Vous êtes sur la page 1sur 23

‫‪:‬مدخل‪-‬‬

‫‪،،‬الحمدلله وبعد‬

‫يعيش النسان المسلم في هذه البلد هموما ً معيشية كثيرة‪ ،‬هم السكان ومنزل العمر الذي‬
‫يتراءى لخياله صبحا ً ومساًء‪ ،‬وهم البحث عن سرير لوالدته في أي مستشفى‪ ،‬وهم الطرق‬
‫المكتظة حتى أواخر المساء‪ ،‬وهم مراجعة الدوائر الحكومية‪ ،‬وهم رحلة طيران ألغيت‪ ،‬وهم‬
‫ة ل تجد‬
‫ة أرمل ٍ‬
‫قبول لبنه في الجامعة‪ ،‬وهم البن الذي تخرج ولم يجد وظيفة‪ ،‬وهم قريب ٍ‬
‫‪.‬كفايتها‪ ،‬وهم السبوع الخير من الشهر حيث انتهى الرصيد وفي انتظار الراتب‪ ،‬الخ‬

‫أخذت مرةً أتأمل هذه الهموم المعيشية التي تؤرق تفكير غالب أفراد المجتمع‪ ،‬وكلما تأملت‬
‫في هذه المشكلت اكتشفت نفسي أصل إلى نقطة )المال العام( في إدارته وصيانته وحفظه‬
‫من الفساد‪ ..‬هذه الهموم المعيشية مرتبطة بشكل أساس بأداء الجهزة الحكومية‪ ،‬والجهزة‬
‫الحكومية كلها شريانها النابض فيها هو )المال العام(‪ ،‬فأي خلل في إدارة المال العام يؤدي‬
‫‪.‬فورا ً إلى الخلل في كفاءة المستشفى والجامعة والسكان والمواصلت والتعليم الخ‬

‫وكلما وصلت لنقطة المال العام وجوهرية الدور الذي يلعبه في ضمان مصالح المسلمين‬
‫‪.‬أدركت شيئا ً من أسرار تعظيم الشريعة والفقه السلمي للمال العام‬

‫أريد هاهنا في هذه الورقة أن نناقش سويا ً بعض التصورات الشائعة عن المال العام‪ ،‬لكنها‬
‫تصورات مغلوطة للسف‪ ،‬سواًء بين بعض أفراد المجتمع‪ ،‬أو عند كثير من الولة والمسؤولين‪،‬‬
‫‪.‬أو حتى بين من يسمون أنفسهم النخبة المثقفة‬

‫‪:‬إنما أنا قاسم‪-‬‬


‫يتصور كثير من الناس أن )المال العام( هو ملك شخصي لولي المر‪ ،‬ويرتبون على هذا‬
‫التصور نتائج وتصرفات غريبة‪ ،‬وهذا خطأ مخالف للنص واتفاق الفقهاء‪ ،‬فالمال العام ملك‬
‫للمسلمين جميعًا‪ ،‬وليس ملكا ً خاصا ً لولي المر‪ ،‬وقد شرح النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬هذا‬
‫المبدأ في عبارة وجيزة بليغة في الحديث الصحيح الذي قال فيه ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪) -‬ما‬
‫أعطيكم ول أمنعكم‪ ،‬وإنما أنا قاسم‪ ،‬أضعه حيث أمرت(‪ ،‬وأصل متن الحديث في الصحيحين‬
‫من حديث جابر ومعاوية‪ ،‬وهذا لفظ المام أحمد‪ ،‬وفي رواية للبخاري عن أبي هريرة )الله‬
‫‪].‬المعطي‪ ،‬وأنا القاسم( ]البخاري‪3116 ،‬‬

‫فإذا كان هذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم‪ -‬يؤكد أنه ل يملك المال العام‪ ،‬وإنما وظيفته‬
‫القسم والتوزيع فقط‪ ،‬فكيف بمن يخلف رسول الله من ولة المسلمين؟! ولذلك حين تعرض‬
‫خاذ يكشف‬ ‫المام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية لهذا الحديث قال عنه في تعليق أ ّ‬
‫‪:‬وجه الولوية‬

‫فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره‪ ،‬كما يفعل ذلك(‬
‫]المالك الذي أبيح له التصرف في ماله( ]الفتاوى‪28/268 ،‬‬

‫بمعنى أن النبي –صلى الله عليه وسلم‪ -‬حين قال )إنما أنا قاسم( أراد أنه )ليس بمالك(‪،‬‬
‫‪:‬ولذلك يقول المام ابن تيمية‬
‫وقول النبي "إني والله ل أعطى أحدًا‪ ،‬ول أمنع أحدًا‪ ،‬وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت" يدل(‬
‫]على أنه ليس بمالك للموال( ]منهاج السنة‪ ،‬ابن تيمية‬

‫ولذلك لما عالج ابوالعباس ابن تيمية مسألة المنح العقارية التي يوزعها ولي المر على‬
‫المسلمين بحسب المصلحة بّين أن هذا ليس تبرعا ً من ولي المر لنه ليس ماله الشخصي‪،‬‬
‫‪:‬بل هذا جاٍر على مبدأ )إنما أنا قاسم( كما يقول ابن تيمية‬
‫وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين‪ ،‬وولي المر قاسم يقسم بينهم حقوقهم‪(،‬‬
‫]ليس متبرعا ً لهم( ]الفتاوى‪28/85 ،‬‬

‫ودللت هذا المبدأ )إنما أنا قاسم( الذي قرره رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬لم يكن‬
‫شأنا ً غامضا ً لم يذكره إل ابن تيمية‪ ،‬بل هذا تصور عام بين فقهاء السلم منذ فجر الخلفة‬
‫الراشدة وانتهاًء بفقهائنا المعاصرين‪ ،‬وقد أشار لذلك عمربن الخطاب كثيرًا‪ ،‬ومن ذلك قوله‬
‫‪:‬رضي الله عنه‬

‫أما والله ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم‪ ،‬وما أحد منا بأحق به من أحد‪ ،‬وما منا أحد من(‬
‫المسلمين إل وله في هذا الفيء حق‪ ،‬ولئن بقيت ليبلغن الراعي وهو في جبال صنعاء حقه من‬
‫]فيء الله( ]الموال لبن زنجويه‪ ،‬تحقيق فياض‪ ،‬ص‪569‬‬

‫ولذلك قام الصحابي الجليل كاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه‪ -‬في الناس‬
‫‪:‬خطيبا ً زمن خلفته وأ ّ‬
‫كد هذا المعنى كما يقول الراوي عطية بن قيس‬

‫خطبنا معاوية فقال‪ :‬إن في بيت مالكم فضل عن أعطيتكم ‪ ،‬وأنا قاسم بينكم ذلك‪ ،‬فإنه ليس(‬
‫‪].‬بمالنا؛ إنما هو فيء الله الذي أفاءه عليكم( ]الموال لبي عبيد‪ ،‬ت رجب‪ ،‬ص‪1/363‬‬

‫واستمر هذا المعنى مشعا ً حاضرا ً في مدونات الفقه السلمي في العصر الوسيط‪ ،‬ومن ذلك‬
‫قول المام ابن قدامة رحمه الله في موسوعته المغني لما تعرض لباب إحياء الموات‪) :‬وأما‬
‫]مال بيت المال‪ ،‬فإنما هو مملوك للمسلمين( ]المغني‪6/184 ،‬‬

‫ويشير لذلك القرافي بعبارة أكثر حسما ً ويتحدث عن ولي المر إذا وقف وقفا ً من المال العام‬
‫‪:‬ونسبه لنفسه‬

‫فإن وقفوا وقفا ً على جهات البر والمصالح العامة ونسبوه لنفسهم‪ ،‬بناء على أن المال الذي(‬
‫في بيت المال لهم‪ ،‬كما يعتقده جهلة الملوك؛ بطل الوقف‪ ،‬بل ل يصح إل أن يوقفوا معتقدين‬
‫أن المال للمسلمين‪ ،‬والوقف للمسلمين‪ ،‬أما إن المال لهم والوقف لهم فل‪ ،‬كمن وقف مال‬
‫]غيره على أنه له فل يصح الوقف فكذلك ها هنا( ]الفروق للقرافي‪ ،‬ف ‪ ،115‬ص‪2/687‬‬

‫‪:‬وفي زمننا هذا يقول أهم مرجعية فقهية معاصرة وهوالعلمة ابن عثيمين رحمه الله‬

‫وغاية ما عند الحكومة أن توزع بيت المال على المستحقين‪ ،‬فمثل‪ :‬هذا مدرس فله ما يليق(‬
‫بعمله‪ ،‬وهذا مؤذن فله ما يليق بعمله‪ ،‬وهكذا‪ ،‬يعني ليس من الحكومة في هذا إل التوزيع‬
‫والتنظيم‪ ،‬أما أنت فلك حق‪ ،‬وكل من عمل عمل ً متعديا ً في المسلمين فله حق من بيت‬
‫]المال( ]الممتع‪10/56 ،‬‬

‫حسنا ً ‪ ..‬ماهي النتائج السلبية التي انبنت على هذا التصور الخاطئ؟ أعني تصور أن المال‬
‫‪.‬العام هو ملك شخصي خاص لولي المر‬

‫انبنى على هذا التصور أن بعض ولة المور توهم أن له أن يأخذ من هذا المال ماشاء‪ ،‬وأن‬
‫طع من العقارات ماشاء‪ ،‬وأنه حين يصرف للناس من المال العام شيئا ً فإنما‬
‫يقتطع وُيق ِ‬
‫يتفضل به عليهم‪ ،‬لنه في نظره ماله الشخصي الذي كرمه الله به على أساس الولية‪ ،‬وهذا‬
‫خطأ مخالف لمبدأ )إنما أنا قاسم( الذي قرره رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬ووضحه‬
‫‪.‬فقهاء المسلمين‪ ،‬وسيأتي مزيد توضيح لهذا الوهم عند بعض الولة‬

‫ومما انبنى على هذا التصور الخاطئ –أيضا ً‪ -‬أن بعض الفراد في المجتمع المسلم صار ل‬
‫يمانع من الستيلء على شئ من المال العام من وزارة أو مستشفى أو بلدية أومدرسة‬
‫أوغيرها‪ ،‬والحجة التي يتذرعون بها يلخصونها في قولهم‪ :‬أن هذا مال ولي المر‪ ،‬وولي المر‬
‫!لم ينصفنا‪ ،‬فيحق لنا أن نأخذ من ماله‪ .‬فانظر كيف آل هذا التصور إلى هذه النتائج الفظيعة‬

‫ولذلك تجد بعض الناس ممن يحمل في نفسه نقمة على الوضع السياسي تجده مندفعا ً في‬
‫الستحواذ على شئ من المال العام ما أمكنه ذلك‪ ،‬بل لزلت أتذكر أنني قابلت وأنا فتى يافع‬
‫شابا ً يكبرني ببضع سنوات‪ ،‬فقال لي بلجة عامية )أي فلوس تقدر تاخذها من الدولة ل تتردد‬
‫لنهم ماكلينك أصل ً( وهذا ناشئ من تصور أن هذه الموال العامة هي أموال خاصة لولي‬
‫المر‪ ،‬ولذلك يريد أن يظفر بحق يرى أن ولي المر غبنه فيه‪ ،‬وهذا خطأ شنيع‪ ،‬فهذه الموال‬
‫ة بالمسلمين‬ ‫العامة هي أموال المسلمين‪ ،‬فإن أخذت منها هللة واحدة صارت ذمتك معلق ٌ‬
‫‪.‬جميعا ً‬

‫وقد أشار فقيه الدنيا في زمنه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله إلى هذه الظاهرة‪ ،‬ووضح خطورة‬
‫‪:‬المر لن الذمة تتعلق بالمسلمين جميعًا‪ ،‬حيث يقول الشيخ رحمه الله‬

‫خلفا ً لمن قال‪ :‬إن بيت المال حلل‪ ،‬اكذب على الدولة‪ ،‬اسرق من العمل‪ ،‬اعمل ما شئت‪(،‬‬
‫فليس هذا حراما‪ ،‬والسبب أنه بيت مال المسلمين‪ ،‬فنقول‪ :‬بيت مال المسلمين أعظم من‬
‫ملك واحد معين؛ وذلك لن سرقته خيانة لكل مسلم‪ ،‬بخلف سرقة أو خيانة رجل معين فإنه‬
‫]بإمكانك أن تتحلل منه وتسلم( ]الممتع‪14/354 ،‬‬

‫بل إن بعض الناس اعتاد أن يبرر غاراته على المال العام بقوله )يارجال هذي فلوس الدولة!(‬
‫واتضح لي بعد مناقشات مع هذا الصنف من الناس أنه يقصد بمفهوم "الدولة" هنا ليس‬
‫المفهوم المتعارف عليه بأنها ممثل عن المجتمع المسلم‪ ،‬بل يقصد بمفهوم "الدولة" أشخاص‬
‫الولة أعيانهم‪ ،‬فالدولة في نظر هؤلء كيان خارجي مستقل عن المجتمع يمثل أفرادا ً‬
‫!بأعيانهم‬

‫ومن استوعب جيدا ً قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم‪) -‬إنما أنا قاسم(‪ ،‬وما وضحه‬
‫فقهاء السلم تأسيسا ً على هذا المبدأ؛ استبان له خطأ الصحافة الليبرالية في تعبيرها أحيانا ً‬
‫عن بعض القرارات بعبارة )مكرمة ملكية(‪ ،‬فهذه العبارة فيها تفصيل‪ :‬فإن كان ولي المر بنى‬
‫مستشفى أو جامعة أو مركزا ً للبحث العلمي أونحو ذلك‪ ،‬من ماله الشخصي الخاص؛ فهذه ل‬
‫شك مكرمة يستحق بها ولي المر الشادة والتنويه‪ ،‬فقد روى ابوداود بسند جيد عن أبي‬
‫هريرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم‪ -‬قال ) ليشكر الله من ل يشكر الناس(‪ ،‬وشكر‬
‫ولين للعمال الخيرية فيه مصلحة عظيمة بتشجيعهم وتشجيع نظرائهم على الخير‬ ‫‪.‬المم ّ‬

‫ولكن إن كان هذا المستشفى أو الجامعة أو الطريق أونحوه إنما بناه ولي المر بالمال العام‬
‫للمسلمين؛ فهذه ل يليق بالناس أن يقال لهم هذه مكرمة عليكم بينما هي في الحقيقة من‬
‫أموالهم أص ً‬
‫ل‪ ،‬فهذا فيه إساءة مزدوجة لولي المر وللناس‪ ،‬ولكن الصحافة الليبرالية ل تبالي‬
‫بمشاعر المجتمع‪ ،‬لنها مؤسسات بنيت على الوصولية وتزوير الوعي‪ ،‬ولزلنا نطمح باستصدار‬
‫‪.‬توجيه للعلم الليبرالي للكف عن استعمال هذه العبارة المؤذية لمشاعر الناس‬

‫على أية حال ‪ ..‬هذا المبدأ العظيم )إنما أنا قاسم( الذي أسسه رسول الله –صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ -‬يرّتب التزامين‪ ،‬التزام على ولي المر بأن ل يستعمل المال العام كممتلكات شخصية‪،‬‬
‫والتزام على الفراد برعاية حرمة )المال العام( وتغليظ العتداء عليه لنه متعلق بذمة‬
‫‪.‬المسلمين جميعًا‪ ،‬وليس مال ً لعيان فقط‬

