Académique Documents
Professionnel Documents
Culture Documents
عنوان الكتاب:
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
تأليف:
محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
الناشر:
دار المعرفة ،بيروت ،لبنان
1398هـ1978/م
) (1/1
شفاء العليل
المقدمة
ص -2-شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل.
المام ابن قيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي الفضال والنعام ،وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه والئمة العلم أما بعد فإن أهم ما يجب معرفته على
المكلف النبيل فضل عن الفاضل الجليل ،ما ورد في القضاء والقدر والحكمة
والتعليل ،فهو من أسنى المقاصد واليمان به قطب رحى التوحيد ونظامه،
ومبدأ الدين المبين وختامه ،فهو أحد أركان اليمان ،وقاعدة أساس الحسان،
التي يرجع إليها ،ويدور في جميع تصاريفه عليها ،فالعدل قوام الملك،
والحكمة مظهر الحمد ،والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة ،وكمال النعمة ،ول
إله إل الله وحده ل شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير،
هّ َ َ
خل ْقُ َواْل ْ
مُر ت ََباَر َ
ك الل ُ ه ال ْ َ
فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين} :،أل ل َ ُ
ن{. ب ال َْعال َ ِ
مي َ َر ّ
فصل :وقد سلك جماهير العقلء في هذا الباب في كل واد ،وأخذوا في كل
طريق ،وتولجوا كل مضيق ،وركبوا كل صعب وذلول ،وقصدوا الوصول إلى
معرفته ،والوقوف على حقيقته ،وتكلمت فيه المم قديما وحديثا ،وساروا
للوصول إلى مغزاه سيرا حثيثا ،وخاضت فيه الفرق على تباينها واختلفها،
وصنف فيه المصنفون الكتب على تنوع أصنافها ،فل أحد إل وهو يحدث نفسه
بهذا الشأن ،ويطلب الوصول فيه إلى حقيقة العرفان ،فتراه إما مترددا فيه
1
مع نفسه ،أو مناظرا لبني جنسه ،وكل قد اختار لنفسه قول ل يعتقد الصواب
في سواه ،ول يرتضي إل إياه ،وكلهم إل من تمسك بالوحي عن طريق
الصواب مردود ،وباب الهدى في وجهه مسدود ،تحسى علما غير طائل،
وارتوى من ماء آجن ،قد طاف على أبواب الفكار ،ففاز بأخس الراء
والمطالب ،فرح بما عنده من العلم الذي ل يسمن ول يغني من جوع ،وقدم
آراء من أحسن به الظن على الوحي المنزل المشروع ،والنص المرفوع،
حيران يأتم بكل
) (2/1
ص -3-ينادى إلى الصواب من مكان بعيد ،أقبل إلى الهدى فل يستجيب إلى
يوم الوعيد ،قد فرح بما عنده من الضلل ،وقنع بأنواع الباطل وأصناف
المحال ،منعه الكفر الذي اعتقده هدى وما هو ببالغه عن الهداة المهتدين،
م َ ؤلِء من الل ّه عل َيهم من بيننا أ َل َيس الل ّ َ
ولسان حاله أو قاله يقول} :أ َهَ ُ
ه ب ِأعْل َ
ُ ْ َ ُ َ ِْ ْ ِ ْ ََِْ َ ّ
ن{.ري َ ِبال ّ
شاك ِ ِ
فصل :ولما كان الكلم في هذا الباب نفيا وإثباتا موقوفا على الخبر عن
أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره وأسعد الناس بالصواب فيه من
تلقى ذلك من مشكاة الوحي المبين ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء
المتهوكين وتشكيكات المشككين وتكلفات المتنطعين واستمطر ديم الهداية
من كلمات أعلم الخلق برب العالمين فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا
الباب وفي غيره كفت وشفت وجمعت وفرقت وأوضحت وبينت وحلت محل
التفسير والبيان لما تضمنه القرآن ثم تله أصحابه من بعده على نهجه
المستقيم وطريقه القويم فجاءت كلماتهم كافية شافية مختصرة نافعة لقرب
العهد ومباشرة التلقي من تلك المشكاة التي هي مظهر كل نور ومنبع كل
خير وأساس كل هدى ثم سلك آثارهم التابعون لهم بإحسان فاقتفوا طريقهم
وركبوا مناهجهم واهتدوا بهداهم ودعوا إلى ما دعوا إليه ومضوا على ما كانوا
عليه ثم نبغ في عهدهم وأواخر عهد الصحابة القدرية مجوس هذه المة الذين
يقولون ل قدر وأن المر أنف فمن شاء هدى نفسه ومن شاء أضلها ومن
شاء بخسها حظها وأهملها ومن شاء وفقها للخير وكملها كل ذلك مردود إلى
مشيئة العبد ومقتطع من مشيئة العزيز الحميد فأثبتوا في ملكه مال يشاء
وفي مشيئته ما ل يكون ثم جاء خلف هذا السلف فقرروا ما أسسه أولئك
من نفي القدر وسموه عدل وزادوا عليه نفي صفاته سبحانه وحقائق أسمائه
وسموه توحيدا فالعدل عندهم إخراج أفعال الملئكة والنس والجن وحركاتهم
وأقوالهم وإراداتهم من قدرته
) (2/2
2
مخلوقة منه في الهواء أو في محل مخلوق ول استوى على عرشه فوق
سماواته ول ترفع إليه اليدي ول تعرج الملئكة والروح إليه ول ينزل المر
والوحي من عنده وليس فوق العرش إله يعبد ول رب يصلى له ويسجد ما
فوقه إل العدم المحض والنفي الصرف فهذا توحيدهم وذاك عدلهم.
فصل :ثم نبغت طائفة أخرى من القدرية فنفت فعل العبد و قدرته و اختياره
و زعمت أن حركته الختيارية و ل اختيار كحركة الشجار عند هبوب الرياح و
كحركات المواج و إنه على الطاعة و المعصية مجبور و إنه غير ميسر لما
خلق له بل هو عليه مقسور و مجبور ثم تلهم أتباعهم على آثارهم مقتدين و
لمناهجهم مقتفين فقرروا هذا المذهب و انتموا إليه و حققوه وزادوا عليه أن
تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف ما ل يطاق و إنها في الحقيقة كتكليف
المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق فالتكليف باليمان و شرائعه تكليف بما
ليس من فعل العبد و ل هو له بمقدور و إنما هو تكليف بفعل من هو متفرد
بالخلق و هو على كل شيء قدير فكلف عباده بأفعاله و ليسوا عليها قادرين
ثم عاقبهم عليها وليسوا في الحقيقة لها فاعلين ثم تلهم على آثارهم
محققوهم من العباد فقالوا ليس في الكون
) (2/3
ولموا بعض هؤلء على فعله فقال إن كنت عصيت أمره فقد أطعت إرادته
ومطيع الرادة غير ملوم وهو في الحقيقة غير مذموم وقرر محققوهم من
المتكلمين هذا المذهب بأن الرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه
هي واحد فمحبته هي نفس مشيئته وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه وكل
ما شاءه فقد أحبه وأخبرني شيخ السلم قدس الله روحه أنه لم بعض هذه
الطائفة على محبة ما يبغضه الله ورسوله فقال له الملوم المحبة نار تحرق
من القلب ما سوى مراد المحبوب وجميع ما في الكون مراده فأي شيء
أبغض منه قال الشيخ فقلت له إذا كان قد سخط على أقوام ولعنهم وغضب
عليهم وذمهم فواليتهم أنت وأحببتهم وأحببت أفعالهم ورضيتها تكون مواليا له
أو معاديا قال فبهت الجبري ولم ينطق بكلمة وزعمت هذه الفرقة أنهم بذلك
للسنة ناصرون وللقدر مثبتون ولقوال أهل البدع مبطلون هذا وقد طووا
بساط التكليف وطففوا في الميزان غاية التطفيف وحملوا ذنوبهم على
القدار وبرأوا أنفسهم في الحقيقة من فعل الذنوب والوزار وقالوا أنها في
ذا حان َ َ
ك هَ َ سب ْ َ
الحقيقة فعل الخلق العليم وإذا سمع المنزه لربه هذا قالُ } :
م{ فالشر ليس إليك والخير كله في يديك ولقد ظنت هذه الطائفة ظي ٌ
ن عَ ِ
ب ُهَْتا ٌ
بالله أسوأ الظن ونسبته إلى أقبح الظلم وقالوا أن أوامر الرب ونواهيه
كتكليف العبد أن يرقى فوق السماوات وكتكليف الميت إحياء الموات والله
يعذب عباده أشد العذاب على فعل ما ل يقدرون يقدرون على تركه وعلى
ترك مال يقدرون على فعله بل يعاقبهم على نفس فعله الذي هو لهم غير
مقدور وليس أحد ميسر له بل هو عليه مقهور ونرى العارف منهم ينشد
3
مترنما ومن ربه متشكيا ومتظلما:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
) (2/4
وليس عند القوم في نفس المر سبب ول غاية ول حكمة ول قوة في
الجسام ول طبيعة ول غريزة فليس في الماء قوة التبريد ول في النار قوة
التسخين ول في الغذية قوة الغذاء ول في الدوية قوة الدواء ول في العين
قوة البصار ول في الذن قوة السماع ول في النف قوة الشم ول في
الحيوان قوة فاعلة ول جاذبة ول ممسكة ول دافعة والرب تعالى لم يفعل
شيئا بشيء ول شيئا لشيء فليس في أفعاله باء تسبب ول لم تعليل وما ورد
من ذلك فمحمول على باء المصاحبة ولم العاقبة وزادوا على ذلك أن
الفعال ل تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح ول فرق في نفس المر بين
الصدق والكذب والبر والفجور والعدل والظلم والسجود للرحمن والسجود
للشيطان والحسان إلى الخلق والساءة إليهم ومسبة الخالق والثناء عليه
وإنما نعلم الحسن من ذلك من القبيح بمجرد المر والنهي ولذلك يجوز النهي
عن كل ما أمر به والمر بكل ما نهى عنه ولو فعل ذلك لكان هذا قبيحا وهذا
حسنا وزاد بعض محققيهم على هذا أن الجسام كلها متماثلة فل فرق في
الحقيقة بين جسم النار وجسم الماء ول بين جسم الذهب وجسم الخشب ول
بين المسك والرجيع وإنما تفترق بصفاتها وأعراضها مع تماثلها في الحد
والحقيقة وزادوا على ذلك بأن قالوا العراض كلها ل تبقى زمانين ول تستقر
وقتين فإذا جمعت بين قولهم بعدم بقاء العراض وقولهم بتماثل الجسام
وتساوي الفعال وأن العبد ل فعل له البتة وأنه ل سبب في
) (2/5
4
وسميته شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل وجعلته
أبوابا:
الباب الول :في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والرض.
الباب الثاني :في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم
وآجالهم قبل خلقهم وهو تقدير ثان بعد الول.
الباب الثالث :في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي صلى الله
عليه وسلم لدم.
الباب الرابع :في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه.
الباب الخامس :في التقدير الرابع ليلة القدر.
الباب السادس :في ذكر التقدير الخامس اليومي.
الباب السابع :في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة ل يقتضي ترك
العمال بل يوجب الجتهاد والحرص لنه تقدير بالسباب.
الباب الثامن :في قوله تعالى أن الذين سبقت لهم منا الحسنى.
الباب التاسع :في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر.
الباب العاشر :في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها واليمان
بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الولى.
الباب الحادي عشر :في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي
مرتبة الكتابة الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة.
الباب الثالث عشر :في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق العمال.
الباب الرابع عشر :في الهدي والضلل ومراتبهما.
الباب الخامس عشر :في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة
ونحوها وأنه مفعول الرب.
الباب السادس عشر :في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والفعال.
الباب السابع عشر :في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلحا وإطلقهما نفيا
وإثباتا.
الباب الثامن عشر :في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل
والنفعال.
الباب التاسع عشر :في ذكر مناظرة بين جبري وسني.
الباب العشرون :في
) (2/7
5
الباب الخامس والعشرون :في بيان بطلن قول من قال إن الرب تعالى
مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلق ذلك نفيا وإثباتا.
الباب السادس والعشرون :فيما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم" :أعوذ
برضاك من سخطك وأعوذ
) (2/8
) (2/9
شفاء العليل
6
خلق الله القلم فقال له اكتب فقال رب وماذا أكتب قال أكتب مقادير كل
شيء حتى تقوم الساعة" يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول" :من مات على غير هذا فليس مني" وكتابة القلم للقدر كان في
الساعة التي خلق فيها لما رواه المام أحمد في مسنده من حديث عبادة بن
الصامت قال :حدثني أبي قال دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه
الموت فقلت :يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال :أجلسوني فلما أجلسوه قال:
يا بني إنك لن تجد طعم اليمان ولن تبلغ حق حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى
حتى تؤمن بالقدر خيره وشره قلت يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر
وشره قال تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك يا
بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :إن أول ما خلق الله
تعالى القلم ثم قال أكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم
القيامة :يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار ،وهذا الذي كتبه القلم
هو القدر لما رواه ابن وهب أخبرني عمر بن محمد أن سليمان بن مهران
حدثه قال قال عبادة بن الصامت ادع لي ابني وهو يموت لعلي أخبره بما
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" :إن أول شيء خلقه
الله من حلقه القلم فقال له:
) (3/1
أكتب فقال :يا رب ماذا أكتب قال :القدر قال رسول الله
ص -7-صلى الله عليه وسلم فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله
بالنار" وعن عبد الله بن عباس قال :كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم
يوما فقال لي" :يا غلم إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله
تجده تجاهك إذا سألت فسل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن المة
لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إل بشيء قد كتبه الله لك وإن
اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إل بشيء قد كتبه الله عليك رفعت
القلم وجفت الصحف" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ،وعن أبي
هريرة قال :قلت يا رسول الله إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت
ول أجد ما أتزوج به النساء فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ثم
قلت مثل ذلك فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه
وسلم يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لق فاختص على ذلك أو ذر" رواه
البخاري في صحيحه قال حدثنا أصبغ ثنا ابن وهب عن يونس عن الزهري عن
أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ورواه ابن وهب في كتاب القدر
وقال فيه" :فأذن لي أن أختصي قال فسكت عنى حتى قلت ذلك ثلث مرات
فقال جف القلم بما أنت لق" وقال أبو داود الطيالسي ثنا عبد المؤمن هو
ابن عبد الله قال كنا عند الحسن فأتاه يزيد بن أبي مريم السلولي يتوكأ على
ة َ
صيب َ ٍ
م ِن ُم ْ
ب ِ
صا َ
ما أ َعصا فقال يا أبا سعيد أخبرني عن قول الله عز وجلَ } :
ها{ فقال الحسن: ن ن َب َْرأ َ َ فسك ُم إل ّ في كتاب من قَب َ
لأ َِْ ٍ ِ ْ ْ ِ
َ
ض َول ِفي أن ْ ُ ِ ْ ِ ِ َ
ِفي الْر ِ
نعم والله إن الله ليقضي القضية في السماء ثم يضرب لها أجل أنه كائن في
يوم كذا وكذا في ساعة كذا وكذا في الخاصة والعامة حتى إن الرجل ليأخذ
العصا ما يأخذها إل بقضاء وقدر قال :يا أبا سعيد والله لقد أخذتها وإني عنها
7
لغني ثم ل صبر لي عنها قال الحسن :أول ترى ،واختلف في الضمير قوله
من قبل أن نبرأها فقيل هو عائد على النفس
) (3/2
لقربها منه وقيل هو عائد على الرض وقيل عائد على المصيبة والتحقيق أن
يقال هو عائد على البرية التي تعم هذا كله ودل عليه السياق وقوله نبرأها
فينتظم التقادير الثلثة انتظاما واحدا والله أعلم ،وقال ابن وهب أخبرني عمر
بن محمد أن سليمان بن مهران حدثه قال قال عبد الله بن مسعود" :إن أول
شيء خلقه الله عز وجل من خلقه القلم فقال له اكتب فكتب كل شيء
يكون في الدنيا إلى يوم القيامة فيجمع بين الكتاب الول وبين أعمال العباد
فل يخالف ألفا ول واوا وميما" وعن عبد الله بن عمرو قال :سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول" :إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم
ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور شيء اهتدى ومن أخطأه
ضل" قال عبد الله :فلذلك أقول جف القلم بما هو كائن رواه المام أحمد
وقال أبو داود حدثنا عباس بن الوليد بن مزيد قال أخبرني أبي قال سمعت
الوزاعي قال حدثني ربيعة بن يزيد ويحيى بن أبي عمرو الشيباني قال
حدثني عبد الله بن فيروز الديلمي قال :دخلت على عبد الله بن عمرو ابن
العاص وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط فقلت خصال بلغتني عنك
تحدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال" :من شرب الخمر
لم تقبل توبته أربعين صباحا وأن الشقي من شقي في بطن أمه" وقال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" :أن الله خلق خلقه في
ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور يومئذ اهتدى ومن
أخطأه ضل" فلذلك أقول جف القلم على علم الله ورواه المام أحمد في
مسنده أطول من هذا عن عبد الله بن فيروز الديلمي قال :دخلت على عبد
الله بن عمرو وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو محاضر فتى
من قريش يزن بشرب الخمر
) (3/3
ص -8-فقلت :بلغني عنك حديث" :أن من شرب شربة خمر لم تقبل توبته
أربعين صباحا وأن الشقي من شقي في بطن أمه وأن من أتى بيت المقدس
ل ينهزه إل الصلة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه" فلما سمع الفتى
ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق فقال عبد الله بن عمرو أني ل أحل
لحد أن يقول علي ما لم أقل سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم يقول" :من شرب من الخمر شربة لم تقبل له صلة أربعين صباحا
فإن تاب تاب الله عليه فل أدري في الثالثة أو في الرابعة قال :فإن عاد كان
حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة" قال وسمعت رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول" :أن الله عز وجل خلق خلقه في
ظلمه ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه
ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله" وسمعت رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم يقول" :إن سليمان بن داود سأل الله عز وجل ثلثا
8
فأعطاه اثنتين ونحن نرجوا أن تكون لنا الثالثة سأل الله تعالى حكما يصادف
حكمه فأعطاه الله إياه وسأله ملكا ل ينبغي لحد من بعده فأعطاه إياه
وسأله أيما رجل خرج من بيته ل يريد إل الصلة في هذا المسجد خرج من
خطيئته مثل يوم ولدته أمه فنحن نرجوا أن يكون الله تعالى عز وجل قد
أعطانا إياه" ورواه الحاكم في صحيحه وهو على شرط الشيخين ول علة له.
) (3/4
شفاء العليل
الباب الثاني :في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم
وآجالهم قبل خلقهم وهو تقدير ثان بعد الول
الباب الثاني :في تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم
وآجالهم وأعمالهم قبل خلقهم وهو تقدير ثان بعد التقدير الول
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال :كنا في جنازة في بقيع الغرقد
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة
فنكس فجعل ينكث بمخصرته ثم قال" :ما منكم من أحد ما من نفس
منفوسة إل وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإل قد كتبت شقية أو
سعيدة قال :فقال رجل :يا رسول الله أفل نمكث على كتابنا وندع العمل
فقال من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان
ن أ َعْ َ َ
طى م ْ ما َ من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة ثم قرأ} :فَأ ّ
َ
بست َغَْنى وَك َذ ّ َ ل َوا ْ خ َ ن بَ ِ
م ْما َ
سَرى وَأ ّ سُره ُ ل ِل ْي ُ ْ سَنى فَ َ
سن ُي َ ّ ح ْ صد ّقَ ِبال ْ ُ قى وَ َ َوات ّ َ
سَرى{" ،وفي لفظ اعملوا فكل ميسر أما أهل ْ
سُرهُ ل ِلعُ ْ سن ُي َ ّ َ
سَنى ف َ ح ْ ِبال ْ ُ
السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل
ن أ َعْ َ َ
سُرهُ سن ُي َ ّسَنى فَ َ ح ْ صد ّقَ ِبال ْ ُقى وَ َ طى َوات ّ َ م ْما َ أهل الشقاوة ثم قرأ} :فَأ ّ
َ
سَرى{ ،وعن سُره ُ ل ِل ْعُ ْ سَنى فَ َ
سن ُي َ ّ ح ْ ب ِبال ْ ُ ست َغَْنى وَك َذ ّ َ ل َوا ْ خ َن بَ ِ م ْ ما َسَرى وَأ ّ ل ِل ْي ُ ْ
عمران بن حصين قال" :قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار
فقال :نعم قيل ففيم يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له" متفق عليه
وفي بعض طرق البخاري كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له ،وعن أبي
السود الدؤلي قال :قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم
ويكدحون
) (4/1
9
فقال" :بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم" وتصديق ذلك في كتاب الله عز
َ
ها{ ،رواه مسلم في وا َ
ق َ
ها وَت َ ْ
جوَر َ ها فَأل ْهَ َ
مَها فُ ُ وا َ
س ّ
ما َ
س وَ َ
ف ٍ
وجل} :وَن َ ْ
صحيحه ،وعن شغي الصبحي عن عبد الله بن عمرو قال خرج علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال" :أتدرون ما هذان الكتابان
قال قلنا ل أل أن تخبرنا يا رسول الله قال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من
رب العالمين تبارك وتعالى بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم
أجمل عليهم فل يزاد فيهم ول ينقص أبدا ثم قال للذي في يساره هذا كتاب
أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فل يزاد
فيهم ول ينقص منهم أبدا فقال أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم فلي شيء نعمل إن كان هذا أمر قد فرغ منه قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم" :سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل الجنة وإن
عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل النار وإن عمل أي عمل ثم
قال :بيده فقبضها ثم قال :فرغ ربكم عز وجل من العباد ثم قال :باليمنى
فنبذ بها فقال :فريق في الجنة ونبذ باليسرى فقال :فريق في السعير" رواه
الترمذي عن قتيبة عن ليث أبي قبيل عن شغى وعن قتيبة عن بكر بن نصر
عن أبي قبيل به وقال حديث حسن صحيح غريب ورواه النسائي
) (4/2
والمام أحمد وهذا السياق له ،وفي صحيح الحاكم وغيره من حديث أبي
جعفر الرازي ثنا الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله
م{ قال جمعهم له م ذ ُّري ّت َهُ ْن ظ ُُهورِهِ ْ م ْ م ِ ن ب َِني آد َ َ
م ْ
ك ِ تعالى} :وَإ ِذ ْ أ َ َ
خذ َ َرب ّ َ
يومئذ جمعا ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أزواجا ثم صورهم
واستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم:
َ َ
مةِ إ ِّنا ك ُّنا عَ ْ
ن هَ َ
ذا قَيا َ م ال ْ ِ
قوُلوا ي َوْ َن تَ ُ م َقاُلوا ب ََلى َ
شهِد َْنا أ ْ ت ب َِرب ّك ُ ْ
س ُ}أل َ ْ
ن{ إلى قوله المبطلون قال فإني أشهد عليكم السماوات السبع غافِِلي ََ
والرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم أو
تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين فل تشركوا بي شيئا فإني أرسل إليكم رسلي
يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي فقالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا ل
رب لنا غيرك ورفع لهم أبوهم آدم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة
وغير ذلك فقال رب لو سويت بين عبادك فقال إني أحب أن أشكر ورأى
فيهم النبياء مثل السرج وذكر تمام الحديث وفي صحيحه وجامع الترمذي من
حديث هشام بن يزيد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" :لما خلق الله آدم مسح ظهره
فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر ثم جعل
بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال من
هؤلء يا رب فقال هؤلء ذريتك فرأى فيهم رجل أعجبه وبيص ما بين عينيه
فقال يا رب من هذا قال ابنك داود يكون في آخر المم قال كم جعلت له من
العمر قال ستين سنة قال يا رب زده من عمري أربعين سنة قال الله :إذا
يكتب ويختم ل يبدل فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال أولم يبق
من عمري أربعون سنة قال له أولم تجعلها لبنك داود قال :فجحد فجحدت
10
ذريته ونسي فنسيت ذريته وخطئ فخطئت ذريته" قال هذا على شرط
مسلم وفي موطأ مالك عن زيد بن
) (4/3
أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن
مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الية} :وَإ ِذ ْ أ َ َ
خذ َ
م ذ ُّري ّت َُهم{ فقال عمر سمعت رسول الله صلى ن ظ ُُهورِهِ ْ
م ْ
م ِ
ن ب َِني آد َ َ
م ْ َرب ّ َ
ك ِ
الله تعالى عليه وسلم سئل عنها فقال" :إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره
ص -10-بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلء للجنة وبعمل أهل
الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلء للنار
وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل :يا رسول الله ففيم العمل فقال :إن
الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من
أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل
النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار" ،قال الحاكم
هذا الحديث على شرط مسلم وليس كما قاله بل هو حديث منقطع قال أبو
عمر :هو حديث منقطع فإن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب
بينهما نعيم بن ربيعة هذا إن صح أن الذي رواه عن زيد بن أبي أنيسة فذكر
فيه نعيم بن ربيعة إذ ليس هو بأحفظ من مالك ول ممن يحتج به إذا خالفه
مالك ومع ذلك فإن نعيم بن ربيعة ومسلم بن يسار جميعا مجهولن غير
معروفين بحمل العلم ونقل الحديث وليس هو مسلم بن يسار العابد البصري
وإنما هو رجل مدني مجهول ثم ذكر من تاريخ ابن أبي خيثمة قال :قرأت
على يحي بن معين حدث مالك هذا فكتب بيده على مسلم بن يسار ل
يعرف ،قال أبو عمر :هذا الحديث وإن كان عليل السناد فإن معناه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قد روي من وجوه كثيرة من حديث عمر بن الخطاب
وغيره وممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه في القدر علي بن
أبي طالب وأبي بن كعب وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد
الخدري وأبو سريحة العبادي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن
العاص وذو اللحية الكلبي وعمران بن حصين وعائشة وأنس بن مالك
وسراقة بن
) (4/4
جعثم وأبو موسى الشعري وعبادة بن الصامت قلت وحذيفة بن اليمان وزيد
بن ثابت وجابر بن عبد الله وحذيفة بن أسيد وأبو ذر ومعاذ بن جبل وهشام
بن حكيم وأبو عبد الله رجل من الصحابة روى عنه أبو نصر وعبد الله بن
سلم وسلمان الفارسي وأبو الدرداء وعمرو بن العاص وعائشة أم المؤمنين
وعبد الله بن الزبير وأبو أمامة الباهلي وأبو الطفيل وعبد الرحمن بن عوف
وبعض أحاديثهم موقوفة وستمر بك جميعا متفرقة في أبواب الكتاب إن شاء
الله عز وجل ،وقال إسحاق بن راهوية أخبرنا بقية بن الوليد قال أخبرني
الزبيدي محمد بن الوليد عن راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن أبي قتادة
11
عن أبيه عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجل قال :يا رسول الله أتبتدأ
العمال أم قد مضى القضاء فقال إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره
أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه فقال هؤلء للجنة وهؤلء للنار
فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار
قال إسحاق وأخبرنا عبد الصمد حدثنا حماد حدثنا الحريري عن أبي نصرة أن
رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقال له أبو عبد الله دخل
عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي فقالوا له ما يبكي قال سمعت رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم يقول" :إن الله قبض قبضة بيمينه وأخرى بيده
الخرى قال هذه لهذه وهذه لهذه ول أبالي فل أدري في أي القبضتين أنا"،
أخبرنا عمرو بن محمد بن إسماعيل بن رافع عن المقبري عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال" :إن الله تعالى خلق آدم من تراب ثم
جعله طينا ثم تركه حتى إذا كان صلصال كالفخار كان إبليس يمر به فيقول
خلقت لمر عظيم ثم نفخ الله فيه من روحه قال يا رب ما ذريتي قال اختر يا
آدم قال اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين فبسط الله كفه فإذا كل من
هو كائن من ذريته في كف الرحمن" ،أخبرنا النضر أخبرنا أبو معشر عن أبي
سعيد المقبري ونافع مولى الزبير عن أبي هريرة قال:
) (4/5
ص -11-أن يخلق آدم فذكر خلق آدم فقال له يا آدم أي يدي أحب إليك أن
أريك ذريتك فيها قال يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين فبسط يمينه وإذا فيها
ذريته كلهم ما هو خالق إلى يوم القيامة الصحيح على هيئته والمبتلى على
هيئته والنبياء على هيئاتهم فقال أل أعفيهم كلهم فقال أني أحببت أن أشكر
وذكر الحديث ،وقال محمد بن نصر المروزي حدثنا محمد بن يحيى ثنا سعيد
بن أبي مريم أنا الليث بن سعد حدثني ابن عجلن عن سعيد بن أبي سعيد
المقبري عن أبيه عن عبد الله بن سلم قال" :خلق الله آدم ثم قال بيده
فقبضها فقال اختر يا آدم فقال اخترت يمين ربي وكلتا يديك يمين فبسطها
فإذا فيها ذريته فقال من هؤلء يا رب قال من قضيت أن أخلق من ذريتك من
أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة" ،قال وثنا إسحاق بن راهوية أنا جعفر بن
عون أنا هشام بن سعد عن زيد بن سالم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال :لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة
هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وذكر الحديث ،وقال إسحاق بن الملي
ثنا المسعودي عن علي بن نديمة عن سعد عن ابن عباس في قوله تعالى:
ن ظ ُُهورِهِ ْ
م ذ ُّري ّت َُهم{ قال :إن الله أخذ على آدم م ْ
م ِ
ن ب َِني آد َ َ
م ْ
ك ِ }وَإ ِذ ْ أ َ َ
خذ َ َرب ّ َ
ميثاقه أنه ربه وكتب رزقه وأجله ومصيباته ثم أخرج من ظهره ولده كهيئة
الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم وكتب رزقهم وأجلهم ومصيباتهم قال
وحدثنا وكيع حدثنا العمش عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس قال مسح
الله ظهر آدم فأخرج كل طيب في يمينه وفي يده الخرى كل خبيث وقال
محمد بن نصر حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني وثنا حجاج عن أبن جريج
عن الزبير بن موسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال" :إن الله ضرب
12
منكبه اليمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية فقال هؤلء أهل
الجنة ثم ضرب منكبه اليسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء فقال
هؤلء أهل النار ثم أخذ
) (4/6
) (4/7
ن{ قال يعني يوم أخذ الميثاق ،وقال إسحاق شاَء ل َهداك ُ َ
ص -12-فَل َوْ َ
مِعي َ
ج َ
مأ َْ َ ْ
حدثنا وكيع حدثنا مضر عن ابن سليط قال قال أبو بكر رضي الله عنه" :خلق
الله الخلق قبضتين فقال لمن في يمينه ادخلوا الجنة بسلم وقال لمن في
يده الخرى ادخلوا النار ول أبالي" وأخبرنا جرير بن العمش عن أبي ظبيان
عن رجل من النصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال" :لما
خلق الله الخلق قبض قبضتين بيده فقال لمن في يمينه أنتم أصحاب اليمين
وقال لمن في اليد الخرى أنتم أصحاب الشمال فذهبت إلى يوم القيامة"،
وقال عبد الله بن وهب في كتاب القدر أخبرني جرير بن حازم عن أيوب
السختياني عن أبي قلبة قال" :إن الله عز وجل لما خلق آدم أخرج ذريته ثم
نشرهم في كفه ثم أفاضهم فألقى التي في يمينه عن يمينه والتي في يده
الخرى عن شماله ثم قال هؤلء لهذه ول أبالي وهؤلء لهذه ول أبالي وكتب
أهل النار وما هم عاملون وأهل الجنة وما هم عاملون فطوى الكتاب ورفع
13
القلم" ،وقال أبو داود ثنا مسدد ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلبة عن
أبي صالح فذكره قال ابن وهب وأخبرني عمرو بن الحرث وحيوة ابن شريح
عن ابن أبي أسيد هكذا قال عن أبي فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو
يقول" :إن الله عز وجل لما خلق آدم نفضه نفض المرود فأخرج من ظهره
ذريته أمثال النغف فقبضهم قبضتين ثم ألقاهما ثم قبضهما فقال فريق في
الجنة وفريق في السعير" ،قال ابن وهب وأخبرني يونس بن يزيد عن
الوزاعي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال" :من كان يزعم أن مع الله
قاضيا أو رازقا أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا أو موتا أو حياة أو نشورا لقي الله
فأدحض حجته وأحرق لسانه وجعل صلته وصيامه هباء وقطع به السباب
وأكبه الله على وجهه في النار وقال أن الله خلق الخلق فأخذ منهم الميثاق
وكان عرشه على الماء" ،وذكر أبو داود ثنا يحيى بن حبيب ثنا معتمر ثنا أبي
عن أبي العالية في قوله عز وجل:
) (4/8
م أ َك َ َ َ
م ب َعْد َفْرت ُ ْ جوهُهُ ْ ت وُ ُسوَد ّ ْ
نا ْ ما ال ّ ِ
ذي َ جوه ٌ فَأ ّ سوَد ّ وُ ُ جوهٌ وَت َ ْ ض وُ ُ م ت َب ْي َ ّ}ي َوْ َ
ّ َ ْ ُ ْ ُ
م فَ ِ
في جوهُهُ ْ ت وُ ُ ض ْ ن اب ْي َ ّ
ذي َما ال ِن وَأ ّ
فُرو َ م ت َك ُ ما كن ْت ُ ْ ب بِ َ ذا َ ذوُقوا العَ َ م فَ ُ
مان ِك ْ ِإي َ
ن{ قال صاروا فريقين وقال لمن سود وجوههم دو َ خال ِ ُم ِفيَها َ ّ
مةِ اللهِ هُ ْ ح ََر ْ
وغيرهم أكفرتم بعد أيمانكم قال هو اليمان الذي كان حيث كانوا أمة واحدة
مسلمين قال أبو داود وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو نعامة
السعدي قال كنا عند أبي عثمان النهدي فحمدنا الله عز وجل فذكرناه
ودعوناه فقلت لنا بأول هذا المر أشد فرحا مني بآخره فقال أبو عثمان ثبتك
الله كنا عند سلمان فحمدنا الله عز وجل وذكرناه ودعوناه فقلت لنا بأول
هذا المر أشد فرحا مني بآخره فقال سلمان" :ثبتك الله إن الله تبارك
وتعالى لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج من ظهره ما هو ذارئ إلى يوم
القيامة فخلق الذكر والنثى والشقوة والسعادة والرزاق والجال واللوان
ومن علم السعادة فعل الخير ومجالس الخير ومن علم الشقاوة فعل الشر
ومجالس الشر" وقال أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا
عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال" :مسح ربك تعالى
ظهر آدم فأخرج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة أخذ عهودهم ومواثيقهم"
قال سعيد :فيرون أن القلم جف يومئذ ،وقال الضحاك خرجوا كأمثال الذر ثم
أعادهم فهذه وغيرها تدل على أن الله سبحانه قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم
وآجالهم وسعادتهم وشقاوتهم عقيب خلق أبيهم وأراهم لبيهم آدم صورهم
وأشكالهم وحلهم وهذا والله أعلم أمثالهم وصورهم ،وأما تفسير قوله
م{ الية به ففيه ما فيه وحديث عمر لو صح ن ب َِني آد َ َ م ْ ك ِ تعالى} :وَإ ِذ ْ أ َ َ
خذ َ َرب ّ َ
لم يكن تفسيرا للية وبيان
) (4/9
ص -13-إن ذلك هو المراد بها فل يدل الحديث عليه ولكن الية دلت على أن
هذا الخذ من بني آدم ل من آدم وأنه من ظهورهم ل من ظهره وأنهم
ذرياتهم أمة بعد أمة وأنه إشهاد تقوم به الحجة له سبحانه فل يقول الكافر
14
يوم القيامة كنت غافل عن هذا ول يقول الولد أشرك أبي وتبعته فإن ما
فطرهم الله عليه من القرار بربوبيته وأنه ربهم وخالقهم وفاطرهم حجة
عليهم ثم دل حديث عمر وغيره على أمر آخر لم تدل عليه الية وهو القدر
السابق والميثاق الول وهو سبحانه ل يحتج عليهم بذلك وإنما يحتج عليهم
برسله وهو الذي دلت عليه الية فتضمنت الية والحاديث إثبات القدر
والشرع وإقامة الحجة واليمان بالقدر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم لما
سئل عنها بما يحتاج العبد إلى معرفته والقرار به معها وبالله التوفيق.
