‫فاخر كات ٌ‬
‫شقَى لسعادتي؛ فأنا شريك‪،‬‬ ‫خدْمة؛ وأنا للحضرة‪ ،‬وأنت للمهنة؛ تقوم وأنا جالس‪ ،‬وتحتشم وأنا مُؤانس؛ تَدْأَب لراحتي‪ ،‬وتَ ْ‬ ‫أنا للنعمة‪ ،‬وأنت لل ِ‬
‫ت معِين‪ ،‬كما أنك تابع‪ ،‬وأنا قَرِين‪.‬‬ ‫وأن َ‬
‫وفاخر صاحبُ سيفٍ صاحبَ قلم‪ ،‬فقال صاحبُ القلم‪ :‬أنا أقتل بل غرَر‪ ،‬وأنت تقتل على خَطر‪ .‬فقال صاحب السيف‪ :‬القلمُ خادمُ السيف إن تم‬
‫ف َمعَاده‪.‬‬
‫مراده‪ ،‬وإل فإلى السي ِ‬
‫قال أبو تمام‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫جدّ والّلعِبِ‬ ‫حدّهِ الح ّد بين ال ِ‬
‫في َ‬ ‫السيفُ أصدَقُ إنبا ًء من الكتُب‬
‫إبراهيم بن المهدي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ب مَرَاقِيهِ‬ ‫صعْ ٌ‬‫والوصل في جبَل َ‬ ‫ل تَـبْـذُلُ‬
‫فقد تلينُ ببعض القـو ِ‬
‫ف لَوِيهِ‬ ‫وقد يُرى ليّنًا فـي كـ ّ‬ ‫كالخيزران َمنِيعٌ حين تكـسِـرهُ‬
‫أبو ال َهيْذام عامر بن عمارة المرّي يرثي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فإنّ بها ما أدرك الواتِرُ ال ِوتْرَا‬ ‫سأبكيك بالبيض الرّقاق وبال َقنَـا‬
‫عصْرا‬ ‫ُيعَصّرها من ما ِء ُمقَْلتِه َ‬ ‫ولسنا كمن َي ْبكِي أخاه بعَـبْـ َرةٍ‬

‫جمْرا‬
‫طرَيْ جوانبه َ‬‫وأُلهب في قُ ْ‬ ‫ولكنني أشْفي فؤادي بـغَـمْـر ٍة‬
‫ك منّا وإن َقصَمَ الظهْرا‬
‫على هال ٍ‬ ‫ض دمـوعُـنـا‬ ‫وإنّا أُناس ما تَفي ُ‬
‫من وصايا الحكماء‬
‫عدُ ال ْم ِنيّة‪ .‬قال‪ :‬فما حالُ أهله؟ قال‪ :‬من ظفر به‬ ‫ق البدان‪ ،‬ويج ّددُ المال‪ ،‬ويقرّبُ المنيّة‪ ،‬ويبا ِ‬‫لقي رجل حكيمًا فقال‪ :‬كيف تَرَى الدهر؟ قال‪ :‬يُخْلِ ُ‬
‫منهم تعب‪ ،‬ومن فاته نَصِب‪ .‬قال‪ :‬فما الغنى عنه؟ قال‪ :‬قَطعُ الرجاء منه‪ ،‬قال‪ :‬فأيّ الصحاب أبرّ وأَوْفى؟ قال‪ :‬العمل الصالح والتقوى‪ .‬قال‪:‬‬
‫أيهم أضرّ وأَ ْردَى؟ قال‪ :‬النفس والهوى‪ ،‬قال فأين المخرج؟ قال‪ :‬سلوكُ المَنهَج‪ .‬قال‪ :‬وما هو؟ قال‪َ :‬بذْل المجهود‪ ،‬وترك الراحة‪ ،‬ومداومة‬
‫الفكرة‪ .‬قال‪ :‬أَوْصني‪ .‬قال‪ :‬قد فعلت‪.‬‬
‫خيَلء‪ ،‬وتزهّدني في الدنيا‪ .‬قال‪ :‬فكَر في خَلْقك‪ ،‬وا ْذكُر مبدأك ومصيرك‪ ،‬فإذا‬ ‫وقال بعض الملوك لحكيم من حكمائه‪ :‬عِظْني بعِظَة تنفي عني الْ ُ‬
‫صغَراً؛ قال الملك‪ :‬فإن كان‬
‫ل أنفعهُما لك عِظَماً‪ ،‬والنفس أَزْينهُما لك ِ‬ ‫عظُم بصغرها عندك عَقْلُك؛ فإن العق َ‬ ‫ت عندك نفسُك‪ ،‬و َ‬ ‫صغُرَ ْ‬ ‫فعلت ذلك َ‬
‫خذْ لعقلك‬
‫شيء ُيعِينُ على الخلق المحمودة فصفتك هذه‪ .‬قال‪ :‬صفتي دليل‪ ،‬و َف ْهمُك محجّة‪ ،‬والعلم عليّة‪ ،‬والعمل مَطيّة‪ ،‬والخلص زمامها‪ ،‬ف ُ‬
‫بما يزيّنه من العلم‪ ،‬وللعلم بما يَصُونُه من العمل‪ ،‬وللعمل بما يحقّقه من الخلص‪ ،‬وأنت أنت! قال‪ :‬صدقت‪.‬‬
‫باب المديح‬
‫وقال ابن الرومي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫غنَى الظباء عن التكحيل بالكَحَلِ‬ ‫ِ‬ ‫ن عن كل تقريظ بمجدكُـم‬ ‫َتغْنَوْ َ‬
‫كأنها مِلّة السلمِ في المِـلـلِ‬ ‫تلوح في دُول اليام دولـتـكـم‬
‫وقال أيضاً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫تشابهَتْ منكُمُ الخلقُ والخـلـقُ‬ ‫ل التي فيكُمْ محاسِنـكُـمْ‬ ‫كلّ الخِصا ِ‬
‫حَملً ونَوْراً‪ ،‬وطاب العودُ والورقُ‬ ‫كأنكم شج ُر التْرُجّ طـابَ مـعـاً‬
‫وقال البستي في نحو هذا‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وبأساً وجوداً ل يفيق فُواقـا‬ ‫عفّةً‬
‫جمَ َع العلياءَ عِلْماً و ِ‬
‫فتى َ‬
‫ورائحةً محبـوب ًة ومَـذاقَـا‬ ‫ضرَةً‬ ‫كما جمع التفاحُ حسنًا ونَ ْ‬
‫ل أبي بكلمةٍ‪ ،‬فوصله بخمسمائة دينار ولم يره‪ ،‬وهي‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫قال أبو العباس المبرد‪ :‬حدّثني عجل بن أبي دلف قال‪ :‬امتدح رج ٌ‬
‫حمل السلح وقول الدّارعين قِفِ‬ ‫مَالِي ومالك قد كلفتني شطـطـاً‬
‫أمسِي وأصبحُ مشتاقاً إلى التّلَـفِ‬ ‫َأمِن رجالِ المنايا خِلْتنِـي رجـلً‬
‫فكيف َأمْشِي إليها بارزَ ال َكتِـفِ؟‬ ‫أرى المنايا على غيري فأكرههـا‬
‫ي أبي دُلَـفِ؟‬ ‫وأن قلبيَ في جَنبَ ْ‬ ‫أخِ ْلتِ أنَ سواد اللـيل غـيّرنـي‬
‫قلت‪ :‬هذا كحديث الذي دخل في قوم على شراب فسقوه غير الشراب الذي يشربون‪ ،‬فقال‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ليثار مُثرٍ على مُقـتـرِ‬ ‫نبيذانِ في مجلس واحـد‬
‫فعلت كفعل أبي البَخْتري‬ ‫فلو كنتَ تفعل فِعلَ الكرام‬

‫‪306‬‬
‫ل عن المكثر‬
‫فأغنى المُق ّ‬ ‫تتَبّعَ إخوانه في الـبـلد‬
‫فاتصل شعره بأبي البختري فأعطاه ألف دينار ولم يَرَه‪.‬‬
‫والبيات التي ُمدِح بها أبو دلف هي لحمد بن أبي فنن‪ ،‬وكان شاعراً مجيداً‪ ،‬وهو القائل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وأن تحبسا سَحّ الدموعِ السواكب‬ ‫ي أن تملكَ البُكَـى‬ ‫ولما أَبتْ عينا َ‬
‫ل ما بقاء التـثـاؤب‬ ‫ولكن قلي ً‬ ‫تثاءَبت كي ل يُنكِرَ الدمعَ منكرٌ‬
‫عليّ؟ لبئس الصاحبانِ لصاحبِ‬ ‫أعَرّضتماني للهوى ونمـتُـمـا‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫إل لقَصدِ الْحِنثِ في الحلفِ‬ ‫وحياة هجرك غير مع َتمِـدٍ‬
‫كلَفي بحبّك مُنتهَى كَلَفِـي‬ ‫ح مَنْ رأيت ول‬ ‫ما أنت َأمْلَ ُ‬
‫وقال الصولي‪ :‬كنا بحضرة أبي العباس المبرد فأنشد هذين البيتين فاستظرفهما وأنشدنا في ذلك‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حنْثاً ولكن ُمعْظِماً لـحـياتـكـا‬
‫ِ‬ ‫وحياة غيرك غير معتـمـد بـهِ‬
‫عدَاتكا‬
‫في الوعد منك إلى اقتضاء ِ‬ ‫ما ينقضي ط َمعِي وإن أطمعتنـي‬
‫وقال الخثعمي‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫إذا كان ممن ل يخافُ على َوصْلِ‬ ‫ولم أر مثلَ الصدّ أَدعى إلى الهوى‬
‫وكان أحمد بن أبي فنن‬ ‫ث من أَجْلـي‬
‫حنَ َ‬
‫ت إل لتَ ْ‬
‫وما حَلَ َف ْ‬ ‫ت يميناً كـالـزجـاج رقـيقةً‬ ‫وآَل ْ‬
‫أسود‪ ،‬ولذلك قال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ولما أُدخل على المعتزّ‬ ‫أَخِ ْلتَ أنْ سَوَادَ الليل غيرني‬
‫وامتدحه قال‪ :‬هذا الشاع ُر الدَم‪ ،‬قال بعض من حضر‪ :‬ل يَضِرْه سوادُه مع بياض أياديك عنده‪ ،‬قال‪ :‬أجَلْ‪ ،‬ووصله‪.‬‬
‫أخذ قوله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫من قول أعرابي قيل له‪ :‬أل‬ ‫فأكرهها‬ ‫غيري‬ ‫أرى المنايا على‬
‫َتغْزو؟ قال‪ :‬أنا وال أكره الموت على فراشي‪ ،‬فكيف أمشي إليه َركْضاً؟‪.‬‬
‫علم البديع والستطراد‬
‫ب من البديع يسمّى الستطراد‪ ،‬وذلك أنّ الفارس يظهر أنه يستطرد لشيء و ُيبْطِنُ غيره‪ ،‬فيك ّر عليه‪ ،‬وكذلك‬ ‫وهذا المذهب الذي سلكه أحمد ضر ٌ‬
‫ب لمعنى فيعن له آخر فيأتي به‪ ،‬كأنه على غير قصد‪ ،‬وعليه بناه‪ ،‬وإليه كان َمعْزَاه‪ ،‬وقد أكثر المحدَثون منه فأحسنوا‬ ‫هذا الشاعر يظهِ ُر أنه يذه ُ‬
‫في ذلك‪.‬‬
‫قال الصمعي‪ :‬كنت عند الرشيد فدخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فقال‪ :‬أنشدني من شعرك‪ ،‬فأنشده‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فليس إلى ما تأمـرينَ سـبـيلُ‬ ‫وآمر ٍة بالبُخْل قلت لها اقْصِـرِي‬
‫بخيلً له في العالَمـين خَـلِـيلُ‬ ‫أرى الناس خُلّنَ الجوادِ‪ ،‬ول أرى‬
‫ن مـنـيل‬ ‫إذا نال شيئًا أن يكـو َ‬ ‫ومِنْ خير حالتِ الفتى لو علمتـهِ‬
‫ومالي كما قد تعلمـين قَـلـيلُ‬ ‫فَعالي فعالُ ال ُم ْكثِرين تـجـمّـلً‬
‫فقال الرشيد‪ :‬يا فضل؛ أَعطه‬ ‫ي أمير المؤمنين جـمـيلُ؟‬ ‫ورَ ْأ ُ‬ ‫وكيف أخافُ الفقرَ أو أُحرم الغنى‬
‫عشرين ألف درهم‪ .‬ثم قال‪ :‬ل أبيات تأتينا بها يا إسحاق ما أتقن أصولها‪ ،‬وأبين فصولها‪ ،‬وأقل فضولها! فقال‪ :‬وال يا أمير المؤمنين‪ ،‬ل قبلتُ‬
‫منها درهماً واحداً‪ .‬قال‪ :‬ولم؟ قال‪ :‬لنّ كلمك‪ ،‬وال‪ ،‬خي ٌر من شعري‪ .‬فقال‪ :‬يا فضل؛ ادفع إليه أربعين ألفاً‪ .‬قال الصمعي‪ :‬فعلمت أنه أصيد‬
‫لدراهم الملوك مني‪.‬‬
‫ومن ذلك قول أبي تمام يصف فرساً‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫علـــى الـــجِـــرَاء أمـــينٍ غـــير خَـــوّانِ‬ ‫وسـابـح هَـطــلِ الـــتـــعْـــدَاءِ هَـــتّـــانِ‬
‫َفخَـــلّ عَـــ ْينَـــيك فـــي َريّانَ ظـــمــــآنِ‬ ‫أظْـمـى الـفُـصـوص ولـم تَـظـمــأْ قـــوائمـــهُ‬
‫بين الـسـنـابـك مــن مَـــثْـــنـــى ووُحْـــدَانِ‬ ‫فلـو تـرا ُه مُـشـــيحـــاً والـــحـــصـــى ِزيَمٌ‬
‫وقد احتذى البحتري هذا‬ ‫أيقنْتَ إن لم تثبّت أَن حافِرَهُمن صَخْر َت ْدمُرَ أو من وَجْ ِه عثمانِ‬
‫الحذْوَ في حمدَويْه الحول‪ ،‬وكان حمدويه هذا عدواً للممدوح‪ ،‬فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫قد ُرحْتُ منه على أغ ّر مُحَجّـلٍ‬ ‫ن البهيم مُحَـجّـل‬ ‫وأَغَرّ َفي الزم ِ‬
‫في الحُسْنِ جاء كصورةٍ في َه ْيكَلِ‬ ‫كالهيكَـلِ الـمـبـنـيّ إل أنـهُ‬
‫نَظَرَ المُحِب إلى الحبيب ال ُمقْبـلِ‬ ‫ن بَدا أعْـطَـ ْينَـهُ‬
‫مَلكَ العيونَ؛ فإ ْ‬
‫وفي قصيدته هذه يحكى أن‬ ‫يوماً خلئقَ حَـمْـدَوَيْه الحْـولِ‬ ‫ف قـذًى ولـو أو َردْتَـهُ‬ ‫ن يَعا ُ‬ ‫ما إ ْ‬
‫البحتري قال له أصحابه‪ :‬إنك ستُعاب بهذا البيت؛ لنك سرقته من أبي تمام ط قال‪ :‬أعاب من أخذي من أبي تمام؟! وال ما قلتُ شعرًا قط إل بعد‬
‫أن أحضرت شعره في فكري‪ ،‬قال‪ :‬وأسقط البيت بعد‪ ،‬فل يوجد في أكثر النسخ‪.‬‬
‫س َبقُوا إليه‪ ،‬وقد تقدّم لمن قبلهم‪ ،‬قال الفرزدق‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وهذا معنى قد أعجَب المُحدَثين‪ ،‬وتخيّلوا أنهم لم يُ ْ‬
‫قال الحاتمي‪ :‬وأتى جرير‬ ‫إذا جلسوا َأفْوا ُه بكْرِ بـن وائلِ‬ ‫سمَع‬ ‫ل ابن مِ ْ‬ ‫كأن فِقَاح الزد حو َ‬
‫بهذا النوع فحثا في وَجْهِ السابق إلى هذا المعنى فضل عمن تله؛ فإنه استطرد في بيتٍ واحد‪ ،‬فهجا فيه ثلثة‪ ،‬فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬

‫‪307‬‬
‫وقيل هذا البيت مما يَ ُردّ على‬ ‫جدَعْتُ َأنْفَ الخطلِ‬
‫وعلى البعيث َ‬ ‫سمِي‬
‫لما وضعْتُ على الفرزدق مِي َ‬
‫الحاتمي‪ ،‬وهو قوله‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫قال أبو إسحاق‪ :‬وأوَل من‬ ‫فسقيت آخرهمْ بكأس الو ِ‬
‫ل‬ ‫أعددت للشعراءَ كأسًا مُـرة‬
‫ابتكره السموأل بن عاديَاء اليهودي‪ ،‬وكل أحد تابع له فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫إذا ما رأَتهُ عامرٌ وسلولُ‬ ‫سبّة‬


‫س ل نرى ال َقتْلَ ُ‬‫وإنّا أنُا ٌ‬
‫وتكْرَهُهُ آجاُلهُ ْم فَتطُـول‬ ‫يُ َقرّبُ حُبّ الموتِ آجالنَا لنا‬
‫وقد قال طرفة في هذا المعنى‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عمْرَو بن مَ ْر َثدِ‬ ‫ولو شاء ربي كنت َ‬ ‫س بن خالـد‬ ‫فلو شاء ربي كنت قي َ‬
‫ن كِـرَامٌ سـادةٌ لـمـسَـوّد‬ ‫َبنُـو َ‬ ‫ل كثير‪ ،‬وعـادنـي‬ ‫فأصبحتُ ذا ما ٍ‬
‫جدَين الشيباني‪ .‬وعمرو بن مَرْثد‪ :‬سيد بني قيس بن ثعلبة‪ ،‬فدعا عمرو طرفة لما بلغه ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬أما البنون فإن ال يعطيك‪،‬‬ ‫قيس بن خالد‪ :‬ذو ال َ‬
‫ولكن ل تَرِي ُم حتى تكون من أوسطنا حالً؛ وأمر بنيه وكانوا عشرة‪ ،‬فدفع إليه كل واحد منهم عشراً من البل؟ فانصرف بمائة ناقة‪.‬‬
‫ت ابنةَ عم لي‬
‫غ ْيبَته‪ ،‬فقال‪ :‬خطب ُ‬ ‫ل بن بشر بن مروان‪ ،‬فتأخر عنه بِرُه‪ ،‬وغاب أياماً‪ ،‬ثم أتاه فسأله عن َ‬ ‫عبْدَلٍ منقطعاً إلى عبد ا ّ‬ ‫وكان ابن َ‬
‫بالسواد‪ ،‬فزَعمَتْ أنَ لها ديوناً وأَسْلفاً هناك‪ ،‬وأني إذا جمعتها لها صارت إلى محبتي‪ ،‬ففعلت ذلك‪ ،‬فلما استنجزتها كتبت إليّ‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫حبَالي‬ ‫ت عليك ُقوَى ِ‬ ‫ص ْ‬‫إذا انتقَ َ‬ ‫ت مِـنّـي‬‫طئُك الذي أمّ ْل َ‬ ‫سيُخْ ِ‬
‫َ‬
‫ت َت ُعدّ ذلـك ر ْأسَ مـالِ‬‫وكن َ‬ ‫ف ابنِ بشر‬ ‫كما أخطاك معرو ُ‬
‫صَلتَه‪.‬‬‫فقال‪ :‬ما أحسن ما ألطفت بالسؤال! وأجْزل ِ‬
‫ومن بديع هذا الباب قول بشار بن برد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫على دَهرِهِ؛ إن الكري َم ُمعِينُ‬ ‫خليلي من َكعْبٍ‪ ،‬أَعِينَا أخاكما‬
‫ن يُرجى نَدَاهُ حـزينُ‬ ‫مخافةَ أ ْ‬ ‫ل ابن َقزْعَة؛ إنهُ‬ ‫خَ‬‫ول تَبْخَل بُ ْ‬
‫ت كـمـينُ‬ ‫فلم تَلْقَه إل وأنْـ َ‬ ‫إذا جئتَه في حاج ٍة سدّ بـابَـهُ‬
‫ف عليك يمين‬ ‫وفي كل معرو ٍ‬ ‫فقل لبي يحيى متى تبلغ العُلَ‬
‫طوْق‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ك بن َ‬ ‫وقال بكر بن النطاح يمدح مال َ‬
‫لترضى فقالت‪ :‬قم فجئني بكوكب‬ ‫ت من ال ُمنَى‬ ‫ضتُ عليها ما أرادَ ْ‬ ‫عَرَ ْ‬
‫كمن يشتهي لحمَ عنقّاء مُـغْـرِبِ‬ ‫فقلت لها‪ :‬هذا التعـنّـت كـلّـه‬
‫ل مَذْهَـبِ‬ ‫ول تذهبي يا درّ في ك ّ‬ ‫سَلي كلّ أمرٍ يستـقـيمُ طِـلَبـهُ‬
‫و ُقدْ َرتِه ما رام ذَلك مطـلـبـي‬ ‫فأقسمُ لو أصبحت في عزّ مالـك‬
‫س بأرماح ثعـلـبِ‬ ‫كما ش ِقيَتْ قي ٌ‬ ‫فتًى شَقيَتْ أموالُه بـسـمـاحِـهِ‬
‫ل عذره‪ ،‬فقال عبد العلى‪ :‬أمَا وال لئن كان احتمل إثْمَ الكذب ودناءته‪ ،‬وخضوعَ‬ ‫واعتذر رجلٌ إلى رجل بحضرة عبد العلى بن عبد الّ فلم يُ ْقبَ ْ‬
‫العتذا ِر وذِلَته‪ ،‬فعاقبته على الذّنْب الذاهب‪ ،‬ولم تشكر له إنابة التائب‪ ،‬إنك لممن يُسيء ول يُحسن‪.‬‬
‫وقال الحطيئة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وإن غضِبوا جاء الحفيظة والـجـدّ‬ ‫يَسُوسُونَ أحلمًا بـعـيدًا أنـاتُـهَـا‬
‫سدّوا‬ ‫سدّوا المكان الذي َ‬ ‫من اللومِ أو ُ‬ ‫أقلّـوا عـلـيهـم ل أَبـا لَبـيكُـم‬
‫وإن وعدوا أوفوا وإن عقدوا شـدّوا‬ ‫ن َبنَوْا أَحسنـوا الـبـنَـا‬ ‫أُولئك قوم إ ْ‬
‫وإن أنعموا ل َكدّروهـا ول كـدّوا‬ ‫وإن كانت النعْماء فيهم جَزَوْا بـهـا‬
‫من الدهر ُردّوا فضل أحلمكم ردّوا‬ ‫وإن قال مولهم على جُـلّ حـادث‬
‫ت إل بالذِي عَِلمَـتْ سَـعْـدُ‬ ‫وما قُلْ ُ‬ ‫ويعذلني أبنـاءُ سَـعْـدٍ عـلـيهـمُ‬
‫من أخبار الرشيد‬
‫ووَصلَ سعيدُ بن سَلْمٍ إلى الرشيد شاعراً باهلياً‪ ،‬فأنشده قصيدةً حسنة‪ ،‬فاسترابَهُ الرشيد‪ ،‬قال‪ :‬أسمعك مستحسِناً‪ ،‬وأنكرك متّهما؛ فإن كنتَ‬
‫ل في هذين‪ ،‬وأشار إلى المين والمأمون وكانا جالسين‪.‬‬ ‫صاحب هذا الشعر ف ُق ْ‬
‫حشَة الغُرْبة‪ ،‬ورَوعَة المفاجأة‪ ،‬وجللة المقام‪ ،‬وصعوبة البديهة‪ ،‬وشرود‬ ‫جدَد "هَيبَةُ الخلفة‪ ،‬ووَ ْ‬ ‫فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬حمَلتْني على غير ال َ‬

‫‪308‬‬
‫القوافي‪ ،‬على غير الرويّة‪ ،‬فل ُيمْهِلْني أمي ُر المؤمنين حتى يتألفَ نافرُ القول‪.‬‬
‫ت ميدان السباق‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫فقال الرشيد‪ :‬ل عليك أل تقول؛ قد جعلت اعتذارك عِوَض امتحانك‪ .‬فقال‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪ ،‬نفّسْت الخناق‪ ،‬وسهّلْ َ‬
‫الطويل‪:‬‬

‫ذُرَى قُـبّة السـلم فـاخْـضَــرّ عـــودُهـــا‬ ‫ت بـعـبـد الـلـه بـعــد مـــحـــمـــد‬ ‫بنـي َ‬
‫هما طُنباها بارَك ال فيهماوأنت أمي َر المؤمنينَ عمودُها‬
‫فقال الرشيد‪ :‬وأَنت بارك ال فيك‪ ،‬سَلْ ول تكن مسألتك دون إحسانك‪ ،‬فقال‪ :‬الهنيدة يا أمير المؤمنين! فأمر له بها‪ ،‬وبِخِلعٍ نفيسة‪ ،‬وصِلةٍ جزيلة‪.‬‬
‫من أخبار سليمان بن عبد الملك‬
‫ن بن عبد الملك‪ ،‬فازدَرَاه و َنبَت عينه عنه‪ ،‬فقال‪ :‬ما رأَت عيني كاليوم قطّ‪ ،‬لَعن ال امرأ‬ ‫دخل يزيد بن أبي مُسْلم‪ ،‬كاتبُ الحجاج‪ ،‬على سليما َ‬
‫ل ذلك؛ فإنك رأيتَني والمر عني مُدْبر‪ ،‬وعليك ُم ْقبِل‪ ،‬فلو رأيتني والمر عليّ‬ ‫سنَه‪ ،‬وحكّمك في أمره‪ .‬فقال‪ :‬يا أمي َر المؤمنين‪ ،‬ل تَقُ ْ‬ ‫أَجرّك رَ َ‬
‫ت منّي ما استصغرتَ‪ ،‬واستكبرتَ ما استقلَلْت‪.‬‬ ‫مقبل‪ ،‬وعنك ُم ْدبِر‪ ،‬لستعظم َ‬
‫قال‪ :‬عزمت عليك يا ابْنَ أبي مُسلم لتخبرني عن الحجاج‪ ،‬أتراه يَهوِي في جهنم أم قد قرّبها؟ فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬ل تَقُلْ هذا في الحجاج‪،‬‬
‫وقد بذل لكم النصيحةَ‪ ،‬وأمّن دولتكم‪ ،‬وأخاف عدوّكم‪ ،‬وكأني به يوم القيامة وهو عن يمين أبيك‪ ،‬ويَسار أخيك‪ ،‬فاجعله حيثُ شئت‪.‬‬
‫ن بديهتَهُ‪ ،‬وترفيعه لنفسه ولصاحبه! وقد أحسن‬ ‫فقال له سليمان‪ :‬اُعْ ُزبْ إلى لعنة الّ! فخرج‪ ،‬فالتفت سليمانُ إلى جلسائه فقال‪ :‬قاتله الّ! ما َأحْسَ َ‬
‫المكافأة في الصنيعة‪ ،‬خَلّوا عنه‪.‬‬
‫من أخبار إبراهيم بن العباس الموصلي‬
‫وشعره‬
‫صدْرِي‪ ،‬إل قولي في فصل وصار ما‬ ‫ت في مكاتبةٍ قطّ إل على ما يجلبه خاطري‪ ،‬وَيجِيشُ به َ‬ ‫قال إبراهيم بن العباس الموصلي‪ :‬وال ما اتّكلْ ُ‬
‫كان يحْرِرهم ُيبْرِزهم‪ ،‬وما كان يعقلهم يعتقلهم‪ .‬وقولي في رسالة أخرى‪" :‬فأنزلوه من معقل إلى عُقال‪ ،‬وبدّلوه آجالً بآمال"‪ ،‬فإني ألممت في‬
‫هذا بقول الصريع‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ل يَسْـعَـى إلـى أمـلِ‬ ‫كأنه أجَ ٌ‬ ‫مُوفٍ على ُمهَجٍ في يومِ ذي رَهَجٍ‬
‫وفي المعنى الول يقول أبو تمام‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عقّالت ُه ل َمعَاقِلُهْ‬
‫أُولئك ُ‬ ‫ن َيبْنِ حيطاناً عليه فإنما‬ ‫فإ ْ‬
‫ف متباينون‪ ،‬وأطوار متفاوتون‪ ،‬منهم عِلق مضنّة ل‬ ‫وكان يقول‪ :‬ما تمنّيت كلمَ أح ٍد أن يكون لي إل قولَ عبر الحميد بن يحيى‪ :‬الناس أصنا ٌ‬
‫ل مظنّة ل يبتَاع‪.‬‬ ‫ُيبَاع‪ ،‬وغ ّ‬
‫ورد كتاب بعض الكتّاب إلى إبراهيم بن العباس بذمّ رجل ومدح آخر؛ فوقّع في كتابه‪ .:‬إذا كان للمحسن عن الجزاء ما يُ ْقنِعهُ‪ ،‬وللمسِيء من‬
‫ب عليه رغبة‪ ،‬وانقاد المسيء للحقّ رهبةً؛ فوثب الناس يقبّلون يده‪.‬‬ ‫النكال ما َي ْقمَعه‪َ ،‬بذَل المحسن الواج َ‬
‫حرْمة‪ :‬تقدمت بحرمة مألوفة‪ ،‬ووسيلة معروفة‪ ،‬أقوم بواجبها‪ ،‬وأرْعاها من جميع جوانبها‪.‬‬ ‫ووقع لرجل مَتّ إليه ب ُ‬
‫وإبراهيم بن العباس هو القائل‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫و َت ْغبَ ّر منها أرْضُها وسمـاؤُهـا‬ ‫لنا إبِل كُو ٌم َيضِيق بها الفَـضـا‬
‫ومن دُوننا أن يُستذمّ دمـاؤهـا‬ ‫فمن دونها أن تُستبـاحَ دمـاؤُنـا‬
‫ق َفنَاؤهـا‬ ‫وأيْسَرُ خَطبٍ يومَ حُ ّ‬ ‫ت دونَ مرامها‬ ‫حمًى و ِقرًى فالمو ُ‬
‫وقاد الصولي‪ :‬وجدت بخط عبد ال بن أبي سعيد إبراهيم بن العباس أنشده لنفسه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صبْري على ظُ ْل ِمكُمْ ظُلْمي‬ ‫وعَّل َمكُمْ َ‬ ‫جهِـلْـتِـهِ‬‫وعلمتنِي كيف الهوى و َ‬
‫جهْلي فأرج ُع من عِلْمي‬ ‫هَوَايَ إلى َ‬ ‫وأعلمُ مالِي عـنـدكُـ ْم فـيردّنـي‬
‫فقلت‪ :‬أسبقك إلى هذا أحد؟ فقال‪ :‬العباس بن الحنف بقوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫له عنك في الرض العريضة َمذْهَبا‬ ‫ب يَ ْرتَادُ الـسـلـوّ فـلـم يَجِـدْ‬ ‫تجن َ‬
‫وعاد إلى ما تشتـهـين وأعْـتـبـا‬ ‫فعاد إلى أنْ راجع الوَصْلَ صاغـراً‬
‫قال الصولي‪ :‬وأظن أنّ ابن أبي سعيد غلط في هذه الرواية؛ لن الشبه بقول ابن العباس‪ :‬فعاد إلى أن راجع الوصل صاغرًا قوله‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫إذا تج ّددَ حُزْنٌ هَوّنَ المـاضـي‬ ‫ظ ومن حَزَنٍ‬ ‫غيْ ٍ‬
‫ت من َ‬ ‫كم قد تجرّعْ ُ‬
‫ج ْعتُ بقلبٍ ساخطٍ راضي‬ ‫حتى رَ َ‬ ‫سخَـطـي‬ ‫وكم سخِطْتُ وما بَاَل ْيتُمُ َ‬
‫وأنشد له‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وصِرْت على قلبي رقيباً لـقـاتِـلِـهْ‬ ‫ل من أرى‬ ‫ت عن ك ّ‬ ‫لمن ل أرى أعرضْ ُ‬

‫حياءً إلى أوصابه وبَلبِلمهْ‬ ‫أُدافِعهُ عن سَـلْـوَةٍ وأردّه‬


‫وقال في هذا النحو‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫وأنت الحبيبُ وأنت المطاعْ‬ ‫س من بينهمْ‬ ‫وأنت هوى النف ِ‬
‫ن بعدْت اجتماعْ‬
‫ول معهم إ ْ‬ ‫ن بَعـدوا َوحْـدَةٌ‬‫وما بك إ ْ‬
‫وقال الطائي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫غبْتَ لم أفرحْ بقُ ْربِ مقيمِ‬
‫وإن ِ‬ ‫حزَنْ ل ُب ْعدِ مفارقٍ‬
‫إذا جئتَ لم أ ْ‬
‫بكلّ أخٍ لي واصل وحـمـيمِ‬ ‫فيا ليتني أفديك من غُ ْربَةِ النوى‬