‫ة‪ ،‬وفي فقه‬ ‫وبالجملة فمن أراد أن يعرف شدة حضور )المال العام( في الفقه السلمي عام ً‬
‫ة؛ فليقرأ الكتاب الجليل )الموال( للمام أبي عبيد رحمه الله‪ ،‬وأما‬
‫عمر بن الخطاب خاص ً‬
‫كتاب ابن زنجويه بنفس السم )الموال( فهوكالمستخرج على كتاب أبي عبيد مع بعض‬
‫ل إن سياسات إدارة المال العام‬‫الضافات الطفيفة‪ ،‬وقد أشار لذلك الكتاني‪ ،‬بل لو قال قائ ٌ‬
‫‪-‬موارده ومصارفه‪ -‬في السلم أسس شطرها العظم ابوحفص عمر بن الخطاب –رضي الله‬
‫عنه‪ -‬لما أبعد‪ ،‬والمراد أن من تأمل في كتاب الموال للمام أبي عبيد وكيف يتباحث أئمة‬
‫السلف في التفاصيل الفقهية لدارة )المال العام( استوعب منزلة هذا المال في دين الله‪،‬‬
‫‪.‬وشدة عناية أهل السنة به‬

‫هل ّ جلس في بيت أبيه ليهدى إليه؟‪-‬‬


‫جمهور الولة والمسؤولين والموظفين العموميين ما إن يتسنمون مناصبهم حتى تأتي إليهم‬
‫هدايا مباشرة أو منافع أوتسهيلت في إدارات أخرى‪ ،‬هذه المنافع ل تأتي في صورة "رشوة"‬
‫مباشرة وحادة الوضوح‪ ،‬بل تأتي في صورة هدية و )فزعة( و تأتي أحيانا ً مغلفة بلغة الحب‬
‫!والمودة ورغبة التواصل‬

‫‪:‬خذ مثل ً بعض النماذج الشائعة‬

‫خل المسؤول‬‫هذا مزارع يأتي للمسؤول بصناديق التمر الفاخر كل عام‪ ،‬وهذا مستثمر ُيد ِ‬
‫ض يقرضونه إياه فإذا أتت الرباح أخذوا قرضهم وأعطوه الربح‬ ‫ً‬
‫شريكا معهم في تجارتهم بقر ٍ‬
‫وهو لم يحرك ساكنًا‪ ،‬وهذا مسؤول تمنحه شركة التقسيط تسهيلت خاصة بتقليص هامش‬
‫الرباح إلى نسبة معدومة‪ ،‬وهذا مسؤول يأتيه بعض مستثمري العقار ويقولون نريدك أن تدخل‬
‫معنا في عمولة بيع بعض العقارات الفلنية وبعد مدة ينزل في رصيده مبلغ العمولة )السعي(‬
‫وهو ل صلة له أصل ً بالصفقة‪ ،‬وهذا مسؤول أتته منحة عقارية كغيره من المسلمين لكن يقدم‬
‫له البعض خدمة بتطبيق المنحة في موقع عقاري باهظ الثمن فتصبح قيمة منحته تساوي‬
‫عشرة أضعاف منحة نظرائه‪ ،‬وهكذا صور كثيرة للهدايا التي تقدم لشاغلي الوظائف ذات‬
‫الحساسية‪ ،‬ويبتلى بها خصوصا ً أمثال وكلء الوزارات والقضاة وكتاب العدل وعمداء شؤون‬
‫‪.‬القبول والتسجيل بالجامعات ونحوهم‬

‫وهذا لون من ألوان الفساد في المال العام لنه استغلل للسلطة‪ ،‬لكن الشكال الجوهري في‬
‫كل صور الفساد هذه أنها تأتي في صورة هدية وتسهيلت و)فزعة( الخ‪ ،‬حسنا ً ما الضابط الذي‬
‫يكشف ذلك؟ الضابط الذي يكشف ذلك بينه رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬في حديث‬
‫ابن اللتبية الشهير في الصحيحين حين بعثه النبي –صلى الله عليه وسلم‪ -‬لجمع صدقات بني‬
‫‪:‬سليم‪ ،‬تأمل معي الضابط الذي أشار إليه رسول الله‬

‫عن أبى حميد الساعدى قال‪ :‬استعمل رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬رجل من السد(‬
‫يقال له ابن اللتبية على الصدقة‪ ،‬فلما قدم قال‪ :‬هذا لكم وهذا أهدى لي‪ ،‬قال فقام رسول‬
‫الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال‪" :‬ما بال عامل أبعثه‬
‫فيقول هذا لكم وهذا أهدى لي‪ ،‬أفل قعد فى بيت أبيه أو فى بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم‬
‫]ل؟( ]البخاري ‪ ،2597‬مسلم ‪4843‬‬

‫لعلك لحظت المبدأ الذي أسسه النبي –صلى الله عليه وسلم‪ -‬لفرز صور إستغلل السلطة‬
‫والترّبح من الوظيفة‪ ،‬وهذا المبدأ هو )هل جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدى إليه أم‬
‫‪:‬ل؟(‪ ،‬ويشرح ابن قدامة ‪-‬رحمه الله‪ -‬الساس الذي بنى عليه رسول الله هذا الضابط فيقول‬

‫]لن حدوث الهدية عند حدوث الولية؛ يدل على أنها من أجلها( ]المغني‪ ،‬لبن قدامة(‬

‫ومن وجه آخر يوضح ابن تيمية هذا الضابط النبوي والسبب الذي يدعوا الناس لفعل ذلك مع‬
‫‪:‬المسؤولين فيقول‬

‫فإن كان الرجل بحيث لو نزع عن تلك الولية أهدي له تلك الهدية؛ لم تكن الولية هي(‬
‫الداعية للناس إلى عطيته‪ ،‬وإل فالمقصود بالعطية إنما هي وليته‪ ،‬إما ليكرمهم فيها‪ ،‬أو‬
‫]ليخفف عنهم‪ ،‬أو يقدمهم على غيرهم‪ ،‬أو نحو ذلك( ]الكبرى‪6/157 ،‬‬
‫الكثير من المسؤولين يسأل دوما ً‪ :‬متي تكون الخدمة والتسهيلت التي أتلقاها جائزة ومتى‬
‫تكون محرمة؟ والجواب ميسور جدًا‪ ،‬طّبق فقط قاعدة النبي –صلى الله عليه وسلم‪) -‬هل‬
‫جلس في بيت أبيه فينظر أيهدى إليه أم ل؟( بمعنى كلما واجهت تسهيلت أوخدمات فاسأل‬
‫نفسك‪ :‬هل كنت ستتلقاها لو لم تكن تحتل هذا المنصب؟ فإن كان الجواب نعم فهي خدمة‬
‫‪.‬مشروعة‪ ،‬وإن الجواب ل فهي خدمة محرمة‬

‫وهذه القاعدة النبوية أدهشت بلغاء الصوليين في طريقة صياغتها‪ ،‬ففي كتابه الساحر بدائع‬
‫الفوائد عقد ابن القيم فصل ً يذكر فيه أمثلة شرعية على طريقة تنبيه القرآن والسنة إلى‬
‫"العلل الشرعية" وأوصافها وتأثيرها على الحكام‪ ،‬وأن ما في النصوص الشرعية من دقائق‬
‫العقول بأجمع الكلم وأوجزه ما هو أعظم من كلم الصوليين‪ ،‬ومن المثلة التي ذكرها ابن‬
‫‪:‬القيم قوله‬

‫وتأمل قوله في قصة ابن اللتبية "أفل جلس في بيت ابيه وأمه وقال هذا أهدى لي" كيف يجد(‬
‫تحت هذه الكلمة الشريفة أن الدوران يفيد العلية‪ ،‬والصولي ربما كد خاطره حتى قرر ذلك‬
‫بعد الجهد‪ ،‬فدلت هذه الكلمة النبوية على أن الهدية لما دارت مع العمل وجودا ً وعدما ً كان‬
‫العمل سببها وعلتها‪ ،‬لنه لو جلس في بيت أبيه وأمه لنتفت الهدية‪ ،‬وإنما وجدت بالعمل فهو‬
‫]علتها( ]بدائع الفوائد‪ ،‬ابن القيم‬

‫وحديث ابن اللتبية هو الصل الشرعي في تنظيم قاعدة )استغلل النفوذ(‪ ،‬وفي هذا الحديث‬
‫‪:‬من الفقه ووسائل معالجة سوء استعمال السلطة مبادئ غزيرة‪ ،‬وسنذكر بعض المثلة‬

‫منها‪ :‬تجريم استغلل النفوذ والسترباح من الوظيفة ومنع أي صورة من صور المحاباة للولة‬
‫‪.‬والمسؤولين تحت أي غطاء كهدية ونحوها‬

‫ومنها‪ :‬الضابط الذي يميز هل المنفعة والتسهيلت التي استفادها المسؤول من الناس جائزة‬
‫‪".‬أم ل؟ وهو ضابط "لوكان في غير الولية فهل سيصله هذا النفع أم ل؟‬

‫ومنها‪ :‬أن الموال المتحصلة من الهدايا التي للولة ل ترجع إلى المهدي‪ ،‬بل تذهب للمال‬
‫العام‪ ،‬لن النبي لم يرجعها للمهدين بل أخذها للمال العام‪ ،‬وهذا الجراء النبوي بناًء على‬
‫‪.‬قاعدة المعاملة بنقيض المقصود‪ ،‬وقد أشار الفقهاء لهذه المسألة‬

‫ومنها‪ :‬محاسبة الولة بعد النتهاء من أعمالهم فقد نص الحديث على "المحاسبة" كما في‬
‫‪:‬رواية البخاري‬

‫عن أبي حميد الساعدي قال‪ :‬استعمل رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم رجل ً من السد‪(،‬‬
‫]على صدقات بني سليم‪ ،‬يدعى ابن اللتبية فلما جاء حاسبه( ]البخاري‪1500 ،‬‬

‫ومنها‪ :‬أن محاسبة الولة والوزراء والمسؤولين ل تعني أبدا ً إساءة الظن فيهم ول الطعن في‬
‫أمانتهم‪ ،‬ولكنه "إجراء عدلي" يخضع له الجميع لضمان سلمة إدارة المال العام‪ ،‬فإن ابن‬
‫اللتبية صحابي أمين‪ ،‬ومع ذلك حاسبه ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬قال ابن القيم تعليقا ً على أن‬
‫‪:‬أمانة المسؤول ل تمنع محاسبته‬

‫للحاكم أن يحاسبه ويسأله عن وجوه ذلك‪ ،‬ول يمنعه من محاسبته كونه أمينًا‪ ،‬فإن النبي(‬
‫‪-‬صلى الله عليه و سلم‪ -‬حاسب عماله كما ثبت في صحيح البخاري أنه بعث ابن اللتبية عامل‬
‫‪ ].‬على الصدقة فلما جاء حاسبه( ]إغاثة اللهفان‪ ،‬ابن القيم‬

‫ومنها‪ :‬أنه ل مانع أن تكون المحاسبة المالية للولة والمسؤولين علنية‪ ،‬ففي نص حديث أبي‬
‫حميد الساعدي في البخاري ومسلم أن النبي صعد المنبر وحاسب وعاتب والي الموال ابن‬
‫اللتبية رضي الله عنه‪ ،‬ولم يحاسبه أو يعاتبه بشكل سري أوفي غرفة خاصة‪ ،‬كما يقول‬
‫‪:‬الراوي‬

‫فقام رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬على المنبر‪ ،‬فحمد الله وأثنى عليه‪ ،‬وقال‪ :‬ما بال(‬
‫]عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدى لي‪] (..‬البخاري ‪ ، 6979‬مسلم ‪4843‬‬

‫ول يزال في حديث ابن اللتبية الكثير من مبادئ وقواعد محاسبة الولة وضبط استعمال‬
‫السلطة وحماية المال العام وكبح استغلل النفوذ‪ ،‬وهي بحاجة لتفقه خاص‪ ،‬وليس هذا محل‬
‫‪.‬بسطها‬

‫والحقيقة أن حديث ابن اللتبية أّثر على الفقهاء جوهريا ً في النظر لسلوك صاحب السلطة‪،‬‬
‫سأنقل هذا الحوار الطريف بين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وأحد تلميذه في منزل الشيخ‬
‫‪:‬رحمه الله عام ‪1420‬هـ‬

‫السائل‪ :‬هل يجوز الهدية من الموظف لرئيسه؟‪(-‬‬

‫الشيخ‪ :‬الهدية من الموظف لرئيسه ل تجوز؛ لنك كما تعلم حديث عبد الله بن اللتبية‪ ،..‬هذا‪-‬‬
‫‪.‬الرئيس لول أنه رئيس هل ستعطيه؟ ل تعطيه‪ ،‬إذا ً ل تعطه‬

‫السائل‪ :‬ولو كان قلمًا؟‪-‬‬

‫!الشيخ‪ :‬ولو سواكا ً ‪-‬‬

‫السائل‪ :‬وإن كان من باب الدعوة؟‪-‬‬

‫الشيخ‪ :‬ل‪ ،‬هذا ليس من باب الدعوة‪ ،‬الدعوة اذهب للمسجد‪ ،‬لن الهدية تجذب النسان غصبا ً ‪-‬‬
‫عليه‪ ،‬إذا أهديت للرئيس تريد في المستقبل يحابيك‪ ،‬ويتغاضى عن تقصيرك‪ ،‬ويرخص لك في‬
‫‪].‬وقت ليس فيه ترخيص‪ ،‬الهدية تجبر النسان أنه يحابي صاحبه( ]لقاء الباب المفتوح‪ ،‬ل‪225‬‬

‫ل لكما‪-‬‬
‫‪:‬اكتبا كل ما ٍ‬
‫بناء الوازع اليماني والوعي الخلقي والنظم العقابية في المجتمع حول المال العام ل شك أن‬
‫له دورا ً جوهريا ً في صيانة المال العام‪ ،‬لكن ذلك كله ل يكفي‪ ،‬بل لبد –أيضا ً‪ -‬من وسائل‬
‫وإجراءات )وقائية( تحفظ المسؤول مسبقا ً من الوقوع في جريمة استغلل السلطة والثراء‬
‫من المال العام‪ ،‬ومن أهم هذه الليات الوقائية آلية أسسها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب‬
‫‪-‬رضي الله عنه‪ -‬وهي إفصاح شاغلي المناصب القيادية عن ثروتهم وممتلكاتهم‪ ،‬أو إعلن‬
‫الذمة المالية‪ ،‬فإذا أصبحت ثروتهم تحت الضوء امتنع عليهم مضاعفة ثروتهم بعد تولي‬
‫‪.‬المنصب‬

‫روى المام أحمد في فضائل الصحابة عن نافع أن بعض الولة طلبوا زيادة رواتبهم في عهد‬
‫‪:‬أبي بكر‪ ،‬فلما ولي عمر كتب إليهم إجراءات جديدة‪ ،‬يقول نافع‬

‫لما ولي عمر كتب إليهم –أي إلى معاوية وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد‪" : -‬إن رضيتم(‬
‫بالرزق الول وإل فاعتزلوا عملنا"‪ ،‬قال ‪ :‬فأما معاوية وعمرو فرضيا‪ ،‬وأما خالد فاعتزل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ل هو لكما"‪ ،‬ففعل‪ ،‬قال‪ :‬فجعل ل يقدر لهما بعد على‬‫فكتب إليهما عمر‪" :‬أن اكتبا لي كل ما ٍ‬
‫ل إل أخذه فجعله في بيت المال( ]فضائل الصحابة‪ ،‬للمام أحمد‪ ،‬دار ابن الجوزي‪ ،‬ص‬ ‫ما ٍ‬
‫‪358].‬‬

‫وهذا أثر بإسناد جيد إلى نافع راوي القصة‪ ،‬وغاية ما يتخوف فيه هو تردد جرير بن حازم‬
‫الحافظ حيث رواه مرةً عن نافع مباشرة‪ ،‬ومرة عن يعلى عن نافع‪ ،‬وهذا ل يضر لعدة قرائن؛‬
‫منها أن الواسطة صحيحة أعني يعلى بن حكيم‪ ،‬ولن جرير ثبت سماعه من نافع‪ ،‬ولن من‬
‫روى عن جرير ولده وهب‪ ،‬ووهب ضبط حديث والده الذي قبل الختلط وبعده‪ ،‬حتى أنه حجبه‬
‫عن الرواية حين اختلط كما نص على ذلك ابن مهدي‪ ،‬فالرجح أن الحديث بادخال الواسطة‬
‫ل فهو صحيح‬ ‫يعلى لنها الرواية القدم زمنا ً فهي أبعد عن اختلط جرير المتأخر‪ ،‬وعلى ك ٍ‬
‫‪.‬السناد إلى نافع‬

