Académique Documents
Professionnel Documents
Culture Documents
،،الحمدلله وبعد
يعيش النسان المسلم في هذه البلد هموما ً معيشية كثيرة ،هم السكان ومنزل العمر الذي
يتراءى لخياله صبحا ً ومساًء ،وهم البحث عن سرير لوالدته في أي مستشفى ،وهم الطرق
المكتظة حتى أواخر المساء ،وهم مراجعة الدوائر الحكومية ،وهم رحلة طيران ألغيت ،وهم
ة ل تجد
ة أرمل ٍ
قبول لبنه في الجامعة ،وهم البن الذي تخرج ولم يجد وظيفة ،وهم قريب ٍ
.كفايتها ،وهم السبوع الخير من الشهر حيث انتهى الرصيد وفي انتظار الراتب ،الخ
أخذت مرةً أتأمل هذه الهموم المعيشية التي تؤرق تفكير غالب أفراد المجتمع ،وكلما تأملت
في هذه المشكلت اكتشفت نفسي أصل إلى نقطة )المال العام( في إدارته وصيانته وحفظه
من الفساد ..هذه الهموم المعيشية مرتبطة بشكل أساس بأداء الجهزة الحكومية ،والجهزة
الحكومية كلها شريانها النابض فيها هو )المال العام( ،فأي خلل في إدارة المال العام يؤدي
.فورا ً إلى الخلل في كفاءة المستشفى والجامعة والسكان والمواصلت والتعليم الخ
وكلما وصلت لنقطة المال العام وجوهرية الدور الذي يلعبه في ضمان مصالح المسلمين
.أدركت شيئا ً من أسرار تعظيم الشريعة والفقه السلمي للمال العام
أريد هاهنا في هذه الورقة أن نناقش سويا ً بعض التصورات الشائعة عن المال العام ،لكنها
تصورات مغلوطة للسف ،سواًء بين بعض أفراد المجتمع ،أو عند كثير من الولة والمسؤولين،
.أو حتى بين من يسمون أنفسهم النخبة المثقفة
فإذا كان هذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم -يؤكد أنه ل يملك المال العام ،وإنما وظيفته
القسم والتوزيع فقط ،فكيف بمن يخلف رسول الله من ولة المسلمين؟! ولذلك حين تعرض
خاذ يكشف المام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية لهذا الحديث قال عنه في تعليق أ ّ
:وجه الولوية
فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره ،كما يفعل ذلك(
]المالك الذي أبيح له التصرف في ماله( ]الفتاوى28/268 ،
بمعنى أن النبي –صلى الله عليه وسلم -حين قال )إنما أنا قاسم( أراد أنه )ليس بمالك(،
:ولذلك يقول المام ابن تيمية
وقول النبي "إني والله ل أعطى أحدًا ،ول أمنع أحدًا ،وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت" يدل(
]على أنه ليس بمالك للموال( ]منهاج السنة ،ابن تيمية
ولذلك لما عالج ابوالعباس ابن تيمية مسألة المنح العقارية التي يوزعها ولي المر على
المسلمين بحسب المصلحة بّين أن هذا ليس تبرعا ً من ولي المر لنه ليس ماله الشخصي،
:بل هذا جاٍر على مبدأ )إنما أنا قاسم( كما يقول ابن تيمية
وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين ،وولي المر قاسم يقسم بينهم حقوقهم(،
]ليس متبرعا ً لهم( ]الفتاوى28/85 ،
ودللت هذا المبدأ )إنما أنا قاسم( الذي قرره رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لم يكن
شأنا ً غامضا ً لم يذكره إل ابن تيمية ،بل هذا تصور عام بين فقهاء السلم منذ فجر الخلفة
الراشدة وانتهاًء بفقهائنا المعاصرين ،وقد أشار لذلك عمربن الخطاب كثيرًا ،ومن ذلك قوله
:رضي الله عنه
أما والله ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم ،وما أحد منا بأحق به من أحد ،وما منا أحد من(
المسلمين إل وله في هذا الفيء حق ،ولئن بقيت ليبلغن الراعي وهو في جبال صنعاء حقه من
]فيء الله( ]الموال لبن زنجويه ،تحقيق فياض ،ص569
ولذلك قام الصحابي الجليل كاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه -في الناس
:خطيبا ً زمن خلفته وأ ّ
كد هذا المعنى كما يقول الراوي عطية بن قيس
خطبنا معاوية فقال :إن في بيت مالكم فضل عن أعطيتكم ،وأنا قاسم بينكم ذلك ،فإنه ليس(
].بمالنا؛ إنما هو فيء الله الذي أفاءه عليكم( ]الموال لبي عبيد ،ت رجب ،ص1/363
واستمر هذا المعنى مشعا ً حاضرا ً في مدونات الفقه السلمي في العصر الوسيط ،ومن ذلك
قول المام ابن قدامة رحمه الله في موسوعته المغني لما تعرض لباب إحياء الموات) :وأما
]مال بيت المال ،فإنما هو مملوك للمسلمين( ]المغني6/184 ،
ويشير لذلك القرافي بعبارة أكثر حسما ً ويتحدث عن ولي المر إذا وقف وقفا ً من المال العام
:ونسبه لنفسه
فإن وقفوا وقفا ً على جهات البر والمصالح العامة ونسبوه لنفسهم ،بناء على أن المال الذي(
في بيت المال لهم ،كما يعتقده جهلة الملوك؛ بطل الوقف ،بل ل يصح إل أن يوقفوا معتقدين
أن المال للمسلمين ،والوقف للمسلمين ،أما إن المال لهم والوقف لهم فل ،كمن وقف مال
]غيره على أنه له فل يصح الوقف فكذلك ها هنا( ]الفروق للقرافي ،ف ،115ص2/687
:وفي زمننا هذا يقول أهم مرجعية فقهية معاصرة وهوالعلمة ابن عثيمين رحمه الله
وغاية ما عند الحكومة أن توزع بيت المال على المستحقين ،فمثل :هذا مدرس فله ما يليق(
بعمله ،وهذا مؤذن فله ما يليق بعمله ،وهكذا ،يعني ليس من الحكومة في هذا إل التوزيع
والتنظيم ،أما أنت فلك حق ،وكل من عمل عمل ً متعديا ً في المسلمين فله حق من بيت
]المال( ]الممتع10/56 ،
حسنا ً ..ماهي النتائج السلبية التي انبنت على هذا التصور الخاطئ؟ أعني تصور أن المال
.العام هو ملك شخصي خاص لولي المر
انبنى على هذا التصور أن بعض ولة المور توهم أن له أن يأخذ من هذا المال ماشاء ،وأن
طع من العقارات ماشاء ،وأنه حين يصرف للناس من المال العام شيئا ً فإنما
يقتطع وُيق ِ
يتفضل به عليهم ،لنه في نظره ماله الشخصي الذي كرمه الله به على أساس الولية ،وهذا
خطأ مخالف لمبدأ )إنما أنا قاسم( الذي قرره رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ووضحه
.فقهاء المسلمين ،وسيأتي مزيد توضيح لهذا الوهم عند بعض الولة
ومما انبنى على هذا التصور الخاطئ –أيضا ً -أن بعض الفراد في المجتمع المسلم صار ل
يمانع من الستيلء على شئ من المال العام من وزارة أو مستشفى أو بلدية أومدرسة
أوغيرها ،والحجة التي يتذرعون بها يلخصونها في قولهم :أن هذا مال ولي المر ،وولي المر
!لم ينصفنا ،فيحق لنا أن نأخذ من ماله .فانظر كيف آل هذا التصور إلى هذه النتائج الفظيعة
ولذلك تجد بعض الناس ممن يحمل في نفسه نقمة على الوضع السياسي تجده مندفعا ً في
الستحواذ على شئ من المال العام ما أمكنه ذلك ،بل لزلت أتذكر أنني قابلت وأنا فتى يافع
شابا ً يكبرني ببضع سنوات ،فقال لي بلجة عامية )أي فلوس تقدر تاخذها من الدولة ل تتردد
لنهم ماكلينك أصل ً( وهذا ناشئ من تصور أن هذه الموال العامة هي أموال خاصة لولي
المر ،ولذلك يريد أن يظفر بحق يرى أن ولي المر غبنه فيه ،وهذا خطأ شنيع ،فهذه الموال
ة بالمسلمين العامة هي أموال المسلمين ،فإن أخذت منها هللة واحدة صارت ذمتك معلق ٌ
.جميعا ً
وقد أشار فقيه الدنيا في زمنه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله إلى هذه الظاهرة ،ووضح خطورة
:المر لن الذمة تتعلق بالمسلمين جميعًا ،حيث يقول الشيخ رحمه الله
خلفا ً لمن قال :إن بيت المال حلل ،اكذب على الدولة ،اسرق من العمل ،اعمل ما شئت(،
فليس هذا حراما ،والسبب أنه بيت مال المسلمين ،فنقول :بيت مال المسلمين أعظم من
ملك واحد معين؛ وذلك لن سرقته خيانة لكل مسلم ،بخلف سرقة أو خيانة رجل معين فإنه
]بإمكانك أن تتحلل منه وتسلم( ]الممتع14/354 ،
بل إن بعض الناس اعتاد أن يبرر غاراته على المال العام بقوله )يارجال هذي فلوس الدولة!(
واتضح لي بعد مناقشات مع هذا الصنف من الناس أنه يقصد بمفهوم "الدولة" هنا ليس
المفهوم المتعارف عليه بأنها ممثل عن المجتمع المسلم ،بل يقصد بمفهوم "الدولة" أشخاص
الولة أعيانهم ،فالدولة في نظر هؤلء كيان خارجي مستقل عن المجتمع يمثل أفرادا ً
!بأعيانهم
ومن استوعب جيدا ً قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم) -إنما أنا قاسم( ،وما وضحه
فقهاء السلم تأسيسا ً على هذا المبدأ؛ استبان له خطأ الصحافة الليبرالية في تعبيرها أحيانا ً
عن بعض القرارات بعبارة )مكرمة ملكية( ،فهذه العبارة فيها تفصيل :فإن كان ولي المر بنى
مستشفى أو جامعة أو مركزا ً للبحث العلمي أونحو ذلك ،من ماله الشخصي الخاص؛ فهذه ل
شك مكرمة يستحق بها ولي المر الشادة والتنويه ،فقد روى ابوداود بسند جيد عن أبي
هريرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم -قال ) ليشكر الله من ل يشكر الناس( ،وشكر
ولين للعمال الخيرية فيه مصلحة عظيمة بتشجيعهم وتشجيع نظرائهم على الخير .المم ّ
ولكن إن كان هذا المستشفى أو الجامعة أو الطريق أونحوه إنما بناه ولي المر بالمال العام
للمسلمين؛ فهذه ل يليق بالناس أن يقال لهم هذه مكرمة عليكم بينما هي في الحقيقة من
أموالهم أص ً
ل ،فهذا فيه إساءة مزدوجة لولي المر وللناس ،ولكن الصحافة الليبرالية ل تبالي
بمشاعر المجتمع ،لنها مؤسسات بنيت على الوصولية وتزوير الوعي ،ولزلنا نطمح باستصدار
.توجيه للعلم الليبرالي للكف عن استعمال هذه العبارة المؤذية لمشاعر الناس
على أية حال ..هذا المبدأ العظيم )إنما أنا قاسم( الذي أسسه رسول الله –صلى الله عليه
وسلم -يرّتب التزامين ،التزام على ولي المر بأن ل يستعمل المال العام كممتلكات شخصية،
والتزام على الفراد برعاية حرمة )المال العام( وتغليظ العتداء عليه لنه متعلق بذمة
.المسلمين جميعًا ،وليس مال ً لعيان فقط