‫‪309‬‬
‫غبْتَ‪.‬‬‫ضرْتَ‪ ،‬ول أنتفع بالحاضر إذا ِ‬ ‫سمَع للحنف بن قيس‪ :‬ما أشتاق للغائب إذا حَ َ‬ ‫وأصل هذا من قول مالك بن م ْ‬
‫وقال إبراهيم بن العباس‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ط بليلى عن ُدنُوّ مَزَارُهـا‬ ‫وشَ ّ‬ ‫تدانَتْ بقوم عن تَـنَـاءً زيارة‬
‫ك دَارُها‬ ‫ب من ليلى وهاتي َ‬ ‫لَقر ُ‬ ‫ت بِ ُم ْنعَرَجِ الـلـوى‬ ‫ن مُقيما ٍ‬
‫وإ َ‬
‫بعيدًا نَأى عنها ويُحرّق جَارُها‬ ‫وليلَى كمثل النارِ ينفعُ ضوءُها‬
‫كأنه نظر إلى قول النّظار الفَ ْقعَسِي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت بك أرْضٌ نحوها وسماءُ‬ ‫دَن ْ‬ ‫يقولون هذي ُأمّ عمرٍ وقريبةٌ‬
‫إذا هو لم يُوصَل إليه سـواءُ‬ ‫أل إنما ُبعْدُ الخليل وقُـرْبـهُ‬
‫وقوله‪ :‬وليلى كمثل النار كقول العباس بن الحنف‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫عشِقُوا‬ ‫نال بهِ العاشقون مَنْ َ‬ ‫ل وقـد‬‫حرَ ُم منكمْ بما أقـو ُ‬ ‫أْ‬
‫حتَرِقُ‬
‫ي تَ ْ‬
‫تُضِيء لِلناسِ وَ ْه َ‬ ‫صبَـتْ‬
‫ت كأني ُذبَال ٌة نُ ِ‬
‫صِ ْر ُ‬
‫وقال إبراهيم بن العباس‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫خذُ للصديق من الـشـقـيقِ‬ ‫وآ ُ‬ ‫ل مع الصديق على ابن عمي‬ ‫أمي ُ‬
‫عبْـدَ الـصَـديقِ‬ ‫فإنك وَاجدي َ‬ ‫وإن ألفَيتَنِي حُـرّا مُـطَـاعـاً‬
‫جمَ ُع بين مالي والحـقـوقِ‬ ‫وأ ْ‬ ‫أفرّق بين معروفـي ومَـنّـي‬
‫في رثاء مصلوب‬
‫قال العقيلي يَرْثي صديقاً له أخذ في خِرْبة فقتل وصلب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ل تُعَفّيكَ الرياحُ مع الـقَـطْـرِ‬ ‫طوي ٍ‬ ‫لعمري لئن أصبحتَ فـوق مـشـدّب‬
‫ضغْطَةِ القبرِ‬ ‫وعُوفيت عند الموت من َ‬ ‫لقد عشتَ مبـسـوطَ الـيدين مـرزّأ‬
‫ولم تفقد الدنيا؛ فهل لكَ من شُـكْـرِ؟‬ ‫ت من ضيقِ الـتـراب وغَـمّـهِ‬ ‫وَأفَْل ّ‬
‫عليكَ‪ ،‬ولو أني بكيتُ إلى الحـشـر‬ ‫فما تشتَفي عيناي من دائِم الـبُـكَـى‬
‫ولكنني أَبكي لفـقـدك فـي سِـتـرِ‬ ‫فطُوبَى لمن يبكي أخـاه مُـجَـاهـراً‬
‫عود إلى أخبار الرشيد‬
‫وكتب محمد بن كثير إلى هارون الرشيد‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬لول حظّ كرم الفعل في مَطَالع السؤال‪،‬؛ لَلهى المَطْلُ قلوبَ الشاكرين ولصرف‬
‫عيونَ الناظرين إلى حسن المحبة‪ ،‬فأيّ الحالين ُي ْبعِدُ قولَك عن مجاز فعلك؟‪.‬‬
‫فقال هارون الرشيد‪ :‬هذا الكل ُم ل يحتمل الجواب؛ إذ كان القرار به يمن ُع من الحتجاج عليه‪.‬‬
‫قضاء الحاجة‬
‫وقال يحيى بن أكثم للمأمون يذكر حاج ًة له قد وعده بقضائها وأغفل ذلك‪ :‬أنتَ‪ ،‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أكر ُم من أن نعرّضَ لك بالستنجاز‪ ،‬ونقابلك‬
‫ف من أن يستوليَ علينا صب ُر انتظا ِر نعمتك‪،‬‬ ‫عدِك‪ ،‬وأن تأمر بشيء لم تتقدّمْ أيامه‪ ،‬ول يقدر زمانه‪ ،‬ونحن أضع ُ‬ ‫بالدّكار‪ ،‬وأنت شاهدي على وَ ْ‬
‫وأنت الذي ل يؤوده إحسان‪ ،‬ول ُيعْجِزُه كرَم‪ ،‬فعجّل لنا يا أمي َر المؤمنين ما يزيدك كرماً‪ ،‬وتزدادُ به نعماً‪ ،‬ونتلقّاه بالشكر الدائم‪.‬‬
‫فاستحسن المأمون هذا الكلم‪ ،‬وأمر بقضاء حاجته‪.‬‬
‫ت له من المأمون‪ ،‬من تَوْليته بلده‪ ،‬وأن يض ّم إليه مملكته‪،‬‬ ‫قدم على المأمون رجل من أبناء الدهاقين وعظمائهم‪ ،‬من أهل الشام‪ ،‬على عِدَة سلَف ْ‬
‫ب بما‬‫عمْرَو بن مسعدة وسأله إيصالَ رقعةٍ إلى المأمون من ناحيته‪ ،‬فقال‪ُ :‬ا ْكتُ ْ‬ ‫ج أ ْم ِر أمير المؤمنين بذلك‪ ،‬فقصد َ‬ ‫فطال على الرجل انتظارُ خرو ِ‬
‫ع َدتِه من ِر ْبقَة المَطْلِ‪،‬‬
‫ل ذلك عني‪ ،‬حتى تكون لك نعمتان‪ .‬فكتب عمرو‪ :‬إن رأى أميرُ المؤمنين أنْ يفكّ أسْر ِ‬ ‫شئت فإني مُوصِلُه‪ ،‬قال‪ :‬فتو ّ‬
‫عبْدِهِ‪ ،‬والذْنِ له بالنصراف إلى بلده‪ ،‬فعل مُ َوفّقاً‪.‬‬ ‫بقضاء حاجة َ‬
‫عمْواً‪ ،‬وجعل يعجب من حُسن لفظها‪ ،‬وإيجازِ المرادِ فيها‪ ،‬فقال له عمرو‪ :‬فما نتيجتُها يا أمي َر المؤمنين؟ قال‪:‬‬ ‫فلما قرأ المأمون الرقعة دعا َ‬
‫ل يتأخر فَضلُ استحساننا كلمه‪ ،‬وبجائزة تنفي دناءة المطل‪.‬‬ ‫الكتابة له في هذا الوقت بما سأل‪ ،‬لئ ّ‬
‫ل في دولته‪ ،‬وظهور الحجّةِ في سلطانه‪ ،‬وإيصال المنافع‬ ‫ومن كلم عمرو بن مسعدة‪ :‬أعظمُ الناسِ َأجْراً‪ ،‬وأ ْن َبهُهم ذِكراً‪ ،‬من لم يرضَ بحياة ال َعدْ ِ‬
‫إلى رعيته في حياته‪ ،‬حتى احتالَ في تخلي ِد ذلك في الغابرين بعده‪ ،‬عنايةً بالدين‪ ،‬ورحمةً بالرّعية‪ ،‬وكفاي ًة لهم من ذلك ما لو عنوا باستنباطه‬
‫لكان يعرض أحد المرين‪ ،‬إمّا الكداء عن إصابة الحقّ فيه لكثرة ما يعرض من اللتباس‪ ،‬وإما إصابةُ الرأي بعد طول الفكر‪ ،‬ومقاساةِ‬
‫التجارب‪ ،‬واستغلق كثير من الطرق إلى دَرَكه؛ وأسعد الرُعا ِة من دامت سعادةُ الحق في أيامه‪ ،‬و َبعْدَ وفاتِه وانقرَاضِه‪.‬‬
‫في إطالة الخطبة‬
‫غيْرَ َمرْعَاك‪ ،‬أفل أدلُك عليه‪.‬‬ ‫وقال رجل لسويد بن َمنْجُوف‪ ،‬وقد أطال الخطبة بكلم افتتحه لصلح بين قوم من العرب‪ :‬يا هذا‪ ،‬أتيت مرعًى َ‬
‫قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬قُلْ‪ :‬أما بعد فإنّ في الصلح بقاءَ الجال‪ ،‬وحفظ الموال‪ ،‬والسلم‪ .‬فلمّا سمع القوم هذا الكلم تعانَقُوا وتواهبوا التّرات‪.‬‬
‫من أخبار المير أبي مسلم‬
‫قال عبد ال بن مسعود‪ :‬لما ُأمِرَ أبو مسلم بمحاربة عبد ال بن علي‪ ،‬دخَ ْلتُ عليه فقلت‪ :‬أيها المير‪ ،‬تريد عظيماً من المر؟‪ ،‬قال‪ :‬وما هو؟ قلت‪:‬‬
‫شعْ ٍر توضح‬ ‫حزْم‪ ،‬وحسن سياسة‪ .‬فقال لي‪ :‬يا ابن شبرمة‪ ،‬أنت بحديثٍ تعلم معانيه‪ ،‬و ِ‬ ‫جدَةٍ‪ ،‬وبأس‪ ،‬و َ‬ ‫ع ّم أمير المؤمنين وهو شيخُ قومه‪ ،‬مع نَ ْ‬
‫ت أعلمها‪ ،‬وامتدّت أيامها‪ ،‬فليس لمناوئها والطامِع فيها ي ٌد تنيله شيئًا من الوثوب عليها‪ ،‬فإذا‬ ‫قوافيه‪ ،‬أَعل ُم منك بالحرب؛ إن هذه دولة قد اطردَ ْ‬
‫ولّت أيامها فدَعِ الوزَغ ب َذنَبه فيها‪.‬‬
‫عجْب‪ ،‬وكِبرٌ‬ ‫سكَره لنظر إلى تدبيره وهيبته‪ ،‬فأقمت فيه أياماً‪ ،‬فبلغني عنه شدة ُ‬ ‫قال بعض حكماء خراسان‪ :‬لما بلغني خروج أبي مسلم أتيتُ عَ ْ‬
‫صمْتِ‪ ،‬فتوصَلت إليه بحديث أسمع كلمه‪ ،‬وأغيب عن بصره‪ ،‬فسلمت فردّ ردّا جميلً‪،‬‬ ‫ستُرَه بال َ‬
‫ي فيه أراد أن يَ ْ‬ ‫ظاهر‪ ،‬فظننت أنه تحلى بذلك لع ّ‬
‫وأمر بإدخال قوم يريد تنفيذَهم في وجه من الوجوه‪ ،‬وقد عقدوا لرجل منهم لواءً‪ ،‬فنظر إليهم ساعة متأملً لهم‪ ،‬وقال‪ :‬افهموا عني وصيتي‬
‫جدَى عليكم من أكثر تدبيركم‪ ،‬وبالّ توفيقكم‪ .‬قالوا‪ :‬نعم أيها السالر‪ ،‬ومعناه السيد بالفارسية‪ ،‬فسم ْعتُه يقول‪ ،‬ومترجم يحكي كلمه‬ ‫إياكم؟ فإنها أ ْ‬

‫‪310‬‬
‫بالفارسية لمن عبّر له منهم بالعربية‪ :‬أَشعروا قلوبكم الجرأة فإنها سببُ الظّفَر‪ ،‬وأكثروا ذِكرَ الضغائن فإنها تبعث على القدام‪ ،‬والزموا الطاعة‬
‫حصْنُ المحارب‪ ،‬وعليكم بعصبيّةِ الشراف‪ ،‬ودَعُوا عصبية الدناءة؛ فإن الشرافَ تظهر بأفعالها‪ ،‬والدناءة بأقْوَالها‪.‬‬ ‫فإنها ُ‬
‫عهْد‪ ،‬ويُبرم عقد‪ ،‬ويسهّل وَعر‪ ،‬و ُيخَاض غَمر‪ ،‬ويُقلع‬ ‫وذكر إدريس بن معقل أبا مسلم فقال‪ :‬بمثل أبي مسلم يُدرَك ثار‪ ،‬ويُنفى عار‪ ،‬ويُؤكد َ‬
‫ناب‪ ،‬ويُفتح باب‪.‬‬
‫من أخبار أبي جعفر المنصور‬
‫ث به في أيام بني أمية؟ إن الخلفة إذا لم تقابل بإنصاف المظلومين‪ ،‬ولم تعامل بالعدل في الرعية‪،‬‬ ‫حدّ َ‬ ‫وقال رجل لبي جعفر المنصور‪ :‬أيْنَ ما تُ ُ‬
‫ق بِ ُولَتها سوءُ العذاب‪.‬‬ ‫وقسمة الفيء بالسويّة‪ ،‬صار عاقبةُ أمرها بَوارأ‪ ،‬وحا َ‬
‫ت هذه الدار‪ .‬فقال له الرجل‪ :‬فانظرْ على أي حالة‬ ‫ض ْ‬
‫قال‪ :‬فتنفس ثم قال‪ :‬قد كان ما تقولُ‪ ،‬ولكنا يا أخي استعجَلْنا الفانية على الباقية‪ ،‬وكأن قد انْقَ َ‬
‫تنقضي‪.‬‬
‫سهَامِ الخطايا‪ ،‬وهو عارفٌ بسُرعَةِ المنايا‪ ،‬اللهمّ إن تقض للمسيئين صَفحاً‬ ‫وقال أبو الدوانيق وكان فصيحًا بليغاً‪ :‬عجباً لمن أَصار عِلمَه غَرَضاً ل ِ‬
‫فاجعلني منهم‪ ،‬وإن َتهَبْ للظالمين فسحاً فل تحْرِمني ما يتطول به المولى على أَخس عبيده‪.‬‬
‫من أخبار الحنف بن قيس‬
‫سدِ‪ ،‬وزينة كل‬ ‫سئِل الحنف بن قيس عن العقل؟ فقال‪ :‬رأس الشياءة فيه قوامُها‪ ،‬وبه تمامُها؛ لنه سراجُ ما بَطَن‪ ،‬وملك ما عَلَن‪ ،‬وسائس الج َ‬ ‫ُ‬
‫أحد‪ ،‬ل تستقيم الحياة إل به‪ ،‬ول تدور المور إل عليه‪.‬‬
‫شدّه‪ ،‬والسيف بحده‪ ،‬والمرء بجدّه‪ ،‬وقد بلغ بك جدّك ما أَرى‪ ،‬وإنما الثناءُ‬ ‫ولما خطب زياد خطبته المشهورة قام الحنف بن قيس‪ ،‬فقال‪ :‬الفرس ب َ‬
‫بعد البلء‪ ،‬فإنا ل ُنثْني حتى َنبْلُو‪.‬‬
‫عهد الواثق بقلم ابن الزيات‬
‫جدّك الكرم‪،‬‬ ‫ث أبيك القْدم‪ ،‬و ِ‬ ‫عهْدَ الواثق على مكة بحضرة المعتصم‪ :‬إذا بعد‪ ،‬فإن أمير المؤمنين قد قلّدك مكة وزمزم‪ ،‬تُرَا َ‬ ‫وكتب ابنُ الزيات َ‬
‫وركْضَة جبريل‪ ،‬وسُ ْقيَا إسماعيل‪ ،‬وحَفْ َر عبد المطلب‪ ،‬وسِقَايةَ العباس‪ ،‬فعليك بتقوى ال تعالى‪ ،‬والتوسعة على أهل بيته‪.‬‬
‫ن من فضل الشكر إل أنك ل تراه إل بين نعمة مقصورة عليه‪ ،‬وزيادة منتظرة له‪ ،‬ثم قال لمحمد بن رَباح‪ :‬كيف ترى؟ قال‪:‬‬ ‫وكتب‪ :‬لو لم َيكُ ْ‬
‫كأنهما قُرْطان بينهما وَجْه حسن‪ ،‬ومع ذلك ذكر ابن الزيات أمرَ الحرم بتعظيمٍ وتفخيم‪.‬‬
‫ألفاظ لهل العصر في التهنئة بالحج‬
‫وتفخيم أمر‪ ،‬الحرم و تعظيم‪ ،‬أمر المناسك والمشاعر‪ ،‬وما يتصل بها من الدعية‪:‬‬
‫حطِيم‪ .‬حَ َرمُ ال الذي أوسعه‬ ‫ت العتيق‪ ،‬والمَطَاف الكريم‪ ،‬والملتَزم النبيه‪ ،‬والمستلَم النزيه‪ .‬وقف بال ُمعَرّفِ العظيم‪ ،‬ووردَ زمزم وال َ‬ ‫قصدَ البي َ‬
‫لمّته َكعْبة‪ ،‬ودعا إليه حتى لبّى من كل‬ ‫للناس كرامة‪ ،‬وجعله لهم مَثابة‪ ،‬وللخليل خُطة‪ ،‬وللذبيح خُلة‪ ،‬ولمحمد‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ِ ،‬قبْلَة‪ ،‬و ُ‬
‫حمِد‬
‫سعِدت سفرته‪ ،‬وأنجحت أَ ْو َبتُه‪ ،‬و ُ‬ ‫ج عميق‪ ،‬يعودُ عنه مَنْ ُوفّق وقد قُبلت توبتُه‪ ،‬وغُفرت حَ ْوبَته‪ ،‬و َ‬ ‫مكان سحيق‪ ،‬وأسرع نحوه من كل ف ّ‬
‫سعْيه‪ ،‬وزكا حجه‪ ،‬وتقبل عَجه وثَجه‪ .‬انصرف مولي عن الحجّ الذي انتضى له عَزَائمه‪ ،‬وأنضى فيه رَوَاحله‪ ،‬وأتعب نفسه بطلب راحتها‪،‬‬ ‫َ‬
‫ظ ْهرِك‬
‫سعَة الجنّة وساحتها؛ فقد َزكَتْ‪ ،‬إن شاء ال تعالى‪ ،‬أفعاله وتُقبّلت أعماله‪ ،‬وشكر سعيه‪ ،‬وبلغ هديه‪ .‬قد أسقطْتَ عن َ‬ ‫وأَنفق ذخائره بشراء َ‬
‫سعْي من الفجّ العميق‪ ،‬إلى البيت العتيق‪ .‬حمدًا لمن سهّل عليك قضاء فريضة‬ ‫صتَ عن نفسك بال ّ‬ ‫الثقلَ العظيمَ‪ ،‬وشهدْتَ المَ ْوقِف الكريم‪ ،‬ومح ْ‬
‫شهِدَ أشرفَ المشاهدة فورد‬ ‫شعَر وال َمقَام‪ ،‬وبركةَ الدعية والموسم‪ ،‬وسعاد َة أفنية الحطيم وزمزم‪ ،‬قَصَد أكْرَمَ المقاصد‪ ،‬و َ‬ ‫الحج‪ ،‬ورُؤْية المَ ْ‬
‫طئْتَ أرضَه‪ ،‬والمقام الكريم ُق ْمتَه‪ ،‬والحجر‬ ‫حرَمُ ال وَ ِ‬ ‫ج أدّيتَ فرضَه‪ ،‬و َ‬ ‫مَشَارعَ الجنّة‪ ،‬وخيّم بمنازل الرحمة‪ .‬وقد جُمعت مواهب ال لديك‪ :‬فالح ّ‬
‫السود استََل ْمتَه‪ ،‬و زُرْتَ قبرَ النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مشافهًا لمشهده‪ ،‬ومشاهداً لمسجده‪ ،‬ومباشراً باديه ومَحْضره‪ ،‬وماشيًا بين قبره‬
‫س ْعيُك مشكور‪ ،‬وذَ ْنبُك مغفور‪ ،‬وتجارتك رابحة‪ ،‬والبركات عليك‬ ‫ومنبره‪ ،‬ومصلّيا عليه حيث صلّى‪ ،‬ومتقرباً إليه بالقرابة العظمى‪ ،‬وعدت و َ‬
‫س ْعيَك مشكوراً‪ ،‬وحجّك مبروراً‪ .‬عَ َرفَ ال تعالى مولي‬ ‫غَادية ورائحة‪ .‬تَلَقّى ال دعاءك بالجابة‪ ،‬واستغفارك بالرضا‪ ،‬وأملك بالنُجْح‪ ،‬وجعل َ‬
‫ع ْقبَاه‪.‬‬
‫مناهجَ ما نواه‪ ،‬وقَصَده وتوخاه‪ ،‬ما يسعده في دنياه‪ ،‬ويحمد ُ‬
‫قَطَري بن الفُجَاءة‬
‫قال أبو حاتم‪ :‬أتيت أبا عبيدة ومعي شعر عُرْوة بن الورد‪ ،‬فقال لي‪ :‬ما معك؟ قلت‪ :‬شعر عروة‪ ،‬قال‪ :‬شعر فقير‪ ،‬يحمله فقير‪ ،‬ليقرأه على فقير!‬
‫قلت‪ :‬ما معي شع ُر غيره؛ فأنشدني أنت ما شئت‪ ،‬فأنشدني‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫جتَِلدُ‬ ‫ل تَ ْ‬‫ُمهْرِي من الشمس والبطا ُ‬ ‫ت بـهِ‬ ‫ب قد وقَـيْ ُ‬‫يا ُربّ ظِل عُقا ٍ‬
‫صدُ‬‫خيْلي اقتساراً وأطرافُ القَنا ِق َ‬ ‫َ‬ ‫عيْتُ عَقْـ َوتَـهُ‬ ‫وربّ يوم حمًى أرْ َ‬
‫صطِلء الوغى َونَارُه تقدُ‬ ‫لهْوي ا ْ‬ ‫ل بـهِ‬ ‫ويوم َلهْو لهل الخَ ْفضِ ظ ّ‬
‫ع وبَحْرُ الموت يطّـ ِردُ‬ ‫عنها القنا َ‬ ‫ب كـاشِـفَةٌ‬ ‫شهّرا مَ ْوقِفي والحر ُ‬ ‫مُ َ‬
‫خ ْرتُها بمَطَـايا غَـارَ ٍة تَـخِـدُ‬
‫مَ َ‬ ‫وربّ هَاجِر ٍة َتغْلي مراجِـلُـهـا‬
‫كأنها أسُـد يصـطـادُهـا أَسـد‬ ‫ب أوديةَ الفـزاع آمِـنةً‬ ‫تَجـتَـا ُ‬
‫على الطعان وقَصْرُ العاجزِ ال َكمَدُ‬ ‫ت كمداً‬ ‫ف أنفي ل أ ُم ْ‬ ‫فإن َأمُتْ حَت َ‬
‫في كأسه والمـنـايا شُـرّغ وُرُد‬ ‫ولم أقل لم أُساقِ الموتَ شـا ِربَـهُ‬
‫ثم قال‪ :‬هذا وال هو الشعر‪ ،‬ل ما يتعلّلون به من أشعار المخانيث‪.‬‬

‫والشعْرُ ل َقطَري بن الفجاءة المازني‪ ،‬وكان ُي ْكنَى في السلم أبا محمد‪ ،‬وفي الحرب أبا َنعَامةٍ‪ ،‬وكان أطولَ الخوارج أياماً‪ ،‬وأحدّهم شوكة‪ ،‬وكان‬
‫شاعراً جواداً‪ ،‬وهو القائل أيضاً‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫يوم الوغى متهـيّبـا لـحِـمـامِ‬ ‫ل ير َكنَنْ أحـدٌ إلـى الحـجـامِ‬
‫من عن يميني تـارةً وأمـامـي‬ ‫فلقد أرانـي لـلـرمـاحِ دريئَة‬
‫عنَان لِجامـي‬ ‫أكنافَ سَ ْرجِي أو ِ‬ ‫ت بما تحدّر من دمـي‬ ‫ضبْ ُ‬
‫حتى خ َ‬

‫‪311‬‬
‫جذَعَ البصـيرة قـارح القـدامِ‬
‫َ‬ ‫ثم انصر ْفتُ وقد أصبت ولم أصَب‬
‫باب المديح‬
‫وقال المُسَيب بن عَلَس‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ت ُت ْعتَبُ‬
‫وشيبانُ إن غضب ْ‬ ‫ع ْتبِهـا‬
‫تبيتُ الملوكُ على َ‬
‫وأخل ُقهُ ْم منهما أعـذبُ‬ ‫وكالشهد بالراح ألفاظُهمْ‬
‫وتربُ أصولهمْ أطـيبُ‬ ‫وكالمِسْك تُ ْربُ مقاماتهمْ‬
‫وقال آخر‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫َب ُعدُوا فحنّ إليهـمُ الـقَـلْـبُ‬ ‫س من بنـي أسـد‬ ‫اذكُرْ مجال َ‬
‫غَزبُ‪ ،‬وأين الشرقُ والغربُ؟‬ ‫الشرق منزلهُمْ‪ ،‬و َمنْـزِلُـنـا‬
‫مسكٌ أحمّ وصارمُ عَـضْـبُ‬ ‫ل زينـتِـه‬ ‫من كل أبيضَ جُـ ُ‬
‫وعقيرة بفـنـائه تَـخـبُـو‬ ‫و ُمدَجَجٌ يَسْـعَـى لـغـارتِـه‬
‫آخر‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫ضبَتها التي فَوْقَ ال ِهضَابِ‬ ‫و َه ْ‬ ‫رأي ُتكُـمُ بـقـيّة آل حَـ ْربٍ‬
‫وتمتثلون أفعالَ السـحـابِ‬ ‫ح نـدًى وجـوداً‬ ‫تبُارون الريا َ‬
‫ي أمْسِ في ظل الشبابِ‬ ‫مقام َ‬ ‫يُذَكرُني مقامي اليو َم فـيكُـمْ‬
‫مكاتبات‬
‫بين سعيد بن عبد الملك وسعيد بن حميد‬
‫كتب سعيد بن عبد الملك إلى سعيد بن حميد‪ :‬أكره ‪ -‬أطال ال بقاءك! أن أضعَك ونفسي موضع العُذر والقبول‪ ،‬فيكون أحدُنا معذراً مقصراً‪،‬‬
‫ن منه‬ ‫والخر قابِلً متفضّلً‪ ،‬ولكن أذكر ما في التلقي من الحديد البرّ‪ ،‬وفي التخلُف من قلّة الصبر‪ ،‬وأسألُ ال تعالى أن يوفّقك وإيانا لما يكو ُ‬
‫عقبى الشكر‪.‬‬
‫فأجابه‪ :‬وصل كتا ُبكَ ‪ -‬أكرمك ال تعالى! ‪ -‬الحاضرُ سرورُه‪ ،‬للطيف مو ِقعُه‪ ،‬الجميل صدوره ومَ ْو ِردُه‪ ،‬الشاهدُ ظاهره على صِدقِ باطنه‪ ،‬ونحن‬
‫‪ -‬أعزك ال ‪ -‬نجعل جزاءك حسن العتراف بفضلك‪ ،‬ومجاراتك التقصير دونك؛ ونرى أن ل عُذرَ في التخلف عنك‪ ،‬وإنْ حالت الشغال بيننا‬
‫سبَقْتَ إلى فضيلة الغتفار‪ ،‬فل زلت على كل خير دليلً‪ ،‬وإليه داعياً‪ ،‬وبه آمراً؛ ولقد التقيْنا‬ ‫وبينك‪ .‬وإن كنتَ سامحتَ في العذر قبل العتذار‪َ ،‬‬
‫قبل وصولِ كتابك لقاءً أحدث وطراً‪ ،‬وهاج شَوقاً‪ ،‬وأرجو أن تتسع لنا الجمعة ما ضاقت به اليام؛ فتنال حظًا من محادثتك والنس بك‪.‬‬
‫مكانة سعيد بن حميد‬
‫ولسعيد بن حميد حلوة في منظومه ومنثوره‪ ،‬لكنه قليلُ الختراع‪ ،‬كثير الغارة على مَنْ سبقه‪ .‬وكان يقال‪ :‬لو رجع كلمُ كل أحد إلى صاحبه‬
‫لبقي سعيد بن حميد ساكتاً‪.‬‬
‫وفيه يقول أبو علي البصير‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ومن الناس‪ ،‬كّلهُمْ في حِ ِر أمّهْ‬ ‫س من َيدّعي البلغ َة منّـي‬ ‫رَأ ُ‬
‫ن حميد تُؤَرخ ال ُكتْب باسمـهْ‬ ‫وأخونا ولست أكنى سعـيد ب‬
‫هذا المعنى ينظرُ إلى قول منصور الفقيه وإن لم يكن منه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫إذا نحن قلْنا‪ :‬خيرُنا الباذلُ السّـمْـحُ‬ ‫تَضِيق به الدنيا فينـهـضُ هـاربـاً‬
‫ط كتمان الحديث‪ :‬هو ال َفتْحُ‬ ‫على شَ ْر ِ‬ ‫ل لهـمْ‬ ‫فإن قيل‪ :‬من هذا الشقيّ؟ أقُ ْ‬
‫وكان سعيدٌ َيهْوَى فضل الشاعرة؛ فعزم مرة على سفر‪ ،‬فقالت له‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ق بكفّ الصبرِ والجلَـدِ‬ ‫كف الفرا ِ‬ ‫ك َذ ْبتَنِي ال ُودّ أن صا َفحْتَ مرتحـلً‬
‫بالشوق نفسُك لم تصبر على ال ُب ُعدِ‬ ‫جعَتْ‬ ‫ل تذكرنَ الهوى والشوقَ لو فُ ِ‬
‫وكان سعيد عند بعض إخوانه‪ ،‬فنهض منصرفاً وأَخذ بعضا َدتَي الباب‪ ،‬وأنشأ يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫سمَـعِ‬ ‫وولّتْ بنا عن كل مرأًى و َم ْ‬ ‫س بـينـنـا‬ ‫سل ٌم عليكُم‪ ،‬حاَلتِ الكأ ُ‬
‫فيجمع سكراً بين جسْمي ومَضْجعي‬ ‫فلم يبقَ إل أَنْ يصا ِفحَني الـكَـرَى‬
‫وقال سعيد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وفيهن عن غير الثناء فتورُ‬ ‫أرَى ألسُنَ الشكوى إليك كليلةً‬

‫وليس لها إل إلـيك مَـصِـي ُر‬ ‫تقيمُ على ال َعتْبِ الذي ليس نافعـاً‬
‫ب مـن أحـداثـه وأمـورُ‬ ‫نوائ ُ‬ ‫وما أنتَ إل كالزمان تـلـ ّونَـتْ‬
‫جوْرِ الزمان يُجيرُ؟‬ ‫فمن ذا على َ‬ ‫ل إنْصَافُ الزمانِ وجُـودُه‬ ‫فإن ق ّ‬
‫نبذ في السرقات الشعرية‬
‫أما قوله‪:‬‬
‫تقيمُ على ال َعتْبِ الذي ليس نافعاً‬
‫فمن قول المؤمّل‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫فليس منك عليهمْ ينفعُ الغَضَبُ‬ ‫ل تغضبنّ على قو ٍم تحبّـهـم‬
‫والجَ ْو ُر أقبحُ ما يُ ْؤتَى و ُيرْتكَبُ‬ ‫حكُومَتهـمْ‬ ‫يا جائرينَ علينا في ُ‬