) (4/10
شفاء العليل
الباب الثالث :في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي صلى الله
عليه وسلم لدم
الباب الثالث :في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك حكم النبي صلى الله
عليه وسلم لدم صلوات الله وسلمه عليهم.
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" :احتج آدم
وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم
أنت موسى اصطفاك الله بكلمه وخط لك التوراة بيده أتلومني على أمر
قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فقال النبي صلى الله عليه
وسلم فحج آدم موسى فحج آدم موسى فحج آدم موسى" وفي رواية "كتب
لك التوراة بيده" وفي لفظ آخر" :تحاج آدم وموسى فحج آدم موسى فقال
له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة فقال آدم أنت
موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته قال
نعم قال أفتلومني على أمر قدر على قبل أن أخلق" ،وفي لفظ آخر" :احتج
آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى فقال موسى أنت آدم الذي خلقك
الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملئكته وأسكنك في جنته ثم
أهبطت الناس بخطيئتك إلى الرض قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله
برسالته وبكلمه وأعطاك اللواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم
وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاما قال آدم هل
وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال نعم قال أفتلومني على أن عملت
عمل كتبه الله على أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى" ،وفي لفظ آخر" :احتج آدم وموسى
فقال له موسى أنت الذي أخرجتنا خطيئتك من الجنة" وذكر الحديث متفق
على صحته وهذا التقدير بعد التقدير الول السابق بخلق السماوات بخمسين
ألف سنة ،وقد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجبائي
ومن وافقه على ذلك وقال لو صح لبطلت نبوات النبياء فإن القدر إذا كان
حجة للعاصي بطل المر والنهي فإن
) (5/1
15
العاصي بترك المر أو فعل النهي إذا صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع
اللوم عنه وهذا من ضلل فريق العتزال وجهلهم بالله ورسوله وسنته فإن
هذا حديث صحيح متفق على صحته لم تزل المة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها
قرنا بعد قرن وتقابله بالتصديق والتسليم ورواه أهل الحديث في كتبهم
وشهدوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله وحكموا بصحته
فما لجهل الناس بالسنة ومن عرف بعداوتها وعداوة حملتها والشهادة عليهم
بأنهم مجسمة ومشبهة حشوية وهذا الشأن ولم يزل أهل الكلم الباطل
المذموم موكلين برد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
) (5/2
) (5/3
لحاد المؤمنين أن يفعله فضل عن كليم الرحمن ،الثالث :أن هذا يستلزم
إلغاء ما علق به النبي صلى الله عليه وسلم وجه الحجة واعتبار ما ألغاه فل
يلتفت إليه وقالت فرقة أخرى إنما حجه لنه لمه في غير دار التكليف ولو
لمه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى عليه وهذا أيضا فاسد من وجهين
16
أحدهما :أن آدم لم يقل له لمتني في غير دار التكليف وإنما قال أتلومني
ي قبل أن أخلق فلم يتعرض للدار وإنما احتج في القدر على أمر قدر عل ّ
السابق الثاني أن الله سبحانه يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف
فيلومهم بعد الموت ويلومهم يوم القيامة وقالت فرقة أخرى إنما حجه لن
آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة وتفرد الرب سبحانه بربوبيته وإنه ل
تحرك ذرة إل بمشيئته وعلمه وأنه ل راد لقضائه وقدره وأنه ما شاء كان وما
لم يشأ لم يكن قالوا ومشاهدة العبد الحكم ل يدع له استقباح سيئة لنه شهد
نفسه عدما محضا والحكام جارية عليه معروفة له وهو مقهور مربوب مدبر
ل حيلة له ول قوة له قالوا ومن شهد هذا المشهد سقط عنه اللوم وهذا
المسلك أبطل مسلك سلك في هذا الحديث وهو شر من مسلك القدرية في
رده وهم إنما ردوه إبطال لهذا القول وردا على قائليه وأصابوا في ردهم
عليهم وإبطال قولهم وأخطأوا في رد حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإن هذا المسلك لو صح لبطلت الديانات جملة وكان القدر حجة لكل
مشرك وكافر وظالم ولم يبق للحدود معنى ول يلم جان على جنايته ول
ظالم على ظلمه ول ينكر منكر أبدا ولهذا قال شيخ الملحدين ابن سينا في
إشارته العارف ل ينكر منكرا لستبصاره بسر الله تعالى في القدر وهذا كلم
) (5/4
) (5/5
17
أعدائه وشيخهم وإمامهم في ذلك عدوه الحقر إبليس حيث احتج عليه
ُ َْ ُ َ
ض وَلغْوِي َن ّهُ ْ
م م ِفي الْر ِ ن ل َهُ ْ
ما أغْوَي ْت َِني لَزي ّن َ ّب بِ َ
ل َر ّ بقضائه فقالَ} ::قا َ
ن{ فإن قيل قد علم بالنصوص والمعقول صحة قولهم لو شاء الله ما َ
مِعي َ
ج َ
أ ْ
أشركنا ول آباؤنا ولو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ول آباؤنا ولو
شاء الرحمن ما عبدناهم فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقد قال
ها{دا َس هُ َ ف ٍ ل نَ ْشئ َْنا لت َي َْنا ك ُ ّه{ وقال} :وَل َوْ ِ ما فَعَُلو ُ
ك َ تعالى} :وَل َوْ َ
شاَء َرب ّ َ
فكيف أكذبهم ونفى عنهم العلم وأثبت لهم الخرص فيما هم فيه صادقون
وأهل السنة جميعا يقولون لو شاء الله ما أشرك به مشرك ول كفر به كافر
ول عصاه أحد من خلقه فكيف ينكر عليهم ما هم فيه صادقون قيل أنكر
سبحانه عليهم ما هم فيه أكذب الكاذبين وأفجر الفاجرين ولم ينكر عليهم
صدقا ول حقا بل أنكر عليهم أبطل الباطل فإنهم لم يذكروا ما ذكروه إثباتا
لقدره وربوبيته ووحدانيته وافتقارا إليه وتوكل عليه واستعانة به ولو قالوا
كذلك لكانوا مصيبين وإنما قالوه معارضين به لشرعه ودافعين به لمره
فعارضوا شرعه وأمره ودفعوه بقضائه وقدره ووافقهم على ذلك كل من
عارض المر ودفعه بالقدر وأيضا فإنهم احتجوا بمشيئتة العامة وقدره على
محبته لما شاءه ورضاه به وإذنه فيه فجمعوا بين أنواع من الضلل معارضة
المر بالقدر ودفعه به والخبار عن الله أنه يحب ذلك منهم ويرضاه حيث
شاءه وقضاه وأن لهم الحجة على الرسل بالقضاء والقدر وقد ورثهم في هذا
الضلل وتبعهم عليه طوائف من الناس ممن يدعي التحقيق والمعرفة أو
يدعي فيه ذلك وقالوا العارف إذا شاهد الحكم سقط عنه اللوم وقد وقع في
كلم شيخ السلم أبي إسماعيل عبد الله بن محمد النصاري ما يوهم ذلك
وقد أعاذه الله منه فإنه قال في باب التوبة من منازل السائرين ولطائف
التوبة ثلثة أشياء ،أولها :أن ننظر في الجناية والقضية فنعرف
) (5/6
مراد الله فيها إذ خلك وإتيانها فإن الله تعالى إنما يخلي العبد والذنب لحد
معنيين :أن يعرف عبرته في قضائه وبره في مسيره وحلمه في إمهال راكبه
وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته ،والثاني :ليقيم على العبد
حجة عدله فيعاقبه
ص -16-على ذنبه بحجته ،واللطيفة الثانية :أن يعلم أن طلب البصير الصادق
سنته لم تبق له حسنه بحال لنه يسير بين مشاهدة المنة ويطلب عيب
النفس والعمل ،واللطيفة الثالثة :أن مشاهدة العبد الحكم لم يدع له
استحسان حسنة ول استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى
الحكم ،فهذا الكلم الخير ظاهره يبطل استحسان الحسن واستقباح القبيح
والشرائع كلها مبناها على استحسان هذا واستقباح هذا بل مشاهدة الحكم
تزيد البصير استحسانا للحسن واستقباحا للقبيح وكلما ازدادت معرفته بالله
وأسمائه وصفاته وأمره قوي استحسانه واستقباله فإنه يوافق في ذلك ربه
ورسله ومقتضى السماء الحسنى والصفات العلى وقد كان شيخ السلم في
ذلك موافقا للمر وغضبه لله ولحدوده ومحارمه ومقاماته في ذلك شهيرة
عند الخاصة والعامة وكلمه المتقدم بين في رسوخ قدمه في استقباح ما
قبحه الله واستحسان ما حسنه الله وهو كالمحكم فيه وهذا متشابه فيرد إلى
18
محكم كلمه والذي يليق به ما ذكره شيخنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم
الواسطي في شرحه فذكر قاعدة في الفناء والصطلم فقال الفناء عبارة
عن اصطلم العبد لغلبة وجود الحق وقوة العلم به في العبد فيزيد بذلك يقينه
به ومعرفته به وبصفاته سبحانه فيذهل بذلك كما يذهل النسان في أمر
عظيم دهمه فإنه ربما غاب عن شعوره بما دهمه من المور المهمة مثاله
رجل وقف بين يدي سلطان عظيم قاهر من ملوك الرض فأذهله ما يلحظه
من هيبته وسلطانه عن كثير مما يشعر به وهذا تقريب والمر فوق ذلك
فكيف بمن أشهده الله عز وجل فردانيته حيث كان ول شيء معه فرأى
الشياء مواتا ل قوام لها إل بقدرته فشهدها خيال كالهباء
) (5/7
بالنسبة إلى وجود الحق تعالى وذلك في البصائر القلبية بالكشف الصحيح بعد
التصفية والتدرب في القيام بأعباء الشريعة وحمل أثقالها والتخلق بأخلقها
وصفى الله عبده من درنه ويكشف لقلبه فيرى حقائق الشياء فمتى تجلت
على العبد أنوار المشاهدة الحقيقية الروحية الدالة على عظمة الفردانية
تلشى الوجود الذي للعبد واضمحل كما يتلشى الليل إذا أسفر عليه الصباح
ويكون العبد في ذلك آكل شاربا فل يظهر عليه شيء مغاير لما اعتاده لكن
يزداد إيمانه ويقينه حتى ربما غطى إيمانه عن قلبه كل شيء في أوقات
سكره ويبقى وجوده كالخيال قائما بالعبودية في حضرة ذي الجلل وتعود
عليه البصائر الصحيحة في معرفة الشياء عند صحوه ثم يزول عنه عدم
التمييز ويقوى على حاله فيتصرف وذلك هو البقاء بحيث يتصرف في الشياء
ول يحجب عنه ما وجده من اليمان واليقان في حال البقاء بل يعود عليه
شعوره الول بوجود آخر يتوله الله عز وجل مشهده فيه قيامه عليه بتدبيره
ويصل إلى مقام المراد بعد عبوره على مقام المريد فيصير به يسمع وبه
ينطق كما جاء في الحديث الصحيح ووجه آخر وهو أن الفاني في حال فنائه
قبل أن يبلغ إلى مقام البقاء والصحوة والتمييز فيستر من قلبه محل الزهد
والصبر والورع ل بمعنى أن تلك المقامات ذهبت وارتفع عنها العبد لكن
بمعنى أن الشهود ستر محلها من القلب وانطوت واندرجت في ضمن ما
وجده اندراج الحال النازل في الحال العالي فصارت فيما وجده الواجد من
وجود الحق ضمنا وتبعا وصار القلب مشتغل بالحال العلى عن الحال الدنى
بحيث لو فتش قلب العبد لوجد فيه الزهد والورع وحقائق الخوف والرجاء
مستورا بأمثال الجبال من الحوال الوجودية التي يضيق القلب عن التساع
لمجموعها وفي حال البقاء والصحو والتمييز تعود عليه تلك المقامات بالله ل
بوجود نفسه إذا علمت ذلك انحل إشكال قوله إن مشاهدة العبد لم تدع له
استحسان حسنة ول استقباح سيئة
) (5/8
19
الجمع عن التمييز والفرق ويسمى هذا جمعا لن العبد اجتمع نظره إلى موله
في كل حكم وقع في الكون وفي ملحظة هذا الحكم الذي صدرت عنه
التصرفات اجتمع قلبه ولضعف قلبه حين هذا الجتماع لم يتسع للتمييز
الشرعي بين الحسن والقبيح بمعنى أنه انطوى حكم معرفته بالحسن والقبيح
في طي هذه المعرفة الساترة له عن التمييز ل بمعنى أنه ارتفع عن قلبه
حكم التحسين والتقبيح بل اندرج في مشهده وانطوى بحيث لو فتش لوجد
حكم التحسين والتقبيح مستورا في طي مشهده ذلك وبالله التوفيق،
وتلخيص ما ذكره شيخنا رحمه الله أن للفعل وجهين وجه قائم بالرب تعالى
وهو قضاؤه وقدره له وعلمه به والعبد له ملحظتان :ملحظة للوجه الول
وملحظة للوجه الثاني والكمال أن ل يغيب بأحد الملحظتين عن الخرى بل
يشهد قضاء الرب وقدره ومشيئته ويشهد مع ذلك فعله وجنايته وطاعته
ن َ
شاَء م ْ
ومعصيته فيشهد الربوبية والعبودية فيجتمع في قلبه معنى قوله} :ل ِ َ
َ من ك ُ َ
هشاَء الّله{ وقوله} :إ ِن ّ ُ
ن يَ َن إ ِل ّ أ ْشاُءو َ ما ت َ َ
م{ مع قوله} :وَ َ قي َست َ ِ
ن يَ ْمأ ْ ِ ْ ْ
ه{ فمن الناس من يتسع شاَء الل ُّ ن يَ َ شاَء ذ َك َره وما يذ ْك ُرون إل ّ أ َ َ ن م َ ف ٌ ة ت َذ ْك َِر
ْ َ ُ َ َ َ ُ َ ِ َ ْ
قلبه لهذين الشهودين ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما بقوة الوارد عليه
وضعف المحل فيغيب بشهود العبودية والكسب وجهة الطاعة والمعصية عن
شهود الحكم القائم بالرب تعالى من غير إنكار له فل يظهر عليه إل أثر الفعل
وحكمه الشرعي وهذا ل يضره إذا كان اليمان بالحكم قائما في قلبه ومنهم
من يغيب بشهود الحكم وسبقه وأولية الرب تعالى وسبقه للشياء عن جهة
عبوديته وكسبه وطاعته ومعصيته فيغيب بشهود الحكم عن المحكوم به فضل
عن
) (5/9
صفته فإذا لم يشهد له فعل فكيف يشهد كونه حسنا أو قبيحا وهذا أيضا ل
يضره إذا كان علمه بحسن الفعل وقبحه قائما في قلبه وإنما توارى عنه
لستيلء شهود الحكم على قلبه وبالله التوفيق ،فأين هذا من احتجاج أعداء
الله بمشيئته وقدره على إبطال أمره ونهيه وعباد هؤلء الكفرة يشهدون
أفعالهم كلها طاعات لموافقتها المشيئة السابقة ولو أغضبهم غيرهم وقصر
في حقوقهم لم يشهدوا فعله طاعة مع أنه وافق فيه المشيئة فما احتج
بالقدر على إبطال المر والنهي المن هو من أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم
لهواه وتأمل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه واحتجاجهم بمشيئته وقدره
على إبطال ما أمرهم به رسوله وأنه لول محبته ورضاه به لما شاءه منهم:
شاَء ل َهداك ُ َ
ة فَل َوْ َ
ة ال َْبال ِغَ ُ
ن{ فأخبر سبحانه أن الحجة مِعي َ
ج َ
مأ َْ َ ْ ج ُ ل فَل ِل ّهِ ال ْ ُ
ح ّ }ق ُ ْ
له عليهم برسله وكتبه وبيان ما ينفعهم ويضرهم وتمكنهم من اليمان بمعرفة
أوامره ونواهيه وأعطاهم السماع والبصار والعقول فثبتت حجته البالغة
عليهم بذلك واضمحلت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه ثم قرر تمام
ن{ فإن هذا يتضمن أنه المتفرد شاَء ل َهداك ُ َ الحجة بقوله} :فَل َوْ َ
مِعي َ
ج َ
مأ َْ َ ْ
بالربوبية والملك والتصرف في خلقه وأنه ل رب غيره ول إله سواه فكيف
يعبدون معه إلها غيره فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم
وأن المر كله لله وأن كل شيء ما خل الله باطل فالقضاء والقدر والمشيئة
النافذة من أعظم أدلة التوحيد فجعلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على
20
الشرك فكانت حجة الله هي البالغة وحجتهم هي الداحضة وبالله التوفيق ،إذا
عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد
تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه وآدم
) (5/10
) (5/11
يقروا بفساده فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم وعزم كل العزم
على أن ل يعود فإذا لمه لئم بعد ذلك قال كان ما كان بقدر الله ،ونكتة
المسألة أن اللوم إذا ارتفع صح الحتجاج بالقدر وإذا كان اللوم واقعا
ي بالقدر في ترك قيام الليل فالحتجاج بالقدر باطل ،فإن قيل فقد احتج عل ّ
وأقره النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن علي" :أن رسول الله
صلى الله عيه وسلم طرقه وفاطمة ليل فقال لهم أل تصلون قال فقلت يا
رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثها بعثها فانصرف رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته وهو
ل{" ،قيل علي جد َ ً
يٍء َ ن أ َك ْث ََر َ
ش ْ سا ُ
ن ال ِن ْ َ مدبر يضرب فخذه وهو يقول} :وَ َ
كا َ
21
لم يحتج بالقدر على ترك واجب ول فعل محرم وإنما قال أن نفسه ونفس
فاطمة بيد الله فإذا شاء أن يوقظها ويبعث أنفسها بعثها وهذا موافق لقول
النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ناموا في الوادي" :إن الله قبض أرواحنا
حيث شاء وردها حيث شاء" وهذا احتجاج صحيح صاحبه يعذر فيه فالنائم غير
مفرط واحتجاج غير المفرط بالقدر صحيح وقد أرشد النبي صلى الله عليه
وسلم إلى الحتجاج بالقدر في الموضع الذي ينفع العبد الحتجاج به فروى
مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم" :المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل
خير أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ول تعجز وإن أصابك شيء فل تقل
لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله ما شاء فعل فإن لو تفتح عمل
الشيطان" فتضمن هذا الحديث الشريف أصول عظيمة من أصول اليمان
أحدها :أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالمحبة وأنه
) (5/12
ص -19-يحب حقيقة الثاني :أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها
فهو القوي ويحب المؤمن القوي وهو وتر يحب الوتر وجميل يحب الجمال
وعليم يحب العلماء ونظيف يحب النظافة ومؤمن يحب المؤمنين ومحسن
يحب المحسنين وصابر يحب الصابرين وشاكر يحب الشاكرين ،ومنها أن
محبته للمؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض ،ومنها أن سعادة
النسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده والحرص هو بذل الجهد
واستفراغ الوسع فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودا وكماله
كله في مجموع هذين المرين أن يكون حريصا وأن يكون حرصه على ما
ينتفع به فإن حرص على مال ينفعه أو فعل ما ينفعه بغير حرص فاته من
الكمال بحسب ما فاته من ذلك فالخير كله في الحرص على ما ينفع ولما
كان حرص النسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن
ن{ فإن حرصه على ما ست َِعي ُ ك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّيا َ
ك نَ ْ يستعين به ليجتمع له مقام} :إ ِّيا َ
ينفعه عبادة لله ول تتم إل بمعونته فأمره بأن يعبده وأن يستعين به ثم قال
ول تعجز فإن العجز ينافي حرصه على ما ينفعه وينافي استعانته بالله
فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله ضد العاجز فهذا إرشاد له قبل رجوع
المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله وهو الحرص عليه مع الستعانة
بمن أزمة المور بيده ومصدرها منه ومردها إليه فإن فاته ما لم يقدر له فله
حالتان حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز إلى لو ول فائدة
في لو ههنا بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والسف والحزن وذلك كله
من عمل الشيطان فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح
وأمره بالحالة الثانية وهي النظر إلى القدر وملحظته وأنه لو قدر له لم يفته
ولم يغلبه عليه أحد فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب
النافذة التي توجب وجود المقدور وإذا انتفت امتنع وجوده فلهذا قال فإن
غلبك أمر فل تقل لو أني فعلت لكان كذا ولكن قل قدر
) (5/13
22
الله وما شاء فعل فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين حالة حصول مطلوبة
وحالة فواته فلهذا كان هذا الحديث مما ل يستغني عنه العبد أبدا بل هو أشد
شيء إليه ضرورة وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والختيار والقيام
والعبودية ظاهرا وباطنا في حالتي حصول المطلوب وعدمه وبالله التوفيق.
) (5/14
شفاء العليل
) (6/1
23
سويا أو غير سوي ثم يقول يا رب ما رزقه وما أجله وما خلقه ثم يجعله الله
شقيا أو سعيدا" وفي لفظ آخر إن ملكا موكل بالرحم إذا أراد الله أن يخلق
شيئا بإذن الله ولبضع وأربعين ليلة ثم ذكر نحوه وهذا الحديث بطرقه انفرد
به مسلم وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي
رب مضغة وإذا أراد أن يقضي خلقا قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو
سعيد فما الرزق فما الجل فيكتب كذلك في بطن أمه" متفق عليه وقال ابن
وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أن سعيد بن عبد الرحمن بن هنيدة
حدثهم أن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" :إذا
أراد الله أن يخلق
) (6/2
النسمة قال ملك الرحام معها يا رب أذكر أم أنثى فيقضي الله بأمره ثم
يقول يا رب شقي أم سعيد فيقضي الله أمره ثم يكتب بين عينيه ما هو لق
حتى النكبة ينكبها" قال ابن وهب وأخبرني عبد الله بن لهيعة عن بكر بن
سوادة الجدمي عن أبي تميم الجيشاني عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال" :إذا دخلت يعني النطفة في الرحم أربعين أتى ملك النفس فعرج
إلى الرب فقال يا رب عبدك أذكر أو أنثى فيقضي الله بما هو قاض أشقي أم
سعيد فيكتب ما هو كائن وذكر بقية الحديث وقال ابن وهب أخبرني ابن
لهيعة عن كعب بن علقمة عن عيسى عن هلل عن عبد الله بن عمرو بن
العاص أنه قال" :إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة جاءها ملك
فاختلجها ثم عرج بها إلى الله تعالى أخلق يا أحسن الخالقين فيقضي الله
فيها بما يشاء من أمره ثم تدفع إلى الملك فيسأل الملك عند ذلك فيقول يا
رب أسقط أم يتم فيبين له ثم يقول يا رب أواحد أم توأم فيبين له ثم يقول
له أقطع رزقه مع خلقه فيقضيهما جميعا فوالذي نفس محمد بيده ل ينال إل
ما قسم له يومئذ إذا أكل رزقه قبض" وقال عبد الله بن أحمد أنا العلء ثنا
أبو الشعث ثنا أبو عامر عن الزبير بن عبد الله حدثني جعفر بن مصعب قال
سمعت عروة بن الزبير يحدث عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال" :إن الله سبحانه حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكا فيدخل الرحم
فيقول أي رب ماذا فيقول غلم أو جارية أو ما شاء أن يخلق في الرحم
فيقول أي رب أشقي أم سعيد فيقول شقي أو سعيد فيقول أي رب ما أجله
فيقول كذا وكذا فيقول ما خلقه ما خلئقه فيقول
) (6/3
ص -21-كذا وكذا فما شيء إل وهو يخلق معه في الرحم" وفي المسند من
حديث إسماعيل بن عبيد الله وهو ابن أبي المهاجر أن أم الدرداء حدثته عن
أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" :فرغ الله عز وجل إلى كل
عبد من خمس من أجله ورزقه ومضجعه وأثره وشقي أم سعيد" وقال ابن
حميد ثنا يعقوب بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال" :إذا
وقعت النطفة في الرحم تلبث أربعة أشهر وعشرا ثم تنفخ فيها الروح ثم
24
تلبث أربعين ليلة ثم يبعث إليها ملك فنقفها في نقرة القفا وكتب شقيا أو
سعيدا" وروى ابن أبي خيثمة ثنا عبد الرحمن بن المبارك ثنا حماد بن زيد عن
أيوب عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"السعيد من سعد في بطن أمه" رواه أبو داود في القدر عن عبد الرحمن
عن حماد عن هشام بن حسان عن محمد به وقال أحمد بن عبد أنبأنا علي
بن عبد الله بن ميسر ثنا عبد الحميد بن بيان ثنا خالد بن عبد الله عن يحيى
بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم" :الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه"
وقال سعيد عن أبي إسحاق عن أبي الحوص عن عبد الله قال" :الشقي من
شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره" وقال شعبة عن مخارق عن
طارق عن عبد الله بن مسعود قال" :إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن
الهدى هدى محمد وشر المور محدثاتها فاتبعوا ول تبتدعوا فإن الشقي من
شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره وأن شر الروايا روايا الكذب
وشر المور محدثاتها وكل ما هو آت قريب" رواهن أبو داود في القدر وذكر
الطبري من رواية أبي إسحاق عن أبي عبدة عنه أنه كان يجيء كل يوم
خميس يقوم قائما ل يجلس فيقول إنما هما اثنتان فأحسن الهدى هدى محمد
وأصدق الحديث كتاب الله وشر المور محدثاتها وكل محدث ضللة إن
الشقي من شقي في بطن أمه وأن السعيد من وعظ بغيره أل فل يطولن
عليكم المد ول يلهينكم المل فإن كل
) (6/4
ما هو آت قريب وإنما البعيد ما ليس آتيا وأن من شرار الناس بطال النهار
جيفة الليل وأن قتل المؤمن كفر وإن سبابه فسوق ول يحل لمسلم أن يهجر
أخاه فوق ثلث أل إن شر الروايا روايا الكذب وأنه ل يصلح من الكذب جد ول
هزل ول أن يعد الرجل صفيه ثم ل ينجزه أل وأن الكذب يهدى إلى الفجور
وأن الفجور يهدي إلى النار وأن الصدق يهدي إلى البر وأن البر يهدي إلى
الجنة وأن الصادق يقال له صدق وبر وأن الكاذب يقال له كذب وفجر وإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" :أن العبد ليصدق فيكتب
عند الله صديقا وأنه ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا أل هل تدرون ما العضة
هي النميمة التي تفسد بين الناس" وهذا متواتر عن عبد الله وبلغ معاوية أن
الوباء اشتد بأهل دار فقال لو حولناهم عن مكانهم فقال له أبو الدرداء :كيف
لك يا معاوية بأنفس قد حضرت آجالها فكأن معاوية وجد على أبي الدرداء
فقال له كعب يا معاوية ل تجد على أخيك فإن الله سبحانه لم يدع نفسا حين
تستقر نطفتها في الرحم أربعين ليلة إل كتب خلقها وخلقها وأجلها ورزقها ثم
لكل نفس ورقة خضراء معلقة بالعرش فإذا دنا أجلها خلقت تلك الورقة حتى
تيبس ثم تسقط فإذا يبست سقطت تلك النفس وانقطع أجلها ورزقها ذكره
أبو داود عن محمود بن خالد ثنا مروان ثنا معاوية بن سلم حدثني أخي زيد
بن سلم عن جده ابن سلم قال بلغ معاوية فذكره وقال أبو داود ثنا واصل
بن عبد العلى ثنا ابن فضيل عن الحسن بن عمرو الفقيمي عن الحكم عن
مَناهُ َ ل إنسا َ
طائ َِره ُ ِفي ن أل َْز ْ
مجاهد في قوله تعالى} :وَك ُ ّ ِ ْ َ ٍ
25
) (6/5
) (6/6
مسعود ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات وأما الملك الموكل بالنطفة
فذاك راتب معها ينقلها بإذن الله من حال إلى حال فيقدر الله سبحانه شأن
النطفة حتى تأخذ في مبدأ التخليق وهو العلق ويقدر شأن الروح حين تتعلق
بالجسد بعد مائة وعشرين يوما فهو تقدير بعد تقدير فاتفقت أحاديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم وصدق بعضها بعضا ودلت كلها على إثبات القدر
السابق ومراتب التقدير وما يؤتى أحد إل من غلط الفهم أو غلط في الرواية
ومتى صحت الرواية وفهمت كما ينبغي تبين أن المر كله من مشكاة واحدة
صادقة متضمنة لنفس الحق وبالله التوفيق.
) (6/7
26
شفاء العليل
ص -23-إنها لفي كل رمضان وأنها لليلة القدر يفرق فيها كل أمر حكيم فيها
يقضي الله كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها وذكر يوسف بن مهران عن ابن
عباس قال يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت
وحياة ورزق ومطر حتى الحجاج يقال يحج فلن ويحج فلن وذكر عن سعيد
بن جبير في هذه الية أنك لترى الرجل يمشي في السواق وقد وقع اسمه
في الموتى وقال مقاتل يقدر الله في ليلة القدر أمر السنة في بلده وعباده
إلى السنة القابلة وقال أبو عبد الرحمن السلمي يقدر أمر السنة كلها في
ليلة القدر وهذا هو الصحيح أن القدر مصدر قدر الشيء يقدره قدرا فهي ليلة
الحكم والتقدير وقالت طائفة ليلة القدر ليلة الشرف والعظمة من قولهم
لفلن قدر في الناس فإن أراد صاحب هذا القول أن لها قدرا وشرفا مع ما
يكون فيها من التقدير فقد أصاب وإن أراد أن معنى القدر فيها هو الشرف
والخطر فقد غلط أن الله سبحانه أخبر أن فيها يفرق أي يفصل الله ويبين
ويبرم كل أمر حكيم.
) (7/1
شفاء العليل
27
قوم ويكشف كربا ويغفر ذنبا ويضع أقواما ويرفع آخرين دخل كلم بعضهم
في بعض وقد ذكر الطبراني في المعجم والستة وعثمان بن سعيد الدارمي
في كتاب الرد على المريسي عن عبد الله بن مسعود قال" :إن ربكم عز
وجل ليس عنده ليل ول نهار نور السماوات والرض نور وجهه وأن مقدار كل
يوم من أيامكم عنده ثنتي عشرة ساعة فيعرض عليه أعمالكم فيها على ما
يكره فيغضبه ذلك وأول من يعلم غضبه العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه
حملة العرش وسرادقات العرش والملئكة المقربون وسائر الملئكة ثم ينفخ
جبريل في القرن فل يبقى شيء إل سمع صوته فيسبحون الرحمن ثلث
ساعات حتى يمتلئ الرحمن عز وجل رحمة فتلك ست ساعات ثم يؤتى
صوُّرك ُْ
م ذي ي ُ َ بالرحام فينظر فيها ثلث ساعات فذلك قوله في كتابه} :هُوَ ال ّ ِ
ن يَ َ
شاُء م ْ شاُء إ َِناثا ً وَي َهَ ُ
ب لِ َ ن يَ َ
م ْب لِ َ
شاُء{ وقوله} :ي َهَ ُ ف يَ َ ِفي اْل َْر َ
حام ِ ك َي ْ َ
َ
ديٌر{ فتلك م قَ ِ قيما ً إ ِن ّ ُ
ه عَِلي ٌ شاُء عَ ِن يَ َ
م ْ ل َجعَ ُم ذ ُك َْرانا ً وَإ َِناثا ً وَي َ ْ
جهُ ْ
كوَر أوْ ي َُزوّ ُ الذ ّ ُ
تسع ساعات ثم يؤتى بالرزاق فينظر فيها ثلث ساعات فذلك قوله في
) (8/1
ل يوم هو في َ ْ س ُ
ن{ قال هذاشأ ٍ قدُِر{} :ك ُ ّ َ ْ ٍ ُ َ ِ ن يَ َ
شاُء وَي َ ْ م ْ
ط الّرْزقَ ل ِ َ كتابه} :ي َب ْ ُ
شأنكم وشأن ربكم تبارك وتعالى" قال الطبراني ثنا بشر بن موسى ثنا يحيى
بن إسحاق أنا حماد بن سلمة عن أبي عبد السلم عن عبد الله أو عبيد الله
ابن مكرز عن ابن مسعود فذكره وقال عثمان بن سعيد الدارمي ثنا موسى
بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن الزبير بن أبي عبد السلم عن أيوب بن
عبيد الله الفهري أن ابن مسعود قال" :أن ربكم ليس عنده ليل ول نهار"..