ة ،وفي فقه وبالجملة فمن أراد أن يعرف شدة حضور )المال العام( في الفقه السلمي عام ً
ة؛ فليقرأ الكتاب الجليل )الموال( للمام أبي عبيد رحمه الله ،وأما
عمر بن الخطاب خاص ً
كتاب ابن زنجويه بنفس السم )الموال( فهوكالمستخرج على كتاب أبي عبيد مع بعض
ل إن سياسات إدارة المال العامالضافات الطفيفة ،وقد أشار لذلك الكتاني ،بل لو قال قائ ٌ
-موارده ومصارفه -في السلم أسس شطرها العظم ابوحفص عمر بن الخطاب –رضي الله
عنه -لما أبعد ،والمراد أن من تأمل في كتاب الموال للمام أبي عبيد وكيف يتباحث أئمة
السلف في التفاصيل الفقهية لدارة )المال العام( استوعب منزلة هذا المال في دين الله،
.وشدة عناية أهل السنة به
خل المسؤولهذا مزارع يأتي للمسؤول بصناديق التمر الفاخر كل عام ،وهذا مستثمر ُيد ِ
ض يقرضونه إياه فإذا أتت الرباح أخذوا قرضهم وأعطوه الربح ً
شريكا معهم في تجارتهم بقر ٍ
وهو لم يحرك ساكنًا ،وهذا مسؤول تمنحه شركة التقسيط تسهيلت خاصة بتقليص هامش
الرباح إلى نسبة معدومة ،وهذا مسؤول يأتيه بعض مستثمري العقار ويقولون نريدك أن تدخل
معنا في عمولة بيع بعض العقارات الفلنية وبعد مدة ينزل في رصيده مبلغ العمولة )السعي(
وهو ل صلة له أصل ً بالصفقة ،وهذا مسؤول أتته منحة عقارية كغيره من المسلمين لكن يقدم
له البعض خدمة بتطبيق المنحة في موقع عقاري باهظ الثمن فتصبح قيمة منحته تساوي
عشرة أضعاف منحة نظرائه ،وهكذا صور كثيرة للهدايا التي تقدم لشاغلي الوظائف ذات
الحساسية ،ويبتلى بها خصوصا ً أمثال وكلء الوزارات والقضاة وكتاب العدل وعمداء شؤون
.القبول والتسجيل بالجامعات ونحوهم
وهذا لون من ألوان الفساد في المال العام لنه استغلل للسلطة ،لكن الشكال الجوهري في
كل صور الفساد هذه أنها تأتي في صورة هدية وتسهيلت و)فزعة( الخ ،حسنا ً ما الضابط الذي
يكشف ذلك؟ الضابط الذي يكشف ذلك بينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في حديث
ابن اللتبية الشهير في الصحيحين حين بعثه النبي –صلى الله عليه وسلم -لجمع صدقات بني
:سليم ،تأمل معي الضابط الذي أشار إليه رسول الله
عن أبى حميد الساعدى قال :استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -رجل من السد(
يقال له ابن اللتبية على الصدقة ،فلما قدم قال :هذا لكم وهذا أهدى لي ،قال فقام رسول
الله -صلى الله عليه وسلم -على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال" :ما بال عامل أبعثه
فيقول هذا لكم وهذا أهدى لي ،أفل قعد فى بيت أبيه أو فى بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم
]ل؟( ]البخاري ،2597مسلم 4843
لعلك لحظت المبدأ الذي أسسه النبي –صلى الله عليه وسلم -لفرز صور إستغلل السلطة
والترّبح من الوظيفة ،وهذا المبدأ هو )هل جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدى إليه أم
:ل؟( ،ويشرح ابن قدامة -رحمه الله -الساس الذي بنى عليه رسول الله هذا الضابط فيقول
]لن حدوث الهدية عند حدوث الولية؛ يدل على أنها من أجلها( ]المغني ،لبن قدامة(
ومن وجه آخر يوضح ابن تيمية هذا الضابط النبوي والسبب الذي يدعوا الناس لفعل ذلك مع
:المسؤولين فيقول
فإن كان الرجل بحيث لو نزع عن تلك الولية أهدي له تلك الهدية؛ لم تكن الولية هي(
الداعية للناس إلى عطيته ،وإل فالمقصود بالعطية إنما هي وليته ،إما ليكرمهم فيها ،أو
]ليخفف عنهم ،أو يقدمهم على غيرهم ،أو نحو ذلك( ]الكبرى6/157 ،
الكثير من المسؤولين يسأل دوما ً :متي تكون الخدمة والتسهيلت التي أتلقاها جائزة ومتى
تكون محرمة؟ والجواب ميسور جدًا ،طّبق فقط قاعدة النبي –صلى الله عليه وسلم) -هل
جلس في بيت أبيه فينظر أيهدى إليه أم ل؟( بمعنى كلما واجهت تسهيلت أوخدمات فاسأل
نفسك :هل كنت ستتلقاها لو لم تكن تحتل هذا المنصب؟ فإن كان الجواب نعم فهي خدمة
.مشروعة ،وإن الجواب ل فهي خدمة محرمة
وهذه القاعدة النبوية أدهشت بلغاء الصوليين في طريقة صياغتها ،ففي كتابه الساحر بدائع
الفوائد عقد ابن القيم فصل ً يذكر فيه أمثلة شرعية على طريقة تنبيه القرآن والسنة إلى
"العلل الشرعية" وأوصافها وتأثيرها على الحكام ،وأن ما في النصوص الشرعية من دقائق
العقول بأجمع الكلم وأوجزه ما هو أعظم من كلم الصوليين ،ومن المثلة التي ذكرها ابن
:القيم قوله
وتأمل قوله في قصة ابن اللتبية "أفل جلس في بيت ابيه وأمه وقال هذا أهدى لي" كيف يجد(
تحت هذه الكلمة الشريفة أن الدوران يفيد العلية ،والصولي ربما كد خاطره حتى قرر ذلك
بعد الجهد ،فدلت هذه الكلمة النبوية على أن الهدية لما دارت مع العمل وجودا ً وعدما ً كان
العمل سببها وعلتها ،لنه لو جلس في بيت أبيه وأمه لنتفت الهدية ،وإنما وجدت بالعمل فهو
]علتها( ]بدائع الفوائد ،ابن القيم
وحديث ابن اللتبية هو الصل الشرعي في تنظيم قاعدة )استغلل النفوذ( ،وفي هذا الحديث
:من الفقه ووسائل معالجة سوء استعمال السلطة مبادئ غزيرة ،وسنذكر بعض المثلة
منها :تجريم استغلل النفوذ والسترباح من الوظيفة ومنع أي صورة من صور المحاباة للولة
.والمسؤولين تحت أي غطاء كهدية ونحوها
ومنها :الضابط الذي يميز هل المنفعة والتسهيلت التي استفادها المسؤول من الناس جائزة
".أم ل؟ وهو ضابط "لوكان في غير الولية فهل سيصله هذا النفع أم ل؟
ومنها :أن الموال المتحصلة من الهدايا التي للولة ل ترجع إلى المهدي ،بل تذهب للمال
العام ،لن النبي لم يرجعها للمهدين بل أخذها للمال العام ،وهذا الجراء النبوي بناًء على
.قاعدة المعاملة بنقيض المقصود ،وقد أشار الفقهاء لهذه المسألة
ومنها :محاسبة الولة بعد النتهاء من أعمالهم فقد نص الحديث على "المحاسبة" كما في
:رواية البخاري
عن أبي حميد الساعدي قال :استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم رجل ً من السد(،
]على صدقات بني سليم ،يدعى ابن اللتبية فلما جاء حاسبه( ]البخاري1500 ،
ومنها :أن محاسبة الولة والوزراء والمسؤولين ل تعني أبدا ً إساءة الظن فيهم ول الطعن في
أمانتهم ،ولكنه "إجراء عدلي" يخضع له الجميع لضمان سلمة إدارة المال العام ،فإن ابن
اللتبية صحابي أمين ،ومع ذلك حاسبه -صلى الله عليه وسلم -قال ابن القيم تعليقا ً على أن
:أمانة المسؤول ل تمنع محاسبته
للحاكم أن يحاسبه ويسأله عن وجوه ذلك ،ول يمنعه من محاسبته كونه أمينًا ،فإن النبي(
-صلى الله عليه و سلم -حاسب عماله كما ثبت في صحيح البخاري أنه بعث ابن اللتبية عامل
].على الصدقة فلما جاء حاسبه( ]إغاثة اللهفان ،ابن القيم
ومنها :أنه ل مانع أن تكون المحاسبة المالية للولة والمسؤولين علنية ،ففي نص حديث أبي
حميد الساعدي في البخاري ومسلم أن النبي صعد المنبر وحاسب وعاتب والي الموال ابن
اللتبية رضي الله عنه ،ولم يحاسبه أو يعاتبه بشكل سري أوفي غرفة خاصة ،كما يقول
:الراوي
فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم -على المنبر ،فحمد الله وأثنى عليه ،وقال :ما بال(
]عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدى لي] (..البخاري ، 6979مسلم 4843
ول يزال في حديث ابن اللتبية الكثير من مبادئ وقواعد محاسبة الولة وضبط استعمال
السلطة وحماية المال العام وكبح استغلل النفوذ ،وهي بحاجة لتفقه خاص ،وليس هذا محل
.بسطها
والحقيقة أن حديث ابن اللتبية أّثر على الفقهاء جوهريا ً في النظر لسلوك صاحب السلطة،
سأنقل هذا الحوار الطريف بين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وأحد تلميذه في منزل الشيخ
:رحمه الله عام 1420هـ
الشيخ :الهدية من الموظف لرئيسه ل تجوز؛ لنك كما تعلم حديث عبد الله بن اللتبية ،..هذا-
.الرئيس لول أنه رئيس هل ستعطيه؟ ل تعطيه ،إذا ً ل تعطه
الشيخ :ل ،هذا ليس من باب الدعوة ،الدعوة اذهب للمسجد ،لن الهدية تجذب النسان غصبا ً -
عليه ،إذا أهديت للرئيس تريد في المستقبل يحابيك ،ويتغاضى عن تقصيرك ،ويرخص لك في
].وقت ليس فيه ترخيص ،الهدية تجبر النسان أنه يحابي صاحبه( ]لقاء الباب المفتوح ،ل225
ل لكما-
:اكتبا كل ما ٍ
بناء الوازع اليماني والوعي الخلقي والنظم العقابية في المجتمع حول المال العام ل شك أن
له دورا ً جوهريا ً في صيانة المال العام ،لكن ذلك كله ل يكفي ،بل لبد –أيضا ً -من وسائل
وإجراءات )وقائية( تحفظ المسؤول مسبقا ً من الوقوع في جريمة استغلل السلطة والثراء
من المال العام ،ومن أهم هذه الليات الوقائية آلية أسسها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب
-رضي الله عنه -وهي إفصاح شاغلي المناصب القيادية عن ثروتهم وممتلكاتهم ،أو إعلن
الذمة المالية ،فإذا أصبحت ثروتهم تحت الضوء امتنع عليهم مضاعفة ثروتهم بعد تولي
.المنصب
روى المام أحمد في فضائل الصحابة عن نافع أن بعض الولة طلبوا زيادة رواتبهم في عهد
:أبي بكر ،فلما ولي عمر كتب إليهم إجراءات جديدة ،يقول نافع
لما ولي عمر كتب إليهم –أي إلى معاوية وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد" : -إن رضيتم(
بالرزق الول وإل فاعتزلوا عملنا" ،قال :فأما معاوية وعمرو فرضيا ،وأما خالد فاعتزل ،قال:
ل هو لكما" ،ففعل ،قال :فجعل ل يقدر لهما بعد علىفكتب إليهما عمر" :أن اكتبا لي كل ما ٍ
ل إل أخذه فجعله في بيت المال( ]فضائل الصحابة ،للمام أحمد ،دار ابن الجوزي ،ص ما ٍ
358].