‫وهذا الثر العمري العظيم في غاية الهمية في تأسيس مبدأ إفصاح المسؤول عن ثروته قبل‬
‫توليه منصبه‪ ،‬أي إعلن الذمة المالية‪ ،‬وكونه مبدأ مبكر في تاريخ السلم‪ ،‬حيث أرسل عمر‬
‫ل لكما(‪ ،‬وهذه مطالبة صريحة بالفصاح عن‬‫لثنين من المسؤولين يقول لهما )اكتبا لي كل ما ٍ‬
‫‪.‬الوضع المالي للمسؤول‪ ،‬بل إن عمركان يأخذ ما زاد في ثروة المسؤول ويرسله للمال العام‬

‫من أين لك هذا؟ ‪-‬‬


‫يتصور كثير من المسؤولين أنه ل مبرر لمساءلته عن ثروته بعد توليه منصبا ً رفيعًا‪ ،‬ويعتقدون‬
‫أن هذا إجراء بل مبرر شرعي يجيز ذلك‪ ،‬والحقيقة أن هذا تصور خاطئ‪ ،‬بل إن مبدأ )من أين‬
‫لك هذا؟( قرره رسول الله –صلى الله عليه وسلم‪ -‬في حديث أبي حميد الساعدي عند ابن‬
‫‪:‬خزيمة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم عن بعض عماله‬

‫فإن سئل‪" :‬من أين لك هذا؟" قال‪ :‬أهدي لي‪ ،‬فهل إن كان صادقا ً أهدى له وهو في بيت أبيه (‬
‫]أو أمه( ]خزيمة‪2382 ،‬‬

‫وقد كان عمر بن الخطاب يسأل عماله كثيرا ً عن مصادر ثروتهم بعد الولية‪ ،‬تطبيقا ً لمبدأ )من‬
‫‪.‬أين لك هذا؟( الذي أسسه رسول الله‪ ،‬والثار عن عمر كثيرة في هذا الباب‬

‫‪:‬انتفاء الحد ل يعني انتفاء التجريم والتعزير‪-‬‬


‫بعض العامة البسطاء تسربت إليه معلومة فقهية ففهمها بشكل خاطئ‪ ،‬وهي أن السرقة من‬
‫المال العام )بيت مال المسلمين( ل حد فيها في الشريعة‪ ،‬لن لكل مسلم ٍ نصيب في بيت‬
‫المال‪ ،‬فصار هذا شبهة في درأ الحد )مذهب الجمهور(‪ ،‬فتوهم بعض العامة بناًء على ذلك أن‬
‫!انعدام الحد يعني أنه حلل وأن ل عقوبة فيه‬

‫ومن الطريف أن هذا التصور الساذج ليس مقتصرا ً على بسطاء العامة؛ بل تدحرج فيه من‬
‫يسمونهم "كبار" المفكرين العرب‪ ،‬ومنهم نصر ابوزيد )توفي في يوليو ‪ ،(2010‬حيث يقول‬
‫‪:‬ساخرا ً بفقهاء السلم‬

‫وثمة شرط آخر أشد خطورة وهو "أل يكون للسارق في المال المسروق نصيب"‪ ،‬أي أن(‬
‫يكون المال مملوكا ً ملكية خاصة للمسروق منه‪ ،‬وبديهي أن هذا الشرط ل يتوافر في بيت‬
‫مال المسلمين أو الخزانة العامة‪ ،‬فكل من يستولي على بعض هذا المال العام ‪-‬أو كله‪ -‬ل‬
‫يقام عليه الحد‪ ،‬لن له نصيبا ً فيه فليس خالصا ً للغير‪ ،‬وهكذا ينحصر مجال تطبيق حد السرقة‬
‫على النصابين وصغار اللصوص‪ ،‬وهذا هو السلم الذي يطرحه الخطاب الديني على الناس‪،‬‬
‫‪].‬ويبشرهم بأنه قادر على حل مشكلت الواقع( ]نقد الخطاب الديني‪ ،‬ابوزيد‪88 ،‬‬

‫فنصر ابوزيد يتصور ذات التصور الذي لدى بعض الجهال ممن لم يسعفهم الوقت للتعلم‪ ،‬وهو‬
‫!أن انتفاء الحد بالشبهة يعني انتفاء التجريم والتعزير‪ ،‬ويقتضي إباحة السرقة من المال العام‬

‫فالجمهور )الحنفية والشافعية والحنابلة( يرون أن السارق من بيت المال ل قطع عليه‪ ،‬وإنما‬
‫فيه التعزير المناسب‪ ،‬ويحتجون بقاعدة درء الحدود بالشبهات وللسارق من بيت المال شبهة‬
‫ملك‪ ،‬ويحتجون ‪-‬أيضا ً‪ -‬بحديث العبد الذي سرق من المغنم –وهومال عام‪ -‬فلم يقطعه النبي‬
‫‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬وقال )مال الله سرق بعضه بعضا ً( ]ابن ماجة‪ ،[2590 ،‬ولكن الحديث‬
‫في الحقيقة ضعيف فيه جبارة وحجاج بن تميم كلهما ضعيفان‪ ،‬وقال عنه البيهقي في السنن‬
‫الكبرى )وهذا إسناد فيه ضعف(‪ ،‬واحتجوا –أيضا ً‪ -‬بآثار عن الصحابة عمر وعثمان وعلي‬
‫‪.‬وغيرهم‪ ،‬وليس هذا محل إيرادها وما قيل فيها‬

‫وأما القول الخر فهو قول المام مالك وبعض السلف ورأو أن السارق من بيت المال عليه‬
‫َ‬
‫ة َفاقْط َُعوا أي ْد ِي َهُ َ‬
‫ما( ]المائدة‪ .[38 ،‬ول مخصص لها‬ ‫سارِقَ ُ‬
‫ق َوال ّ‬
‫سارِ ُ‬
‫‪.‬قطع‪ ،‬لعموم آية )َوال ّ‬

‫ومن الفقهاء من حاول التوسط بين القولين‪ ،‬ومنهم الشيخ ابن عثيمين ‪-‬رحمه الله‪ -‬فرأى أنه‬
‫ل إطلق في القطع في السرقة من بيت المال‪ ،‬بل بحسب قوة شبهة الملك‪ ،‬فقد يكون‬
‫السارق قد أخذ حقوقه من بيت المال ولم يعد له فيه شبهة ملك فعليه القطع‪ ،‬وقد يكون لم‬
‫يستوفها فهذه شبهة ملك تدرأ الحد‪ ،‬فصار المعتبر هو قوة شبهة الملك‪ ،‬كما يقول الشيخ ابن‬
‫‪:‬عثيمين‬

‫الخلصة في مسألة السرقة من بيت المال‪ :‬أن الصل فيها القطع‪ ،‬حتى توجد شبهة بينة‪(،‬‬
‫]وهي إما فقره‪ ،‬أو قيامه بمصلحة من مصالح المسلمين( ]الشرح الممتع‪14/355 ،‬‬

‫وبالجملة فسواء على مذهب المام مالك الذي يرى في سرقة المال العام القطع‪ ،‬أو في‬
‫مذهب الجمهور الذين يرون درأ الحد وثبوت التعزير؛ ففي الحالين لم يرتفع التجريم ول‬
‫‪.‬العقوبة‪ ،‬وفي هذا إيضاح لخطأ التصور لدى بعض الجهال‪ ،‬ولدى نصر ابوزيد وأمثاله‬

‫ومما يدل أن نصر ابوزيد لم يفهم المسألة الفقهية أصل ً قوله في خلصة هذا النقد )وهكذا‬
‫ينحصر مجال تطبيق حد السرقة على النصابين وصغار اللصوص( فانظر كيف يتوهم أن هذا‬
‫القول الفقهي يفضي لحماية كبار اللصوص وتطبيق الحد على صغار اللصوص‪ ،‬بينما الواقع هو‬
‫عكس ذلك‪ ،‬فإن صغار اللصوص هم الفقراء وهم أكثر احتمال ً لن يكون لهم شبهة ملك في‬
‫بيت المال‪ ،‬وسرقتهم ل تتعدى حقهم في أكثر الحوال‪ ،‬فيدرأ عنهم الحد بهذه الشبهة‪ ،‬بخلف‬
‫كبار اللصوص فهم أثرياء ويغلب أن ل تكون لهم شبهة ملك في بيت المال‪ ،‬ولو فرض أن لهم‬
‫شبهة ملك فإن سرقتهم الكبيرة تتجاوز مقدار ما يملكونه قطعًا‪ ،‬فتنتفي الشبهة الدارئة للحد‪،‬‬
‫فصار هذا القول الفقهي يفضي لتطبيق الحد على كبار اللصوص دون الصغار‪ ،‬وليس العكس‬
‫‪.‬كما يتوهم ابوزيد‬

‫فتأمل كيف يستنتج نصر ابوزيد من هذا الحكم الفقهي ما هو نقيض المقصود وستدرك حينها‬
‫وجاهة الرأي الذي يرى أهمية تكثيف الدعوة السلمية لقضية استعمال )العقل(‪ ،‬وأن ينشر‬
‫الدعاة بين الشباب أهمية تحريك العقل والعقلنية‪ ،‬فكثير من هؤلء الذين يسمون أنفسهم‬
‫مفكرين يعانون من أنيميا حادة في القدرات العقلية‪ ،‬وشواهد ذلك تفوق الحصر وفيها أمثلة‬
‫‪.‬طريفة كثيرة‬

‫والحقيقة أن تهكم نصر ابوزيد بالفقهاء ل يثير استغرابا ً كبيرًا‪ ،‬لن الرجل كان لديه مشكلة مع‬
‫القرآن نفسه‪ ،‬فضل ً عن الفقهاء‪ ،‬فكان يعلن أن القرآن بشري ل إلهي‪ ،‬وأن الغيبيات في‬
‫القرآن أساطير‪ ،‬ولذلك رفع عليه مجموعة من المحتسبين في مصر دعوى لدى المحكمة‬
‫بثبوت ردته ووجوب التفريق بينه وبين زوجته ابتهال يونس‪ ،‬فقررت المحكمة ردته فعل ً‬
‫والتفريق بينه وبين زوجته‪ ،‬فرفع نصر ابوزيد طعنا ً في الحكم لدى محكمة النقض‪ ،‬فرفضت‬
‫محكمة النقض طعن نصر ابوزيد وأيدت حكم المحكمة بردته! كما تقول محكمة النقض في‬
‫‪:‬نص حكمها‬

‫وحيث إن هذا النعي مردود‪ ،‬بما سلف بيانه‪ ،‬من أن المطعون ضده الول –أي نصر ابوزيد‪ -‬قد(‬
‫أفصح بمؤلفاته عما يعد من الكفر الصريح‪ ،‬وأن استتابة المرتد مستحبة وغير واجبة على‬
‫الراجح في المذهب الحنفي‪ ،‬وأن أثر هذه الستتابة يتعلق بتوقيع حده الردة ول يؤثر في‬
‫القضاء بالفرقة التي تقع على الفور بمجرد الردة بين المرتد وزوجه‪ ،‬وأن الحكم المطعون فيه‬
‫قد انتهى إلى قضاء صحيح( ]محكمة النقض المصرية‪ ،‬الطعن رقم ‪ 478‬لسنة ‪ 65‬ق أحوال‬
‫‪].‬شخصية‬

‫ونصر ابوزيد أنكر أن يكون القرآن من الله متذرعا ً بأن ذلك يمنعنا من فهم القرآن ويصبح‬
‫‪:‬وكأن الله يكلم نفسه! كما يقول ابوزيد‬
‫إن القول بإلهية النصوص‪ ،‬والصرار على طبيعتها اللهية؛ يستلزم أن البشر عاجزون(‬
‫بمناهجهم عن فهمها‪ ،..‬وهكذا تتحول النصوص الدينية إلى نصوص مستغلقة على فهم النسان‬
‫العادي‪ ،‬وهكذا يبدو وكأن الله يكلم نفسه ويناجي ذاته‪ ،..‬وإذا كنا هنا نتبنى القول ببشرية‬
‫النصوص الدينية؛ فإن هذا التبني ل يقوم على أساس نفعي آيديولوجي( ]نقد الخطاب الديني‪،‬‬
‫‪].‬ابوزيد‪206 ،‬‬

‫بل بلغ التوقح بنصر ابوزيد أنه كان يقول أن غيبيات القرآن )عن الله والملئكة الخ( خرافات‬
‫‪:‬وأساطير‪ ،‬كما يقول‬
‫تتحدث كثير من آيات القرآن عن الله بوصفه مِلكًا‪ ،‬له عرش وكرسي وجنود‪ ،‬وتتحدث عن(‬
‫القلم واللوح‪ ،..‬وكلها تساهم إذا فُِهمت فهما ً حرفيا ً في تشكيل صورة أسطورية( ]نقد‬
‫‪].‬الخطاب الديني‪ ،‬ابوزيد‪207 ،‬‬

‫أرأيت مستوى هذا النحطاط في التعامل مع القرآن باعتباره ل ينسب لله‪ ،‬وأن الغيبيات التي‬
‫فيه أساطير؟ ياليتك إذن ترى كيف احتفت صحافتنا الليبرالية المحلية بهذا المتعدي على كتاب‬
‫الله‪ ،‬لقد أقاموا له رقصة تلميع تتمعر منها قلوب المؤمنين‪ ،‬وليس هذا موضع إيراد شواهد‬
‫‪:‬الصحافة الليبرالية المحلية‪ ،‬لكن خذ مثال ً واحدا ً فقط‬

‫ل يحضر نصر حامد أبو زيد في ذاكرتي بوصفه مفكرا ً عربيا ً لمعا ً وحسب‪ ،‬وإنما إنسانا ً(‬
‫‪].‬ومثقفا ً وشجاعا ً من طراز فريد( ]صحيفة الرياض‪ 8 ،‬يوليو ‪2010‬‬

‫وهكذا تجد صحافتنا الليبرالية المحلية ترّوج لكل من يتعدى على القرآن‪ ،‬في الوقت الذي‬
‫تترصد فيه للعلماء الربانيين لتشويه صورتهم الجتماعية‪ ،‬هل هذه صحافة تعبر عن بلد‬
‫الحرمين وجزيرة السلم ومنطلق دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب؟! ألم يحق الوقت‬
‫لجتثاث هذه الفئة الضالة التي تتربع على إدارة المؤسسة العلمية الليبرالية نصرةً لكتاب‬
‫ة للقرآن؟‬‫!الله وحمي ً‬