فذكر الحديث إلى قوله "فيسبحه حملة العرش وسرادقات العرش والملئكة
المقربون وسائر الملئكة" فهذا تقدير يومي والذي قبله تقدير حولي والذي
قبله تقدير عمري عند تعلق النفس
) (8/2
ص -24-به والذي قبله كذلك عند أول تخليقه وكونه مضغة والذي قبله تقدير
سابق على وجوده لكن بعد خلق السماوات والرض والذي قبله تقدير سابق
على خلق السماوات والرض بخمسين ألف سنة وكل واحد من هذه التقادير
كالتفصيل من التقدير السابق وفي ذلك دليل على كمال علم الرب وقدرته
وحكمته وزيادة تعريف لملئكته وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه وقد قال
ن{ وأكثر المفسرين على أن هذا مُلو َ م ت َعْ َما ك ُن ْت ُ ْ س ُ
خ َ ست َن ْ ِتعالى} :إ ِّنا ك ُّنا ن َ ْ
الستنساخ من اللوح المحفوظ فتستنسخ الملئكة ما يكون من أعمال بني
آدم قبل أن يعملوها فيجدون ذلك موافقا لما يعملونه فيثبت الله تعالى منه
ما فيه ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو وذكر ابن مردويه في تفسيره من
طرق إلى بقية عن أرطأة بن المنذر عن مجاهد عن ابن عمر يرفعه أن أول
خلق الله القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين فكتب الدنيا وما يكون فيها من
عمل معمول من بر أو فجور رطب أو يابس فأحصاه عند الذكر وقال اقرؤا
ن{مُلو َ ما ك ُن ْت ُ ْ
م ت َعْ َ س ُ
خ َ حقّ إ ِّنا ك ُّنا ن َ ْ
ست َن ْ ِ م ِبال ْ َ ذا ك َِتاب َُنا ي َن ْط ِقُ عَل َي ْك ُ ْ
إن شئتم} :هَ َ
فهل تكون النسخة إل من شيء قد فرغ منه وقال آدم ثنا ورقاء عن عطاء
28
بن السائب عن مقسم عن ابن عباس إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون قال
تستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنما يعمل النسان على ما
استنسخ الملك من أم الكتاب وفي تفسير الشجع عن سفيان عن منصور
عن مقسم عن ابن عباس قال كتب في الذكر عنده كل شيء هو كائن ثم
بعث الحفظة على آدم وذريته وكل ملئكته ينسخون من الذكر ما يعمل العباد
ن{ مُلو َ ما ك ُن ْت ُ ْ
م ت َعْ َ س ُ
خ َ ست َن ْ ِ م ِبال ْ َ
حقّ إ ِّنا ك ُّنا ن َ ْ ذا ك َِتاب َُنا ي َن ْط ِقُ عَل َي ْك ُ ْ
ثم قرأ} :هَ َ
وفي تفسير الضحاك عن ابن عباس في هذه الية قال هي أعمال أهل الدنيا
الحسنات والسيئات تنزل من السماء كل غداة وعشية ما يصيب النسان في
ذلك اليوم أو الليلة الذي يقتل
) (8/3
والذي يغرق والذي يقع من فوق بيت والذي يتردى من جبل والذي يقع والذي
يحرق بالنار فيحفظوا عليه ذلك كله وإذا كان الشيء صعدوا به إلى السماء
فيجدونه كما في السماء مكتوبا في الذكر الحكيم.
) (8/4
شفاء العليل
) (9/1
29
ص -25-كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة من كل من
أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة وعن أبي الزبير عن جابر بن
عبد الله قال " :جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال :يا رسول الله بّين لنا
ديننا كأننا خلقنا الن فيم العمل اليوم أفيما جفت به القلم وجرت به
المقادير أم فيما يستقبل ؟ قال" :ل،بل فيما جفت به القلم وجرت به
المقادير قال :ففيم العمل فقال :اعملوا فكل ميسر" رواه مسلم وعن
عمران بن حصين قال :قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار
فقال :نعم قيل ففيم يعمل العاملون فقال كل ميسر لما خلق له" متفق عليه
وفي بعض طرق البخاري "كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له" ورواه المام
أحمد أطول من هذا فقال :ثنا صفوان بن عيسى ثنا عروة بن ثابت عن يحي
بن عقيل عن أبي نعيم عن أبي السود الدؤلي قال :غدوت على عمران بن
حصين يوما من اليام فقال :إن رجل من جهينة أو مزينة أتى إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال :يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون
فيه شيء قضى عليهم أو مضى عليهم في قدر قد سبق أو فيما يستقبلونه
مما أتاهم به نبيهم واتخذت عليهم الحجة قال بل شيء قضى عليهم قال فلم
يعملون إذا يا رسول الله قال من كان الله عز وجل خلقه لواحدة من
ها وا َ
س ّ
ما َ
س وَ َف ٍ المنزلتين فهيأه لعملها وتصديق ذلك في كتاب الله} :وَن َ ْ
َ
ها{وقال المحاملي ثنا أحمد بن المقدام ثنا المعتمر بن وا َق َها وَت َ ْجوَر َ فَأل ْهَ َ
مَها فُ ُ
سليمان قال سمعت أبا سفيان يحدث عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن
عمر أنه قال نزل فمنهم شقي وسعيد فقال عمر :يا نبي الله على م نعمل
على أمر قد فرغ منه أم لم يفرغ منه قال ل على أمر قد فرغ منه قد جرت
ن أ َعْ َ َ
سُرهُ
سن ُي َ ّسَنى فَ َ
ح ْصد ّقَ ِبال ْ ُ قى وَ َ طى َوات ّ َ م ْ القلم ولكن كل ميسر} :فَأ ّ
ما َ
َ
سُرهُ سن ُي َ ّسَنى فَ َ ح ْ ب ِبال ْ ُست َغَْنى وَك َذ ّ َ
ل َوا ْ خ َ ن بَ ِ م ْ
ما َ سَرى وَأ ّ ل ِل ْي ُ ْ
) (9/2
سَرى{ فاتفقت هذه الحاديث ونظائرها على أن القدر السابق ل يمنع ل ِل ْعُ ْ
العمل ول يوجب التكال عليه بل يوجب الجد والجتهاد ولهذا لما سمع بعض
الصحابة ذلك قال ما كنت أشد اجتهادا مني الن وهذا مما يدل على جللة
فقه الصحابة ودقة أفهامهم وصحة علومهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم
أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالسباب فإن العبد ينال ما قدر
له بالسبب الذي أقدر عليه ومكن منه وهيئ له فإذا أتى بالسبب أوصله إلى
القدر الذي سبق له في أم الكتاب وكلما زاد اجتهادا في تحصيل السبب كان
حصول المقدور أدنى إليه وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل زمانه
فإنه ل ينال ذلك إل بالجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه وإذا قدر له أن
يرزق الولد لم ينل ذلك إل بالنكاح أو التسري والوطء وإذا قدر له أن يستغل
من أرضه من المغل كذا وكذا لم ينله إل بالبذر وفعل أسباب الزرع وإذا قدر
الشبع والري فذلك موقوف على السباب المحصلة لذلك من الكل والشرب
واللبس وهذا شأن أمور المعاش والمعاد فمن عطل العمل اتكال على القدر
السابق فهو بمنزلة من عطل الكل والشرب والحركة في المعاش وسائر
أسبابه اتكال على ما قدر له وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على
السباب التي بها مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية بل فطر الله على ذلك
30
سائر الحيوانات فهكذا السباب التي بها مصالحهم الخروية في معادهم فإنه
سبحانه رب الدنيا والخرة وهو الحكيم بما نصه من السباب في المعاش
والمعاد وقد يسر كل من خلقه لما خلقه له في الدنيا والخرة فهو مهيأ له
ميسر له فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالسباب الموصلة إليها
كان أشد اجتهادا في فعلها من القيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح
دنياه وقد فقه هذا كل الفقه من قال
) (9/3
ص -26-ما كنت أشد اجتهادا مني الن فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا
الطريق يقضي به إلى رياض مونقة وبساتين معجبة ومساكن طيبة ولذة
ونعيم ل يشوبه نكد ول تعب كان حرصه على سلوكها واجتهاده في السير
فيها بحسب علمه بما يفضي إليه ولهذا قال أبو عثمان النهدي لسلمان لنا
بأول هذا المر أشد فرحا مني بآخره وذلك لنه إذا كان قد سبق له من الله
سابقة وهيأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من
الله أعظم من فرحه بالسباب التي تأتي بها فإنها سبقت له من الله قبل
الوسيلة منه وعلمها الله وشاءها وكتبها وقدرها وهيأ له أسبابها لتوصله إليها
فالمر كله من فضله وجوده السابق فسبق له من الله سابقة السعادة
ووسيلتها وغايتها فالمؤمن أشد فرحا بذلك من كون أمره مجعول إليه كما
قال بعض السلف والله ما أحب أن يجعل أمري إلي إنه إذا كان بيد الله خيرا
من أن يكون بيدي فالقدر السابق معين على العمال وما يحث عليها
ومقتض لها ل أنه مناف لها وصاد عنها وهذا موضع مزلة قدم من ثبتت قدمه
فاز بالنعيم المقيم ومن زلت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم فالنبي صلى
الله عليه وسلم أرشد المة في القدر إلي أمرين هما سببا السعادة اليمان
بالقدار فإنه نظام التوحيد والتيان بالسباب التي توصل إلى خيره وتحجز
عن شره وذلك نظام الشرع فأرشدهم إلى نظام التوحيد والمر فأبى
المنحرفون إل القدح بإنكاره في أصل التوحيد أو القدح بإثباته في أصل
الشرع ولم تتسع عقولهم التي لم يلق الله عليها من نوره للجمع بين ما
جمعت الرسل جميعهم بينه وهو القدر والشرع والخلق والمر وهدى الله
الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم والنبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على جمع هذين المرين
للمة وقد تقدم قوله" :أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ول تعجز وإن
العاجز من لم يتسع للمرين" وبالله التوفيق.
) (9/4
شفاء العليل
الباب الثامن :في قوله تعالى أن الذين سبقت لهم منا الحسنى
ُ
سَنى أول َئ ِ َ
ك عَن َْها مّنا ال ْ ُ
ح ْ ت ل َهُ ْ
م ِ ق ْ
سب َ َ
ن َ ن ال ّ ِ
ذي َ الباب الثامن :في قوله تعالى} :إ ِ ّ
ن{دو َ
مب ْعَ ُ
ُ
قد تقدمت الحاديث بوقوع أهل السعادة في إحدى القبضتين وكتابتهم
31
بأسمائهم وأسماء آبائهم في ديوان السعداء قبل خلقهم وفي صحيح الحاكم
من حديث الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال:
م{ قال المشركون جهَن ّ َ
ب َص ُ ن الل ّهِ َ
ح َ ن ُدو ِ م ْ ن ِ دو َ ما ت َعْب ُ ُ
م وَ َ"لما نزلت} :إ ِن ّك ُ ْ
نذي َ ن ال ّ ِ
فالملئكة وعيسى وعزيرا يعبدون من دون الله قال فنزلت} :إ ِ ّ
ن{" وهذا إسناد صحيح وقال علي دو َ مب ْعَ ُك عَن َْها ُسَنى ُأول َئ ِ َ مّنا ال ْ ُ
ح ْ ت ل َهُ ْ
م ِ ق ْ
سب َ َ
َ
بن المديني ثنا يحيى بن آدم ثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم قال أخبرني أبو
رزين عن أبي يحيى عن ابن عباس أنه قال" :آية ل يسأل الناس عنها ل أدري
أعرفوها فلم يسألوا عنها أو جهلوها فل يسألون عنها فقيل له وما هي فقال:
لما نزلت} :إنك ُم وما تعبدون من دون الل ّه حصب جهن َ
ن{ م ل ََها َوارُِدو َ م أن ْت ُ ِْ َ َ ُ َ َ ّ َ ِّ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ ِ ْ ُ ِ
شق ذلك على قريش أو على أهل مكة وقالوا يشتم آلهتنا فجاء ابن الزبعري
ن
دو َ
ما ت َعْب ُ ُم وَ َ فقال :مالكم قالوا :يشتم آلهتنا قال :وما قال قالوا :قال} :إ ِن ّك ُ ْ
من دون الل ّه حصب جهن َ
ن{ قال :ادعوه لي فلما دعي النبي م ل ََها َوارُِدو َ م أن ْت ُ ْ ِ َ َ ُ َ َّ َ ِ ْ ُ ِ
صلى الله عليه وسلم قال :يا محمد هذا شيء للهتنا خاصة أم لكل من عبد
من دون الله فقال :ل بل لكل من عبد من دون الله قال فقال ابن الزبعري:
خصمت ورب هذه البنية يعني الكعبة ألست تزعم أن الملئكة عباد صالحون
وأن عيسى عبد صالح وأن عزيرا عبد صالح وهذه بنو مليح تعبد الملئكة
وهذه النصارى تعبد عيسى وهذه اليهود تعبد عزيرا قال فضج أهل مكة فأنزل
) (10/1
32
) (10/2
عبدوا بزعمهم من ادعى أنه معبود مع الله وأنه معه إله وقد برأ الله سبحانه
ملئكته والمسيح وعزيرا من ذلك وإنما ادعى ذلك الشياطين وهم بزعمهم
يعتقدون أنهم يرضون بأن يكونوا معبودين مع الله ول يرضى بذلك إل
ملئ ِك َ ِ
ة ل ل ِل ْ َ قو ُ م يَ ُ ميعا ً ث ُ ّ ج ِ م َ شُرهُ ْ ح ُ م يَ ْ الشياطين ولهذا قال سبحانه} :وَي َوْ َ
َ أ َهَ ُ
ن
دو َ كاُنوا ي َعْب ُ ُ ل َ م بَ ْ ن ُدون ِهِ ْ م ْ ت وَل ِي َّنا ِ ك أن ْ َ حان َ َ سب ْ َ ن َقاُلوا ُ دو َ كاُنوا ي َعْب ُ ُ م َ ؤلِء إ ِّياك ُ ْ
نل ال ْجن أ َك ْث َرهُم بهم مؤْمنون{ وقال تعالى} :أ َل َم أ َعْهد إل َيك ُم يا بِني آد َ
مأ ْ َ َ َ ْ ِ ْ ْ َ َ ْ ُ ْ ِِ ْ ُ ِ ُ َ ِ ّ
عَباد ٌ ل ِ ه بَ ْ حان َُ سب ْ َ ُ ً ا لدَ و
ّ َ ُ َ ن م ح
ْ ر ال َ ذ خ
َ ّ تا لوا ُ قاَ َ و } تعالى: وقال ن{ َ َ
طا ْ ي ّ
ش ال دوا ت َعْب ُ ُ
َ َ ُ َ ْ
مام وَ َ ديهِ ْ ن أي ْ ِ ما ب َي ْ َ م َ ن ي َعْل ُ ملو َ مرِهِ ي َعْ َ م ب ِأ ْ ل وَهُ ْ قو ْ ِ ه ِبال َ قون َ ُ سب ِ ُ ن ل يَ ْ مو َ مك َْر ُ ُ
م
من ْهُ ْ ل ِ ق ْ ن يَ ُ َ ْ م
َ و ن
َ قو ُ ِ ف ش ْ م
ُ ِ ه ِ تَ ي ْ
ش خ
َ ن
ْ م
ِ م
ْ ُ ه َ و ضى َ َ ت ر
ِ ْا ن م
َ ِ ل لّ ِ إ ن
َ عو ُ َ ف ش ْ َ ي ول ُ َ م
ْ ه َ ف ْ ل خ
َ
ن{ فما عبد غير الله َ مي ِ ِ ل ّ
ظا ال زي ِ ج
ْ َ ن َ
ك ِ لَ ذ َ ك م َ ّ ن َ ه ج
َ ِ ه زيِ ج
ْ َ ن َ
ك ِ ل َ ذ َ ف ِ ه ِ ن دو ُ ن
ْ مِ هإ ِّني إ ِل َ ٌ
مّنا م ِ ت ل َهُ ْ ق ْ سب َ َ ن َ ذي َ ن ال ّ ِ إل الشيطان وهذه الجوبة منتزعة من قوله} :إ ِ ّ
سَنى{ فتأمل الية تجدها تلوح في صفحات ألفاظها وبالله التوفيق ح ْ ال ْ ُ
والمقصود ذكر الحسنى التي سبقت من الله لهل السعادة قبل وجودهم
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم ثنا أبو سعيد بن يحي بن سعيد ثنا أبو عامر
العقدي ثنا عروة بن ثابت النصاري ثنا الزهري عن إبراهيم بن عبد الرحمن
بن عوف" :أن عبد الرحمن بن عوف مرض مرضا شديدا أغمي عليه فأفاق
فقال :أغمي علي قالوا :نعم قال :إنه أتاني رجلن غليظان فأخذا بيدي فقال:
انطلق نحاكمك إلى العزيز المين فانطلقا بي فتلقاهما رجل وقال :أين
تريدان به قال :نحاكمه إلى العزيز المين فقال :دعاه فإن هذا ممن سبقت
له السعادة وهو في بطن أمه" وقال عبد الله بن
) (10/3
محمد البغوي ثنا داود بن رشيد ثنا ابن علية حدثني محمد بن محمد القرشي
عن عامر بن سعد قال" :أقبل سعد من أرض له فإذا الناس عكوف على
رجل فاطلع فإذا هو يسب
ص -28-نبي من النبياء فانطلق فدخل دارا فتوضأ ودخل المسجد ثم قال:
اللهم إن كان هذا قد سب أقواما قد سبقت لهم منك حسنى أسخطك سبه
إياهم فأرني اليوم آية تكون للمؤمنين آية وقال تخرج بختية من دار بني فلن
ل يردها شيء حتى تنتهي إليه ويتفرق الناس وتجعله بين قوائمها وتطأه حتى
طفى قال :فأنا رأيت سعدا يتبعه الناس يقولون استجاب الله لك يا أبا
ق
ح ّدوا ِفي الل ّهِ َ جاهِ ُ إسحاق استجاب الله لك يا أبا إسحاق وقال تعالى} :وَ َ
َ ّ
و
م هُ َ
هي َ ة أِبيك ُ ْ
م إ ِب َْرا ِ مل َ حَرٍج ِ ن َم ْن ِ دي ِم ِفي ال ّ ل عَل َي ْك ُ ْ
جعَ َ ما َ م وَ َ جت ََباك ُ ْ جَهادِهِ هُوَ ا ْ ِ
ذا{ أي الله سماكم من قبل القرآن وفي ل وَِفي هَ َ ن قَب ْ ُ ْ م
ِ ن
َ مي ِ ِ ل س
ُ ْ مْ لا مُ ك
َ ّ ُما س
القرآن فسبقت تسمية الحق سبحانه لهم مسلمين قبل إسلمهم وقبل
مم ل َهُ ُن إ ِن ّهُ ْ سِلي َ مْر َ مت َُنا ل ِعَِبادَِنا ال ْ ُ
ت ك َل ِ َ ق ْ سب َ َ قد ْ َوجودهم وقال تعالى} :وَل َ َ
ن{ وقال ابن عباس في رواية الوالي عنه م ال َْغال ُِبو َ جن ْد ََنا ل َهُ ُ
ن ُ ن وَإ ِ ّ صوُرو َ ال ْ َ
من ْ ُ
َ
م{ قال سبقت لهم عن ْد َ َرب ّهِ ْق ِصد ْ ٍم ِ م قَد َ َ ن ل َهُ ْ مُنوا أ ّ نآ َ ذي َشرِ ال ّ ِ في قوله} :وَب َ ّ
السعادة في الذكر الول وهذا ل يخالف قول من قال أنه العمال الصالحة
33
التي قدموها ول قول من قال أنه محمد صلى الله عليه وسلم فإنه سبق لهم
من الله في الذكر الول السعادة بأعمالهم على يد محمد صلى الله عليه
وسلم فهو خير تقدم لهم من الله ثم قدمه لهم على يد رسوله ثم يقدمهم
م ما أ َ َ
خذ ْت ُ ْ سك ُ ْ
م ِفي َ سب َقَ ل َ َ
م ّ ن الل ّهِ َ
م َ
ب ِ عليه يوم لقائه وقد قال تعالى} :ل َ ْ
ول ك َِتا ٌ
م{ وقد اختلف السلف في هذا الكتاب السابق فقال جمهور ظي ٌ
ب عَ ِ عَ َ
ذا ٌ
المفسرين من السلف ومن بعدهم لول قضاء من الله سبق لكم يا أهل بدر
) (10/4
في اللوح المحفوظ أن الغنائم حلل لكم لعاقبكم وقال آخرون لول كتاب من
الله سبق أنه ل يعذب أحدا إل بعد الحجة لعاقبكم وقال آخرون لول كتاب من
الله سبق لهل بدر أنه مغفور لهم وإن عملوا ما شاؤا لعاقبهم وقال آخرون
وهو الصواب لول كتاب من الله سبق بهذا كله لمسكم فيما أخذتم عذاب
عظيم والله أعلم.
) (10/5
شفاء العليل
) (11/1
34
عَبادِهِ
ن ِ
م ْ شى الل ّ َ
ه ِ خ َ
ما ي َ ْ
ص -29-عن ابن عباس في قوله تعالى} :إ ِن ّ َ
ماء{ قال" :الذين يقولون إن الله على كل شيء قدير وهذا من فقه ابن ال ْعُل َ َ
عباس وعلمه بالتأويل ومعرفته بحقائق السماء والصفات فإن أكثر أهل
الكلم ل يوفون هذه الجملة حقها ولو كانوا يقرون فمنكرو القدر وخلق أفعال
العباد ل يقرون بها على وجهها ومنكرو أفعال الرب القائمة به ل يقرون بها
على وجهها بل يصرحون أنه ل يقدر على فعل يقوم به ومن ل يقر بأن الله
سبحانه كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء ل يقر بأن الله على كل شيء
قدير ومن ل يقر بأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف
يشاء وأنه سبحانه مقلب القلوب حقيقة وأنه إن شاء يقيم القلب أقامه وإن
شاء أن يزيغه أزاغه ل يقر بأن الله على كل شيء قدير ومن ل يقر بأنه
استوى على عرشه بعد أن خلق السماوات والرض وأنه ينزل كل ليلة إلى
سماء الدنيا يقول من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له وأنه نزل إلى
الشجرة فكلم موسى كلمه منها وأنه ينزل إلى الرض قبل يوم القيامة حين
تخلو من سكانها وأنه يجيء يوم القيامة فيفصل بين عباده وأنه يتجلى لهم
يضحك وأنه يريهم نفسه المقدسة وأنه يضع رجله على النار فيضيق بها أهلها
وينزوي بعضها إلى بعض إلى غير ذلك من شؤنه وأفعاله التي من لم يقر بها
لم يقر بأنه على كل شيء قدير بأنه على كل شيء قدير" فيا لها كلمة من
حبر المة وترجمان القرآن وقد كان ابن عباس شديدا على القدرية وكذلك
الصحابة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
) (11/2
شفاء العليل
الباب العاشر :في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها واليمان
بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الولى
الباب العاشر :في مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها لم يؤمن
بالقضاء والقدر
وهي أربع مراتب المرتبة الولى على الرب سبحانه بالشياء قبل كونها
المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها المرتبة الثالثة مشيئته لها الرابعة خلقه
لها ،فأما المرتبة الولى :وهي العلم السابق فقد اتفق عليه الرسل من أولهم
إلى خاتمهم واتفق عليه جميع الصحابة ومن تبعهم من المة وخالفهم مجوس
المة وكتابته السابقة تدل على علمه بها قبل كونها وقد قال تعالى} :وَإ ِذ ْ َقا َ
ل
َ ل ِفي ال َْر
سد ُ ِفيَها ف ِ ن يُ ْ
م ْ ل ِفيَها َ جعَ ُ ة َقاُلوا أت َ ْ ف ًخِلي َ ض َ ِ ع ٌجا ِ ملئ ِك َةِ إ ِّني َ ك ل ِل ْ َ َرب ّ َ
َ
ن{ مو َ ما ل ت َعْل َ ُ م َ ل إ ِّني أعْل َ ُ ك َقا َ س لَ َ قد ّ ُ ك وَن ُ َ مد ِ َ ح ْح بِ َسب ّ ُن نُ َ ح ُ ماَء وَن َ ْك الد ّ َ ف ُ س ِوَي َ ْ
قال مجاهد علم من إبليس المعصية وخلقه لها وقال قتادة كان في علمه أنه
سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة وقال ابن
مسعود" :أعلم ما ل تعلمون من إبليس" وقال مجاهد أيضا" :علم من إبليس
ث ل ال ْغَي ْ َ ساعَةِ وَي ُن َّز ُ م ال ّ عل ْ ُ عن ْد َه ُ ِ
ه ِ ن الل ّ َ أنه ل يسجد لدم" وقال تعالى} :إ ِ ّ
َ
ي
س ب ِأ ّ ف ٌ ما ت َد ِْري ن َ ْ غدا ً وَ َ
ب َ س ُ ماَذا ت َك ْ ِ س َ ف ٌ ما ت َد ِْري ن َ ْ حام ِ وَ َ ما ِفي ال َْر َ م َ وَي َعْل َ ُ
خِبيٌر{ وفي المسند من حديث لقيط بن عامر عن م َ ّ َ
ه عَِلي ٌ ن الل َ ت إِ ّ مو ُض تَ ُ أْر ٍ
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" :يا رسول الله ما عندك من علم الغيب
35
فقال :ضن ربك بمفاتيح خمس من الغيب ل يعلمها إل الله وأشار بيده فقلت:
ما هن قال علم المنية قد علم متى منية أحدكم ول تعلمونه وعلم المنى حين
يكون في الرحم قد علمه ول تعلمونه وعلم ما في غد قد علم ما أنت طاعم
ول تعلمه وعلم يوم الغيث يشرق عليكم مشفقين فيظل يضحك
) (12/1
قد علم أن غوثكم إلى قريب قال لقيط لن نعدم من رب يضحك خيرا وعلم
يوم الساعة" وقد تقدم حديث علي المتفق على صحته" :ما منكم من أحد ما
من نفس منفوسة إل وقد علم مكانها من الجنة أو النار" وقال البزار حدثنا
محمد بن عمر بن هياج الكوفي ثنا عبيد الله بن موسى ثنا فضيل بن مرزوق
عن عطية عن
ص -30-أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه قال" :يؤتى
بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود فيقول الهالك في الفترة لم يأتني
كتاب ول رسول ويقول المعتوه أي رب لم تجعل لي عقل أعقل به خيرا ول
شرا ويقول المولود أي رب لم أدرك العمل قال فيرفع لهم نار فيقال لهم
ردوها أو قال أدخلوها فيردها من كان في علم الله سعيدا أن لو أدرك العمل
قال ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا أن لو أدرك العمل فيقول
تبارك وتعالى إياي عصيتم فكيف رسلي بالغيب" وفي الصحيحين عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" :ما من مولود يولد إل على
الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعا هل
تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها قالوا :يا رسول الله
أفرأيت من يموت منهم وهو صغير قال الله أعلم بما كانوا عاملين" ومعنى
َ َ
ن
م ِ
ت َالحديث الله أعلم بما كانوا عاملين لو عاشوا وقد قال تعالى} :أفََرأي ْ َ
ه عََلى ِ ْ َ
م{ قال ابن عباس :علم ما يكون قبل أن عل ٍ ه الل ّ ُ
ضل ّ ُ
واه ُ وَأ َ خذ َ إ ِل َهَ ُ
ه هَ َ ات ّ َ
يخلقه وقال أيضا على علم قد سبق عنده وقال أيضا :يريد المر الذي سبق
له في أم الكتاب وقال سعيد بن جبير ومقاتل :على علمه فيه وقال أبو
إسحاق :أي على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه وهذا الذي ذكره
جمهور المفسرين وقال الثعلبي :على علم منه بعاقبة أمره قال وقيل على
ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه وكذلك ذكر البغوي وأبو الفرج بن
الجوزي قال :على علمه السابق فيه أنه ل يهتدي وذكر طائفة منهم المهدوي
وغيره :قولين في الية
) (12/2
هذا أحدهما قال المهدوي :فأضله الله على علم علمه منه بأنه ل يستحقه
قال :وقيل على علم من عابد الصنم أنه ل ينفع ول يضر وعلى الول يكون
على علم حال من الفاعل المعنى أضله الله عالما بأنه من أهل الضلل في
سابق علمه وعلى الثاني حال من المفعول أي أضله الله في حال علم
الكافر بأنه ضال قلت وعلى الوجه الول فالمعنى أضله الله عالما به وبأقواله
وما يناسبه ويليق به ول يصلح له غيره قبل خلقه وبعده وأنه أهل للضلل
36
وليس أهل أن يهدي وأنه لو هدى لكان قد وضع الهدى في غير محله وعند
من ل يستحقه والرب تعالى حكيم إنما يضع الشياء في محالها اللئقة بها
فانتظمت الية على هذا القول في إثبات القدر والحكمة التي لجلها قدر
عليه الضلل وذكر العلم إذ هو الكاشف المبين لحقائق المور ووضع الشيء
في مواضعه وإعطاء الخير من يستحقه ومنعه من ل يستحقه فإن هذا ل
يحصل بدون العلم فهو سبحانه أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلله
وتقتضيه وتستدعيه وهو سبحانه كثيرا ما يذكر ذلك مع إخباره بأنه أضل
ن َ ه يَ ْ الكافر كما قال} :فَمن يرد الل ّ َ
ن ي ُرِد ْ أ ْ م ْ سلم ِ وَ َ صد َْره ُ ل ِل ِ ْ ح َ شَر ْ ن ي َهْدِي َ ُ هأ ْ ُ َ ْ ُ ِ ِ
هّ َ ً
جعَل الل ُ ُ َ
ماِء كذ َل ِك ي َ ْ َ س َ صعّد ُ ِفي ال ّ ما ي َ ّ حَرجا كأن ّ َ َ ضّيقا ً َ صد َْره ُ َ ل َ جعَ ْ ه يَ ْضل ّ ُيُ ِ
دي ب ِهِ ك َِثيرا ً ه
ََْ ِ يو ً ا ثير َ ك
ُ ِ ِ ِ ِ ه ب ل ّ ض ي } تعالى: وقال ن{ نو
ُ ِ ُ َ م ْ ؤ ي ل ن
ِ َ ذي ّ ل ا لى َ ال ّ ْ َ َ
ع س ج ر
قط َُعو َ
ن ميَثاقِهِ وَي َ ْ ن ب َعْد ِ ِ م ْ ن عَهْد َ الل ّهِ ِ ضو َ ق ُ ن ي َن ْ ُ ذي َ ن ال ّ ِ قي َ س ِفا ِ ل ب ِهِ إ ِل ّ ال ْ َ ض ّ ما ي ُ ِ وَ َ
م ال ْ َ ض أول َئ ِ َ ُ َ َ َ
ن{ وقال سُرو َ خا ِ ك هُ ُ ن ِفي الْر ِ دو َ س ُ ف ِ ل وَي ُ ْ ص َ ن ُيو َ ه ب ِهِ أ ْ مَر الل ّ ُ ما أ َ َ
ن{: قي
ِ ِ َ س فا َ ْ لا مْ َ و َ ق ْ ل ا دي ه
َْ ِ ي ل ه
َ ُ ّ ل وال } ن{: ِ َ مي ِ ل ظا ّ ال م ْ َ و َ قْ ل ا دي ه
َْ ِ ي ل ه
َ ُ ّ ل وال } تعالى:
ن{} :ك َذ َل ِ َ
ك َ مي ِ ِ ل ظا ّ ال ه
ُ ّ لال ّ
ل ض
ِ ي
َُ و } ر{: ٌ فا ّ َ ك ب ٌ ِ ذ كاَ و
َ ْ َ ُ ه ن م دي ِ ه ل ي َهْ ن الل ّ َ }إ ِ ّ
) (12/3
مت َك َب ّ ٍ
ر ب ُ ل قَل ْ ِ ه عََلى ك ُ ّ ك ي َط ْب َعُ الل ّ ُ ب{} :ك َذ َل ِ َ مْرَتا ٌ ف ُ سرِ ٌ م ْ ن هُوَ ُ م ْ
ه َ ل الل ّ ُ ض ّيُ ِ
ن{ وقد أخبر سبحانه أنه مو َ َ
ن ل ي َعْل ُ ذي َ ّ
ب ال ِ ُ
ه عَلى قُلو ِ َ ّ ْ َ َ
جّباٍر{} :كذ َل ِك ي َطب َعُ الل ُ َ
يفعل ذلك عقوبة لرباب هذه الجرائم وهذا إضلل ثان بعد الضلل الول كما
ن إ ِل ّ مُنو َ م َفل ي ُؤْ ِ فرِهِ ْ ه عَل َي َْها ب ِك ُ ْ ل ط َب َعَ الل ّ ُ ف بَ ْ م قُُلوب َُنا غُل ْ ٌ قال تعالى} :وَقَوْل ِهِ ْ
َ َ
مب أفْئ ِد َت َهُ ْ قل ّ ُ
ن وَن ُ َ مُنو َ ت ل ي ُؤْ ِ جاَء ْ م أن َّها إ َِذا َ شعُِرك ُ ْ ما ي ُ ْ ل{ وقال تعالى} :وَ َ قَِلي ً
َ َ
ن{ وقال: مُهو َ م ي َعْ َ م ِفي ط ُغَْيان ِهِ ْ مّرةٍ وَن َذ َُرهُ ْ ل َ مُنوا ب ِهِ أوّ َ م ي ُؤْ ِ ما ل َ ْم كَ َصاَرهُ ْ وَأب ْ َ
ل}وَإ ِذ ْ َقا َ
) (12/4
37
التكذيب وقال مجاهد فما كانوا لو أحييناهم بعد هلكهم ليؤمنوا بما كذبوا به
من قبل هلكهم قلت وهو نظير قوله} :وَل َوْ ُرّدوا ل ََعاُدوا ل ِ َ
ما ن ُُهوا عَْنه{ وقال
آخرون لما جاءتهم رسلهم باليات التي اقترحوها وطلبوها ما كانوا
) (12/5
ليؤمنوا بعد رؤيتها ومعاينتها بما كذبوا به من قبل رؤيتها ومعاينتها فمنعهم