وهذا أثر بإسناد جيد إلى نافع راوي القصة ،وغاية ما يتخوف فيه هو تردد جرير بن حازم
الحافظ حيث رواه مرةً عن نافع مباشرة ،ومرة عن يعلى عن نافع ،وهذا ل يضر لعدة قرائن؛
منها أن الواسطة صحيحة أعني يعلى بن حكيم ،ولن جرير ثبت سماعه من نافع ،ولن من
روى عن جرير ولده وهب ،ووهب ضبط حديث والده الذي قبل الختلط وبعده ،حتى أنه حجبه
عن الرواية حين اختلط كما نص على ذلك ابن مهدي ،فالرجح أن الحديث بادخال الواسطة
ل فهو صحيح يعلى لنها الرواية القدم زمنا ً فهي أبعد عن اختلط جرير المتأخر ،وعلى ك ٍ
.السناد إلى نافع
وهذا الثر العمري العظيم في غاية الهمية في تأسيس مبدأ إفصاح المسؤول عن ثروته قبل
توليه منصبه ،أي إعلن الذمة المالية ،وكونه مبدأ مبكر في تاريخ السلم ،حيث أرسل عمر
ل لكما( ،وهذه مطالبة صريحة بالفصاح عنلثنين من المسؤولين يقول لهما )اكتبا لي كل ما ٍ
.الوضع المالي للمسؤول ،بل إن عمركان يأخذ ما زاد في ثروة المسؤول ويرسله للمال العام
فإن سئل" :من أين لك هذا؟" قال :أهدي لي ،فهل إن كان صادقا ً أهدى له وهو في بيت أبيه (
]أو أمه( ]خزيمة2382 ،
وقد كان عمر بن الخطاب يسأل عماله كثيرا ً عن مصادر ثروتهم بعد الولية ،تطبيقا ً لمبدأ )من
.أين لك هذا؟( الذي أسسه رسول الله ،والثار عن عمر كثيرة في هذا الباب
ومن الطريف أن هذا التصور الساذج ليس مقتصرا ً على بسطاء العامة؛ بل تدحرج فيه من
يسمونهم "كبار" المفكرين العرب ،ومنهم نصر ابوزيد )توفي في يوليو ،(2010حيث يقول
:ساخرا ً بفقهاء السلم
وثمة شرط آخر أشد خطورة وهو "أل يكون للسارق في المال المسروق نصيب" ،أي أن(
يكون المال مملوكا ً ملكية خاصة للمسروق منه ،وبديهي أن هذا الشرط ل يتوافر في بيت
مال المسلمين أو الخزانة العامة ،فكل من يستولي على بعض هذا المال العام -أو كله -ل
يقام عليه الحد ،لن له نصيبا ً فيه فليس خالصا ً للغير ،وهكذا ينحصر مجال تطبيق حد السرقة
على النصابين وصغار اللصوص ،وهذا هو السلم الذي يطرحه الخطاب الديني على الناس،
].ويبشرهم بأنه قادر على حل مشكلت الواقع( ]نقد الخطاب الديني ،ابوزيد88 ،
فنصر ابوزيد يتصور ذات التصور الذي لدى بعض الجهال ممن لم يسعفهم الوقت للتعلم ،وهو
!أن انتفاء الحد بالشبهة يعني انتفاء التجريم والتعزير ،ويقتضي إباحة السرقة من المال العام
فالجمهور )الحنفية والشافعية والحنابلة( يرون أن السارق من بيت المال ل قطع عليه ،وإنما
فيه التعزير المناسب ،ويحتجون بقاعدة درء الحدود بالشبهات وللسارق من بيت المال شبهة
ملك ،ويحتجون -أيضا ً -بحديث العبد الذي سرق من المغنم –وهومال عام -فلم يقطعه النبي
-صلى الله عليه وسلم -وقال )مال الله سرق بعضه بعضا ً( ]ابن ماجة ،[2590 ،ولكن الحديث
في الحقيقة ضعيف فيه جبارة وحجاج بن تميم كلهما ضعيفان ،وقال عنه البيهقي في السنن
الكبرى )وهذا إسناد فيه ضعف( ،واحتجوا –أيضا ً -بآثار عن الصحابة عمر وعثمان وعلي
.وغيرهم ،وليس هذا محل إيرادها وما قيل فيها
وأما القول الخر فهو قول المام مالك وبعض السلف ورأو أن السارق من بيت المال عليه
َ
ة َفاقْط َُعوا أي ْد ِي َهُ َ
ما( ]المائدة .[38 ،ول مخصص لها سارِقَ ُ
ق َوال ّ
سارِ ُ
.قطع ،لعموم آية )َوال ّ
ومن الفقهاء من حاول التوسط بين القولين ،ومنهم الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله -فرأى أنه
ل إطلق في القطع في السرقة من بيت المال ،بل بحسب قوة شبهة الملك ،فقد يكون
السارق قد أخذ حقوقه من بيت المال ولم يعد له فيه شبهة ملك فعليه القطع ،وقد يكون لم
يستوفها فهذه شبهة ملك تدرأ الحد ،فصار المعتبر هو قوة شبهة الملك ،كما يقول الشيخ ابن
:عثيمين
الخلصة في مسألة السرقة من بيت المال :أن الصل فيها القطع ،حتى توجد شبهة بينة(،
]وهي إما فقره ،أو قيامه بمصلحة من مصالح المسلمين( ]الشرح الممتع14/355 ،
وبالجملة فسواء على مذهب المام مالك الذي يرى في سرقة المال العام القطع ،أو في
مذهب الجمهور الذين يرون درأ الحد وثبوت التعزير؛ ففي الحالين لم يرتفع التجريم ول
.العقوبة ،وفي هذا إيضاح لخطأ التصور لدى بعض الجهال ،ولدى نصر ابوزيد وأمثاله
ومما يدل أن نصر ابوزيد لم يفهم المسألة الفقهية أصل ً قوله في خلصة هذا النقد )وهكذا
ينحصر مجال تطبيق حد السرقة على النصابين وصغار اللصوص( فانظر كيف يتوهم أن هذا
القول الفقهي يفضي لحماية كبار اللصوص وتطبيق الحد على صغار اللصوص ،بينما الواقع هو
عكس ذلك ،فإن صغار اللصوص هم الفقراء وهم أكثر احتمال ً لن يكون لهم شبهة ملك في
بيت المال ،وسرقتهم ل تتعدى حقهم في أكثر الحوال ،فيدرأ عنهم الحد بهذه الشبهة ،بخلف
كبار اللصوص فهم أثرياء ويغلب أن ل تكون لهم شبهة ملك في بيت المال ،ولو فرض أن لهم
شبهة ملك فإن سرقتهم الكبيرة تتجاوز مقدار ما يملكونه قطعًا ،فتنتفي الشبهة الدارئة للحد،
فصار هذا القول الفقهي يفضي لتطبيق الحد على كبار اللصوص دون الصغار ،وليس العكس
.كما يتوهم ابوزيد
فتأمل كيف يستنتج نصر ابوزيد من هذا الحكم الفقهي ما هو نقيض المقصود وستدرك حينها
وجاهة الرأي الذي يرى أهمية تكثيف الدعوة السلمية لقضية استعمال )العقل( ،وأن ينشر
الدعاة بين الشباب أهمية تحريك العقل والعقلنية ،فكثير من هؤلء الذين يسمون أنفسهم
مفكرين يعانون من أنيميا حادة في القدرات العقلية ،وشواهد ذلك تفوق الحصر وفيها أمثلة
.طريفة كثيرة
والحقيقة أن تهكم نصر ابوزيد بالفقهاء ل يثير استغرابا ً كبيرًا ،لن الرجل كان لديه مشكلة مع
القرآن نفسه ،فضل ً عن الفقهاء ،فكان يعلن أن القرآن بشري ل إلهي ،وأن الغيبيات في
القرآن أساطير ،ولذلك رفع عليه مجموعة من المحتسبين في مصر دعوى لدى المحكمة
بثبوت ردته ووجوب التفريق بينه وبين زوجته ابتهال يونس ،فقررت المحكمة ردته فعل ً
والتفريق بينه وبين زوجته ،فرفع نصر ابوزيد طعنا ً في الحكم لدى محكمة النقض ،فرفضت
محكمة النقض طعن نصر ابوزيد وأيدت حكم المحكمة بردته! كما تقول محكمة النقض في
:نص حكمها
وحيث إن هذا النعي مردود ،بما سلف بيانه ،من أن المطعون ضده الول –أي نصر ابوزيد -قد(
أفصح بمؤلفاته عما يعد من الكفر الصريح ،وأن استتابة المرتد مستحبة وغير واجبة على
الراجح في المذهب الحنفي ،وأن أثر هذه الستتابة يتعلق بتوقيع حده الردة ول يؤثر في
القضاء بالفرقة التي تقع على الفور بمجرد الردة بين المرتد وزوجه ،وأن الحكم المطعون فيه
قد انتهى إلى قضاء صحيح( ]محكمة النقض المصرية ،الطعن رقم 478لسنة 65ق أحوال
].شخصية
ونصر ابوزيد أنكر أن يكون القرآن من الله متذرعا ً بأن ذلك يمنعنا من فهم القرآن ويصبح
:وكأن الله يكلم نفسه! كما يقول ابوزيد
إن القول بإلهية النصوص ،والصرار على طبيعتها اللهية؛ يستلزم أن البشر عاجزون(
بمناهجهم عن فهمها ،..وهكذا تتحول النصوص الدينية إلى نصوص مستغلقة على فهم النسان
العادي ،وهكذا يبدو وكأن الله يكلم نفسه ويناجي ذاته ،..وإذا كنا هنا نتبنى القول ببشرية
النصوص الدينية؛ فإن هذا التبني ل يقوم على أساس نفعي آيديولوجي( ]نقد الخطاب الديني،
].ابوزيد206 ،
بل بلغ التوقح بنصر ابوزيد أنه كان يقول أن غيبيات القرآن )عن الله والملئكة الخ( خرافات
:وأساطير ،كما يقول
تتحدث كثير من آيات القرآن عن الله بوصفه مِلكًا ،له عرش وكرسي وجنود ،وتتحدث عن(
القلم واللوح ،..وكلها تساهم إذا فُِهمت فهما ً حرفيا ً في تشكيل صورة أسطورية( ]نقد
].الخطاب الديني ،ابوزيد207 ،
أرأيت مستوى هذا النحطاط في التعامل مع القرآن باعتباره ل ينسب لله ،وأن الغيبيات التي
فيه أساطير؟ ياليتك إذن ترى كيف احتفت صحافتنا الليبرالية المحلية بهذا المتعدي على كتاب
الله ،لقد أقاموا له رقصة تلميع تتمعر منها قلوب المؤمنين ،وليس هذا موضع إيراد شواهد
:الصحافة الليبرالية المحلية ،لكن خذ مثال ً واحدا ً فقط
ل يحضر نصر حامد أبو زيد في ذاكرتي بوصفه مفكرا ً عربيا ً لمعا ً وحسب ،وإنما إنسانا ً(
].ومثقفا ً وشجاعا ً من طراز فريد( ]صحيفة الرياض 8 ،يوليو 2010
وهكذا تجد صحافتنا الليبرالية المحلية ترّوج لكل من يتعدى على القرآن ،في الوقت الذي
تترصد فيه للعلماء الربانيين لتشويه صورتهم الجتماعية ،هل هذه صحافة تعبر عن بلد
الحرمين وجزيرة السلم ومنطلق دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب؟! ألم يحق الوقت
لجتثاث هذه الفئة الضالة التي تتربع على إدارة المؤسسة العلمية الليبرالية نصرةً لكتاب
ة للقرآن؟!الله وحمي ً
ل؟ حين تتأمل في كتابات من يخدعون أنفسهم بتسمية ذواتهم أتدري أين موضع الطرافة فع ً
)المفكرين العرب( وتجدهم لعقود تلو عقود وهم يتمدحون بأنهم سيأتون بالنظريات الجديدة
التي لم يأت بها الوائل ،فإذا طالعت كتاباتهم وجدتهم يتبنون أن القرآن فيه )أساطير( كما
كان يقول ذلك أركون )الفكر السلمي قراءة علمية ،ص ، (84وكما يقوله نصر ابوزيد )نقد