‫ل؟ حين تتأمل في كتابات من يخدعون أنفسهم بتسمية ذواتهم‬ ‫أتدري أين موضع الطرافة فع ً‬
‫)المفكرين العرب( وتجدهم لعقود تلو عقود وهم يتمدحون بأنهم سيأتون بالنظريات الجديدة‬
‫التي لم يأت بها الوائل‪ ،‬فإذا طالعت كتاباتهم وجدتهم يتبنون أن القرآن فيه )أساطير( كما‬
‫كان يقول ذلك أركون )الفكر السلمي قراءة علمية‪ ،‬ص‪ ، (84‬وكما يقوله نصر ابوزيد )نقد‬
‫دة هاهنا؟ هذه عينها نظرية مشركي‬ ‫الخطاب الديني‪ ،‬ص‪ ، (207‬وغيرهم‪ ،‬فبالله عليكم اين الج ّ‬
‫‪:‬قريش قبل خمسة عشر قرنا ً! كما حكى الله مقالتهم فقال‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫طيُر اْلوِّلي َ‬
‫ن( ]النعام‪(25 ،‬‬ ‫ذا إ ِّل أ َ‬
‫سا ِ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫ن كَ َ‬
‫فُروا إ ِ ْ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قو ُ‬ ‫جاد ُِلون َ َ‬
‫ك يَ ُ‬ ‫جاُءو َ‬
‫ك يُ َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫] َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫طيُر اْلوِّلي َ‬
‫ن((‬ ‫ذا إ ِّل أ َ‬
‫سا ِ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫ل هَ َ‬
‫ذا إ ِ ْ‬ ‫قل َْنا ِ‬
‫مث ْ َ‬ ‫شاُء ل َ ُ‬ ‫معَْنا ل َ ْ‬
‫و نَ َ‬ ‫م آَيات َُنا َقاُلوا قَد ْ َ‬
‫س ِ‬ ‫ذا ت ُت َْلى ع َل َي ْهِ ْ‬
‫وَإ ِ َ‬
‫]]النفال‪31 ،‬‬

‫صيًل( ]الفرقان‪(5 ،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫مَلى ع َل َي ْهِ ب ُك َْرةً وَأ ِ‬ ‫طيُر اْلوِّلي َ‬
‫ن اك ْت َت َب ََها فَهِ َ‬
‫ي تُ ْ‬ ‫]وََقاُلوا أ َ‬
‫سا ِ‬

‫ياضيعة العمار من أقوام ٍ ظنوا أنهم سيأتون بالبداع والتحديث‪ ،‬فإذا هي نظريات الطبقة‬
‫الوثنية المنحطة قبل خمسة عشر قرنًا‪ ،‬يعيبون علينا الخذ من ابن تيمية لنه قديم قبل سبعة‬
‫قرون‪ ،‬وهم يأخذون نظريات مشركي قريش قبل خمسة عشر قرنًا‪ ،‬ثم ل يخجلون من‬
‫!التباهي بذم الماضوية‬
‫إذا كان هذا هو التجديد والبداع الفكري وهو أخذ نظريات مشركي قريش فالقضية ميسورة‬
‫جدا ً ولله الحمد‪ ،‬ولذلك فالشاب الذي يطمح أن يسلك مسالك المفكرين العرب هؤلء فلدي‬
‫له مقترح يختصر عليه الطريق‪ ،‬وهو أن يلتقط ما تبقى من نظريات مشركي قريش التي‬
‫عرضها القرآن ويتبناها باعتبارها تجديدا ً فكريًا‪ ،‬ويعرضها في كتاب جديد بلغة متقعرة تحت‬
‫عنوان )قراءة انثروبولوجية جديدة في القرآن(‪ ،‬أو يمكنه وضعها تحت عنوان آخر )نظرية‬
‫المابعدقرشية‪ -‬رؤية مقاصدية(‪ ،‬وإذا أراد "دليل ً إرشاديا ً" لنظريات مشركي قريش بحيث‬
‫يختصر عليه الوقت فليراجع رسالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب )مسائل الجاهلية( فقد جمع‬
‫فيها المام المجدد –رحمه الله‪ -‬أكثر من )‪ (120‬فكرة من أفكار مشركي قريش التي أبطلها‬
‫القرآن‪ ،‬وصدقني بمجرد طرحك لهذا الكتاب ستجد صورتك الشخصية ومقالت الحفاوة بك‬
‫في صدر صحفنا السيارة‪ ،‬وسُتدعى مباشرة لمؤتمرات الفكر العربي لتعرض نظرياتك الجديدة‬
‫!في فهم السلم وإعادة قراءة التراث‬

‫على أية حال ‪ ..‬دعنا من تصفيق الصحافة الليبرالية المحلية لمعتوهي الفكر العربي‪ ،‬ولنعد‬
‫‪.‬لموضوعنا عن التصورات الشائعة والمغلوطة عن المال العام‬

‫‪:‬المصلحة تقييد ل تخيير‪-‬‬


‫في باب السياسة الشرعية في الفقه السلمي ُيمَنح ولي المر مساحة واسعة للتحرك طبقا ً‬
‫للمصلحة الشرعية‪ ،‬فباب السياسة الشرعية أغلبه قائم على المصلحة وتقل فيه الحكام‬
‫الثابتة المحددة‪ ،‬والقاعدة الفقهية التي تنظم هذه القضية هي قاعدة )التصرف على الرعية‬
‫منوط بالمصلحة( وهي قاعدة مبثوثة في كتب المذاهب الفقهية الربعة‪ ،‬وأحيانا ً تكون‬
‫‪.‬بصياغات متقاربة‬

‫حسنا ً ‪ ..‬أين المشكلة إذن؟ المشكلة أن بعض متفقهة السوء الذين يحيطون بالولة يصورون‬
‫لهم أن معنى هذه القاعدة أن ولي المر مخير كالتخيير الذي في خصال الكفارة‪ ،‬أي يكون‬
‫مخيرا ً في التصرف بحسب التشهي والرغبة الخاصة‪ ،‬وأنه ليس عليه قيود في ذلك‪ .‬وهذا‬
‫تصور خاطئ كليا ً لمعنى القاعدة‪ ،‬فالمصلحة في ذاتها تقييد وليست تخيير‪ ،‬بمعنى أن تصرف‬
‫ولي المر يجب أن يراعي فيه المصلحة الشرعية‪ ،‬فإن تصرف في المال العام بغير مراعاة‬
‫‪.‬المصلحة دخل في الظلم وخرج عن حد العدل وتعرض لغضب الله جل وعل‬

‫‪:‬العدل في القطاع‪-‬‬
‫في شهر ربيع الول عام ‪1394‬هـ اجتمعت الهيئة القضائية العليا في السعودية وقررت أن‬
‫)القطاع يفيد التملك( ]قرار رقم ‪ ،94‬وتاريخ ‪ .[14/3/1394‬وهوقرار مشهور‪ ،‬ومضمونه أن‬
‫ولي المر إذا منح شخصا ً مساحة عقارية فيتملكها دون حاجة لحيائها الحياء الشرعي‬
‫‪.‬المعروف‬

‫هذا القرار يرى بعض المراقبين أنه هو المسؤول عن اجتياح كثير من النافذين للعقارات‪ ،‬ثم‬
‫تطويق المدن الكبرى‪ ،‬لنهم صاروا يتملكون الراضي بكل سهولة دون حاجة لحيائها‪ ،‬وهذا ما‬
‫سبب بالتالي نشوء أزمة العقار والسكان في السعودية‪ ،‬وأعرف أحد الخبراء المتميزين في‬
‫هذا المجال‪ ،‬وهو صديق خاص لي‪ ،‬حدثني أكثر من مرة عن قناعته بتفسير أزمة العقار في‬
‫‪.‬السعودية بناء على قرار ‪1394‬هـ الذي اعتبر أن القطاع يفيد التملك‬

‫وثمة آخرون قرأت لهم بعض الكتابات هنا وهناك يزيدون المر تصعيدا ً فل يتوقفون عند هذا‬
‫التفسير فقط‪ ،‬بل يرون أن الفقه السلمي وعلماءنا هم المسؤولون عن أزمة السكان؛ لن‬
‫هذا القرار القضائي اتخذ باسم الفقه والعلماء والشريعة‪ ،‬وأن الصلح بالتالي يبدأ من الثورة‬
‫على هذا الفقه التقليدي الذي خلق حالة الشقق السكنية الباهظة وحرم الناس من نعمة‬
‫ض مناسبة‬
‫‪.‬السكان والتمتع بأر ٍ‬
‫حسنا ً ‪ ..‬هذه أطروحة تستحق المناقشة والحترام لصحابها‪ ،‬وفي تقديري الشخصي أن‬
‫تفسيرهم المطروح هذا غير علمي بتاتًا‪ ،‬وأعتقد أن هناك لبس وسوء فهم ناشئ عن عدم‬
‫استيعاب التسلسل التاريخي لشكالية التملك العقاري في السعودية‪ ،‬ول يمكن إيضاح‬
‫الموضوع إل بعرض التعاقب التاريخي للقضية‪ ،‬فلنحاول إلقاء الضوء ابتداًء من الفقه السلمي‬
‫‪.‬وانتهاًء بالوضع الحالي‬

‫من المعروف في الفقه السلمي أن العقارات ل تملك إل بسبب شرعي للملك مثل )الشراء‪،‬‬
‫‪.‬الهبة‪ ،‬الرث‪ ،‬الحياء‪ ،‬التنفيذ على الرهن‪ ،‬الخ( ونحوها من العقود والتصرفات الناقلة للملكية‬

‫وهاهنا يبدأ السؤال‪ :‬إذا قام ولي المر ومنح شخصا ً ما قطعة أرض من عقار المال العام‬
‫للمسلمين‪ ،‬بدون شراء ول إحياٍء ول غيره من أسباب الملك؛ فهل يملك هذا الشخص هذه‬
‫القطعة من الرض بمجرد هذه المنحة‪ ،‬والتي تسمى )القطاع( ؟‬

‫وهذا سؤال ليس سؤال ً افتراضيًا‪ ،‬فكثيٌر من الناس وخصوصا ً من النافذين يحصلون على‬
‫مساحات شاسعة من الراضي إما من ولي المر مباشرة‪ ،‬أو من أراضي أحد الوزارات‬
‫الحكومية‪ ،‬فهل ُتملك عقارات المال العام بمجرد هذا القطاع؟‬

‫الحقيقة أن هذه المسألة فيها خلف بين الفقهاء‪ ،‬فالمالكية يرون أن القطاع بنفسه يفيد‬
‫الملك‪ ،‬فيجوز لمن أخذ الرض أن يتصرف فيها مباشرة بالبيع حتى ولو لم يحيها‪ ،‬كما يقول ابن‬
‫‪:‬رشد الجد‬

‫إذا أقطعه شيئا من الموات ليحييه يستحقه بنفس القطاع‪ ،‬فيورث عنه‪ ،‬ويكون له أن يتصرف(‬
‫‪].‬فيه بما شاء من بيع أو غيره( ]البيان والتحصيل‪ ،‬ابن رشد الجد‪10/301 ،‬‬

‫ن ابن رشد –رحمه الله‪ -‬إل حالة إهمال الرض وبين أنها تسوغ لولي المر انتزاع‬ ‫ولم يستث ِ‬
‫العقار‪ ،‬لكن القضية الجوهرية وهي التملك بنفس القطاع‪ ،‬والذي يفيد مشروعية التصرف‬
‫‪.‬بالرض مباشرة بيعا ً وإجارةً ورهنا ً الخ‪ ،‬فهذا يقول به المالكية بل إشكال لديهم‬

‫وأما الجمهور )الحنفية والشافعية والحنابلة( فيرون أن القطاع نفسه ل يثبت به الملك‪ ،‬بل ل‬
‫بد من إحياء الرض حتى يكون سببا ً شرعيا ً للملك‪ ،‬إذن ما فائدة القطاع عندهم؟ القطاع‬
‫طع يقدم على غيره في إحياء الرض‬‫عندهم يفيد الختصاص والولوية فقط‪ ،‬بمعنى أن المق َ‬
‫َ‬
‫‪.‬المقطعة‬

‫كما يقول الكاساني الحنفي عندما تعرض للقطاع )الملك في الموات يثبت بالحياء( ]بدائع‬
‫‪].‬الصنائع‪ ،‬الكاساني‬

‫]ويقول الماوردي الشافعي )القطاع ل يوجب التمليك( ]الحاوي الكبير‪ ،‬الماوردي‪7/482 ،‬‬

‫‪:‬وأما الحنابلة فهم أشد المذاهب في منع التملك بالقطاع‪ ،‬واشتراط الحياء‪ ،‬قال البهوتي‬

‫طع كالمتحجر(‬ ‫مق َ‬


‫ول يملكه ‪-‬أي الموات‪ -‬بالقطاع؛ لنه لو ملكه ما جاز استرجاعه‪ ،‬بل يصير ال ُ‬
‫‪].‬الشارع في الحياء؛ لنه ترجح بالقطاع على غيره( ]كشاف القناع‪ ،‬البهوتي‬

‫وسبب خلف الفقهاء في هذه المسألة اختلفهم في تفسير نصوص القطاع الواردة عن النبي‬
‫–صلى الله عليه وسلم‪ -‬منها‪ :‬أن النبي أقطع الزبير أرضا ً من أموال بني النضير )البخاري‬
‫‪ ، (3151‬وأن النبي دعا النصار ليقطع لهم من البحرين )البخاري‪ ، (3163‬وأن النبي أقطع‬
‫وائل بن حجر أرضا ً في حضرموت )ابوداود ‪ 3060‬وصححه ابن الملقن في البدر المنير(‪ ،‬وأن‬
‫‪).‬النبي أقطع بلل بن الحارث العقيق أجمع )الحاكم‪1467‬وفيه ضعف‬

‫وثمة نصوص أخرى ل مجال لعرضها‪ ،‬ومن أحسن من رأيته استوعب نصوص القطاع النبوي‬
‫البيهقي في السنن الكبرى‪ ،‬والحقيقة أنه ليست هذه المسألة فقط‪ ،‬بل أكثر مسائل الحكام‬
‫‪.‬الفروعية التي فيها أحاديث وفيرة تجد البيهقي غالبا ً من أحسن من يسوق أحاديثها رحمه الله‬

‫والمراد أن اختلف الفقهاء في مسألة هل القطاع يفيد الملك أم يفيد الختصاص فقط؟ ناشئ‬
‫عن اختلفهم في تفسير أحاديث القطاع النبوي‪ .‬فالجمهور يحملون هذه الحاديث على أنها‬
‫للولوية ول يتحقق الملك إل بالحياء فيفسرونها على ضوء )من أحيا أرضا ً ميتة فهي له(‪،‬‬
‫‪.‬والمالكية يحملونها على ظاهرها وأنها تمليك محض‬

‫حسنا ً ‪ ..‬دعنا ننتقل الن من الفقه السلمي إلى القضاء الشرعي في السعودية‪ ،‬وكيف تعامل‬
‫القضاء الشرعي مع هذه المسألة؟‬

‫يعرف المختصون أن أهم مصدر يكشف تاريخ القضاء الشرعي في السعودية هو مجموع‬
‫فتاوى رئيس القضاة في زمنه الشيخ محمد ابن ابراهيم رحمه الله‪ ،‬والتي جمعت فيها أقضيته‬
‫وأحكامه ومراسلته للقضاة وللمسؤولين‪ ،‬وتتمتع فتاوى وأقضية الشيخ محمد ابن ابراهيم‬
‫بوزن استثنائي في الداخل القضائي السعودي‪ ،‬فل يقاربها أي مصدر آخر فضل ً عن أن يعادلها‪،‬‬
‫‪).‬حيث يتعامل معها القضاة ياعتبارها أشبه ما تكون بـ)سوابق قضائية حاكمة‬

‫على أية حال ‪ ..‬حين نعود لقضية الشيخ ابن ابراهيم نلحظ حماسا ً منقطع النظير لدى الشيخ‬
‫‪-‬رحمه الله‪ -‬لعتبار أن القطاع ل يفيد التملك‪ ،‬والتشديد في هذه المسألة‪ ،‬وأنه ل بد من‬
‫طع‪ ،‬وأن ل يكون القطاع إل بقدر قدرته على الحياء‬‫مق َ‬
‫‪.‬الحياء وإل تنتزع الرض من ال ُ‬

‫ونصوص الشيخ محمد بن ابراهيم كثيرة جدا ً في هذه المسألة سأقتطف بعضها‪ ،‬فمن ذلك‬
‫‪:‬قول الشيخ في خطاب أرسله إلى رئيس مجلس الوزراء شارحا ً فيه خلصة رأيه‬