تكذيبهم السابق بالحق لما عرفوه من اليمان به بعد ذلك وهذه عقوبة من
رد الحق أو أعرض عنه فلم يقبله فإنه يصرف عنه ويحال بينه وبينه ويقلب
قلبه عنه فهذا إضلل العقوبة وهو من عدل الرب في عبده وأما الضلل
السابق الذي ضل به عن قبوله أول والهتداء به فهو إضلل ناشئ عن علم
الله السابق في عبده أنه ل يصلح للهدى ول يليق به وأن محله غير قابل له
فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه كما هو أعلم حيث يجعل رسالته فهو
أعلم حيث يجعلها أصل وميراثا وكما أنه ليس كل محل أهل لتحمل الرسالة
عنه وأدائها إلى الخلق فليس كل محل أهل لقبولها والتصديق بها كما قال
ن ب َي ْن َِنا م ْ م ِه عَل َي ْهِ ْ ن الل ّ ُ م ّؤلِء َ قوُلوا أ َهَ ُ ض ل ِي َ ُ
م ب ِب َعْ ٍ ضهُ ْ ك فَت َّنا ب َعْ َ تعالى} :وَك َذ َل ِ َ
أ َل َيس الل ّ َ
ن{ أي ابتلينا واختبرنا بعضهم ببعض فابتلى ري َ
شاك ِ ِ م ِبال ّ ه ب ِأعْل َ َ ُ ْ َ
الرؤساء والسادة بالتباع والموالى والضعفاء فإذا نظر الرئيس والمطاع إلى
المولى والضعيف أنفة وأنف أن يسلم وقال هذا يمن الله عليه بالهدى
والسعادة دوني قال الله تعالى} :أ َل َيس الل ّ َ
ن{ وهم الذين ري َ شاك ِ ِ م ِبال ّ ه ب ِأعْل َ َُ ْ َ
يعرفون النعمة وقدرها ويشكرون الله عليها بالعتراف والذل والخضوع
والعبودية فلو كانت قلوبكم مثل قلوبهم تعرفون قدر نعمتي وتشكروني عليها
وتذكروني بها وتخضعون لي كخضوعهم وتحبوني كحبهم لمننت عليكم كما
ل ل تليق إل بها ول تحسن إل عندها مننت عليهم ولكن لمنني ونعمي محا ّ
َ َ
ه ب ِأعْل َ َ
م س الل ّ ُ ولهذا يقرن كثيرا بين التخصيص والعلم كقوله ههنا} :أل َي ْ َ
ُ
ي
ما أوت ِ َ ل َ مث ْ َحّتى ن ُؤَْتى ِ ن َم َن ن ُؤْ ِة َقاُلوا ل َ ْ م آي َ ٌجاَءت ْهُ ْن{ وقوله} :وَإ َِذا َ ري َشاك ِ ِ ِبال ّ
َ
شاُء ما ي َ َ خل ُقُ َ ك يَ ْ ه{ وقوله} :وََرب ّ َ سال َت َ ُ ل رِ َ جعَ ُ ث يَ ْ حي ْ ُ
م َ ه أعْل َ ُ ل الل ّهِ الل ّ ُ س ُ ُر ُ
ن
كا َ ما َ خَتاُر َ وَي َ ْ
) (12/6
مدوُرهُ ْ
ص ُن ُ ما ت ُك ِ ّ
م َ ك ي َعْل َ ُ
ن وََرب ّ َكو َ شرِ ُ ن الل ّهِ وَت ََعاَلى عَ ّ
ما ي ُ ْ حا َ
سب ْ َ م ال ْ ِ
خي ََرة ُ ُ ل َهُ ُ
ن{ أي سبحانه المتفرد بالخلق والختيار مما خلق وهو الصطفاء ما ي ُعْل ُِنو َ وَ َ
والجتباء ولهذا كان الوقف التام عند قوله ويختار ثم نفى عنهم الختيار الذي
اقترحوه بإرادتهم وأن ذلك ليس إليهم بل إلى الخلق العليم الذي هو أعلم
ن
م َل ِ
ج ٍن عََلى َر ُ قْرآ ُ ذا ال ْ ُ
ل هَ َ ول ن ُّز َل الختيار ومواضعه ل من قال} :ل َ ْ بمحا ّ
م{ فأخبر سبحانه أنه ل يبعث الرسل باختيارهم ظي ٍن عَ ِ ال ْ َ
قْري َت َي ْ ِ
) (12/7
38
ص -32-وأن البشر ليس لهم أن يختاروا على الله بل هو الذي يخلق ما
يشاء ويختار ثم نفى سبحانه أن تكون لهم الخيرة كما ليس لهم الخلق ومن
زعم أن ما مفعول يختار فقد غلط إذ لو كان هذا هو المراد لكانت الخيرة
منصوبة على أنها خبر كان ول يصح المعنى ما كان لهم الخيرة فيه وحذف
العائد فإن العائد ههنا مجرور بحرف لم يجر الموصول بمثله فلو حذف مع
الحرف لم يكن عليه دليل فل يجوز حذفه وكذلك لم يفهم معنى الية من قال
أن الختيار ههنا هو الرادة كما يقوله المتكلمون أنه سبحانه فاعل بالختيار
فإن هذا الصطلح حادث منهم ل يحمل عليه كلم الله بل لفظ الختيار في
القرآن مطابق لمعناه في اللغة وهو اختيار الشيء على غيره وهو يقتضي
ترجيح ذلك المختار وتخصيصه وتقديمه على غيره وهذا أمر أخص من مطلق
الرادة والمشيئة قال في الصحاح الخيرة السم من قولك خار الله لك في
هذا المر والخيرة أيضا يقول محمد خيرة الله من خلقه وخيرة الله أيضا
بالتسكين والختيار الصطفاء وكذلك التخيير والستخارة طلب الخيرة يقال
استخر الله يخر لك وخيرته بين الشيئين فوضت إليه الختيار انتهى فهذا هو
الختيار في اللغة وهو أخص مما اصطلح عليه أهل الكلم ومن هذا قوله:
م ال ْ ِ َ كان ل ِمؤْمن ول مؤْمنة إَذا قَضى الل ّه ورسول ُ َ
خي ََرةُ ن ل َهُ ُ
كو َ ن يَ ُمرا ً أ ْ
هأ ْ ُ ََ ُ ُ َ ما َ َ َ ُ ِ ٍ َ ُ ِ َ ٍ ِ}وَ َ
قات َِنا{ أي مي َ ً
جل ل ِ ِ ن َر ُسب ِْعي َ
ه َ سى قَوْ َ
م ُ مو َ
خَتاَر ُ
م{ وقوله تعالىَ} :وا ْمرِهِ ْ
نأ ْم ْ
ِ
اختار منهم وبهذا يحصل جواب السؤال الذي تورده القدرية يقولون في
الكفر والمعاصي هل هي واقعة باختيار الله أم بغير اختياره فإن قلتم
باختياره فكل مختار مرضى مصطفى محبوب فتكون مرضية محبوبة له وإن
قلتم بغير اختياره لم يكن بمشيئته واختياره وجوابه أن يقال ما تعنون
بالختيار العام في اصطلح المتكلمين وهو المشيئة والرادة أم تعنون به
الختيار الخاص الواقع في القرآن والسنة وكلم العرب
) (12/8
وإن أردتم بالختيار الول فهي واقعة باختياره بهذا العتبار لكن ل يجوز أن
يطلق ذلك عليها لما في لفظ الختيار من معنى الصطفاء والمحبة بل يقال
واقعة بمشيئته وقدرته وإن أردتم بالختيار معناه في القرآن ولغة العرب
فهي غير واقعة باختياره بهذا المعنى وإن كانت واقعة بمشيئته فإن قيل فهل
تقولون أنها واقعة بإرادته أم ل تطلقون ذلك قيل لفظ الرادة في كتاب الله
د{ وقوله: ري ُ ما ي ُ ِ ل لِ َنوعان إرادة كونية شاملة لجميع المخلوقات كقوله} :فَّعا ٌ
َ َ َ
م{ ونظائر ُ
ن ي ُغْوِي َك ْ ريد ُ أ ْ ه يُ ِن الل ّ ُ كا َ ن َ ة{ وقوله} :إ ِ ْ ك قَْري َ ًن ن ُهْل ِ َ}وَإ َِذا أَرد َْنا أ ْ
سَر{م ال ْي ُ ْ
ه ب ِك ُ ُ ريد ُ الل ّ ُأمرية ل يجب وقوع مرادها كقوله} :ي ُ ِ ذلك وإرادة دينية
َ َ
م{ فهي مرادة بالمعنى الول غير مرادة ُ
ب عَلي ْك ْ ن ي َُتو َ ريد ُ أ ْه يُ ِوقولهَ} :والل ّ ُ
بالمعنى الثاني وكذلك إن قيل هل هي واقعة بإذنه أم ل والذن أيضا نوعان
كوني كقوله} :وما هُم بضارين به م َ
ه{ وديني أمري كقوله: ن الل ّ ِ حد ٍ إ ِّل ب َِإ ِذ ْ ِ نأ َ ْ ِ َ ّ َ ِ ِ ِ ْ َ َ
موا{ ولفظ الختيار ل ُ ظ م ه ن أب ن لو ُ ت قاَ ي ن ذي ّ ل ل ن ذُ أ } وقوله: كم{ ن لَ ُ }آلل ّ َ
ِ ُ ِ َ ِ ِ َ ُ َ َ ِ ُّ ْ ه أذِ َ ُ
مشتق من الخير المخالف للشر ولما كان الصل في الحي أنه يريد ما ينفعه
وما هو خير سميت الرادة اختيارا وهذا يتضمن أن الرادة اختيارا ل ترجح
نوعا على نوع إل لمرجح رجح ذلك النوع عند الفاعل والمقصود أنه يذكر
عل ْم ٍ عََلى م عََلى ِ خت َْرَناهُ ْ قد ِ ا ْ العلم عند التخصيصات كقوله تعالى} :وَل َ َ
39
ن{ ل خلف بين الناس أن المعنى على علم منا بأنهم أهل الختيار مي َ ال َْعال َ ِ
فالجملة في موضع نصب على الحال أي اخترناهم عالمين بهم وبأحوالهم وما
يقتضي اختيارهم من قبل خلقهم ذكر سبحانه اختيارهم وحكمته في اختياره
إياهم وذكر علمه الدال على مواضع حكمته واختياره ومن هذا قوله سبحانه:
ل وَك ُّنا ب ِ ِ
ه ن قَب ْ ُ
م ْ م ُر ْ
شد َه ُ ِ هي َ
قد ْ آت َي َْنا إ ِب َْرا ِ}وَل َ َ
) (12/9
ن{ وأصح القوال في الية أن المعنى من قبل نزول التوراة فإنه مي َ
عال ِ ِ
َ
ن
هاُرو َ
سى وَ َ
مو َ
قد ْ آت َي َْنا ُ َ
سبحانه قال} :وَل َ
ذا ذك ْر مبار ٌ َ
ك أن َْزل َْناهُ ن{ وقال} :وَهَ َ ِ ٌ ُ َ َ قي َمت ّ ِ كرا ً ل ِل ْ ُضَياًء وَذِ ْ ن وَ ِ فْرَقا َ ص -33-ال ْ ُ
ن{ ثم قال} :وَل َ َ َ َ
ل{ ذلك ولهذا ن قَب ْ ُم ْ شد َه ُ ِ م ُر ْ هي َ قد ْ آت َي َْنا إ ِب َْرا ِ من ْك ُِرو َ ه ُ م لَ ُ أفَأن ْت ُ ْ
قطعت قبل عن الضافة وبنيت لن المضاف منوي معلوم وإن كان غير
مذكور في اللفظ وذكر سبحانه هؤلء الثلثة وهم أئمة الرسل وأكرم الخلق
عليه محمد وإبراهيم وموسى وقد قيل من قبل أي في حال صغره قبل
البلوغ وليس في اللفظ ما يدل على هذا السياق إنما يقتضي من قبل ما ذكر
وقيل المعنى بقوله من قبل أي في سابق علمنا وليس في الية أيضا ما يدل
على ذلك ول هو أمر مختص بإبراهيم بل كل مؤمن فقد قدر الله هداه في
ن{ قال البغوي" :أنه أهل مي َ عال ِ ِ سابق علمه والمقصود قوله} :وَك ُّنا ب ِهِ َ
للهداية والنبوة" وقال أبو الفرج" :أي عالمين بأنه موضع ليتاء الرشد" وقال
صاحب الكشاف" :المعنى علمه به أنه علم منه أحوال بديعة وأسرارا عجيبة
وصفات قد رضيها وحمدها حتى أهله لمخالته ومخالصته وهذا كقولك في حر
من الناس أنا عالم بفلن فكلمك هذا من الحتواء على محاسن الوصاف"
م عََلى ه{ وقوله} :وَل َ َ وهذا كقوله} :الل ّ َ
خت َْرَناهُ ْقد ِ ا ْ سال َت َ ُ ل رِ َ جعَ ُ ث يَ ْ حي ْ ُ م َ ه أعْل َ ُ ُ
ن را م ع َ
ل وآ م هي را ب إ َ
ل وآ ً انوح و م د آ فى َ َ ط ص ا ه ّ ل ال ن إ } قوله: م{ ونظيره ِ ْ
ِ ْ َ َ َِْ ِ َ َ َ َ َ َُ َ ْ ِ ّ عل ٍ
م{ وقريب منه قوله: ميعٌ عَِلي ٌ س ِه َ ض َوالل ّ ُ ن ب َعْ َ ٍ م ْ ضَها ِ ة ب َعْ ُ ن ذ ُّري ّ ًمي َ عََلى ال َْعال َ ِ
ّ َ َ
ض الِتي َباَرك َْنا ِفيَها وَك ُّنا ب ِك ُ ّ
ل مرِهِ إ ِلى الْر ِ ري ب ِأ ْ ج ِ ة تَ ْف ًص َ عا ِ ح َ ن الّري َ ما َ سل َي ْ َ}وَل ِ ُ
ن{ حيث وضعنا هذا التخصيص في المحل الذي يليق به من مي َ عال ِ ِ يٍء َ ش ْ َ
الماكن والناسي.
فصل :وهو سبحانه كما هو العليم الحكيم في اختياره
) (12/10
من يختاره من خلقه وإضلله من يضله منهم فهو العليم الحكيم بما في أمره
ب عَل َي ْك ُ ُ
م وشرعه من العواقب الحميدة والغايات العظيمة قال تعالى} :ك ُت ِ َ
َ َ
حّبوان تُ ِ سى أ ْ خي ٌْر ل َك ُ ْ
م وَعَ َ شْيئا ً وَهُوَ َهوا َ ن ت َك َْر ُ سى أ ْ م وَعَ َ ل وَهُوَ ك ُْرهٌ ل َك ُ ْ
قَتا ُال ْ ِ
َ
ن{ بين سبحانه أن ما أمرهم به مو َ م ل ت َعْل َ ُ م وَأن ْت ُ ْ ه ي َعْل َ ُ
م َوالل ّ ُ شّر ل َك ُ ْ
شْيئا ً وَهُوَ ََ
يعلم ما فيه من المصلحة والمنفعة لهم التي اقتضت أن يختاره ويأمرهم به
وهم قد يكرهونه إما لعدم العلم وإما لنفور الطبع فهذا علمه بما في عواقب
أمره مما ل يعلمونه وذلك علمه بما في اختياره من خلقه بما ل يعلمونه فهذه
الية تضمنت الحض على التزام أمر الله وإن شق على النفوس وعلى الرضا
40
بقضائه وإن كرهته النفوس وفي حديث الستخارة" :اللهم إني أستخيرك
بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك فإنك تقدر ول أقدر وتعلم ول
أعلم وأنت علم الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا المر خير لي في ديني
ومعاشي وعاقبة أمري فأقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت
تعلمه شرا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه
وأقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به" ،ولما كان العبد يحتاج في فعل ما
ينفعه في معاشه ومعاده إلى علم ما فيه من المصلحة وقدرة عليه وتيسره
له وليس له من نفسه شيء من ذلك بل علمه ممن علم النسان ما لم يعلم
وقدرته منه فإن لم يقدره عليه وإل فهو عاجز وتيسيره منه فإن لم ييسره
عليه وإل فهو متعسر عليه بعد إقداره أرشده النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم إلى محض العبودية وهو جلب الخيرة من العالم بعواقب المور
وتفاصيلها وخيرها وشرها وطلب القدرة منه فإنه إن لم يقدره وإل فهو عاجز
وطلب فضله منه فإن لم ييسره له ويهيئه له وإل فهو متعذر عليه ثم إذا
اختاره له بعلمه وأعانه عليه بقدرته ويسره له من فضله فهو يحتاج إلى أن
يبقيه عليه ويديمه بالبركة التي يضعها فيه والبركة
) (12/11
تتضمن ثبوته ونموه وهذا قدر زائد على إقداره عليه وتيسيره له ثم إذا فعل
ذلك كله فهو محتاج إلى أن يرضيه به فإنه قد يهيئ له ما يكرهه فيظل
ساخطا ويكون قد خار الله له فيه قال عبد الله بن عمران" :الرجل ليستخير
الله فيختار له فيسخط على ربه فل يلبث ان ينظر في العاقبة فإذا هو قد
خار له" وفي المسند من
ص -34-حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم" :من
سعادة ابن آدم استخارته الله تعالى ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله
ومن شقوة ابن آدم تركة استخارة الله عز وجل ومن شقوة ابن آدم سخطه
بما قضى الله فالمقدور يكتنفه أمران الستخارة قبله والرضا بعده فمن
توفيق الله لعبده وإسعاده إياه أن يختار قبل وقوعه ويرضى بعد وقوعه ومن
خذلنه له أن ل يستخيره قبل وقوعه ول يرضى به بعد وقوعه وقال عمر بن
الخطاب" :ل أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره لني ل أدري الخير
فيما أحب أو فيما أكره" وقال الحسن" :ل تكرهوا النقمات الواقعة والبليا
الحادثة فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك ولرب أمر تؤثره فيه عطبك".
ق
ح ّ ْ
ؤيا ِبال َه الّر ْ سول َ ُ ه َر ُ صد َقَ الل ّ ُ قد ْ َ فصل :ومما يناسب هذا قوله تعالى} :ل َ َ
نل ري َ ص ِ
ق ّم َم وَ ُسك ُ ْ ؤو َ ن ُر ُ قي َ حل ّ ِم َ ن ُ مِني َ هآ ِشاَء الل ّ ُ ن َم إِ ْ حَرا َ جد َ ال ْ َ س ِ م ْ ن ال ْ َخل ُ ّ
ل َت َد ْ ُ
ريبًا{ بين سبحانه ك فَْتحا ً قَ ِ ن ذ َل ِ َن ُدو ِ م ْ ل ِ جعَ َموا فَ َ م ت َعْل َ ُ ما ل َ ْ م َ ن فَعَل ِ َ خاُفو َ تَ َ
حكمة ما كرهوه عام الحديبية من صد المشركين لهم حتى رجعوا ولم
يعتمروا وبين لهم أن مطلوبهم يحصل بعد هذا فحصل في العام القابل وقال
ريبًا{ وهو صلح ك فَْتحا ً قَ ِ ن ذ َل ِ َ ن ُدو ِ م ْل ِ جعَ َ موا فَ َ م ت َعْل َ ُ ما ل َ ْ م َ سبحانه} :فَعَل ِ َ
مِبينًا{ فإن ك فَْتحا ً ُ حَنا ل َ َ الحديبية وهو أول الفتح المذكور في قوله} :إ ِّنا فَت َ ْ
بسببه حصل من مصالح الدين والدنيا والنصر وظهور السلم وبطلن الكفر
ما لم يكونوا يرجونه قبل ذلك ودخل الناس
41
) (12/12
) (12/13
وسلم" :ل يقضي الله للمؤمن قضاء إل كان خيرا له إن أصابته سراء شكر
فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك إل للمؤمن"
فالقضاء كله خير لمن أعطي الشكر والصبر جالبا ما جلب
42
به حجته ثم أخرجه وقومه في صورة الهاربين الفارين منه وكان ذلك عين
نصرتهم على أعدائهم وإهلكهم وهم ينظرون وهذا كله مما يبين أنه سبحانه
يفعل ما يفعله لما يريده من العواقب الحميدة والحكم العظيمة التي ل
تدركها عقول الخلق مع ما في ضمنها من الرحمة التامة والنعمة السابغة
والتعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته فكم في أكل آدم من الشجرة التي نهى
عنها وإخراجه بسببها من الجنة من حكمة بالغة ل تهتدي العقول إلى تفاصيلها
وكذلك ما قدره لسيد ولده من المور التي أوصله بها إلى أشرف غاياته
وأوصله بالطرق الخفية فيها إلى أحمد العواقب وكذلك فعله بعباده وأوليائه
يوصل إليهم نعمة ويسوقهم إلى كمالهم وسعادتهم في الطرق الخفية التي ل
يهتدون إلى معرفتها إل إذا لحت لهم عواقبها وهذا أمر يضيق الجنان عن
معرفة تفاصيله ويحصر اللسان عن التعبير عنه وأعرف خلق الله به أنبياؤه
ورسله وأعرفهم به خاتمهم وأفضلهم وأمته في العلم به على مراتبهم
ودرجاتهم ومنازلهم من العلم بالله وبأسمائه وصفاته وهو سبحانه قد أحاط
) (12/14
علما بذلك كله قبل السماوات والرض وقدره وكتبه عنده ثم يأمر ملئكته
بكتابه ذلك من الكتاب الول قبل خلق العبد فيطابق حاله وشأنه لما كتب في
الكتاب ولما كتبته الملئكة ل يزيد شيئا ول ينقص مما كتبه سبحانه وأثبته
عنده كان في علمه قبل أن يكتبه ثم كتبه كما في علمه ثم وجد كما كتبه قال
َ تعالى} :أ َل َم تعل َ َ
نب إِ ّ ك ِفي ك َِتا ٍن ذ َل ِ َ
ض إِ ّ
ماِء َوالْر ِ س َما ِفي ال ّ م َ ه ي َعْل َ ُ
ن الل ّ َ
مأ ّ ْ َْ ْ
سيٌر{ والله سبحانه قد علم قبل أن يوجد عباده أحوالهم وما ك عََلى الل ّهِ ي َ ِ ذ َل ِ َ
هم عاملون وما هم إليه صائرون ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه
الذي علمه فيهم كما علمه وابتلهم من المر والنهي والخير والشر بما أظهر
معلومه فاستحقوا المدح والذم والثواب والعقاب بما قام بهم من الفعال
والصفات المطابقة للعلم السابق ولم يكونوا يستحقون ذلك وهي في علمه
قبل أن يعملوها فأرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه إعذارا إليهم وإقامة
للحجة عليهم لئل يقولوا كيف تعاقبنا على علمك فينا وهذا ل يدخل تحت
كسبنا وقدرتنا فلما ظهر علمه فيهم بأفعالهم حصل العقاب على معلومه
الذي أظهره البتلء والختبار وكما ابتلهم بأمره ونهيه ابتلهم بما زين لهم
من الدنيا وبما ركب فيهم من الشهوات فذلك ابتله بشرعه وأمره وهذا ابتلء
ة ل َها ل ِنبل ُوهُ َ َ َ
م
م أي ّهُ ْض ِزين َ ً َ َ ْ َ ْ ما عَلى الْر َ ِ جعَل َْنا َ بقضائه وقدره وقال تعالى} :إ ِّنا َ
َ َ َ
ن َ
ست ّةِ أّيام ٍ وَكا َ ض ِفي ِ ت َوالْر َ ماَوا ِ س َخلقَ ال ّ ذي َ ل{ وقال} :وَهُوَ ال ّ ِ م ًن عَ َس ُح َأ ْ
ماِء{ فأخبر في هذه الية أنه خلق السماوات والرض ليبتلي ه عََلى ال ْ َش ُعَْر ُ
عباده بأمره ونهيه وهذا من الحق الذي خلق به خلقه وأخبر في الية التي
قبلها أنه خلق الموت والحياة ليبتليهم أيضا فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه
وقدر عليهم الموت الذي ينالوا به عاقبة ذلك البتلء من الثواب والعقاب وإن
خبر في الية الولى أنه زين
) (12/15
43
لهم ما على الرض ليبتليهم به أيهم يؤثر ما عنده وابتلى بعضهم ببعض
) (12/16
44
"المساكن والنعام وسرابيل الثياب والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه
بأن يقولوا هذا كان لبائنا ورثناه عنهم" وقال عون بن عبد الله" :يقولون لول
فلن لكان كذا وكذا" وقال الفراء وابن قتيبة" :يعرفون أن النعم من الله
ولكن يقولون هذه بشفاعة آلهتنا" وقالت طائفة" :النعمة ههنا محمد صلى
دي وهذاالله عليه وسلم وإنكارها جحدهم نبوته" وهذا يروى عن مجاهد والس ّ
أقرب إلى حقيقة النكار فإنه إنكار لما هو أجل النعم أن
) (12/17
تكون نعمة وأما على القول الول والثاني والثالث فإنهم لما أضافوا النعمة
إلى غير الله فقد أنكروا
ص -37-نعمة الله بنسبتها إلى غيره فإن الذي قال إنما كان هذا لبائنا ورثناه
كابرا عن كابر جاحدا لنعمة الله عليه غير معترف بها وهو كالبرص والقرع
اللذين ذكرهما الملك بنعم الله عليهما فأنكرا وقال إنما ورثنا هذا كابرا عن
كابر فقال إن كنتما كاذبين فصيركما الله إلى ما كنتما وكونها موروثة عن
الباء أبلغ في إنعام الله عليهم إذ أنعم بها على آباءهم ثم ورثهم إياها فتمتعوا
هم وآباؤهم بنعمة وأما قول الخرين لول فلن لما كان كذا فيتضمن قطع
إضافة النعمة إلى من لوله لم تكن وإضافتها إلى من ل يملك لنفسه ول
لغيره ضرا ول نفعا وغايته أن تكون جزء من أجزاء السبب أجرى الله تعالى
نعمته على يده والسبب ل يستقل باليجاد وجعله سببا هو من نعم الله عليه
وهو المنعم بتلك النعمة وهو المنعم بما جعله من أسبابها فالسبب والمسبب
من إنعامه وهو سبحانه قد ينعم بذلك السبب وقد ينعم بدونه فل يكون له أثر
وقد يسلبه تسبيبيته وقد يجعل لها معارضا يقاومها وقد يرتب على السبب
ضد مقتضاه فهو وحده المنعم على الحقيقة وأما قول القائل بشفاعة آلهتنا
فتضمن الشرك مع إضافة النعمة إلى غير وليها فاللهة التي تعبد من دون
الله أحقر وأذل من أن تشفع عند الله وهي محضرة في الهوان والعذاب مع
عابديها وأقرب الخلق إلى الله وأحبهم إليه ل يشفع عنده إل من بعد إذنه لمن
ارتضاه فالشفاعة بإذنه من نعمة فهو المنعم بالشفاعة وهو المنعم بقبولها
وهو المنعم بتأهيل المشفوع له إذ ليس كل أحد أهل أن يشفع له فمن المنعم
ه{ فالعبد لن الل ّ ِ مةٍ فَ ِ
م َ ن ن ِعْ َ
م ْ ما ب ِك ُ ْ
م ِ على الحقيقة سواه قال تعالى} :وَ َ
خروج له عن نعمته وفضله ومنته وإحسانه طرفة عين ل في الدنيا ول في
الخرة ولهذا ذم الله سبحانه من أتاه شيئا من نعمة فقال إنما أوتيته على
علم عندي وفي
) (12/18
45
وغيره وقيل :المعنى قد علمت أني لما أوتيت هذا في الدنيا فلي عند الله
منزلة وشرف وهذا معنى قول مجاهد "أوتيته على شرف" قال تعالى} :ب َ ْ
ل
ة{ أي النعم التي أوتيتها فتنة نختبره فيها ومحنة نمتحنه بها ل يدل ي فِت ْن َ ٌهِ َ
على اصطفائه واجتبائه وأنه محبوب لنا مقرب عندنا ولهذا قال في قصة
همن ْ ُ
شد ّ ِن هُوَ أ َ َم ْ ن َ ن ال ْ ُ
قُرو ِ م َ ن قَب ْل ِهِ ِم ْك ِ ه قَد ْ أ َهْل َ َن الل ّ َ
قارون} :أ َول َم يعل َ َ
مأ َّ ْ َْ ْ
َ
معا{ فلو كان إعطاء المال والقوة والجاه يدل على رضاء الله ج ْقُوّة ً وَأك ْث َُر َ
سبحانه عمن آتاه ذلك وشرف قدره وعلو منزلته عنده لما أهلك من آتاه من
ذلك أكثر مما آتى قارون فلما أهلكهم مع سعة هذا العطاء وبسطته علم أن
عطاءه إنما كان ابتلء وفتنة ل محبة ورضا واصطفاء لهم على غيرهم ولهذا
ي فِت َْنة{ أي النعمة فتنة ل كرامة ولكن أكثرهم ل هِ َ قال في الية الخرى} :ب َ ْ
َ
ما أغَْنى م فَ َن قَب ْل ِهِ ْم ْ
ن ِذي َ ل يعلمون ثم أكد هذا المعنى بقوله} :قَد ْ َقال ََها ال ّ ِ
َ
سُبوا{ أي قد قال هذه المقالة ما ك َ َ ت َ سي َّئا ُ
م َ ن فَأ َ
صاب َهُ ْ سُبو َ كاُنوا ي َك ْ ِما َ م َ عَن ْهُ ْ
الذين من قبلهم لما آتيناهم نعمنا قال قال ابن عباس" :كانوا قد بطروا نعمة
الله إذ آتاهم الدنيا وفرحوا بها وطغوا وقالوا هذه كرامة من الله لنا" وقوله:
َ
ن{ المعنى أنهم ظنوا أن ما آتيناهم سُبو َ كاُنوا ي َك ْ ِما َم َ ما أغَْنى عَن ْهُ ْ }ف َ َ
لكرامتهم علينا ولم يكن كذلك لنهم وقعوا في العذاب ولم
) (12/19
يغن عنهم ما كسبوا شيئا وتبين أن تلك النعم لم تكن لكرامتهم علينا وهو أن
من منعناه إياها وقال أبو إسحاق" :معنى الية أن قولهم إنما آتانا الله ذلك
لكرامتنا عليه وإنا أهله أحبط أعمالهم فكنى عن إحباط العمل بقوله} :فَ َ
ما
َ
ن{ ثم أبطل كاُنوا ي َك ْ ِ
سُبو َ ما َ أغَْنى عَن ْهُ ْ
م َ
س ُ َ َ
ط ن الل ّ َ
ه ي َب ْ ُ موا أ ّ م ي َعْل َ ُ
ص -38-سبحانه هذا الظن الكاذب منهم بقوله} :أوَل َ ْ
قدُِر{ "والمقصود أن قوله على علم عندي إن أريد به شاُء وَي َ ْن يَ َم ْ الّرْزقَ ل ِ َ
علمه نفسه كان المعنى أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة والمعرفة
التي توصلت بها إلى ذلك وحصلته بها وإن أريد به علم الله كان المعنى أوتيته
على ما علم الله عندي من الخير والستحقاق وإني أهله وذلك من كرامتي
عليه وقد يترجح هذا القول بقوله أوتيته ولم يقل حصلته واكتسبته بعلمي
ومعرفتي فدل على اعترافه بأن غيره آتاه إياه ويدل عليه قوله تعالى} :ب َ ْ
ل
ة{ أي محنة واختبار والمعنى أنه لم يؤت هذا لكرامته علينا بل أوتيه ي فِت ْن َ ٌ هِ َ
امتحانا منا وابتلء واختبارا هل يشكر فيه أم يكفر وأيضا فهذا يوافق قوله:
َ َ َ َ
ماما إ َِذا َ ن وَأ ّم ِل َرّبي أك َْر َ ه فَي َ ُ
قو ُ م ُ
ه وَن َعّ َ ه فَأك َْر َ
م ُ ما اب َْتله ُ َرب ّ ُ ن إ َِذا َ سا ُ
ما ال ِن ْ َ }فَأ ّ
ن{ فهو قد اعترف بأن ربه هو الذي هان َ ِل َرّبي أ َ َ قو ُ قد ََر عَل َي ْهِ رِْزقَ ُ
ه فَي َ ُ اب َْتله ُ فَ َ
آتاه ذلك ولكن ظن أنه لكرامته عليه فالية على التقدير الول تتضمن ذم من
أضاف النعم إلى نفسه وعلمه وقوته ولم يضفها إلى فضل الله وإحسانه
وذلك محض الكفر بها فإن رأس الشكر العتراف بالنعمة وأنها من المنعم
وحده فإذا أضيفت إلى غيره كان جحدا لها فإذا قال أوتيته على ما عندي من
العلم والخبرة التي حصلت بها ذلك فقد أضافها إلى نفسه وأعجب بها كما
أضافها إلى قدرته الذين قالوا من أشد منا قوة فهؤلء اغتروا بقوتهم وهذا
اغتر بعلمه فما أغنى عن هؤلء قوتهم ول عن هذا
46
) (12/20
علمه وعلى التقدير الثاني يتضمن ذم من اعتقد أن إنعام الله عليه لكونه أهل
ومستحقا لها فقد جعل سبب النعمة ما قام به من الصفات التي يستحق بها
على الله أن ينعم عليه وأن تلك النعمة جزاء له على إحسانه وخيره فقد
جعل سببها ما اتصف به هو ل ما قام بربه من الجود والحسان والفضل
والمنة ولم يعلم أن ذلك ابتلء واختبار له أيشكر أم يكفر ليس ذلك جزاء
على ما هو منه ولو كان ذلك جزاء على عمله أو خير قام به فالله سبحانه هو
المنعم عليه بذلك السبب فهو المنعم بالمسبب والجزاء والكل محض منته
وفضله وجوده وليس للعبد من نفسه مثقال ذرة من الخير وعلى التقديرين
فهو لم يضف النعمة إلى الرب من كل وجه وإن أضافها إليه من وجه دون
وجه وهو سبحانه وحده هو المنعم من جميع الوجوه على الحقيقة بالنعم
وأسبابها فأسبابها من نعمه على العبد وإن حصلت بكسبه فكسبه من نعمه
فكل نعمة فمن الله وحده حتى الشكر فإنه نعمة وهي منه سبحانه فل يطيق
أحد أن يشكره إل بنعمته وشكره نعمة منه عليه كما قال داود" :يا رب كيف
أشكرك وشكري لك نعمة من نعمك علي تستوجب شكرا آخر فقال :الن
شكرتني يا داود" ذكره المام أحمد وذكر أيضا عن الحسن قال :قال داود:
"إلهي لو أن لكل شعرة من شعري لسانين يذكرانك بالليل والنهار والدهر
كله لما أّدوا مالك علي من حق نعمة واحدة والمقصود أن حال الشاكر ضد
حال القائل إنما أوتيته على علم عندي ونظير ذلك قوله} :ل ي َ
ن
سا ُ م اْل ِن ْ َ سأ ُ َ ْ
ط ول َئ ِ َ
ن ب َعْدِْ م
ِ نا
ّ م
ِ ة
ً م
ح َ س قَُنو ٌ َ ْ
ن أذ َقَْناه ُ َر ْ شّر فَي َ ُ
ؤو ٌ ه ال ّ
س ُ
م ّ ن َخي ْرِ وَإ ِ ْعاِء ال ْ َ
ن دُ َ
م ْ ِ
ذا ِلي{ قال ابن عباس" :يريد من عندي" وقال مقاتل: ن هَ َ َ
قول ّ َ
ه لي َ ُست ْ ُ
م ّضّراَء ََ
"يعني أنا أحق بهذا" وقال مجاهد" :هذا بعملي وأنا محقوق به" وقال الزجاج:
"هذا واجب بعملي استحقيته" فوصف النسان بأقبح صفتين إن مسه الشر
صار إلى حال القانط ووجم وجوم اليس فإذا مسه الخير نسي أن الله هو
) (12/21
المنعم عليه المفضل بما أعطاه فبطر وظن أنه هو المستحق لذلك ثم أضاف
َ
ة{ ثم أضاف إلى ذلك ة َقائ ِ َ
م ً ساعَ َ ما أظ ُ ّ
ن ال ّ إلى ذلك تكذيبه بالبعث فقال} ::وَ َ
ظنه الكاذب أنه إن بعث كان له عند الله الحسنى فلم يدع هذا للجهل
والغرور موضعا.