دة هاهنا؟ هذه عينها نظرية مشركي الخطاب الديني ،ص ، (207وغيرهم ،فبالله عليكم اين الج ّ
:قريش قبل خمسة عشر قرنا ً! كما حكى الله مقالتهم فقال
َ َ
طيُر اْلوِّلي َ
ن( ]النعام(25 ، ذا إ ِّل أ َ
سا ِ ن هَ َ ن كَ َ
فُروا إ ِ ْ ل ال ّ ِ
ذي َ قو ُ جاد ُِلون َ َ
ك يَ ُ جاُءو َ
ك يُ َ حّتى إ ِ َ
ذا َ ] َ
َ َ
طيُر اْلوِّلي َ
ن(( ذا إ ِّل أ َ
سا ِ ن هَ َ ل هَ َ
ذا إ ِ ْ قل َْنا ِ
مث ْ َ شاُء ل َ ُ معَْنا ل َ ْ
و نَ َ م آَيات َُنا َقاُلوا قَد ْ َ
س ِ ذا ت ُت َْلى ع َل َي ْهِ ْ
وَإ ِ َ
]]النفال31 ،
ياضيعة العمار من أقوام ٍ ظنوا أنهم سيأتون بالبداع والتحديث ،فإذا هي نظريات الطبقة
الوثنية المنحطة قبل خمسة عشر قرنًا ،يعيبون علينا الخذ من ابن تيمية لنه قديم قبل سبعة
قرون ،وهم يأخذون نظريات مشركي قريش قبل خمسة عشر قرنًا ،ثم ل يخجلون من
!التباهي بذم الماضوية
إذا كان هذا هو التجديد والبداع الفكري وهو أخذ نظريات مشركي قريش فالقضية ميسورة
جدا ً ولله الحمد ،ولذلك فالشاب الذي يطمح أن يسلك مسالك المفكرين العرب هؤلء فلدي
له مقترح يختصر عليه الطريق ،وهو أن يلتقط ما تبقى من نظريات مشركي قريش التي
عرضها القرآن ويتبناها باعتبارها تجديدا ً فكريًا ،ويعرضها في كتاب جديد بلغة متقعرة تحت
عنوان )قراءة انثروبولوجية جديدة في القرآن( ،أو يمكنه وضعها تحت عنوان آخر )نظرية
المابعدقرشية -رؤية مقاصدية( ،وإذا أراد "دليل ً إرشاديا ً" لنظريات مشركي قريش بحيث
يختصر عليه الوقت فليراجع رسالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب )مسائل الجاهلية( فقد جمع
فيها المام المجدد –رحمه الله -أكثر من ) (120فكرة من أفكار مشركي قريش التي أبطلها
القرآن ،وصدقني بمجرد طرحك لهذا الكتاب ستجد صورتك الشخصية ومقالت الحفاوة بك
في صدر صحفنا السيارة ،وسُتدعى مباشرة لمؤتمرات الفكر العربي لتعرض نظرياتك الجديدة
!في فهم السلم وإعادة قراءة التراث
على أية حال ..دعنا من تصفيق الصحافة الليبرالية المحلية لمعتوهي الفكر العربي ،ولنعد
.لموضوعنا عن التصورات الشائعة والمغلوطة عن المال العام
حسنا ً ..أين المشكلة إذن؟ المشكلة أن بعض متفقهة السوء الذين يحيطون بالولة يصورون
لهم أن معنى هذه القاعدة أن ولي المر مخير كالتخيير الذي في خصال الكفارة ،أي يكون
مخيرا ً في التصرف بحسب التشهي والرغبة الخاصة ،وأنه ليس عليه قيود في ذلك .وهذا
تصور خاطئ كليا ً لمعنى القاعدة ،فالمصلحة في ذاتها تقييد وليست تخيير ،بمعنى أن تصرف
ولي المر يجب أن يراعي فيه المصلحة الشرعية ،فإن تصرف في المال العام بغير مراعاة
.المصلحة دخل في الظلم وخرج عن حد العدل وتعرض لغضب الله جل وعل
:العدل في القطاع-
في شهر ربيع الول عام 1394هـ اجتمعت الهيئة القضائية العليا في السعودية وقررت أن
)القطاع يفيد التملك( ]قرار رقم ،94وتاريخ .[14/3/1394وهوقرار مشهور ،ومضمونه أن
ولي المر إذا منح شخصا ً مساحة عقارية فيتملكها دون حاجة لحيائها الحياء الشرعي
.المعروف
هذا القرار يرى بعض المراقبين أنه هو المسؤول عن اجتياح كثير من النافذين للعقارات ،ثم
تطويق المدن الكبرى ،لنهم صاروا يتملكون الراضي بكل سهولة دون حاجة لحيائها ،وهذا ما
سبب بالتالي نشوء أزمة العقار والسكان في السعودية ،وأعرف أحد الخبراء المتميزين في
هذا المجال ،وهو صديق خاص لي ،حدثني أكثر من مرة عن قناعته بتفسير أزمة العقار في
.السعودية بناء على قرار 1394هـ الذي اعتبر أن القطاع يفيد التملك
وثمة آخرون قرأت لهم بعض الكتابات هنا وهناك يزيدون المر تصعيدا ً فل يتوقفون عند هذا
التفسير فقط ،بل يرون أن الفقه السلمي وعلماءنا هم المسؤولون عن أزمة السكان؛ لن
هذا القرار القضائي اتخذ باسم الفقه والعلماء والشريعة ،وأن الصلح بالتالي يبدأ من الثورة
على هذا الفقه التقليدي الذي خلق حالة الشقق السكنية الباهظة وحرم الناس من نعمة
ض مناسبة
.السكان والتمتع بأر ٍ
حسنا ً ..هذه أطروحة تستحق المناقشة والحترام لصحابها ،وفي تقديري الشخصي أن
تفسيرهم المطروح هذا غير علمي بتاتًا ،وأعتقد أن هناك لبس وسوء فهم ناشئ عن عدم
استيعاب التسلسل التاريخي لشكالية التملك العقاري في السعودية ،ول يمكن إيضاح
الموضوع إل بعرض التعاقب التاريخي للقضية ،فلنحاول إلقاء الضوء ابتداًء من الفقه السلمي
.وانتهاًء بالوضع الحالي
من المعروف في الفقه السلمي أن العقارات ل تملك إل بسبب شرعي للملك مثل )الشراء،
.الهبة ،الرث ،الحياء ،التنفيذ على الرهن ،الخ( ونحوها من العقود والتصرفات الناقلة للملكية
وهاهنا يبدأ السؤال :إذا قام ولي المر ومنح شخصا ً ما قطعة أرض من عقار المال العام
للمسلمين ،بدون شراء ول إحياٍء ول غيره من أسباب الملك؛ فهل يملك هذا الشخص هذه
القطعة من الرض بمجرد هذه المنحة ،والتي تسمى )القطاع( ؟
وهذا سؤال ليس سؤال ً افتراضيًا ،فكثيٌر من الناس وخصوصا ً من النافذين يحصلون على
مساحات شاسعة من الراضي إما من ولي المر مباشرة ،أو من أراضي أحد الوزارات
الحكومية ،فهل ُتملك عقارات المال العام بمجرد هذا القطاع؟
الحقيقة أن هذه المسألة فيها خلف بين الفقهاء ،فالمالكية يرون أن القطاع بنفسه يفيد
الملك ،فيجوز لمن أخذ الرض أن يتصرف فيها مباشرة بالبيع حتى ولو لم يحيها ،كما يقول ابن
:رشد الجد
إذا أقطعه شيئا من الموات ليحييه يستحقه بنفس القطاع ،فيورث عنه ،ويكون له أن يتصرف(
].فيه بما شاء من بيع أو غيره( ]البيان والتحصيل ،ابن رشد الجد10/301 ،
ن ابن رشد –رحمه الله -إل حالة إهمال الرض وبين أنها تسوغ لولي المر انتزاع ولم يستث ِ
العقار ،لكن القضية الجوهرية وهي التملك بنفس القطاع ،والذي يفيد مشروعية التصرف
.بالرض مباشرة بيعا ً وإجارةً ورهنا ً الخ ،فهذا يقول به المالكية بل إشكال لديهم
وأما الجمهور )الحنفية والشافعية والحنابلة( فيرون أن القطاع نفسه ل يثبت به الملك ،بل ل
بد من إحياء الرض حتى يكون سببا ً شرعيا ً للملك ،إذن ما فائدة القطاع عندهم؟ القطاع
طع يقدم على غيره في إحياء الرضعندهم يفيد الختصاص والولوية فقط ،بمعنى أن المق َ
َ
.المقطعة
كما يقول الكاساني الحنفي عندما تعرض للقطاع )الملك في الموات يثبت بالحياء( ]بدائع
].الصنائع ،الكاساني
]ويقول الماوردي الشافعي )القطاع ل يوجب التمليك( ]الحاوي الكبير ،الماوردي7/482 ،
:وأما الحنابلة فهم أشد المذاهب في منع التملك بالقطاع ،واشتراط الحياء ،قال البهوتي
وسبب خلف الفقهاء في هذه المسألة اختلفهم في تفسير نصوص القطاع الواردة عن النبي
–صلى الله عليه وسلم -منها :أن النبي أقطع الزبير أرضا ً من أموال بني النضير )البخاري
، (3151وأن النبي دعا النصار ليقطع لهم من البحرين )البخاري ، (3163وأن النبي أقطع
وائل بن حجر أرضا ً في حضرموت )ابوداود 3060وصححه ابن الملقن في البدر المنير( ،وأن
).النبي أقطع بلل بن الحارث العقيق أجمع )الحاكم1467وفيه ضعف
وثمة نصوص أخرى ل مجال لعرضها ،ومن أحسن من رأيته استوعب نصوص القطاع النبوي
البيهقي في السنن الكبرى ،والحقيقة أنه ليست هذه المسألة فقط ،بل أكثر مسائل الحكام
.الفروعية التي فيها أحاديث وفيرة تجد البيهقي غالبا ً من أحسن من يسوق أحاديثها رحمه الله
والمراد أن اختلف الفقهاء في مسألة هل القطاع يفيد الملك أم يفيد الختصاص فقط؟ ناشئ
عن اختلفهم في تفسير أحاديث القطاع النبوي .فالجمهور يحملون هذه الحاديث على أنها
للولوية ول يتحقق الملك إل بالحياء فيفسرونها على ضوء )من أحيا أرضا ً ميتة فهي له(،
.والمالكية يحملونها على ظاهرها وأنها تمليك محض
حسنا ً ..دعنا ننتقل الن من الفقه السلمي إلى القضاء الشرعي في السعودية ،وكيف تعامل
القضاء الشرعي مع هذه المسألة؟
يعرف المختصون أن أهم مصدر يكشف تاريخ القضاء الشرعي في السعودية هو مجموع
فتاوى رئيس القضاة في زمنه الشيخ محمد ابن ابراهيم رحمه الله ،والتي جمعت فيها أقضيته
وأحكامه ومراسلته للقضاة وللمسؤولين ،وتتمتع فتاوى وأقضية الشيخ محمد ابن ابراهيم
بوزن استثنائي في الداخل القضائي السعودي ،فل يقاربها أي مصدر آخر فضل ً عن أن يعادلها،
).حيث يتعامل معها القضاة ياعتبارها أشبه ما تكون بـ)سوابق قضائية حاكمة
على أية حال ..حين نعود لقضية الشيخ ابن ابراهيم نلحظ حماسا ً منقطع النظير لدى الشيخ
-رحمه الله -لعتبار أن القطاع ل يفيد التملك ،والتشديد في هذه المسألة ،وأنه ل بد من
طع ،وأن ل يكون القطاع إل بقدر قدرته على الحياءمق َ
.الحياء وإل تنتزع الرض من ال ُ
ونصوص الشيخ محمد بن ابراهيم كثيرة جدا ً في هذه المسألة سأقتطف بعضها ،فمن ذلك
:قول الشيخ في خطاب أرسله إلى رئيس مجلس الوزراء شارحا ً فيه خلصة رأيه
طع حق التملك ،وإنما يعطيه حق( للحكومة إقطاع الموات ،وهذا القطاع ل يعطي المق َ
الختصاص والولوية على غيره حتى يحييها ،ويضرب له مدة يتمكن في أثنائها من الحياء ،فإن