‫‪312‬‬
‫ن إليكُ ْم منكُمُ الهَرَبُ‬ ‫جُرتُمْ‪ ،‬ولك ْ‬ ‫لسنا إلى غيركُ ْم منكُم نفـ ّر إذا‬
‫وأول من نبّه على هذا المعنى النابغةُ الذبيانيّ في قوله للنعمان بن المنذر‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وإن خِلْتُ أنّ المنتَأَى عنك واسِعُ‬ ‫فإنكَ كالليلِ الذي هو مُـدْرِكـي‬
‫ك نَـوازعُ‬ ‫َتمُـدّ بـهـا أيدٍ إلـي َ‬ ‫ل متـينةٍ‬ ‫خَطَاطيفُ حُجْنٌ في حبا ٍ‬
‫غتَاله في المغرب‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫سرقَه أشجع السّلمي فقال لدريس بن عبد ال بن الحسين بن علي‪ ،‬وقد بعث إليه الرشيد مَن ا ْ‬
‫َك ْيدَ الخلفة أو يقيك حِـذَارُ؟‬ ‫أتظنّ‪ ،‬يا إدريسُ‪ ،‬أنك مُ ْفلِـتٌ‬
‫طالتْ‪ ،‬وتقصر دونها العمارُ‬ ‫ع ْزمُه‬ ‫ف إذا انتضاها َ‬ ‫إنّ السيو َ‬
‫ل يهتدي فيها إلـيك نَـهَـارُ‬ ‫ل بـبـلـدةٍ‬‫هيهات إل أن تَحُ ّ‬
‫وقال سَلْم الخاسر يعتذر إلى المهدي البسيط‪:‬‬
‫وأنت ذاك لما يأتي ويجتنـبُ‬ ‫إني أعز بخيرِ الناس كلـهـمُ‬
‫والده ُر ل مَ ْلجٌَأ منه ول هرَبُ‬ ‫ت كالدهرِ مبثوثاً حبـائِلُـهُ‬ ‫وأن َ‬
‫في كل ناحيةٍ ما فاتكَ الطّلَبُ‬ ‫ولو ملكتُ عِنانَ الريحِ أصرفهُ‬
‫ف َمنْجَا ٌة و ُم ْنقَلبُ‬ ‫فيها من الخو ِ‬ ‫فليس إل انتظاري منك عارِفةً‬
‫وقول سلم‪:‬‬
‫عنَان الريح أصرفه‬ ‫ولو ملكت ِ‬
‫كأنه من قول الفرزدق للحجاج‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت كمودٍ أدر َكتْ ُه مقادِرُهْ‬ ‫لكن ُ‬ ‫ولو حمَلتْنِي الريحُ ثم طَل َب ْتنِي‬
‫وقول علي بن جبلة لحُميد الطوسي‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ولو َر َف َعتْهُ في السماء المَطَالِعُ‬ ‫وما لمرئ حا َو ْلتَه منك مهرَبٌ‬
‫أخذه البحتري فقال‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حمَرّة فكأنهمْ لم يُسْـلَـبـوا‬ ‫مُ ْ‬ ‫سُِلبُوا وأشرقتِ الدماءُ عليهـمُ‬
‫حدّ َبأْسِك َمهْرَبُ‬ ‫ليجيرَ ُهمْ من َ‬ ‫فَلَ َو أنّهم ركبوا الكواكبَ لم يكن‬
‫وقال عبيد ال بن عبد ال بن طاهر في نحو قول النابغة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫أفوتك إنّ الرأْيَ مـنـي لـعـازبُ‬ ‫وإني وإن ح ّدثْتُ نفـسـي بـأنـنـي‬
‫من الرض لول استنهضتْني المذاهبُ‬ ‫لَنك لي مثلُ المكان المـحـيط بـي‬
‫وأمّا قول سعيد‪:‬‬
‫وما أنت إلّ كالزمان‬
‫والبيت الذي يليه‪ ،‬فكأنه ألمّ فيه بقول شَمعَل الثعلبي وإن لم يكن المعنى بنفسه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جرُ‬ ‫عتْبٌ عليّ ول هَ ْ‬ ‫عدَاتي‪ ،‬ول َ‬ ‫ُ‬ ‫ج ْذبَةٍ بالرجْل منّي تباشـرتْ‬ ‫َأمِنْ َ‬
‫لكالدهر‪ ،‬ل عارٌ بما صنَ َع الدهْرُ‬ ‫فإن أمي َر المؤمنـين وفِـعْـلـهُ‬
‫وقال رجل من طيئ وكان رجل منهم يقال له زيد من ولد عروة بن زيد الخيل قتلَ رجلً اسمه زيد فأقاد منه السلطان‪ ،‬فقال الطائي يفتخر على‬
‫السديين‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫بَأ ْبيَضَ مشحوذ الغِرار َيمَـانـي‬ ‫س زيدكُم‬ ‫عل َز ْيدُنا يوم الحمى رَأْ َ‬
‫أقادكم السلطان بَـعْـدَ َزمَـانِ‬ ‫فإن تقتلوا زيداً بـزيد فـإنـمـا‬
‫وقول الثعلبي مأخوذ من قول النابغة‪ ،‬وهو أَول من ابتكره‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وما عليّ بأن أَخشاك مِنْ عارِ‬ ‫عيّرَتني بنو ذبيانَ خشـيتَـهُ‬ ‫وَ‬
‫ومن جيد شعر سعيد بن حميد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فل هو يَبدَانـي ول أنـا أَسـأَلُ‬ ‫حيِي وارقُـب وَعـدَهُ‬ ‫أهابُ وأس َت ْ‬
‫قريبٌ‪ ،‬وقلبي بالبعـيد مـوكّـلُ‬ ‫س مَجرَاها بعيدٌ وضوءُها‬ ‫هو الشم ُ‬
‫وهذا المعنى وإن كان كثيراً مشهورًا فما يكادُ يدانَى في الحسان فيه‪.‬‬
‫وقد قال أبو عيينة‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ج ْندٍ قفولٌ غَـزَا جُـنْـدُ‬ ‫إذا حان من ُ‬ ‫ب من كلّ جانـب‬ ‫غ َز ْتنِي جيوشُ الح ّ‬
‫قريبٌ‪ ،‬ولكنْ في تناولـهـا بُـعـدُ‬ ‫أقول لصحابي‪ :‬هِيَ الشمسُ‪ ،‬ضوءُها‬
‫وقال العباس بن الحنف‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫فعَزّ الفؤَاد عَـزَاءً جَـمِـيلَ‬ ‫س َكنُها في السماء‬ ‫هي الشمسُ م ْ‬
‫ولنْ تستطي َع إليكَ الـنـزُول‬ ‫فلَن تستطيع إليها الصـعـودَ‬
‫وقال البحتري‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫فشَأناكَ انحدارٌ وارتـفـاعُ‬ ‫ت قَدراً‬ ‫ت تواضُعاً وعَلَو َ‬ ‫دَنَوْ َ‬
‫و َي ْدنُو الضو ُء منها والشعاع‬ ‫س تَبعُد أن تدانى‬ ‫كذاك الشم ُ‬
‫وقال ابن الرومي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫كالدهر فيه لمن يؤول مَـآلُ‬ ‫وذَخَزتُه للدهر أعْـلـمُ أنـه‬

‫‪313‬‬
‫فالنّور منها والضـيا ُء يُنـالُ‬ ‫ورأيتُه كالشمس إن هي لم ُتنَلْ‬
‫وقال المتنبي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ع َزّ ذلك مطلوبًا لمن طلبَـا‬ ‫وَ‬ ‫طمِعُ فيما تحت حُلّتهـا‬ ‫بيضا ُء تُ ْ‬
‫شُعاعها وتَرَاه العينُ مقتربـا‬ ‫ف قَابِضِها‬ ‫س ُيعْيِي كَ ّ‬ ‫كأنها الشم ُ‬
‫وقال سعيد بن حميد‪ ،‬ويروى لفَضْل الشاعرة‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫عنّي بذاك الرضا بمغ َتبِطِ‬ ‫ت أيام كنتِ راضـيةً‬ ‫ما كن ُ‬
‫منك التجني وكثرةُ السّخَطِ‬ ‫علماً بأنّ الرضا س َي ْتبَـعُـهُ‬
‫منك وما سرّني فعَنْ غَلطِ‬ ‫فكل ما ساءني فعَنْ خُلُـقٍ‬
‫وفي هذا المعنى يقول أبو العباس الهاشمي من ولد عبد الصمد بن علي‪ ،‬و ُيعْرَف بأبي ا ْل ِعبَرِ‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫بكيتُ عند الرضا خوفًا من الغـضـبِ‬ ‫ضبَتْ‪ ،‬حـتـى إذا رَضِـيَتْ‬ ‫أ ْبكِي إذا غَ ِ‬
‫شتُ فـي تَـعَـبِ‬ ‫حنِي سلوّ ع ْ‬ ‫إن لم يُرِ ْ‬ ‫ضيَتْ‬‫ضبَتْ‪ ،‬والموتُ إن َر ِ‬ ‫فالموت إن غَ ِ‬
‫وقال العباس بن الحنف‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عتْبُ‬ ‫لصحة عِلْمي أن سيتبعه َ‬ ‫ضيَتْ لم َي ْهنِنِي ذِلكَ الرّضا‬ ‫إذا رَ ِ‬
‫فأسألها مرضاتها ولها الذّنْـبُ‬ ‫ع ْتبِها‬
‫وأبكي إذا ما أ ْذنَبَتْ خوف َ‬
‫وعطفكُمُ صدّ وسَ ْل ُمكُمُ حَـرْبُ‬ ‫وصاُلكُمْ َهجْرٌ‪ ،‬وقُ ْر ُبكُ ُم قِـلًـى‬
‫صعْبُ‬ ‫ل من أموركمْ َ‬ ‫ل ذَلُو ٍ‬ ‫وك ّ‬ ‫وأنت ْم بحمد ال فيكُمْ فـظـاظةٌ‬
‫وقال‪ :‬المنسرح‪:‬‬
‫حذَا َر هذا الصدودِ والغَضَـبِ‬ ‫ِ‬ ‫قد كنتُ أبكي وأنـتِ راضـيةٌ‬
‫تمّ فما لي في العيش من أرَبِ‬ ‫إن تمّ ذا الهجرُ يا ظَـلـو ُم ول‬
‫وما أحسن قول القائل‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وإن وجد الهوى حُلوَ الـمـذاقِ‬ ‫وما في الرض أشقى من محبّ‬
‫مخـاف َة فُـ ْرقَةٍ أو لِشـتـياق‬ ‫تراهُ بـاكـياً فـي كـلّ حـينٍ‬
‫ويَبكي إن َدنَوْا خوفَ الفِـرَاق‬ ‫فيبكي إن نََأوْا حذراً عـلـيهـم‬
‫سخَن عينه عـنـد الـتـلقِ‬ ‫وتَ ْ‬ ‫ن عينه عنـد الـتـنـائي‬ ‫وتَسْخَ ُ‬
‫من كتاب ال تعالى‬
‫ت كلمَه‪.‬‬ ‫عتُ في كتابي بآية من كتاب ال تعالى أنرت إظلمه‪ ،‬و َزيّنتُ أحكامه‪ ،‬وأعذب ُ‬ ‫وقال سعيد بن حميد‪ :‬إذا نز ْ‬
‫أمثال للعرب والعجم والعامة‬
‫وما يماثلها من كتاب ال تعالى‪:‬‬
‫ل منها وأعلى‪ ،‬أخرجها أبو منصور عبد الملك الثعالبي‪.‬‬ ‫ممّا هو أج ّ‬
‫حيَاة يا أُولي ال ْلبَابِ"‪.‬‬ ‫قال عليّ رضي ال تعالى عنه‪ :‬القتْل أنفى للقتل‪ ،‬وفي القرآن‪" :‬وَلكمُ في القصَاصِ َ‬
‫سيَ خَ ْلقَهُ"‪.‬‬ ‫خبَرَه"‪ ،‬وفي القرآن " َوضَ َربَ لنا َمثَلً َونَ ِ‬ ‫جيْرٌ َ‬‫جيْر بُجَ َر ُه ونَسي بُ َ‬ ‫عيّ َر بُ َ‬‫ب تقول لمن يعيّر غيره بما هو فيه‪َ " :‬‬ ‫والعر ُ‬
‫عدْنا"‪" .‬وإنْ َتعُودُوا َنعُدْ"‪.‬‬ ‫ع ْدتُم ُ‬
‫عدْنا لها‪ ،‬وفي القرآن‪" :‬وإنْ ُ‬ ‫وفي معاودة العقوبة عند معا َودَة الذنب‪ :‬إن عَادت العَقْ َربُ ُ‬
‫ت َيدَاكَ"‪.‬‬ ‫وفي ذَوْق الجاني وبالَ أمره‪َ " :‬يدَاك أ ْو َكتَا‪ ،‬وَفوكَ نَفخ"‪ .‬وفي القران‪" :‬ذلك بما ق ّدمَ ْ‬
‫وفي قُ ْربِ الغد من اليوم قول الشاعر‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وإن غداً ِلنَاظرِه قَرِيب‬
‫ح بِقَرِيبٍ"‪.‬‬ ‫صبْ ُ‬
‫وفي القران‪ " :‬ألَيسَ ال ّ‬
‫حقّ"‪.‬‬ ‫حصَ ال َ‬ ‫ع ْينَين‪ ،‬وفي القرآن‪" :‬النَ حَصْ َ‬ ‫وفي ظهور المر‪ :‬قد وضح المر لذي َ‬
‫ج ْمرَةً"‪.‬‬
‫ن أبَى فَ َ‬ ‫وفي الساءة إلى من ل يقبل الحسان‪" :‬أَعطِ أخاك َتمْرَةً‪ ،‬فإ ْ‬
‫ن نُ َقيّضْ لهُ شيطانًا َفهُوَ ل ُه قَرِينٌ"‪.‬‬ ‫ن ذِكرِ الرّحم ِ‬ ‫ن َيعْشُ ع ْ‬ ‫وفي القرآن‪" :‬ومَ ْ‬
‫ستَ ْف ِتيَانِ"‪.‬‬
‫لمْرُ الذي فيه تَ ْ‬ ‫سيْفُ العَذَل"‪ ،‬وفي القرآن العظيم‪" :‬قُضِيَ ا َ‬ ‫سبَقَ ال ّ‬ ‫وفي فَوْت المر‪َ " :‬‬
‫ن تنَالُوا البِرّ حتى ُتنْفِقُوا ِممّا تُحبّونَ"‪.‬‬ ‫ن َي ْنكَحِ الحَسنا َء ُيعْطِ َمهْرَها"‪ ،‬وفي القرآن‪" :‬لَ ْ‬ ‫وفي الوصول إلى المراد ب َبذْلِ الرغائب‪" :‬مَ ْ‬
‫شتَهونَ"‪.‬‬ ‫ل َبيْ َنهُم و َبيْنَ ما يَ ْ‬ ‫ل بين ال َعيْرِ والنّزوَانِ وفي القرآن‪َ " :‬وحِي َ‬ ‫وفي منع الرجل مُرَاده‪ :‬الطويل‪َ :‬و َقدْ حِي َ‬
‫حتَى عَفَوْا"‪.‬‬ ‫سنَةَ َ‬ ‫حَ‬ ‫سّيئَةِ الْ َ‬
‫سدَ"‪ ،‬وفي القرآن‪" :‬ثُ ّم َبدّ ْلنَا َمكَانَ ال ّ‬ ‫غيْثٌ على ما َأفْ َ‬ ‫وفي تَلَفي الساءة‪" :‬عادَ َ‬
‫ستَ َقرّ"‪.‬‬ ‫ل نَبٍإ مُ ْ‬
‫وفي الختصاص‪" :‬كل مقام بمقال"‪ ،‬وفي القرآن‪ِ" :‬لكُ ّ‬
‫سوَاءً"‪.‬‬‫ن كما كَ َفرُوا ف َتكُونُونَ َ‬ ‫العجم‪" :‬من احترق ُكدَسه تمنّى إحراق أكداس الناس"‪ ،‬وفي القرآن‪َ " :‬ودّوْا ل ْو تكْفُرُو َ‬
‫ل بِأهْلِهِ"‪.‬‬ ‫سيّئُ إ ّ‬ ‫العامة‪" :‬مَنْ حفر لخيه بئراً َوقَعَ فيها"‪ ،‬وفي القرآن‪" :‬ول يَحِيقُ ال َمكْرُ ال ّ‬
‫ومن الشعر‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ما يفعل المرء فهو أهله‬ ‫كل امرئ يشبهُ ُه ِفعْلُـهُ‬
‫ل َي ْعمَلُ علَى شَاكَِلتِهٍ"‪.‬‬ ‫ل كُ ٌ‬‫وفي القرآن‪" :‬قُ ْ‬
‫ل ول تسأل عن ال َمبْقَلَة"‪.‬‬ ‫العامة‪" :‬كُلِ البق َ‬
‫ن ُتبْدَ َلكُ ْم تَسُ ْؤكُمْ"‪.‬‬ ‫شيَاءَ إ ْ‬ ‫وفي القرآن‪" :‬ل تَسَْألُوا عَنْ أَ ْ‬
‫شعر‪ :‬الرجز‪:‬‬

‫‪314‬‬
‫ت كارِهْ؟‬ ‫خَارَ لكَ ال وَأنْ َ‬ ‫ت بك ال َمكَارِهْ‬ ‫كم مرةً حَفّ ْ‬
‫خيْرًا كَثيراً" العامة‪" :‬المأمول خيرٌ من المأكول"‪ ،‬وفي القرآن‪" :‬وللخِرَةُ خي ٌر لك ِمنَ‬ ‫جعَلَ ال فيه َ‬‫شيْئًا ويَ ْ‬ ‫ن تكْرَهُوا َ‬ ‫وفي القران‪َ " :‬فعَسى أَ ْ‬
‫س َم َعهُم"‪ .‬المتنبي‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫خيْراً ل ْ‬ ‫الُولَى" العامة‪" :‬لو كان في اليوم خيرٌ ما سلّم علي الصيّاد‪ ،‬وفي القرآن‪" :‬ولو عَلِمَ ال فيهِمْ َ‬
‫مصائِبُ قوم عند قوم فَوَائد‬
‫خبِيثَاتِ" العجم‪" :‬لم يردِ‬ ‫خبِيثُونَ لِ ْل َ‬
‫خبِيثينَ وَا ْل َ‬‫خبِيثَاتُ لِل َ‬ ‫سيّئَ ٌة يَفْ َرحُوا بهَا" عند الخنازير تنفُق العذرة‪ ،‬وفي القرآن‪":‬ا ْل َ‬ ‫ن تُصِبكُمْ َ‬ ‫وفي القرآن‪" :‬وإ ْ‬
‫خ ْذنَاهُم َب ْغتَةً"‪.‬‬
‫ال بالنملة صلحاً إذا أَنبت لها جناحاً"‪ ،‬وفي القرآن‪" :‬حتى إذا َفرِحُوا بما أُوتُوا أَ َ‬
‫سبَتْ رَهِينَةٌ"‪.‬‬‫س بِما كَ َ‬
‫ل نَفْ ٍ‬ ‫العامة‪ :‬الكلب ل يَصِيد كارهاً‪ ،‬وفي القرآن‪" :‬ل إ ْكرَاهَ في الدّينِ"‪ .‬العجم‪" :‬كل شاة تُناط برجلها" وفي القرآن‪" :‬كُ ّ‬
‫جملة من مكاتبات بعض أهل العصر‬
‫حمِيد سيرته‪:‬‬ ‫أبو القاسم محمد بن علي السكافي عن المير نوح بن نصر وعن ابنه عبد الملك لبي طاهر وشمكير بن زياد يَشْكرُه على َ‬
‫مَنْ حمدناه ‪ -‬أَعَ ّزكَ ال تعالى ‪ -‬من أعيان المِلّةِ الذين بهم افتِخَارُها‪ ،‬وأعوانِ الدولة الذين بهم استظهارُها‪ ،‬بخلّة ينزع فيها من خللِ الفَضْل‪،‬‬
‫وخصْلَة يكمل بها من خصال ال َعدْل‪ .‬وإنّك ‪ -‬أعزك ال! ‪ -‬من نحمده بالرتقاء في درَج الفضائل‪ ،‬والستواء في كل الشواكل؛ فإنه ليس من‬
‫صدْقُ خبره عن ال ِعيَان‪ ،‬وكفى بيان‬ ‫حمَدة إل وسهمُك فيها فائز‪ ،‬ول من شدة إل و َمهْلُك فيها بارز‪ ،‬وذلك ‪ -‬أعزّك ال تعالى! ‪ -‬أمرٌ قد أغنى ِ‬ ‫مَ ْ‬
‫شكْر‪ ،‬وجدّدنا لك مع اعتراض كل‬ ‫ق جديدَ ُ‬ ‫س ُمنَاها‪ ،‬وسوّغناها هَواهَا‪ ،‬لوردنا عليك في ذرور كلّ شار ٍ‬ ‫أثره تكلّف المتحان‪ ،‬ولو أعطينا النفو َ‬
‫ل الدنى من الحماد محل الوفى‪ ،‬فيُقضى لك بأنه ‪ -‬وإن عظم‬ ‫ل ذِكر‪ ،‬لكنا للعادة في تَ ْركِ الهوى‪ ،‬والثقة بأنك مع صالح آدابك تح ّ‬ ‫خاطر جمي َ‬
‫قدرُه ‪ -‬يسير العدد‪ ،‬وعلى ما هو ‪ -‬وإن تناهى لفظُه ‪ -‬باقي ال َفخْر مدى البد‪ ،‬وكان ممّا اقتضانا الن تناولك به أخبا ٌر تواترت‪ ،‬وأقوال‬
‫شكْرِ ما يتزيد لهم وفيهم من موادّ عدلك‪ ،‬وحسن َفضْلك‪ ،‬حتى لقد ظلوا ولهم‬ ‫تظاهرت‪ ،‬بإطباق سكان الحَضْرة ونيسابور من أهل عملك على ُ‬
‫سمَعه‪،‬‬ ‫ن بها المؤمنُ والداعي؛ فإن هذا ‪ -‬أعزَك ال ‪ -‬حال يطيب مَ ْ‬ ‫في شكر ذلك محافل ُتعْقَد‪ ،‬ومشاهد تشْهد‪ ،‬يعجب بها السامعُ والرائي‪ ،‬ويقتر ُ‬
‫صدْق النشراح‪ ،‬إلى هذا الكتاب أن أعجلْناه‪ ،‬وهذا‬ ‫ب بَهجاً‪ ،‬والصدور ثلجاً‪ ،‬حتى استفزّها فَرْطُ الرتياح‪ ،‬و ِ‬ ‫ويلذ موقعه‪ ،‬حتى لقد مل القلو َ‬
‫الشكر أن أجزلْناه‪ .‬بعد ذكرٍ لك اتصل كل التصال‪ ،‬وأجمل كلّ الجمال‪ ،‬وتضاعف به حظك من الرأي أضعافاً‪ ،‬وأشرف محلك على كل‬
‫المحال إشرافاً‪ ،‬ونحن نهنيك ‪ -‬أعزّك ال ‪ -‬على التوفيق الذي قسمَه ال لك‪ ،‬والتيسير الذي وكلَه بك‪ ،‬ونبعثك على استدامتها بصالح النيّة‪،‬‬
‫وبصادق البغية‪ ،‬لتدنُ َو من العدل على ما ترعى‪ ،‬وتحسن الهَدْي فيما تتولى‪ .‬فرأيك أبقاك ال تعالى في إحلل ذلك محله من استبشار به‬
‫تستكمله‪ ،‬واستثمار له تعجّله إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫ص ُمصْطَبراً‪ ،‬وحتى يكون بحيث أمر ال من‬ ‫ق من سلّم لمر ال تعالى ورضي ب َقدَرهِ‪ ،‬حتى ُيمَحّض مصطنعاً‪ ،‬ويَخل َ‬ ‫وكتب إليه يعزّيه‪ :‬إن أَح ّ‬
‫الشكر إذا وَهب‪ ،‬والرضا إذا سَلب‪ ،‬أنت أعزّك ال تعالى؛ لمحلّك من الشكر والحِجَا‪ ،‬وحظك من الصبر والنّهى‪ ،‬ثم لمَا ترجعُ إليه من ثبات‬
‫ل مَرْزوء‪ ،‬ودَرَكاً لكلّ‬ ‫س ْهمِك الفائز‪ ،‬و َمهَلِك البارز‪ ،‬عِوَضًا عن ك ّ‬ ‫الجَنان عند النَازِلة‪ ،‬وقوة الركان لعزّ الدولة الفاضلة‪ ،‬فإنَ لك فيها وفي َ‬
‫مَرْجُوّ‪ ،‬ونسأل ل أن يجعلك من الشاكرين لِ َفضْله إذا أبلى‪ ،‬والصابرين لحكمه إذا ابتَلى‪ ،‬وأن يجعل لك ل ِبكَ التعزية‪ ،‬ويقيك في نفسك وفي‬
‫ذَويك الرزيّة‪ ،‬بمنّه وقدرته‪.‬‬
‫خبَرُ مصابك بفلن؛ فخلص إلينا من الغتمام به ما يحصل في مثله ممّن أطاع ووَفى‪ ،‬وخدم ووالى‪ ،‬وعلمنا أن لفقدك مثله‬ ‫وله إليه‪ :‬ترامى إلينا َ‬
‫لَوْعةَ‪ ،‬وللمصاب به لَذعة؛ فآثرنا كتابنا هذا إليك في تعزيتك‪ ،‬على يقيننا بأن عقلك ُيغْنِي عن عِظتِك‪ ،‬ويهدي إلى الوْلَى بشيمتك‪ ،‬والزيد في‬
‫ُرتْبتك؟ فَليَحسُنْ ‪ -‬أعزك ال ‪ -‬صب ُركَ على ما أخذه منك‪ ،‬وشكْرُك على ما أبقى لك‪ ،‬وليتمكّن في نفسك ما وفّر لك من ثوابِ الصابرين‪ ،‬وأجزل‬
‫من ذخَر المحسنين‪ ،‬وليَ ِردْ كِتابك بما ألهمك ال تعالى من عزاء‪ ،‬وأبلَكه من جميل بَلء‪ ،‬إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫ف توجّعك للمصيبة‪ ،‬ونحن نحمدُ ال تعالى الذي ُي ْنعِم‬ ‫وله إليه جواب‪ :‬وصل كتابك ‪ -‬أعزك ال تعالى ‪ -‬مفتتَحاً بالتعزية عن فلن‪ ،‬وبوَصْ ِ‬
‫حرَتْ آخذة ومعطية‪ ،‬ومَوَاقع مشيئته كيف مضت سارّة‬ ‫ع ْدلً‪ ،‬و َيهَبُ إحساناً‪ ،‬ويسلب امتحاناً‪ ،‬على مَجَاري قضيّته كيف َ‬ ‫حكُم َ‬
‫فضلً‪ ،‬ويَ ْ‬
‫ل إل به‪ ،‬ومستمسكين بما أمر به عند المساءة من الصبر‪ ،‬والمسرّة من الشكر‪ ،‬راجين ما أعدّه‬ ‫ح ْمدَ عالمين أن ل حكم إل له‪ ،‬ول حو َ‬ ‫ومسيئة‪َ ،‬‬
‫شتُك ‪ -‬أعزّك ال ‪ -‬للحادث على الماضي‪،‬‬ ‫ل عليه نتوكل وإليه ننيب‪ ،‬وأما وَحْ َ‬ ‫ال من الثواب للصابرين‪ ،‬والمزيد للشاكرين‪ .‬وما توفيقنا إل با ّ‬
‫عفا ال عنه‪ ،‬فمثلُك من ذَوي الصفاء والوفاء اختصّ بذلك واهتتم له‪ ،‬وعرف مثلَه فاغتنمَ به؛ فإن الطاعة نسب بين أوليائها‪ ،‬والنعمة سبب بين‬
‫ن يمسك في هذا العارض ما يمسّ أولى المشاركة‪ ،‬ويخصّك من الهتمام ما خصّ ذوي المشابَكة‪.‬‬ ‫أبنائها‪ ،‬فل عجَب أ ْ‬
‫سعْي في سبيله إلى جملتك؛ فأمّلنَا أن يكون‬ ‫خبَرُك‪ ،‬أكرمَك ال تعالى‪ ،‬بنفوذك لوجهك فيمن جمعهم ال تعالى لل ّ‬ ‫وله إليه أيضاً في أمر غزاة‪ :‬ورد َ‬
‫ذلك موصولً بأعظَم الخيرة‪ ،‬مؤدياً إلى أحسن المغبّة‪ ،‬إل أنّا أحسسنا من الغُزَاة الذين بهم تعْتضد‪ ،‬وإياهم تستنجد‪ ،‬فتُو َر نيّات‪ ،‬وفساد طَ ِويّات‪،‬‬
‫وهذا كما علمت بابٌ عظيم يجبُ الطلع بالفكر والرأي عليه‪ ،‬والحتراس بالجدّ والجهد من الخَطَل فيه‪ .‬فسبيلُك أن تتأمَل أمرك بعين‬
‫ج ْد نيّات أولئك الغُزَاة َمدْخُولة‪ ،‬ول‬ ‫عدّتك مقدار الكفاية‪ ،‬ولم تَ ِ‬ ‫استقصاء العَوْ َرةِ‪ ،‬واستدراك الخرة‪ ،‬فإن أ ْنتَ وجدت في عدتك تمامَ القدرة‪ ،‬وفي ُ‬
‫عُرَاهم مَحْلُولة‪ ،‬استخرت ال تعالى في المسير بكلّ ما تقد ُر عليه من الحَ ْزمِ في أمرك‪ ،‬ثم إن تكن الخْرى‪ ،‬وكان القوم على ما ذكرت من كَلل‬
‫ث يحدّثك به ِكتَا ُبنَا هذا إن اجتليت ما ذكرته‪ ،‬وإن لم تبلغ بلغة ما اخترته‪ ،‬فاعتلق ب َذيْله‪.‬‬ ‫ضعْفِ المرائر‪ ،‬عملت على التلوّم لحدي ٍ‬ ‫البصائر‪ ،‬و َ‬
‫من إنشاء بديع الزمان‬
‫وهذه المقامة من إنشاء البديع‪ ،‬قال عيسى بن هشام‪ :‬غزَوْت الثغر بقَزْوِين سنة خمس وسبعين‪ ،‬فما اجتزنا حَزْناً‪ ،‬إل هبطنا بَطنا‪ ،‬حتى وقف بنا‬
‫المسيرُ على بعض ُقرَاها‪ ،‬فقالت الهاجِرة بنا إلى ظِل أثلَثٍ في حِجْرها عينٌ كلسانِ الش ْمعَة‪ ،‬أصفى من الدمعة‪ ،‬تسيح في الرّضْرَاض‪ ،‬سيح‬
‫ضنَاض؛ َفنِلنا من المَأكْل ما نلْنا‪ ،‬ثم ملْنا إلى الظل فق ْلنَا؛ فما مَلكَنا النومُ حتى س ِم ْعنَا صوتاً أنكرَ من صوتِ الحمار‪ ،‬ورَجْعاً أضعَفَ من رجْع‬ ‫النَ ْ‬
‫ضغَيْ أَسد؛ فذَادَ عن القوم رَائد النوم‪ ،‬وفتحت العيون إليه وقد حالت الشجار دونه‪ ،‬وأصغيتُ‬ ‫طبْل كأنه خارج من ما ِ‬ ‫الحُوارِ‪ ،‬يَشْ َفعُهما صَوْتُ َ‬
‫فإذا هو يقول على إيقاع صوت الطبل‪ :‬السريع‪:‬‬
‫ع ْيشِ خصيبْ‬ ‫إلى ذَرًى رَحْبٍ و َ‬ ‫أَدعو إلى ال فهل من مُجـيبْ‬
‫قطوفُها دانـية مـا تَـغـيبْ؟‬ ‫وجـنَة عـالـيةٍ مـا تَـنِــي‬
‫من بَلدِ الكُفْر وأمري عَجِـيبْ‬ ‫يا قـومُ‪ ،‬إنـي رجـلٌ ثــائبٌ‬
‫عبَدْت الصَـلِـيبْ‬ ‫ت فيه و َ‬ ‫حدْ ُ‬ ‫جَ َ‬ ‫ت فـكـم لـيلةٍ‬ ‫ك آمَـنْـ ُ‬ ‫إنْ أ ُ‬
‫ت منه النّصـيبْ‬ ‫ومُسْكر أح َرزْ ُ‬ ‫يا ربّ خِنـزير تـمـشَـ ْئتُـهُ‬
‫‪315‬‬
‫من زَلَةِ الكُفر اجتهادُ المُصيبْ‬ ‫ثم هداني ال‪ ،‬وانـتـاشَـنِـي‬
‫وأَعبدُ ال بـقَـلـب مُـنِـيب‬ ‫فظَلْت أُخْفي الدّين في أُسْرتـي‬
‫ول أجي الكعبة خَ ْوفَ الرقيبْ‬ ‫لتِ حِـذَار الـعِـدَى‬ ‫جدُ لِـ َ‬
‫سُ‬‫أَ ْ‬
‫ضنَانيَ يومٌ عَـصِـيبْ‬ ‫َليْلي وأ ْ‬ ‫وأسـألُ الـلـه إذا جَـنّـنـي‬
‫فنجّني؛ إنيَ فـيهـم غـريب‬ ‫ب كمـا أنـك أنـقـذتـنـي‬ ‫رَ ّ‬
‫وما سِوَى العزم أمامي نَجِـيب‬ ‫خذْتُ الليلَ لي مـركـبـاً‬ ‫ثم اتّ َ‬
‫يكادُ رأسُ الطفل فيها يَشِـيبْ‬ ‫َو َق ْدكَ مِنْ سـيريَ فـي لـيلةٍ‬
‫إلى حمى الدين نفضت ال َوجِيبْ‬ ‫جزْت بحر الـعـمـى‬ ‫حتى إذا ُ‬
‫نَصْوٌ من ال وفَـتْـحٌ قـريب‬ ‫وقلت إذ لح شِعـارُ الـهـدى‬
‫ظهْرِي حدائقَ وأعناباً‪ ،‬وكواعب‬ ‫طئْت وال بلدكم بِقَلْب ل العِشْق شاقَه‪ ،‬ول ال َفقْرُ ساقَه‪ ،‬وقد تركت وراء َ‬ ‫ولما بلغ هذا البيت قال‪ :‬يا قوم‪ ،‬و ِ‬
‫جحْره‪ ،‬وبرزتُ بروزَ الطائر من َوكْره‪،‬‬ ‫عدّةً وعديداً‪ ،‬ومراكبَ وعَبيداً‪ ،‬وخرجتُ خروجَ الحثة من ُ‬ ‫ل مُسَ ّومَة‪ ،‬وقناطير ُم َقنْطَرة‪ ،‬و ُ‬ ‫أتراباً‪ ،‬وخي ً‬
‫مُ ْؤثِراً ديني على دُنْياي‪ ،‬وجامعًا ُي ْمنَاي إلى يُسراي‪ ،‬واصلً سيْري بِسُراي‪ ،‬فلو رفعتم النار بشررها‪ ،‬ورميتم الروم بحجرها‪ ،‬وأعنتموني على‬
‫غَزْوِها مساعدة وإسعاداً‪ ،‬ومرافدة وإرفاداً‪ ،‬ول شطَطَ‪ ،‬فكل قادر على ُقدْرَته‪ ،‬وحَسب ثَرْوَته‪ .‬ول أستكثر ال َبدْرَة‪ ،‬ول أردّ التمرة‪ ،‬وأقبل الذّرة‪،‬‬
‫ولكل مني سهمان‪ ،‬سَهمٌ أُذلّقه لِلّقاء‪ ،‬ؤسهمٌ أفوقه بالدعاء‪ ،‬وأرشُق به أبواب السماء‪ ،‬عن قَوْس الظلماء‪.‬‬
‫ف قد شَهره‪،‬‬ ‫خنَا أبو الفتح السكندري‪ ،‬بسي ٍ‬ ‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فاستفزّني رائعُ ألفاظه‪ ،‬وسرَوْتُ جِلْباب النوم‪ ،‬وعدوت إلى القوم‪ ،‬وإذا وال شي ُ‬
‫حدْسه؛ وملك نَفْسه‪ ،‬وأغنانا بفاضل قَوْله‪ ،‬وقسم لنا من نَيله! ثم أخَذ ما أخذ‪،‬‬ ‫وزي قد نكره؛ فلما رآني غَمزني بعينه وقال‪ :‬رحم ال امرأً أحسن َ‬
‫فقمتُ إليه فقلت‪ :‬أنت من أولد بنات الروم؟ فقال‪ :‬مجزوء الخفيف‪:‬‬
‫ن كحالي مع النسَـبْ‬ ‫أنا حَالي مـع الـزمـا‬
‫ن إذا سامه انقـلَـبْ‬ ‫نسَبي فـي َيدِ الـزمـا‬
‫ضحِي من العَ َربْ‬ ‫ط وأ ْ‬ ‫أنا أُمسي من النـبـي‬
‫من أخبار سليمان بن عبد الملك‬
‫ن يجمعُ له القلب فهمَه إل قضيتُها‪ ،‬وإن‬ ‫ن بن عبد الملك‪ :‬ما سألني أحدٌ قط مسألة يثقلُ علي قضاؤها‪ ،‬ول يخفّ عليّ أداؤها‪ ،‬بلفظٍ حس ٍ‬ ‫قال سليما ُ‬
‫كانت العزيمة نفذت في منعه‪ ،‬وكان الصواب مستقرًا في دفعه‪ ،‬ضناً بالصواب أن يردّ سائله‪ ،‬أو يحرم نائله‪.‬‬
‫من أخبار النعمان بن المنذر‬
‫والحارث الغساني‬
‫شمِر الغَشَاني‪ ،‬فقال له الحارث يوماً‬ ‫وقال أبو عبيدة‪ :‬كان أبو قيس بن رِفاعة يَفِد سنةً إلى النعمان بن المنذر اللخمي وسنة إلى الحارث بن أبي َ‬
‫ف من‬ ‫ن من وَجْهه‪ ،‬ولمك أشر ُ‬ ‫وهو عنده‪ :‬يا ابن رفاعة‪ ،‬بلغني أنك تفضل النعمان عليّ! قال‪ :‬كيف أفضّله عليك‪ ،‬أبيتَ اللعنَ؟ فوال لَ َقفَاكَ أحسَ ُ‬
‫ك أكثر من كثيره‪،‬‬ ‫أبيه‪ ،‬ولباؤك أشرف من جميع قومه‪ ،‬ولَمسُك أفضل من يومه‪ ،‬ولشمالك أجود من يمينه‪ ،‬ولحِرمانك أنفع من َبذْلِهِ‪ ،‬ولَقلِيُل َ‬
‫شهْرِه‪ ،‬ولشهرُك أشرف من حَوله‪،‬‬ ‫ولثِمادُك أغز ُر من غديره‪ ،‬ولكرسيك أرفع من سريره‪ ،‬ولجدْوَُلكَ أغمر من بحوره‪ ،‬وليومُك أفضل من َ‬
‫ولحولك خير من حقبه‪ ،‬ولزندك أورى من َزنْدِه‪ ،‬ولجندك أعز من جنده‪ ،‬ولهزلُك أصوب من جده‪ ،‬وإنك َلمِنْ غسّان أرباب الملوك‪ ،‬وإنه لمن‬
‫خ ٍم كثيري النوكِ! فعَلَمَ أفضلُه عليك؟ وقد روى مثل هذا الكلم للنابغة الذبياني مع النعمان بن المنذر‪.‬‬ ‫لَ ْ‬
‫من أخبار المهدي‬
‫وقال المفضل الضبي‪ :‬دخلت على المهدي فقال قبل أن أجلس‪ :‬أنشدني أربعة أبيات ل تزد عليهنّ‪ ،‬وعنده عبد ال بن مالك الخزاعي‪ ،‬فأنشدته‪:‬‬
‫الطويل‪:‬‬
‫يجرّ شواءً بالعصا غير ُمنْضَـج‬ ‫وأشعثَ قد َقدّ السّفا ُر قـمـيصـه‬
‫كري ٌم من الفتيان غـيرمـزَلّـجِ‬ ‫دعوتُ إلى ما نابني وأجـابـنـي‬
‫ويضرب في رأس الكميّ المدجّج‬ ‫فتى يمل الشّيزى ويرْوِي سنانَـه‬
‫ول في بيوتِ الحيّ بالمـتـولـج‬ ‫فتى ليس بالراضي بأدنى معـيشة‬
‫ت بعثَ إليّ بألف دينار‪ ،‬وبعثَ إلى عبد ال‪.‬بأربعة آلف‪.‬‬ ‫فقال المهدي‪ :‬هذا هو‪ ،‬وأشار إلى عبد ال بن مالك‪ ،‬فلمّا انصرف ُ‬
‫من أخبار أبو السود الدؤلي‬
‫خذَ ُه منها فأبَت وقالت المرأة‪ :‬أصلح ال المير‪ ،‬هذا ابني‪ ،‬كان بطني‬ ‫تنازع أبو السود الدؤلي وامرأته إلى زيادٍ في ابنهما؟ وأراد أبو السود أ ْ‬
‫وعاؤُه‪ ،‬وحجري فناؤه‪ ،‬وثديي سقاؤه‪ ،‬أكلؤه إذا نام‪ ،‬وأحفظه إذا قام؛ فلم أزل بذلك سبعة أعوام‪ ،‬فلمّا استوفى فصالُه‪ ،‬وكملت خصالُه‪،‬‬
‫طفَه‪ ،‬أراد أن يأخذه مني كَرهاً‪ ،‬فآدِني أيها المير‪ ،‬فقد أراد قهري‪ ،‬وحاول َقسْرِي‪.‬‬ ‫واستوكعَت أوصالُه‪ ،‬وأمّلْتُ نفعَه‪ ،‬ورجوت عَ ْ‬
‫فقال أبو السود‪ :‬هذا ابني حملتُه قبل أن تحمله‪ ،‬ووضعته قبل أن تضعه‪ ،‬وأنا أقوم عليه في أدبه‪ ،‬وأنظر في تقويم أ َودِه‪ ،‬وأمنحه علمي‪ ،‬وألهمه‬
‫حلمي‪ ،‬حتى يكمل عقله‪ ،‬ويستكمل فتلُه‪.‬‬
‫فقالت المرأة‪ :‬صدق أصلحك ال؛ حمله خِفّا‪ ،‬وحملته ِثقْلً‪ ،‬ووضَعه شهوة‪ ،‬ووضعتُه كرهاً‪.‬‬
‫فقال زياد‪ :‬ار ُددْ على المرأة ولدَها؛ فهي أحق به منك‪ ،‬ودعني من سَجْعك‪.‬‬
‫في باب الوعظ‬
‫ن بعض الحكماء كان يقولُ‪ :‬إني لعظكم‪ ،‬وإني لكثيرُ الذنوب‪ ،‬مسرفٌ على نفسي‪ ،‬غير حامد لها‪ ،‬ول حاملها على‬ ‫قال الصمعي‪ :‬بلغني أ ّ‬
‫المكروه في طاعة الّ‪ .‬وقد بلوتها فلم أجد لها شكراً في الرضاء‪ ،‬ول صبراً على البَلْوَى‪ .‬ولو أن أحداً ل يعظ أخاه حتى يحكم أمرَه لترك‬
‫المر؟‪ ...‬ولكن محادثة الخوان حياة القلوب وجلء النفوس‪ ،‬وتذكي ٌر من النسيان‪ ،‬واعلموا أنّ الدنيا سرورُها أحزان‪ ،‬وإقبالها إدبار‪ ،‬وآخر‬
‫حياتها الموت‪ ،‬فكم من مستقبل يومًا ل يستكملُه‪ ،‬ومنتظر غدًا ل يبلغه؟ ولو تنظرون الجل ومسيره لبغضتّم المل وغرورَه‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫جمع عبد الملك أهله وولده فقال‪ :‬يا بني أميّة‪ ،‬ابذُلوا َندَاكم‪ ،‬وكفوا أذاكم‪ ،‬وأجملوا إذا طلبتم‪ ،‬واغفروا إذا قدرتم‪ ،‬ول تُلْحِفُوا إذا سألتم‪ ،‬ول تبخلوا‬
‫إذا سُئلتم؛ فإن العفو بعد القدرة‪ ،‬والثناء بعد الخبرة‪ ،‬وخير المال ما أفاد حمدًا ونَفَى دمّا‪.‬‬
‫من أخبار هشام بن عبد الملك‬
‫ودخل سعيد الجعفري على هشام بن عبد الملك فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إني أريد أن أصفك بصفتك‪ ،‬فإن انحرف كلمي فلهيبة المام‪ ،‬واجتماعِ‬
‫القوام‪ ،‬وتصرّف العوام‪ ،‬ولربّ جوادٍ عثر في أرسانه‪ ،‬وكبا في ميدانه‪ ،‬ورحم ال امرأ قصّر من لفظه‪ ،‬وألصق الرض بلحظه‪ ،‬ووعى‬
‫قولي بحفظه‪ ،‬فخاف هشام أن يتكلّم فيقصّر عن جائزة مثله‪ ،‬فعزم عليه فسكت‪.‬‬
‫بين حاتم الطائي وعبد قيس البرجمي‬
‫قال عبد قيس بن خُفاف البُ ْرجُميُ لحاتم الطائي وقد وفَد عليه في دماء تحمّلها وعجز عن البعض‪ :‬إنه وقعت بيني وبين قومي دماد فتواكلوها‪،‬‬
‫وإني حملتها في مالي وأملي‪ ،‬فقدّمت مالي‪ ،‬و ُكنْتَ أملي‪ ،‬فإن تحملها فرُبّ حق قضيتَه‪ ،‬وه ّم قد كفيتَه‪ ،‬وإن حال دون ذلك حائل لم أذمُم يومك‪،‬‬
‫ولم أيأس من غدك‪.‬‬
‫بين الحمدوني وابن حرب‬
‫ي أحمد بن حَرْب المهلبي في غداةٍ‪ ،‬السما ُء فيها مُغيمَة‪ ،‬فأتيته والمائدةُ موضوع ٌة ُمغَطّاة؟‬ ‫قال أبو علي العتابي‪ :‬حدّثني الحمدوني قال‪ :‬بعث إل ّ‬
‫ق يدقّ الباب‪ ،‬فأتاه الغلم فقال‪ :‬بالباب فلن؛ فقال لي‪ :‬هو فتًى من‬ ‫وقد وافَتْ عُجاب المغنية‪ ،‬فأك ْلنَا جميعاً‪ ،‬وجلسنا على شرابنا‪ ،‬فما راعنا إل دا ّ‬
‫ضخْم‪ ،‬قال‪ :‬وتكلم‬ ‫ل آدَمُ َ‬
‫آل المهلب‪ ،‬ظريف‪ ،‬نظيف‪ ،‬فقلت‪ :‬ما نريد غير ما نحن فيه‪ ،‬فأذِن له‪ ،‬فجا َء يتبختر وقُدامي َقدَحُ شراب فكسره‪ ،‬فإذا رَج ٌ‬
‫فإذا هو أعيا الناس‪ ،‬فجلس بيني وبين عُجاب‪ ،‬قال‪ :‬فدعوت بدَواة وكتبت إلى أحمد بن حرب‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫شَ! فقد كان صافيًا مُستَطَـابـا‬ ‫ش من كدر الـعَـي‬ ‫كدّر ال عي َ‬
‫ث وقد طابقَ السماعُ الشرابـا‬ ‫جاءنا والسماءُ تهطل بـالـغَـي‬
‫رِيّ ضمّت من المدَام رُضَابـا‬ ‫كسر الكاسَ وهْي كالكوكب الدرْ‬
‫ره والدهرُ ما أفَـاد أصـابـا‬ ‫ت منـه بـمـا أك‬‫قلت لما ُرمِي ُ‬
‫تدعُ الدا َر بعد شهـرٍ خـرابـا‬ ‫عجّل ال نقـم ًة لبـن حـربٍ‬
‫ت بعد حول؟ فقلت‪ :‬أردت أقول بعد يوم‪ ،‬فخفت أن تصيبني مضرّة ذلك‪ ،‬وفطن الثقيل‬ ‫ستَ فقل َ‬ ‫ودفعتُ الرقعة إلى أحمد‪ ،‬فقال‪ :‬ويحك إل نف ْ‬
‫فنهض‪ ،‬فقال‪ :‬آذيتَه! فقلت‪ :‬هو آذاني‪.‬‬
‫وقال الحمدوني في طيلسان ابن حرب‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تيقنْتُ أن الدهر َي ْفنَى وينـقـرضْ‬ ‫ولي طيلسانٌ إن تأمّلت شخـصَـهُ‬
‫ت اليا ُم من عمره الغَرَضْ‬ ‫وأَظهر ِ‬ ‫تص ّدعَ حتى قد َأ ِمنْت انصـداعَـهُ‬
‫أخَا سَقَم مما تَمادَى به الـمـرَضْ‬ ‫كأني لشفاقي علـيه مـمـرّضٌ‬
‫َلمَارَوْك فيه وادّعَوا أنه عـرَضْ‬ ‫فلو أنّ أصحابَ الـكـلم يَرَونـه‬
‫وقال فيه‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫بها تبينَ فضلي فهو مـتـصِـلُ‬ ‫لطيلسان ابن حرب نعمة سبقَـتْ‬
‫عليه خوفي من القوام إن جهلُوا‬ ‫قد كنتُ دهراً جهولً ثم حنّنـنِـي‬