ه عََلى ِ ْ َ
م{ قول آخر أنه على عل ٍ ه الل ّ ُ ضل ّ ُ ص -39-فصل :وفي قوله تعالى} :وَأ َ
علم الضال كما قيل على علم منه أن معبوده ل ينفع ول يضر فيكون المعنى
أضله الله مع علمه الذي تقوم به عليه الحجة لم يضله على جهل وعدم علم
َ َ
ن
م عَ ِ صد ّهُ ْ ن{ وقوله} :فَ َ مو َم ت َعْل َ ُ دادا ً وَأن ْت ُ ْ جعَُلوا ل ِل ّهِ أن ْ َهذا يشبه قولهَ} :فل ت َ ْ
م{ وقوله: َ ل وَ َ
سهُ ْ ف ُ قن َت َْها أن ْ ُست َي ْ َ
دوا ب َِها َوا ْ ح ُ ج َ ن{ وقوله} :وَ َ ري َ ص ِ ست َب ْ ِم ْ كاُنوا ُ سِبي ِ ال ّ
تم َ قد ْ عَل ِ ْ َ
موا ب َِها{ وقول موسى لفرعون} :ل َ َ َ
صَرة ً فَظل ُ مب ْ ِ ة ُ مود َ الّناقَ َ }َوآت َي َْنا ث َ ُ
ن
ذي َ ّ
صائ َِر{ وقوله تعالى} :ال ِ ض بَ َ
َ
ت َوالْر َ ِ ماَوا ِ
س َب ال ّ ّ
ؤلِء إ ِل َر ّ ل هَ ُ ما أ َن َْز َ َ
ق
ح ّ ْ
ن ال َ مو َ ْ َ
م لي َكت ُ ُ من ْهُ ْريقا ًِ َ
نف ِ م وَإ ِ ّ ن أب َْناَءهُ ْ ُ
ما ي َعْرِفو َ َ
هك َ ُ
ب ي َعْرِفون َ ُ ْ
م الك َِتا َ آت َي َْناهُ ُ
47
ت الل ّهِ ن ِبآَيا ِمي َ ن ال ّ
ظال ِ ِ ك وَل َك ِ ّ م ل ي ُك َذ ُّبون َ َن{ وقوله} :فَإ ِن ّهُ ْ م ي َعْل َ ُ
مو َ وَهُ ْ
ما
م َ َ
ن لهُ ْ حّتى ي ُب َي ّ َم َ داهُ ْ ً
وما ب َعْد َ إ ِذ ْ هَ َ ل قَ ْ ض ّ
ه ل ِي ُ ِ ّ
ن الل ُكا َ ما َن{ وقوله} :وَ َ دو َ ح ُج َ يَ ْ
ن{ ونظائره كثيرة وعلى هذا التقدير فهو ضال عن سلوك طريق رشده قو َ ي َت ّ ُ
وهو يراها عيانا كما في الحديث" :أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم
ينفعه الله بعلمه" فإن الضال عن الطريق قد يكون متبعا لهواه عالما بأن
الرشد والهدى في خلف ما يعمل ولما كان الهدى هو معرفة الحق والعمل
به كان له ضدان الجهل وترك العمل به فالول ضلل في العلم والثاني ضلل
م
خت َْرَناهُ ْ قد ِ ا ْ في القصد والعمل فقد وقع قوله على علم في قوله تعالى} :وَل َ َ
عْلم{ عََلى ِ
) (12/22
) (12/23
شفاء العليل
الباب الحادي عشر :في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي
مرتبة الكتابة
الباب الحادي عشر :في ذكر المرتبة الثانية وهي مرتبة الكتابة
وقد تقدم في أول الكتاب ما دل على ذلك من نصوص القرآن والسنة
قد ْ ك َت َب َْنا ِفيالصحيحة الصريحة فنذكر هنا بعض ما لم نذكره قال تعالى} :وَل َ َ
ً َ من ب َعْدِ الذ ّك ْر أ َ ّ َ
قوْم ٍذا لَبلغا ل ِ َ ن ِفي هَ َ ن إِ ّ حو َ صال ِ ُعَبادِيَ ال ّ ن اْلْر َ
ض ي َرِث َُها ِ ِ الّزُبورِ ِ ْ
ن{ فالزبور هنا جميع الكتب المنزلة من السماء ل تختص بزبور داود دي َعاب ِ ِ
َ
والذكر أم الكتاب الذي عند الله والرض الدنيا وعباده الصالحون أمة محمد
صلى الله تعالى عليه وسلم هذا أصح القوال في هذه الية وهي علم من
أعلم نبوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه أخبر بذلك بمكة
وأهل الرض كلهم كفار أعداء له ولصحابه والمشركون قد أخرجوهم من
ديارهم ومساكنهم وشتتوهم في أطراف الرض فأخبرهم ربهم تبارك وتعالى
أنه كتب في الذكر الول إنهم يرثون الرض من الكفار ثم كتب ذلك في
الكتب التي أنزلها على رسله والكتاب قد أطلق عليه الذكر في قول النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته" :كان الله ولم
يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء" وكتب في الذكر كل شيء فهذا هو
الذكر الذي كتب فيه أن الدنيا تصير لمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم
َ
ن قَب ْل ِ َ
ك م ْسل َْنا ِ ما أْر َ والكتب المنزلة قد أطلق عليه الزبر في قوله تعالى} :وَ َ
ت َوالّزُبر{ ن ِبال ْب َي َّنا ِ
مو َ م ل ت َعْل َ ُ ن ك ُن ْت ُ ْ
ل الذ ّك ْرِ إ ِ ْسَألوا أ َهْ َ
م َفا ْ حي إ ِل َي ْهِ ْ
جال ً ُنو ِإ ِّل رِ َ
أي أرسلناهم باليات الواضحات والكتب التي فيها الهدى والنور والذكر ههنا
48
الكتابان اللذان أنزل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما التوراة
ل إ ِل َي ِْهم{ هو
ما ن ُّز َ
س َ
ن ِللّنا ِ والنجيل والذكر في قوله} :وَأ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ
ك الذ ّك َْر ل ِت ُب َي ّ َ
) (13/1
القرآن ففي هذه الية علمه بما كان قبل كونه وكتابته له بعد علمه وقال
ما قَد ّ ُ
موا َوآَثاَرهُ ْ
م ب َ ي ال ْ َ
موَْتى وَن َك ْت ُ ُ ح ِ
ن نُ ْ
ح ُ
تعالى} :إ ِّنا ن َ ْ
) (13/2
ذكرت عند هذه القصة ودلت عليها وذكروا بها عندها إما من النبي صلى الله
عليه وسلم وإما من جبريل فأطلق على ذلك النزول ولعل هذا مراد من قال
في نظائر ذلك نزلت مرتين والمقصود أن خطاهم إلى المساجد من آثارهم
التي يكتبها الله لهم قال عمر بن الخطاب" :لو كان الله سبحانه تاركا لبن
آدم شيئا لترك ما عفت عليه الرياح من أثر" وقال مسروق" :ما خطا رجل
َ ل َ خطوة إل كتبت له حسنة أو سيئة" والمقصود أن قوله} :وَك ُ ّ
صي ْ َ ُ
ه نا ح َيٍء أ ْ ش ْ
ن{ وهو اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب وهو الذكر الذي كتب مِبي ٍمام ٍ ُ
ِفي إ ِ َ
فيه كل شيء يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها والحصاء في
الكتاب يتضمن علمه بها وحفظها لها والحاطة بعددها وإثباتها فيه وقال
طائ ِر يطير بجناحيه إّل أ ُم َ َْ
ما
م َمَثال ُك ُ ْ
مأ ْ َ ٌ ض َول َ ٍ َ ِ ُ ِ َ َ َ ْ ِ ِ
ن َداب ّةٍ ِفي الْر ِ
م ْ
ما ِ تعالى} :وَ َ
49
ن{ وقد اختلف في الكتاب شُرو َ ح َ م يُ ْم إ َِلى َرب ّهِ ْ يٍء ث ُ ّ ن َ
ش ْ م ْ فَّرط َْنا ِفي ال ْك َِتا ِ
ب ِ
ههنا هل هو القرآن أو اللوح المحفوظ على قولين فقالت طائفة المراد به
القرآن وهذا من العام المراد به الخاص أي ما فرطنا فيه من شيء يحتاجون
يٍء{ ويجوز أن ش ْ ل َ ب ت ِب َْيانا ً ل ِك ُ ّ ك ال ْك َِتا َ إلى ذكره وبيانه كقوله} :وَن َّزل َْنا عَل َي ْ َ
يكون من العام المراد به عمومه والمراد أن كل شيء ذكر فيه مجمل
ومفصل كما قال ابن مسعود" :وقد لعن الواصلة والمستوصلة ما لي ل ألعن
من لعنه الله في كتابه فقالت امرأة لقد قرأت القرآن فما وجدته فقال إن
ما ن ََهاك ُ ْ
م خ ُ
ذوه ُ وَ َ ل فَ ُ
سو ُ م الّر ُ ما آَتاك ُ ُ كنت قرأتيه فقد وجدته قال تعالى} :وَ َ
ه َفان ْت َُهوا{ ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة" عَن ْ ُ
وقال الشافعي ما نزل بأحد من المسلمين نازلة إل وفي كتاب الله سبيل
الدللة عليها وقالت طائفة المراد بالكتاب في الية اللوح المحفوظ الذي
كتب الله فيه كل شيء وهذا إحدى الروايتين عن ابن عباس وكان هذا
) (13/3
ض َْ
ن َداب ّةٍ ِفي الْر ِ
م ْ
ما ِ
القول أظهر في الية والسياق يدل عليه فإنه قال} :وَ َ
طائ ِر يطير بجناحيه إّل أ ُم َ
كم{ وهذا يتضمن أنها أمم أمثالنا في مَثال ُ ُ
مأ َْ ٌ َول َ ٍ َ ِ ُ ِ َ َ َ ْ ِ ِ
الخلق والرزق والكل والتقدير الول وأنها لم تخلق سدى
ص -41-بل هي معبدة مذللة قد قدر خلقها وأجلها ورزقها وما تصير إليه ثم
ذكر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها ثم قال إلى ربهم يحشرون فذكر مبدأها
يٍء{ ش ْ ن َ م ْ ب ِ ما فَّرط َْنا ِفي ال ْك َِتا ِ ونهايتها وأدخل بين هاتين الحالتين قولهَ } :
أي كلها قد كتبت وقدرت وأحصيت قبل أن توجد فل يناسب هذا ذكر كتاب
المر والنهي وإنما يناسب ذكر الكتاب الول ،ولمن نصر القول الول أن
يجيب عن هذا بأن في ذكر القرآن ههنا الخبار عن تضمنه لذكر ذلك والخبار
به فلم نفرط فيه من شيء بل أخبرناكم بكل ما كان وما هو كائن إجمال
ل عَل َي ْ ِ
ه ول ن ُّز َ وتفصيل ويرجحه أمر آخر وهو أن هذا ذكر عقيب قوله} :وََقاُلوا ل َ ْ
ة ول َك َ َ
ن{ مو َ م ل ي َعْل َ ُ ن أك ْث ََرهُ ْ ل آي َ ً َ ِ ّ ن ي ُن َّز َه َقادٌِر عََلى أ ْ ن الل ّ َ ل إِ ّ ن َرب ّهِ قُ ْ
م ْ
ة ِ
آي َ ٌ
فنبههم على أعظم اليات وأدلها على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو الكتاب الذي يتضمن بيان كل شيء ولم يفرط فيه من شيء ثم نبههم
بأنهم أمة من جملة المم التي في السماوات والرض وهذا يتضمن التعريف
بوجود الخالق وكمال قدرته وعلمه وسعة ملكه وكثرة جنوده والمم التي
يحصيها غيره وهذا يتضمن أنه ل إله غيره ول رب سواه وأنه رب العالمين
فهذا دليل على وحدانيته وصفات كماله من جهة خلقه وقدره وإنزال الكتاب
الذي لم يفرط فيه من شيء دليل من جهة أمره وكلمه فهذا استدلل بأمره
َ َ
ن{ ،وشهد لهذا أيضا مي َب ال َْعال َ ِ ه َر ّ ك الل ّ ُ مُر ت ََباَر َخل ْقُ َواْل ْ ه ال ْ َ وذاك بخلقه} :أل ل َ ُ
ما أ ََنا عن ْد َ الل ّهِ وَإ ِن ّ َت ِ ما اليا ُ ن َرب ّهِ قُ ْ
ل إ ِن ّ َ م ْت ِ ل عَل َي ْهِ آَيا ٌول أ ُن ْزِ َ قوله} :وََقاُلوا ل َ ْ
) (13/4
ة
م ً ك ل ََر ْ
ح َ ن ِفي ذ َل ِ َ ب ي ُت َْلى عَل َي ْهِ ْ
م إِ ّ م أ َّنا أ َن َْزل َْنا عَل َي ْ َ
ك ال ْك َِتا َ فهِ ْ
نذير مبي َ
ن أوَل َ ْ
م ي َك ْ ِ َ ِ ٌ ُ ِ ٌ
ن{ ولمن نصر إن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أن مُنو َ وَذِك َْرى ل ِ َ
قوْم ٍ ي ُؤْ ِ
50
يقول لما سألوا آية أخبرهم سبحانه بأنه لم يترك إنزالها لعدم قدرته على
ذلك فإنه قادر على ذلك وإنما لم ينزلها لحكمته ورحمته بهم وإحسانه إليهم
أذلوا أنزلها على وفق اقتراحهم لعوجلوا بالعقوبة أن لم يؤمنوا ثم ذكر ما
يدل على كمال قدرته بخلق المم العظيمة التي ل يحصي عددها إل هو فمن
قدر على خلق هذه المم مع اختلف أجناسها وأنواعها وصفاتها وهيئاتها كيف
يعجز عن إنزال آية ثم أخبر عن كمال قدرته وعلمه بأن هؤلء المم قد
أحصاهم وكتبهم وقدر أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم في كتاب لم يفرط فيه من
شيء ثم يميتهم ثم يحشرهم إليه والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات
عن النظر والعتبار الذي يؤديهم إلى معرفة ربوبيته ووحدانيته وصدق رسله
ثم أخبر أن اليات ل تستقل بالهدى ولو أنزلها على وفق اقتراح البشر بل
المر كله له من يشأ يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم فهو أظهر
جعَل َْناه ُ قُْرآنا ً عََرب ِي ّا ً ل َعَل ّك ُ ْ
م ن إ ِّنا َ
مِبي ِب ال ْ ُالقولين والله أعلم وقال} :حم َوال ْك َِتا ِ
ُ
م{ قال ابن عباس" :في اللوح كي ٌ ح ِ
ي َب ل َد َي َْنا ل َعَل ِ ّ
م ال ْك َِتا ِ
ه ِفي أ ّن وَإ ِن ّ ُقُلو َ
ت َعْ ِ
المحفوظ المقري عندنا" قال مقاتل" :أن نسخته في أصل الكتاب وهو اللوح
المحفوظ وأم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله" والقرآن كتبه الله
و
ل هُ َ في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والرض كما قال تعالى} :ب َ ْ
ظ{ وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة فو ٍح ُم ْجيد ٌ ِفي ل َوٍْح َ م ِ
ن َقُْرآ ٌ
والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب وقد دل
القرآن على أن الرب تعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله فكتب
في اللوح أفعاله وكلمه فتبت يدا أبي لهب في
) (13/5
اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب وقوله لدينا يجوز فيه أن تكون من صلة
أم الكتاب أي أنه في الكتاب الذي عندنا وهذا اختيار ابن عباس ويجوز أن
ي حكيم عندنا ليس هو كما عند المكذبين به أي
يكون من صلة الخبر أنه عل ّ
وإن كذبتم به وكفرتم فهو عندنا في غاية الرتفاع والشرف
ذبا ً أ َْو
ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َ ِ
م ِ
م ّ
م ِ
ص -42-والحكام وقال تعالى} :فَم َ
ن أظ ْل َ ُ َ ْ
ب{ قال سعيد بن جبير ومجاهد ِ تا
َ ِ ك ْ ن ال
م َم ِ
صيب ُهُ ْ ك ي ََنال ُهُ ْ
م نَ ِ ب ِبآيات ِهِ ُأول َئ ِ َ
ك َذ ّ َ
وعطية" :أي ما سبق لهم في الكتاب من الشقاوة والسعادة ثم قرأ عطية:
ة{ "والمعنى أن هؤلء أدركهم ما كتب ضلل َ ُ م ال ّحقّ عَل َي ْهِ ُ ريقا ً َ دى وَفَ ِ ريقا ً هَ َ}ف َ ِ
لهم من الشقاوة وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء قال" :يريد ما سبق
عليهم في علمي في اللوح المحفوظ" فالكتاب على هذا القول الكتاب الول
ونصيبهم ما كتب لهم من الشقاوة وأسبابها وقال ابن زيد والقرطبي والربيع
بن أنس" :ينالهم ما كتب لهم من الرزاق والعمال فإذا فني نصيبهم
واستكملوه جاءتهم رسلنا يتوفونهم ورجح بعضهم هذا القول لمكان حتى التي
هي للغاية يعني أنهم يستوفون أرزاقهم وأعمارهم إلى الموت ولمن نصر
القول الول أن يقول حتى في هذا الموضع هي التي تدخل على الجمل
ويتصرف الكلم فيها إلى البتداء كما في كقوله:
فيا عجبا حتى كليب تسبني
والصحيح أن نصيبهم من الكتاب يتناول المرين فهو نصيبهم من الشقاوة
51
ونصيبهم من العمال التي هي أسبابها ونصيبهم من العمار التي هي مدة
اكتسابها ونصيبهم من الرزاق التي استعانوا بها على ذلك فعمت الية هذا
النصيب كله وذكر هؤلء بعضه وهؤلء بعضه هذا على القول الصحيح وأن
المراد ما سبق لهم في أم الكتاب وقالت طائفة المراد بالكتاب القرآن قال
الزجاج" :معنى نصيبهم من الكتاب ما أخبر الله من جزائهم نحو قوله:
صَعدًا{" َ
ذابا ً َ سل ُك ْ ُ
ه عَ َ م َنارا ً ت َل َ ّ
ظى{ وقوله} :ي َ ْ }فَأن ْذ َْرت ُك ُ ْ
) (13/6
قال أرباب هذا القول وهذا هو الظاهر لنه ذكر عذابهم في القرآن في
مواضع ثم أخبر أنه ينالهم نصيبهم منه والصحيح القول الول وهو نصيبهم
الذي كتب لهم أن ينالوه قبل أن يخلقوا ولهذا القول وجه حسن وهو أن
نصيب المؤمنين منه الرحمة والسعادة ونصيب هؤلء منه العذاب والشقاء
فنصيب كل فريق منه ما اختاروه لنفسهم وآثروه على غيره كما أن حظ
المؤمنين منه كان الهدى والرحمة فحظ هؤلء منه الضلل والخيبة فكان
حظهم من هذه النعمة أن صارت نقمة وحسرة عليهم وقريب من هذا قوله:
}وتجعُلون رزقَك ُ َ
ن{ أي تجعلونه حظكم من هذا الرزق الذي به م ت ُك َذ ُّبو َ
م أن ّك ُ ْ ْ َ ِْ ََ ْ َ
حياتكم التكذيب به قال الحسن" :تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم
تكذبون قال وخسر عبد ل يكون حظه من كتاب الله إل التكذيب به" وقال
ر{ قال عطاء ومقاتل" :كل شيء فعلوه يٍء فَعَُلوه ُ ِفي الّزب ُ ِ ش ْ تعالى} :وَك ُ ّ
ل َ
مكتوب عليهم في اللوح المحفوظ" وروى حماد بن زيد عن داود بن أبي هند
ر{ قال" :كتب عليهم قبل أن يٍء فَعَُلوه ُ ِفي الّزب ُ ِ ش ْ ل َ عن الشعبي} :وَك ُ ّ
يعملوه" وقالت طائفة" :المعنى أنه يحصى عليهم في كتب أعمالهم" وجمع
أبو إسحاق بين القولين فقال" :مكتوب عليهم قبل أن يفعلوه ومكتوب عليهم
إذا فعلوه للجزاء" وهذا أصح وبالله التوفيق وفي الصحيحين من حديث ابن
عباس قال" :ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال" :إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك ل
محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج
يصدق ذلك ويكذبه" وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال :قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم" :كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك ل
محالة فالعينان زناهما النظر والذنان زناهما الستماع واللسان زناه الكلم
واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق الفرج
ذلك كله ويكذبه" وفي صحيح البخاري
) (13/7
وغيره عن عمران بن حصين قال" :دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم
وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال :اقبلوا البشرى يا بني
تميم قالوا :قد بشرتنا فأعطنا
52
عن هذا المر قال كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء
وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والرض فنادى مناد ذهبت ناقتك
يا ابن الحصين فانطلقت فإذا هي ينقطع دونها السراب فوالله لوددت أني
كنت تركتها فالرب سبحانه كتب ما يقوله وما يفعله وما يكون بقوله وفعله
وكتب مقتضى أسمائه وصفاته وآثارها" كما في الصحيحين من حديث أبي
الزناد عن العرج عن أبي هريرة قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت
غضبي".