].أحياها وإل نزعت منه( ]مجموع فتاوى ابن ابراهيم
وأشار الشيخ مرةً إلى وجه قلقه من هذه المسألة ،وهي أن القطاع بهذا الشكل قد يكون
ذريعة الى استغلله ماليا ً على حساب الناس ،فتصبح الرض كأنها ورقة تجارية )شيك( بحيث
يقتطعها اليوم مجانا ً ويبيعها على الناس غدا ً بأرفع السعار ،حيث ذكر الشيخ عبارة الحنابلة
:وعلق عليها بقوله
لهذا قالوا "إقطاع الموات لمن يحييه" ،أما إقطاع قطعة كبيرة لمن يأخذ ورقتها اليوم ،وبعد(
].أيام يأخذ نصف المليون ،فهذا ليجوز( ]مجموع فتاوى ابن ابراهيم
بل إنه لما صدرت أحد النظمة المتعلقة بالعقار أرسل وزير الزراعة حينها الستاذ حسن
المشاري نسخة للشيخ محمد بن ابراهيم ليراجعها ،وهو إجراء معتاد ،فماذا صنع الشيخ؟ تذكر
مباشرة قضيته التي اهتم بها وهي تطويق القطاعات وفتح المجال للمحتاجين ليتملكوا ،جاء
:في ملحوظات الشيخ التي أرسلها لوزير الزراعة
قد جرى في الماضي إقطاع أراضي زراعية من ولي المر ،ولم يقم بعض من أقطع تلك(
طعت له مهلة كافية ُ
الراضي بإحيائها ،فينبغي وضع مادة تخول وزارة الزراعة إعطاء من أق ِ
لحيائها ،فإذا لم يحيها في تلك المدة فتأخذها الوزارة وتعطيها لمن يحييها بموجب هذا النظام(
]].مجموع فتاوى ابن ابراهيم
حسنا ً ..استمرت المور مستقرة على هذا النحو حتى منتصف الثمانينات الهجرية ،وفي هذه
المرحلة الزمنية حدثت متغيرات تقنية قلبت مفهوم الحياء رأسا ً على عقب ،حيث تطورت
وسائل البناء والنشاءات والتقنيات الزراعية ،فأصبح إحياء آلف الكيلومترات ل يكلف أسبوعا ً
واحدًا ،وخصوصا ً إذا استحضرنا تفاوت أعراف "الحياء" بين مناطق المملكة ،ففي المنطقة
الوسطى مثل ً يشترط وجود البئر ،وفي المنطقة الجنوبية حيث أكثر الحياء هو إحياء "بعلي"
يعتمد على المطار يكفي في الحياء بناء سور حتى لولم يكن يغطي طول الرجل المعتاد )
70سم( ،وفي المنطقة الغربية ل يكتفون بذلك ،بل يشترطون أن يكون السور يغطي طول
.الرجل المعتاد ،وهكذا
والمراد أنه حين تطورت وتيسرت وسائل البناء والنشاءات حدثت في السعودية في منتصف
الثمانينات ما يمكن تسميته )طفرة حجج الستحكام( ،فصار كثير من الثرياء الذين يستطيعون
تمويل كلفة النشاءات يتناهبون الراضي البور ،بإحيائها بأقل كلفة ،ثم يستصدرون حجج
الستحكام بكل يسر وسهولة ،وهو ما يعني أن الجيال الجديدة لن تجد مكانا ً تجلس فيه ،حتى
ض ً
أن كثيرا من هذه الحجج تصل إلى خمسين ألف متر مربع ،بل يحدثني أحد الصدقاء وهو قا ٍ
في المنطقة الجنوبية أن إصدار حجة استحكام لعشرة آلف متر مربع كان يعتبر في نظر
مراجع ،فيكفيزملئه القضاة في المحكمة مساحة صغيرة ل تستدعي التطويل على ال ُ
!الشاهدين والمزكين على حصول الحياء الشرعي بشروطه لصدار الحجة في مدة وجيزة
في هذه الظروف وتحت إلحاح الكثير من المعنيين لضبط القضية؛ صدر المر السامي رقم )
(21679وتاريخ 9/11/1387هـ ،بإيقاف الحياء الشرعي بعد هذا التاريخ ،فأي إحياء حدث قبل
هذا التاريخ فيسمع النهاء بحجة الستحكام فيه ،وأي إحياء شرعي وقع بعد هذا التاريخ فل
.تسمع ،ضمن تفاصيل أخرى ل مجال ليرادها
بعد إيقاف الحياء الشرعي بعد هذا التاريخ 1387هـ أصبح شرط "الحياء" في القطاع شرطا ً
تعجيزيًا ،لن ولي المر إذا أقطع أحدا ً أرضا ً فل يمكن أن يحييها لن الحياء تم إيقافه أص ً
ل،
!فصار يستحيل العمل بقول الجمهور هاهنا وهو اشتراط الحياء في القطاع
ولكن هذه البرامج للمنح العقارية أصبح من المستحيل تنفيذها ،لن الحياء أوقف بالمر
ل؟! فصارت السامي 1387هـ ،فكيف يستطيعون إحياء الراضي لتملكها والحياء تم إيقافه أص ً
ق من البلدية ،ول
تلك المنح تسبب إشكالت في المحاكم ،فليس مع أصحابها إل أورا ٌ
.يستطيعون الحياء لمنعه ،والمحاكم ل تجد طريقا ً لتثبيت ملكياتهم
وفي هذه الظروف اجتمعت الهيئة القضائية العليا عام 1394هـ وأخذت برأي المالكية الذي
يرى أن القطاع بنفسه يفيد التملك ،وبعد ذلك وزعت الراضي على الشريحة المستهدفة
بكثرة ،وتم تثبيت الملكيات بيسر وسهولة في المحاكم ،وكان هذا القرار تفريجا ً للناس لتثبيت
.ملكياتهم من المنح السكنية
وخلصة المر ،أن من تأمل تاريخ الحياء والقطاع في السعودية ،وكيف كان قرار الهيئة
القضائية العليا 1394حل ً لزمة عميقة تضر بملكيات المنح السكنية للناس؛ سيعلم حجم
الوهم لدى من يتصور أن هذا القرار هو المسؤول عن أزمة العقار والسكان ،أومن يقول أن
.هذا القرار تم استصداره لتغطية الفساد العقاري في السعودية
بل لو تأمل من يطرح هذا التفسير ويريد تحميل قضاتنا الشرعيين الشرفاء مغبة أزمة
السكان في فحوى هذه الطروحة لدرك أن مؤداها أن الفساد العقاري لم يقع في السعودية
إل بعد 1394هـ ،وهذا وهم كبير بحجم بحيرة طبريا ،فالصكوك العقارية المتسممة تعود إلى
.الثمانينات والتسعينات قبل هذا القرار القضائي المسكين
والطريف في المر أن مشايخنا المعاصرين بقو متمسكين بكون القطاع ل يفيد التملك ،ولم
:يأخذوا برأي الهيئة القضائية العليا ،ومن ذلك قول الشيخ ابن عثيمين لما تعرض للقطاع
القرب أنه ل يملكه ،وأنه أحق به ،ثم إن أحياه فهذا المطلوب ،ويملكه بالحياء ،وإن لم يحيه(
وتقدم متشوف لحيائه؛ وجب على المام أن يقول للذي أقطعه :إما أن تحييه ،وإما أن ترفع
].يدك ،ويضرب له مدة يمكنه أن يحييه فيها( ]الشرح الممتع10/335 ،
لكن ل يملكه بمجرد القطاع حتى يحييه ,بل يكون أحق به من غيره ,فإن أحياه ملكه ,وإن(
عجز عن إحيائه؛ فللمام استرجاعه وإقطاعه لغيره ممن يقدر على إحيائه( ]الملخص الفقهي،
2/182].
والمراد أن قرار الهيئة القضائية ل تأثير له في أزمة العقار والسكان كليًا ،ذلك أن الهيئة
القضائية سواًء أخذت برأي الجمهور وابن تيمية ومحمد بن ابراهيم وابن عثيمين والفوزان بأن
القطاع ل يفيد التملك بنفسه بل يجب إحياء العقار ،أو أخذت الهيئة القضائية برأي المالكية
بأن القطاع بنفسه يفيد التملك بل إحياء؛ فسواًء أخذت الهيئة بأي الرأيين فالمشكلة ل زالت
ل ،وأصبحت وسائل قائمة ،لن تكنولوجيا الزراعة والبناء والنشاءات تطورت تطورا ً مذه ً
الحياء في غاية اليسر والسهولة ،فإن كان القطاع ل يفيد التملك إل بالحياء فتستطيع
!الشخصية الفاسدة أن تحيي هضبة كاملة في ظرف أسبوع
إذن أين جوهر المشكلة؟ جوهر المشكلة أعمق بكثير بكثير من قرار قضائي في ظروف
تاريخية معروفة وله اعتباره الفقهي ،جوهر المشكلة حقا ً في غياب نظام شفاف وعادل
لتوزيع الراضي بين أفراد المجتمع المسلم ،وليست القضية في قرار هنا أو قرار هناك يراد أن
.ترمى عليه أضخم مشكلة في السعودية وهي أزمة السكان
أعتقد أن القول بأن قرار الهيئة القضائية العليا 1394هـ هوالمسؤول عن الفساد العقاري في
السعودية فيه تضحيل فقهي وتاريخي ،الضحالة الفقهية من جهة ضعف استيعاب العتبارات
الشرعية لهذا القول والمصالح العظيمة المترتبة عليه ،والضحالة التاريخية من جهة ضعف
.استيعاب دوره في التفريج للناس لتثبيت ملكيات منحهم
ض سكنية؟
!بمعنى آخر :لو كان القطاع ل يفيد التملك فكيف يمكن منح الناس أرا ٍ
وأما من يتصور بأن قول الجمهور بأن )القطاع ل يفيد التملك إل بالحياء( قول فقهي ل يمكن
استغلله ،فهو واهم ،فحتى هذا القول يمكن استغلله ،وتستطيع الشخصية الفاسدة أن تحيي
.مئات اللف من المتار بكل يسر بعد ثورة وسائل النشاءات
ليست القضية في القول الفقهي نفسه ،فكل القولين الفقهيين يمكن للشخصية الفاسدة
.الحتيال عليهما ،وإنما القضية في النظام الذي سيطبق هذا القول الفقهي
أعني أن أساس المشكلة هو غياب )العدل في القطاع( فلو استوى الناس في استلم
إقطاعات لهم عبر آلية عادلة وواضحة ،ولم يتم محاباة قريب أو صديق ،لكانت قضية القطاع
هل يفيد التملك بنفسه أم بالحياء قضية ثانوية ،بل لصبح القول بأن القطاع يفيد التملك
بنفسه أكثر تحقيقا ً للمصلحة الشرعية للناس ،حتى ل يكلف الناس الحياء لجل قطع صغيرة
.يحتاجونها ول يملكون سيولة مالية حاضرة لحيائها
وغياب العدل الشرعي في القطاع وفي توزيع الراضي على المسلمين من أكثر المور إيلما ً
للمتابع ،فكثير من الشخصيات النافذة اليوم خالفت فريضة العدل الشرعي في القطاع،
فصارت تمد سياجها الطويل تحمي من أراضي المسلمين مزارع شخصية لها ،وقبل عدة
سنوات لما كنت أعمل فعليا ً في قطاع المحاماة وتعاملت مع بعض هذه القضايا؛ اكتشفت أن
بعض النافذين الذين فتنوا بابتلع عقارات المسلمين ،اكتشفت أن بجانبهم شخصيات منتسبة
للعلوم الشرعية أو من رجيع كتابات العدل ،تزين لهم ذلك ،وتقنعهم بأن ذلك ل يخالف
الشريعة ،وأن لولي المر أن يقطع ماشاء من شاء ،وأن هذا حق خاص لولي المر ،ونحو
ذلك ،ولو تأمل هؤلء لعلموا أن هذه الشخصيات الدينية الفاسدة التي تزين لهم ذلك أنهم هم
أعداؤهم على الحقيقة ،فليتأمل النسان كيف ل يمضي أسبوع إل ويقال أحسن الله عزاءك
من المرء أن يكون الجنازة القادمة؟! والنسان ل يستطيع أن يتحمل ذنب في فلن ،فما يؤ ّ