‫كأنما بيَ جرحٌ ليس يندمـ ُ‬


‫ل‬ ‫أظل أجتنب الخوانَ من حذر‬
‫ن ِفعْلَ سهام فيه تنتضِلُ‬ ‫َفعَلْ َ‬ ‫ن به‬ ‫جلْ َ‬‫يا طيلساناً إذا اللحاظ ُ‬
‫َتتْرَى أبادتهمُ أيامُـك الولُ‬ ‫ت من أمـم‬ ‫لئن بليتَ فكم أبلي َ‬
‫?وكم رآك أخ لي ثم أنشدني‪=:‬ودّع هريرة إن الركب مرتحلُ وقال فيه‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫َأمْرَضتْه الوجاعُ َفهْوَ سقيمُ‬ ‫ب كَسَ ْو َتنِي طيلساناً‬ ‫يا ابْنَ حر ٍ‬
‫حيِي العظام وهي َرمِيمُ‬ ‫نَك مُ ْ‬ ‫سبْـحـا‬‫ستُهُ قلتُ‪ُ :‬‬
‫فإذا ما لب ْ‬
‫ح عليك بمنكبـيّ هَـمِـيمُ‬ ‫ُ‬ ‫طيلسانٌ له إذا َهبّـتِ الـري‬
‫حُرَقٌ للفـؤاد حـين أقـوم‬ ‫ن فـيهِ‬‫أذكرتْنِي بيتاً لحـسـا َ‬
‫ِر عليها لَن َدبَتْها الـكُـلُـومُ‬ ‫ي من ولد الذّرْ‬ ‫لو َيدِبّ الحول ّ‬
‫وقال أيضاً‪ :‬السريع‪:‬‬
‫عمْـدِ‬‫أَطال إتعابي على َ‬ ‫يا قاتَلَ ال ابنَ حرب لقـد‬
‫يطلبه بال ِوتْر والـحِـقْـدِ‬ ‫بطيلسانٍ خِلْتُ أنّ البـلـى‬
‫جدّ‬ ‫يلهو به في الهَ ْزلِ وال ِ‬ ‫أجدّ في َر ْفوِي له‪ ،‬والبِلَى‬
‫أصحابُها منها على حَـ ْردِ‬ ‫ذكَرني الجنة لـمّـا غَـدَا‬
‫مضَى به التمزيقُ في نَجدِ‬ ‫إن أتهَمَ ال ّرفّاء في رفـوه‬
‫يا واحدِي تتركني وحدي!‬ ‫غنيْته لما مضى رَاحـلً‪:‬‬
‫وقال أيضًا فيه‪ :‬المجتث‪:‬‬
‫ثوبًا يُطيل انحرافَهْ‬ ‫ن ابنَ حرب كساني‬ ‫إّ‬
‫وأتّقي كـل آفَـه‬ ‫أظل أدفـعُ عـنـه‬
‫يتي عليه الثقافَـه‬ ‫فقد َتعَلَمْتُ من خَش‬

‫‪317‬‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ر من الدهر ما لِ َرفْويهِ حِيلَهْ‬ ‫طيلسانٌ ما زال أقدم في الده‬
‫َرثّة الحال ذات فَ ْق ٍر ُمعِيلَـهْ‬ ‫وترى ضَعفه كضعف عجوز‬
‫ل قـبـيلَـهْ‬ ‫سكنته نُزّاع ك ّ‬ ‫غمرتْهُ الرفاع فهو كمِصْـرٍ‬
‫ن قبلي بَجِيلَـهْ‬ ‫فجرير قد زا َ‬ ‫إنْ أزينْهُ يا ابن حرب بذمـي‬
‫جرير‪ :‬ابن عبد ال البجلي‪ ،‬وله صحبة رضي ال عنه وقد قال غسان في هجائه جريراً‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫جريرٌ لقد أخزى كَُليْباً جريرُها‬ ‫لعمري لئن كانت بجيلةُ زَانَهـا‬
‫وقال الحمدوني في معناه الول‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫بيتـنـا مـثـل مـا كـسـوتَ جـمـــاعَـــهْ‬ ‫يا ابْـــنَ حـــرب إنـــي أرى فـــي زوايا‬
‫طيلسانٌ َرفَ ْوتُهُ ورفوت الرفْوَ منه حتى َرفَوْتُ ِرقَاعَهْ‬
‫ليس يعـطـي الـرّفـاء فـي الـرفـو طـاعَـهْ‬ ‫فأَطاع البِلى وصار خليعاً‬
‫ن أنـي فـتـى مـنَ أهـل الـضــيَاعَـــهْ‬ ‫ظّ‬ ‫فإذا ســــائلٌ رآنـــــــيَ فـــــــيهِ‬
‫وقال فيه‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫يتداعى ل مِسَـاسـا‬ ‫طيْلَسانٌ‪ ،‬لبنِ حـربٍ‬ ‫َ‬
‫وأناسـاً فـأَنـاسـا‬ ‫طوَى قَرْناً فقرنـاً‬ ‫قد َ‬
‫لم تدع فيه لِـبـاسَـا‬ ‫َلبِـس اليام حـتّـى‬
‫ل يُرى إل قـياسَـا‬ ‫غاب تحت الحسّ حتى‬
‫من رسائل ابن العميد‬
‫ع نحوك‪ ،‬فعدَ ْدتُها‬ ‫كتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي عبد ال الطبري‪ :‬كتابي وأنا بحالٍ لو لم ينغّص منها الشوقُ إليك‪ ،‬ولم يرنّق صَفْوها النّزا ُ‬
‫ت إليها بين سلمةٍ عامَة‪ ،‬ونعمةٍ تامة‪ ،‬وحَظِيتُ منها في جسمي بصَلَح‪،‬‬ ‫من الحوال الجميلة‪ ،‬واعتددت حظّي منها في النعم الجليلة؛ فقد جمع ُ‬
‫وفي سعْيي بنجاح‪ ،‬لكن ما بقي أن يَصْفُوَ لي عيش مع ُبعْدِي عنك‪ ،‬ويخلو ذرْعي مع خلوّي منك‪ ،‬ويَسُوغ لي مطعم ومشرب مع انفرادي دونك‪،‬‬
‫ع ِدمْت مشاهدتَك‪ ،‬وهل تسكنُ نفس متشعّبة ذاتُ انقسام‪،‬‬ ‫ح ِرمْت رؤيتَك‪ ،‬و َ‬ ‫ل أنسي‪ ،‬وقد ُ‬ ‫شمْ ِ‬‫وكيف أطمعُ في ذلك وأنتَ جزءٌ من نفسي‪ ،‬وناظمٌ ل َ‬
‫وينفع أنس ُمتَشتّت بل نِظام‪ ،‬وقد قرأت كتابك جعلني ال تعالى فداءك؛ فامتلتُ سروراً بملحظة خطّك‪ ،‬وتأمّل تصرّفك في لفظك‪ ،‬وما‬
‫ل أمرك ممدوح في ضميري وعَ ْقدِي‪ ،‬وأَرجو أن تكونَ حقيقةُ أمرك موافقةً لتقديري فيك‪،‬‬ ‫أقرّظُهما فكل خصالك مقرّظ عندي‪ ،‬وما أمدحُهما فك ّ‬
‫صرِي‪.‬‬ ‫فإن كان كذلك وإلّ فقد غطّى هواك وما ألقَى على بَ َ‬
‫طتُه وتَوْطِيده‪ ،‬وظاهرَ له‬ ‫وله إلى عضد الدولة يهنئه بولدين‪ :‬أطال ال بقاءَ المير الجل عضد الدولة‪ ،‬دام عزّه وتأييده‪ ،‬وعلوّه و َت ْمهِيده‪ ،‬و َبسْ َ‬
‫من كلّ خير مزيده‪ ،‬وهنّاه ما اختصه به على قُرْبِ الميلد‪ ،‬من توافر العداد‪ ،‬وتكثر المداد‪ ،‬وتثمّر الولد‪ ،‬وأَراه من النجابة في البنين‬
‫والسباط‪ ،‬ما أراه من الكرم في الباء والجداد‪ ،‬ول َأخْلَى عينَه من قرّة‪ ،‬ونفسه من مَسرّة‪ ،‬ومتجدّد نعمة‪ ،‬ومستأنف مكرمة‪ ،‬وزياد ٍة في عدده‪،‬‬
‫عبْده من طلوع بدرين‬ ‫وفَسْحٍ في أمده‪ ،‬حتى يبلغَ غاي َة مَهلِه‪ ،‬ويستغرق نهاية أمَله‪ ،‬ويستوفي ما بعد حُسْنِ ظنه؛ وعرفه ال السعادةَ فيما بشّر َ‬
‫هما ا ْن َبعَثَا من نورِه‪ ،‬واستنارا من دُوره‪ ،‬وحفّا بسريره‪ ،‬وجعل وفودَهما متلئمين‪ ،‬وورودهما تَوْأمين‪ ،‬بشيرين بتظاهر النعم‪ ،‬وتواتر القِسم‪،‬‬
‫ف بنين يغصّ‪ ،‬بجمعهم ُمنْخَرق الفَضَاء‪ ،‬ويَشْرَقُ بنورهم أفق العلَء‪ ،‬وينتهي بهم أ َم ُد النماء‪ ،‬إلى غاية تفوتُ غايةَ الحصاء‪ ،‬ول‬ ‫ومؤذِ َنيْن بتراد ِ‬
‫زالت السبلُ عامرة‪ ،‬والمناهلُ غامرة‪ ،‬يصافِحُ صادِرهم بالبشر الوارد‪ ،‬وآملِهم بالنيل القاصد‪.‬‬
‫من شعر المتنبي‬
‫وقال أبو الطيب وذكر أبا دلف وأبا الفوارس ابني عضد الدولة‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫شبْلَيهِ‪ ،‬ول َفرَسَيْ رهـانِ‬ ‫كَ ِ‬ ‫شبْلَيْ هِـ َزبْـرٍ‬
‫فلم َأ َر َقبْلَهُ ِ‬
‫بضوئِهما ول َيتَحـاسـدانِ‬ ‫ن يُحْـيا‬ ‫فعاش عِيشةَ ال َقمَري ِ‬
‫ول َورِثا سوَى مَنْ َي ْقتُـلنِ‬ ‫ول مَلكَا لسِوَى مُ ْلكِ العادي‬
‫ف أنيْسِـيانِ‬ ‫له ياءَيْ حُرو ِ‬ ‫وكان ا ْبنَا عَـدُوّ كـاثَـراهُ‬
‫يُؤدّيهِ الجَنانُ إلى الجَـنـانِ‬ ‫دُعا ٌء كالثـنـا ِء بِـل رِياءٍ‬
‫ل من‬ ‫ش َمكِير بن زياد في استبطاء وتهنئة‪ :‬وصل كتابُك ناطقاً مفتَتحه بجميل ال ُعذْر‪ ،‬فيما نقَ َ‬ ‫وكتب أبو القاسم السكافي عن نوح بن نصر إلى وَ ْ‬
‫المكاتبة‪ ،‬وبعث من المطالعة‪ ،‬و ُمعْرِباً مختتَمه عن جُملة خبرِ السلمة التي طبّقت أعمالك‪ ،‬والستقامة التي عمت أحوالَك‪ ،‬وفهمناه‪ ،‬ولول أن‬
‫مواتاتك ‪ -‬أيّدك ال تعالى ‪ -‬فيما تأتي وتذَر‪ ،‬وترتئي وتدبرّ‪ ،‬عادةٌ لنا أورثتناها قرابة ما بين وفاقِنا ووِفاقك‪ ،‬ومُلَءمة حال أَلجأَتنا لحال‬
‫لنْس‬ ‫صدِيقه‪ ،‬لفَ ْرطِ ا ُ‬‫شنَاك فيه‪ ،‬وإنْ كان واجبًا تَ ْ‬ ‫استحقاقك‪ ،‬لكنا ربّما ضايَ ْقنَاك في ال ُعذْر الذي اعتذرت به‪ ،‬وإن كان واضحاً طريقُه‪ ،‬وناقَ ْ‬
‫جبُ الحماد‪ ،‬فنحن نأبى إل إجرا َء تلك العادة‪ ،‬كما عودتَنا‪ ،‬وإلّ‬ ‫يَخْلُص إلينا بكتابك‪ ،‬والرتياح بخطابك‪ ،‬اللّذين ل يؤدّيان إل خبرَ سلمةٍ تو ِ‬
‫التجافي عمّا تريد فيه من الزيادة التي أ َر ْدتَها‪ ،‬ول ندع مع ذلك أن يصل تسويفُك إلى القلل الذي اخترته بإحمادك على الكتاب إذا كتبته‪ ،‬توخّيا‬
‫لن تكون مؤهلً في الحالين لخالصة التنويل‪ ،‬مقدماً في درج التفضيل‪ ،‬موفى حقائق اليثار‪ ،‬موقّى لواحِقَ الستقْصار‪ ،‬ونستعين بال على‬
‫حوْله‪ ،‬وأمّا بعد فقد عفّى ‪ -‬أعزك ال تعالى ‪ -‬ما أفاد‬ ‫قضاء حقوقك‪ ،‬وعلى جميل النية في أمورك‪ ،‬فإن ذلك ل يبلغ إل بقوّته‪ ،‬ول ُيدْ َركُ إل بِ َ‬
‫كتابك بخبر السلمة من أنسه‪ ،‬على آثا ِر مَنْ سبقه بخبر العلّة من وحْشَة‪ ،‬فأَوجبتنا مقابل َه موهبة ال تعالى في المحبوب صنع‪ ،‬والمكروه دفع‪،‬‬
‫ب بنا‪ ،‬فرأيك ‪ -‬أعزّك ال تعالى ‪ -‬في المطالعة بذكر تستمدّه في القوة والصحة من‬ ‫ل به إخلصَ المواهبِ لنا‪ ،‬ونستدي ُم به أخصّ المرات ِ‬ ‫نستقب ُ‬
‫مزِيد‪ ،‬والطاعة والكفاية من توفيق وتسديد‪ ،‬موفقاً إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫ألفاظ لهل العصر في ضروب التهاني‬
‫وما ينخرط في سلكها من ذلك في التهنئة بالمولود وما يجري مجراها من الدعية‪ ،‬وما يختصّ منها بالملوك أو الرؤساء‪:‬‬