) (13/8
شفاء العليل
) (14/1
53
شاَء الل ّ ُ
ه ن َ جد ُِني إ ِ ْ ست َ ِ عْلمًا{ وقال الذبيح لهَ } : يٍء ِ ش ْ ل َ سعَ َرّبي ك ُ ّ شْيئا ً وَ ِ َرّبي َ
ن ن َُعود َ ِفيَها إ ِلّ كون ل َنا أ َ
ما ي َ ُ ُ َ ْ ن{ وقال خطيب النبياء شعيب} :وَ َ ري َ صاب ِ ِ
ن ال ّ م َِ
علما عَلى اللهِ ت َوَكلَنا{ وقال الصديق ْ ّ ّ َ ً ْ يٍء ِ ل َ ُ
سعَ َرب َّنا ك ّ ّ ن يَ َ َ
ش ْ ه َرب َّنا وَ ِ شاَء الل ُ أ ْ
ن{ وقال حمو مِني َهآ ِ شاَء الل ّ ُ ن َ صَر إ ِ ْ م ْ خُلوا ِ الكريم ابن الكريم ابن الكريم} :اد ْ ُ
ن{ وقال حي َ صال ِ ِ ن ال ّ م َ ه ِ ّ
شاَء الل ُ ن َ جد ُِني إ ِ ْ ست َ ِك َ شقّ عَل َي ْ َ ن أَ ُ َ
ما أِريد ُ أ ْ
ُ
موسى} :وَ َ
ً
مرا{ َ َ َ َ ً ّ ن َ
صي لك أ ْ صاِبرا َول أعْ ِ ه َ شاَء الل ُ جد ُِني إ ِ ْ ست َ ِكليم الرحمن للخضرَ } :
ن{ وقال لسيد ولد آدم دو َ مهْت َ ُ هل َُ ّ
شاَء الل ُ ن َ وقال قوم موسى له} :وَإ ِّنا إ ِ ْ
ّ َ ً
ه{ شاَء الل ُ ن يَ َ ّ
عل ذ َل ِك غدا إ ِل أ ْ َ َ ٌ َ
يٍء إ ِّني فا ِ ش ْ ن لِ َ قول َ ّ وأكرمهم عليهَ} :ول ت َ ُ
ه{ وقال عن أهل ّ ما َ ّ ً ً مل ِ ُ َ وقال} :قُ ْ
شاَء الل ُ فعا إ ِل َ ضّرا َول ن َ ْ سي َ ف ِ ك ل ِن َ ْ للأ ْ
) (14/2
) (14/3
ن
ن إِ ْ قي َ مَنافِ ِ ب ال ْ ُم{ وقال} :وَي ُعَذ ّ َ قي ٍ ست َ ِ م ْ ط ُ صَرا ٍ شاُء إ َِلى ِ ن يَ َ م ْ دي َ سلم ِ وَي َهْ ِ ال ّ
هّ َ ن يَ َ َ َ َ
ن الل َ شاء{ وقوله} :وَلك ِ ّ م ْ مت ِهِ َ ح َ ص ب َِر ْ خت َ ّ م{ وقوله} :ي َ ْ ب عَلي ْهِ ْ شاَء أوْ ي َُتو َ
مت َِناح َ ب ب َِر ْ صي ُ شاُء{ وقوله} :ن ُ ِ ن يَ َ م ْ ف لِ َ ع ُ ضا ِ ه يُ َ ّ
شاُء{ وقولهَ} :والل ُ ن يَ َ م ْ ي َُزكي َ ّ
ل اللهِ ي ُؤِْتي ِ
ه ّ ض ُ َ َ
شاُء{ وقوله} :ذ َل ِك ف ْ ن نَ َ م ْ ت َ جا ٍ َ
شاُء{ وقوله} :ن َْرفعُ د ََر َ ن نَ َ م ْ َ
ه{ وقوله: عَبادِ ِ ن ِ م ْ شاُء ِ ن يَ َ م ْ ن عَلى َ َ م ّ ه يَ ُ ّ
ن الل َ َ
شاُء{ وقوله} :وَلك ِ ّ ن يَ َ م ْ َ
ن
ف ي َشاُء{ وقوله} :إ ِ ّ َ َ
ماِء كي ْ َ س َه ِفي ال ّ ُ
سط ُ َ
ن ن َشاُء{ وقوله} :في َب ْ ُ َ م ْ ي َ ج َ }فن ُ ّ َ
شاُء شاُء{ وقوله} :وَل َوْ ن َ َ ن يَ َ م
ِ َ َ َ ْ ة م ْ ك ح ْ ل ا تي ْ
ُ ِ ؤ ي } وقوله: شاء{ َ ي
ِ ٌ ِ َ َ ما ل ف طي َ ل َرّبي
َ َ
م{ صارِهِ ْ م وَأب ْ َ معِهِ ْ س ْب بِ َ ه ل َذ َهَ َ شاَء الل ّ ُ م{ وقوله} :وَل َوْ َ سَنا عََلى أعْي ُن ِهِ ْ م ْ ل َط َ َ
طاما{} :ل َوْ ن َ َ ح َ ْ
شاُء جعَل َْناه ُ ُ شاُء ل َ َ ن الّريح{ وقوله} :ل َوْ ن َ َ سك ِ ِ شأ ي ُ ْ ن يَ َ وقوله} :إ ِ ْ
ُ
ن
شاَء{ وقوله} :إ ِ ْ ن َ ضل ِهِ إ ِ ْ ن فَ ْ م ْ ه ِ م الل ّ ُ ف ي ُغِْنيك ُ ُ سو ْ َ جاجًا{ وقوله} :فَ َ جعَل َْناه ُ أ َ َ
كم{ ه ل َعْن َت َ ُ شاَء الل ُّ شاُء{ وقوله} :وَل َوْ َ ما ي َ َ م ُ ك د ع ب ن م ف ل خ ت س ي و م ُ ك ب ه ْ ذ ي شأ ْ َ
ْ َ ِ ْ َ ْ ِ ْ ِ ْ َ ْ َ ْ َ ْ ِ ُ يَ
54
ي إ ِل ّ
ن هِ َ
شاُء{ وقوله عن كليمه موسى} :إ ِ ْ ن يَ َم ْ جت َِبي إ ِل َي ْهِ َ
ه يَ ْوقوله} :الل ّ ُ
شاء{ وهذه اليات ونحوها تتضمن الرد ن تَ َ
م ْ
دي َشاُء وَت َهْ ِ ن تَ َ م ْ ل ب َِها َ ض ّ فِت ْن َت ُ َ
ك تُ ِ
على طائفتي الضلل نفاة المشيئة بالكلية ونفاة مشيئة أفعال العباد
وحركاتهم وهداهم وضللهم وهو سبحانه تارة يخبر أن كل ما في الكون
بمشيئته وتارة أن ما لم يشأ لم يكن وتارة أنه لو شاء لكان خلف الواقع وأنه
لو شاء لكان خلف القدر الذي قدره وكتبه وأنه لو شاء ما عصى وأنه لو شاء
لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته
وأن ما لم يقع
) (14/4
فهو لعدم مشيئته وهذا حقيقة الربوبية وهو معنى كونه رب العالمين وكونه
القائم بتدبير عباده فل خلق ول رزق ول عطاء ول منع ول قبض ول بسط ول
موت ول حياة ول إضلل ول هدى ول سعادة ول شقاوة إل بعد إذنه وكل ذلك
بمشيئته وتكوينه إذ ل مالك غيره ول مدبر سواه ول رب غيره قال تعالى:
شاُء{ وقال: ما ن َ َ حام ِ َ قّر ِفي اْل َْر َ خَتار{ وقال} :وَن ُ ِ شاُء وَي َ ْ خل ُقُ َ
ما ي َ َ ك يَ ْ }وََرب ّ َ
ما ُ َ ْ ْ
مل ُ ّ ّ
شاَء َركب َ َ ما َ َ
خلقُ َ ض يَ ْ ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ك ال ّ ك{ وقال} :ل ِلهِ ُ صوَرةٍ َ }ِفي أيّ ُ
م ذ ُك َْرانا ً وَإ َِناثا ً َ ُ ً
جهُ ْ شاُء الذ ّكوَر أوْ ي َُزوّ ُ ن يَ َم ْ ب لِ َ
شاُء إ َِناثا وَي َهَ ُ ن يَ َم ْب لِ َشاُء ي َهَ ُ يَ َ
شاُء{ وتقدم في ن يَ َ م ْه ل ُِنورِهِ َ ّ
دي الل ُ قيما{ وقال} :ي َهْ ِ ً شاُء عَ ِ ن يَ َم ْل َ جعَ ُوَي َ ْ
حديث حذيفة بن أسيد في صحيح مسلم في شأن الجنين "فيقضي ربك ما
يشاء ويكتب الملك" وفي صحيح البخاري من حديث أبي موسى عن النبي
صلى الله عليه وسلم" :اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما
يشاء" وفي صحيح البخاري من حديث علي بن أبي طالب
) (14/5
ص -45-حين طرقه النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة ليل فقال" :أل
تصليان علي إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا" وفي صحيحه أيضا
في قصة نومهم في الوادي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم" :أن الله قبض
أرواحكم حين شاء وردها حين شاء" وفي حديث ابن مسعود الذي في
المسند وغيره في قصة رجوعهم من الحديبية ونومهم عن صلة الصبح فقال
النبي صلى الله عليه وسلم" :إن الله لو شاء لم تناموا عنها ولكن أراد أن
تكون لمن بعدكم فهكذا لمن نام ونسي" وفي لفظ آخر" :إن الله سبحانه
وتعالى لو شاء أيقظنا ولكنه أراد أن يكون لمن بعدكم" وفي مسند المام
أحمد عن طفيل بن سخيرة أخي عائشة لمها أنه رأى فيما يرى النائم كأنه
مر برهط من اليهود فقال :من أنتم قالوا :نحن اليهود قال :إنكم أنتم القوم
لول أنكم تزعمون أن عزيرا ابن الله فقالت اليهود :وأنتم القوم لول أنكم
تقولون ما شاء الله وشاء محمد ثم مر برهط من النصارى فقال :من أنتم
قالوا :نحن النصارى قال :إنكم أنتم القوم لول أنكم تقولون المسيح ابن الله
قالوا :وأنتم القوم لول أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد فلما أصبح أخبر
بها من أخبر ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال :أخبرت أحدا؟
قال :نعم فلما صلوا خطبهم فحمد الله وأثنى عليه فقال إن طفيل رأى رؤيا
55
فأخبر بها من أخبر منكم وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم" زاد
البيهقي" :فل تقولوها ولكن قولوا ما شاء الله وحده ل شريك له" وروى
جعفر عن عون عن الجلح عن يزيد بن الصم عن ابن عباس قال" :جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه في بعض المر فقال الرجل لرسول
الله :ما شاء الله وشئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" :أجعلتني
لله عدل بل ما شاء الله وحده" وروى سعيد عن منصور عن عبد الله بن
يسار عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" :ل تقولوا ما شاء الله
وشاء فلن ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء
) (14/6
فلن" قال الشافعي في رواية الربيع عنه" :المشيئة إرادة الله قال الله عز
َ
ه{ فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون شاَء الل ّ ُ ن إ ِل ّ أ ْ
ن يَ َ ما ت َ َ
شاُءو َ وجل} :وَ َ
خلقه وأن مشيئتهم ل تكون إل أن يشاء الله فيقال لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ما شاء الله ثم شئت ول يقال ما شاء الله وشئت قال ويقال من
يطع الله ورسوله فإن الله تعبد العباد بأن فرض عليهم طاعة رسوله فإذا
أطيع رسول الله فقد أطيع الله بطاعة رسوله" وفي صحيح مسلم من حديث
عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم" :قلوب العباد بين أصبعين
من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء" ثم قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم" :يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك" وفي حديث
النواس بن سمعان سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول" :ما من قلب
إل بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه" وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" :اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا
على دينك والميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويخفض آخرين إلى يوم القيامة"
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو سمعت النبي صلى الله عليه
وسلم وهو قائم على المنبر يقول" :إنما بقاؤكم فيما سلف من المم قبلكم
كما بين صلة العصر إلى غروب الشمس" وذكر الحديث وقال في آخره
"فذلك فضلي أوتيه من أشاء" وفي صحيح البخاري مرفوعا" :مثل الكافر
كمثل الرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء وقال عبد الرازق عن
معمر عن همام هذا ما حدثنا أبو هريرة قال :قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم" :قال الله تبارك وتعالى :ل يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فاني أنا الدهر
أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما" قال الشافعي تأويله والله أعلم أن
العرب كان شأنها
) (14/7
ص -46-أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم
أو تلف أو غير ذلك فيقولون إنما يهلكنا الدهر وهو الليل والنهار ويقولون
أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر فيجعلون الليل والنهار يفعلن الشياء
فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم ويفعل بهم فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم" :ل تسبوا الدهر على أنه الذي يفنيكم والذي يفعل بكم هذه الشياء
فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى فإنه فاعل
56
هذه الشياء" وفي حديث أنس يرفعه" :اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا
لنفحات رحمة الله فإن لله عز وجل سحائب من رحمته يصيب بها من يشاء
من عباده وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم" وفي الصحيحين
من حديث عبادة بن الصامت قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"تبايعوني على أن ل تشركوا بالله شيئا ول تزنوا ول تسرقوا فمن وفى منكم
فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن
أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر
له" وفيهما أيضا من حديث احتجاج الجنة والنار" :قول الله للجنة أنت رحمتي
أرحم بك من أشاء وللنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء" وفيه أيضا من
حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" :ل يقل أحدكم اللهم اغفر
لي إن شئت وارحمني إن شئت وارزقني إن شئت ليعزم مسألته إنه يفعل ما
يشاء ل مكره له" وفي صحيح مسلم عنه يرفعه" :المؤمن القوي خير وأحب
إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير إحرص على ما ينفعك واستعن
بالله ول تعجز وإن أصابك شيء فل تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر
الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" وفي حديث أبي ذر" :يا
عبادي كلكم ضال إل من هديته" الحديث وفي آخره "ذلك بأني جواد أفعل ما
أشاء عطائي كلم فإذا أردت شيئا فإنما أقول له كن فيكون" وفي حديث
أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم" :ما أنعم الله
) (14/8
على عبد من نعمة من أهل وولد فيقول ما شاء الله ل قوة إل بالله فيرى فيه
آية دون الموت" وهذا الحديث الصحيح مشتق من قوله تعالى} :وَل َ ْ
ول إ ِذ ْ
ه ل قُوّة َ إ ِل ّ ِبالّله{ وفي حديث الشفاعة" :فإذا
شاَء الل ّ ُ
ما َ ك قُل ْ َ
ت َ جن ّت َ َ خل ْ َ
ت َ دَ َ
رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني" وفي حديث آخر
أهل الجنة دخول إليها "فيسكت ما شاء الله أن يسكت وفيه قوله سبحانه ل
أهزأ بك ولكني على ما أشاء قدير" والحديثان في الصحيحين وفيهما من
حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" :لكل نبي دعوة فأريد إن
شاء الله أن أختبي دعوتي شفاعة لمتي يوم القيامة" وقال" :ل يدخل النار
إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد" وقال" :إني لطمع
أن يكون حوضي إن شاء الله أوسع ما بين أيلة إلى كذا" وقال في المدينة:
"ل يدخلها الطاعون ول الدجال إن شاء الله" وقال في زيارة المقابر" :وإنا
إن شاء الله بكم لحقون" وقال لما حاصر الطائف" :إنا قافلون غدا إن شاء
الله" وقال لما قدم مكة" :منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة" وقال يوم
بدر" :هذا مصرع فلن غدا إن شاء الله وهذا مصرع فلن إن شاء الله" وقال
في بعض أسفاره" :إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم ثم إنكم تأتون الماء غدا
إن شاء الله" وقال للعرابي الذي عاده من الحمى" :ل بأس طهور إن شاء
الله" وأخبر عن سليمان بن داود أنه قال" :لطوفن الليلة على سبعين امرأة
كل واحدة تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله فقال له الملك قل إن شاء الله
فلم يقل فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إل امرأة واحدة جاءت بشق
رجل وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله
فرسانا أجمعون" وقال" :من حلف فقال إن شاء الله فإن
57
) (14/9
ص -47-شاء مضى وإن شاء رجع غير حنث" وقال" :لغزون قريشا ثم قال
في الثالثة إن شاء الله" وقال" :أل مشمر للجنة فقالت الصحابة نحن
المشمرون لها يا رسول الله فقال قولوا إن شاء الله" وقال تعالىَ} :واذ ْك ُْر
ت{ قال الحسن" :إذا نسيت أن تقول إن شاء الله" وهذا هو سي َ ك إ َِذا ن َ ِ َرب ّ َ
الستثناء الذي كان يجوزه ابن عباس متراخيا ويتأول عليه الية ل الستثناء
في القرار واليمين والطلق والعتاق وهذا من كمال علم ابن عباس وفقهه
في القرآن وقد أجمع المسلمون على أن الحالف إذا استثنى في يمينه متصل
ن كذا أو ل أفعله إن شاء الله إنه ل يحنث إذا خالف ما حلف بها فقال لفعل ّ
عليه لن من أصل أهل السلم أنه ل يكون شيء إل بمشيئة الله فإذا علق
الحالف الفعل أو الترك بالمشيئة لم يحنث عند عدم المشيئة ول تجب عليه
الكفارة ولو ذهبنا نذكر كل حديث أو أثر جاء فيه لفظ المشيئة وتعليق فعل
الرب بها لطال الكتاب جدا وأما الرادة فورودها في نصوص القرآن والسنة
ن ي َب ْل َُغا أ َ ُ ل ل ِما يريد{} :فَأ َراد رب َ َ
ما{} :وَإ َِذا شد ّهُ َ كأ ْ َ َ َ ّ معلوم أيضا كقوله} :فَّعا ٌ َ ُ ِ ُ
َ َ
ما
سَر{} :إ ِن ّ َ م ال ْعُ ْ ريد ُ ب ِك ُ ُ سَر َول ي ُ ِ م ال ْي ُ ْ ه ب ِك ُ ُ ريد ُ الل ّ ُ ة{} :ي ُ ِ ك قَْري َ ً ن ن ُهْل ِ َأَرد َْنا أ ْ
َ مُره ُ إ َِذا أ ََراد َ َ َ
كمل ِ َ ن تَ ْ ه فَل َ ْ ه فِت ْن َت َ ُ ن ي ُرِدِ الل ّ ُ م ْ ن{} :وَ َ كو ُ ن فَي َ ُ ه كُ ْ ل لَ ُ
قو َ ن يَ ُ شْيئا ً أ ْ أ ْ
حي إن أ َردت أ َ َ
ن
م إِ ْ ح ل َك ُ ْ ص َ ن أن ْ َ ِ ْ َ ْ ُ ْ ص ِ
م نُ ْ فعُك ُ ْ شْيئًا{ وقول نوحَ} :ول ي َن ْ َ ن الل ّهِ َ م َه ِ لَ ُ
َ َ
ن
هأ ْ ن ي ُرِدِ الل ّ ُ م ْ ن{ وقوله} :فَ َ جُعو َ م وَإ ِل َي ْهِ ت ُْر َ م هُوَ َرب ّك ُ ْ ن ي ُغْوِي َك ُ ْ ريد ُ أ ْ ه يُ ِ ن الل ّ ُ كا َ َ
ً
حَرجا{ ً جعَ ْ ّ َ ه يَ ْ
ضّيقا َ صد َْره ُ َ ل َ ه يَ ْ ضل ُ ن يُ ِ ن ي ُرِد ْ أ ْ م ْ سلم ِ وَ َ صد َْره ُ ل ِل ِ ْ ح َ شَر ْ ي َهْدِي َ ُ
َ ً ّ َ
ه{ وقوله} :والله يريد أن يتوب مَرد ّ ل ُ سوءا َفل َ قوْم ٍ ُ ه بِ َ وقوله} :وَإ َِذا أَراد َ الل ُ
عليكم ويريد
) (14/10
الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميل عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق
النسان ضعيفا{ وأخبر أنه إذا لم يرد تطهير قلوب عباده لم يكن لهم سبيل
إلى تطهيرها فقال} :أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا
خزي ولهم في الخرة عذاب عظيم{ وقال} :وإن الله يهدي من يريد{:
ن َ
حَرٍج وَ ِ ْ
ك ل ن َ م ْ م ِ ل عَل َي ْك ُ ْ جعَ َ ه ل ِي َ ْ ريد ُ الل ّ ُ ما ي ُ ِ }وإن الله يحكم ما يريد{ وقالَ } :
َ َ
ح
سي َ م ِ ك ال ْ َ ن ي ُهْل ِ َ ن أَراد َ أ ْ شْيئا ً إ ِ ْ ن الل ّهِ َ م َ ك ِ مل ِ ُ ن يَ ْ م ْ م{ وقوله} :فَ َ ريد ُ ل ِي ُط َهَّرك ُ ْ يُ ِ
َ ُ
مب عَن ْك ُ ُ ه ل ِي ُذ ْهِ َ ريد ُ الل ّ ُ ما ي ُ ِ ميعًا{ وقوله} :إ ِن ّ َ ج ِ ض َ ن ِفي الْر ِ م ْ ه وَ َ م ُم وَأ ّ مْري َ َ ن َ اب ْ َ
َ َ
ن أَراد َ ب ِك ُ ْ
م ن الل ّهِ إ ِ ْ م َ م ِ مك ُ ْ ص ُ ذي ي َعْ ِ ن َذا ال ّ ِ م ْ ل َ ت{ وقوله} :قُ ْ ل ال ْب َي ْ ِ س أهْ َ ج َ الّر ْ
َ َ َ َ ً
نن ي ُرِد ْ ِ ة إِ ْ ن ُدون ِهِ آل ِهَ ً م ْ خذ ُ ِ ة{ وقول صاحب يس} :أأت ّ ِ م ً ح َ م َر ْ سوءا أوْ أَراد َ ب ِك ُ ْ ُ
ما م ت يَ أ ر َ ف َ أ لْ ُ ق } وقوله: ن{ ذو ُ ق ن ي ول ً ا يئ ش َ م ه ت ع فا
َ ش َ ني ع ن غ ت ل ر
ْ َ ُ ْ َ ِ ِ ْ ُ َ ْ ُ ْ ُ َ ّ َ ِ ْ ُ ال ّ َ ُ ِ ّ
ض
ُ ب ن م ح ْ ر
ضّرهِ أوْ أَراد َِني َ َ َ ضّر هَ ْ ّ َ ّ
ت ُ فا ُ ش َ ن كا ِ ل هُ ّ ه بِ ُ ي الل ُ ن أَراد َن ِ َ ن اللهِ إ ِ ْ ن ُدو ِ م ْ ن ِ عو َ ت َد ْ ُ
حظا ِفي ً ّ َ جعَ َ ّ َ ّ َ مةٍ هَ ْ
م َ ل لهُ ْ ه أل ي َ ْ ريد ُ الل ُ مِته{ وقوله} :ي ُ ِ ح َ ت َر ْ سكا ُ م ِ م ْ ن ُ ل هُ ّ ح َ ب َِر ْ
د{ ري ُ ن نُ ِ م ْ شاُء ل ِ َ ما ن َ َ ه ِفيَها َ َ
جلَنا ل ُ ْ ة عَ ّ َ
جل َ ْ
ريد ُ الَعا ِ ن يُ ِ َ
ن كا َ م ْ ة{ وقولهَ } : خَر ِ ال ِ
والنصوص النبوية في إثبات إرادة الله أكثر من أن تحصر كقوله "من يرد الله
به خيرا يفقه في الدين" "من يرد الله به خيرا يصب منه" "إذا أراد الله
بالمير خيرا جعل له وزير صدق" "إذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها"
58
"إذا أراد الله هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأقر عينه بهلكها" "إذا أراد الله بعبد
خيرا عجل له العقوبة في الدنيا" "إذا أراد الله بعبد شرا أمسك عنه توبته
حتى يوافي يوم القيامة كأنه عير"
) (14/11
"إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة" "إذا أراد الله بأهل بيت
خيرا أدخل عليهم باب الرفق" "إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب من كان فيهم
ثم بعثوا على نياتهم" والثار النبوية في ذلك أكثر من أن نستوعبها.
فصل :وههنا أمر يجب التنبيه عليه والتنبه له وبمعرفته تزول إشكالت كثيرة
تعرض لمن لم يحط به علما وهو أن الله سبحانه له الخلق والمر وأمره
سبحانه نوعان :أمر كوني قدري ،وأمر ديني
) (14/12
شاِء{ ول حاجة إلى تكلف تقدير أمرنا مترفيها فيها بالطاعة فعصونا ح َ ِبال ْ َ
ف ْ
وفسقوا فيها بل المر ههنا أمر تكوين وتقدير ل أمر تشريع لوجوه أحدها :أن
المستعمل في مثل هذا التركيب أن يكون ما بعد الفاء هو المأمور به كما
تقول أمرته فقام وأمرته فأكل كما لو صرح بلفظة أفعل كقوله تعالى} :وَإ ِذ ْ
دوا{ وهذا كما تقول دعوته فأقبل وقال ج ُ م فَ َ
س َ دوا لد َ َ ج ُ
س ُملئ ِك َةِ ا ْ قُل َْنا ل ِل ْ َ
ه{ الثاني :أن المر بالطاعة ل يخص مد ِ ِ
ح ْ
ن بِ َجيُبو َ
ست َ ِ عوك ُ ْ
م فَت َ ْ م ي َد ْ ُ
تعالى} :ي َوْ َ
المترفين فل يصح حمل الية عليه بل تسقط فائدة ذكر المترفين فإن جميع
المبعوث إليهم مأمورون بالطاعة فل يصح أن يكون أمر المترفين علة إهلك
جميعهم الثالث :أن هذا النسق العجيب والتركيب البديع مقتض ترتب ما يعد
59
الفاء على ما قبلها ترتب المسبب على سببه والمعلول على علته أل ترى أن
الفسق علة حق القول عليهم وحق القول عليهم علة لتدميرهم فهكذا المر
سبب لفسقهم ومقتض له وذلك هو أمر التكوين ل التشريع الرابع :أن إرادته
سبحانه لهلكهم إنما كانت بعد معصيتهم ومخالفتهم لرسله فمعصيتهم
ومخالفتهم قد تقدمت فأراد الله إهلكهم فعاقبهم بأن قدر عليهم العمال
التي يتحتم معها هلكهم فإن قيل فمعصيتهم السابقة سبب لهلكهم فما
قوا ِفيَها{ وقد تقدم الفسق منهم قبل س ُ مت َْرِفيَها فَ َ َ
ف َ مْرَنا ُ
الفائدة في قوله} :أ َ
المعصية السابقة وإن كانت سببها للهلك لكن يجوز تخلف الهلك عنها ول
يتحتم كما هو عادة الرب تعالى المعلومة في خلقه أنه ل يتحتم هلكهم
بمعاصيهم فإذا أراد إهلكهم ول بد أحدث سببا آخر يتحتم معه الهلك أل ترى
أن ثمود ألم يهلكهم بكفرهم السابق حتى أخرج لهم الناقة فعقروها فأهلكوا
حينئذ وقوم فرعون لم يهلكهم بكفرهم السابق بموسى حتى أراهم اليات
المتتابعات واستحكم بغيهم وعنادهم فحينئذ أهلكوا وكذلك قوم لوط لما أراد
هلكهم أرسل الملئكة إلى لوط في صورة الضياف
) (14/13
فقصدوهم بالفاحشة ونالوا من لوط وتواعدوه وكذلك سائر المم إذا أراد
الله هلكهم أحدث لها بغيا وعدوانا يأخذها على أثره وهذه عادته مع عباده
عموما وخصوصا فيعصيه العبد وهو يحلم عنه ول يعاجله حتى إذا أراد أخذه
قيض له عمل يأخذه به مضافا إلى أعماله الولى فيظن الظان أنه أخذه بذلك
العمل وحده وليس كذلك بل حق عليه القول بذلك وكان قبل ذلك
ص -49-لم يحق عليهم القول بأعماله الولى حيث عمل ما يقتضي ثبوت
الحق عليه ولكن لم يحكم به أحكم الحاكمين ولم يمض الحكم فإذا عمل بعد
ذلك ما يقرر غضب الرب عليه أمضى حكمه عليه وأنفذه قال تعالى} :فَل َ ّ
ما
م{ وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله ولكن لم من ْهُ ْ
مَنا ِ
ق ْ
فوَنا ان ْت َ َ
س ُ
آ َ
يكن غضبه سبحانه قد استقر واستحكم عليهم إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم
فلما أيس من إيمانهم تقرر الغضب واستحكم فحلت العقوبة فهذا الموضع
من أسرار القرآن وأسرار التقدير اللهي وفكر العبد فيه من أنفع المور له
فإنه ل يدري أي المعاصي هي الموجبة التي يتحتم عندها عقوبته فل يقال
بعدها والله المستعان وسنعقد لهذا الفصل بابا في الفرق بين القضاء الكوني
والديني نشبع الكلم فيه إن شاء الله لشدة الحاجة إليه إذ المقصود في هذا
الباب مشيئة الرب وأنها الموجبة لكل موجود كما أن عدم مشيئته موجب
لعدم وجود الشيء فهما الموجبتان ما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ
وجب عدمه وامتناعه وهذا أمر يعم كل مقدور من العيان والفعال
والحركات والسكنات فسبحانه أن يكون في مملكته ما ل يشاء أو أن يشاء
شيئا فل يكون وإن كان فيها ما ل يحبه ول يرضاه وإن كان يحب الشيء فل
يكون لعدم مشيئته له ولو شاءه لوجد.
) (14/14
60
شفاء العليل
الباب الثالث عشر :في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق العمال
الباب الثالث عشر :في ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر وهي
مرتبة خلق الله سبحانه العمال وتكوينه وإيجاده لها
وهذا أمر متفق عليه بين الرسل صلى الله تعالى عليهم وسلم وعليه اتفقت
الكتب اللهية والفطر والعقول والعتبار وخالف في ذلك مجوس المة
فأخرجت طاعات ملئكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين وهي أشرف ما
في العالم عن ربوبيته وتكوينه ومشيئته بل جعلوهم هم الخالقون لها ول
تعلق لها بمشيئته ول تدخل تحت قدرته وكذلك قالوا في جميع أفعال
الحيوانات الختيارية فعندهم أنه سبحانه ل يقدر أن يهدي ضال ول يضل
مهتديا ول يقدر أن يجعل المسلم مسلما والكافر كافرا والمصلي مصليا وإنما
ذلك بجعلهم أنفسهم كذلك ل يجعله تعالى وقد نادى القرآن بل الكتب
السماوية كلها والسنة وأدلة التوحيد والعقول على بطلن قولهم وصاح بهم
أهل العلم واليمان من أقطار الرض وصنف حزب السلم وعصابة الرسول
وعسكره التصانيف في الرد عليهم وهي أكثر من أن يحصيها إل الله ولم تزل
أيدي السلف وأئمة السنة في أقفيتهم ونواصيهم تحت أرجلهم إذ كانوا يردون
باطلهم بالحق المحض وبدعتهم بالسنة والسنة ل يقوم لها شيء فكانوا معهم
كالذمة مع المسلمين إلى أن نبغت نابغة ردوا بدعتهم ببدعة تقابلها وقابلوا
باطلهم بباطل من جنسه وقالوا العبد مجبور على أفعاله مقهور عليها ل تأثير
له في وجودها البتة وهي واقعة بإرادته واختياره وغل غلتهم فقالوا بل هي
عين أفعال الله ول ينسب إلى العبد العلى المجاز والله سبحانه يلوم العبد
ويعاقبه ويخلده في النار على ما لم يكن للعبد فيه صنع ول هو فعله بل هو
محض فعل الله وهذا قول الجبرية وهو إن لم يكن شرا من القدرية فليس
هو بدونه في البطلن وإجماع الرسل واتفاق الكتب اللهية وأدلة العقول
والفطر والعيان يكذب هذا القول ويرده
) (15/1
61
النظام ولما رأى طائفة فساد هذا قالوا المؤثر في وجود الفعل هو قدرة
الرب على سبيل الستقلل قالوا ول يمتنع اجتماع المؤثرين على أثر واحد
ولم يستوحش هؤلء من القول بوقوع مفعول بين فاعلين ول مقدور بين
قادرين قالوا كما يمتنع وقوع معلوم بين عالمين ومراد بين مريدين ومحبوب
بين محبوبين ومكروه بين مكروهين قالوا ونحن نشاهد قادرين مستقلين كل
منهما يمكنه أن يستقل بالفعل يقع بينهما مفعول واحد يشتركان في فعله
والتأثير فيه قالوا وليس معكم ما يبطل هذا إل قولكم أن إضافته إلى أحدهما
على سبيل الستقلل يمنع إضافته إلى الخر وإضافته إليهما وفي هذه الحجة
إجمال ل بد له من تفصيل فيجوز وقوع مفعول بين فاعلين ل يستقل أحدهما
به كالمتعاونين على المر ل يقدر عليه أحدهما وحده ويجوز وقوع مفعول بين
فاعلين يشتركان فيه كل منهما يستقل به على سبيل البدل وهذا ظاهر أيضا
ويجوز وقوع مفعول بين فاعلين يشتركان فيه وكل منهما يقدر عليه
) (15/2
حال النفراد كمحمول يحمله اثنان كل منهما يمكنه أن يستقل بحمله وحده
وكل هذه القسام ممكنة بل واقعة بقي قسم واحد وهو مفعول بين فاعلين
كل منهما فعله على سبيل الستقلل فهذا محال فإن استقلل كل منهما
بفعله ينفي فعل الخر له فاستقللهما ينافي استقللهما وأكثر الطوائف يقر
بوقوع مقدور بين قادرين وإن اختلفوا في كيفية وقوعه ،فقالت طائفة الفعل
يضاف إلى قدرة الله سبحانه على وجه الستقلل بالتأثير ويضاف إلى قدرة
العبد لكنها غير مستقلة فإذا انضمت قدرة الله إلى قدرة العبد صارت قدرة
العبد مؤثرة على سبيل الستقلل بتوسط إعانة قدرة الله وجعل قدرة العبد
مؤثرة والقائل بهذا لم يتخلص من الخطأ حيث زعم أن قدرة العبد مستقلة
بإعانة قدرة الله له فعاد المر إلى اجتماع مؤثرين على أثر واحد لكن قدرة
أحدهما وتأثيره مستند إلى قدرة الخر وتأثيره وكأنه والله أعلم أراد أن قدرة
الرب مستقلة بالتأثير في إيجاد الفعل وهذا قد قاله طائفة من العلماء وقائل
هذا لم يتخلص من الخطأ حيث جعل قدرة العبد مستقلة بالتأثير في إيجاد
المقدور وهذا باطل إذ غاية قدرة العبد أن تكون سببا بل جزأ من السبب
والسبب ل يستقل بحصول المسبب ول يوجبه وليس في الوجود ما يوجب
حصول المقدور إل مشيئة الله وحده وأصحاب هذا القول زعموا أن الله
أعطى العبد قدرة وإرادة وفوض إليه بهما الفعل والترك وخله وما يريد فهو
يفعل ويترك بقدرته وإرادته اللتين فوض إليه الفعل والترك بهما وقالت
طائفة أخرى مقدور العبد هو عين مقدور الرب بشرط أن يفعله العبد إذا
تركه الرب ولم يفعله ل على أنه يفعله والرب له فاعل لستحالة خلق بين
خالقين وهذا بعينه مذهب من يقول بوقوع مفعول بين فاعلين على سبيل
وهذا مذهب كثير من القدرية منهم الشحام وغيره
) (15/3
62
عمرو ومحمد بن عيسى بن حفص والفرق بين هذا المذهب ومذهب
الشعريين من وجهين أحدهما :أن صاحب هذا المذهب يقول العبد فاعل
حقيقة وإن لم يكن محدثا مخترعا للفعل والشعري يقول العبد ليس بفاعل
وإن نسب إليه الفعل وإنما الفاعل في الحقيقة هو الله فل فاعل سواه
الثاني :أنهم يقولون الرب هو المحدث والعبد هو الفاعل وقالت فرقة :بل
أفعال العباد فعل لله على الحقيقة وفعل العبد على المجاز وهذا أحد قولي
الشعري وقالت فرقة أخرى منهم القلنسي وأبو إسحاق :في بعض كتبه أنها
فعل لله على الحقيقة وفعل النسان على الحقيقة ل على معنى أنه أحدثها
بل على معنى أنه كسب له وقالت طائفة أخرى وهم جهم وأتباعه :أن القادر
على الحقيقة هو الله وحده وهو الفاعل حقا ومن سواه ليس بفاعل على
الحقيقة ول كاسب أصل بل هو مضطر إلى جميع ما فيه من حركة وسكون
وقول القائل قام وقعد وأكل وشرب مجاز بمنزلة مات وكبر ووقع وطلعت
الشمس وغربت وهذا قول الجبرية الغلة وقابله طائفة أخرى فقالوا :العباد
موجدون لفعالهم مخترعون لها بقدرهم وإرادتهم والرب ل يوصف بالقدرة
على مقدور العبد ول تدخل أفعالهم تحت قدرته كما ل يوصف العباد بمقدور
الرب ول تدخل أفعاله تحت قدرهم وهذا قول جمهور القدرية وكلهم متفقون
على أن الله سبحانه غير فاعل لفعال العباد واختلفوا هل يوصف بأنه
مخترعها ومحدثها وأنه قادر عليها وخالق لها فجمهورهم نفوا ذلك ومن يقرب
منهم إلى السنة أثبت كونها مقدورة لله وأن الله سبحانه قادر على أعيانها
وأن العباد أحدثوها بإقدار الله لهم على إحداثها وليس معنى قدرة الله عليها
عندهم أنه قادر على فعلها هذا عندهم عين المحال بل قدرته عليها إقدارهم
على إحداثها فإنما أحدثوها بقدرته وإقداره وتمكينه وهؤلء أقرب القدرية إلى
) (15/4
السنة وأرباب هذه المذاهب مع كل طائفة منهم خطأ وصواب وبعضهم أقرب
إلى الصواب وبعضهم أقرب إلى الخطأ وأدلة كل منهم وحججه إنما تنهض
على بطلن خطأ الطائفة الخرى ل على إبطال ما أصابوا فيه فكل دليل
صحيح للجبرية إنما يدل على إثبات قدرة الرب تعالى ومشيئته وأنه ل خالق
غيره وأنه على كل شيء قدير ل يستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد
الممكنات وهذا حق ولكن ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون العبد قادرا
مريدا فاعل بمشيئته وقدرته وأنه هو الفاعل حقيقة وأفعاله قائمة به وأنها
فعل له ل لله وأنها قائمة به ل بالله وكل دليل صحيح يقيمه القدرية فإنما يدل
على أن أفعال العباد فعل لهم قائم بهم واقع بقدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم
وأنهم مختارون لها غير مضطرين ول مجبورين ليس معهم دليل صحيح ينفي
أن يكون الله سبحانه قادرا على أفعالهم وهو الذي جعلهم فاعلين فأدلة
الجبرية متظافرة صحيحة على من نفى قدرة الرب سبحانه على كل شيء
من العيان والفعال ونفى عموم مشيئته وخلقه لكل موجود وأثبت في
الوجود شيئا بدون مشيئته وخلقه وأدلة القدرية متظافرة صحيحة على من
نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره وقال أنه ليس بفاعل شيئا والله
يعاقبه على ما لم يفعله ول له قدرة عليه بل هو مضطر إليه مجبور عليه
وأهل السنة وحزب الرسول وعسكر اليمان ل مع هؤلء ول مع هؤلء بل هم
63
مع هؤلء فيما أصابوا فيه وهم مع هؤلء فيما أصابوا فيه فكل حق مع طائفة
من الطوائف فهم يوافقونهم فيه وهم براء من باطلهم فمذهبهم جمع حق
الطوائف بعضه إلى بعض والقول
) (15/5
ص -52-به ونصره وموالة أهله من ذلك الوجه ونفي باطل كل طائفة من
الطوائف وكسره ومعاداة أهله من هذا الوجه فهم حكام بين الطوائف ل
يتحيزون إلى فئة منهم على الطلق ول يردون حق طائفة من الطوائف ول
يقابلون بدعة ببدعة ول يردون باطل بباطل ول يحملهم شنآن قوم يعادونهم
ويكفرونهم على أن ل يعدلوا فيهم بل يقولون فيهم الحق ويحكمون في
مقاللتهم بالعدل والله سبحانه وتعالى أمر رسوله أن يعدل بين الطوائف
َ
ما أن َْز َ
ل م وَقُ ْ َ ك َفادع ُ واستقم ك َ ُ فقال} ::فَل ِذ َل ِ َ
ت بِ َ
من ْ ُ
لآ َ واَءهُ ْ
ت َول ت َت ّب ِعْ أهْ َ
مْر َ
ما أ ِ ْ َ ْ َ ِ ْ َ
ُ
م{ فأمره سبحانه أن يدعو إلى دينه وكتابه ل ب َي ْن َك ُ ُ
ت لعْدِ َ
مْر ُ
ب وَأ ِ ن ك َِتا ٍم ْ الل ّ ُ
ه ِ
وأن يستقيم في نفسه كما أمره وأن ل يتبع هوى أحد من الفرق وأن يؤمن
بالحق جميعه ول يؤمن ببعضه دون بعض وأن يعدل بين أرباب المقالت
والديانات وأنت إذا تأملت هذه الية وجدت أهل الكلم الباطل وأهل الهواء
والبدع من جميع الطوائف أبخس الناس منها حظا وأقلهم نصيبا ووجدت
حزب الله ورسوله وأنصار سنته هم أحق بها وأهلها وهم في هذه المسألة
وغيرها من المسائل أسعد بالحق من جميع الطوائف فإنهم يثبتون قدرة الله
على جميع الموجودات من العيان والفعال ومشيئته العامة وينزهونه ان
يكون في ملكه ما ل يقدر عليه ول هو واقع تحت مشيئته ويثبتون القدر
السابق وأن العباد يعملون على ما قدره الله وقضاه وفرغ منه وأنه ل يشاؤن
إل أن يشاء الله ول يفعلون إل من بعد مشيئته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ
لم يكن ول تخصيص عندهم في هاتين القضيتين بوجه من الوجوه والقدر
عندهم قدرة الله تعالى وعلمه ومشيئته وخلقه فل يتحرك ذرة فما فوقها إل
بمشيئته وعلمه وقدرته فهم المؤمنون بل حول ول قوة إل بالله على الحقيقة
إذا قالها غيرهم على المجاز إذ العالم علويه وسفليه وكل حي يفعل فعل فإن
فعله بقوة فيه على الفعل وهو في حول من ترك إلى
) (15/6
فعل ومن فعل إلى ترك ومن فعل إلى فعل وذلك كله بالله تعالى ل بالعبد
ويؤمنون بأن من يهده الله فل مضل له ومن يضلل فل هادي له وأنه هو الذي
يجعل المسلم مسلما والكافر كافرا والمصلي مصليا والمتحرك متحركا وهو
الذي يسير عبده في البر والبحر وهو المسير والعبد السائر وهو المحرك
والعبد المتحرك وهو المقيم والعبد القائم وهو الهادي والعبد المهتدي وأنه
المطعم والعبد الطاعم وهو المحي المميت والعبد الذي يحيى ويموت
ويثبتون مع ذلك قدرة العبد وإرادته واختياره وفعله حقيقة ل مجازا وهم
متفقون على أن الفعل غير المفعول كما حكاه عنهم البغوي وغيره
فحركاتهم واعتقاداتهم أفعال لهم حقيقة وهي مفعولة لله سبحانه مخلوقة له
حقيقة والذي قام بالرب عز وجل علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه والذي قام
64
بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم وسكناتهم فهم المسلمون المصلون
القائمون القاعدون حقيقة وهو سبحانه هو المقدر لهم على ذلك القادر عليه
الذي شاءه منهم وخلقه لهم ومشيئته وفعله بعد مشيئته فما يشاؤن إل أن
يشاء الله وما يفعلون إل أن يشاء الله وإذا وازنت بين هذا المذهب وبين ما
عداه من المذاهب وجدته هو المذهب الوسط والصراط المستقيم ووجدت
سائر المذاهب خطوطا عن يمينه وعن شماله فقريب منه وبعيد وبين ذلك
وإذا أعطيت الفاتحة حقها وجدتها من أولها إلى آخرها منادية على ذلك دالة
عليه صريحة فيه وإن كان حمده ل يقتضي غير ذلك وكذلك كمال ربوبيته
للعالمين ل يقتضي غير ذلك فكيف يكون الحمد كله لمن ل يقدر على مقدور
أهل سماواته وأرضه من الملئكة والجن والنس والطير والوحش بل يفعلون
ما ل يقدر عليه ول يشاءه ويشاء ما ل يفعله
) (15/7
) (15/8
تعالى لفعال المكلفين ودخولها تحت قدرته ومشيئته كما دخلت تحت علمه
كي ٌ
ل{ وهذا عام يٍء وَ ِ
ش ْ يٍء وَهُوَ عََلى ك ُ ّ
ل َ خال ِقُ ك ُ ّ
ل َ
ش ْ وكتابه قال تعالى} :الل ّ ُ
ه َ
محفوظ ل يخرج عنه شيء من العالم أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته وليس
65
مخصوصا بذاته وصفاته فإنه الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له
واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق وصفاته سبحانه داخله في مسمى
اسمه فإن الله سبحانه اسم للله الموصوف بكل صفة كمال المنزه عن كل
صفة نقص ومثال والعالم قسمان أعيان وأفعال وهو الخالق لعيانه وما
يصدر عنها من الفعال كما أنه العالم بتفاصيل ذلك فل يخرج شيء منه عن
علمه ول عن قدرته ول عن خلقه ومشيئته قالت القدرية :نحن نقول إن الله
خالق أفعال العباد ل على أنه محدثها ومخترعها لكن على معنى أنه مقدرها
ن{ وقال ن ال ْ َ ك الل ّ َ
فإن الخلق التقدير كما قال تعالى} :فَت ََباَر َ
قي َ
خال ِ ِ س ُ
ح َ
هأ ُْ
الشاعر:
ولنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم ل يفرى
أي لنت تمضي ما قدرته وتنفذه بعزمك وقدرتك وبعض القوم يقدر ثم ل قوة
له ول عزيمة على إنفاذ ما قدره وإمضائه فالله تعالى مقدر أفعال العباد وهم
الذين أوجدوها وأحدثوها ،قال أهل السنة :قدماؤكم ينكرون تقدير الله
سبحانه لعمال العباد البتة فل يمكنهم أن يجيبوا بذلك ومن اعترف منكم
بالتقدير فهو تقدير ل يرجع إلى تأثير وإنما هو مجرد العلم بها والخبر عنها
ليس التقدير عندكم جعلها على قدر كذا وكذا فإن هذا عندكم غير مقدور
للرب ول مصنوع له وإنما هو صنع العبد وإحداثه فرجع التقدير إلى مجرد
العلم والخبر وهذا ل يسمى خلقا في لغة أمة من المم ولو كان هذا خلقا
لكان من علم شيئا وعلم أسمائه وصفاته وأخبر عنه بذلك خالقا له فالتقدير
الذي أثبتموه إن كان متضمنا للتأثير
) (15/9
ص -54-في إيجاد الفعل فهو خلف مذهبكم وإن لم يتضمن تأثيرا في
ق
خال ِ ُ
ه َإيجاده فهو راجع إلى محض العلم والخبر ،قالت القدرية قوله} :الل ّ ُ
يٍء{ من العام المراد به الخاص ول سيما فإنكم قلتم إن القرآن لم ل َ
ش ْ كُ ّ
يدخل في هذا العموم وهو من أعظم الشياء وأجلها فخصصنا مه أفعال
العباد بالدلة الدالة على كونها فعلهم ومنعهم ،قالت أهل السنة :القرآن كلم
الله سبحانه وكلمه صفة من صفاته وصفات الخالق وذاته لم تدخل في
المخلوق فإن الخالق غير المخلوق فليس ههنا تخصيصا البتة بل الله سبحانه
بذاته وصفاته الخالق وكل ما عداه مخلوق وذلك عموم ل تخصيص فيه بوجه
إذ ليس إل الخالق والمخلوق والله وحده الخالق وما سواه كله مخلوق وأما
الدلة الدالة على أن أفعال العباد صنع لهم وإنما أفعالهم القائمة بهم وأنهم
هم الذين فعلوها فكلها حق نقول بموجبها ولكن ل ينبغي أن تكون أفعال لهم
ومخلوقة مفعولة لله فإن الفعل غير المفعول ول نقول أنها فعل لله والعبد
مضطر مجبور عليها ول نقول أنها فعل للعبد والله غير قادر عليها ول جاعل
للعبد فاعل لها ول نقول أنها مخلوقة بين مخلوقين مستقلين باليجاد والتأثير
خال ِقُ ك ُ ّ
ل ه َوهذه القوال كلها باطلة ،قالت القدرية يعني قوله تعالى} :الل ّ ُ
يٍء{ مما ل يقدر عليه غيره وأما أفعال العباد التي يقدر عليها العباد ش ْ َ
فإضافتها إليهم ينفي إضافتها إليه واللزم وقوع مفعولين بين فاعلين وهو
محال ،قالت أهل السنة :إضافتها إليهم فعل وكسبا ل ينفي إضافتها إليه
سبحانه خلقا ومشيئة فهو سبحانه الذي شاءها وخلقها وهم الذين فعلوها
66
وكسبوها حقيقة فلو لم تكن مضافة إلى مشيئته وقدرته وخلقه لستحال
وقوعها منهم إذ العباد أعجز وأضعف من أن يفعلوا ما لم يشأه الله ولم يقدر
عليه ول خلقه.