‫طع حق التملك‪ ،‬وإنما يعطيه حق(‬ ‫للحكومة إقطاع الموات‪ ،‬وهذا القطاع ل يعطي المق َ‬
‫الختصاص والولوية على غيره حتى يحييها‪ ،‬ويضرب له مدة يتمكن في أثنائها من الحياء‪ ،‬فإن‬
‫‪].‬أحياها وإل نزعت منه( ]مجموع فتاوى ابن ابراهيم‬

‫وأشار الشيخ مرةً إلى وجه قلقه من هذه المسألة‪ ،‬وهي أن القطاع بهذا الشكل قد يكون‬
‫ذريعة الى استغلله ماليا ً على حساب الناس‪ ،‬فتصبح الرض كأنها ورقة تجارية )شيك( بحيث‬
‫يقتطعها اليوم مجانا ً ويبيعها على الناس غدا ً بأرفع السعار‪ ،‬حيث ذكر الشيخ عبارة الحنابلة‬
‫‪:‬وعلق عليها بقوله‬

‫لهذا قالوا "إقطاع الموات لمن يحييه"‪ ،‬أما إقطاع قطعة كبيرة لمن يأخذ ورقتها اليوم‪ ،‬وبعد(‬
‫‪].‬أيام يأخذ نصف المليون‪ ،‬فهذا ليجوز( ]مجموع فتاوى ابن ابراهيم‬

‫بل إنه لما صدرت أحد النظمة المتعلقة بالعقار أرسل وزير الزراعة حينها الستاذ حسن‬
‫المشاري نسخة للشيخ محمد بن ابراهيم ليراجعها‪ ،‬وهو إجراء معتاد‪ ،‬فماذا صنع الشيخ؟ تذكر‬
‫مباشرة قضيته التي اهتم بها وهي تطويق القطاعات وفتح المجال للمحتاجين ليتملكوا‪ ،‬جاء‬
‫‪:‬في ملحوظات الشيخ التي أرسلها لوزير الزراعة‬

‫قد جرى في الماضي إقطاع أراضي زراعية من ولي المر‪ ،‬ولم يقم بعض من أقطع تلك(‬
‫طعت له مهلة كافية‬ ‫ُ‬
‫الراضي بإحيائها‪ ،‬فينبغي وضع مادة تخول وزارة الزراعة إعطاء من أق ِ‬
‫لحيائها‪ ،‬فإذا لم يحيها في تلك المدة فتأخذها الوزارة وتعطيها لمن يحييها بموجب هذا النظام(‬
‫‪]].‬مجموع فتاوى ابن ابراهيم‬
‫حسنا ً ‪ ..‬استمرت المور مستقرة على هذا النحو حتى منتصف الثمانينات الهجرية‪ ،‬وفي هذه‬
‫المرحلة الزمنية حدثت متغيرات تقنية قلبت مفهوم الحياء رأسا ً على عقب‪ ،‬حيث تطورت‬
‫وسائل البناء والنشاءات والتقنيات الزراعية‪ ،‬فأصبح إحياء آلف الكيلومترات ل يكلف أسبوعا ً‬
‫واحدًا‪ ،‬وخصوصا ً إذا استحضرنا تفاوت أعراف "الحياء" بين مناطق المملكة‪ ،‬ففي المنطقة‬
‫الوسطى مثل ً يشترط وجود البئر‪ ،‬وفي المنطقة الجنوبية حيث أكثر الحياء هو إحياء "بعلي"‬
‫يعتمد على المطار يكفي في الحياء بناء سور حتى لولم يكن يغطي طول الرجل المعتاد )‬
‫‪70‬سم(‪ ،‬وفي المنطقة الغربية ل يكتفون بذلك‪ ،‬بل يشترطون أن يكون السور يغطي طول‬
‫‪.‬الرجل المعتاد‪ ،‬وهكذا‬

‫والمراد أنه حين تطورت وتيسرت وسائل البناء والنشاءات حدثت في السعودية في منتصف‬
‫الثمانينات ما يمكن تسميته )طفرة حجج الستحكام(‪ ،‬فصار كثير من الثرياء الذين يستطيعون‬
‫تمويل كلفة النشاءات يتناهبون الراضي البور‪ ،‬بإحيائها بأقل كلفة‪ ،‬ثم يستصدرون حجج‬
‫الستحكام بكل يسر وسهولة‪ ،‬وهو ما يعني أن الجيال الجديدة لن تجد مكانا ً تجلس فيه‪ ،‬حتى‬
‫ض‬ ‫ً‬
‫أن كثيرا من هذه الحجج تصل إلى خمسين ألف متر مربع‪ ،‬بل يحدثني أحد الصدقاء وهو قا ٍ‬
‫في المنطقة الجنوبية أن إصدار حجة استحكام لعشرة آلف متر مربع كان يعتبر في نظر‬
‫مراجع‪ ،‬فيكفي‬‫زملئه القضاة في المحكمة مساحة صغيرة ل تستدعي التطويل على ال ُ‬
‫!الشاهدين والمزكين على حصول الحياء الشرعي بشروطه لصدار الحجة في مدة وجيزة‬

‫في هذه الظروف وتحت إلحاح الكثير من المعنيين لضبط القضية؛ صدر المر السامي رقم )‬
‫‪ (21679‬وتاريخ ‪9/11/1387‬هـ‪ ،‬بإيقاف الحياء الشرعي بعد هذا التاريخ‪ ،‬فأي إحياء حدث قبل‬
‫هذا التاريخ فيسمع النهاء بحجة الستحكام فيه‪ ،‬وأي إحياء شرعي وقع بعد هذا التاريخ فل‬
‫‪.‬تسمع‪ ،‬ضمن تفاصيل أخرى ل مجال ليرادها‬

‫بعد إيقاف الحياء الشرعي بعد هذا التاريخ ‪1387‬هـ أصبح شرط "الحياء" في القطاع شرطا ً‬
‫تعجيزيًا‪ ،‬لن ولي المر إذا أقطع أحدا ً أرضا ً فل يمكن أن يحييها لن الحياء تم إيقافه أص ً‬
‫ل‪،‬‬
‫!فصار يستحيل العمل بقول الجمهور هاهنا وهو اشتراط الحياء في القطاع‬

‫ضر لبرامج المنح العقارية السكنية‪ ،‬وهي المنح القديمة‬


‫ثم في التسعينات بدأت الحكومة تح ّ‬
‫التي كانت تعطى لخريجي الجامعات‪ ،‬ولعضاء هيئة التدريس‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬حتى أن بعض الحياء‬
‫في مدينة الرياض كانت تسمى قديما ً‪ :‬حي الجامعيين‪ ،‬وحي الدكاترة‪ ،‬ونحوها من السماء‪،‬‬
‫‪.‬بسبب كثرة المنح العقارية السكنية من الحكومة فيها‬

‫ولكن هذه البرامج للمنح العقارية أصبح من المستحيل تنفيذها‪ ،‬لن الحياء أوقف بالمر‬
‫ل؟! فصارت‬ ‫السامي ‪1387‬هـ‪ ،‬فكيف يستطيعون إحياء الراضي لتملكها والحياء تم إيقافه أص ً‬
‫ق من البلدية‪ ،‬ول‬
‫تلك المنح تسبب إشكالت في المحاكم‪ ،‬فليس مع أصحابها إل أورا ٌ‬
‫‪.‬يستطيعون الحياء لمنعه‪ ،‬والمحاكم ل تجد طريقا ً لتثبيت ملكياتهم‬

‫وفي هذه الظروف اجتمعت الهيئة القضائية العليا عام ‪1394‬هـ وأخذت برأي المالكية الذي‬
‫يرى أن القطاع بنفسه يفيد التملك‪ ،‬وبعد ذلك وزعت الراضي على الشريحة المستهدفة‬
‫بكثرة‪ ،‬وتم تثبيت الملكيات بيسر وسهولة في المحاكم‪ ،‬وكان هذا القرار تفريجا ً للناس لتثبيت‬
‫‪.‬ملكياتهم من المنح السكنية‬

‫وخلصة المر‪ ،‬أن من تأمل تاريخ الحياء والقطاع في السعودية‪ ،‬وكيف كان قرار الهيئة‬
‫القضائية العليا ‪ 1394‬حل ً لزمة عميقة تضر بملكيات المنح السكنية للناس؛ سيعلم حجم‬
‫الوهم لدى من يتصور أن هذا القرار هو المسؤول عن أزمة العقار والسكان‪ ،‬أومن يقول أن‬
‫‪.‬هذا القرار تم استصداره لتغطية الفساد العقاري في السعودية‬

‫بل لو تأمل من يطرح هذا التفسير ويريد تحميل قضاتنا الشرعيين الشرفاء مغبة أزمة‬
‫السكان في فحوى هذه الطروحة لدرك أن مؤداها أن الفساد العقاري لم يقع في السعودية‬
‫إل بعد ‪1394‬هـ‪ ،‬وهذا وهم كبير بحجم بحيرة طبريا‪ ،‬فالصكوك العقارية المتسممة تعود إلى‬
‫‪.‬الثمانينات والتسعينات قبل هذا القرار القضائي المسكين‬

‫والطريف في المر أن مشايخنا المعاصرين بقو متمسكين بكون القطاع ل يفيد التملك‪ ،‬ولم‬
‫‪:‬يأخذوا برأي الهيئة القضائية العليا‪ ،‬ومن ذلك قول الشيخ ابن عثيمين لما تعرض للقطاع‬

‫القرب أنه ل يملكه‪ ،‬وأنه أحق به‪ ،‬ثم إن أحياه فهذا المطلوب‪ ،‬ويملكه بالحياء‪ ،‬وإن لم يحيه(‬
‫وتقدم متشوف لحيائه؛ وجب على المام أن يقول للذي أقطعه‪ :‬إما أن تحييه‪ ،‬وإما أن ترفع‬
‫‪].‬يدك‪ ،‬ويضرب له مدة يمكنه أن يحييه فيها( ]الشرح الممتع‪10/335 ،‬‬

‫‪:‬ويقول ريحانة الثابتين الشيخ صالح الفوزان حفظه الله‬

‫لكن ل يملكه بمجرد القطاع حتى يحييه‪ ,‬بل يكون أحق به من غيره‪ ,‬فإن أحياه ملكه‪ ,‬وإن(‬
‫عجز عن إحيائه؛ فللمام استرجاعه وإقطاعه لغيره ممن يقدر على إحيائه( ]الملخص الفقهي‪،‬‬
‫‪2/182].‬‬

‫والمراد أن قرار الهيئة القضائية ل تأثير له في أزمة العقار والسكان كليًا‪ ،‬ذلك أن الهيئة‬
‫القضائية سواًء أخذت برأي الجمهور وابن تيمية ومحمد بن ابراهيم وابن عثيمين والفوزان بأن‬
‫القطاع ل يفيد التملك بنفسه بل يجب إحياء العقار‪ ،‬أو أخذت الهيئة القضائية برأي المالكية‬
‫بأن القطاع بنفسه يفيد التملك بل إحياء؛ فسواًء أخذت الهيئة بأي الرأيين فالمشكلة ل زالت‬
‫ل‪ ،‬وأصبحت وسائل‬ ‫قائمة‪ ،‬لن تكنولوجيا الزراعة والبناء والنشاءات تطورت تطورا ً مذه ً‬
‫الحياء في غاية اليسر والسهولة‪ ،‬فإن كان القطاع ل يفيد التملك إل بالحياء فتستطيع‬
‫!الشخصية الفاسدة أن تحيي هضبة كاملة في ظرف أسبوع‬

‫إذن أين جوهر المشكلة؟ جوهر المشكلة أعمق بكثير بكثير من قرار قضائي في ظروف‬
‫تاريخية معروفة وله اعتباره الفقهي‪ ،‬جوهر المشكلة حقا ً في غياب نظام شفاف وعادل‬
‫لتوزيع الراضي بين أفراد المجتمع المسلم‪ ،‬وليست القضية في قرار هنا أو قرار هناك يراد أن‬
‫‪.‬ترمى عليه أضخم مشكلة في السعودية وهي أزمة السكان‬

‫أعتقد أن القول بأن قرار الهيئة القضائية العليا ‪1394‬هـ هوالمسؤول عن الفساد العقاري في‬
‫السعودية فيه تضحيل فقهي وتاريخي‪ ،‬الضحالة الفقهية من جهة ضعف استيعاب العتبارات‬
‫الشرعية لهذا القول والمصالح العظيمة المترتبة عليه‪ ،‬والضحالة التاريخية من جهة ضعف‬
‫‪.‬استيعاب دوره في التفريج للناس لتثبيت ملكيات منحهم‬

‫ض سكنية؟‬
‫!بمعنى آخر‪ :‬لو كان القطاع ل يفيد التملك فكيف يمكن منح الناس أرا ٍ‬
‫وأما من يتصور بأن قول الجمهور بأن )القطاع ل يفيد التملك إل بالحياء( قول فقهي ل يمكن‬
‫استغلله‪ ،‬فهو واهم‪ ،‬فحتى هذا القول يمكن استغلله‪ ،‬وتستطيع الشخصية الفاسدة أن تحيي‬
‫‪.‬مئات اللف من المتار بكل يسر بعد ثورة وسائل النشاءات‬

‫ليست القضية في القول الفقهي نفسه‪ ،‬فكل القولين الفقهيين يمكن للشخصية الفاسدة‬
‫‪.‬الحتيال عليهما‪ ،‬وإنما القضية في النظام الذي سيطبق هذا القول الفقهي‬

‫أعني أن أساس المشكلة هو غياب )العدل في القطاع( فلو استوى الناس في استلم‬
‫إقطاعات لهم عبر آلية عادلة وواضحة‪ ،‬ولم يتم محاباة قريب أو صديق‪ ،‬لكانت قضية القطاع‬
‫هل يفيد التملك بنفسه أم بالحياء قضية ثانوية‪ ،‬بل لصبح القول بأن القطاع يفيد التملك‬
‫بنفسه أكثر تحقيقا ً للمصلحة الشرعية للناس‪ ،‬حتى ل يكلف الناس الحياء لجل قطع صغيرة‬
‫‪.‬يحتاجونها ول يملكون سيولة مالية حاضرة لحيائها‬
‫وغياب العدل الشرعي في القطاع وفي توزيع الراضي على المسلمين من أكثر المور إيلما ً‬
‫للمتابع‪ ،‬فكثير من الشخصيات النافذة اليوم خالفت فريضة العدل الشرعي في القطاع‪،‬‬
‫فصارت تمد سياجها الطويل تحمي من أراضي المسلمين مزارع شخصية لها‪ ،‬وقبل عدة‬
‫سنوات لما كنت أعمل فعليا ً في قطاع المحاماة وتعاملت مع بعض هذه القضايا؛ اكتشفت أن‬
‫بعض النافذين الذين فتنوا بابتلع عقارات المسلمين‪ ،‬اكتشفت أن بجانبهم شخصيات منتسبة‬
‫للعلوم الشرعية أو من رجيع كتابات العدل‪ ،‬تزين لهم ذلك‪ ،‬وتقنعهم بأن ذلك ل يخالف‬
‫الشريعة‪ ،‬وأن لولي المر أن يقطع ماشاء من شاء‪ ،‬وأن هذا حق خاص لولي المر‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬ولو تأمل هؤلء لعلموا أن هذه الشخصيات الدينية الفاسدة التي تزين لهم ذلك أنهم هم‬
‫أعداؤهم على الحقيقة‪ ،‬فليتأمل النسان كيف ل يمضي أسبوع إل ويقال أحسن الله عزاءك‬
‫من المرء أن يكون الجنازة القادمة؟! والنسان ل يستطيع أن يتحمل ذنب‬ ‫في فلن‪ ،‬فما يؤ ّ‬
‫!عقار واحد ظلمه‪ ،‬فكيف إذا طوقه من سبع أرضين يوم القيامة؟‬