‫‪318‬‬
‫مرحباً بالفارس المصدّق للظنون‪ ،‬المق ّر للعيون‪ ،‬المقبل بالطالع السعيد‪ ،‬والخير العَتيد‪ ،‬أنجب البناء لكرم الباء‪ .‬أنا مس َتبْشِر بطلوع النجم‬
‫الذي كنّا منه على َأمَل‪ ،‬ومن تطاول استِسْرَارِه الذي كنا منه على َوجَل‪ ،‬إن يشأ ال يجعله مقدمة إخوة في نَسق كالفريد المتّسق‪ .‬قد طلع في أفق‬
‫سعْده‪ ،‬عليه خاتَمُ الفضل وطا َبعُه‪،‬‬ ‫جدّه‪ ،‬المضمون َ‬ ‫شرَاي بطلوع الفارس الميمون َ‬ ‫الحرية أسعدُ نجْم‪ ،‬و َنجَمَ‪ ،‬في حدائق المروءة أذكى نبت‪ .‬يا بُ ْ‬
‫س ْهمُ الخير وطاِلعُه‪ .‬الحمد ل على طلوع هذا الهلل الذي نَراه إن شاء ال بدرًا ل يُضْمرُ السّرَا ُر َبهَاه‪ ،‬ول يبلغ المَحَاقُ سَناءه وسناه‪ ،‬وقد‬ ‫وله َ‬
‫ظهْر‪ ،‬واشتدَاد الزْر‪ .‬الفارس المكثِر لسواد الفضل‪،‬‬ ‫سعْد‪ .‬هنّاك ال تعالى بقوّة ال ّ‬ ‫جدّ‪ ،‬واقترن قدومُه بالطالع ال ّ‬ ‫بَشّرَتْ قوابله بالقبال وعُلُو ال َ‬
‫جدّه وأباه‪ .‬عرفت آنِفًا ما كثّر ال به عددَه‪،‬‬ ‫الموفّر لحالِ الهل‪ ،‬المستوفي شرفَ الرومة‪ ،‬بكرم البوة والمومة‪ ،‬وأبقاه حتى نراه كما رأينا َ‬
‫ضدَه‪ :‬من طلوع الفارس الذي أَضاء له الُفق‪ ،‬وطال به باع السعادة‪ ،‬فعظمت ال ُنعْمَى لديّ‪ ،‬وأَوردتِ البُشرىَ غاية ال ُمنَى عليّ‪ .‬مرحباً‬ ‫وشدّ عَ ُ‬
‫بالفارس القادم‪ ،‬بأعظم المغانم‪ ،‬سَ ِويّ الخلق سامِي العِرق يلوح عليه سيماء المجد‪ ،‬وتتجاذبه أطراف الملك والحمد‪ .‬وردت البُشْرى بالفارس‬
‫الذي أَ ْوسَع رباع المج ِد تأهيلً‪ ،‬و َمنَاكِب الشرفِ ارتفاعاً‪ ،‬وأعْضَاد العزّ اشتداداً‪.‬‬
‫وأتتني بُشْرى البشائر‪ ،‬والنعم المحروسة على النظائر‪ ،‬في سُلَلَة العز وسليله‪ ،‬وابن منبر الملك وسريرِه‪ ،‬والمير القادم بغُرّة المكارم‪،‬‬
‫الناهض إلى ذَرْوَة العلياء‪ ،‬بآباء أمراء‪ ،‬وملوك عظماء‪ .‬مرحبًا بالفارس المأمول لشد الظهور‪ ،‬المرجو لسدّ الثغور‪ .‬الحمد ل الذي شد َأزْرَ‬
‫الدولةِ‪ ،‬ونظم قلدة المرة‪ ،‬ودعم سَرِير العزة‪ ،‬ووطد مناب َر المملكة‪ ،‬بالقمر السعد‪ ،‬وشِبل السد ال َورْد‪ .‬فد تنسمت المكارمُ والمعالي‪ ،‬وتباشرت‬
‫خطَبُ والقوافي‪ ،‬بالفارس المأمولِ لشدّ أزْرِ الملك‪ ،‬وسد َثغْ ِر المجد‪ ،‬وتَطَاولَ السريرُ شَوْقاً إليه‪ ،‬واهتزت المنابِرُ حرصًا عليه‪ .‬قد ا ْفتَرَ جَفْنُ‬ ‫ال ُ‬
‫حكُه عن اللّمعة المُنيرة؛ أما المير فالتاج لجبينه َي ْبهَى‪ ،‬والركاب بقدمه تزهى‪ ،‬اللهمّ أرِني هذا الهللَ‬ ‫العالَم عن العينِ البصيرة‪ ،‬واس ُتغْرِب مض َ‬
‫ل القدار قدراً‪ ،‬وبلّغه ال فيه مناه‪ ،‬حتى نراه وأخاه‪ ،‬منِيفينَ على ذرْوَة المجد‪ ،‬آخذَين من أوفر الحظوَةِ بأعْلى الجد‪.‬‬ ‫بَدرًا قد عَ َ‬
‫ضدَ الفضل بالزيادة في عدده‪ ،‬وأقرّ‬ ‫ع ّ‬‫ل فيه‪ .‬عرف ال تعالى آثار بَركة المولود المسعود‪ ،‬و َ‬ ‫ولهم‪ :‬وال يمتع به‪ ،‬ويرزقُ الخي َر منه‪ ،‬ويحقّقُ الم َ‬
‫عيْنَ المجد بالسّادة من ولده‪ .‬عرفه ال تعالى من سيادة مقدمه‪ ،‬ما يجمعُ العداء تحت َقدَمه‪ .‬عمرك ال تعالى حتى ترى هذا الهلل قمراً باهراً‪،‬‬ ‫َ‬
‫حسَدتِك‪ ،‬من حيث ل َت ْهتِدي النوائبُ إلى أغراضكم‪ ،‬ول تطمع الحوادثُ إلى انتقاصكم‪،‬‬ ‫وبَدراً زاهراً‪َ ،‬ي ْكثُر به عدد حَفَدتك‪ ،‬ويعظم معه غُصّة َ‬
‫متعك ال بالولد‪ ،‬وجعله من أقوى ال ُعدَد‪ ،‬ووصَله بإخوة متوافرِي العدَد‪ ،‬شادّي الزر وال َعضُد‪ .‬هناك ال تعالى مَولده‪ ،‬وقرن بال ُيمْن مَ ْو ِردَه‪،‬‬
‫وأراك من بنيه أولدًا بَرَرة وأسباطاً وحفدة‪ ،‬وعرفك بركة ُقدُومه‪ ،‬ونجح مقدمه‪ ،‬وسعد طالعه‪ ،‬ويمن طائره‪ ،‬وعمّرك ال حتى ترى زيادة ال‬
‫منه كما رأيتها‪ ،‬وال يبلّغك أفضل ما تقسمه السعود‪ ،‬و َتعْلو به الجدود‪ ،‬حتى يستغرق مع إخوته مساعيَ الفضلِ‪ ،‬ويَشيدُوا قواعِدَ الفخر‪،‬‬
‫حرُسه من نواظر اليام أن تَ ْرنُو إليه‪ ،‬وأطماع الليالي أن تتوجه عليه‪ ،‬حتى يستقلّ‬ ‫ويزحموا صُدور الدّهر‪ ،‬ويضبطوا أطراف الرض؛ وال يَ ْ‬
‫ل يدي ُم لمولنا من ال ُعمْر أكله‪ ،‬ومن العز‬ ‫بأعباء الخدمة‪ ،‬وينهض بأثْقالِ الدعوة‪ ،‬ويخف في الدفع عن ال َبيْضة‪ ،‬ويُسْرعَ في حماية الحَوْزَة‪ ،‬وا ُ‬
‫عدْله‪ ،‬ويدبّرَ الرض بالنجباء من نَسْله‪.‬‬ ‫أهناه‪ ،‬ليُطبقَ العالم بفضله و َ‬
‫ع بين الرسالةِ والمام ِة مُنتمَاه‪ ،‬خليق‬ ‫ن يَحْلُ َو ثمرُه‪ ،‬وفَ ْر ٌ‬
‫ولهم في ذكر المولود العلوي‪ :‬غُصْن رسول ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬شجرهُ أهل أ ْ‬
‫حمَد َبدْؤُه وعُ ْقبَاه‪ .‬مرحبًا بالطالع بأيمن طالع‪ ،‬ومَنْ هو من أشْرَفِ المناصب والمنابع‪ ،‬حيث الرسالة والخلفة‪ ،‬والمامة والزّعامة‪ ،‬أبقاه ال‬ ‫أن يُ ْ‬
‫سنُه من بني الحسن‪.‬‬ ‫تعالى حتى يتهنّأ فيه صوانع المنن‪ ،‬ويعد حُ ْ‬
‫ف به َمنْصبه‪ ،‬كان حقيقاً بالرغبة إلى ال تعالى في‬ ‫ولهم في التهنئة بالملك والنفاس‪ ،‬وما يقترن به من الدعية‪ :‬من اتصَل بمولي س َببُه‪ ،‬وشَرُ َ‬
‫توفيره وتكثيره‪ ،‬وزيادته و َتثْميره‪ ،‬لتزكُوَ منابتُ الفضل‪ ،‬و َتنْمى مغارِس النبل والفخر‪ ،‬وتطيب معادِنُ المجد‪ .‬بارك ال لمولي في المْر الذي‬
‫ل تعالى يَخِيرُ له في الوُصْلة الكريمة‪،‬‬ ‫ل بنَماءِ العدد‪ ،‬وزكاء الولدِ‪ ،‬واتصال الحبل‪ ،‬وتكثير النسل‪ ،‬وا ُ‬ ‫عقده‪ ،‬وأحمده إيّاه وأسعده‪ ،‬وجعله موصو ً‬
‫ويقرنها بالمحبَةِ الجسيمة‪ .‬قد عظّم ال بَهجَتي‪ ،‬وضاعف غبْطَتي‪ ،‬بما أتاحه من سرور ممهّد‪ ،‬يجمع شَمل مجدد‪ ،‬فل زالت النعم به محفوفة‪،‬‬
‫والمَسَا ّر إليه مصروفة‪ ،‬جعل ال هذه الوصلة أكيدة العقدة‪ ،‬طويلة المدّة‪ ،‬سابغة البركة وال َفضْل‪ ،‬طيبة الذريّة والنّسْل‪ .‬وصلَ ال هذا التصال‬
‫السعيد‪ ،‬والعقد الحميد‪ ،‬بأكمل المواهب‪ ،‬وأحمد العواقب‪ ،‬وجعل شمل مَسَرّتك ملتئماً‪ ،‬وسببَ أنسك منتظماً‪ .‬عرّفك ال تعجيل البركات‪ ،‬وتوالي؛‬
‫ت بكثرة عددك الحسّاد‪ .‬هناك ال مولي الوصلَة بكثرة العدد‪ ،‬ووفور‬ ‫الخيرات‪ ،‬ول أخلك ال من هذه الوُصلة من التهاني بنجباء الولد‪ ،‬وكبَ َ‬
‫الوَلد‪ ،‬وانبساط الباع واليد‪ ،‬عَاليَ القدر والجدّ‪.‬‬
‫ولهم في التهنئة بالولية والعمال‪ ،‬وما يتصل بها من الدعية للوزراء والقضاة والعمال‪ :‬عرفت أخبا َر البلدِ الذي أحسن ال إلى أهله‪ ،‬وعطف‬
‫عليهم بفضله‪ ،‬إذ أضيف إلى ما يلَحِظه مولي بعين إيالَته‪ ،‬ويشفي خَلَلَه بفَضْلِ أصالته‪ .‬أنا من سُرّ بالولية يلبس مولي طِللها‪ ،‬ويسحَب‬
‫أذيالها‪ ،‬بنعم مستفادة‪ ،‬ورُتب مستزادة‪ ،‬سروري بما أعلَمه بكسبه الثناء في كل عملِ يدبّره‪ ،‬من أحدوثه جميلة‪ ،‬ومثوبة جزيلة‪ ،‬ويُ ْؤثِرُه من‬
‫سبُلِ الخيرات‪ ،‬وإيضاح لطرق المكرمات‪ ،‬سيدي يوفِي على الرتب التي يُدعَى لها بحلوله؛ فهنيئهاً لها‬ ‫إحياء عدل‪ ،‬وإماتَة جَور‪ ،‬وعمارةٍ ل ُ‬
‫بتجمّلها بوليته‪ ،‬وتحلّيها بكفايته‪ .‬العمالُ إن بلغت أقصى المال؟ فكفايةُ مولي تتجاوزُها وتتخطّاها‪ ،‬والرتبُ وإن جلّت قدراً‪ ،‬وكبرت ِذكْراً‪،‬‬
‫سبِقها و َتنْسَؤُها‪ ،‬غير أنّ للتهاني رسمًا ل ب ّد من إقامته‪ ،‬وشرطًا ل سبيلَ إلى نقض عادته‪ .‬العمال وإن بلغت أقصى المال فكفايةُ‬ ‫فصناعته تَ ْ‬
‫ن نُهنّئه بولية وإن جل‬ ‫سيدي توفي عليها إيفاء الشمسِ على النجوم‪ ،‬وترتفع عنها ارتفاع السماء على التخوم‪ .‬سيدي أرفع قَدْراً وأ ْنبَه ذِكرًا من أ ْ‬
‫ت قوسُ الوزارة باريها‪ ،‬وأضيفت إلى كُفئِها وكافيها‪ ،‬وفَسِخَ فيها شرْط الدنيا الفاسد في إهداء حظوظها إلى‬ ‫أمرُها وعظم َقدْرُها‪ .‬قد أعطِي ْ‬
‫ك مغبوطةٌ‬ ‫جبَاءِ أولدها‪ .‬الدنيا أعزّ ال الوزير مهنّأة بانحيازها إلى َرأْيه وتنفيذه‪ ،‬والممال ُ‬ ‫أوْغَادها‪ ،‬و ُنقِض بها حكمها الجائر في العدول بها عن نُ َ‬
‫ظيَتْ بما كانت الظنون به مبشّرة‪.‬‬ ‫حِ‬‫خبِرة‪ ،‬و َ‬ ‫باتصالها إلى أمره وتدبيره‪ .‬قد كانت الدنيا مستشرفةً لوزارته‪ ،‬إلى أنْ س ِعدَت بما كانت اليا ُم عنه مُ ْ‬
‫أنا أهنّئ الوزارة بإلقائها إلى فَضْلِه مقَادَتها‪ ،‬وبلوغِها في ظلّه إرادتها‪ ،‬وانحيازها من إيالته إلى واضحة الفخر‪ ،‬وتوشحها من كفايته بعزّة سائدةٍ‬
‫حسْرَة؛‬ ‫خيْبةِ‪ ،‬ويتساقطون في فضول ال َ‬ ‫على َوجْه الدهر‪ .‬الحمدُ لّ الذي أق ّر عين الفضل‪ ،‬ووطّأ ِمهَادَ المجد‪ ،‬وترك الحساد يتعثرون في ذيول ال َ‬
‫وأراني الوزارة وقد استكمل الشيخُ إجللها‪ ،‬ووفّى لها جمالها‪ :‬المتقارب‪:‬‬
‫ولم َيكُ َيصْلح إلّ َلهَا‬ ‫فلم تكُ تصلحُ إلّ لـهُ‬
‫ل أن تهنأَ إذا ُردّتْ إلى نظرِه الميمون‪،‬‬ ‫شمْسُ الدبِ برّا وبحراً‪ ،‬فسبيلُ العما ِ‬ ‫والقاضي عَلَم العلم شرقاً وغرباً‪ ،‬ونَجْم الفضل غَوْرًا و َنجْداً‪ ،‬و َ‬
‫وعُصِبت برأيه المأمون‪ .‬أسعد ال القاضي بما جدّ‪ ،‬له من رأي مولنا وارتضاه‪ ،‬واعتمده لجل أمر الشريعة وَأمْضَاه‪ ،‬وأَسعد المسلمين والدين‬
‫بما أصاره إليه‪ ،‬وجمع زمامه في يديه‪ .‬عرّف ال سيدي من سعادة عمله‪ ،‬أفضَلَ ما ترقّاه بأَمله‪ ،‬ولقاه من مناجح أمْرِه‪ ،‬أفضل ما انتحَاهُ بفكره‪.‬‬
‫خار ال له فيما تولّه‪ ،‬وتطوّقه‪ ،‬وبلّغه في كلّ حال أملَه وحقّقه‪ ،‬وعرفه من ُيمْنِ ما باشر تدبيره الخير والخِيرَة والبركات الحاضرة والمنتظرة‪،‬‬
‫سمَتْ لوالِي عمل‪ ،‬وأَسهم له أخصّ بركة ُأسْهمَت ل ُمسَامِي أمل‪،‬‬ ‫ل تَوَالِياً واتّصَالً‪ .‬أسعده ال أفضلَ سعادة ُق ِ‬ ‫وجعل المناجح إليه أرسالً‪ ،‬ل تم ّ‬

‫‪319‬‬
‫صمَة وأيده‪ ،‬وقَرنَه بالتوفيق ول أفرده‪ .‬هنأه ال تعالى الموهبة التي ساقَها إليه‪ ،‬ومدّ رِوَاقَها‬ ‫أحضر ال السداد عَ ْزمَه‪ ،‬والرشادَ همّة‪ ،‬وكنفه العِ ْ‬
‫سفِرة عن خصائص المراتب‪ ،‬وحلّت فيه محلّ الستحباب ل اليجاب‪ ،‬والستحقاق دون التفاق‪ .‬هنأ ال‬ ‫عليه؛ إذ كانت من عقائل المواهب‪ ،‬مُ ْ‬
‫نعمته الفضل الذِي الولية أصغر آلتها‪ ،‬والرياسة بعض صفاتِها‪.‬‬
‫ولهم في التهنئة بذكر ا ْلخِلَع والجبية‪ :‬أُهنئ سيدي مزيد ال ّر ْفعَة‪ ،‬وجديد الخِ ْلعَة‪ ،‬التي تَخْلَعُ قلوبَ المنازعين‪ ،‬واللواء الذي يلوي َأ ْيدِي المنابذين‪،‬‬
‫والحظّ الذي لو امتطاه إلى الفلك لحازَها‪ ،‬أو سَامَى به الجَوْزاء لجازَها‪ .‬بلغني خبرُ ما تطوعت به سماءُ المجد‪ ،‬وجادت به أَنواءُ الملك‪َ ،‬فصُنْ‬
‫ل منها ملبسَ‬ ‫من الخلع أَسناها‪ ،‬ومن المراكب أبهاها‪ ،‬ومن السيوفْ أَمضاها‪ ،‬ومن الفراس أجْرَاها‪ ،‬ومن القطاعات أنماها‪ .‬لبس خلعته متجَلّ ً‬
‫العِز‪ ،‬وامتطى فرسَه فارعًا به ذِرْوَة المجد‪ ،‬وتقلّد سيفه حاصدًا بحدّ طُلَى أعدائه وغَامِطِي نعمائه‪ ،‬واعتنق طوقه متطوّقا عزّ البد‪ ،‬واعتضد‬
‫صرِ ناطق‪ .‬قد لبس خلعته التي تعمد بها‬ ‫بالسوارين المو ِديَينِ بقوة الساعد والعَضُد‪ ،‬وسَاسَ أولياءَه ولواءُ العزّ عليه خافق‪ ،‬وهو بلسان الظّفَر والنّ ْ‬
‫لنَهُ الذي واصل به إحْسَانه‪ ،‬تمنطق بحُسامه الذي ظاهر أبواب إنعامه‪ ،‬وتختم بخاتميه‪ ،‬اللذين بسطا مِنْ يديه‪ ،‬ووق َع من‬ ‫حمْ َ‬
‫رفعته‪ ،‬وامتطى ُ‬
‫علَتْ من درجاته قد زرّرت عليه سماءُ الشرف عُرَى الخلعة‪ ،‬التي تتراءى صفحاتُ العزّ على أعطافها‪ ،‬وتمتَرِي مزايا المج ِد من‬ ‫دَوَاته‪ ،‬التي أ ْ‬
‫ستَخْذى حُلَى الثريا لحليته‪ ،‬والسيف والمنطقة الناطقان عن‬ ‫حمْلن الذي نتناول قاصيتي المنى من ناصيته‪ ،‬والمركب الذي تُ ْ‬ ‫أطرافها‪ ،‬وركب ال ُ‬
‫نهاية الكرام‪ ،‬الناظمان قلئد العظام‪ .‬خلع تخلع قلوب العداء من مَقَارّها‪ ،‬وتعمر نفوس الولياء بمسارّها‪ ،‬وسيف كالقضاء مَضاءً وحدّا‪،‬‬
‫ولواء يَخْفق قلوب المنازعين إذا خفق‪ ،‬وحملت تصدع منكب الدّهْ ِر إذَا انطلق‪.‬‬
‫غيْبَةُ المكارم مقرونةٌ‬
‫ولهم في التهنئة بالقدوم من سفر‪ :‬أُهنئ سيدي و َنفْسِي بما يَسّرَه ال من قدومه سالماً‪ ،‬وأشكره على ذلك شكراً قائماً؛ َ‬
‫بغيبتك‪ ،‬وأَ ْوبَةُ النعم موصولةً بأَوْبتك‪ ،‬فوصل ال تعالى قدومك من الكرامة‪ ،‬بأضعاف ما قَرَنَ به مسيرَك من السلمة‪ .‬وهناك أيامَك‪ ،‬وبلّغك‬
‫شمْلَ سروري بأ ْوبَتك‪ ،‬وسكّن نافِ َر قلبي بعودتك‪ ،‬فأسأل ال‬ ‫ت بالنية مسافراً‪ ،‬وباتّصال الذكر والفكر لك ملقياً‪ ،‬إلى أن جمع ال َ‬ ‫محَابّك‪ ،‬ما زِ ْل َ‬
‫أن يسعدك بمقدمك سعاد ًة تكون فيها بالقبال‪ُ ،‬مقَابلً‪ ،‬وبالماني ظافراً‪ ،‬ول أوحش منه أوطانَ الفضل‪ ،‬و ِربَاع المجد‪ ،‬بمنَه وكرمه‪.‬‬
‫من شعر الشعبي‬
‫قال ال َهيْثم بن عدي‪ :‬أنشدني مجالد بن سعيد شعراً أعجبني‪ ،‬فقلت‪ :‬من أنشدكه؟ قال‪ :‬كنا يومًا عند الشعبي فتناشدنا الشعرَ‪ ،‬فلما فرغنا قال‪ :‬أيّكم‬
‫ل مثلَ هذا‪ ،‬وأنشدنا‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫يحسن أن يقو َ‬
‫جهْل‬‫وما سرفاً مِ الن قلت ول َ‬ ‫ل َمهْـل‬‫خليلي‪ ،‬مهلً طالماً لم أق ْ‬
‫ت بها َمثْل؟‬‫فكيف مع اللتي ُمثِل ُ‬ ‫صبَا ابن الربعين سَـفَـاهةٌ‬ ‫وإن ِ‬
‫حبْنَ ال ُمهَذَبةَ الشُـحْـل‬
‫سَ‬ ‫بمكّة يَ ْ‬ ‫يقول ليَ المُفْتي وهُـنّ عَـشِـيةً‬

‫ج ملتمِسـاً َوصْـل‬ ‫وما خِ ْلتُني بالح ّ‬ ‫تَقِ ال ل تنظرْ إلـيهـنّ يا فـتـى‬


‫عرانينَهنّ الشّمّ والعينَ الـنّـجْـلَ‬ ‫فوالّ ل أنسى وإن شَطّتِ الـنّـوى‬
‫جَواعل في أوساطها قَصَبـاً خَـدْل‬ ‫ول المسكَ في أعرافهن ول البُـرى‬
‫ش ْيبَاتٍ طَـلَـعْـنَ ول أهـل‬ ‫لوّل َ‬ ‫ي ل وال ما قلـت مَـرحـبـاً‬ ‫خليل ّ‬
‫فما أحسن المَرْعَى وما أقبح ال َمحْل!‬ ‫خليليّ إنّ الشـيب داء كـرِهْـتـهُ‬
‫قال مجالد‪ :‬فكتبت الشعر‪ ،‬ثم قلنا للشعبي‪ :‬من يقوله؟ فسكت‪ ،‬فحسبنا أنه قائله‪.‬‬
‫باب الرثاء‬
‫ب إليه ‪ -‬مَرّ بقبره ثلثة نفر من أهل المدينة قادمين من‬ ‫ح َممَةَ الدّوْسِي ‪ -‬وكان أحد من تتحاكمُ العر ُ‬ ‫قال الشّرْقي بن القَطَامي‪ :‬لما مات عَمرو بن ُ‬
‫الشام؛ ال ِهدْم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد‪ ،‬وهو أبو كلثوم بن ال ِهدْم الذي نزل عليه النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعتيك بن قيس بن هَيشَة‬
‫بن أمية بن معاوية‪ .‬وحاطب بن قيس بن هيشة ابن معاوية‪ .‬وحاطب بن هيشة الذي كانت بسببه حرب حاطب‪ ،‬فعَقَروا رواحلهم على قبره‪ ،‬وقام‬
‫ال ِهدْم فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫عظيمَ َرمَادِ النا ِر مُـشْـتَـ َركَ الـقِـدْرِ‬ ‫لقد ضَـمّـتِ الثـرا ُء مـنـك مُـ َرزّأ‬
‫حمَى الجر‬ ‫ت كنتَ الَليْثَ تحمي ِ‬ ‫وإن صُلْ َ‬ ‫إذا قلتَ لـم تـتـرك مـقـالً لـقـائل‬
‫وقوفاً إذا كان الوقوفُ على الـجـمـر‬ ‫حليماً إذا مـا الـحِـلـ ُم كـان حَـزامَةً‬
‫ت ُيغْضي على الصّـغْـر‬ ‫وأصبح َلمّا مُ ّ‬ ‫ك مـن كـانـت حـياتُـك عِـزّه‬ ‫ليبكِـي َ‬
‫َأحَمّ الذرى واهي العُرى دائمُ القـطْـر‬ ‫جمُ‬
‫ض ذاتَ الطُول والعرض ُمثْ ِ‬ ‫سقى الر َ‬
‫َأضََلكَ في أحشائها مَلْـحَـدُ الـقـبْـر‬ ‫ن تُـ ْربَةً‬ ‫وما بِيَ سُـقْـيَا الرضِ لـكـ ّ‬
‫وقام عتيك بن قيس فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫طوَاكَ الردَى يا خيرَ حافٍ وناعلِ‬ ‫َ‬ ‫برَغْم العُلَ والجودِ والمجد والنّدى‬
‫َنهُوضاً بأعباء المور الثـاقـلِ‬ ‫ف الدهر منك مرَ َزأً‬ ‫لقد غالَ صَ ْر ُ‬
‫شعْبُ القبـائل‬ ‫كما ضَمّ ُأمّ الرأس َ‬ ‫يَضُمُ العُفَاةَ الطـارقـين فِـنَـاؤُهُ‬
‫ق الغياطل‬ ‫شفَ الصبحُ اطَرا َ‬ ‫كما كَ َ‬ ‫ويَسْرُو دُجَا ال َهيْجا مَضاءُ عـزيمةٍ‬
‫وإن كان جَرّارًا كثيرَ الصواهـل‬ ‫س َتهْزَمُ الجيشُ العَ َرمْ َرمُ باسمِـه‬ ‫ويُ ْ‬
‫َرمَ ْتكَ بها إحدى الدواهي الضآبل‬ ‫ت بـنـكْـبَةٍ‬‫صبْنا الحـادثـا ُ‬‫فإمّا تُ ِ‬
‫صرْفها غـيرُ وائل‬ ‫وكلّ فتى من َ‬ ‫ف مـواردٌ‬ ‫فل تَ ْب َعدَنْ إنّ الحـتـو َ‬
‫وقام حاطب بن قيس فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫تَحُومُ المعالي نـحـوه فـتُـسَـلّـمُ‬ ‫سلمٌ على القبر الذي ضمّ أَعْظُـمَـاً‬
‫وما امت ّد قِطْع من دُجَى الليل مُظْلِـمُ‬ ‫سلم عـلـيه كـلّـمـا ذَرّ شـا ِرقٌ‬

‫‪320‬‬
‫ث دائِمُ الـقَـطْـ ِر مُـرْ ِز ُم‬
‫عليك مُلِ ٌ‬ ‫فيا َقبْرَ عمرو جاد َأرْضًا َتعَطّـفَـتْ‬
‫ض ُمعْلَـمُ‬ ‫ض ّمنْتَ في الر ِ‬ ‫فأنت بما ُ‬ ‫تَض ّمنْتَ جسماً طـاب حَـيّا ومَـيّتـاً‬
‫عمْرِو الزدِ حَلّ التَـكَـرّمُ‬ ‫إلى قبر َ‬ ‫فلو نَطَ َقتْ أرضٌ لقـال تـرابُـهـا‬
‫وأحجارِه َبدْرٌ وَأضْـبَـطُ ضـ ْيغَـمُ‬ ‫ل بـين تُـرَابـه‬ ‫س قد حَـ ّ‬
‫إلى َم ْرمَ ٍ‬
‫ب مُظِْلمُ‬ ‫خطْ ُ‬ ‫طبِ وال َ‬ ‫فقد كنتَ نور الخَ ْ‬ ‫فل يُبْعـدِنْـكَ الـلـه حَـيّا ومَـيّتـاً‬
‫ج نـيّهـا مُـتَـهَـمّـمُ‬
‫حدابيرُ عُو ٌ‬ ‫حطّتْ إليه علـى الْـ َونَـا‬ ‫لعمرُ الذي ُ‬
‫وكان قـديمـاً ُركْـنُـهـا ل ُيهَـدّمُ‬ ‫لقد َهدّمَ العلـيا َء مـوتُـكَ جـانـبـاً‬
‫من كلم العراب‬

‫حمَام‪ ،‬وإذا تصافحوا‬ ‫قال الصمعي‪ :‬سمعت أعرابيًا يذكر قومه فقال‪ :‬كانوا إذا اصطفُوا تحت ال َقتَام‪ ،‬مطرت بينهم السّهام‪ ،‬بشؤبوب ال ِ‬
‫ب قِرْن عارِم قد أَحسنوا أدبه‪ ،‬وحَرْبٍ عبوس قد أضحكتها أَسنتهم‪ ،‬وخَطْب مُش َمئِز ذَللوا مناكبه‪،‬‬ ‫بالسيوف‪ ،‬فغرت أفواهها الحُتوف‪ ،‬فر ّ‬
‫عمَاس قد كشفوا ظُ ْلمَته بالصبر حتى تتجلى‪ .‬كانوا البحر ل يُنكَش غِماره‪ ،‬ول يُ َن ْهنَه تياره‪.‬‬ ‫ويوم َ‬
‫قال العتبي‪ :‬سئل أعرابي عن حاله عند موته فقال‪ :‬أجدني مأخوذاً بالنّقلة‪ ،‬محجوجاً بالمهلة‪ ،‬أُفارق ما جمعت‪ ،‬وأقدم على ما ض ّيعْت‪ ،‬فيا‬
‫حياتي من كريم قدّم المعذرة‪ ،‬وأَطال النظِرَة‪ ،‬إن لم يتداركني بالمغفرة‪ ،‬ثم قضى‪.‬‬
‫جهْده‪ ،‬وأخ ذُو نِيّة يقتص ُر بك على حسن نيته‪ ،‬دون‬ ‫وقال بعضُ الرواة‪ :‬كان يقال‪ :‬الخوان ثلثة؛ أخ يخلصُ لك ُودّه‪ ،‬ويبلغ لك في مهمّك ُ‬
‫ِرفْدِه ومعونته‪ ،‬وأخ يجاملك بلسانه‪ ،‬ويشتغل عنك بشأنه‪ ،‬ويوسِعك من كذبه بأيمانه‪.‬‬
‫قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي‪ :‬وقفت علينا أعرابية فقالت‪ :‬يا قوم‪ ،‬تعثر بنا الدهر‪ ،‬إذ قل منا الشكر‪ ،‬وفارقنا الغِنى‪ ،‬وحالفنا الفقر‪،‬‬
‫ن كَفَاف‪ ،‬وأَعان على عَفَاف‪.‬‬ ‫فرحم ال امرأ فهم بعقل‪ ،‬وأعطى من فَضْل‪ ،‬وواسَى مِ ْ‬
‫سائل في مسجد الكوفة‬
‫ل يتكلم عند صلةِ الظهر ثم عند العصر والمغرب‪ ،‬فلم ُيعْطَ شيئاً‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ت مسجد الجماعة بالكوفة‪ ،‬وقام سائ ٌ‬ ‫قال أبو بكر الحنفي‪ :‬حضر ُ‬
‫حتَك قائل‪ ،‬أنت كما قال‬ ‫اللهم إنك بحاجتي عالم غير معلّم‪ ،‬واس ٌع غير مكلّف‪ ،‬وأنت الذي ل يرزؤك نائل‪ ،‬ول يُحْفيك سائل‪ ،‬ول يبلغ ِمدْ َ‬
‫المُ ْثنُون‪ ،‬وفوق ما يقولون‪ ،‬أسألك صبرًا جميلً‪ ،‬وفرجاً قريباً‪ ،‬ونَصراً بالهدى‪ ،‬وقرّة عين فيما تحب وترضى‪ ،‬ثم ولّى لينصرف‪ ،‬فابتدره‬
‫س يعطونه‪ ،‬فلم يأخذ شيئاً‪ ،‬ثم مضى وهو يقول‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫النا ُ‬
‫عِوَضاً‪ ،‬ولو نال ال ِغنَى بسُؤَالِ‬ ‫ما اعتاض باذلُ وجهه بسؤالِه‬
‫من إنشاء بديع الزمان‬ ‫ل نَوَالِ‬ ‫رجَح السؤَال وخفّ ك ّ‬ ‫ل مع النوال وَزَنتهُ‬ ‫وإذا السؤا ُ‬
‫ومن مقامات السكندري إنشاء البديع‪ :‬حدثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬كنت في بلد الهواز‪ ،‬وقُصارايَ لفظة شرود أَصِيدها‪ ،‬أو كلمة بليغة‬
‫أَستفيدها؛ فَأدّانِي السير إلى ُر ْقعَ ٍة من البلد‪ ،‬فسيحة‪ ،‬وإذا هناك قومٌ مجتمعون على رجل يستمعون إليه وهو يخبط الرض بعصاً على‬
‫إيقاع ل يختلفُ‪ ،‬وعلمت أنّ مع اليقاع َلحْناً‪ ،‬ولم َأبْ ُعدْ لَنال من السماع حظاً‪ ،‬أو أسمع من البليغ َلفْظاً‪ ،‬فما زلت بالنظّارة‪ ،‬أَزحَم هذا‬
‫خذْروف‪،‬‬ ‫شمْلة من صوف‪ ،‬يَدُور كال ُ‬ ‫وأَدفع ذاك‪ ،‬حتى وصَ ْلتُ إلى الرجل‪ ،‬وصرفت الطرف منه إلى حُ ُزقّةٍ كالقَ ْرنَب‪ ،‬مكفوف في َ‬
‫غنِج‪ ،‬ولفظٍ َهزِج‪ ،‬من صدرٍ حَرِج‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬ ‫ل منه‪ ،‬معتمِداً على عصاَ فيها جلجل‪ ،‬يَضْرِبُ الرض بها على إيقاعٍ َ‬ ‫مُتب ْرنِساً بَأطْوَ َ‬
‫الرجز‪:‬‬
‫وطالبتني طَلَتي بالمَـهْـرِ‬ ‫ظهْـري‬ ‫يا قو ُم قد أَثقل دَيني َ‬
‫ف فَـقْـرِ‬‫ن قَفْر وحلي َ‬ ‫ساك َ‬ ‫ت من بعد غنًى و َوفْرِ‬ ‫صبَح ُ‬ ‫َأ ْ‬
‫يُعينني على صُروفِ الدهر‬ ‫يا قو ُم هل بينك ُم مـن حُـرّ‬
‫ستْرِ‬‫ت عني ذيولُ ال ّ‬ ‫وانكشفَ ْ‬ ‫صبْرِي‬ ‫يا قو ُم قد عِيل ب َفقْرِي َ‬
‫ما كان لي من فضّة و ِتبْـر‬ ‫ض ذا الدهرُ بأيدي ال َبتْـر‬ ‫و َف ّ‬
‫ل قدَرٍ وصغـي َر قِـدْرِ‬ ‫خام َ‬ ‫آوِي إلى بيت كقيدِ الشّـبْـرِ‬
‫سرَة بـيُسْـرِ‬ ‫أعقبني من عُ ْ‬ ‫ل بـخـيرٍ أمـري‬ ‫لو ختم ا ُ‬
‫محتسب فِيّ عظيم الجـر؟‬ ‫جرِ‬‫هل من فتى فيكم كريم النّ ْ‬
‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فرقّ‬ ‫إن لم يكن مغتنماً للشكـر‬
‫له والّ قلبي‪ ،‬واغرورقت عيني‪ ،‬وما لبثت أن أعطيته ديناراً كان معي‪ ،‬فأنشأ يقول‪ :‬الرجز‪:‬‬
‫معشوقة منقـوش ٌة قَـوْرَاءُ‬ ‫سنَها فاقِـعَةٌ صـفـراءُ‬ ‫يا حُ ْ‬
‫قد أَثم َرتْها هِـمّةٌ عَـلْـياءُ‬ ‫ن يَقْطُر منها الـمـاءُ‬ ‫يكاد أَ ْ‬
‫يصرفه فيه كـمـا يَشـاء‬ ‫س فتًى يملِكهُ الـسّـخَـاءُ‬ ‫نَ ْف ُ‬
‫ما يتقصّى َقدْرَك الطْـرَاءُ‬ ‫يا ذا الذي يعنيه ذَا الثـنـاءُ‬
‫فامْضِ على ال لكَ الجزاء‬