ُ َ
ه عَلى ك ّ
ل ّ
فصل :ومما يدل على قدرته سبحانه على أفعالهم قولهَ} :والل ُ
ديٌر{ واعتراض القدرية على الستدلليٍء قَ ِ َ
ش ْ
) (15/10
يٍء{ ش ْ ل َ خال ِقُ ك ُ ّ ه َ بذلك والجواب عنه نظير العتراض على قوله} :الل ّ ُ
وجوابه ونزيده تقريرا أن أفعالهم أشياء ممكنة والله قادر على كل ممكن
فهو الذي جعلهم فاعلين بقدرته ومشيئته ولو شاء لحال بينهم وبين الفعل مع
ن
م ْ ن ِ ذي َ ل ال ّ ِ ما اقْت َت َ َ ه َ شاَء الل ّ ُ سلمة آلة الفعل منهم كما قال تعالى} :وَل َوْ َ
ن
م ْ م َ من ْهُ ْ ن وَ ِ م َ نآ َ م ْ
م َ من ْهُ ْ فوا فَ ِ خت َل َ ُنا ْ م ال ْب َي َّنا ُ َ
ت وَلك ِ ِ جاَءت ْهُ ُ ما َ ن ب َعْد ِ َ م ْ م ِب َعْدِهِ ْ
كشاَء َرب ّ َ د{ وقال} :وَل َوْ َ ري ُ ما ي ُ ِ
ل َ فعَ ُ ه يَ ْن الل ّ َ
ما اقْت َت َُلوا وَل َك ِ ّ شاَء الل ّ ُ
ه َ فَر وَل َوْ َ كَ َ
ً ّ َ ْ
ميعا{ فهو سبحانه يحول بين المرء وقلبه وبين ج ِ
م َ ض ك ُلهُ ْ ن ِفي الْر ِ م ْن َ م ََل َ
النسان ونطقه وبين اليد وبطشها وبين الرجل ومشيها فكيف يظن به ظن
السوء ويجعل له مثل السوء إنه ل يقدر على ما يقدر عليه عباده ول تدخل
أفعالهم تحت قدرته تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون لقدرته علوا
كبيرا نعم ول نظن به ظن السوء ونجعل له مثل السوء أنه يعاقب عباده على
ما لم يفعلوه ول قدرة لهم على فعله بل على ما فعله هو دونهم واضطرهم
إليه وجبرهم عليه وذلك بمنزلة عقوبة الزمن إذا لم يطر إلى السماء وعقوبة
أشل اليد على ترك الكتابة وعقوبة الخرس على ترك الكلم فتعالى الله عن
هذين المذهبين الباطلين المنحرفين عن سواء السبيل.
ما م
ْ ِ ّ م ُ ك َ ل َ
ل ّ
فصل :ومن الدليل على خلق أعمال العباد قوله تعالىَ َ ُ َ :
ع ج ه ل وال }
ل ل َك ُم من ال ْجبا َ
حّر م ال ْ َ قيك ُ ُ ل تَ ِ سَراِبي َ م َ ل ل َك ُ ْ
جعَ َ ل أك َْنانا ً وَ َِ َ ِ جعَ َ ْ ْ ِ َ ظلل ً وَ َ خل َقَ ِ َ
م{ فأخبر أنه هو الذي جعل السرابيل وهي الدروع سك ُ ْم ب َأ َ قيك ُ ْ ل تَ ِسَراِبي َ وَ َ
والثياب المصنوعة ومادتها ل تسمى سرابيل إل أن بعد تحيلها
) (15/11
ص -55-صنعة الدميين وعملهم فإذا كانت مجعولة لله فهي مخلوقة له
م ُ
ن ب ُُيوت ِك ْ
م ْ
م ِ ل ل َك ُ ْجعَ َ ه َبجملتها صورتها ومادتها وهيآتها ونظير هذا قولهَ} :والل ّ ُ
َ
م
م وَي َوْ َ م ظ َعْن ِك ُ ْ فون ََها ي َوْ َخ ّ جُلودِ الن َْعام ِ ب ُُيوتا ً ت َ ْ
ست َ ِ ن ُ م ْ ل ل َك ُ ْ
م ِ جعَ َ كنا ً وَ َ س َ َ
م{ فأخبر سبحانه أن البيوت المصنوعة المستقرة والمتنقلة مجعولة ُ
مت ِك ْ إ َِقا َ
ة ل َهم أناَ
له وهي إنما صارت بيوتا بالصنعة الدمية ونظيره قوله تعالىَ} :وآي َ ٌ ُ ْ ّ
ن{ فأخبر ما ي َْرك َُبو َ مث ْل ِهِ َ
ن ِ م ْم ِ قَنا ل َهُ ْ
خل َ ْ
ن ،وَ َ حو ِ ش ُ ك ال ْ َ
م ْ فل ْ ِ
م ِفي ال ْ ُ مل َْنا ذ ُّري ّت َهُ ْح َ َ
سبحانه وتعالى أنه خالق الفلك المصنوع للعباد وأبعد من قال أن المراد
بمثله هو البل فإنه إخراج المماثل حقيقة واعتبار لما هو بعيد عن المماثلة
ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن خليله أنه قال لقومه أتعبدون ما تنحتون
والله خلقكم وما تعملون فإن كانت ما مصدرية كما قدره بعضهم فالستدلل
ظاهر وليس بقوي إذ ل تناسب بين إنكاره عليهم عبادة ما ينحتونه بأيديهم
وبين إخبارهم بأن الله خالق أعمالهم من عبادة تلك اللهة ونحتها وغير ذلك
67
فالولى أن تكون ما موصولة أي والله خلقكم وخلق آلهتكم التي عملتموها
بأيديكم فهي مخلوقة له ل آلهة شركاء معه فأخبر أنه خلق معمولهم وقد حله
عملهم وصنعهم ول يقال المراد مادته فإن مادته غير معمولة لهم وإنما يصير
معمول بعد عملهم.
فصل :وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي جعل أئمة الخير يدعون إلى الهدى
وأئمة الشر يدعون إلى النار فتلك المامة والدعوة بجعله فهي مجعولة له
ن إ َِلى الّناِر{ وفعل لهم قال تعالى عن آل فرعون} :وجعل ْناهُ َ
عو َ
ة ي َد ْ ُ
م ً
م أئ ِ َّ َ َ َ ْ
مرَِنا{ فأخبر أن هذا وهذا َ وقال عن أئمة الهدى} :وجعل ْناهُ َ
ن ب ِأ ْ
دو َ
ة ي َهْ ُ
م ً
م أئ ِ ّ
َ َ َ َ ْ
ْ
جعَلَنا
بجعله مع كونه كسبا وفعل للئمة ونظير ذلك قول الخليلَ} :رب َّنا َوا ْ
ك{ فأخبر الخليل أنه سبحانه هو الذي ن لَ َ
مي ْ ِ
سل ِ َ
م ْ
ُ
) (15/12
يجعل المسلم مسلما وعند القدرية هو الذي جعل نفسه مسلما ل أن الله
جعله مسلما ول جعله إماما يهدي بأمره ول جعل الخر إماما يدعوا إلى النار
على الحقيقة بل هم الجاعلون لنفسهم كذلك حقيقة ونسبة هذا الجعل إلى
الله مجاز بمعنى التسمية أي سمنا مسلمين لك و كذلك جعلناهم أئمة أي
سميناهم كذلك وهم جعلوا أنفسهم أئمة رشد وضلل فمنهم الحقيقة ومنه
المجاز والتعبير.
فصل :ومن ذلك إخباره سبحانه بأنه هو الذي يلهم العبد فجوره وتقواه
واللهام اللقاء في القلب ل مجرد البيان والتعليم كما قاله طائفة من
المفسرين إذ ل يقال لمن بين لغيره شيئا وعلمه إياه أنه قد ألهمه ذلك هذا ل
يعرف في اللغة البتة بل الصواب ما قاله ابن زيد قال جعل فيها فجورها
وتقواها وعليه حديث عمران بن حصين" :أن رجل من مزينة أو جهينة أتى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال :يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه
ويكدحون أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر سابق أو فيما يستقبلون
مما أتاهم به نبيهم قال :بل شيء قضى عليهم ومضى قال :ففيم العمل قال:
من خلقه الله لحدى المنزلتين استعمله بعمل أهلها وتصديق ذلك في كتاب
َ
ها{" فقراءته هذه الية وا َ ق َ
ها وَت َ ْ جوَر َمَها فُ ُها ،فَأل ْهَ َ
وا َ
س ّما َس وَ َ ف ٍ الله} :وَن َ ْ
عقيب إخباره بتقديم القضاء والقدر السابق يدل على أن المراد باللهام
استعمالها فيما سبق لها ل مجرد تعريفها فإن التعريف والبيان ل يستلزم
وقوع ما سبق به القضاء والقدر ومن فسر الية من السلف بالتعليم
والتعريف فمراده تعريف مستلزم لحصول ذلك ل تعريف مجرد عن الحصول
فإنه ل يسمى إلهاما وبالله التوفيق.
ت م بِ َ َ ُ َ َ َ
ذا ِ ه عَِلي ٌ
جهَُروا ب ِهِ إ ِن ّ ُ
م أوِ ا ْ سّروا قوْلك ْ فصل :ومن ذلك قوله تعالى} :وَأ ِ
ف ال ْ َ َ
خِبيُر{ وذات الصدور كلمة لما طي ُخل َقَ وَهُوَ الل ّ ِ ن َم ْم َدوِر ،أل ي َعْل َ ُ ص ُ
ال ّ
يشتمل عليه الصدر من العتقادات والرادات
) (15/13
ص -56-والحب والبغض أي صاحبة الصدور فإنها لما كانت فيها قائمة بها
نسبت إليها نسبة الصحبة والملزمة وقد اختلف في إعراب من خلق هو
68
النصب أو الرفع فإن كان مرفوعا فهو استدلل على علمه بذلك لخلقه له
والتقدير أنه يعلم ما تضمنته الصدور وكيف ل يعلم الخالق ما خلقه وهذا
الستدلل في غاية الظهور والصحة فإن الخلق يستلزم حياة الخالق وقدرته
وعلمه ومشيئته وإن كان منصوبا فالمعنى أل يعلم مخلوقه وذكر لفظة من
تغليبا ليتناول العلم العاقل وصفاته على التقديرين فالية دالة على خلق ما
في الصدور كما هي على علمه سبحانه به وأيضا فإنه سبحانه خلقه لما في
خَلق{ أي كيف يخفى عليه َ
ن َ م ْ م َ الصدور دليل على علمه بها فقال} :أل ي َعْل َ ُ
ما في الصدور وهو الذي خلقه فلو كان ذلك غير مخلوق له لبطل الستدلل
به على العلم فخلقه سبحانه للشيء من أعظم الدلة على علمه به فإذا
انتفى الخلق انتفى دليل العلم فلم يبق ما يدل على علمه بما ينطوي عليه
الصدر إذا كان غير خالق لذلك وهذا من أعظم الكفر برب العالمين وجحد لما
اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وعلم بالضرورة أنهم القوة إلى
المم كما ألقوا إليهم أنه إله واحد ل شريك له
ْ
جعَلِني با ْ فصل :ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم أنه قالَ} :ر ّ
َ مقيم الصلة ومن ذ ُريِتي{ وقولهَ} :فاجع ْ َ
م{ وي إ ِلي ْهِ ْ س ت َهْ ِ
ن الّنا ِ م َ ل أفْئ ِد َة ً ِ ْ َ ّ ِ َ ِ ْ ّ ّ ُ ِ َ
ْ
ن ات ّب َُعوه ُ َرأفَ ً ّ ُ ْ
ة{ وقوله ة وََرهَْبان ِي ّ ًم ًح َ ة وََر ْ ذي َ ب ال ِ جعَلَنا ِفي قُلو ِ وقوله تعالى} :وَ َ
ضي ّا{ وقال في الطرف ً ب َر ِ ه َر ّ ْ
جعَل ُ حكاية عن زكريا أنه قال عن ولدهَ} :وا ْ
ْ
جعَلَنا ة{ وقال} :وَ َ م َقا ِ
سي َ ً ُ
جعَلَنا قُلوب َهُ ْ ْ م وَ َ م ل َعَّناهُ ْ ميَثاقَهُ ْم ِ ضهِ ْ ق ِ ما ن َ ْالخر} :فَب ِ َ
ً َ َ
م وَْقرا{ وهذه الكنة والوقر هي شدة قُهوهُ وَِفي آَذان ِهِ ْ ف َ
ن يَ ْ ةأ ْ م أك ِن ّ ً عََلى قُُلوب ِهِ ْ
البغض والنفرة والعراض التي ل يستطيعون معها
) (15/14
69
اختيارية واقعة بإرادة العبد واختياره وفي هذا الحديث وسدد لساني وتسديد
اللسان جعله ناطقا بالسداد من القول ومثله قوله في الحديث الخر" :اللهم
اجعلني لك مخلصا" ومثله قوله
) (15/15
ص " -57-اللهم اجعلني أعظم شكرك وأكثر ذكرك وأتبع نصيحتك وأحفظ
َ َ
مَنا{ فالصبر ت أقْ َ
دا َ صْبرا ً وَث َب ّ ْ وصيتك" ومثله قول المؤمنينَ} :رب َّنا أفْرِغ ْ عَل َي َْنا َ
وثبات القدام فعلن اختياريان ولكن التصبير والتثبيت فعل الرب تعالى وهو
ب أ َوْزِعِْني المسؤول والصبر والثبات فعلهم القائم بهم حقيقة ومثله قولهَ} :ر ّ
ك ال ِّتي أ َنعمت عَل َي وعََلى وال ِدي وأ َ َ ن أَ ْ َ
ه{صاِلحا ً ت َْر َ ُ
ضا ل َ م َ ن أعْ َ َ َ ّ َ ْ ّ َ َْ ْ َ مت َ َشك َُر ن ِعْ َ أ ْ
وقال ابن عباس والمفسرون بعده ألهمني قال أبو إسحاق وتأويله في اللغة
كفني عن الشياء إل نفس شكر نعمتك ولهذا يقال في تفسير الموزع المولع
ومنه الحديث" :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم موزعا بالسؤال أي
مولعا به كأنه كف ومنع إل منه" وقال في الصحاح وزعته أزعه وزعا كففته
فاتزع عنه أي كف وأوزعته بالشيء أغريته به فأوزع به فهو موزع به
واستوزعت الله شكره فأوزعني أي استلهمته فألهمني فقد دار معنى اللفظة
على معنى ألهمني ذلك واجعلني مغرى به وكفني عما سواه وعند القدرية إن
هذا غير مقدور للرب بل هو غير مقدور العبد
َ ّ َ
م ِفي ُ
طيعُك ْ ل اللهِ لوْ ي ُ ِ سو َ م َر ُ ُ
ن ِفيك ْ موا أ ّ فصل :ومن ذلك قوله تعالىَ} :واعْل َ ُ
َ
م وَك َّرهَ ه ِفي قُُلوب ِك ُ ْ ن وََزي ّن َ ُ ما َ لي َ
ما ِ ب إ ِل َي ْك ُ ُ حب ّ َ
ه َن الل ّ َ
م وَل َك ِ ّ
مرِ ل َعَن ِت ّ ْ ن ال ْ م َ ك َِثيرٍ ِ
ُ
ن أول َئ ِ َ
ن{ فتحبيبه سبحانه دو َش ُ م الّرا ِ ك هُ ُ صَيا َسوقَ َوال ْعِ ْ ف ُ فَر َوال ْ ُ م ال ْك ُ ْإ ِل َي ْك ُ ُ
اليمان إلى عباده المؤمنين هو إلقاء محبته في قلوبهم وهذا ل يقدر عليه
سواه وأما تحبيب العبد الشيء إلى غيره فإنما هو بتزيينه وذكر أوصافه وما
يدعو إلى محبته فأخبر سبحانه أنه جعل في قلوب عباده المؤمنين المرين
حبه وحسنه الداعي إلى حبه وألقى في قلوبهم كراهة ضده من الكفر
والفسوق والعصيان وإن ذلك محض فضله ومنته عليهم حيث لم يكلهم إلى
أنفسهم بل تولى هو سبحانه هذا التحبيب
) (15/16
والتزيين وتكريه ضده فجاد عليهم به فضل منه ونعمة والله عليم بمواقع
فضله ومن يصلح له ومن ل يصلح حكيم بجعله في مواضعه ومن ذلك قوله
ما ِفي ت َ ق َ ف ْم ل َوْ أ َن ْ َ ن قُُلوب ِهِ ْ ف ب َي ْ َ ن ،وَأ َل ّ َ مِني َ صرِهِ وَِبال ْ ُ
مؤ ْ ِ ك ب ِن َ ْ ذي أ َي ّد َ َ تعالى} :هُوَ ال ّ ِ
َ
ه أل ّ َ َ ال َْر
م،كي ٌ ح ِ زيٌز َ ه عَ َ ِم إ ِن ّ ُف ب َي ْن َهُ ْ ن الل ّ َ
ّ م وَل َك ِ ن قُُلوب ِهِ ْ َ ت ب َي ْف َ ما أل ّ ْ ميعا ً َ ج ِ ض َ ِ
َ واذ ْك ُروا ن ِعمت الل ّه عَل َيك ُم إذ ْ ك ُنت َ
ه
مت ِ ِ م ب ِن ِعْ َ حت ُ ْ صب َ ْم فَأ ْ ن قُُلوب ِك ُ ْ ف ب َي ْ َ داًء فَأل ّ َ م أعْ َ ُْ ْ ْ ْ ِ ِ ْ َ َ ُ َ
وانا{ وتأليف القلوب جعل بعضها يألف ويميل إليه ويحبه وهو من أفعالها ً خ َ إِ ْ
الختيارية وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي فعل ذلك ل غيره ومن ذلك قوله:
}يا أ َيها ال ّذين آمنوا اذ ْك ُروا ن ِعمت الل ّه عَل َيك ُم إذ ْ هَم قَو َ
مطوا إ ِل َي ْك ُ ْ س ُ ن ي َب ْ ُ
مأ ْ ّ ْ ٌ ْ ْ ِ ِ ْ َ َ ُ ِ َ َ ُ َ َّ
م{ فأخبر سبحانه بفعلهم وهو إلههم وبفعله وهو م عَن ْك ُْ ه ي د يف أَ َ ك َ ف م َ
ْ َُِ ْ ّ أي ْدِي َهُ ْ
كفهم عما هموا به ول يصح أن يقال أنه سبحانه أشل أيديهم وأماتهم وأنزل
عليهم عذابا حال بينهم وبين ما هموا به بل كف قدرهم وإرادتهم مع سلمة
70
حواسهم وبنيتهم وصحة آلت الفعل منهم وعند القدرية هذا محال بل هم
و
الذين يكفون أنفسهم والقرآن صريح في إبطال قولهم ومثله قوله} :وَهُ َ
م عَل َي ْهِ ْ
م{ فَرك ُ ْن أ َظ ْ َ َ
ن ب َعْد ِ أ ْ
م ْ مك ّ َ
ة ِ ن َ ْ
م ب ِب َط ِ
م عَن ْهُ ْ
َ
م وَأي ْدِي َك ُ ْ
م عَن ْك ُ ْ
ال ّذي ك َ ّ َ
ف أي ْدِي َهُ ْ ِ
فهذا كف أيدي الفريقين مع سلمتهما وصحتهما وهو بأن حال بينهم وبين
ة
م ٍ ن ن ِعْ َم ْم ِ ما ب ِك ُ ْالفعل فكف بعضهم عن بعض ومن ذلك قوله تعالى} :وَ َ
ه{ واليمان والطاعة من أجل النعم بل هما أجل النعم على الطلق ن الل ّ ِ
م َ فَ ِ
فهما منه سبحانه تعليما وإرشادا وإلهاما وتوفيقا ومشيئة وخلقا ول يصح أن
يقال أنها أمرا وبيانا فقط فإن ذلك حاصل بالنسبة إلى الكفار والعصاة فتكون
نعمته على أكفر الخلق كنعمته على أهل
) (15/17
اليمان والطاعة والبر منهم إذ نعمة البيان والرشاد مشتركة وهذا قول
القدرية وقد صرح به كثير منهم ولم يجعلوا لله على العبد نعمة في مشيئته
ص -58-وخلقه فعله وتوفيقه إياه حين فعله وهذا من قولهم الذي باينوا به
جميع الرسل والكتب وطردوا ذلك حين لم يجعلوا لله على العبد منه في
إعطائه الجزاء بل قالوا ذلك محض حقه الذي ل منة لله عليه فيه واحتجوا
بقوله} :ل َه َ
ن{ قالوا أي غير ممنون به عليهم إذ هو جزاء مُنو ٍ م ْجٌر غَي ُْر َ مأ ْ ُ ْ
أعمالهم وأجورها قالوا والمنة تكدر النعمة والعطية ولم يدعوا هؤلء للجهل
بالله موضعا وقاسوا منته على منة المخلوق فإنهم مشبهة في الفعال
معطلة في الصفات وليست المنة في الحقيقة إل لله فهو المان بفضله وأهل
ن سمواته وأهل أرضه في محض منته عليهم قال تعالى} :يمنون عَل َي َ َ
كأ ْ ْ َ ُ ّ َ
ْ ل ل تمنوا عَل َي إسلمك ُم بل الل ّه يمن عَل َيك ُ َ َ
داك ُ ْ ِ ِ َ ِ ِ ْ
ن إ ن ما لي ل م ن هَ َ مأ ْ ْ ْ ُ َ ُ ّ ّ ِ ْ َ ْ َ ِ َ ُ ّ موا قُ ْ سل َ ُأ ْ
خَرى{ مّرةً أ ُ ْ ك َ من َّنا عَل َي ْ َقد ْ َن{ وقال تعالى لكليمه موسى} :وَل َ َ صادِِقي َ م َ ك ُن ْت ُ ْ
َ
نذي َ ن عََلى ال ّ ِ م ّ ن نَ ُ ريد ُ أ ْ ن{ وقال} :وَن ُ ِ هاُرو َ سى وَ َ مو َ من َّنا عََلى ُ قد ْ َ وقال} :وَل َ َ
َ َ
ن{ ولما قال النبي صلى وارِِثي َ م ال ْ َ جعَل َهُ ُ
ة وَن َ ْ م ً
م أئ ِ ّ جعَل َهُ ْ
ض وَن َ ْ ْ
فوا ِفي الْر ِ ضعِ ُ
ست ُ ْ ا ْ
الله عليه وسلم للنصار ألم أجدكم ضلل فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله
مث ْل ُك ُ ْ
م شٌر ِ ن إ ِل ّ ب َ َح ُ ن نَ ْ
بي قالوا الله ورسوله أمن وقال الرسل لقومهم} :إ ِ ْ
ه{ فمنه سبحانه وتعالى محض عَبادِ ِن ِ م ْ شاُء ِ ن يَ َ م ْن عََلى َ م ّه يَ ُ ن الل ّ َوَل َك ِ ّ
إحسانه وفضله ورحمته وما طاب عيش أهل الجنة فيها إل بمنته عليهم ولهذا
قال أهلها وقد أقبل بعضهم على بعض يتساءلون إنا كنا قبل في أهلنا
مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم فأجزوا لمعرفتهم بربهم وحقه
عليهم أن نجاهم من عذاب السموم بمحض منته عليهم وقد قال
) (15/18
أعلم الخلق بالله وأحبهم إليه وأقربهم منه وأطوعهم له" :لن يدخل أحد
منكم الجنة بعمله قالوا ول أنت يا رسول الله قال ول أنا إل أن يتغمدني الله
برحمة منه وفضل" وقال" :إن الله لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو
غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم" والول في
الصحيح والثاني في المسند والسنن وصححه الحاكم وغيره فأخبر سيد
71
العالمين والعاملين أنه ل يدخل الجنة بعمله وقالت القدرية أنهم يدخلونها
بأعمالهم لئل يتكدر نعيمهم عليهم بمشيئة الله بل يكون ذلك النعيم عوضا وما
رمى السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم القدرية عن قوس واحد إل
لعظم بدعهم ومنافاتها لما بعث الله به أنبياءه ورسله فلو أتى العباد بكل
طاعة وكانت أنفاسهم كلها طاعات لله لكانوا في محض منته وفضله وكانت
له المنة عليهم وكلما عظمت طاعة العبد كانت منة الله عليه أعظم فهو
جٌر المان بفضله فمن أنكر منته فقد أنكر إحسانه وأما قوله تعالى} :ل َه َ
مأ ْ ُ ْ
ن{ فلم يختلف أهل العلم بالله ورسوله وكتابه أن معناه غير مُنو ٍ
م ْغَي ُْر َ
مقطوع ومنه ريب المنون وهو الموت لنه يقطع العمر.
َ ْ َ
م
َ ْ ِو ي لى ِ إ َ ء ضا
داوَة َ َوا َ ْ َ
غ ب ل م ال ْعَ َ فصل :ومن ذلك قوله تعالى} :فَأغَْري َْنا ب َي ْن َهُ ُ
ة{ وهذا م ِ قَيا َضاَء إ َِلى ي َوْم ِ ال ْ ِ داوَة َ َوال ْب َغْ َ م ال ْعَ َ ة{ وقوله} :وَأ َل ْ َ
قي َْنا ب َي ْن َهُ ُ م ِ ال ْ ِ
قَيا َ
الغراء واللقاء محض فعله سبحانه والتعادي والتباغض أثره وهو محض
فعلهم وأصل ضلل القدرية والجبرية من عدم اهتدائهم إلى الفرق بين فعله
سبحانه وفعل العبد فالجبرية جعلوا التعادي والتباغض فعل الرب دون
المتعاديين والمتباغضين والقدرية جعلوا ذلك محض فعلهم الذي ل صنع لله
فيه ول قدرة ول مشيئة وأهل الصراط السوي جعلوا ذلك فعلهم وهو أثر فعل
ر{ ح ِ م ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ سي ُّرك ُ ْ
ذي ي ُ َ الله وقدرته ومشيئته كما قال تعالى} :هُوَ ال ّ ِ
فالتسيير فعله والسير فعل العباد وهو أثر
) (15/19
التسيير وكذلك الهدى والضلل فعله والهتداء والضلل أثر فعله وهما أفعالنا
القائمة بنا فهو الهادي والعبد المهتدي وهو الذي يضل من يشاء والعبد الضال
وهذا حقيقة وهذا
72
ه{ فأخبر أنه هو الذي
ضعِ ِ
وا ِ
م َ
ن َ ن ال ْك َل ِ َ
م عَ ْ حّرُفو َ
ة يُ َ
سي َ ً جعَل َْنا قُُلوب َهُ ْ
م َقا ِ ل َعَّناهُ ْ
م وَ َ
قسى قلوبهم حتى صارت قاسية
) (15/20
فالقساوة وصفها وفعلها وهي أثر فعله وهو جعلها قاسية وذلك أثر معاصيهم
ونقضهم ميثاقهم وتركهم بعض ما ذكروا به فالية مبطلة لقول القدرية
والجبرية.
َ َ
قام ٍ
م َ
ن وَُزُروٍع وَ َ ت وَعُُيو ٍ جّنا ٍ ن َ م ْم ِ جَناهُ ْ خَر ْ فصل :ومن ذلك قوله تعالى} :فأ ْ
م{ وهم إنما خرجوا باختيارهم وقد أخبر هو الذي أخرجهم فالخراج فعله ري ٍ كَ ِ
حقيقة والخروج فعلهم حقيقة ولول إخراجه لما خرجوا وهذا بخلف قوله:
ن اْل َْر }والل ّ َ
خَراجًا{ وقوله} :هُ َ
و م إِ ْ جك ُ ْ خرِ ُ م ِفيَها وَي ُ ْ م ي ُِعيد ُك ُ ْ ض ن ََباتا ً ث ُ ّ ِ م َم ِ ه أن ْب َت َك ُ ْ َ ُ
شر{ وقوله: ح ْ ْ ل ا ل و َ ل م ه ر يا د ن م ب تا ك ْ ل ا ل ْ هفروا من أ َ َ َ ك ن ذيّ ل ا ج ر خ
ْ ال ّذي أ َ
َ َِ ِ ِ ْ َِ ِ ِ ْ ّ ِ ِ ِ ْ ُ ِ َ َ َ ِ
م{ فإن هذا إخراج ل صنع لهم فيه فإنه بغير مَهات ِك ُْ طون أ ُ ُ ب ن م م ُ َ
ِ ّ ْ ُ ِ }أ َ َ ْ
ك ج رخْ
ق{ فيحتمل أن ح ّ ك ِبال ْ َ ن ب َي ْت ِ َم ْ ك ِ ك َرب ّ َ ج َ خَر َ ما أ َ ْ اختيارهم وإرادتهم وأما قوله} :ك َ َ
يكون إخراجا بقدره ومشيئته فيكون من الول ويحتمل أن يكون إخراجا
يوجبه بأمره فل يكون من هذا فيكون الخراج في كتاب الله ثلثة أنواع أحدها
إخراج الخارج بإختياره ومشيئته والثاني إخراجه قهرا وكرها والثالث إخراجه
أمرا وشرعا.