‫ب هاتيك العقارات المسّيجة أن من ينصح لصحابها ويذكرهم بالله أنه هو الذي أراد لهم‬‫ور ّ‬
‫الخير والسلمة والسعادة البدية‪ ،‬ومن يربت على أكتافهم ويزينها لهم أنه هو اللئيم الذي‬
‫‪.‬سيكردسهم في أطواق من سبع أرضين يوم القيامة‬

‫على أية حال ‪ ..‬الدرس الهم في هذه القضية برمتها أن جميع الطروحات التي توهمت أن‬
‫مشكلة التنمية تبدأ بالصراع مع الفقه والفقهاء والفتوى المحلية‪ ،‬أو أن أزمة السكن بسبب‬
‫قول فقهي تبناه قضاتنا الشرعيون الشرفاء؛ أنها أطروحات تضيع الوقت وتتسلى بمعابثة‬
‫الطرف الضعف‪ ،‬وهذا مجرد شاهد جديد على أن الصلح في السعودية ليس مسألة فقهية‬
‫‪.‬بل إرادة سياسية‬

‫‪:‬لماذا تعثر نظام المال العام ‪-‬‬


‫أحد َ عشر عامًا‪ ،‬تصرمت عاما ً بعد عام‪ ،‬ونحن نشاهد مشروع )نظام حماية الموال العامة‬
‫ومكافحة سوء استعمال السلطة ( يخرج من هيئة الرقابة والتحقيق‪ ،‬مرورا ً بمجلس الشورى‪،‬‬
‫وانتهاًء بهيئة الخبراء بمجلس الوزراء؛ ثم يعود الكرة مرةً أخرى من حيث ابتدأ! هل ياترى‬
‫يطوف هذا النظام المسكين في هذه الحلقة المفرغة لسباب فنية بحتة‪ ،‬أم أن المر بفعل‬
‫فاعل لغايات غامضة؟‬

‫تبدأ القصة من أنه في عام ‪1420‬هـ تقدمت أهم مؤسسة سعودية معنية بالفساد الداري وهي‬
‫مؤسسة الرقابة والتحقيق بمشروع نظام اسمه )نظام حماية الموال العامة ومكافحة سوء‬
‫استعمال السلطة(‪ ،‬من واقع خبرة المؤسسة في حفظ المال العام‪ ،‬والمشكلت والتي كانت‬
‫تعانيها‪ ،‬والثغرات التي تحتاج لتغطيتها بمواد نظامية تمنحها الصلحيات لمعالجة الوضع‪،‬‬
‫ل عن حفظ الموال‬ ‫والحقيقة أن النظام نص على مبادئ ممتازة‪ ،‬وينقسم إلى فصلين؛ فص ٌ‬
‫العامة‪ ،‬وفصل عن مكافحة سوء استعمال السلطة‪ ،‬ومن المبادئ التي قررها النظام‪ :‬مساءلة‬
‫من تدورشبهات حول ثروته‪ ،‬وإلزام الجهات الداخلية والخارجية المتعاقدة مع أجهزة الحكومة‬
‫على الكشف عما إذا كانت قد دفعت عمولت لي وسطاء‪ ،‬منح مكافأة لي مواطن يكشف‬
‫فسادا ً في المال العام‪ ،‬مضاعفة التعزيرات المتعلقة بالختلس من المال العام‪ ،‬تشديد‬
‫‪.‬العقوبة على سائر أشكال استغلل السلطة والنفوذ‪ ،‬وغير ذلك‬

‫كان مجلس الشورى يعلن بشكل دوري عن نتائج معالجاته ودراسته للنظام‪ ،‬ثم أعلن المجلس‬
‫بعد سنوات انتهاءه من النظام وإرساله لمجلس الوزراء لعتماده‪ ،‬وبعد انتظار طويل‪ ،‬تسربت‬
‫الخبار من هيئة الخبراء بمجلس الوزراء أن النظام لن يعتمد‪ ،‬بل سيعاد من جديد لنفس‬
‫‪.‬الدورة البيروقراطية‪ ،‬وسيقسم إلى نظامين‬

‫أحد عشر عاما ً من النتظار ومع ذلك سيعود النظام من جديد من حيث ابتدأ‪ ،‬من المسؤول‬
‫عن عرقلة المور والتعنت الشكلي في نظام يمس شريان مصالح المسلمين وهو المال‬
‫!العام؟‬
‫ل‪ ،‬لكن قبل أن نحاول سويا ً تفسيرها‪ ،‬دعنا نتأمل نموذجا ً آخر‬
‫هذه إشكالية تحتاج لتفسير فع ً‬
‫مشابه وهو )الستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد( والتي أعلنت في الجريدة‬
‫الرسمية قبل ثلث سنوات )أم القرى‪26/2/1428 ،‬هـ( ‪ ،‬ونصت الستراتيجية على إنشاء‬
‫)الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد(‪ ،‬ومنذ صدور الستراتيجية ونشرها في الجريدة الرسمية‬
‫ونحن إلى اليوم ل حس ول خبر‪ ،‬فلم يتم إنشاء هيئة مكافحة الفساد‪ ،‬ولم يتم تفعيل‬
‫الستراتيجية‪ ،‬والسؤال مرةً أخرى‪ :‬من المسؤول عن عرقلة المور في نظم تمس شريان‬
‫!مصالح المسلمين وهو المال العام؟‬

‫لماذا تعثر نظام حماية الموال العامة طوال أحد عشر عامًا‪ ،‬ولماذا ماتت دماغيا ً الستراتيجية‬
‫الوطنية لمكافحة الفساد؟‬

‫بل دعنا نأخذ المقارنة بصورة أكثر واقعية‪ :‬لماذا نجد سرعة هائلة وتداعي وتنادي لتطبيق‬
‫القرارات المتعلقة بالختلط بين الجنسين‪ ،‬بينما نجد أنظمة حماية المال العام تتثاءب طوال‬
‫العام؟‬

‫ثمة تفسيرات متعددة مطروحة‪ ،‬بعضها يرى أن هذه هي طبيعة المور‪ ،‬وأن الجراءات الدارية‬
‫الرسمية بطيئة السير دومًا‪ ،‬لكن هذا تفسير غير مقبول‪ ،‬لننا رأينا نظما ً أخرى تمر بسرعات‬
‫‪.‬نفاثة‬

‫في تقديري الشخصي أننا يمكن أن نفهم سر هذا التأخر في إرساء نظم حماية المال العام لو‬
‫حاولنا تحليل المشروعات التي طرحت مؤخرًا‪ ،‬فقد نّبه كثير من الخبراء إلى أن المشروعات‬
‫الخيرة التي أعلن عنها خصص لها ميزانيات تفوق أضعاف كلفتها الطبيعية‪ ،‬وطرح كثير من‬
‫المختصين مقارنات بين بعض المشروعات ومشروعات مماثلة في دول أخرى‪ ،‬هذه الظاهرة‬
‫ضعف التكلفة‬‫‪).‬يمكن تسميتها )مشروعات ِ‬

‫ضعف التكلفة( هي المفتاح الذي سيمكننا من فهم التعثر في نظم‬‫والحقيقة أن )مشروعات ِ‬


‫حماية المال العام‪ ،‬فل شك أن الطراف المنتفعة من الفساد في ميزانيات هذه المشروعات‬
‫ستلعب دورا ً كبيرا ً في عرقلة النظمة التي ستفسد عليها غنائمها‪ ،‬هذه الشخصيات النافذة‬
‫المستفيدة من )مشروعات ضعف التكلفة( ل يمكن أن ترى اليادي تمتد لتغلق الصنبور وتقف‬
‫‪.‬مكتوفة أمامها‬

‫ومما يزيد المور تعقيدا ً أن الصحافة الليبرالية صنعت دويا ً إصلحيا ً هائل ً عندما أعلن عن‬
‫مشروع نظام حماية الموال العامة‪ ،‬والستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد‪ ،‬بينما لم يوجد أي‬
‫!خطوة حقيقية على الرض‬

‫‪:‬البنية النظامية الحالية لمقاومة الفساد في المال العام‪-‬‬


‫هذا التعثر في نظام حماية الموال العامة‪ ،‬والستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد؛ ل يعني أننا‬
‫ل نملك أي وسائل نظامية لحفظ المال العام‪ ،‬كل‪ ،‬بل هناك منظومة من النظمة‬
‫والمؤسسات الهامة يجب الستفادة منها‪ ،‬ومن أهم أبجديات الصلح الشرعي )النطلق من‬
‫الموجود(‪ ،‬فبعض الناس ممن يحمل روحا ً ثورية ساذجة يطيب له أن يصور المور بأعلى ما‬
‫يمكن من التصوير التشاؤمي‪ ،‬وأظن أن السبب الرئيس في ذلك هو جهل مثل هؤلء أصل ً‬
‫‪.‬بالواقع‪ ،‬ولذلك يحاول تعويض جهله بالمزايدة على التصعيد السياسي‬

‫حسنا ً‪ ..‬ماهي النظم والمؤسسات التي يمكن النطلق منها وتطويرها لحفظ المال العام الذي‬
‫‪:‬هو شريان مصالح المسلمين؟ هناك مجموعة أنظمة‪ ،‬وعدة مؤسسات؛ فأما النظمة فأهمها‬

‫نظام محاكمة الوزراء )‪1380‬هـ( وقد نص على تجريم استغلل الوزير لنفوذه للحصول على‪-‬‬
‫مصالح شخصية‪ ،‬وتدخل الوزراء في القضاء أو في دوائر حكومية أخرى‪ ،‬وتضييع الوزيرلحقوق‬
‫الفراد‪ ،‬ولكنه جعل محاكمة الوزراء عن طريق هيئة تشكل من ثلثة وزراء‪ ،‬ويقوم بوظيفة‬
‫الدعاء العام من يختاره رئيس مجلس الوزراء! وهذا السبب في موت هذا النظام الهام‬
‫‪.‬للسف‬

‫المرسوم الملكي رقم )‪ (43‬وتاريخ ‪1377‬هـ‪ ،‬ونص على تجريم الهدايا والكراميات واستغلل‪-‬‬
‫الوظيفة لمصلحة شخصية وتكليف الموظفين بما ل يجب عليهم والرواتب الصورية وغيرها‪،‬‬
‫وحدد بعض العقوبات التعزيرية‪ ،‬وهذا المرسوم له وزنه في هيئة الرقابة والتحقيق‪ ،‬ولكن‬
‫المشكلة أنه مرسوم قديم‪ ،‬بل قديم جدًا‪ ،‬فقد مضى عليه أكثر من نصف قرن‪ ،‬فهل من‬
‫!اللئق أن نعامل المال العام بمرسوم صدر قبل أكثر من نصف قرن‬

‫ومنها‪ :‬نظام مباشرة الموال العامة )‪1395‬هـ( وقد نص النظام على بعض صور العبث بالمال‪-‬‬
‫العام‪ ،‬وبعض إجراءات الجرد المحاسبي لحفظ المال‪ ،‬لكن النظام قديم فقد مضى عليه )‪(26‬‬
‫‪.‬سنة وواضح من صياغته فعل ً ارتباطه بالهياكل الدارية القديمة‬

‫ومنها‪ :‬نظام مكافحة الرشوة )‪1412‬هـ( وقد نص على صور الرشوة والعطية والتوصية‪-‬‬
‫‪.‬والوساطة في الموال العامة وحدد عقوباتها التعزيرية‪ ،‬وهو نظام صارم وجيد‬

‫ومنها‪ :‬نظام مكافحة التزوير )‪1382‬هـ( وعالج تزوير وسائل المصادقة والوثائق والنتحال في‪-‬‬
‫‪.‬الدوائر الحكومية‪ ،‬وتعرض للموال التي تدخل في ذمة الشخص بسبب التزوير‬

‫‪.‬وثمة أنظمة أخرى تتعلق بتأديب الموظفين وغير ذلك‬

‫وأما المؤسسات المعنية بصيانة ومراقبة المال العام والفساد الداري فأهمها مؤسستان؛ هيئة‬
‫‪.‬الرقابة والتحقيق‪ ،‬وديوان المراقبة العامة‬

‫فأما )هيئة الرقابة والتحقيق( فهي تمثل تقريبا ً "نيابة إدارية" وقد خولها النظام باختصاصات‬
‫‪:‬دقيقة في مراقبة الفساد الداري‪ ،‬حيث ينص النظام على أنه‬

‫تختص الهيئة بإجراء الرقابة اللزمة للكشف عن المخالفات المالية والدارية( ]نظام تأديب(‬
‫]الموظفين‪ ،‬م‪5‬‬

‫ومنح النظام هيئة الرقابة والتحقيق صلحيات واسعة للقيام بهذه المهمة والتحقيق مع الجهات‬
‫‪:‬الحكومية كما تقول المادة الثامنة مثل ً‬

‫على الجهات الحكومية تمكين المحقق من الطلع على ما يرى لزوم الطلع عليه من(‬
‫الوراق والمستندات وغيرها‪ ،‬وتفتيش أماكن العمل إذا تطلب التحقيق ذلك‪ ،‬بحضور الرئيس‬
‫‪].‬المباشر(]نظام تأديب الموظفين‪ ،‬م‪8‬‬

‫وأما )ديوان المراقبة العامة( فقد نص المنظم على تكليفه بالرقابة على المال العام والفساد‬
‫‪:‬الداري كما يقول النظام‬

‫يختص الديوان بالرقابة اللحقة على جميع إيرادات الدولة‪ ،‬ومصروفاتها‪ ،‬وكذلك مراقبة كافة(‬
‫أموال الدولة‪ ،‬المنقولة والثابتة‪ ،‬ومراقبة حسن إستعمال هذه الموال وإستغللها والمحافظة‬
‫]عليها(]نظام ديوان المراقبة العامة‪ ،‬م‪7‬‬

‫ف مجلس الوزراء بذلك‪ ،‬بل خول ديوان‬ ‫وهي مادة نظامية شديدة التساع والشمول‪ ،‬ولم يكت ِ‬
‫المراقبة العامة بصلحيات واسعة لتحقيق هذه المهمة‪ ،‬حيث ألزم النظام كافة الوزارات‬
‫والمؤسسات الحكومية بأن تزود الديوان بكافة البيانات الحسابية والمستندات والوثائق التي‬
‫‪).‬تمكن الديوان من المراقبة المالية )المادة ‪10‬‬

‫ل‪ ،‬حيث أكدته مواد لحقة في ذات‬ ‫والشمول الذي منحته المادة السابعة واضح أنه مقصود فع ً‬
‫النظام‪ ،‬تنص تفصيل ً على ضبط "المال العام"‪ ،‬ومن ذلك مانصت عليه المادة الثامنة من أنه‬
‫‪:‬يختص الديوان بـ‬

‫التحقق من أن كافة أموال الدولة‪ ،‬المنقولة والثابتة؛ تستعمل في الغراض التي خصصت من(‬
‫أجلها من قبل الجهة المختصة‪ ،‬وأن لدى هذه الجهات من الجراءات ما يكفل سلمة هذه‬
‫الموال‪ ،‬وحسن إستعمالها و إستغللها‪ ،‬ويضمن عدم إساءة إستعمالها‪ ،‬أو إستخدامها في غير‬
‫]الغراض التي خصصت من أجلها( ]نظام ديوان المراقبة العامة‪ ،‬م ‪2-8‬‬

‫حسنا ً ‪ ..‬رأينا الن كيف تملك هاتان المؤسستان‪ ،‬ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة‬
‫والتحقيق‪ ،‬سلطة الرقابة المالية على كل ظواهر الفساد الداري والمالي‪ ،‬وكيف منحهما‬
‫‪.‬المنظم سلطة التحقيق والتفتيش‬

‫فهذا يعني أنه يجب أن ننطلق من البنية النظامية الحالية )قاعدة النطلق من الموجود(‬
‫ومحاولة تطوير هذه النظمة والمؤسسات المهمة‪ ،‬وتمكين المزيد من الصلحيات ومنحها‬
‫‪.‬القوة اللزمة لكسر النفوذ الذي ل تستطيع تجاوزه لتحقيق مهمتها‬