‫‪321‬‬
‫ورحم ال من شدّها في قَرَن بمثلها‪ ،‬وآنسها بأُختها‪ ،‬فناله الناس ما نالوه‪ ،‬ثم فارقهم وتبعتُه‪ ،‬وعلمتُ أنه متعامٍ لسرعة ما عرَف الدينار‪،‬‬
‫حدَرت‬ ‫ستْرك؛ فكشف عن توَْأمَتي لوْزاْ‪ ،‬و َ‬
‫ل لترينّي سِرّك‪ ،‬أو لكشفنّ ِ‬ ‫ضدَيه‪ ،‬وقلت‪ :‬وا ّ‬
‫ت يمْناي إلى يسرى عَ ُ‬ ‫خلْوة مدد ُ‬ ‫فلمّا نظمَ ْتنَا َ‬
‫لثامه؛ فإذا هو والّ شيخنا أبو الفتح السكندري‪ ،‬فقلت‪ :‬أنت أبو الفتح؟ فقال‪ :‬ل‪ :‬المجتث‬
‫ن أكُـونُ‬ ‫في كلّ لَوْ ٍ‬ ‫أنا أبـو قَـلَـمُـونٍ‬
‫ك دُونُ‬ ‫ن دَهْــ َر َ‬ ‫فإ ّ‬ ‫ختَ ْر من الكسب دُوناً‬ ‫اْ‬
‫إن الزمان زَبـونُ‬ ‫حمْـقٍ‬ ‫زَجّ الزمان ب ُ‬
‫من شعر كشاجم‬ ‫ما العقلُ إل الجنونُ‬ ‫ل تُخدَعَنّ بـعَـقْـل‬
‫وقال أبو الفتح كشاجم‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫حتى تحدّ َر دَ ْمعُها المتـعَـلَـقُ‬ ‫ق يغْلِبُ صَبرَها‬ ‫ما زال حرّ الشو ِ‬
‫ط تُؤَثرُ ُه الدموعُ الـسّـبّـقُ‬ ‫خَ ّ‬ ‫وجرى من الكحْل السحيق بخدّها‬
‫وقال‪ :‬السريع‪:‬‬ ‫حرَقُ‬ ‫ض مُ ْ‬ ‫ب وبع ٌ‬ ‫في بعضه ذَه ٌ‬ ‫جرَى الدمع حِلْي ُة فـضّة‬ ‫ن مَ ْ‬ ‫فكأ ّ‬
‫من قُبلةٍ في إثرها عَضّـهْ‬ ‫ما لذّة أكملُ في طـيبـهـا‬
‫من ذَهبٍ أُجرِيَ في فضّهْ‬ ‫كأنما تـأثـيرهـا لـمْـعَةٌ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ْ‬
‫ه‬ ‫ض‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ع‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫َى‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫بال‬ ‫ِي‬ ‫ض‬ ‫َع‬
‫ب‬ ‫َق‬‫ش‬ ‫ْ‬
‫ع‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫ٍ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫شـا‬ ‫ستُها بالكُ ْر ِه مـن‬ ‫خَلَ ْ‬
‫عقَد الخلصِ‪ ،‬والح ّر ُيمْدَحُ‬ ‫له ُ‬ ‫ن َمدْحِي له إن تأكّـدتْ‬ ‫ومستهج ٍ‬
‫وقال‪ :‬الكامل‪:‬‬ ‫وكلّ إنا ٍء بالـذي فـيه يَ ْرشَـح‬ ‫و َيأْبى الذي في القلب إلّ تبيّنـا‬
‫صدّق‬ ‫فالناس بين مكذّب ومُ َ‬ ‫ظمٍ مقبورة‬ ‫وإذا افتخرتَ بأَع ُ‬
‫وقال‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫جدٍ للقديم محـقّـقِ‬ ‫ث مَ ْ‬ ‫بحدي ِ‬ ‫فَأقِ ْم لنفسك في انتسابك شاهداً‬
‫و ُمتْبع البِرّ والحْسانِ إحسانـا‬ ‫سدِيَ العُرْفِ إسراراً وإعلناً‬ ‫يا مُ ْ‬
‫هذا مولد من قول أبي‬ ‫ما َأدْمَنَ ال َغيْثُ إل كانَ طُوفَانا‬ ‫َأقْلِع سحابَك قد غَ ّر ْقتَني نِعَـمـاً‬
‫نواس‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫البحتري‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫َفا‬‫ل‬ ‫َ‬
‫س‬ ‫ما‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ك‬ ‫ش‬
‫ُ‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫أقو‬ ‫حتى‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫عـار‬ ‫س ِديَنَ إلـيّ‬‫ل تُ ْ‬
‫وربما ضَرّ في إلْحَاحِه المَطَرُ‬ ‫أَلحّ جُوداً ولم َتضْرُرْ سحا ِئبُـهُ‬
‫خذَ على ذي الرمة‬ ‫وقد أُ ِ‬ ‫حتَفَـرُ‬ ‫إن الغَما َم قَليبٌ ليس ُي ْ‬ ‫شمْنا السؤالَ لها‬ ‫ب ما تَجَ ّ‬ ‫مواه ٌ‬
‫قولُه‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫قالوا‪ :‬وأحسن منه قول‬ ‫ر‬
‫ُ‬ ‫ط‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ال‬ ‫ِك‬ ‫ئ‬ ‫َا‬‫ع‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ج‬ ‫ب‬ ‫ً‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫ه‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫زال‬ ‫ول‬ ‫َى‬ ‫ل‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫ال‬ ‫على‬ ‫ي‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫دار‬ ‫يا‬ ‫أل يا اسلمي‬
‫طرفة‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫وقد تحرز ذو الرمة مما‬ ‫ْمي‬ ‫ه‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫ة‬ ‫وديم‬ ‫الربيع‬ ‫ب‬
‫ُ‬ ‫صو‬ ‫ِها‪،‬‬ ‫د‬‫س‬‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ي‬ ‫غ‬
‫َ‬ ‫سقَى ديارَك‪،‬‬ ‫فَ َ‬
‫تؤول عليه بالسلمة في أول البيت‪.‬‬
‫وقال كشاجم‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫خنْدَرِيسُ؟‬ ‫صحُو وريقُك َ‬ ‫متى تَ ْ‬ ‫أَيا نَشْوان من خمـ ٍر بِـفـيهِ‬
‫ألحّ عليه بالكاس الْجَـلِـيسُ‬ ‫أرى بك ما أراه بِذي انتشـاءٍ‬
‫وقال‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫س‬
‫ُ‬ ‫تـمـي‬ ‫ف‬
‫ٌ‬ ‫َعطا‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ّضه‬ ‫ر‬ ‫ُم‬‫ت‬ ‫جنَةٍ وفتـورُ لَـحْـظٍ‬ ‫تو ّردُ وَ ْ‬
‫وينقصه حتى نَ َقصْتُ عن النقـصِ‬ ‫حبّهـا‬ ‫ل َيبْرِي جملةَ الجسم ُ‬ ‫وما زا َ‬
‫الرجوع إلى الرئيس بعد‬ ‫أمِنتُ عليها أن يَرَى أهْلُها شَخْصِي‬ ‫صرْتُ إنْ أنا ز ْرتُها‬ ‫وقد ذُبْتُ حتى ِ‬
‫تجربة غيره‬
‫ت عنك‪،‬‬‫كتب ابن مكرم إلى بعض الرؤساء‪َ :‬نبَتْ بي غرّةُ الحداثة‪ ،‬فردّتني إليك التجربة‪ ،‬وقا َدتْني الضرورة‪ ،‬ثِقةً بإسراعك إليّ وإن أَبطأْ ُ‬
‫وقبولك العذرَ‪ ،‬وإن قصرتُ عن واجبك‪ ،‬وإن كانت ذنوبي سدّتْ عليّ مسالكَ الصفح عني‪ ،‬فراجِعْ فيّ مجدك وسؤددك‪ ،‬وإني ل أعرف‬
‫موقفاً أذل من موقفي‪ ،‬لول أنّ المخاطبة فيه لك‪ ،‬ول خطّة أدنى من خُطّتي‪ ،‬لول أنها في طلب رِضاك‪.‬‬
‫ف من ذلك‪:‬‬ ‫س منه قديماً وحديثاً وسأفيض في طر ٍ‬ ‫وهذا المعنى الذي ذهب إليه من الرجوع إلى الرئيس بعد تجربة غيره قد أكثر النا ُ‬

‫جبَلَة بن عدي بن‬‫وأنشد أبو عبيدة لزياد بن منقذ الحنظلي‪ ،‬وهو أخو المرار ال َعدَوي‪ ،‬نسب إلى أمة العدوية‪ ،‬وهي ُفكَيهة بنت تميم بن الدّوَل بن َ‬
‫ص ْنعَاء فاجتواها‬
‫عبد مناة بن أُد بن طابخة؛ فولدت لمالك بن حنظلة عديّا ويربوعاً؛ فهؤلء من ولده يقال لهم بنو‪ ،‬ال َعدَوّية‪ ،‬وكان زيادٌ نزل ب َ‬
‫ومنزله بنجد‪ ،‬فقال في ذلك قصيدة يقول فيها وذكَ َر قومه‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫خدَمُ‬
‫وفي الرحال إذا صاح ْب َتهُمْ َ‬ ‫خدّمون ثِقَالٌ في مجالسـهـمْ‬ ‫مُ َ‬
‫إل يزيدهمُ حـبّـا إلـيّ هُـمُ‬ ‫خبِـرَهـمْ‬
‫ق بعدهُم حيّا فُأ ْ‬
‫لم َألْ َ‬
‫وأراه أول من استثار هذا المعنى‪.‬‬
‫وكان ابنُ أبي عَرادة السعدي مع سلم بن زياد بخراسان وكان له مكرِمًا فتركه وصحب غيره فلم يحمَد أمره‪ ،‬فرجع إليه‪ ،‬فقال‪ :‬الطويل‪:‬‬

‫‪322‬‬
‫وج ّربْتُ أقْوامًا بكيتُ على سَ ْل ِم‬ ‫عتبتُ على سلمٍ فلما فـقـدتُـه‬
‫فكان َكبُ ْرءٍ بعد طولٍ من السقْمِ‬ ‫ت إليه بعد تجريبِ غـيره‬ ‫رجع ُ‬
‫وقال مسلم بن الوليد‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫حياةٌ لـلـمـكـارِم والـــمَـــعَـــالِـــي‬ ‫حياتـك يا ابْـنَ ســعـــدان بـــن يَحْـــيَى‬
‫ونَـفْـسُ الـشـكـرِ مـطـلـقةُ الـعِــقَـــالِ‬ ‫جلـبـت لـك الـثـنـا َء فـجــاء عَـــفْـــواً‬
‫ت بيدِياري عنك تجربةَ الرجالِ‬ ‫وترجعني إليكَ وإن نََأ ْ‬
‫وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد المبرد للبحتري‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫مذمم ًة فيما لديه المطـالِـبُ‬ ‫أخٌ لك عاداه الزمان فأصبحت‬
‫من الناس تردُدْ ُه إليك التجاربُ‬ ‫متى ما تذوّقه التجاربُ صاحباً‬
‫وأنشد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫لكل امرئ قَاسَى المور وجَرّبا‬ ‫حياةُ أبي العباس زَين‪ ،‬لقومـه‬
‫ع َتبَا‬
‫َل ُكنّا على الباقي من الناس أَ ْ‬ ‫ونعتِبُ أحياناً عليه ولو مَضَـى‬
‫ت أنشدتني لجرير‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫قال الصولي‪ :‬جرى ذِكْرُ المكتفي بحضرة الراضي فأطريته وأكثرتُ الثناء عليه‪ ،‬فقال لي‪ :‬يا صولي‪ ،‬كن َ‬
‫بعينيك من زيد َقذًى ليس َيبْرحُ‬ ‫أُسَلّيكَ عن زيد لتسلى‪ ،‬وقد أرى‬
‫فقلت‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪ ،‬مَن شكر القليل كان للكثير أشدّ شكراً‪ ،‬وأعظم ذكراً‪ ،‬فأَين أَنا لك من المكتفي؟ فأنشدته للطائي‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫َلمّا جرى وجريت كان قَـطـوفـا‬ ‫كم من وَساعٍ الجُودِ عنديَ والـنّـدَى‬
‫مثلَ الربيع حَـيّا وكـان خـريفـا‬ ‫أحسنتُما صَفدِي‪ ،‬ولكن كـنـتَ لـي‬
‫في الذّروة العـلـيا وجـاءَ َردِيفـا‬ ‫لكُما ا ْق َتعَدَ العُلَ فـركـبْـتَـهـا‬
‫وكِ َ‬
‫َك ِبدُ الزمان علـيّ كـنـتَ رَؤوفـا‬ ‫ضتَ‪ ،‬وإن قَسَتْ‬ ‫ن فِ ْ‬‫إن غاض ماءُ الز ِ‬
‫وكان المكتفي أول من نادمه الصولي‪ ،‬واختلط به‪.‬‬
‫ي بن المعتضد المكتفي بال‪ ،‬وكان سبب اتصاله به وانقطاعه‬ ‫ولم يَلِ الخلفة أحد اسمه عليّ إل عليّ بن أبي طالب‪ ،‬رضي ال تعالى عنه‪ ،‬وعل ّ‬
‫ل يعرف بمحمد بن أحمد الماوردي نزع إلى المكتفي بالرّفة‪ ،‬وكان ألعبَ الناس بالشطرنج‪ ،‬فلمّا تدم عليه بغداد وهو خليفة قال‪ :‬يا‬ ‫إليه أنَ رج ً‬
‫أمير المؤمنين‪ ،‬أنا أعلم الناس بهذه الصناعة‪ ،‬فأقطعني ما كان للرازي الشطرنجي؛ فغاظ ذلك المكتفي‪ ،‬وندب له الصولي فلم يُرَ معه الماوردي‬
‫شيئاً‪ .‬فقال له المكتفي‪ :‬صار ماء وردك بَ ْولً‪ ،‬قال الصولي‪ :‬فأقبل المكتفي عليّ ورتّبني في الجلساء‪ ،‬فحجبت يومًا عنه‪ ،‬واتصل بي أن خصمي‬
‫شمّت بي‪ ،‬فكتبت قصيدة للمكتفي أقول فيها‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫جبُ‬ ‫َلمّا رأوْني دون غيريَ ُأحْ َ‬ ‫قد ساء ظنّ الناس بي وتنكّروا‬
‫دوني فإني عن قريب أُغْلَبُ‬ ‫إن كان غ ْلبِيه ُيقَـرّبُ أَمـرهُ‬
‫ت في خدمته‪.‬‬ ‫ج ُ‬ ‫فضحك‪ ،‬وأمر لي بمائتي دينار‪ ،‬واندر ْ‬
‫ما قيل في بيعة يزيد بن معاوية‬
‫اجتمعت وفودُ العرب عند معاوية رحمهُ ال تعالى‪ ،‬وكان إذا أراد أن يفعل شيئاً ألقى منه ذَرْءاً إلى الناس‪ ،‬فإذا امتنعوا كفّ‪ ،‬وإن رَضُوا‬
‫أمضى‪ ،‬فعرض ببيعة يزيد‪ ،‬فقامت خطباء معدّ فشقّقوا الكلم‪ ،‬وأطنبوا في الخطاب‪ ،‬فوثب شاب من غَسّان قابضاً على قائم سيفه‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير‬
‫حيْفَ في حكم السيف‪ ،‬وبعد النسيم الهَيف؛ فإنّ هؤلء عجزوا عن الصّيال‪ ،‬فعوّلوا على المَقَال‪ ،‬ونحن القاتلون إذا صُ ْلنَا‪،‬‬ ‫المؤمنين‪ ،‬إنّ ال َ‬
‫صدِ أقمْناه‪ ،‬ومن قال بغير الحقّ و َق ْمنَاه‪ ،‬فلينظر ناظرٌ إلى موطئ َقدَمه‪ ،‬قبل أن َتدْحض ف َيهْوِي هوِيّ الحجر‬ ‫والمعجبون إذا قلنا‪ ،‬فمن مال عن ال َق ْ‬
‫من رأس النّيق؛ فتفرق الناس عن قوله‪ ،‬و َنسُوا ما كانوا فيه من الخطب‪.‬‬
‫القدام‬
‫وقال المهلّب يوماً لجلسائه‪ :‬أراكم تعنّفونني في القدام‪ ،‬قالوا له‪ :‬إي والّ‪ ،‬إنك لسَقوط بنفسك في المهالك‪ ،‬قال‪ :‬إليكم عني! فوالّ لول أن آتي‬
‫حمَام المُرّي‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫حصَين بن ال ُ‬ ‫حبّه‪ ،‬إنما آتِيه من ُبغْضِه‪ ،‬ثم تمثّل بقول ال ُ‬ ‫الموت مسترسلً‪ ،‬لتانِي مستعجلً؛ إني لستُ آتي الموتَ من ُ‬
‫لنفسي حياة مثلَ أن أتقدّمـا‬ ‫جدْ‬
‫تأخّرْتُ أستبقي الحياة فلم أ ِ‬
‫ومن هذا أخذ أبو الطيب المتنبي قوله‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫صبّـا‬‫حريصًا عليها مُسْتهاماً بها َ‬ ‫أرى كُلّنا َيهْوي الحياةَ لنـفـسِـه‬
‫وحُبّ الشجاعِ النفسَ أورده الحَربَا‬ ‫فَحُبّ الجبانِ النّفْسَ َأوْ َردَهُ التّقَـى‬
‫وقال أبو دُلَف‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ف آثـارِي وأيّامِـي‬ ‫والخيلُ تعر ُ‬ ‫حكُ عن كَرّي وإ ْقدَامي‬ ‫ضَ‬‫ب تَ ْ‬‫الحر ُ‬
‫وهمَتي مِقَةُ التفضيل لِـلْـهَـامِ‬ ‫سيْفِي مُدَامِي‪ ،‬و َر ْيحَاني مثقفتـي‪،‬‬ ‫َ‬
‫َأ ْمضَى وَأشْجَع مني يوم إقدامـي‬ ‫وقد تجرّد لي بالحسن مـنـفـرداً‬
‫جسمي فأصبح جسمي َربْعَ أسقامِ‬ ‫سلّت لواحظُه سيفَ السّقامِ علـى‬
‫من أخبار أبي دلف وشعره‬
‫وكان أبو دلف شاعرًا مجيداً‪ ،‬وجواداً كريماً جامعاً للت الدبِ والظرف‪ ،‬وله شعرٌ يد في كل فن‪ ،‬وهو القائل‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫سدِ الجَبانِ‬ ‫محل الروحِ من جَ َ‬ ‫جنَان؛ فأنتِ مـنـي‬ ‫أحبّك يا َ‬
‫ت عليكِ بادِرَةَ الزمـانِ‬ ‫َلخِ ْف ُ‬ ‫ولو أني أقول‪ :‬مكان روحي‬
‫طعَـانِ‬‫وهاب كُما ُتهَا حَرّ ال ّ‬ ‫لقدامي إذ ما الخيلُ جالَـتْ‬

‫‪323‬‬
‫وكان يتعشق جارية ببغداد فإذا شخَصَ إلى الحضرة زارها‪ ،‬فركب في بعض َقدَماته إليها‪ ،‬فلما صار بالجسر مشَى على طرف طيلسان بعض‬
‫المارين‪ ،‬فخرقه‪ ،‬فأخذ بعِنانه‪ ،‬وقال‪ :‬يا أبا دلف‪ ،‬ليست هذه كرخك‪ ،‬هذه مدينة السلم‪ ،‬الذئب والشاة بها في مَربَع واحد! فثنى عنانه متوجهاً إلى‬
‫الكرخ‪ ،‬وكتب إلى الجارية‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫ي ثِـقَـالُ‬
‫وهمو ٌم أتَتْ عـلـ ّ‬ ‫طعَتْ عن لقائك الشـغـالُ‬ ‫قَ َ‬
‫قوم حتى تـنـالَـه النـذالُ‬ ‫في بلد ُيهَان فيها عـزيزُ ال‬
‫م ول لل ُكمَا ِة فيهـا مـجـالُ‬ ‫حيث ل مدفعٌ بسيفٍ عن الضّي‬
‫ن إذا أمكن الرحيلُ مـحـالُ‬ ‫ومقام العزيز في بَلـد الـهـو‬
‫خ أقمتم وحان مِنّا ارتـحـالُ‬ ‫ظ ْبيَة الـكَـرْ‬
‫فعليك السلم يا َ‬
‫جيْب‪ ،‬أسداً عاتياً‪،‬‬ ‫غيْب‪ ،‬نصيح َ‬ ‫ودخل أبو دلف على المأمون بعد الرّضا عنه‪ ،‬فسأله عن عبد ال بن طاهر‪ ،‬فقال‪ :‬خلّفتُه يا أمي َر المؤمنين أمين َ‬
‫ج ِتكَ‪ ،‬قد فقّهه الحَزْم‪،‬‬
‫صدِ مح ّ‬‫شقَى به عدوك‪ ،‬رَحْبَ الفِناء لهل طاعتك‪ ،‬ذا بأس شديد لمن زاغ عن قَ ْ‬ ‫قائماً على بَرَاثنِه‪ ،‬يسعد به وليّك‪ ،‬ويَ ْ‬
‫وأيقظَه العَزْم‪ ،‬فقام في نحر المور على ساق التشمير‪ُ ،‬يبْرِمها بَأيْدِه و َكيْدِه‪ ،‬ويفلّها بحدّه وجدّه؛ وما أشبهه في الحرب إل بقول العباس بن‬
‫مرداس‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫حتْفِي كان فيها أَمْ سوَاها‬ ‫َأ َ‬ ‫أكرّ على الكتيبة ل أُبالي‬
‫ن بالجبل قوماً أمجاداً‪ ،‬كرامًا أنجاداً‪ ،‬وإنهم ليوفُونَ السيفَ حظه يوم النّزال‪ ،‬والكلم حقه‬ ‫جبَِليّيتهِ! فقال المأمون‪ :‬وإ ّ‬ ‫فقال قائل‪ :‬ما أفصحه على َ‬
‫يوم المقال‪ ،‬وإن أبا دلف منهم‪.‬‬
‫من إنشاء الميكالي‬
‫فصل لبي الفضل الميكالي من كتاب تعزية عن أبي العباس بن المام أبي الطيب‪:‬‬
‫ضعُفُ عن احتمالها‬ ‫لئن كانت الرزيّة بمصيب ٍة مُؤلمة‪ ،‬وطُرُقُ العزاء والسّلْوة مبهمة‪ ،‬لقد حلّت بساح ِة من ل تُنت َقضُ بأمثالها مرَائِرُه‪ ،‬ول تَ ْ‬
‫ن من عنده‬ ‫ب الدي ِ‬
‫بصائِرُه‪ ،‬بل يتلقّاها بصَد ٍر فسيح يَحْمي أن يَ ْفتَحَ الحزنُ بابه‪ ،‬وصبرٍ مشيح يحمي أن يُحْبطَ الجزعُ أجره وثوابَه‪ ،‬ولم ل وآدا ُ‬
‫سنَنه‪ ،‬وتأخ َذ بآدابه وسُننه‪ ،‬فإن َتعَزّت‬ ‫ن ترمُقُه في هذه الحال لتجريَ على َ‬ ‫تُلتمس‪ ،‬وأحكامُ الشرع من َبنَانِه ولسانه تستفاد و ُتقْتبس؟ والعيو ُ‬
‫سنَت الفعال فإلى حميدِ أفعاله ومذاهبه اعتزاؤُها‪.‬‬ ‫حسْنِ تماسكه عزاؤها‪ ،‬وإن ح ُ‬ ‫القلوب فب ُ‬
‫ق الثناء والنَشْر‪ ،‬يتجمل به أهل‬ ‫عبِ َ‬
‫وله من تعزية إلى أبي عمرو البحتري‪ :‬قدَس ال رُوحَه‪ ،‬وسقى ضريحه؛ فلقد عاش نبيه الذكْر‪ ،‬جليلَ ال َقدْرِ‪َ ،‬‬
‫بلده‪ ،‬ويتباهَى بمكانه ذوو مو ّدتِه‪ ،‬ويفتخر الثَرُ وحاملوه بتراخي بقائه و ُم ّدتِه‪ ،‬حتى إذا تسنّم ذِرْوَة الفضائل والمناقب‪ ،‬وظهرت محاسنُه‬
‫كالنجوم الثواقب‪ ،‬اختطفته يا ال ِم ْقدَار‪ ،‬و ُمحِيَ أثره بين الثار‪ ،‬فالفضل خاشعُ الطّرْفِ لفَ ْقدِه‪ ،‬والكَ َرمُ خالي ال ّربْع من بعده‪ ،‬والحديثُ يندبُ حَافِظَه‬
‫ن العهد يبكي كافله وحارسه‪.‬‬ ‫ودَارِسَه‪ ،‬وحُسْ ُ‬
‫وله‪ :‬فأمّا الشكرُ الذي أعارني رداءَه‪ ،‬وقلَدني طَ ْوقَه وسناءَه؛ فهيهات أن ينتسب إلّ إلى عادات فَضْله وإفضاله‪ ،‬ول يسير إل تحت رايات عُرفه‬
‫سعِي عن حقوق مكارِمه‬ ‫طرَازه‪ ،‬واسم له حقيقته ولسواء مجازه‪ ،‬ولو أنه حين ملك رقّي بأياديه‪ ،‬وأعجز وُ ْ‬ ‫ونَوَاله‪ ،‬وهو ثوب ل يحلّى إل بذكره ِ‬
‫طمَع‪ ،‬ونهضت فيه ولو على‬ ‫ومساعيه‪ ،‬خلّى لي مذهبَ الشكر ومَيدَانه‪ ،‬ولم يجاذبني زِمامَه وعنَانه‪ ،‬لتعلّقْت عن بلوغ بعض الواجب بعُروَة َ‬
‫وَهن وظَلع‪ ،‬ولكنه يَأبئ إل أن يستولي على أَمدِ الفضائل‪ ،‬ويتسنّم ذرَا الغوارب منها والكواهل‪ ،‬فل َيدَع في المجد غايَةَ إل يسبق إليها فارطاً‪،‬‬
‫ف من سوَاهُ عنها حسيراً ساقطاً‪ ،‬لتكون المعالي بأسرها مجموعة في ملكِه‪ ،‬منظومةً في سِلكه‪ ،‬خالصةً له من دعوى القسيم وشِركِه‪.‬‬ ‫ويُخلّ ُ‬
‫ضرّة لزهرِ الربيع‪ ،‬موفية بحُسْنِ الخطّ‬ ‫وله فصل من كتاب إلى أبي سعيد بن خلف الهمذاني‪ :‬فأمّا التّحْفَةُ التي شَفعها بكتابه فقد وصلت‪ ،‬فكانت َ‬
‫على الوَشْي الصنيع‪ ،‬وليس يه َتدِي لمثل هذه اللطائف في مبرة الخوان‪ ،‬إل من ُيعَ ّد من أفراد القران‪ ،‬ول يرضَى من نفسه في إقامة شعائِر‬
‫ل يمتّعه بما منَحَ ُه من خصائص هي في آذَان الزمان شنوف‪ ،‬وفي جِيده عقد مرصوف‪.‬‬ ‫البرّ دون القران‪ ،‬وا ّ‬
‫الخريمي يعاتب الوليد بن أبان‬
‫وقاد أبو يعقوب الخريمي يعاتب الوليد بن أَبان‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وكنت امرًأ ذا إرْبةٍ مـتـجـمّـلَ؟‬ ‫أتعجَبُ مني إن صبرت علـى الذى‬
‫ق مَفْـصِـل‬ ‫طأْت للح ّ‬ ‫رأيت‪ ،‬ول أخ َ‬ ‫فإني بحمـدِ الـلـه ل رَأْيَ عـاجـزٍ‬
‫سوى الحلم والغضاء خيراً وأفْضلَ‬ ‫ولكن تدبّرتُ الُمـورَ؛ فـلـم َأجِـدْ‬
‫وعهـ ٌد أبَـتْ أركـانـه أن تَـزيّل‬ ‫وأُقسم لول سـالِـفُ الـو ّد بـينـنـا‬
‫وأوليتنيها مُـنْـعِـمـًا مُـتَـطَـوَل‬ ‫وأيامُك الغرّ اللـواتـي تـقـ ّدمَـتْ‬
‫إلى البعد ما ألفيت في الرض َم ْعمَل‬ ‫رحلْتُ قلوصَ الهَجْرِ ثم اقتعـ ْدتُـهـا‬
‫ولم ترنِي لول الـهـوَى مـتـذلّـل‬ ‫ت نفسي والكرامةُ حـظّـهـا‬ ‫وأكْ َرمْ ُ‬
‫ُيعِينُ إذا ما الهَمّ بالمـرء أَعْـضَـلَ‬ ‫صبَا َأ ْبتَغِي أخـاً‬ ‫وعارضت أطراف ال ّ‬
‫إذا الحرّ بالمجدِ ارتدَى وتَـسَـ ْربَـلَ‬ ‫أخاً كأبي عمرو وَأنّـس بـمـثـلِـه‬
‫ب مُفْضِل‬ ‫جزْلَ المَواه ِ‬ ‫جَزَى صاحباً َ‬ ‫جزى ال عثمانَ الخُرَيمِيّ خـي َر مـا‬
‫صفاءً وإن أُدبـرتُ حَـنّ وأقـبـل‬ ‫أخاً كان إن أقبلـتُ بـالـودّ زادنـي‬
‫يخوّفني العدا ُء منـه الـتـنـقّـل‬ ‫أخاً لم يخنّي في الـحـياة ولـم أبِـتْ‬
‫ضبَة تأْبى بأنْ تـتـخَـلْـخَـل‬ ‫به هَ ْ‬ ‫إذا حاولو ُه بـالـسـعـاية حـاولـوا‬
‫ب دوني الزاعبي الـمـؤَلّـل‬ ‫ويرك ُ‬ ‫يحكّمنـي فـي مـالـه ولـسـانـهِ‬

‫ث ممّا كان أَعْطَى وأجزل‬‫وأَوْرَ َ‬ ‫كفى جفوةَ الخوانِ طولَ حياتـه‬


‫ولم أقْلِه طولَ الحياة ومـا قَـلَ‬ ‫وبات حميداً لم يكدّر صـنـيعَـهُ‬

‫‪324‬‬
‫خبّ وهَ ْر َولَ‬
‫نَصوراً إذا ما الشّرّ َ‬ ‫وكنت أخًا لو دام عهدُك واصـلً‬
‫تراني شُجاعًا بين عينيك مُقْبـل‬ ‫فغيّرك الواشون حتى كـأنـمـا‬
‫أبو يعقوب الخُريمي‬
‫وأبو يعقوب هذا إسحاق بن حسان‪ ،‬قال المبرد‪ :‬كان أبو يعقوب جميل الشعر‪ ،‬مقبولً عند الكتّاب‪ ،‬وله كل ٌم قوي‪ ،‬و َمذْهَبٌ متوسّط‪ ،‬وكان يرجع‬
‫خرَيم المري الذي يقال له خُريم الناعم‪ ،‬وكان أبو‬ ‫صغْد‪ ،‬وكان له ول في غطفان‪ ،‬وكان اتصالُه بموله أبي عثمان بن ُ‬ ‫إلى نسب كريمٍ في ال ّ‬
‫خرَيم عن َلذّة الدنيا‪ ،‬فقال‪ :‬المْنُ فإنه ل عيشَ لخائف‪ ،‬والعافيةُ فإنه ل عيشَ لسقيم‪ ،‬والغنَى فإنه ل‬ ‫عثمان هذا قائداً جليلً‪ ،‬وسيّدا كريماً‪ .‬وسُئل ُ‬
‫صغْد يقول‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫عيشَ لفقير‪ .‬وقيل له‪ :‬ما بلغ من نعمتك؟ قال‪ :‬لم ألبس جديداً في صيف‪ ،‬ول خَلَقاً في شتاء‪ .‬وفي نسبه في ال ّ‬
‫سَفاها ومن أخلق جارتنا البخلُ‬ ‫جمْلُ‬ ‫ض ْغدِ باس أن تعيّرني ُ‬ ‫أبا ال ُ‬
‫عكْلُ‬ ‫ش َتمِلْ جَرْم عَلَيّ ول ُ‬ ‫ولم تَ ْ‬ ‫وما ض ّرنِي أنْ لم تَلِدْني يُحَابـر‬
‫يقول فيها‪:‬‬
‫حدَرٌ سهلُ‬ ‫ن و ُمنْ َ‬
‫حزْ ٌ‬‫ص َعدٌ َ‬
‫لها مَ ْ‬ ‫ب ثَـنِـيّةٌ‬
‫ودون الندى في كلّ قل ٍ‬
‫جزْل‬ ‫إذا ما انقضى لو أنّ نائلَه َ‬ ‫وودّ ال َفتَى في كل نَـيْل يُنـيلُـه‬
‫شكْـلُ‬ ‫لكلّ أُناسٍ من ضرائبهم َ‬ ‫وأعلمُ علماً ليس بالـظّـنّ أنـه‬
‫قليلٌ إذا ما المرءُ زَلّت به ال ّنعْلُ‬ ‫وأنّ أخِلّء الزمانِ غَـنـاؤهـم‬
‫حبْلُ‬ ‫حذّاءَ وانصرم الْ َ‬ ‫شمّرَتْ َ‬ ‫فقد َ‬ ‫تَزَ َؤدْ من الدنيا متاعاً لغـيرهـا‬
‫لمّك من إحدى طوارقها الثكْلُ‬ ‫وهل أنتَ إل هامَةُ اليوم أو غَـدٍ‬
‫ختَاخ‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫وقال يتشوّق الحسن بن الت ْ‬
‫طعَمُ النومَ طالِـبُـهْ‬ ‫سفَ ٍر ل يَ ْ‬
‫مطا َ‬ ‫ل مُبلغ عني خـلـيلـي ودونـهُ‬ ‫َأ َ‬
‫بفُسطاط مصر حيث جمّتْ عجائبُهْ‬ ‫رسالةَ ثا ٍو بـالـعـراق ورُوحـهُ‬
‫يجيش بها في الصدر شوق يغالبه‬ ‫له كـل يوم حَـنّةٌ بـعـــد َرنّة‬
‫لنا ٍء ول يَشْقَى به من يُصَاقِـبُـه‬ ‫عهْـدَهُ‬ ‫إلى صاحب ل يُخْلِقُ النأيُ َ‬
‫ل محيّاه كريمـاً ضـرا ِئبُـه‬ ‫جمي ً‬ ‫تَخَـيّره حـرّا نـقـيّا ضـمـيرُه‬
‫وبحرٌ على الورّاد تجري غَوا ِربُه‬ ‫هو الشهدُ سِلْماً‪ ،‬والذّعاف عَـدَاوَةً‬
‫ت مـنـاقِـبُـه‬ ‫وتمّت أَيادِيه وجمّ ْ‬ ‫حسْنِ الذي عَ ّم فضـلُـه‬ ‫حسَن ال ُ‬ ‫فيا َ‬
‫ق ما تُـ َردّ عـوا ِزبُـه‬ ‫نوازعُ شَوْ ٍ‬ ‫إليك على ُبعْدِ المزار تطـلـعَـتْ‬
‫لهم نَسبٌ في ودّهم ل أنـاسـبـه‬ ‫ن أبـنـاء عَـلّة‬ ‫أرى بعدك الخوا َ‬
‫ف ل نُعا ِتبُـه؟‬ ‫ببغداد عَص ٌر ُمنْصِ ُ‬ ‫جعَنْ عيشي وعيشكَ مـرّة‬ ‫فهل يَرْ ِ‬
‫ن َمنِيع مراتـبُـه‬ ‫حصْ ٍ‬ ‫وآوِي إلى ِ‬ ‫جنَـابـك رَوْضَةً‬ ‫لَياِليَ أَرْعَى في َ‬
‫بماءٍ رِصافٍ صفقتْهُ جَـنَـا ِئبُـهْ‬ ‫صفّقَـا‬ ‫وإذ أنت لي كالشهد بالرّاح ُ‬
‫صدْع الناء مَشَاعِبـه‬ ‫كما لءمت َ‬ ‫عسى ولعلّ ال يجمـ ُع بـينـنـا‬
‫فقر وفصول في معان شتى‬
‫صبْر‪.‬‬
‫قال العتابي‪ :‬حظ الطالبين من الدَرْك‪ ،‬بحسب ما استصحبوا من ال ّ‬
‫ت عليه‬ ‫عدّة للسفيه‪ ،‬وجُنة من َكيْ ِد العدو‪ ،‬وإنك لن تقابل سفيهاً بالعراض عن قوله إل أذللْتَ نفسه‪ ،‬وفَللْتَ حدّه‪ ،‬وسَل ْل َ‬ ‫بعض الحكماء‪ :‬الحلم ُ‬
‫سيوفاً من شواهد حِ ْلمِك عنه‪ ،‬فتولّوا لك النتقامَ منه‪.‬‬
‫وقال آخر‪ :‬العجلة مكسبة للمذمة‪ ،‬مجلبة للندامة‪ ،‬منفرة لهل الثقة‪ ،‬مانعة ممن سدَادِ الرغبة‪.‬‬
‫ل يودّعه فقال‪ :‬أين تريد؟ قال‪ :‬بغداد‪ ،‬قال‪ :‬إنك تريد بلداً اصطلح أهلُه على صحّة العلنية‪ ،‬وسَقَم السريرة‪ ،‬كلّهم‬ ‫وأتى العتابيَ وهو بالرّي رج ٌ‬
‫يعطيك كلّه‪ ،‬ويمنعك قُلّه‪.‬‬
‫خبَرُك مع فلن؟ قال‪ :‬قد افتديت مكاشفته واشتريت مكاشرته بألف درهم‪ ،‬فقال يحيى‪ :‬ل تبرح‬ ‫وقال يحيى بن خالد لرجل دخل عليه‪ :‬ما كان َ‬
‫حتى يكتبَ الفضلُ وجعفر عنك هذا القول‪.‬‬
‫ك التنعّم‪ ،‬رجاءً لما وعدت‪ ،‬وخوفاً‬ ‫قال الصمعي‪ :‬سمعتُ أعرابيًا يدعو‪ ،‬ويقول‪ :‬اللهمّ ارزقني عملَ الخائفين‪ ،‬وخَ ْوفَ العاملين‪ ،‬حتى أتنعّم بتَ ْر ِ‬
‫مما أوعدت‪.‬‬
‫ش إل من خلل مكروهه‪ ،‬ومن انتظر بمعاجلة الدرك مُؤَاجلة الستقصاء سلبته اليام‬ ‫وللعتابي‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإنه ليس بمستخلَص غَضَارةُ عي ٍ‬
‫فرصته‪.‬‬
‫ن تحدّدَ لي ميعاداً لزيارتك‪ ،‬أتقوّته إلى وقت رؤيتك‪ ،‬ويُ ْؤنِسُني إلى حين لقائك‪ ،‬فعلت‪ ،‬إن شاء ال‪.‬‬ ‫كتب بعض الكتاب إلى أخ له‪ :‬إن رأيت أ ْ‬
‫ض دون الوفاء به ما ل أَقدر على َدفْعِه‪ ،‬فتكون الحسرةُ أعظ َم من الفرقة‪.‬‬ ‫عدَك وَعدًا يعتر ُ‬ ‫فأجابه‪ :‬أخاف أن أَ ِ‬
‫ت قد ربحتُ السرورَ بالتوقع لما أحبّه‪ ،‬وأصبتُ‬ ‫ج ِذلً بانتظارك‪ ،‬فإن عاق عن النجاز عائق‪ ،‬كن ُ‬ ‫فأجاب المبتدئ‪ :‬أنا أس ّر بموعدك‪ ،‬وأكون َ‬
‫جرِي على الحسرة بما حرمته‪.‬‬ ‫أَ ْ‬
‫ي من رؤيتك‪ ،‬والسلم‪.‬‬ ‫وكتب أَخٌ إلى أخ له يستدعيه‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإنه من عانى الظمأَ بفُ ْر َقتِك استوجب الر ّ‬
‫شفَى‬
‫حسُنَ مستقبَله‪ ،‬وأَتت السماء بقطَارها‪ ،‬فحلَت الرضَ بأَنوارِها‪ ،‬وبك تطيب الشّمول‪ ،‬ويُ ْ‬ ‫وكتب آخر في بابه‪ :‬يومُنا يومٌ طاب أوّله‪ ،‬و َ‬
‫ن تأخرت عنا فرّقت شَملَنا‪ ،‬وإن تعجلت إلينا نظمت أمرنا‪.‬‬ ‫الغليل‪ ،‬فإ ْ‬
‫ت بمصيبة‪ :‬لمصيبةٌ في غيرك لكَ ثوابها‪ ،‬خير من مصيبة فيكَ لغيرك أجرها‪.‬‬ ‫صبْ ُ‬
‫قال إسحاق الموصلي‪ :‬قال لي ثُمامة بن أشرس؟ وقد أُ ِ‬
‫صيْتَ ال فينا‪،‬‬ ‫ومرّ عُمر بن ذر بابْنِ عياش المنتوف‪ ،‬وكان سَفِه عليه فأَعرض عنه‪ ،‬وتعلق بثوبه‪ ،‬وقال‪ :‬يا هَناه‪ ،‬إنا لم نجد لك جزا ًء إذ عَ َ‬