!عقار واحد ظلمه ،فكيف إذا طوقه من سبع أرضين يوم القيامة؟
ب هاتيك العقارات المسّيجة أن من ينصح لصحابها ويذكرهم بالله أنه هو الذي أراد لهمور ّ
الخير والسلمة والسعادة البدية ،ومن يربت على أكتافهم ويزينها لهم أنه هو اللئيم الذي
.سيكردسهم في أطواق من سبع أرضين يوم القيامة
على أية حال ..الدرس الهم في هذه القضية برمتها أن جميع الطروحات التي توهمت أن
مشكلة التنمية تبدأ بالصراع مع الفقه والفقهاء والفتوى المحلية ،أو أن أزمة السكن بسبب
قول فقهي تبناه قضاتنا الشرعيون الشرفاء؛ أنها أطروحات تضيع الوقت وتتسلى بمعابثة
الطرف الضعف ،وهذا مجرد شاهد جديد على أن الصلح في السعودية ليس مسألة فقهية
.بل إرادة سياسية
تبدأ القصة من أنه في عام 1420هـ تقدمت أهم مؤسسة سعودية معنية بالفساد الداري وهي
مؤسسة الرقابة والتحقيق بمشروع نظام اسمه )نظام حماية الموال العامة ومكافحة سوء
استعمال السلطة( ،من واقع خبرة المؤسسة في حفظ المال العام ،والمشكلت والتي كانت
تعانيها ،والثغرات التي تحتاج لتغطيتها بمواد نظامية تمنحها الصلحيات لمعالجة الوضع،
ل عن حفظ الموال والحقيقة أن النظام نص على مبادئ ممتازة ،وينقسم إلى فصلين؛ فص ٌ
العامة ،وفصل عن مكافحة سوء استعمال السلطة ،ومن المبادئ التي قررها النظام :مساءلة
من تدورشبهات حول ثروته ،وإلزام الجهات الداخلية والخارجية المتعاقدة مع أجهزة الحكومة
على الكشف عما إذا كانت قد دفعت عمولت لي وسطاء ،منح مكافأة لي مواطن يكشف
فسادا ً في المال العام ،مضاعفة التعزيرات المتعلقة بالختلس من المال العام ،تشديد
.العقوبة على سائر أشكال استغلل السلطة والنفوذ ،وغير ذلك
كان مجلس الشورى يعلن بشكل دوري عن نتائج معالجاته ودراسته للنظام ،ثم أعلن المجلس
بعد سنوات انتهاءه من النظام وإرساله لمجلس الوزراء لعتماده ،وبعد انتظار طويل ،تسربت
الخبار من هيئة الخبراء بمجلس الوزراء أن النظام لن يعتمد ،بل سيعاد من جديد لنفس
.الدورة البيروقراطية ،وسيقسم إلى نظامين
أحد عشر عاما ً من النتظار ومع ذلك سيعود النظام من جديد من حيث ابتدأ ،من المسؤول
عن عرقلة المور والتعنت الشكلي في نظام يمس شريان مصالح المسلمين وهو المال
!العام؟
ل ،لكن قبل أن نحاول سويا ً تفسيرها ،دعنا نتأمل نموذجا ً آخر
هذه إشكالية تحتاج لتفسير فع ً
مشابه وهو )الستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد( والتي أعلنت في الجريدة
الرسمية قبل ثلث سنوات )أم القرى26/2/1428 ،هـ( ،ونصت الستراتيجية على إنشاء
)الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد( ،ومنذ صدور الستراتيجية ونشرها في الجريدة الرسمية
ونحن إلى اليوم ل حس ول خبر ،فلم يتم إنشاء هيئة مكافحة الفساد ،ولم يتم تفعيل
الستراتيجية ،والسؤال مرةً أخرى :من المسؤول عن عرقلة المور في نظم تمس شريان
!مصالح المسلمين وهو المال العام؟
لماذا تعثر نظام حماية الموال العامة طوال أحد عشر عامًا ،ولماذا ماتت دماغيا ً الستراتيجية
الوطنية لمكافحة الفساد؟
بل دعنا نأخذ المقارنة بصورة أكثر واقعية :لماذا نجد سرعة هائلة وتداعي وتنادي لتطبيق
القرارات المتعلقة بالختلط بين الجنسين ،بينما نجد أنظمة حماية المال العام تتثاءب طوال
العام؟
ثمة تفسيرات متعددة مطروحة ،بعضها يرى أن هذه هي طبيعة المور ،وأن الجراءات الدارية
الرسمية بطيئة السير دومًا ،لكن هذا تفسير غير مقبول ،لننا رأينا نظما ً أخرى تمر بسرعات
.نفاثة
في تقديري الشخصي أننا يمكن أن نفهم سر هذا التأخر في إرساء نظم حماية المال العام لو
حاولنا تحليل المشروعات التي طرحت مؤخرًا ،فقد نّبه كثير من الخبراء إلى أن المشروعات
الخيرة التي أعلن عنها خصص لها ميزانيات تفوق أضعاف كلفتها الطبيعية ،وطرح كثير من
المختصين مقارنات بين بعض المشروعات ومشروعات مماثلة في دول أخرى ،هذه الظاهرة
ضعف التكلفة).يمكن تسميتها )مشروعات ِ
ومما يزيد المور تعقيدا ً أن الصحافة الليبرالية صنعت دويا ً إصلحيا ً هائل ً عندما أعلن عن
مشروع نظام حماية الموال العامة ،والستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد ،بينما لم يوجد أي
!خطوة حقيقية على الرض
حسنا ً ..ماهي النظم والمؤسسات التي يمكن النطلق منها وتطويرها لحفظ المال العام الذي
:هو شريان مصالح المسلمين؟ هناك مجموعة أنظمة ،وعدة مؤسسات؛ فأما النظمة فأهمها
نظام محاكمة الوزراء )1380هـ( وقد نص على تجريم استغلل الوزير لنفوذه للحصول على-
مصالح شخصية ،وتدخل الوزراء في القضاء أو في دوائر حكومية أخرى ،وتضييع الوزيرلحقوق
الفراد ،ولكنه جعل محاكمة الوزراء عن طريق هيئة تشكل من ثلثة وزراء ،ويقوم بوظيفة
الدعاء العام من يختاره رئيس مجلس الوزراء! وهذا السبب في موت هذا النظام الهام
.للسف
المرسوم الملكي رقم ) (43وتاريخ 1377هـ ،ونص على تجريم الهدايا والكراميات واستغلل-
الوظيفة لمصلحة شخصية وتكليف الموظفين بما ل يجب عليهم والرواتب الصورية وغيرها،
وحدد بعض العقوبات التعزيرية ،وهذا المرسوم له وزنه في هيئة الرقابة والتحقيق ،ولكن
المشكلة أنه مرسوم قديم ،بل قديم جدًا ،فقد مضى عليه أكثر من نصف قرن ،فهل من
!اللئق أن نعامل المال العام بمرسوم صدر قبل أكثر من نصف قرن
ومنها :نظام مباشرة الموال العامة )1395هـ( وقد نص النظام على بعض صور العبث بالمال-
العام ،وبعض إجراءات الجرد المحاسبي لحفظ المال ،لكن النظام قديم فقد مضى عليه )(26
.سنة وواضح من صياغته فعل ً ارتباطه بالهياكل الدارية القديمة
ومنها :نظام مكافحة الرشوة )1412هـ( وقد نص على صور الرشوة والعطية والتوصية-
.والوساطة في الموال العامة وحدد عقوباتها التعزيرية ،وهو نظام صارم وجيد
ومنها :نظام مكافحة التزوير )1382هـ( وعالج تزوير وسائل المصادقة والوثائق والنتحال في-
.الدوائر الحكومية ،وتعرض للموال التي تدخل في ذمة الشخص بسبب التزوير
وأما المؤسسات المعنية بصيانة ومراقبة المال العام والفساد الداري فأهمها مؤسستان؛ هيئة
.الرقابة والتحقيق ،وديوان المراقبة العامة
فأما )هيئة الرقابة والتحقيق( فهي تمثل تقريبا ً "نيابة إدارية" وقد خولها النظام باختصاصات
:دقيقة في مراقبة الفساد الداري ،حيث ينص النظام على أنه
تختص الهيئة بإجراء الرقابة اللزمة للكشف عن المخالفات المالية والدارية( ]نظام تأديب(
]الموظفين ،م5
ومنح النظام هيئة الرقابة والتحقيق صلحيات واسعة للقيام بهذه المهمة والتحقيق مع الجهات
:الحكومية كما تقول المادة الثامنة مثل ً
على الجهات الحكومية تمكين المحقق من الطلع على ما يرى لزوم الطلع عليه من(
الوراق والمستندات وغيرها ،وتفتيش أماكن العمل إذا تطلب التحقيق ذلك ،بحضور الرئيس
].المباشر(]نظام تأديب الموظفين ،م8
وأما )ديوان المراقبة العامة( فقد نص المنظم على تكليفه بالرقابة على المال العام والفساد
:الداري كما يقول النظام
يختص الديوان بالرقابة اللحقة على جميع إيرادات الدولة ،ومصروفاتها ،وكذلك مراقبة كافة(
أموال الدولة ،المنقولة والثابتة ،ومراقبة حسن إستعمال هذه الموال وإستغللها والمحافظة
]عليها(]نظام ديوان المراقبة العامة ،م7
ف مجلس الوزراء بذلك ،بل خول ديوان وهي مادة نظامية شديدة التساع والشمول ،ولم يكت ِ
المراقبة العامة بصلحيات واسعة لتحقيق هذه المهمة ،حيث ألزم النظام كافة الوزارات
والمؤسسات الحكومية بأن تزود الديوان بكافة البيانات الحسابية والمستندات والوثائق التي
).تمكن الديوان من المراقبة المالية )المادة 10
ل ،حيث أكدته مواد لحقة في ذات والشمول الذي منحته المادة السابعة واضح أنه مقصود فع ً
النظام ،تنص تفصيل ً على ضبط "المال العام" ،ومن ذلك مانصت عليه المادة الثامنة من أنه
:يختص الديوان بـ
التحقق من أن كافة أموال الدولة ،المنقولة والثابتة؛ تستعمل في الغراض التي خصصت من(
أجلها من قبل الجهة المختصة ،وأن لدى هذه الجهات من الجراءات ما يكفل سلمة هذه
الموال ،وحسن إستعمالها و إستغللها ،ويضمن عدم إساءة إستعمالها ،أو إستخدامها في غير
]الغراض التي خصصت من أجلها( ]نظام ديوان المراقبة العامة ،م 2-8
حسنا ً ..رأينا الن كيف تملك هاتان المؤسستان ،ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة
والتحقيق ،سلطة الرقابة المالية على كل ظواهر الفساد الداري والمالي ،وكيف منحهما
.المنظم سلطة التحقيق والتفتيش
فهذا يعني أنه يجب أن ننطلق من البنية النظامية الحالية )قاعدة النطلق من الموجود(
ومحاولة تطوير هذه النظمة والمؤسسات المهمة ،وتمكين المزيد من الصلحيات ومنحها
.القوة اللزمة لكسر النفوذ الذي ل تستطيع تجاوزه لتحقيق مهمتها
هذه فقط بعض النماذج ،وقد لحظت أن كثيرا ً ممن يتحدثون عن مشكلة المال العام يتحدثون
به بنوع من المزايدة على السلميين أكثر من كونه يعبر عن وعي حقيقي بالبنية النظامية