‫هذه فقط بعض النماذج‪ ،‬وقد لحظت أن كثيرا ً ممن يتحدثون عن مشكلة المال العام يتحدثون‬
‫به بنوع من المزايدة على السلميين أكثر من كونه يعبر عن وعي حقيقي بالبنية النظامية‬
‫‪.‬الحالية لصيانة المال العام والثغرات الفعلية الموجودة فيها تفصيل ً‬

‫ومن المقترحات لتطوير هاتين المؤسستين )هيئة الرقابة والتحقيق وديوان المراقبةالعامة( أن‬
‫يتاح المجال للناشطين غير الرسميين للمشاركة في حفظ المال العام‪ ،‬فلو أتيح –مثل ً‪-‬‬
‫للشباب المتدين أن يعمل تحت مظلة هيئة الرقابة والتحقيق للحتساب على الفساد الداري‬
‫والستفادة من صلحيات الهيئة في التحقيق والتفتيش‪ ،‬لربما حدثت ثورة في حفظ المال‬
‫‪.‬العام في السعودية‬
‫‪:‬المزيد من الدراسات الفقهية في المال العام‪-‬‬

‫دموا جهودا ً مشكورة في التأصيل الفقهي لسئلة المال‬‫الحقيقة أن الباحثين الشرعيين ق ّ‬


‫العام‪ ،‬ومن ذلك مثل ً‪ :‬دراسة دكتوراة في جامعة المام للشيخ د‪.‬خالد الماجد بعنوان )ضوابط‬
‫‪.‬التصرف في المال العام في الفقه السلمي( وقد نشر جزءا ً منها‬

‫ودراسة في أكاديمية نايف للعلوم المنية للدكتور نذير أوهاب بعنوان )حماية المال العام في‬
‫‪.‬الفقه السلمي( وهي مطبوعة‬
‫‪.‬ودراسة للشيخ د‪.‬محمد الصالح )التكافل ودوره في حماية المال العام( وهي مطبوعة‬

‫وثمة أيضا ً دراسات أخرى مثل‪) :‬الحماية الدارية للمال العام‪ :‬بحث فقهي مقارن( فيصل بن‬
‫رميان الرميان‪) ،‬الحماية الجنائية للمال العام‪ :‬دراسة فقهية مقارنة( مبارك بن عبدالله بن‬
‫‪.‬هقشة‪) ،‬مصارف بيت مال الدولة السلمية( عبدالله بن سليمان المطلق‪ ،‬وغيرها‬

‫فضل ً عن دراسات تفصيلة كثيرة في جرائم المال العام كالختلس والرشوة وهدايا العمال‬
‫‪.‬وغيرها‬

‫ومع أن هذه الدراسات متميزة‪ ،‬ومع أنه لم يتم الستفادة منها بالشكل الكافي للسف؛ إل أن‬
‫هذا يجب أن ل يكون محبطا ً للباحثين الشرعيين‪ ،‬بل يجب المواصلة والستمرار في المزيد‬
‫من المعالجات الفقهية للموضوع‪ ،‬وأيضا ً المعالجات المشتركة مع الخبراء )خبراء القتصاد‬
‫والدارة والنظمة(‪ ،‬وعقد المؤتمرات متعددة الختصاصات في موضوع المال العام‪ ،‬من أجل‬
‫صياغة أفضل آليات الرقابة والمحاسبة والشفافية‪ ،‬تطبيقا ً لحد أهم معالم منهج أهل السنة‬
‫وطريقة أئمة السلف ومن أدركنا من علمائنا رحمة الله على الجميع وهي العناية بالمال العام‬
‫‪.‬الذي هو عصب مصالح المسلمين المعاشية‬

‫هل للخطابة أي دور؟‪-‬‬


‫حرصت منذ فترة على جمع المادة الخطابية التي ألقاها خطباء الجمعة في موضوعات المال‬
‫العام والفساد الداري‪ ،‬واتصلت ببعض الخطباء وبعض المهتمين بمواقع الخطب الشرعية‪،‬‬
‫واجتمع لدي أرشيف جيد للخطب الشرعية حول المال العام‪ ،‬والفساد الداري‪ ،‬والرشوة‪،‬‬
‫وهدايا العمال‪ ،‬والغش‪ ،‬والسرقة‪ ،‬وعدم الوفاء بالعقود‪ ،‬وأكل أموال الناس بالباطل‪ ،‬والتساهل‬
‫‪.‬في واجبات الوظيفة العامة‪ ،‬الخ فكل هذه المفردات وجدتها حاضرة في خطب منبرية كثيرة‬

‫هد في الثر الذي يمكن أن تصنعه هذا الخطب‬‫السؤال هاهنا‪ :‬أنني وجدت بعض الخوان يز ّ‬
‫ً‬
‫الشرعية‪ ،‬وأن الخطابة المنبرية ل أثر لها‪ ،‬وأن الناس ل يتفاعلون أصل مع خطب الجمعة‪،‬‬
‫!فماذا يمكن أن تقدم في موضوع المال العام؟‬

‫أريد هاهنا أن أناقش هذه الطروحة المحبطة‪ ،‬وللتدليل على بطلن هذه الطروحة سأذكر‬
‫ت‬
‫ب لي‪ ،‬وقد خطب مرا ٍ‬ ‫نموذجا ً واحدا ً فقط لحد الخطباء في شمال مدينة الرياض‪ ،‬وهوصاح ٌ‬
‫ً‬
‫عديدة عن المال العام وقضاياه الشرعية‪ ،‬وقد حكى لي أكثر من مرة أحداثا تعكس شدة تأثر‬
‫المستمعين –ولله الحمد‪ ،-‬لن أروي لك أخي القارئ ما جرى‪ ،‬بل سأنقل لك نص ما أرسله لي‬
‫‪:‬صاحبي‪ ،‬يقول أخي الخطيب‬

‫كان بعض المصلين يلتقون بي بعد الخطبه للسلم‪ ،‬أو للسؤال الذي غالبا ً ما يكون فيما يخص(‬
‫الخطبة‪ ،‬فيخبروني بشئ من مشاعرهم‪ ،‬ومر بي في هذا الباب أحداثا ً لناس تابوا من‬
‫الرشوة‪ ،‬وآخرين من التهاون في المال العام‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬ويحتمل أنها توبة وقتية فالله أعلم‪،‬‬
‫ة عن غلول العمال‪،‬‬ ‫حتى إن محافظا ً لحدى المناطق وافق أن صلى معي مرةً في خطب ٍ‬
‫فسألني عن "سيارات المحافظة" هل يوصل بها أولده للمدرسة أم ل؟‪ .‬ومسئول آخر حضر‬
‫خطبة عن )الظلم وعاقبته( فخصص يوم السبت بعد الظهر للنظر في المظالم‪ ،‬بدخول من‬
‫كانت له مظلمة في دائرته مهما كانت مرتبته صغيرة‪ ،‬مع تخطي الترتيب الداري في ذلك‬
‫دره على الجميع‪ ،‬لنه سألني بعد الخطبة عن الحكم في كونه ل يعلم بالمظلمة؟‬ ‫بتعميم ص ّ‬
‫فأخبرته أنه يظل مسئول ً أمام الله تعالى‪ ،‬إذ كيف يتولى وينزوي في مكتبه ويترك الظلمة‬
‫يرتعون في دائرته‪ ،‬وضابط كبير أخبرني أنه سيخصص الجزء الثالث من مذكراته للقصص‬
‫والخبار التي رآها لمن استحلوا أكل لمال الحرام‪ ،‬وطلب مني خطبة أعجبته وأثرت فيه عن‬
‫نحو هذا الموضوع‪ ،‬وأخبرني أنه سيضعها مقدمة لمذكراته تلك‪ .‬ومسئول آخر في إحدى‬
‫الجامعات حضر خطبة عن )هدايا الموظفين( فحاك في نفسه هذا المر كونه مسئول ً عن‬
‫توقيع عقود وإرساء مناقصات والشراف على مشاريع‪ ،‬وتأتيه هدايا من شركات متعددة وكان‬
‫عازما ً جازما ً على تنفيذ ما أوصيه به‪ ،‬وقد أثر فيه كثيرا ً حديث )ولو قضيبا من أراك(‪ ،‬وغير‬
‫ذلك كثير جدا ً يا أباعمر‪ ،‬لكني أذكرك مرة أخرى أن ل تذكر لي اسما ً إن أوردت شيئا من‬
‫ذلك‪ ،‬ويكفي أن تقول "أحد الخطباء"( أ‪.‬هـ‬

‫هذه بعض الخبار التي كان يرويها لي صاحبي الخطيب‪ ،‬وثمة قصص أخرى يرويها دعاة آخرون‬
‫ل مجال ليرادها هنا؛ وكلها تعكس انتفاع الناس بالخطب الشرعية عن قضايا المال العام‪،‬‬
‫فأتمنى من الخطباء والدعاة أن ل يستسلموا للمحبطين الذين يزهدون في الدور العظيم الذي‬
‫‪.‬يقومون به‬

‫‪:‬وأخيرا ً ‪ ..‬الثرة ل تشرعن الثورية ‪-‬‬


‫تلحظ بعض الكّتاب ممن يحملون روحا ً ثورية متهورة يجمعون بعض أخبار وقصص الثرة‬
‫والظلم الذي وقع في المال العام في بلدنا‪ ،‬ثم يعرضونها بأسلوب تهييجي متصاعد لشحن‬
‫نفس الشاب المتدين وإخراجه عن طوره‪ ،‬ثم يتبعون ذلك بالتهكم بمفاهيم تحريم الخروج‬
‫المسلح ووجوب السمع والطاعة لولة المور بالمعروف والسخرية بعلمائنا وأنهم مداهنون‬
‫‪.‬الخ‬

‫هذه الشريحة من الكّتاب التي تستغل الخلل في المال العام ليقاد شرارة الفتنة هي أخطر‬
‫من لصوص المال العام أنفسهم‪ ،‬فلصوص المال العام قصاراهم أن ينهبوا جزءا ً من أموال‬
‫المسلمين‪ ،‬لكن رموز الفتنة هؤلء ينتهون بحريق يهلك الحرث والنسل ويتلف الموال ويريق‬
‫‪.‬الدماء ويقلب أوضاع الدعوة السلمية رأسا ً على عقب‬

‫حينما أتأمل في هؤلء الكّتاب فإني ل أتعجب من كونهم يخالفون قياسا ً شرعيًا‪ ،‬ول حتى فردا ً‬
‫يدخل في عموم شرعي؛ بل يناقضون نصا ً مطابقا ً لحديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم‪-‬‬
‫فقد حسم رسول الله المر بكل وضوح‪ ،‬وأخبرنا أنه ستقع أثرة ومظالم في المال العام‪،‬‬
‫‪.‬وحذرنا نبينا الشفيق بنا من فتنة الخروج المسلح على ولة المور وشق عصا الطاعة‬

‫‪:‬تأمل معي مارواه البخاري عن ابن مسعود عن النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬أنه قال‬

‫ستكون أثرة وأمور تنكرونها‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال "تؤدون الحق الذي عليكم‪(،‬‬
‫‪].‬وتسألون الله الذي لكم" ( ]البخاري‪3603‬‬

‫بل كان الصحابة يبايعون رسول الله على الطاعة حتى في حالة استئثار السلطة بالمال العام‬
‫‪):‬الثرة( كما يقول عبادة بن الصامت‬
‫ة علينا‪(،‬‬
‫بايعنا رسول الله على السمع والطاعة‪ ،‬في منشطنا ومكرهنا‪ ،‬وعسرنا ويسرنا‪ ،‬وأثر ٍ‬
‫‪].‬وأن ل ننازع المر أهله‪ ،‬إل أن تروا كفرا ً بواحا ً عندكم من الله فيه برهان( ]البخاري ‪7056‬‬

‫وسأل الصحابة عن حالة استئثار السلطة بالمال العام في الوقت الذي تطالب فيه المواطنين‬
‫بواجباتهم‪ ،‬فبين رسول الله أن ذلك كله ل يجيز الخروج‪ ،‬كما في صحيح مسلم أن سلمة بن‬
‫يزيد الجعفى قال )يا نبى الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما‬
‫تأمرنا؟( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم )اسمعوا وأطيعوا‪ ،‬فإنما عليهم ما حملوا‬
‫‪].‬وعليكم ما حملتم( ]مسلم‪4889 ،‬‬

‫لست أدري كيف يتجاهل هؤلء الثوريون نصوصا ً صريحة حاسمة من رسول الله بأبي هو وأمي‬
‫في طريقة التعامل مع مشكلت الثرة في المال العام؟‬

‫في كل هذه النصوص يبين رسول الله بكل وضوح أن خلل السياسي في إدارة المال العام ل‬
‫يبيح بأي حال من الحوال الخروج ول رفض الطاعة بالمعروف‪ ،‬وإنما يشرع النكار والصدع‬
‫‪.‬بالحق فقط‬

‫على أية حال ‪ ..‬المخالفون لهل السنة في باب السياسة الشرعية عمومًا‪ ،‬والمال العام‬
‫‪.‬خصوصًا؛ طائفتان‪ :‬طائفة ثورية وطائفة سلطانية‬

‫ذلك أن الصول السياسية الشرعية الثلث لهل السنة هي‪ :‬تحريم الخروج المسلح‪ ،‬ووجوب‬
‫الطاعة بالمعروف‪ ،‬وفريضة النكار بمراتبه الثلث‪ .‬وكل هذه الصول الثلث ثابتة بطريق‬
‫‪.‬التواتر القطعي‬

‫فأما الطائفة الثورية فأخذت بمبدأ النكار لكنها جحدت تحريم الخروج ووجوب الطاعة‬
‫‪.‬بالمعروف‬

‫وأما الطائفة السلطانية فوقعت في الغلو بمبدأ طاعة ولة المور حتى عطلت فريضة النكار‬
‫‪.‬بمراتبها الثلث‬

‫وأما أهل السنة فاستوعبوا الشريعة من أطرافها‪ ،‬فأخذوا بكل القواعد الشرعية الثلث‪ ،‬فتجد‬
‫أهل السنة دوما ً متمسكين بتحريم الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف‪ ،‬وبالمقابل صادعين‬
‫بالحق ومنكرين للمنكرات ل يخافون في الله لومة لئم ول يهابون سلطانا ً ول جمهورًا‪ ،‬وهذا‬
‫هو أخذ الدين كله‪ ،‬وأما الثوريون والسلطانيون فقد وقعوا في تبعيض الكتاب الذي ذمه تعالى‬
‫َ‬
‫ض( ]البقرة ‪85‬‬‫ن ب ِب َعْ ٍ‬
‫فُرو َ‬ ‫ض ال ْك َِتا ِ‬
‫ب وَت َك ْ ُ‬ ‫ن ب ِب َعْ ِ‬ ‫‪].‬في قوله )أفَت ُؤ ْ ِ‬
‫مُنو َ‬

‫وأخذت مرةً أتأمل ‪ ..‬ما الذي يجعل بعض الشباب المسلم يأنف ويستنكف من أحاديث تحريم‬
‫الخروج‪ ،‬وأحاديث وجوب الطاعة لولة المر بالمعروف؟ والذي توصلت إليه أن هؤلء الشباب‬
‫يشعرون أن الخذ بشريعتي تحريم الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف فيه شئ من الضعف‬
‫‪.‬والجبن‪ ،‬وأنه ضد الشجاعة والقدام‪ ،‬ونحو ذلك‬