‫‪325‬‬
‫ت من عصى ال فيك بمثل أن تُطيع ال فيه‪.‬‬ ‫خيرًا من أن نُطيعه فيك‪ .‬أخذه من قول عمر بن الخطاب‪ ،‬رضي ال تعالى عنه‪ :‬ما عاقب َ‬
‫شيَتي نكالَك؛ لنك ل‬ ‫صيَالك بأكثر من خَ ْ‬ ‫وكتب بعض الكتّاب إلى رئيسه‪ :‬ما رجائي عدَلكَ بزائدٍ على تأميلي َفضْلك‪ ،‬كما أنه ليس خوفي ِ‬
‫تَرْضَى للمحسن بصغير ال َمثَوبَة‪ ،‬كما ل تقنع للمسيء إل بموجع العقوبة‪.‬‬
‫شبْ ُه َمذْق‪.‬‬
‫ب بمَطْلٍ‪ ،‬ومرا ِفدَ لم تشن بمنّ‪ ،‬وعهد لم يمازجْه مَلَق‪ ،‬و ُودّ لم يَ ُ‬ ‫وقال آخر‪ :‬ما عسيت أن أشكرك عليه من مَوَاعد لم تُشَ ْ‬
‫وقال آخر‪ :‬علقت به أسباب الجللة غير مستشعر فيها بنَخْوة‪ ،‬وترامت له أحوالُ الصرامة غير مستعمل معها السطوة‪ ،‬هذا مع َدمَاثة في غير‬
‫حصَرِ‪ ،‬ولينِ جانب من غير خَوَر‪.‬‬ ‫َ‬
‫فصل لبن الرومي‪ :‬إني لَوَليّك الذي لم تزل تنقادُ لك مودّته من غير طمع ول جَزع‪ ،‬وإن كنتَ لذي رغبة مَطمعاً‪ ،‬ولذي رَهْبة مهرباً‪.‬‬
‫أبو فراس الحمداني‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ثوابٌ‪ ،‬ول يُخْشى عليه عقـابُ‬ ‫ض ل يرتجى لهُ‬ ‫كذاك الوِداد المَحْ ُ‬
‫حنيفة تغزو نميراً‬
‫صفُون‬ ‫غزَتْ حنيفة نميراً فانتصفوا منهم‪ ،‬فقيل لرجل منهم‪ :‬كيف صن َع قومُك؟ قال‪ :‬اتبعوني وقد أحقبوا كلّ جُماليّة خيفانة‪ ،‬فما زالوا يَخ ِ‬
‫شتَفُوا بها َأرْوَاحَهم‪.‬‬
‫أخفاف‪ ،‬المطيّ بحوافر الخيل‪ ،‬حتى لحقوهم؛ فجعلوا المُرّان أرْشِيةَ الموتِ‪ ،‬فا ْ‬
‫دعاء أعرابي‬
‫ل فكثّرْه‪ ،‬أو كثيرًا فثمّرْه‪.‬‬ ‫ودعا أعرابي فقال‪ :‬اللهمّ إن كان رزقي نائياً فق ّربْه‪ ،‬أو قريباً فيسّرْه‪ ،‬أو ميسّرا فعجّلْه‪ ،‬أو قلي ً‬
‫باب المراسلت‬
‫سبُلَ‬‫ع ْي َثهُمْ بها‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬قد قطع ُ‬ ‫سنْجار و َ‬ ‫عنْبَسة بن إسحاق إلى المأمون وهو عاملُه على ال ّرقّة‪ ،‬يصف خروجَ العراب بناحية ِ‬ ‫وكتب َ‬
‫حدّا ول عقوبة‪ ،‬ولَ ْولَ‬ ‫شذَاد العراب الذين ل يرقبون في مؤمنٍ إل ول ِذمّة‪ ،‬ول يخافون من ال َ‬ ‫المجتازِين‪ ،‬من المسلمين والمعاهدين‪ ،‬نَفَر من ُ‬
‫صيَهم ودَانِيَهم‪ ،‬ل ّذنْتُ بالستنجاد عليهم‪ ،‬ولبْ َت َعثْت الخيلَ‬ ‫ف أمير المؤمنين وحَصْده هذه الطائفة‪ ،‬وبلوغه في أعداء ال ما يَ ْردَع قا ِ‬ ‫ثِ َقتِي بسي ِ‬
‫إليهم‪ ،‬وأمي ُر المؤمنين ُمعَانٌ في أمورِه بالتأييد والنصر إن شاء ال‪.‬‬
‫فكتب إليه المأمون‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ل يَقْطَع السيفُ إلّ في َيدِ الحذرِ‬ ‫غيْ َر كَهام السمعِ والبصر‬ ‫س َمعْتَ َ‬ ‫أْ‬
‫طرِ‬‫ِمثْلَ الهشيم ذَ َرتْه الريحُ بالمَ َ‬ ‫سيصبح القو ُم من سيفي وضا ِربِه‬
‫فوجّه عنبسة بالبيتين إلى العراب‪ ،‬فما بقي منهم اثنان‪.‬‬
‫طلَبُ العافين الوسائلَ إلى المير ‪ -‬أعزه ال ‪ -‬يُنْبئ عن شروع‬ ‫وكتب المطلب بنُ عبد ال بن مالك إلى الحسن بن سهل في رجل توسل به‪َ :‬‬
‫مواردِ إحسانه‪ ،‬و َيدْعُو إلى معرفة َفضْله‪ ،‬وما أَنصفَه ‪ -‬أعزّه ال تعالى ‪ -‬مَن توسّل إلى معروفه بغيره؛ فَرأيُ المير ‪ -‬أعزّه ال ‪ -‬في التطوّل‬
‫ت معرِفتهُ عن ذلك بما يريد ال تعالى فيه موفّقا إنْ شاء ال تعالى‪.‬‬ ‫صرَ ْ‬
‫على من قَ ُ‬
‫ص ِدكَ إليّ بأمثاله فرضاً يفيدك شكره‪ ،‬ويعقبك‬ ‫فكتب إليه الحسن‪ :‬وصلك ال بما وصلتني في صاحبك من الجْرِ والشكر‪ ،‬وأراك الحسان في قَ ْ‬
‫أجره‪ ،‬فرأيك في إتمام ما ابتدأتَ به وإعلمي ذلك مشكوراً‪.‬‬
‫وكان المُطّلب ممدّحاً كريماً‪ ،‬وقد حسد دعبل شرفَه وإنعامه‪ ،‬وغبط إحسانه وإكرامه‪ ،‬إذ يقول‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫بلُ ْؤ ِم مُطّلب فينا وكُـنْ حـكـمـا‬ ‫ت معتَرفاً‬ ‫ضرِبْ ندى طلحة الطلحا َ‬ ‫اِ ْ‬
‫فل تعدّ لها لـؤمـاً ول كـرمـا‬ ‫تَخْلُصْ خزاع ُة من لُؤُم ومن كـرم‬
‫ف من أن يُوصف‪.‬‬ ‫وأمر طلحة أعْ َر ُ‬
‫وما أبعد قول دعبل من قول البحتري لصاعد بن مخلد وأهل بيته‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ظنَا في المَكارمِ‬ ‫ول َتبْخَسُونا حَ ّ‬ ‫بني َمخَْلدٍ ُكفّوا َتدَقّقَ جُوْدكـم‬
‫س ْمعَة حاتـم‬
‫ن تذهبوا عنّا ب ُ‬ ‫بأ ْ‬ ‫ن ومخلد‬ ‫ي قِنا ٍ‬
‫جدَ ْ‬
‫ول تَنْصُروا مَ ْ‬
‫َتغُضّون منا بالخِللِ الكـرائمِ‬ ‫جعَ ْلتُمُ‬
‫وكان لنا اسْمُ الجُود حتى َ‬
‫في الرثاء‬
‫قال الزبير بن بكار‪ :‬لمّا مات يزيدُ بن مَزيد بأرمينية قام حبيب بن البَراء خطيباً‪ ،‬فقال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬ل تَ ْقنَطوا من مثله وإن كان قليلَ النظير‪،‬‬
‫جدْبة ما عملت فينا يدَاه من عدله وندَاه‪.‬‬ ‫و َهبُوهُ من صالح دعائكم مثل الذي أخلَص فيكم من نواله‪ ،‬وال ما تفعل الديمة الهَطْلة في البقعة ال َ‬
‫فسرق هذا أبو لُبابة الشاعر فقال‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫فأزهرتْ بَأقَاحي النّـبْـتِ ألـوانـا‬ ‫ما بقعةٌ جادَهـا غَـيْثٌ وقَـرّبـهـا‬
‫في الشرق والغربِ معروفاً وإحسانا‬ ‫ت يدهُ‬ ‫ن مـمّـا أثّـرَ ْ‬‫أبهى وأحـسـ ُ‬
‫في المدح‬
‫وقال ابن المبارك يمدح يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فسـواك بـائعُـهـا وأنـت الـمـشـــتـــري‬ ‫وإذا تُـبـاع كـــريمةٌ أو تُـــشْـــتَـــرى‬
‫فيهـا الـسـبـيلُ إلـى نــدَاك بـــأَوْعَـــر‬ ‫وإذا تـوغَـ َرتِ الـمـسـالــكُ لـــم يكـــن‬
‫بيدَيْن لـيس نـدَاهُـمـــا بـــمـــكـــدّر‬ ‫وإذا صَـنَـعْـتَ صـنـيعةً أتـمَـمْـتَـــهـــا‬
‫ت ل ُمعْتَفِيك بنائلقال الندى فأَط ْعتَه لك‪َ :‬أ ْكثِرِ‬ ‫وإذا َه َممْ َ‬
‫من مـعـدَل عـنـه ول مـن مَـقْـــصَـــرِ‬ ‫يا واحدَ العرب الذي ما إن لهم‬
‫من إنشاء بديع الزمان‬
‫سمِي من صحيفته‪ ،‬وقطع حَظّي من‬ ‫صدْرٍ َمحَا ا ْ‬ ‫كتب البديع أبو عبد ال أحمد بن الحسين بن يحيى‪ :‬أما أبو فلن فل شك أن كتابي يَرِد منه على َ‬
‫وظيفته‪ ،‬ونَسِي اجتماعنا على الحديث والغزل‪ ،‬وتصرفنا في الجد والهَزْل‪ ،‬وتقلبنا في أعطاف العيش‪ ،‬بين الوقار والطيْش‪ ،‬وارتضاعنا َثدْيَ‬
‫العشرة؛ إذ الزمان رقيقُ القشرة‪ ،‬وتواعُدنا أن يلحق أحدُنا بصاحبه‪ ،‬وتصافحنا من قبل أل نصرم الحبل‪ ،‬وتعاهدنا من بعد أل ننقض العهد‪،‬‬

‫‪326‬‬
‫حرْمة‪ ،‬والخوّة بُ ْردَة ل تضيق بين اثنين‪ ،‬ولو شاء لعاشرنا في ال َبيْن‪ ،‬وكان‬ ‫وكأني به وقد اتّخذ إخوانًا فل بأس‪ ،‬فإن كان للجديد لذة فللقدم ُ‬
‫ج ْدتُها‪ ،‬وخراسان‬ ‫غذِي‪ ،‬وأكاتبه ل ُينْهض إليه راحلته؛ فهاك نيسابور ضَالّته التي نشدتها وقد و َ‬ ‫سألني أن أرتاد له منزلً ماؤه رَوِيّ‪ ،‬ومرعاه َ‬
‫ص ْب ُتهَا‪ ،‬وهذه الدولة بغيته التي أرادَها وقد وردتها‪ ،‬فإن صدّقني رائداً‪ ،‬فليَ ْأتِني قاصِداً‪.‬‬ ‫أمنيته التي طلبتها وقد أ َ‬
‫ت رقعتُك يا سيدي والمصاب لعمر ال كبير‪ ،‬وأنتَ بالجزَع جدير‪ ،‬ولكنك بالعزاءِ أَجدر‪ ،‬والصبرُ‬ ‫وله إلى بعض إخوانه يعزّيه عن أبيه‪ :‬وصَل ْ‬
‫حيَ الحيّ‪ ،‬والن فاشدُدْ على مالك بالخمس‪ ،‬فأنتَ اليوم غيرُك بالمس‪ ،‬وكان الشيخُ رحمه ال‬ ‫عن الحبة رشد كأنه الغَيّ‪ ،‬وقد مات الميت فَ ْليَ ْ‬
‫جمُ الشيطان عودَك‪ ،‬فإن استلنك‬ ‫وكيلك‪ ،‬تَضحك ويبكي لك‪ ،‬وقد موّلك ما ألَف في سراه وسيره‪ ،‬وخلفك فقيراً إلى ال غنياً عن غيره‪ ،‬وسيع ُ‬
‫حبَاب والحباب‪ ،‬والعيش بين القدَاح والقداح‪ ،‬ولول الستعمال‪ ،‬ما‬ ‫رماك بقوم يقولون‪ :‬خيرُ المال ما أُتلِف بين الشراب والشباب‪ ،‬وأُنفق بين ال َ‬
‫ج من‬ ‫أريد المال! فإن أطعتَهم فاليوم في الشراب‪ ،‬وغداً في الخراب‪ ،‬واليوم وَاطَربَا للكَاس‪ ،‬وغَداً واحَ َربَا من الفلس‪ ،‬يا مولي ذلك الخار ُ‬
‫سمّيه العاقل فقْراً‪.‬‬ ‫العود يسمّيه الجاهل َنقْراً‪ ،‬ويُ َ‬
‫سمْر‪ ،‬فإن لم يجد الشيطان مغمزاً في عودِك من هذا الوجه‪ ،‬رَماك بقوم يمثّلون‬ ‫وكذلك المسموع في الناي‪ ،‬هو في الذان َزمْرٌ‪ ،‬وفي البواب َ‬
‫غيْرك‪،‬‬ ‫طنَك‪ ،‬وتناقش عِرْسك‪ ،‬و َت ْمنَع نفسَك‪ ،‬وتتوقّى دنياك بوزرك‪ ،‬وتراه في الخرهْ في ميزان َ‬ ‫حذَاء عينيك‪ ،‬فتجاهد ق ْلبَك‪ ،‬وتحاسب بَ ْ‬ ‫الفقرَ ِ‬
‫ل‪ ،‬ولكن َقصْداً بين الطريقين‪ ،‬وميْلً عن الفريقين‪ ،‬ل َمنْع ول إسراف‪ ،‬والبخل فَ ْقرٌ حاضر‪ ،‬وضرٌ عاجل‪ ،‬وإنما يبخلُ المرء خيفة ما هو فيه‪:‬‬
‫الطويل‪:‬‬
‫صنَعَ الفَقْـرُ‬
‫مخاف َة فَ ْقرٍ فالذي َ‬ ‫جمْ ِع ماله‬ ‫ومن ينفق الساعاتِ في َ‬
‫وليكن لِّ في مالك قسم‪ ،‬وللمروءة قسم؛ فصِلِ الرّحم ما استطعت‪ ،‬وقدّر إذا قطعت‪ ،‬فلَنْ تكون في جانب التقدير‪ ،‬خي ٌر من أن تكون في جانب‬
‫التبذير‪.‬‬
‫ل فهو‬‫وله إلى رئيس عناية برجل‪ :‬كتابي أطال ال بقاء الرئيس‪ ،‬والكاتب مجهول‪ ،‬والكتاب فضول‪ ،‬وبحسب الرأي مَوْقعه‪ ،‬فإن كان جمي ً‬
‫شيْناً فهو ت َقوّل‪ ،‬وأيةً سلك الظنّ فله ‪ -‬أيّده ال تعالى ‪ -‬المنّ‪ ،‬من نيسابور عن سلمةٍ شاملة نسألُ ال تعالى أل يُلهينا بسكرها‪،‬‬ ‫تَطَوُل‪ ،‬وإن كان َ‬
‫ل فخاطِبُ ُودّ أولً‪ ،‬وموصل‬ ‫ن هذا الرجل؟ وما هذا الكتاب؟ فأمّا الرج ُ‬ ‫عن شُكرِها‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪ .‬يقول الشيخ ‪ -‬أيّده ال تعالى‪ :-‬مَ ْ‬
‫ف قد حاربَه زمانُ السوء؛ فأخرجه من البيت الذي‬ ‫شكرٍ ثانياً؛ وأمّا الكتاب فَلِحام أرحام الكرام؛ فإن يعِن ال الكِرامَ؛ تتصِل الرحام‪ .‬هذا الشري ُ‬
‫ظهَراً؛ وله بعدُ جللةُ النسب‪ ،‬وطهارةُ الخلق‪ ،‬وكرمُ ال َعهْد‪ ،‬وحضرني فسألته عما وراءه‪ ،‬فأشار إلى ضَالَةِ‬ ‫بلغ السما َء مَ ْفخَراً‪ ،‬ثم طلب فوقه مَ ْ‬
‫الحرار‪ ،‬وهو الكرم مع اليسار‪ ،‬ونبّه على قَيد الكرام‪ ،‬وهو البِشْر مع النعام‪ ،‬وحدّث عن بَ ْر ِد الكباد‪ ،‬وهو مساعدة الزمان للجَوَادِ‪ ،‬ودلّ على‬
‫ع هذه‬ ‫جدَا معاً‪ .‬وذكر أنّ الشيخَ الرئيس ‪ -‬أيّده ال ‪ -‬جما ُ‬ ‫نزهة البصار‪ ،‬وهو الثّرَاء‪ ،‬و ُم ْتعَة السماع‪ ،‬وهو الثناء‪ ،‬وقلّما اجتمعا‪ ،‬وعَزّ ما وُ ِ‬
‫الخيرات‪ ،‬وسألني الشهاد َة له‪ ،‬وبَذْلَ الخط بها‪ ،‬ففعلت‪ ،‬وسألتُ ال إعانته على ِهمَته؛ فرأيُ الشيح ‪ -‬أيّده ال تعالى ‪ -‬في الوقوف على ما كتبت‪،‬‬
‫ن نَشِطَ ‪ -‬الموفق إن شاء ال‪.‬‬ ‫وفي الجابة ‪ -‬إ ْ‬
‫ل كِتابُك بما ضمّنته من تَظَا ُهرِ نعم ال عليك‪ ،‬وعلى أبويك‪ ،‬فسكنت إلى ذلك من حالك‪ ،‬وسألتُ ال بقاءك‪ ،‬وأن يرزقَني‬ ‫وله إلى ابن أخته‪ :‬وَصَ َ‬
‫طعْنتَ في كبدي‪ ،‬فقد كنت معتضدًا بمكانه‪ ،‬والقدرُ جارٍ لشانه‪ ،‬وكذلك‬ ‫ضدِي‪ ،‬و َ‬ ‫ع ُ‬‫لقاءَك‪ ،‬وذكرت مصابك بأخيك‪ ،‬رحمه ال تعالى‪ ،‬فكأنما فتَتّ َ‬
‫المرء يدبّر‪ ،‬والقضاء يدمّر‪ ،‬والمال تنقسم‪ ،‬والجال َتبْتسم‪ ،‬فالُ يجعله لك فَرَطاً‪ ،‬ول يُرِيني فيك سُوءًا أبداً‪ ،‬وأنت إن شاء ال تعالى وارثُ‬
‫عمره‪ ،‬وسدادِ َثغْرِه‪ ،‬و ِنعْمَ العِوَضُ بقاؤك‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل ذُراً وأثّ أسَافِلَ‬ ‫منه ا ْنمَهَ ّ‬ ‫شذّباً‬
‫إنَ الشاءَ إذا أصاب مُ َ‬
‫ت بديلً‪ ،‬وأنت ولدي ما دمت‬ ‫وأبوك سيدي أيّده ال تعالى وألهمه الجميل‪ ،‬وهو الصبر‪ ،‬وأَناله الجزيل‪ ،‬وهو الجر‪ ،‬وَأ ْم َتعَ ُه بك طويلً‪ ،‬فما سُ ْؤ َ‬
‫والعلمُ شانك‪ ،‬والمدرس ُة مكانك‪ ،‬والدفتر نَديمك‪ ،‬وإن قصّرت‪ ،‬ول إخالك‪ ،‬فغيري خالك‪.‬‬
‫وله من كتاب إلى أبي القاسم الداوُدي بسجستان‪:‬‬
‫ب مَنْ ينسى اليام وتذكره‪ ،‬ويطويها وتنشُره‪ ،‬ويبيد أبناء دهره‪ ،‬وراء ظهره‪ ،‬ويخرج أهل زمانه‪ ،‬من‬ ‫كتابي ‪ -‬أطال ال بقاء الفقيه ‪ -‬كتا ُ‬
‫صفْقَته هي الرابحة‪ ،‬وكفته هي الراجحة‪ ،‬وأنا ‪ -‬أيّد ال الفقيه ‪ -‬على ُقرْب العهد‪ ،‬بالمهْد‪،‬‬ ‫ضمانه‪ ،‬فإذا تناولهم بيُمناه‪ ،‬وتسلّمهم بيسراه‪ ،‬أقسم أنّ َ‬
‫حمْدٌ وضعتهُ‬ ‫عرْضَ الرض‪ ،‬وعاشرت أجناس الناس‪ ،‬فما أحدٌ إل بالجهل اتّبعته‪ ،‬وبالخبرة ِب ْعتُه‪ ،‬وبالظّن أخذته‪ ،‬وباليقين نَ َب ْذتُه‪ ،‬وما َ‬ ‫قد قطعت َ‬
‫ص َر ْفتُه إلى أحد إل غربته‪ ،‬ومن احتاج إلى الناس‪ ،‬و َزنَهم بالقِسْطَاسِ‪ ،‬ومن طاف نصف الشرق‪ ،‬فقد لقي رُبعَ‬ ‫في أحد إل ضيّعته‪ ،‬ول َمدْحٌ َ‬
‫الخلق‪ ،‬ومن لم يجد في النّصْف َلمْحَ ًة دالّة‪ ،‬لم يجد في الكل غرةً لئحة‪ ،‬وكان لنا صديقٌ يقول‪ :‬إن عشت تسعين عاماً مت ولم أملك ديناراً؛‬
‫جدَة‬‫لني قد عشت ثلثين ولم أملك ثلثها‪ ،‬وهذا لعمري ياس‪ ،‬يُوجبه قياس‪ ،‬وقنوط‪ ،‬بالحجة َمنُوط‪ ،‬ودُعَابة ستكون جِداً‪ ،‬ووراء هذه الجملة مَو ِ‬
‫ت مكان ال َقدَم‪ ،‬وأنا في َكنَفِه صائبُ سَهم المل‪ ،‬وَافِرُ الجذل‪ ،‬والحمد ل على‬ ‫على قوم‪ ،‬وعَربَدة إلى يوم‪ ،‬والمير السيد واس ُع مجال الهمم‪ ،‬ثاب ُ‬
‫ما يُوليه‪ ،‬ويُولينا َمعْشَر مَوَاليه‪ ،‬وصلى ال على سيدنا محمد وآله وصحبه وذرّيته‪.‬‬
‫وله إلى إبراهيم بن حمزة خادم الستاذ الجليل‪ :‬قد أتبع قدمَه‪ ،‬إلى الخِدمَة قلمَه‪ ،‬وأتلى لسانَه‪ ،‬في الحاجة َبنَانَه‪ ،‬وقد كان استأذنه في توفير هذا‬
‫اليوم في مجلس السيد الجليل فَأذِنَ له على عادته السليمة‪ ،‬وشيَمتِه القويمة‪ ،‬ومَنْ وَجد كَلً َرتَع‪ ،‬ومَنْ صادف غيثاً انتجَعَ‪ ،‬ومن احتاج للحاجات‬
‫سنَا بأبي فلن؛ فقد وُصِفَ لي حتى‬ ‫سَأل‪ ،‬وبَقي أن يشفع الستاذ الجليل بإزاء الحوض عَ َفرَهُ‪ ،‬وينظم إلى رَوضِ الحسان مطره‪ ،‬ويطرّز أن َ‬
‫حننت شوقاً إليه‪ ،‬ووَجْدًا به‪ ،‬وشَغفاً له‪ ،‬وغُلُوًا فيه‪ ،‬ورَأيهُ في الصغاء إلى الكرم عالِ‪ ،‬إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫ومن إنشائه في مقامات أبي الفتح السكندري‪:‬‬
‫حدَ ْوتُه أمامي‪ ،‬والحزم‬ ‫طّيتَه‪ ،‬واستخَرْتُ ال تعالى في العَزْمِ َ‬ ‫ت مَ ِ‬ ‫طيّتَه‪ ،‬وامتطي ُ‬ ‫حدّثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬حداني إلى سجستان أرب‪ ،‬فاقتعدت ِ‬
‫ث انتهيت؛ ولمّا انتُضِي نَصْلُ الصباح‪ ،‬وبرز‬ ‫جعلته قدّامي‪ ،‬حتى هداني إليها‪ ،‬ووافيت دروبَها‪ ،‬وقد وافت الشمس غُروبَها‪ ،‬واتفق المبيتُ حي ُ‬
‫س ْمعِي صوتٌ‬ ‫ت من دائرة البلد إلى نُقْطتها‪ ،‬ومن قلدة السوقِ إلى واسِطَتها‪ ،‬خَرقَ َ‬ ‫جَبينُ المصباح‪ ،‬مضيتُ إلى السوق أتّخذ منزلً‪ ،‬فحيث انتهي ُ‬
‫ق معنى‪ ،‬فانتحيتُ َو ْفدَهُ‪ ،‬حتى وقفتُ عنده؛ فإذا رجلٌ على فرسه‪ ،‬مختنق بنَفَسِه‪ ،‬قد ولني قَذالَه وهو يقول‪ :‬من عرفني فقد‬ ‫له من كلّ عِر ٍ‬
‫حجَال‪ ،‬سلُوا عني الجبال‬ ‫عيّة الرجال‪ ،‬وُأحْجيّة ربّات ال ِ‬ ‫عرفني‪ ،‬ومن لم يعرفني فأنا أعرَّفهُ بنفسي‪ ،‬أنَا باكور ُة اليمن‪ ،‬أنا أحدوثة الزمن‪ ،‬أنا ُأدْ ِ‬
‫ح ّرتَها؟ وسلوا الملوكَ وخزائنها‪،‬‬ ‫س ْمتَها‪ ،‬وولج َ‬ ‫وحُزونَها‪ ،‬والبحار وعيونَها‪ ،‬والخي َل ومتونها‪ ،‬مَنِ الذي ملك أسوارها‪ ،‬وعرف أسرارها‪ ،‬ونهج َ‬
‫ب ومضايِقَها‪ ،‬مَن الذي أخذ مخت َزنَها‪ ،‬ولم يؤ ّد ثمنَها؟ ومن الذي ملك‬ ‫ب و َمغَالِقها‪ ،‬والحرو َ‬‫والغلق ومعادنِها‪ ،‬والعلوم وبواط ِنهَا‪ ،‬والخطو َ‬
‫ت بين الملوك الصّيد‪ ،‬وكشفت أستارَ الخطوب السّود‪ .‬أنا وال شهدت حتى مصَارعَ‬ ‫ت ذلك‪ ،‬وسفَر ُ‬ ‫مفاتِحها‪ ،‬وعرف مصالحها؟ أنا وال فعل ُ‬