.الحالية لصيانة المال العام والثغرات الفعلية الموجودة فيها تفصيل ً
ومن المقترحات لتطوير هاتين المؤسستين )هيئة الرقابة والتحقيق وديوان المراقبةالعامة( أن
يتاح المجال للناشطين غير الرسميين للمشاركة في حفظ المال العام ،فلو أتيح –مثل ً-
للشباب المتدين أن يعمل تحت مظلة هيئة الرقابة والتحقيق للحتساب على الفساد الداري
والستفادة من صلحيات الهيئة في التحقيق والتفتيش ،لربما حدثت ثورة في حفظ المال
.العام في السعودية
:المزيد من الدراسات الفقهية في المال العام-
ودراسة في أكاديمية نايف للعلوم المنية للدكتور نذير أوهاب بعنوان )حماية المال العام في
.الفقه السلمي( وهي مطبوعة
.ودراسة للشيخ د.محمد الصالح )التكافل ودوره في حماية المال العام( وهي مطبوعة
وثمة أيضا ً دراسات أخرى مثل) :الحماية الدارية للمال العام :بحث فقهي مقارن( فيصل بن
رميان الرميان) ،الحماية الجنائية للمال العام :دراسة فقهية مقارنة( مبارك بن عبدالله بن
.هقشة) ،مصارف بيت مال الدولة السلمية( عبدالله بن سليمان المطلق ،وغيرها
فضل ً عن دراسات تفصيلة كثيرة في جرائم المال العام كالختلس والرشوة وهدايا العمال
.وغيرها
ومع أن هذه الدراسات متميزة ،ومع أنه لم يتم الستفادة منها بالشكل الكافي للسف؛ إل أن
هذا يجب أن ل يكون محبطا ً للباحثين الشرعيين ،بل يجب المواصلة والستمرار في المزيد
من المعالجات الفقهية للموضوع ،وأيضا ً المعالجات المشتركة مع الخبراء )خبراء القتصاد
والدارة والنظمة( ،وعقد المؤتمرات متعددة الختصاصات في موضوع المال العام ،من أجل
صياغة أفضل آليات الرقابة والمحاسبة والشفافية ،تطبيقا ً لحد أهم معالم منهج أهل السنة
وطريقة أئمة السلف ومن أدركنا من علمائنا رحمة الله على الجميع وهي العناية بالمال العام
.الذي هو عصب مصالح المسلمين المعاشية
هد في الثر الذي يمكن أن تصنعه هذا الخطبالسؤال هاهنا :أنني وجدت بعض الخوان يز ّ
ً
الشرعية ،وأن الخطابة المنبرية ل أثر لها ،وأن الناس ل يتفاعلون أصل مع خطب الجمعة،
!فماذا يمكن أن تقدم في موضوع المال العام؟
أريد هاهنا أن أناقش هذه الطروحة المحبطة ،وللتدليل على بطلن هذه الطروحة سأذكر
ت
ب لي ،وقد خطب مرا ٍ نموذجا ً واحدا ً فقط لحد الخطباء في شمال مدينة الرياض ،وهوصاح ٌ
ً
عديدة عن المال العام وقضاياه الشرعية ،وقد حكى لي أكثر من مرة أحداثا تعكس شدة تأثر
المستمعين –ولله الحمد ،-لن أروي لك أخي القارئ ما جرى ،بل سأنقل لك نص ما أرسله لي
:صاحبي ،يقول أخي الخطيب
كان بعض المصلين يلتقون بي بعد الخطبه للسلم ،أو للسؤال الذي غالبا ً ما يكون فيما يخص(
الخطبة ،فيخبروني بشئ من مشاعرهم ،ومر بي في هذا الباب أحداثا ً لناس تابوا من
الرشوة ،وآخرين من التهاون في المال العام ،وغير ذلك ،ويحتمل أنها توبة وقتية فالله أعلم،
ة عن غلول العمال، حتى إن محافظا ً لحدى المناطق وافق أن صلى معي مرةً في خطب ٍ
فسألني عن "سيارات المحافظة" هل يوصل بها أولده للمدرسة أم ل؟ .ومسئول آخر حضر
خطبة عن )الظلم وعاقبته( فخصص يوم السبت بعد الظهر للنظر في المظالم ،بدخول من
كانت له مظلمة في دائرته مهما كانت مرتبته صغيرة ،مع تخطي الترتيب الداري في ذلك
دره على الجميع ،لنه سألني بعد الخطبة عن الحكم في كونه ل يعلم بالمظلمة؟ بتعميم ص ّ
فأخبرته أنه يظل مسئول ً أمام الله تعالى ،إذ كيف يتولى وينزوي في مكتبه ويترك الظلمة
يرتعون في دائرته ،وضابط كبير أخبرني أنه سيخصص الجزء الثالث من مذكراته للقصص
والخبار التي رآها لمن استحلوا أكل لمال الحرام ،وطلب مني خطبة أعجبته وأثرت فيه عن
نحو هذا الموضوع ،وأخبرني أنه سيضعها مقدمة لمذكراته تلك .ومسئول آخر في إحدى
الجامعات حضر خطبة عن )هدايا الموظفين( فحاك في نفسه هذا المر كونه مسئول ً عن
توقيع عقود وإرساء مناقصات والشراف على مشاريع ،وتأتيه هدايا من شركات متعددة وكان
عازما ً جازما ً على تنفيذ ما أوصيه به ،وقد أثر فيه كثيرا ً حديث )ولو قضيبا من أراك( ،وغير
ذلك كثير جدا ً يا أباعمر ،لكني أذكرك مرة أخرى أن ل تذكر لي اسما ً إن أوردت شيئا من
ذلك ،ويكفي أن تقول "أحد الخطباء"( أ.هـ
هذه بعض الخبار التي كان يرويها لي صاحبي الخطيب ،وثمة قصص أخرى يرويها دعاة آخرون
ل مجال ليرادها هنا؛ وكلها تعكس انتفاع الناس بالخطب الشرعية عن قضايا المال العام،
فأتمنى من الخطباء والدعاة أن ل يستسلموا للمحبطين الذين يزهدون في الدور العظيم الذي
.يقومون به
هذه الشريحة من الكّتاب التي تستغل الخلل في المال العام ليقاد شرارة الفتنة هي أخطر
من لصوص المال العام أنفسهم ،فلصوص المال العام قصاراهم أن ينهبوا جزءا ً من أموال
المسلمين ،لكن رموز الفتنة هؤلء ينتهون بحريق يهلك الحرث والنسل ويتلف الموال ويريق
.الدماء ويقلب أوضاع الدعوة السلمية رأسا ً على عقب
حينما أتأمل في هؤلء الكّتاب فإني ل أتعجب من كونهم يخالفون قياسا ً شرعيًا ،ول حتى فردا ً
يدخل في عموم شرعي؛ بل يناقضون نصا ً مطابقا ً لحديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم-
فقد حسم رسول الله المر بكل وضوح ،وأخبرنا أنه ستقع أثرة ومظالم في المال العام،
.وحذرنا نبينا الشفيق بنا من فتنة الخروج المسلح على ولة المور وشق عصا الطاعة
:تأمل معي مارواه البخاري عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال
ستكون أثرة وأمور تنكرونها ،قالوا :يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال "تؤدون الحق الذي عليكم(،
].وتسألون الله الذي لكم" ( ]البخاري3603
بل كان الصحابة يبايعون رسول الله على الطاعة حتى في حالة استئثار السلطة بالمال العام
):الثرة( كما يقول عبادة بن الصامت
ة علينا(،
بايعنا رسول الله على السمع والطاعة ،في منشطنا ومكرهنا ،وعسرنا ويسرنا ،وأثر ٍ
].وأن ل ننازع المر أهله ،إل أن تروا كفرا ً بواحا ً عندكم من الله فيه برهان( ]البخاري 7056
وسأل الصحابة عن حالة استئثار السلطة بالمال العام في الوقت الذي تطالب فيه المواطنين
بواجباتهم ،فبين رسول الله أن ذلك كله ل يجيز الخروج ،كما في صحيح مسلم أن سلمة بن
يزيد الجعفى قال )يا نبى الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما
تأمرنا؟( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم )اسمعوا وأطيعوا ،فإنما عليهم ما حملوا
].وعليكم ما حملتم( ]مسلم4889 ،
لست أدري كيف يتجاهل هؤلء الثوريون نصوصا ً صريحة حاسمة من رسول الله بأبي هو وأمي
في طريقة التعامل مع مشكلت الثرة في المال العام؟
في كل هذه النصوص يبين رسول الله بكل وضوح أن خلل السياسي في إدارة المال العام ل
يبيح بأي حال من الحوال الخروج ول رفض الطاعة بالمعروف ،وإنما يشرع النكار والصدع
.بالحق فقط
على أية حال ..المخالفون لهل السنة في باب السياسة الشرعية عمومًا ،والمال العام
.خصوصًا؛ طائفتان :طائفة ثورية وطائفة سلطانية
ذلك أن الصول السياسية الشرعية الثلث لهل السنة هي :تحريم الخروج المسلح ،ووجوب
الطاعة بالمعروف ،وفريضة النكار بمراتبه الثلث .وكل هذه الصول الثلث ثابتة بطريق
.التواتر القطعي
فأما الطائفة الثورية فأخذت بمبدأ النكار لكنها جحدت تحريم الخروج ووجوب الطاعة
.بالمعروف
وأما الطائفة السلطانية فوقعت في الغلو بمبدأ طاعة ولة المور حتى عطلت فريضة النكار
.بمراتبها الثلث
وأما أهل السنة فاستوعبوا الشريعة من أطرافها ،فأخذوا بكل القواعد الشرعية الثلث ،فتجد
أهل السنة دوما ً متمسكين بتحريم الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف ،وبالمقابل صادعين
بالحق ومنكرين للمنكرات ل يخافون في الله لومة لئم ول يهابون سلطانا ً ول جمهورًا ،وهذا
هو أخذ الدين كله ،وأما الثوريون والسلطانيون فقد وقعوا في تبعيض الكتاب الذي ذمه تعالى
َ
ض( ]البقرة 85ن ب ِب َعْ ٍ
فُرو َ ض ال ْك َِتا ِ
ب وَت َك ْ ُ ن ب ِب َعْ ِ ].في قوله )أفَت ُؤ ْ ِ
مُنو َ
وأخذت مرةً أتأمل ..ما الذي يجعل بعض الشباب المسلم يأنف ويستنكف من أحاديث تحريم
الخروج ،وأحاديث وجوب الطاعة لولة المر بالمعروف؟ والذي توصلت إليه أن هؤلء الشباب
يشعرون أن الخذ بشريعتي تحريم الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف فيه شئ من الضعف
.والجبن ،وأنه ضد الشجاعة والقدام ،ونحو ذلك
أريد هاهنا أن أدّلل على خطأ هذا التصور كليًا ،تذكر معي شيخ السلم ابن تيمية ،هل تتذكر
كيف كانت شجاعته وجرأته رحمه الله؟ ابن تيمية كان القلب النابض في معركة شقحب
التاريخية )قرية تبعد عن دمشق 37كلم( وهو الذي حّرك الناس وألهب حماسهم وتقدم
الصفوف ،وابن تيمية هو الذي اعتقل سبع مرات :سجنة واقعة عساف في دمشق ،وسجنة
مسألة العرش في القاهرة ،وسجنة حادثة البكري في مصر ،وسجنة المنبجي بمصر ،وسجنة
المنبجي بالسكندرية ،وسجنة مسألة الطلق بدمشق ،وسجنة حادثة الخنائي بالقلعة بدمشق