‫أريد هاهنا أن أدّلل على خطأ هذا التصور كليًا‪ ،‬تذكر معي شيخ السلم ابن تيمية‪ ،‬هل تتذكر‬
‫كيف كانت شجاعته وجرأته رحمه الله؟ ابن تيمية كان القلب النابض في معركة شقحب‬
‫التاريخية )قرية تبعد عن دمشق ‪37‬كلم( وهو الذي حّرك الناس وألهب حماسهم وتقدم‬
‫الصفوف‪ ،‬وابن تيمية هو الذي اعتقل سبع مرات‪ :‬سجنة واقعة عساف في دمشق‪ ،‬وسجنة‬
‫مسألة العرش في القاهرة‪ ،‬وسجنة حادثة البكري في مصر‪ ،‬وسجنة المنبجي بمصر‪ ،‬وسجنة‬
‫المنبجي بالسكندرية‪ ،‬وسجنة مسألة الطلق بدمشق‪ ،‬وسجنة حادثة الخنائي بالقلعة بدمشق‬
‫وهي الخيرة التي توفي فيها وانتقل لقبره من معتقله‪ .‬وابن تيمية هو الذي كان ابن القيم‬
‫‪:‬يروي شجاعته فيقول في الوابل الصيب‬

‫مع ما كان فيه ابن تيمية من الحبس والتهديد والرهاق؛ وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا(‬
‫وأقواهم قلبًا‪ ،‬وكنا إذا اشتد بنا الخوف‪ ،‬وساءت منا الظنون‪ ،‬وضاقت بنا الرض؛ أتيناه فما هو‬
‫إل أن نراه‪ ،‬ونسمع كلمه؛ فيذهب ذلك كله‪ ،‬وينقلب انشراحا وقوة ويقينا ً(]الوابل الصيب‪ ،‬ابن‬
‫‪].‬القيم‬

‫ف من أخبار شجاعته رحمه الله‪ ،‬أرأيت هذا الشجاع‪ ،‬صنديد أهل السنة في‬
‫وهذا فقط طر ٌ‬
‫‪:‬زمانه؟ فهو الذي كان يقول رحمه الله‬
‫ولعله ل يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان؛ إل وكان في خروجها من الفساد ما هو(‬
‫]أعظم من الفساد الذي أزالته( ]منهاج السنة‪3/390 ،‬‬

‫‪:‬وكان ابن تيمية دوما ً يشير لقضية التجربة رحمه الله كما يقول‬

‫ولهذا يقال "ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بل سلطان" والتجربة تبين ذلك((‬
‫‪]].‬الفتاوى‪28/391 ،‬‬

‫حسنا ً ‪ ..‬هذا الكلم الذي قاله ابوالعباس ابن تيمية في تعظيم طاعة ولة المور ومنع الخروج‬
‫المسلح؛ هل قاله شيخ السلم خوفا ً أوتملقًا؟ هل يعقل أن يكون رجل يحرك الجيوش ول‬
‫ل آخر حتى توفاه الله في معتقله؛ يقول هذا الكلم هلعا ً أو تزلفًا؟‬
‫ل إل لعتقا ٍ‬
‫يخرج من اعتقا ٍ‬
‫‪.‬هذا أمر تحيله طبائع المور‬

‫إذن لماذا كان المام ابن تيمية يقول هذا الكلم؟ إنما كان يقوله تعظيما ً لرسول الله –صلى‬
‫الله عليه وسلم‪ -‬الذي شرعه وأكده في نصوص متوافرة غزيرة‪ ،‬وأهل السنة حين يوجبون‬
‫السمع والطاعة لولة المور بالمعروف وتحريم الخروج المسلح؛ فليسوا يقررون ذلك لسواد‬
‫عيون ملك ول أمير ول وزير‪ ،‬بل توقيرا ً لرسول الله –صلى الله عليه وسلم‪ -‬الذي دعانا لذلك‬
‫في أحاديث كثيرة‪ ،‬فإذا كان رفع الصوت بحضرة رسول الله يوشك أن يحبط العمل فكيف‬
‫مُنوا َل ت َْرفَُعوا‬ ‫َ‬
‫نآ َ‬ ‫بالعتراض على سنته صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول )َيا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫مال ُك ُ ْ‬
‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ط أع ْ َ‬‫حب َ َ‬
‫ن تَ ْ‬‫ضأ ْ‬ ‫ضك ُ ْ‬
‫م ل ِب َعْ ٍ‬ ‫ر ب َعْ ِ‬ ‫ل كَ َ‬
‫جهْ ِ‬ ‫ه ِبال ْ َ‬
‫قو ْ ِ‬ ‫جهَُروا ل َ ُ‬
‫ي وََل ت َ ْ‬
‫ت الن ّب ِ ّ‬
‫صو ْ ِ‬
‫ق َ‬ ‫وات َك ُ ْ‬
‫م فَوْ َ‬ ‫ص َ‬
‫أ ْ‬
‫ن( ]الحجرات ‪2‬‬ ‫]َل ت َ ْ‬
‫شعُُرو َ‬

‫تأمل يا أخي الكريم في كثير ممن يكتب في الخلل السياسي أوفي قضايا السياسة الشرعية؛‬
‫تجد كثيرا ً من الكّتاب )الثوريين( إذا جاء إلى قاعدة )النهي عن المنكر( يكون تقريره في غاية‬
‫القوة والحماس والمغالة اللفظية‪ ،‬وإذا جاء لقاعدتي منع الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف‬
‫هد فيها‬
‫‪.‬لولة المور؛ رأيته يضعف ويقررها على خجل‪ ،‬أويز ّ‬

‫بينما بالمقابل تجد كثيرا ً من )السلطانيين( إذا جاء لقاعدتي منع الخروج ووجوب الطاعة لولة‬
‫ة عجيبة‪ ،‬فإذا جاء إلى قاعدة )النهي عن‬
‫المور يقررهما بتوسع وتكرار وإعادة وإبداء وطاق ٍ‬
‫!المنكر( خارت قواه وتحاشى نصوص النكار القوية‪ ،‬وصار أكثر كلمه في ذم أخطاء المنكرين‬

‫وكل الطائفتين‪ ،‬أعني الثورية والسلطانية؛ إنما جوهر قصورهم هو ضعف اليمان والتسليم لله‬
‫ورسوله‪ ،‬ولذلك تراهم يجدون في نفوسهم حرجا ً من بعض ما أنزل الله‪ ،‬والله تعالى يقول‬
‫ه( ]العراف‪2 ،‬‬‫من ْ ُ‬
‫ج ِ‬
‫حَر ٌ‬ ‫صد ْرِ َ‬
‫ك َ‬ ‫ك فََل ي َك ُ ْ‬
‫ن ِفي َ‬ ‫ب أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫‪)].‬ك َِتا ٌ‬

‫فالمؤمن المنقاد المنصاع لله ورسوله تجده يقرر الصول السياسية الشرعية الثلث بكل فخر‬
‫وعزة‪ ،‬ول يجد في نفسه حرجا ً وخجل ً من كلمة واحدة قررها رسول الله –صلى الله عليه‬
‫!وسلم‪ -‬فكيف بأحاديث متواترة؟‬

‫ولذلك فنصيحتي إليك يا أخي الكريم أنك إذا التقيت بأحد من )الثوريين( أن ل تخجل من‬
‫‪.‬عقيدتك واعتزازك بأمر رسول الله بالسمع والطاعة لولة المور‪ ،‬وتحريم الخروج المسلح‬

‫وإذا التقيت بأحدٍ من )السلطانيين( أن ل تخجل من عقيدتك واعتزازك بأمر رسول الله بالنكار‬
‫‪.‬والصدع بالحق‬

‫ومن سلوكيات الطائفة الثورية التي لحظتها أنها تزايد دوما ً في قضايا النقد السياسي‪ ،‬فربما‬
‫انجرف بعض الدعاة وقال نقدا ً سياسيا ً متهورا ً ليتحاشى الضغط النفسي لهذه الطائفة‬
‫‪.‬الثورية‬

‫والسلوب المفضل لهذه الطائفة الثورية هو ما يمكن تسميته )أسلوب المطالبة بالسقف‬
‫‪:‬السياسي الرفع(‪ ،‬ولضرب على ذلك مثل ً‬

‫ة وانتقد خطأ معلم معين‪ ،‬لقالوا له‪ :‬تستقوي على المعلم‪ ،‬لماذا ل تنتقد مدير‬ ‫لوجاء داعي ٌ‬
‫المدرسة نفسه‪ ،‬فإذا انتقدت مدير المدرسة‪ ،‬قالوا لك‪ :‬تستقوي على مدير المدرسة‪ ،‬لماذا ل‬
‫تنتقد مدير التعليم بالرياض؟ وإذا انتقدت مدير التعليم قالوا‪ :‬لماذا ل تنتقد وزير المعارف؟ وإذا‬
‫انتقدت وزير المعارف قالوا لك‪ :‬لماذا ل تنتقد الملك الذي اختار هذا الوزير ووضعه في مكانه؟‬
‫وإذا انتقدت الملك قالوا لك‪ :‬مؤكد أن لديك صفقة مع جناح سياسي آخر‪ ،‬لماذا ل تنتقد كل‬
‫أجنحة السلطة؟ وإذا انتقدت أجنحة السلطة الخرى قالوا لك‪ :‬ما فائدة النقد‪ ،‬النقد كلم ل‬
‫يصنع شيئًا‪ ،‬ومؤكد أنهم لم يسمحوا لك بالنقد إل لشغال الناس بالكلم عن التغيير الفعلي‪،‬‬
‫هذا إلهاء وخطة من السلطة لتفريغ الغضب فقط‪ ،‬ل بد من التغيير بالقوة‪ .‬فإذا بدأت فعل ً‬
‫بالتغيير بالقوة ثم اعتقلت على خلفية "قضية إرهاب"‪ ،‬خرجوا من الغد يكتبون عنك )مسكين‬
‫متهور ليس لديه وعي سياسي(‪ ،‬وهكذا لو وقعت قضية عنف تجد هؤلء الثوريين أول من يتبرأ‬
‫!منك‪ ،‬وهم الذين دفعوك أصل ً‬

‫هذا السلوب‪ ،‬أعني أسلوب المطالبة بالسقف السياسي الرفع؛ هو نوع من استخفاف الدعاة‬
‫ن َل‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫خفّن ّ َ‬ ‫ق وََل ي َ ْ‬
‫ست َ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن وَع ْد َ الل ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫الذي نهى الله عن التأثر به في قوله تعالى )َفا ْ‬
‫صب ِْر إ ِ ّ‬
‫ن( ]الروم ‪60‬‬ ‫نو‬
‫ُ ُِ َ‬ ‫ق‬ ‫يو‬ ‫‪].‬‬

‫ولذلك كله كنت ول زلت وسأظل مؤمنا ً بأهمية التفافنا جميعا ً حول العلماء الربانيين‬
‫الراسخين‪ ،‬ومن أخطر المزالق التي يمكن أن تنزلق فيها الدعوة السلمية تصدير الصغار‬
‫‪.‬وترميز الدعاة الشباب واللتفاف حول طلبة علم ل يزالون في مقتبل العمر‬

‫دعونا نكون صرحاء مع أنفسنا؛ هناك فارق جوهري بين شخصية العلماء الربانيين‪ ،‬وشخصية‬
‫الداعية الشاب‪ ،‬فالداعية الشاب يعرض له من حب الظهور وشهوة الرياسة ولذة التصدر‬
‫ونزوة غلبة القران والستسلم للفتن ما ل يعرض للعلماء الربانيين الراسخين‪ ،‬ولذلك‬
‫فاحتمال إصابة الراسخين للحق أكثر بكثير من احتمال إصابة الشاب‪ ،‬وثبات الراسخين على‬
‫‪.‬المنهج أكثر بكثير من ثبات الدعاة الشباب‬

‫كثير من الشباب ل يستوعب جيدا ً معنى قول أهل السنة أن الحجة في الكتاب والسنة‪ ،‬ويظن‬
‫أن هذا المبدأ ينفي مرجعية العلماء الكبار‪ ،‬ولذلك تراه يعارض مرجعية العلماء بهذه القاعدة‪،‬‬
‫وهذا خطأ فهناك فرق بين المصدر المؤسس للحقيقة والمصدر الكاشف لها‪ ،‬فالكتاب والسنة‬
‫مصدر مؤسس للحقيقة‪ ،‬بينما الجماع والقياس وقول الصحابي الذي أقره بقية الصحابة‪،‬‬
‫وانشراح صدر العالم الرباني للحق‪ ،‬الخ هذه كلها مصادر وقرائن عظيمة في كشف الحقيقة‬
‫الشرعية وليس تأسيسها‪ ،‬فهذه المصادر ل تأتي بمعاني شرعية جديدة‪ ،‬بل تكشف فقط‬
‫‪.‬المعنى الشرعي‬

‫خذ مثل ً هذا النموذج‪ :‬لما قال ابوبكر رضي الله عنه )لقاتلن من فرق بين الصلة والزكاة(‬
‫فجادله عمر‪ ،‬ثم اقتنع عمر لحقا ً بصواب قول أبي بكر‪ ،‬السؤال هاهنا‪ :‬كيف اقتنع عمر بقول‬
‫أبي بكر؟ انظر ماذا يقول عمر‪) :‬فوالله ما هو إل أن رأيت الله ‪-‬عز وجل‪ -‬قد شرح صدر أبى‬
‫‪].‬بكر للقتال؛ فعرفت أنه الحق( ]البخاري‪1400‬‬

‫أرأيت كيف اعتبر عمر بن الخطاب –رضي الله عنه‪ -‬أن انشراح صدر العالم الرباني أبي بكر‬
‫ة على أنه الحق‪ ،‬فهل عمر ل يعتبر الحجة في الكتاب والسنة؟‬
‫!للقول قرين ٌ‬

‫هؤلء العلماء الربانيون الراسخون الذين جمعوا العلم والعبودية فيهم من التجرد لله ورسوله‬
‫ما ليستطيعه أكثر الشباب الدعاة‪ ،‬هؤلء الربانيون ل يراعون في اجتهادهم سلطانًا‪ ،‬ول‬
‫جمهور‪ ،‬ول ثقافة غربية ضاغطة؛ وإنما يتحرون مراد الله ورسوله بقلوب زكاها اليمان‬
‫‪.‬والعبودية والتقوى والتصون والورع والسلمة من الغراض‬

‫هل تريدني أن أصدق أن بعض من تحول إلى نجم إعلمي يتتبع الفلشات الفضائية أصدق في‬
‫!البحث عن مراد الله ورسوله من هؤلء الكابر المعرضين عن زخارف الدنيا؟‬

‫الفتوى الشرعية دين وعلقة بالله ‪ ..‬فلينظر كل رجل منا عمن يأخذ دينه؟‬

‫على أية حال ‪ ..‬كان المراد من هذه الورقة هو التباحث حول بعض القواعد الشرعية للمال‬
‫العام مثل‪ :‬إنما أنا قاسم‪ ،‬ومن أين لك هذا؟‪ ،‬هل جلس في بيت أبيه ليهدى إليه؟‪ ،‬اكتبا كل‬
‫ل لكما‪ ،‬انتفاء الحد ل يعني انتفاء التعزير‪ ،‬المصلحة تقييد ل تخيير‪ ،‬العدل في القطاع‬
‫ما ٍ‬
‫ة‬
‫العقاري‪ ،‬ونحوها‪ ،‬وإبراز مركزية المال العام في فقه أهل السنة‪ ،‬وشدة عنايتهم به‪ ،‬ومحاول ً‬
‫لمواصلة جهود أهل السنة في الصلح الشامل للدين والدنيا‪ ،‬ول زال الموضوع فيه نصوص‬
‫شرعية كثيرة‪ ،‬وشواهد من آثار الصحابة‪ ،‬وخصوصا ً آثار عمر بن الخطاب؛ وكلها تحتاج لعرض‬
‫ص لحقة بإذن الله‬‫‪.‬مفصل يليق بها‪ ،‬فلعلها تتاح فر ٌ‬

‫والله تعالى أعلم‬

‫ابوعمر ‪ /‬إبراهيم السكران‬


‫ذوالقعدة ‪1431‬هـ‬

Vous aimerez peut-être aussi