‫‪327‬‬
‫ت عن الدنيات نفورَ طبْع الكريم‬ ‫صرْتُ الغصونَ الناعمات‪ ،‬وج َنيْت جنى الخدود المو ّردَات‪ ،‬ونَف ْر ُ‬ ‫العُشّاق‪ ،‬ومرِضتُ حتى ِلمَرضِ الحداق‪ ،‬وه َ‬
‫صبْحُ المشيب‪ ،‬وعَلتْني ُأبّهة ال ِكبَر‪ ،‬عَمدْتُ لصلح‬ ‫ف عن قبيح الكلم‪ ،‬ولن لما أسْفرَ ُ‬ ‫عن وجوه اللئام‪ ،‬ونَبوْتُ عن المحرمات نبوّ سمع الشري ِ‬
‫أمْ ِر المعادِ‪ ،‬بإعداد الزّاد‪ ،‬فلم أرَ طريقاً أهدى إلى الرشاد ممّا أنا ساِلكُه‪ ،‬يَراني أحدُكم راكب فرس وهَوَس‪ ،‬فيقول‪ :‬هذا أبو العجَب‪ ،‬ل‪ ،‬ولكني‬
‫صعْباً أخذتها‪ ،‬وهوناً أضعتها‪ ،‬وغالياً اشتريتها‪ ،‬ورخيصًا بِعتها؛‬ ‫سيْتها‪ ،‬وأخو العْلق‪َ ،‬‬ ‫أبو العجائب‪ ،‬عايَنتها وعا َنيْتُها‪ ،‬وأمّ الكبائر قايَسْتها وقا َ‬
‫ضيْتُ الركائب‪ ،‬ول من عليكم‪ ،‬فما حصلتها إل لمري‪ ،‬ول أَعددتها‬ ‫حمْتُ المناكِبَ‪ ،‬ورَعَيت الكواكبَ‪ ،‬وأنْ َ‬ ‫حبْتُ لها المواكب‪ ،‬وزا َ‬ ‫فقد وال ص ِ‬
‫ت معها أل أدخِرَ عن المسلمين نَ ْفعَها‪ ،‬ول بدّ لي أن أخلع ِربْقَة هذه المانة من عُنقي إلى أعناقكم‪،‬‬ ‫إل لنفسي‪ ،‬لكني ُد ِفعْتُ إلى مكاره َنذَرْ ُ‬
‫صنْه من أنجَبتْ جدودُه‪ ،‬وسُقي‬ ‫ف من كلمةِ التوحيد‪ ،‬ليَ ُ‬ ‫شتَرِه مني من ل يتقز ُز من موقف العبيد‪ ،‬ول يأن ُ‬ ‫ض دوائي هذا في أسواقكم‪ ،‬فلي ْ‬ ‫وأع ِر َ‬
‫بالماء الطّاهر عودُه‪.‬‬
‫ل النعامة بين يديه‪ ،‬ثم تعرّضت فقلت‪ :‬كم‬ ‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فدُرت إلى وجهه لعلم عِ ْلمَه‪ ،‬فإذا شيخنا أبو الفتح السكندري‪ ،‬وانتظرت إجفا َ‬
‫س ما مست الحاجةُ‪ ،‬فانصرفت وتركته‪.‬‬ ‫يُحِلّ دواءك هذا؟ قال‪ُ :‬يحِل الكي ُ‬
‫ل من البيت الحرام‪ ،‬أمِيس مَيس الرّجْلَة‪ ،‬على شاطئ الدّجلة‪،‬‬ ‫ومن إنشائه في هذا الباب‪ :‬حدّثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬بينا أنا بمدينة السلم‪ ،‬قاف ً‬
‫أتأمّل تلك الطرائف‪ ،‬وأتقصّى تلك الزخارف‪ ،‬إذ انتهيت إلى حَلْقة رجال مزدحمين‪ ،‬يَلْوِي الطَ َربُ أعناقَهم‪ ،‬ويشق الضحِك أشداقَهم‪ ،‬فساقني‬
‫جمَة‪ ،‬و َفرْطِ الزحمة‪ ،‬وإذا هو قَرّاد يُ ْرقِص قردَه‪ ،‬و ُيضْحِك‬ ‫سمَعِ صوتِ رجل دون مَ ْرأَى وجهه‪ ،‬لشدّة الهَ ْ‬ ‫ت بمَ ْ‬‫حرْصُ إلى ما ساقهم‪ ،‬حتى و َقفْ ُ‬ ‫ال ِ‬
‫حيَة رجلين‪ ،‬وقعدت‬ ‫سرّة ذاك‪ ،‬حتى افترشت ِل ْ‬ ‫ق هذا لِ ُ‬ ‫مَنْ عنده‪ ،‬فرقصت َرقْص المحرج‪ ،‬وسرت سي َر التْرج‪ ،‬فوق أعناق الناس‪ ،‬يلفظُني عات ُ‬
‫شغْله‪ ،‬وانتفض المجلس عن أهله‪ ،‬قمت وقد كساني الرّيب‬ ‫بين اثنين‪ ،‬وقد أشرَقني الخجل برِيقه‪ ،‬وأَرهقني المكانُ لضيقه‪ ،‬فلمّا فرغَ القُرّاد من ُ‬
‫حُلّته‪ ،‬ووقفت لرى صورتَه‪ ،‬فإذا أبو الفتح السكندري‪ ،‬فقلت‪ :‬ما هذه الدناءة؟ ويحك! فقال‪ :‬مجزوء الكامل‪:‬‬
‫عتِبْ على صَرْفِ اللّيالِي‬ ‫فا ْ‬ ‫الـذنـبُ لـليام ل لِــي‬
‫و َرفَلْتُ في ثَوْبِ الجمـالِ‬ ‫ق أدر ْكتُ الـمُـنَـى‬ ‫حمْ ِ‬‫بال ُ‬
‫ومن إنشائه في هذا الباب أيضاً‪ :‬حدثنا عيسى بن هشام قال‪ :‬كنت بأصفهان أعتَزِم المسيرَ إلى الرّي‪ ،‬فحللتها حلولَ ال َفيّ‪ ،‬أتوقّع الثقْلَة كل َلمْحة‪،‬‬
‫ت من بين الصحابة‪،‬‬ ‫سلَلْ ُ‬
‫صبْحَة؛ فلما حُ ّم ما توقعته‪ ،‬وأزِف ما ترقّبته‪ ،‬نُودي للصلة ندا ًء سمعتُه‪ ،‬وتعين فَرضُ الجابة؛ فان َ‬ ‫وأترقّب الرّحْلة كلّ َ‬
‫عثَاء الفَلة؛ فصِ ْرتُ إلى أول الصفوف‪ ،‬و َمثَلْتُ‬ ‫ت ببركة الصلة‪ ،‬على وَ ْ‬ ‫أغتنم الجماعة ُأدْرِكها‪ ،‬وأخشى فواتَ القافلة أتركها‪ ،‬لكني استعنْ ُ‬
‫للوقوف‪ ،‬وتقدم المام للمِحْرَاب‪ ،‬وقرأ فاتحةَ الكتاب‪ ،‬وثنى بالحزاب‪ ،‬بقراءة حمزة‪ ،‬مدّة وهمزة‪ ،‬وأتبع الفاتحة بالواقعة‪ ،‬وأنا أتصلّى بنار‬
‫الصبر وأتصلّب‪ ،‬وأتقلى على جمر الغيظ وأتقلّب‪ ،‬وليس إل السكوت والصبر‪ ،‬أو الكلمُ والقبر‪ِ ،‬لمَا عرفت من خشونة القوم في ذلك المقام‪ ،‬أن‬
‫ت من الراحلة‪ ،‬ثم حنى‬ ‫لو قطعتُ الصلة دون السلم‪ ،‬فوقفتُ ب َقدَم الضرور على تلك الصورة‪ ،‬إلى انتهاء السورة‪ ،‬وقد َقنِطْت من القافلة‪ ،‬و َيئِسْ ُ‬
‫سمِع ال لمن حمده‪ ،‬وقام‪ ،‬حتى ما‬ ‫ع َهدْه قبل ذلك‪ ،‬ثم رفع رأسه ويدَه‪ ،‬وقال‪َ :‬‬ ‫ب من الخضوع‪ ،‬لم أَ ْ‬ ‫قَوْسَه للركوع‪ ،‬بنوعٍ من الخشوع‪ ،‬وضر ٍ‬
‫ش َككْتُ أنه نام‪ ،‬ثم أ َكبّ لوجهه‪ ،‬فرفعت رأسي أَنتهز فُرْصة‪ ،‬فلم أَ َر بين الصفوف ‪ُ -‬فرْجة‪ ،‬فعُدْت للسجود‪ ،‬حتى كبّر للقعود‪ ،‬وقام للركعة‬
‫عيْه‪ ،‬فقلت‪ :‬قد‬ ‫خدَ َ‬
‫عمْرَ الساعة‪ ،‬واسترق أرواح الجماعة‪ ،‬فلمّا فرَغ من ركعتيه‪ ،‬مال للتحية بأَ ْ‬ ‫الثانية‪ ،‬وقرأ الفاتحة والقارعةَ‪ ،‬قراءةً استَ ْوفَى فيها ُ‬
‫سمْعه ساعة‪.‬‬ ‫قَرُب الفرج‪ ،‬وآن المخرج‪ ،‬فقام رجل فقال‪ :‬مَنْ كان منكم يحبّ الصحابة والجماعة‪ ،‬فل ُيعِرْني َ‬
‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فل ِزمْتُ أَرضي‪ ،‬صيان ًة لعرضي‪ ،‬فقال‪ :‬حقيق عليّ أل أقولَ على ال إل الحق‪ ،‬قد جئتُكم ببشارة من نبيّكم‪ ،‬لكني ل ُأ َؤدّيها‬
‫حتى يطهّرَ ال هذا المسجد من َنذْلٍ جحد نبوّته‪ ،‬وعَادَى ُأمَته‪.‬‬
‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فرَبطني بالقيود‪ ،‬وشدّني بالحبال السّود‪ ،‬ثم قال‪ :‬رأيتُه‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬في المنام كالشمس تحت الغمام‪ ،‬والبدر ليلة‬
‫ب الذيْل والملئكة تَ ْر َفعُه‪ ،‬ثم علّمني دعاءً‪ ،‬وأوصاني أن أُعلّم ذلك أ ّمتَه‪ ،‬وقد كتبتُه في هذه الوراق بخَلوقٍ‬ ‫التمام‪ ،‬يسيرُ والنج ُم َي ْتبَعه‪ ،‬ويسح ُ‬
‫سكّ؛ فمن استو َهبَه مني و َهبْتُه‪ ،‬ومن أعطَى ثمنَ ال ِقرْطَاس أخذته‪.‬‬ ‫ومسك‪ ،‬وزعفران و ُ‬
‫قال عيسى بن هشام‪ :‬فاثثالَتْ عليه الدراهم‪ ،‬حتى حيّرَته؛ ونظرت فإذا شيخنا أبو الفتح السكندري‪ ،‬فقلت‪ :‬كيف اهتديت إلى هذه الحيلة؟ ومتى‬
‫اندرجت في هذه القبيلة؟ فأنشأ يقول‪ :‬المجتث‪:‬‬
‫وابْرُزْ عليه ِم وبَرّزْ‬ ‫حمْرٌ فجَـوّزْ‬ ‫الناسُ ُ‬
‫ما تشتهيه ففز ِوزْ‬ ‫ت منهُـمْ‬ ‫حتى إذا نِلْ َ‬
‫جارية تبذّ كبار الشعراء‬
‫وصفت لعبد الملك بن مروان جارية لرجل من النصار ذات أدب وجمال‪ ،‬فساومه في ابتياعها‪ ،‬فامتنع وامتنعت‪ ،‬وقالت‪ :‬ل أحتاجُ للخلفة ول‬
‫ن فيها‪ .‬فبلغ ذلك عبد الملك فأغراه بها؛ فأَضعف الثمن لصاحبها وأَخذها قَسْراً‪،‬‬ ‫أرغبُ في الخليفة‪ ،‬والذي أنا في ملكه أحبّ إليّ من الرض ومَ ْ‬
‫فما أعجب بشيء إعجابه بها‪ ،‬فلمّا وصلت إليه‪ ،‬وصارت في يديه‪ ،‬أمرها بلزوم مجْلِسه‪ ،‬والقيامِ على رأسه؛ فبينما هي عنده‪ ،‬ومعه ا ْبنَاهُ الوليد‬
‫ي بيت قالته العرب أمدح؟ فقال الوليد‪ :‬قول جرير فيك‪ :‬الوافر‪:‬‬ ‫وسليمان‪ ،‬قد أَخلهما للمذاكرة‪ ،‬فأقبل عليهما فقال‪ :‬أ ّ‬
‫وأَندَى العالمينَ بُطُونَ راحِ؟‬ ‫خيْ َر مَنْ َركِبَ المَطايا‬ ‫ستُمْ َ‬‫أَل ْ‬
‫وقال سليمان‪ :‬بل قول الخطل‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫وأَعظمُ الناسِ أحلمًا إذا َقدَرُوا‬ ‫شمْسُ العَداوةِ حتى يُستقادَ لهـمْ‬ ‫ُ‬
‫فقالت الجارية‪ :‬بل أمدح بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫ل يَسْألون عن السّوادِ ال ُم ْقبِلِ‬ ‫ُيغْشَوْنَ حتى ما َتهِ ّر كل ُبهُمْ‬
‫فأطرق‪ ،‬ثم قال‪ :‬أي بيت قالته العرب أرق؟ فقال الوليد‪ :‬قولُ جرير‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ن قَـتْـلَنـا‬ ‫قَت ْل َننَا ثم لم ُيحْـيي َ‬ ‫ن العيونَ التي في طَ ْرفِها حَوَرٌ‬ ‫إّ‬
‫ل عمر بن أبي ربيعة‪ :‬الخفيف‪:‬‬ ‫فقال سليمان‪ :‬بل قو ُ‬
‫من َيدَيْ دِرْعها َتحُلّ الزَارا‬ ‫جعُها َي َديْهَـا إلـيهـا‬‫ح َبذَا رَ ْ‬
‫َ‬

‫‪328‬‬
‫فقالت الجارية‪ :‬بل بيت يقوله حسان‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫فأطرق‪ ،‬ثم قال‪ :‬أي بيت‬ ‫ّر عليها ل ْن َدبَتْها الكُلـومُ‬ ‫لو يَدب الحولي من ولد الذ‬
‫قالته العرب أشجع؟ فقال الوليد‪ :‬قول عنترة‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فقال سليمان‪ :‬بل قوله‬ ‫َمي‬ ‫د‬‫ق‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ي‬ ‫َا‬
‫ض‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫ّي‬‫ن‬ ‫أ‬ ‫ولو‬ ‫عنها‪،‬‬ ‫سنَةَ لـم أَخِـمْ‬ ‫إ ْذ َيتّقونَ بيَ الَ ِ‬
‫الكامل‪:‬‬
‫فقالت الجارية‪ :‬بل بيت‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫الجا‬ ‫سابق‬ ‫مني‬ ‫ُ‬
‫ت‬ ‫فالمو‬ ‫ّها‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫المواطن‬ ‫في‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫ي‬
‫ّ‬ ‫المن‬ ‫وأنا‬
‫يقوله كعب بن مالك‪ :‬الكامل‪:‬‬
‫فقال عبد الملك‪ :‬أحسنْت‪،‬‬ ‫ُقدُماً ونلحقها إذا لم تـلـحـقِ‬ ‫ن بِخَطْوِنا‬ ‫صلُ السيوف إذا َقصُرْ َ‬ ‫نَ ِ‬
‫وما نرى شيئاً في الحسان إليك أبْلَغ من َردّك إلى أهلك‪ .‬فأجمل كسْوَتها‪ ،‬وأحسن صَِلتَها‪ ،‬وردها إلى أهلها‪.‬‬
‫حرّيّ‪ :‬البسيط‪:‬‬‫ومثل قول كعب بن مالك قول َنهْشَل بن َ‬
‫عنهُ‪ ،‬ول هو بالبنـاء يَشْـرينـا‬ ‫إنّا بني َنهْشَـل ل نـدّعـي لبٍ‬
‫ق منّا والمُصَـلَـينـا‬ ‫تَلْقَ السواب َ‬ ‫إن ُت ْبتَدرْ غاية يوماً لِـمَـكْـ ُرمَةٍ‬
‫قولُ الكماةِ‪ :‬أل أين المحامونـا؟‬ ‫شرٍ أَفـنَـى أوائِلَـهـمْ‬ ‫إنا َلمِنْ َمعْ َ‬
‫ن فارسٌ؟ خالَهمْ إيا ُه َي ْعنُـونـا‬ ‫مَ ْ‬ ‫لو كان في اللف منا واح ٌد فدَعَوا‪:‬‬
‫إنما أردت هذا البيت‪.‬‬ ‫حدّ السيوفِ وصلْناهـا بـأيدينـا‬ ‫إذا الكُماة تـأبّـوا أن ينـالـهـمُ‬
‫وقولُه‪:‬‬
‫أخذه من قول طَ َرفَة بن‬ ‫لو كان في اللف منا واحد‬
‫العبد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫حرّيّ‬ ‫ترجمة َنهْشَل بن َ‬ ‫عنِيتُ فلم أ ْكسَلْ ولـم أتـبـلّـد‬ ‫ُ‬ ‫ن فَتىً؟ خِلْتُ أنني‬ ‫إذا القوم قالوا مَ ْ‬
‫شقّة‪ ،‬ورد‬ ‫ل بن دارم‪ ،‬وكان اسم جده ضمر َة هذا‪ِ :‬‬ ‫ضمْرَة بن جابر بن قَطَن بن نهشَ ْ‬ ‫ي بن َ‬ ‫وكان نهشل شاعم ظريفاً‪ ،‬وهو نَهشَل بن حَرّ ّ‬
‫ي ل أن تراه‪ ،‬وال ُم َعيْدِي‪:‬‬‫سمَ ُع بالمعيد ّ‬
‫شقّة‪ ،‬وكان قضيفًا نحيفاً دميماً‪ ،‬فقال له النعمان‪ :‬تَ ْ‬ ‫على النعمان بن المنذر فقال‪ :‬من أنت؟ فقال‪ :‬أنا ِ‬
‫ستَقَى بها من الغُدرَان‪ ،‬وإنما المرءُ‬ ‫تصغير المعدّيّ‪ ،‬فذهبت مثلً‪ ،‬فقال‪ :‬أبيتَ اللعنَ! إن الرجال ل تُكال بالقُفزان‪ ،‬وليست بمُسُوك ي ْ‬
‫ضمْرة! ونهْشَل هو الْقائل‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫بأصغَ َريْه قلبه ولسانه إذا نطق نطق ببيان‪ ،‬وإذا قَاتلَ قاتل بجَنانٍ‪ ،‬فقال‪ :‬أنت َ‬
‫جمْرِ‬‫جمْرٌ قيامٌ على ال َ‬ ‫وإن لم يكن َ‬ ‫صطَـلِـين بِـحَـرّهِ‬ ‫ويومٍ كأنّ المُ ْ‬
‫أمدح بيت‬ ‫ج أيا ُم الكريهةِ بالـصّـبْـرِ‬ ‫تُ َفرّ ُ‬ ‫أقمْنا به حتى تجـلّـى‪ ،‬وإنـمـا‬
‫وكان عبدُ الملك يقول‪ :‬يا بني أمية‪ ،‬أحسابُكم أعراضُكم‪ ،‬ل تعرضوها على الجهال‪ ،‬فإنّ الذمّ باقٍ ما بقيَ الدهر؛ وال ما سرّني أني‬
‫لعَ الرض ذَهَباً‪ ،‬وهو قوله في عَلقمة بن عُلَثة‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ُهجِيت ببيت العشى‪ ،‬وأن لي ط َ‬
‫وال ما ُيبَالي مَن ُمدِحَ‬ ‫وجارا ُتهُمْ غَرْثى َيبِتْنَ خمائصا‬ ‫شتَى مِلءً بطونهم‬ ‫يبيتون في الم ْ‬
‫ح بغيرهما‪ ،‬وهما قول زهير‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫بهذين البيتين أل يُ ْمدَ َ‬
‫وإن يُسْألوا ُيعْطُوا وإن َييْسِروا ُيغْلُوا‬ ‫ل يُخْـبِـلُـوا‬ ‫ستَخبَلُوا الما َ‬ ‫هنالك إن يُ ْ‬
‫وقال ابنُ العرابي‪ :‬أمدحُ‬ ‫وعند المُقلّينَ السـمـاحةُ والـبَـذْلُ‬ ‫ق مَنْ َيعْـتَـريهـمُ‬ ‫على ُمكْثِريهمْ ح ّ‬
‫ت قاله المحدثُونَ قولُ أبي نواس‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫بي ٍ‬
‫ت به من طارقِ الحَـدَثـانِ‬ ‫أ ِمنْ ُ‬ ‫ل من حبال محـمـدٍ‬ ‫حبْ ٍ‬‫أخذْتُ ب َ‬
‫فعيني ترى دهري وليس يراني‬ ‫تغطّيتُ من دهري بظلّ جناحه‬
‫ع َرفْنَ مكانـي‬ ‫وأين مكاني ما َ‬ ‫سأَل اليامُ عني مـا دَرَتْ‬ ‫فلو تُ ْ‬

‫ب به ناقتُه‪،‬‬
‫ن مالك بن طَوْق كان جالساً في َبهْوٍ مطلّ على رحبته ومعه جلساؤه‪ ،‬إذ أقبل أعرابي تخُ ّ‬ ‫وهذا كقول ‪ -‬أعرابي‪ ،‬ذكر بعضُ الرواة أ ّ‬
‫سيْب‬
‫فقال‪ :‬إياي أراد‪ ،‬ونحوي قصد‪ ،‬ولعل عنده أدبًا يُنتفع به‪ .‬فأمر حاجبه بإدخاله‪ ،‬فلمّا مثل بين يديه قال‪ :‬ما أقدمك يا أعرابي؟ قال‪ :‬المل في َ‬
‫المير والوجاء لنائله‪ .‬قال‪ :‬فهل قدّمت أمام رغبتك وْسيلة؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬أربعة أبيات قلتها بظهر البرية‪ ،‬فلمّا رأيت ما بباب المير من البهة‬
‫ت مرادك‬ ‫ل قد نلْ َ‬
‫والجللة استصغرتها‪ ،‬قال‪ :‬فهل لك أن تنشدنا أبياتك؟ ولك أربعة آلف درهم‪ ،‬فإن كانت أبياتُك أحسن فقد ربحنا عليك‪ ،‬وإ ّ‬
‫حتَ علينا‪ ،‬قال‪ :‬قد رضيت‪ ،‬فأنشده‪ :‬الطويل‪:‬‬ ‫ورب ْ‬
‫يداي بمن ل َيتّقِي الدهْرَ صاحبُهْ‬ ‫ومازلتُ أخشى الدهر حتى تعلّقت‬
‫رأى مُ ْرتَقًى صعبًا منيعًا مطالبُهْ‬ ‫فلمّا رآني الدهر تحت جنـاحـه‬
‫تُظِلّ الورى أكنافُه وجـوانـبُـهْ‬ ‫وأني بحيث النجمُ في رأس بـاذخٍ‬
‫إذا أجدبوا جادتْ عليهم سحائبُـهْ‬ ‫فتى كسماءِ الغيث والناسُ حولَـه‬
‫قال‪ :‬قد ظفرنا بك يا أعرابي‪ ،‬وال ما قيمتها إل عشرة آلف درهم‪ .‬قال‪ :‬فإن لي صاحباً شاركته فيها ما أراه يرضى بيعي‪ ،‬قال‪ :‬أتراك حدّثت‬
‫نفسك بالنكث؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬وجدتُ النكث في البيع أيس َر من خيانة الشريك‪ ،‬فأمر له بها‪.‬‬
‫أنصف بيت وأصدق بيت‬

‫‪329‬‬
‫ب قولُ حسان بن ثابت لبي سفيان بن الحارث في جوابه عمّا هجا به رسول ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وروى محمد‬ ‫وأنصف بيتٍ قالته العر ُ‬
‫بن عمار عن أبيه قال‪ :‬أنشد النبيّ حسانُ بن ثابت قوله‪ :‬الوافر‪:‬‬
‫وعند ال في ذاك الجزاءُ‬ ‫ت عنه‬ ‫ت محمداً‪ ،‬فأجب ُ‬ ‫هَجَ ْو َ‬
‫فقال النبيّ عليه السلم‪ :‬جزاؤك الجنة يا حسّان‪.‬‬
‫فلما انتهى إلى قوله‪:‬‬
‫ض محمدٍ منكمْ وقاءُ‬ ‫لعِ ْر ِ‬ ‫فإنّ أبي ووالده وعرضي‬
‫قال النبيّ عليه السلم‪ :‬وقاك ال حَرّ النار‪.‬‬
‫فلمّا قال‪:‬‬
‫فشرّ كما لخيركما الفداءُ‬ ‫فءٍ‬‫ت له ِبكُ ْ‬
‫أتهْجُوهُ ولس َ‬
‫قال مَنْ حضر‪ :‬هذا أنصفُ بيت قالته العرب‪.‬‬
‫ق بيت قالته العرب وأمدحُه قولُ كعب بن زهير في رسول ال‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ :‬البسيط‪:‬‬ ‫صدَ ُ‬
‫وأ ْ‬
‫بالبُ ْردِ كالبدر جلّى ليلة الظّلمِ‬ ‫تحمله الناقة الدماء ُم ْعتَجِـراً‬
‫ما يعلم ال من دين ومن كرم‬ ‫وفي عِطَا َفيْهِ أو أثناء بردتـه‬
‫ب بن ربيعة‪ ،‬في عبد ال بن عبد الرحمن الزرق والي اليمامة‪ ،‬والصواب‬ ‫وقال الصمعي‪ :‬والجهال يروون هذا البيت لبي دهبل‪ ،‬واسمه وه ُ‬
‫ما ذكرناه‪ ،‬وهو بصفات النبيّ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أعْلَق‪ ،‬وبمدحه أليق‪.‬‬
‫ألفاظ لهل العصر في ذكر النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫سليل أكرم َنبْعة‪ ،‬وقريع أشرف بقعة‪ .‬جاب بأمّته الظلمات إلى النور‪ ،‬وأفاء عليهم بالظل بعد الحَرور‪ .‬وهو خي َر ُة ال من خلقه‪ ،‬وحجّته في‬
‫جتُه‪ ،‬ساميةٌ درجتُه‪،‬‬ ‫ك مولده‪ ،‬سعيدةٌ غرّته‪ ،‬قاطعةٌ ح ّ‬ ‫أرضه‪ .‬الهادي إلى حقه‪ ،‬وال ُمنْبه على حكمه‪ .‬والداعي إلى رُشدِه‪ ،‬والخذُ بفرضه‪ .‬مبار ٌ‬
‫شعَاره على المنابر‪،‬‬ ‫ي بعده‪ .‬يُفصَح ب ِ‬‫ختِمَ بأن ل نب ّ‬ ‫ظفْرةٌ حروبُه‪ُ ،‬ميَسّرة خطوبُه‪ ،‬قد أفردَ بالزعامة وحده‪ ،‬و ُ‬ ‫ساطع صباحُه‪ ،‬متوفد مصباحُه‪ ،‬مُ َ‬
‫وبالصلة عليه في المحاضر‪ ،‬وتعمر بذكره صدورُ المساجد‪ ،‬وتستوي في النقياد له حالة المقر والجاحد‪ .‬آخر النبياء في الدنيا عمراً‪ ،‬وأولهم‬
‫يوم القيامة ذكراً‪ ،‬وأرجحهم عند ال ميزاناً‪ ،‬وأوضحهم حجّة وبرهاناً‪ .‬صدعَ بالرسالة‪ ،‬وبلغ بالدللة‪ ،‬ونقل الناس عن طاعة الشيطان الرجيم‪.‬‬
‫أرسله ال قمراً للسلم منيراً‪ ،‬وقدراً على أهل الضلل مبيراً‪ .‬صلى ال عليه وسلم‪ .‬خير من افتتحت بذكره الدعوات‪ ،‬واستنجحت بالصلة‬
‫عليه الطلبات‪ .‬خير مبعوث‪ ،‬وأفضل وارث وموروث‪ .‬وخير مولود‪ ،‬دعا إلى خير معبود‪ .‬صلى ال على كاشف الغمّة عن المّة‪ .‬الناطق فيهم‬
‫بالحكمة‪ ،‬الصادع بالحق‪ ،‬الداعي إلى الصدق‪ ،‬الذي ملك هَوَاديَ الهدى‪ ،‬ودلّ على ما هو خيرٌ وأبقى صلى ال عليه بشير الرحمة والثواب‪،‬‬
‫ونذير السطوة والعِقاب‪ .‬صلى ال على أت ّم بريّته خيراً وفضلً‪ ،‬وأطيَبهم فرعاً وأصلً‪ ،‬وأكرمهم عوداً ونجاراً‪ ،‬وأعلهم منصباً وفخاراً‪ ،‬وعلى‬
‫أهله الذين عظمهم توقيراً‪ ،‬وطهّرهم تطهيراً هم مقاليد السعادة ومفاتيحها‪ ،‬ومعارجُ البرك ِة ومصابيحها‪ .‬أعلم السلم وأيمان اليمان‪ .‬الطيبون‬
‫حبْل الهدى وشجرة اليمان‪ ،‬أصلها نبوّة‪،‬‬ ‫الخيار‪ ،‬الطاهرون البرار‪ .‬الذين أذهب عنهم الرجاس‪ ،‬وجعل مودتهم واجبةً على الناسِ‪ .‬هم َ‬
‫خ َد ُمهَا ميكال وجبريل‪.‬‬
‫وفرعها مروّة‪ ،‬وأغصانها تنزيل‪ ،‬ورقاتُها تأويل‪ ،‬و َ‬
‫ح ّد آثاركم‪ ،‬نفد الحصى قبل نفودِها‪ ،‬وفنِيت الخواطرُ‪ ،‬قبل أن‬ ‫ولبديع الزمان إلى بعض الشراف في درج كلم تقدّم‪ :‬إن جعلنا َن ُعدّ فخاركم‪ ،‬ون ُ‬
‫تفنى المآثر‪ ،‬ولم ل؟ وإن ُذكِر الشرف فأنتم بنو بَجْدته‪ ،‬أو العلم فأنتم عاقدو إزرته‪ .‬أو الدين فأنتم ساكنو بلدته‪ ،‬أو الجود فأنتم لبسو جلدته‪ ،‬أو‬
‫ل بناءه‪ ،‬ومهّد الرسولُ عليه السلم فناءه‪ ،‬وأقام الوصيّ رضوان ال‬ ‫ن بيتًا تولى ال عز وج ّ‬ ‫ص ْلتُم بحدّته‪ ،‬وإ َ‬‫التواضع صبرتم لشدّته‪ ،‬أو الرأي ُ‬
‫عليه عماَده‪ ،‬وخدم جبريلُ عليه السلم أهله‪ ،‬لحقيق أن يُصانَ عن مدح لسانٍ قصير‪.‬‬
‫ي فقال‪ :‬بأبي وأمي رسول ربّ العالمين‪ ،‬ختمت به الدنيا‪ ،‬وفتحت به الخرة‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬به‬ ‫وذكر النبيّ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أعراب ّ‬
‫يَبدأ الذكرُ الجميلُ ويختم‪.‬‬
‫ب في هذا الكتاب يعظم ويتسع‪ ،‬بل يتّصل ول ينقطع؛ إذ كان غرضي فيه أن ألمح المعنى من معانيه‪ ،‬ثم‬ ‫إلى هذا المكان أمسكت العنان‪ .‬والطنا ُ‬
‫أنجرّ معه حيث انجرّ‪ ،‬وأم ّر فيه كيف مرّ‪ ،‬وآخذ في معنى آخر غير موصول بشكله‪ ،‬ول مقرون بمثله‪ ،‬وقد أخلّ نظاماً‪ ،‬وأفرد تؤاماً‪ ،‬نَشْراً‬
‫لبساط النبساط‪ ،‬ورغبة في استدعاء النشاط‪ .‬وهذا التصنيف ل تُدرك غايتُه‪ ،‬ول تبلغ نهايته‪ ،‬إذ المعاني غير محصورة بعدد‪ ،‬ول مقصورة إلى‬
‫ت إل ما ل يكون ما تركته أفضل ممّا‬ ‫ب زندها‪ ،‬وذلك أني ما ادّعيتُ فيما أتي ُ‬ ‫أمد‪ .‬وقد أبرزتُ في الصدر‪ ،‬صفحةَ ال ُعذْر‪ ،‬يجولُ فرِندُها‪ ،‬ويثق ُ‬
‫ب عليه‪ ،‬ومن ركب مطيّة العتذار‪ ،‬واجتنب خطيّة‬ ‫أدركتُه‪ ،‬وأني لم أسلك مذهباً مخترعاً لم أسبَق إليه‪ ،‬ول قصدت غرضًا مبتدعاً لم أغَل ْ‬
‫الصرار‪ ،‬فقد خرج من َتبِعة التقصير‪ ،‬وبرئ من عهدة المعاذير‪.‬‬
‫ف بفضل النصاف‪ ،‬وليعلم من ُينْصِف أنّ الختيارَ ليس يعلم ضرورة‪ ،‬ول يوقَف له‬ ‫وأمّا بعد‪ ،‬فإن أحق من احتكِم إليه واقتصر عليه العترا ُ‬
‫على صورة‪ ،‬فيكثر الغماض‪ ،‬ويقلّ العتراض‪ ،‬ويعلم أنّ ما ل يقع بهواه‪ ،‬قد يختاره سواه‪ ،‬وكل يَعمل اقتدارَه‪ ،‬ويحسن اختياره‪ ،‬فلو وقع‬
‫سخِط‪ ،‬ويثبَتُ ويسقَط‪ ،‬لرتفع حجاجُ المختلفين‪ ،‬في أمر الدنيا والدين‪.‬‬ ‫الجتماع على ما يُرضي ويُ ْ‬
‫وقال المتنبي‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫شجَبِ‬
‫جبٍ والخُلْفُ في ال َ‬ ‫إلّ على شَ َ‬ ‫تَخاَلفَ الناسُ حتى ل اتّفـاق لـهـمْ‬
‫جسْمَ المرء في العَطَبِ‬ ‫وقيل‪ :‬تَشْ َركُ ِ‬ ‫ص نَ ْفسُ المـرءِ سـالـمةً‬ ‫فقيل‪ :‬تَخْلُ ُ‬
‫الشجب‪ :‬الموت‪ ،‬وهي لفظة معروفة‪ ،‬وإن كانت غير مألوفة عند أهل النقد‪ .‬وقد أنكرها البحتري على عبيد ال بن عبد ال بن طاهر في‬
‫مجاذبته إياه حيث يقول‪ :‬الخفيف‪:‬‬
‫جبُهْ‬
‫َلفْظِ واختارَ لم يُقَلْ شَ َ‬ ‫وَلَوَ أنَ الحكيم وازنَ في ال‬
‫وكان أبو الطيب نظر إلى ما رواه أبو ظبيان‪ ،‬قال‪ :‬اجتمع نفرٌ من أهل الكلم على رجل من الملحدين‪ ،‬فجعلوا ل يأتون بمسألة إل سألهم الدليلَ‬
‫ك فيه‪ ،‬فقال الملحد‪ :‬ما رأيتُ خاطباً وواعظاً‬ ‫عليهم‪ ،‬وناقضهم فيها‪ ،‬فأعياهم كثرةُ ما يقول ويقولون‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬أمّا بعد‪ ،‬فإن الموت ل ش ّ‬

‫‪330‬‬
‫وشاهداً ل يُردّ أوجز منه‪ ،‬وقلّما ترى معنًى إل وهو يدَافع أو يناقَض‪ ،‬ويُحَارُ به عن سواءِ المحجّة‪ .‬وقيل‪ :‬من طلب عيباً وجده‪ .‬قال أبو عمرو‬
‫طعَن‪ ،‬إل قول الحطيئةُ‪ :‬البسيط‪:‬‬
‫ن مَ ْ‬
‫بن سعيد ال ُقطْرُبلي‪ :‬ليس من بيتٍ إل وفيه لطاع ٍ‬
‫ف بين ال والناسِ‬ ‫ل يذهبُ العُرْ ُ‬ ‫مَنْ يفعلِ الخي َر ل َيعْدَمْ جوازيَهُ‬
‫ط َرفَ َة بن العبد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫وقول َ‬
‫ويأتيكَ بالخبار من لم تُـزَ ّودِ‬ ‫س ُتبْدي لك اليامُ ما كنتَ جاهلً‬ ‫َ‬
‫وقول علي بن زيد‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫فكل قرينٍ بالمقـارنِ مُـقْـتَـدِ‬ ‫ل عن قرينه‬ ‫عن المرء ل تسَلْ وسَ ْ‬
‫وللعلم بذلك قال قتيبة بن مسلم لبي عيّاش المنتوف‪ ،‬وقد دخل عليه وبين يديه سلة زعفران‪ :‬أنشدني بيتاً ل يصارف ول يكذّب وهي لك‪،‬‬
‫فأنشده ما ليس لطاعن فيه مطعن‪ :‬الطويل‪:‬‬
‫ت من ناق ٍة فوق كورها‬ ‫حمََل ْ‬
‫فما َ‬

‫‪331‬‬

Vous aimerez peut-être aussi