وهي الخيرة التي توفي فيها وانتقل لقبره من معتقله .وابن تيمية هو الذي كان ابن القيم
:يروي شجاعته فيقول في الوابل الصيب
مع ما كان فيه ابن تيمية من الحبس والتهديد والرهاق؛ وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا(
وأقواهم قلبًا ،وكنا إذا اشتد بنا الخوف ،وساءت منا الظنون ،وضاقت بنا الرض؛ أتيناه فما هو
إل أن نراه ،ونسمع كلمه؛ فيذهب ذلك كله ،وينقلب انشراحا وقوة ويقينا ً(]الوابل الصيب ،ابن
].القيم
ف من أخبار شجاعته رحمه الله ،أرأيت هذا الشجاع ،صنديد أهل السنة في
وهذا فقط طر ٌ
:زمانه؟ فهو الذي كان يقول رحمه الله
ولعله ل يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان؛ إل وكان في خروجها من الفساد ما هو(
]أعظم من الفساد الذي أزالته( ]منهاج السنة3/390 ،
:وكان ابن تيمية دوما ً يشير لقضية التجربة رحمه الله كما يقول
ولهذا يقال "ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بل سلطان" والتجربة تبين ذلك((
]].الفتاوى28/391 ،
حسنا ً ..هذا الكلم الذي قاله ابوالعباس ابن تيمية في تعظيم طاعة ولة المور ومنع الخروج
المسلح؛ هل قاله شيخ السلم خوفا ً أوتملقًا؟ هل يعقل أن يكون رجل يحرك الجيوش ول
ل آخر حتى توفاه الله في معتقله؛ يقول هذا الكلم هلعا ً أو تزلفًا؟
ل إل لعتقا ٍ
يخرج من اعتقا ٍ
.هذا أمر تحيله طبائع المور
إذن لماذا كان المام ابن تيمية يقول هذا الكلم؟ إنما كان يقوله تعظيما ً لرسول الله –صلى
الله عليه وسلم -الذي شرعه وأكده في نصوص متوافرة غزيرة ،وأهل السنة حين يوجبون
السمع والطاعة لولة المور بالمعروف وتحريم الخروج المسلح؛ فليسوا يقررون ذلك لسواد
عيون ملك ول أمير ول وزير ،بل توقيرا ً لرسول الله –صلى الله عليه وسلم -الذي دعانا لذلك
في أحاديث كثيرة ،فإذا كان رفع الصوت بحضرة رسول الله يوشك أن يحبط العمل فكيف
مُنوا َل ت َْرفَُعوا َ
نآ َ بالعتراض على سنته صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول )َيا أي َّها ال ّ ِ
ذي َ
َ َ َ َ
م مال ُك ُ ْ
م وَأن ْت ُ ْ ط أع ْ َحب َ َ
ن تَ ْضأ ْ ضك ُ ْ
م ل ِب َعْ ٍ ر ب َعْ ِ ل كَ َ
جهْ ِ ه ِبال ْ َ
قو ْ ِ جهَُروا ل َ ُ
ي وََل ت َ ْ
ت الن ّب ِ ّ
صو ْ ِ
ق َ وات َك ُ ْ
م فَوْ َ ص َ
أ ْ
ن( ]الحجرات 2 ]َل ت َ ْ
شعُُرو َ
تأمل يا أخي الكريم في كثير ممن يكتب في الخلل السياسي أوفي قضايا السياسة الشرعية؛
تجد كثيرا ً من الكّتاب )الثوريين( إذا جاء إلى قاعدة )النهي عن المنكر( يكون تقريره في غاية
القوة والحماس والمغالة اللفظية ،وإذا جاء لقاعدتي منع الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف
هد فيها
.لولة المور؛ رأيته يضعف ويقررها على خجل ،أويز ّ
بينما بالمقابل تجد كثيرا ً من )السلطانيين( إذا جاء لقاعدتي منع الخروج ووجوب الطاعة لولة
ة عجيبة ،فإذا جاء إلى قاعدة )النهي عن
المور يقررهما بتوسع وتكرار وإعادة وإبداء وطاق ٍ
!المنكر( خارت قواه وتحاشى نصوص النكار القوية ،وصار أكثر كلمه في ذم أخطاء المنكرين
وكل الطائفتين ،أعني الثورية والسلطانية؛ إنما جوهر قصورهم هو ضعف اليمان والتسليم لله
ورسوله ،ولذلك تراهم يجدون في نفوسهم حرجا ً من بعض ما أنزل الله ،والله تعالى يقول
ه( ]العراف2 ،من ْ ُ
ج ِ
حَر ٌ صد ْرِ َ
ك َ ك فََل ي َك ُ ْ
ن ِفي َ ب أ ُن ْزِ َ
ل إ ِل َي ْ َ )].ك َِتا ٌ
فالمؤمن المنقاد المنصاع لله ورسوله تجده يقرر الصول السياسية الشرعية الثلث بكل فخر
وعزة ،ول يجد في نفسه حرجا ً وخجل ً من كلمة واحدة قررها رسول الله –صلى الله عليه
!وسلم -فكيف بأحاديث متواترة؟
ولذلك فنصيحتي إليك يا أخي الكريم أنك إذا التقيت بأحد من )الثوريين( أن ل تخجل من
.عقيدتك واعتزازك بأمر رسول الله بالسمع والطاعة لولة المور ،وتحريم الخروج المسلح
وإذا التقيت بأحدٍ من )السلطانيين( أن ل تخجل من عقيدتك واعتزازك بأمر رسول الله بالنكار
.والصدع بالحق
ومن سلوكيات الطائفة الثورية التي لحظتها أنها تزايد دوما ً في قضايا النقد السياسي ،فربما
انجرف بعض الدعاة وقال نقدا ً سياسيا ً متهورا ً ليتحاشى الضغط النفسي لهذه الطائفة
.الثورية
والسلوب المفضل لهذه الطائفة الثورية هو ما يمكن تسميته )أسلوب المطالبة بالسقف
:السياسي الرفع( ،ولضرب على ذلك مثل ً
ة وانتقد خطأ معلم معين ،لقالوا له :تستقوي على المعلم ،لماذا ل تنتقد مدير لوجاء داعي ٌ
المدرسة نفسه ،فإذا انتقدت مدير المدرسة ،قالوا لك :تستقوي على مدير المدرسة ،لماذا ل
تنتقد مدير التعليم بالرياض؟ وإذا انتقدت مدير التعليم قالوا :لماذا ل تنتقد وزير المعارف؟ وإذا
انتقدت وزير المعارف قالوا لك :لماذا ل تنتقد الملك الذي اختار هذا الوزير ووضعه في مكانه؟
وإذا انتقدت الملك قالوا لك :مؤكد أن لديك صفقة مع جناح سياسي آخر ،لماذا ل تنتقد كل
أجنحة السلطة؟ وإذا انتقدت أجنحة السلطة الخرى قالوا لك :ما فائدة النقد ،النقد كلم ل
يصنع شيئًا ،ومؤكد أنهم لم يسمحوا لك بالنقد إل لشغال الناس بالكلم عن التغيير الفعلي،
هذا إلهاء وخطة من السلطة لتفريغ الغضب فقط ،ل بد من التغيير بالقوة .فإذا بدأت فعل ً
بالتغيير بالقوة ثم اعتقلت على خلفية "قضية إرهاب" ،خرجوا من الغد يكتبون عنك )مسكين
متهور ليس لديه وعي سياسي( ،وهكذا لو وقعت قضية عنف تجد هؤلء الثوريين أول من يتبرأ
!منك ،وهم الذين دفعوك أصل ً
هذا السلوب ،أعني أسلوب المطالبة بالسقف السياسي الرفع؛ هو نوع من استخفاف الدعاة
ن َل ك ال ّ ِ
ذي َ خفّن ّ َ ق وََل ي َ ْ
ست َ ِ ح ّ ن وَع ْد َ الل ّ ِ
ه َ الذي نهى الله عن التأثر به في قوله تعالى )َفا ْ
صب ِْر إ ِ ّ
ن( ]الروم 60 نو
ُ ُِ َ ق يو ].
ولذلك كله كنت ول زلت وسأظل مؤمنا ً بأهمية التفافنا جميعا ً حول العلماء الربانيين
الراسخين ،ومن أخطر المزالق التي يمكن أن تنزلق فيها الدعوة السلمية تصدير الصغار
.وترميز الدعاة الشباب واللتفاف حول طلبة علم ل يزالون في مقتبل العمر
دعونا نكون صرحاء مع أنفسنا؛ هناك فارق جوهري بين شخصية العلماء الربانيين ،وشخصية
الداعية الشاب ،فالداعية الشاب يعرض له من حب الظهور وشهوة الرياسة ولذة التصدر
ونزوة غلبة القران والستسلم للفتن ما ل يعرض للعلماء الربانيين الراسخين ،ولذلك
فاحتمال إصابة الراسخين للحق أكثر بكثير من احتمال إصابة الشاب ،وثبات الراسخين على
.المنهج أكثر بكثير من ثبات الدعاة الشباب
كثير من الشباب ل يستوعب جيدا ً معنى قول أهل السنة أن الحجة في الكتاب والسنة ،ويظن
أن هذا المبدأ ينفي مرجعية العلماء الكبار ،ولذلك تراه يعارض مرجعية العلماء بهذه القاعدة،
وهذا خطأ فهناك فرق بين المصدر المؤسس للحقيقة والمصدر الكاشف لها ،فالكتاب والسنة
مصدر مؤسس للحقيقة ،بينما الجماع والقياس وقول الصحابي الذي أقره بقية الصحابة،
وانشراح صدر العالم الرباني للحق ،الخ هذه كلها مصادر وقرائن عظيمة في كشف الحقيقة
الشرعية وليس تأسيسها ،فهذه المصادر ل تأتي بمعاني شرعية جديدة ،بل تكشف فقط
.المعنى الشرعي
خذ مثل ً هذا النموذج :لما قال ابوبكر رضي الله عنه )لقاتلن من فرق بين الصلة والزكاة(
فجادله عمر ،ثم اقتنع عمر لحقا ً بصواب قول أبي بكر ،السؤال هاهنا :كيف اقتنع عمر بقول
أبي بكر؟ انظر ماذا يقول عمر) :فوالله ما هو إل أن رأيت الله -عز وجل -قد شرح صدر أبى
].بكر للقتال؛ فعرفت أنه الحق( ]البخاري1400
أرأيت كيف اعتبر عمر بن الخطاب –رضي الله عنه -أن انشراح صدر العالم الرباني أبي بكر
ة على أنه الحق ،فهل عمر ل يعتبر الحجة في الكتاب والسنة؟
!للقول قرين ٌ
هؤلء العلماء الربانيون الراسخون الذين جمعوا العلم والعبودية فيهم من التجرد لله ورسوله
ما ليستطيعه أكثر الشباب الدعاة ،هؤلء الربانيون ل يراعون في اجتهادهم سلطانًا ،ول
جمهور ،ول ثقافة غربية ضاغطة؛ وإنما يتحرون مراد الله ورسوله بقلوب زكاها اليمان
.والعبودية والتقوى والتصون والورع والسلمة من الغراض
هل تريدني أن أصدق أن بعض من تحول إلى نجم إعلمي يتتبع الفلشات الفضائية أصدق في
!البحث عن مراد الله ورسوله من هؤلء الكابر المعرضين عن زخارف الدنيا؟
الفتوى الشرعية دين وعلقة بالله ..فلينظر كل رجل منا عمن يأخذ دينه؟
على أية حال ..كان المراد من هذه الورقة هو التباحث حول بعض القواعد الشرعية للمال
العام مثل :إنما أنا قاسم ،ومن أين لك هذا؟ ،هل جلس في بيت أبيه ليهدى إليه؟ ،اكتبا كل
ل لكما ،انتفاء الحد ل يعني انتفاء التعزير ،المصلحة تقييد ل تخيير ،العدل في القطاع
ما ٍ
ة
العقاري ،ونحوها ،وإبراز مركزية المال العام في فقه أهل السنة ،وشدة عنايتهم به ،ومحاول ً
لمواصلة جهود أهل السنة في الصلح الشامل للدين والدنيا ،ول زال الموضوع فيه نصوص
شرعية كثيرة ،وشواهد من آثار الصحابة ،وخصوصا ً آثار عمر بن الخطاب؛ وكلها تحتاج لعرض
ص لحقة بإذن الله.مفصل يليق بها ،فلعلها تتاح فر ٌ