َ
فصل :وقد ظن طائفة من الناس أن من هذا الباب قوله تعالى} :فَل ْ
م
مى{ وجعلوا ذلك ه َر َ ن الل ّ َ ت وَل َك ِ ّ ت إ ِذ ْ َر َ
مي ْ َ مي ْ َ ما َر َ م وَ َه قَت َل َهُ ْ ن الل ّ َم وَل َك ِ ّ قت ُُلوهُ ْ تَ ْ
من أدلتهم على القدرية ولم يفهموا مراد الية وليست من هذا الباب فإن هذا
خطاب لهم في واقعة بدر حيث أنزل الله سبحانه وملئكته فقتلوا أعداءه فلم
يفرد المسلمون بقتلهم بل قتلتهم الملئكة وأما رميه صلى الله عليه وسلم
فمقدوره كان هو الحذف واللقاء وأما إيصال ما رمى به إلى وجوه العدو مع
البعد وإيصال ذلك إلى وجوه جميعهم فلم يكن من فعله ولكنه فعل الله
وحده فالرمي يراد به الحذف واليصال فأثبت له الحذف بقوله إذ رميت
ونفى عنه اليصال بقوله وما رميت.
فصل :ومن ذلك
) (15/21
ك وَأ َب ْ َ
كى{ والضحك والبكاء فعلن اختياريان فهو سبحانه ح َ
ض َ
َ
ه هُوَ أ ْ
َ
قوله} :وَأن ّ ُ
المضحك المبكي حقيقة والعبد هو الضاحك الباكي حقيقة وتأويل الية بخلف
ذلك إخراج للكلم
73
خلقه فإن خلقه ل يسمى إراءة ول يستلزم رؤيتنا له بل إراءتنا له جعلنا نراه
ن ي َب ْل َُغا وذلك فعله سبحانه ومن ذلك قول الخضر لموسى} :فَأ َراد رب َ َ
كأ ْ َ َ َ ّ
ما{ فبلوغ الشد ليس من فعلهما واستخراج الكنز جا ك َن َْزهُ َ
خرِ َ
ست َ ْ
ما وَي َ ْ أَ ُ
شد ّهُ َ
من أفعالهما الختيارية وقد أخبر أن كليهما بإرادته سبحانه ومن ذلك قوله
تعالى عن السحرة} :وما هُم بضارين به م َ
ه{ وليس إذنه ها ن الل ّ ِ
حد ٍ إ ِل ّ ب ِإ ِذ ْ ِنأ َ ْ ِ َ ّ َ ِ ِ ِ ْ َ َ
هنا أمره وشرعه بل قضاؤه وقدره ومشيئته فهو إذا كوني قدري ل ديني
أمري.
َ َ
حقّ ب َِها وَأهْلَها{ َ َ َ ْ َ
وى وَكاُنوا أ َ ق َة الت ّ ْ
م َم كل ِ َمهُ ْ فصل :ومن ذلك قوله تعالى} :وَألَز َ
وكلمة التقوى هي الكلمة التي يتقى الله بها وأعلى أنواع هذه الكلمة هي
قول ل إله إل الله ثم كل كلمة يتقى الله بها بعدها فهي من كلمة التقوى وقد
أخبر سبحانه أنه ألزمها عبادة المؤمنين فجعلها لزمة لهم ل ينفكون عنها
فبإلزامه التزموها ولول إلزامه لهم إياها لما التزموها والتزامها فعل اختياري
تابع لرادتهم واختيارهم فهو الملزم وهم الملتزمون.
جُزوعا ً شّر َ ه ال ّس ُم ّ خل ِقَ هَُلوعا إ َِذا َ
ً ن ُ سا َ
ن ال ِن ْ َ فصل :ومن ذلك قوله تعالى} :إ ِ ّ
ه
س ُ
م ّ وَإ َِذا َ
) (15/22
مُنوعًا{ وهذا تفسير الهلوع وهو شدة الحرص الذي يترتب عليه الجزع خي ُْر َال ْ َ
والمنع فأخبر سبحانه أنه خلق النسان كذلك وذلك صرح في أن هلعه مخلوق
لله كما أن ذاته مخلوقة فالنسان بجملته ذاته وصفاته وأفعاله وأخلقه
مخلوق لله ليس فيه شيء خلق لله وشيء خلق لغيره بل الله خالق النسان
بجملته وأحواله كلها فالهلع فعله حقيقة والله خالق ذلك فيه حقيقة فليس
الله سبحانه بهلوع ول العبد هو الخالق لذلك.
َ
ل جعَ ُ ن الل ّهِ وَي َ ْ ن إ ِّل ب ِإ ِذ ْ ِم َن ت ُؤْ ِ
سأ ْ ف ٍ ن ل ِن َ ْ كا َما َفصل :ومن ذلك قوله تعالى} :وَ َ
ن{ وإذنه ها هنا قضاؤه وقدره ل مجرد أمره قُلو َن ل ي َعْ ِ ذي َ س عََلى ال ّ ِ ج َ الّر ْ
وشرعه كذلك قال السلف في تفسير هذه الية قال ابن المبارك عن الثوري:
"بقضاء الله" وقال محمد بن جرير" :يقول جل ذكره لنبيه وما لنفس خلقها
من سبيل إلى أن تصدقك إل أن يأذن لها في ذلك فل تجهدن نفسك في
طلب هداها وبلغها وعيد الله ثم خلها فإن هداها بيد خالقها" وما قبل الية وما
ن ِفي م ْ ن َم َ كل َ شاَء َرب ّ َ بعدها ل يدل إل على ذلك فإنه سبحانه قال} :وَل َوْ َ
َ َ َ َ
نسأ ْ ف ٍ ن ل ِن َ ْ ما َ
كا َ ن وَ َ مِني َمؤ ْ ِ
كوُنوا ُ حّتى ي َ ُ س َ ت ت ُك ْرِهُ الّنا َ ميعا ً أفَأن ْ َ ج ِم َ ض ك ُل ّهُ ْ الْر ِ
ه{ أي ل تكفي دعوتك في حصول اليمان حتى يأذن الله ن الل ّ ِ ن إ ِل ّ ب ِإ ِذ ْ ِ
م َ ت ُؤْ ِ
َ ُ
ما
ض وَ َت َوالْر ِ ماَوا ِ ماَذا ِفي ال ّ
س َ ل ان ْظُروا َ لمن دعوته أن يؤمن ثم قال} ::قُ ِ
ن{ قال ابن جرير :يقول تعالى يا محمد مُنو َن قَوْم ٍ ل ي ُؤْ ِ ت َوالن ّذ ُُر عَ ْ ت ُغِْني اليا ُ
قل لهؤلء السائلينك اليات على صحة ما تدعو إليه من توحيد الله وخلع
النداد والوثان أنظروا أيها القوم ماذا في السماوات من اليات الدالة على
حقية ما أدعوكم إليه من توحيد الله من شمسها وقمرها واختلف ليلها
ونهارها ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها وفي الرض من جبالها
وتصدعها بنباتها وأقوات أهلها وسائر صنوف عجائبها فإن
) (15/23
74
في ذلك لكم إن عقلتم وتدبرتم
) (15/24
للشيء اللزم هذا في عنق فلن أي لزومه له كلزوم القلدة من بين ما
يلبس في العنق" قال أبو علي" :مثل هذا قولهم طوقتك كذا وقلدتك كذا أي
صرفته نحوك وألزمتك إياه ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولية في
لزومها له في موضع القلدة ومكان الطوق" وقيل" :إنما خص العنق لن
عمله ل يخلو إما أن يكون خيرا أو شرا وذلك مما يزين أو يشين كالحلي
والغل فأضيف إلى العناق" قالت القدرية" :إلزامه ذلك وسمه به وتعليمه
بعلمة يعرف الملئكة أنه سعيد أو شقي والخبر عنه ل أنه ألزمه العمل
فجعله لزما له" قال أهل السنة :هذه طريقة لكم معروفة في تحريف الكلم
عن مواضعه سلكتموها في الجسم والطبع والعقل وهذا ل يعرفه أهل اللغة
وهو خلف حقيقة اللفظ وما فسره به أعلم المة بالقرآن ول يعرف ما
قلتموه عن أحد من سلف المة البتة ول فسر الية غيركم به ول يصح حمل
الية عليه فإن الخبر عنه بذلك والعلمة أعلم بها إنما حصل بعد طائره اللزم
له من عمله فلما لزمه ذلك الطائر ولم ينفك عنه أخبر عنه بذلك وصارت
75
عليه علمة وسمة ونحن قد أريناكم أقوال أئمة الهدى وسلف المة في
الطائر فأرونا قولكم عن واحد منهم قاله قبلكم وكل طائفة من أهل البدع
تجر القرآن إلى بدعها وضللها وتفسره بمذاهبها وآرائها والقرآن بريء من
ذلك وبالله التوفيق
َ ّ ْ
ست َهْزُِئو َ
ن ل إ ِل كاُنوا ب ِهِ ي َ ْ سو ٍ ن َر ُ م ْم ِما ي َأِتيهِ ْ فصل :ومن ذلك قوله تعالى} :وَ َ
ه{ وقد وقع هذا المعنى في ن بِ ِ
مُنو َن ل ي ُؤْ ِ مي َ جرِ ِ ب ال ْ ُ
م ْ ه ِفي قُُلو ِسل ُك ُ ُ
ك نَ ْك َذ َل ِ َ
القرآن في موضعين هذا أحدهما والثاني في سورة الشعراء في قوله} :وَل َ ْ
و
نزل ْناه عََلى بعض ال َعْجمين فَ َ َ
سل َك َْناهُ
ك َ ن ك َذ َل ِ َ مؤ ْ ِ
مِني َ ما َ
كاُنوا ب ِهِ ُ م َ قَرأه ُ عَل َي ْهِ ْ َ ِ َ َْ ِ َّ َ ُ
ِفي
) (15/25
) (15/26
فالرسال هاهنا إرسال كوني قدري كإرسال الرياح وليس بإرسال ديني
ك َ
سل َعَباِدي ل َي ْ َ
ن ِ
شرعي فهو إرسال تسليط بخلف قوله في المؤمنين} :إ ِ ّ
76
ن{ فهذا السلطان المنفى عنه على المؤمنين هو الذي أرسل به طا ٌ سل ْ َم ُ عَل َي ْهِ ْ
جنده على الكافرين قال أبو إسحاق" :ومعنى الرسال ههنا التسليط تقول
س لَ َ
ك عَباِدي ل َي ْ َ ن ِقد أرسلت فلنا على فلن إذا سلطته عليه كما قال} :إ ِ ّ
ن{" فاعلم أن من اتبعه هو مسلط ن ال َْغاِوي َم َك ِ ن ات ّب َعَ َ ن إ ِل ّ َ
م ِ طا ٌ سل ْ َم ُ عَل َي ْهِ ْ
ن
ذي َه َوال ّ ِ
ن ي َت َوَل ّوْن َ ُ
ذي َه عََلى ال ّ ِ سل ْ َ
طان ُ ُ ما ُعليه قلت ويشهد له قوله تعالى} :إ ِن ّ َ
م أ َّزًا{ فالز في اللغة التحريك والتهييج ومنه كون{ وقوله} :ت َؤُّزهُ ْ شرِ ُ م ْ م ب ِهِ ُ هُ ْ
يقال لغليان القدر الزيز لتحرك الماء عند الغليان وفي الحديث" :كان لصدر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيزا كأزيز المرجل من البكاء" وعبارات
السلف تدور على هذا المعنى قال ابن عباس" :تغريهم إغراء" وفي رواية
أخرى عنه "تسلهم سل" وفي رواية أخرى "تحرضهم تحريضا" وفي أخرى
"تزعجهم للمعاصي إزعاجا" وفي أخرى "توقدهم إيقادا" أي كما يتحرك الماء
بالوقد تحته قال أبو عبيدة" :الزيز اللهاب" والحركة كالتهاب النار في
الحطب يقال إز قدرك أي ألهب تحتها النار وائتزت القدر إذا اشتد غليانها
وهذا اختيار الخفش والتحقيق أن اللفظة تجمع المعنيين جميعا قالت القدرية
"معنى أرسلنا الشياطين على الكافرين خلينا بينهم وبينها ليس معناه
التسليط" قال أبو علي "الرسال يستعمل بمعنى التخلية بين المرسل وما
يريد" فمعنى الية خلينا بين الشياطين وبين الكافرين ولم يمنعهم منهم ولم
يعدهم بخلف المؤمنين الذين قيل فيهم أن عبادي ليس لك عليهم سلطان
قال الواحدي "وإلى هذا الوجه يذهب القدرية في معنى الية قال وليس
المعنى على
) (15/27
ص -63-ما ذهبوا إليه" وقال أبو إسحاق "والمختار أنهم أرسلوا عليهم
ض لَ ُ
ه قي ّ ْ ن نُ َ م ِ ح َن ذِك ْرِ الّر ْ ش عَ ْ ن ي َعْ ُ
م ْوقيضوا لهم بكفرهم كما قال تعالى} :وَ َ
َ
م
ديهِ ْ
ن أي ْ ِ ما ب َي ْ َم َم قَُرَناَء فََزي ُّنوا ل َهُ ْ ضَنا ل َهُ ْ
ن{ وقال} :وَقَي ّ ْ ري ٌ ه قَ ِ طانا ً فَهُوَ ل َ ُشي ْ َ َ
م{ وإنما معنى الرسال التسليط" قلت وهذا هو المفهوم من معنى خل ْ َ
فهُ ْ ما َ وَ َ
الرسال كما في الحديث" :إذا أرسلت كلبك المعلم أي سلطته ولو خلى بينه
عادٍوبين الصيد من غير إرسال منه لم يبح صيده" وكذلك قوله} :وفي وَِفي َ
َ
م{ أي سلطناها وسخرناها عليهم وكذلك قوله: ح ال ْعَ ِ
قي َ م الّري َ سل َْنا عَل َي ْهِ ُإ ِذ ْ أْر َ
َ م ط َْيرا ً أ ََباِبي َ َ
ة{ حد َ ًة َوا ِ ح ًصي ْ َم َ سل َْنا عَل َي ْهِ ْ
ل{ وكذلك قوله} :إ ِّنا أْر َ ل عَل َي ْهِ ْس َ }وَأْر َ
والتخلية بين المرسل وبين ما أرسل عليه من لوازم هذا المعنى ول يتم
التسليط إل به فإذا أرسل الشيء الذي من طبعه وشأنه أن تفعل فعل ولم
تمنعه من فعله فهذا هو التسليط ثم أن القدرية تناقضوا في هذا القول فإنهم
إن جوزوا منعهم منهم وعصمتهم وإعادتهم فقد نقضوا أصلهم فإن منع
المختار من فعله الختياري مع سلمة النية وصحة بنيته تدل على أن فعله
وتركه مقدور للرب وهذا عين قول أهل السنة وإن قالوا ل يقدر على منعهم
وعصمهم منهم وإعادتهم فقد جعلوا قدرتهم ومشيئتهم بفعل ما ل يقدر الرب
على المنع منه وهذا أبطل الباطل ثم قالت القدرية تؤزهم أزا تأمرهم
بالمعاصي أمرا وحكوا ذلك عن الضحاك وهذا ل يلتفت إليه إذ ل يقال لمن
أمر غيره بشيء قد أزه ول تساعد اللغة على ذلك ولو كان ذلك صحيحا لكان
يؤز المؤمنين أيضا فإنه يأمرهم بالمعاصي أكثر من أمر الكافرين فإن الكافر
77
سريع الطاعة والقبول من الشيطان فل يحتاج من أمره ما يحتاج إليه من
أمر المؤمنين بل يأمر الكافر مرة ويأمر المؤمن مرات فلو كان الز المر لم
يكن له اختصاص بالكافرين.
فصل :ومن ذلك قوله
) (15/28
س
وا َ ِ س َشّر ال ْوَ ْ ن َ م ْ س ِ س إ ِلهِ الّنا ِ
َ
ك الّنا ِ مل ِ ِ س َ ب الّنا ِ عوذ ُ ب َِر ّل أَ ُ تعالى} :قُ ْ
عوذ ُ س{ وقوله} :أ ُ جن ّةِ َوالّنا ِ ن ال ْ ِم َ س ِ دورِ الّنا ِ ص ُس ِفي ُ سو ِ ُ ذي ي ُوَ ْ س ال ّ ِخّنا ِ ال ْ َ
ْ َ عوذ ُ ب ِ َ َ بِ َ
ن{ وقوله} :فَإ َِذا قََرأ َ
ت ضُرو ِ ح ُ ن يَ ْ بأ ْ ك َر ّ ن وَأ ُ طي ِ
شَيا ِ ت ال ّ مَزا ِ ن هَ َم ْ ك ِ
م{ ومن المعلوم أن العاذة من شي ْ َ ن ال ّ ست َعِذ ْ ِبالل ّهِ ِ ن َفا ْ ال ْ ُ
جي ِ ن الّر ِ طا ِ م َ قْرآ َ
الشيطان الرجيم ليست بإماتته ول تعطيل آلت كيده وإنما هي بأن يعصم
المستعيذ من أذاه له ويحول بينه وبين فعله الختياري له فدل على أن فعله
مقدور له سبحانه إن شاء سلطه على العبد وإن شاء حال بينه وبينه وهذا
على أصول القدرية باطل فل يثبتون حقيقة العاذة وإن أثبتوا حقيقة
الستعاذة من العبد وجعلوا الية ردا على الجبرية والجبرية أثبتوا حقيقة
العاذة ولم يثبتوا حقيقة الستعاذة من العبد بل الستعاذة فعل الرب حقيقة
كما أن العاذة فعله وقد ضل الطائفتان عن الصراط المستقيم وأصابت كل
طائفة منهما فيما أثبتته من الحق.
ه{ وقول هود وما ّ ّ َ
صب ُْرك إ ِل ِبالل ِ ما َ صب ِْر وَ َفصل :ومن ذلك قوله تعالىَ} :وا ْ
توفيقي إل بالله ومعلوم أن الصبر والتوفيق فعل اختياري للعبد وقد أخبر أنه
به ل بالعبد وهذا ل ينبغي أن يكون فعل للعبد حقيقة ولهذا أمر به وهو ل يأمر
عبده بفعل نفسه سبحانه وإنما يؤمر العبد بفعله هو ومع هذا فليس فعله
واقعا به وإنما هو بالخالق لكل شيء الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
فالتصبير منه سبحانه وهو فعله والصبر هو القائم بالعبد وهو فعل العبد ولهذا
ه
جُنودِ ِ ت وَ ُ جاُلو َ ما ب ََرُزوا ل ِ َ أثنى على من يسأله أن يصبره فقال تعالى} :وَل َ ّ
قوْم ِ ال ْ َ صْرَنا عََلى ال ْ َ َ َ
ن
ري َ كافِ ِ مَنا َوان ْ ُ ت أقْ َ
دا َ صْبرا ً وَث َب ّ َْقاُلوا َرب َّنا أفْرِغ ْ عَل َي َْنا َ
ه{ ففي الية أربعة أدلة أحدها :قولهم} :أفرغ علينا صبرا{ ن الل ّ ِ م ب ِإ ِذ ْ ِ موهُ ْ فَهََز ُ
) (15/29
78
ه{ وإذنه هاهنا هو الذن الكوني القدري أي بمشيئته ن الل ّ ِ
م ب ِإ ِذ ْ ِ }فَهََز ُ
موهُ ْ
وقضائه وقدره وليس هو الذن الشرعي الذي بمعنى المر فإن ذلك ل
يستلزم الهزيمة بخلف إذنه الكوني وأمره الكوني فإن المأمور المكون ل
يتخلف عنه البتة.
ْ ْ ْ َ
ن أغ ْ َ
ه{وا ُ
ن ذِكرَِنا َوات ّب َعَ هَ َ فلَنا قَلب َ ُ
ه عَ ْ م ْ
فصل :ومن ذلك قوله تعالىَ} :ول ت ُط ِعْ َ
وفي الية رد ظاهر على الطائفتين وإبطال لقولهما فإنه سبحانه أغفل قلب
العبد عن ذكره فغفل هو فالغفال فعل الله والغفلة فعل العبد ثم أخبر عن
اّتباعه هواه وذلك فعل العبد حقيقة والقدرية تحرف هذا النص وأمثاله
بالتسمية والعلم فيقولون معنى أغفلنا قلبه سميناه غافل أو وجدناه غافل أي
علمناه كذلك وهذا من تحريفهم بل أغفلته مثل أقمته وأقعدته وأغنيته
وأفقرته أي جعلته كذلك وأما أفعلته أو أوجدته كذلك كأحمدته وأجنبته وأبخلته
وأعجزته فل يقع في أفعال الله البتة إنما يقع في أفعال العاجز أن يجعل
جبانا وبخيل وعاجزا فيكون معناه صادفته كذلك وهل يخطر بقلب الداعي
اللهم أقدرني أو أوزعني وألهمني أي سمني وأعلمني كذلك وهل
) (15/30
هذا إل كذب عليه وعلى المدعو سبحانه والعقلء يعلمون علما ضروريا أن
الداعي إنما سأل الله أن يخلق له ذلك ويشاءه له ويقدره عليه حتى القدري
إذا غابت عنه بدعته وما تقلده عن أشياخه وأسلفه وبقي وفطرته لم يخطر
بقلبه سوى ذلك وأيضا فل يمكن أن يكون العبد هو المغفل لنفسه عن
الشيء فإن إغفاله لنفسه عنه مشروط بشعوره به وذلك مضاد لغفلته عنه
بخلف إغفال الرب تعالى له فإنه ل يضاد علمه بما يغفل عنه العبد وبخلف
غفلة العبد فإنها ل تكون إل مع عدم شعوره بالمغفول عنه وهذا ظاهر جدا
فثبت إن الغفال فعل الله بعبده والغفلة فعل العبد.
فصل :ومن ذلك قوله تعالى إخبارا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه} :قَدِ
ن ل ََنا
كو ُ ما ي َ ُ
من َْها وَ َ جاَنا الل ّ ُ
ه ِ مل ّت ِك ُ ْ
م ب َعْد َ إ ِذ ْ ن َ ّ ن عُد َْنا ِفي ِ ذبا ً إ ِ ْافْت ََري َْنا عََلى الل ّهِ ك َ ِ
ّ َ َ
ه َرب َّنا{ وهذا يبطل تأويل القدرية المشيئة في شاَء الل ُ ن يَ َ ن ن َُعود َ ِفيَها إ ِل ّ أ ْ أ ْ
مثل ذلك بمعنى المر فقد علمت أنه من الممتنع على الله أن يأمر بالدخول
في ملة الكفر والشرك به ولكن استثنوا بمشيئته التي يضل بها من يشاء
ويهدي من يشاء ثم قال شعيب وسع ربنا كل شيء علما فرد المر إلى
مشيئته وعلمه فإن له سبحانه في خلقه علم محيط ومشيئته نافذة وراء ما
يعلمه الخلئق فامتناعنا من العود فيها هو مبلغ علومنا ومشيئتنا ولله علم آخر
ومشيئة أخرى وراء علومنا ومشيئتنا فلذلك رد المر إليه ومثله قول إبراهيم:
عْلما ً َ }َول أ َ َ
يٍء ِ ش ْ ل َسعَ َرّبي ك ُ ّ شْيئا ً وَ ِ شاَء َرّبي َ ن ب ِهِ إ ِّل أ ْ
ن يَ َ كو َ شرِ ُ ما ت ُ ْ
ف َخا ُ
َ
ن{ فأعادت الرسل بكمال معرفتها بالله أمورها إلى مشيئة الرب أَفل ت َت َذ َك ُّرو َ
وعلمه ولهذا أمر الله رسوله أن ل يقول لشيء أنه فاعله حتى يستثني
بمشيئة الله فإنه إن شاء فعله
) (15/31
79
ص -65-وإن شاء لم يفعله وقد تقدم تقرير هذا المعنى وبالجملة فكل دليل
في القرآن على التوحيد فهو دليل على القدر وخلق أفعال العباد ولهذا كان
إثبات القدر أساس التوحيد قال ابن عباس" :اليمان بالقدر نظام التوحيد
فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه التوحيد"
) (15/32
شفاء العليل
) (16/1
80
ت{ وما يوجد فاوُ ٍ
ن تَ َم ْن ِ ما ت ََرى ِفي َ ْ
م ِ
ح َق الّر ْ
خل ِ شاملة لجميع مخلوقاتهَ } :
من التفاوت وعدم التسوية فهو راجع إلى عدم إعطاء التسوية للمخلوق فإن
التسوية أمر وجودي تتعلق بالتأثير والبداع فما عدم منها فلعدم إرادة الخالق
للتسوية وذلك أمر عدمي يكفي فيه عدم البداع والتأثير فتأمل ذلك فإنه
ت{فاوُ ٍ
ن تَ َ
م ْ
ن ِ ما ت ََرى ِفي َ ْ
م ِح َق الّر ْ
خل ِ يزيل عنك الشكال في قولهَ } :
فالتفاوت حاصل بسبب عدم مشيئة التسوية كما أن الجهل والصمم والعمى
والخرس والبكم يكفي فيها عدم مشيئة خلقها وإيجادها وتمام هذا يأتي إن
شاء الله في باب دخول الشر في القضاء عند قول النبي صلى الله عليه
وسلم" :والشر ليس إليك" والمقصود أن كل
) (16/2
ص -66-مخلوق فقد سواه خالقه سبحانه في مرتبة خلقه وإن فاتته التسوية
من وجه آخر لم يخلق له
فصل :وأما التقدير والهداية فقال مقاتل "قدر خلق الذكر والنثى فهدى
الذكر للنثى كيف يأتيها" وقال ابن عباس والكلبي وكذلك قال عطاء "قدر
من النسل ما أراد ثم هدى الذكر للنثى" واختار هذا القول صاحب النظم
فقال" :معنى هدى هداية الذكر لتيان النثى كيف يأتيها" لن إتيان ذكران
الحيوان لناثه مختلف لختلف الصور والخلق والهيآت فلول أنه سبحانه جبل
كل ذكر على معرفة كيف يأتي أنثى جنسه لما اهتدى لذلك وقال مقاتل أيضا:
"هداه لمعيشته ومرعاه" وقال السدي" :قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه
للخروج" وقال مجاهد" :هدى النسان لسبيل الخير والشر والسعادة
والشقاوة" وقال الفراء" :التقدير فهدى وأضل فاكتفى من ذكر أحدهما
بالخر" قلت :الية أعم من هذا كله وأضعف القوال فيها قول الفراء إذا
المراد هاهنا الهداية العامة لمصالح الحيوان في معاشه ليس المراد هداية
ه خل ْ َ
ق ُ يٍء َ ل َ
ش ْ ذي أ َعْ َ
طى ك ُ ّ اليمان والضلل بمشيئته وهو نظير قولهَ} :رب َّنا ال ّ ِ
دى{ فإعطاء الخلق إيجاده في الخارج والهداية التعليم والدللة على ثُ ّ
م هَ َ
سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه وما ذكر مجاهد فهو تمثيل منه ل تفسير
مطابق للية فإن الية شاملة لهداية الحيوان كله ناطقه وبهيمه طيره ودوابه
فصيحه وأعجمه وكذلك قول من قال أنه هداية الذكر لتيان النثى تمثيل أيضا
وهو فرد واحد من أفراد الهداية التي ل يحصيها إل الله وكذلك قول من قال
هداه للمرعى فإن ذلك من الهداية فإن الهداية إلى التقام الثدي عند خروجه
من بطن أمه والهداية إلى معرفته أمه دون غيرها حتى يتبعها أين ذهبت
والهداية إلى قصد ما ينفعه من المرعى دون ما يضره منه وهداية الطير
والوحش والدواب إلى الفعال العجيبة التي يعجز عنها النسان كهداية النحل
إلى سلوك السبل التي فيها مراعيها على تباينها ثم عودها إلى
) (16/3
بيوتها من الشجر والجبال وما يغرس بنو آدم وأمر النحل في هدايتها من
أعجب العجب وذلك أن لها أميرا ومدبرا وهو اليعسوب وهو أكبر جسما من
جميع النحل وأحسن لونا وشكل وإناث النحل تلد في إقبال الربيع وأكثر
81
أولدها يكن إناثا وإذا وقع فيها ذكر لم تدعه بينها بل إما أن تطرده وإما أن
تقتله إل طائفة يسيرة منها تكون حول الملك وذلك أن الذكر منها ل تعمل
شيئا ول تكسب ثم تجمع المهات وفراخها عند الملك فيخرج بها إلى المرعى
من المزوج والرياض والبساتين والمراتع في أقصد الطرق وأقربها فيجتني
منها كفايتها فيرجع بها الملك فإذا انتهوا إلى الخليا وقف على بابها ولم يدع
ذكرا ول نحلة غريبة تدخلها فإذا تكامل دخولها دخل بعدها وتواجدت النحل
على مقاعدها وأماكنها فيبتدئ الملك بالعمل كأنه يعلمها إياه فيأخذ النحل في
العمل ويتسارع إليه ويترك الملك العمل ويجلس ناحية بحيث يشاهد النحل
فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الوراق والنوار ثم تقتسم النحل
فرقا فمنها فرقة تلزم الملك ول تفارقه ول تعمل ول تكسب وهم حاشية
الملك من الذكورة ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصنعه والشمع هو ثفل العسل
وفيه حلوة كحلوة التين وللنحل فيه عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل
فينظفه النحل ويصفيه ويخلصه مما يخالطه من أبوالها وغيرها وفرقة تبني
البيوت وفرقة تسقي الماء وتحمله على متونها وفرقة تكنس الخليا وتنظفها
من الوساخ والجيف والزبل وإذا رأت بينها نحلة مهينة بطالة قطعها وقتلها
حتى ل تفسد عليهن بقية العمال وتعديهن ببطالتها ومهانتها وأول ما يبنى في
الخلية مقعد الملك وبيته فيبنى له بيتا مربعا يشبه السرير والتخت فيجلس
عليه ويستدير حوله
) (16/4
82
أطيب ما في المرعى وألطفه وأن تعود إلى بيوتها الخالية فتصب فيها شرابا
مختلفا ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك ليات لقوم يتفكرون فإذا فرغت
من بناء البيوت خرجت خماصا تسيح سهل وجبل فأكلت من الحلوات
المرتفعة
) (16/5
على رؤوس الزهار وورق الشجار فترجع بطانا وجعل سبحانه في أفواهها
حرارة منضجة تنضج ما جنته فتعيده حلوة ونضجا ثم تمجه في البيوت حتى
إذا امتلت ختمتها وسدت رؤوسها بالشمع المصفى فإذا امتلت تلك البيوت
عمدت إلى مكان آخر إن صادفته فاتخذت فيه بيوتا وفعلت كما فعلت في
البيوت الولى فإذا برد الهوى وأخلف المرعى وحيل بينها وبين الكسب لزمت
بيوتها واغتذت بما ادخرته من العسل وهي في أيام الكسب والسعي تخرج
بكرة وتسيح في المراتع وتستعمل كل فرقة منها بما يخصها من العمل فإذا
أمست رجعت إلى بيوتها وإذا كان وقت رجوعها وقف على باب الخلية بواب
منها ومعه أعوان فكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب و يتفقدها فإن وجد
منها رائحة منكرة أو رأى بها لطخة من قذر منعها من الدخول وعزلها ناحية
إلى أن يدخل الجميع فيرجع إلى المعزولت الممنوعات من الدخول
فيتفقدهن ويكشف أحوالهن مرة ثانية فمن وجده قد وقع على شيء منتن أو
نجس قده نصفين ومن كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية هذا دأب
البواب كل عشية وأما الملك فل يكثر الخروج من الخلية إل نادرا إذا اشتهى
التنزه فيخرج ومعه أمراء النحل والخدم فيطوف في المروج والرياض
والبساتين ساعة من النهار ثم يعود إلى مكانه ومن عجيب أمره أنه ربما
لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه فيغضب ويخرج من
الخلية ويتباعد عنها ويتبعه جميع النحل وتبقى الخلية خالية فإذا رأى صاحبها
ذلك وخاف أن يأخذ النحل ويذهب بها إلى مكان آخر احتال لسترجاعه
وطلب رضاه فيتعرف موضعه الذي صار إليه بالنحل فيعرفه
) (16/6
ص -68-باجتماع النحل إليه فإنها ل تفارقه وتجتمع عليه حتى تصير عليه
عنقودا وهو إذا خرج غضبا جلس على مكان مرتفع من الشجرة وطافت به
النحل وانضمت إليه حتى يصير كالكرة فيأخذ صاحب النحل رمحا أو قصبة
طويلة ويشد على رأسه حزمة من النبات الطيب الرائحة العطر النظيف
ويدنيه إلى محل الملك ويكون معه إما مزهر أو يراع أو شيء من آلت
الطرب فيحركه وقد أدنى إليه ذلك الحشيش فل يزال كذلك إلى أن يرضى
الملك فإذا رضي وزال غضبه طفر ووقع على الضغث وتبعه خدمه وسائر
النحل فيحمله صاحبه إلى الخلية فينزل ويدخلها هو وجنوده ول يقع النحل
على جيفة ول حيوان ول طعام ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظلمة
المفسدة ول تدين لطاعتها والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العسالة وهي
تحاول مقاتلة الطوال القليلة النفع وإخراجها ونفيها عن الخليا وإذا فعلت
ذلك جاد العسل وتجتهد أن تقتل ما تريد قتلها خارج الخلية صيانة للخلية عن
83
جيفته ومنها صنف قليل النفع كبير الجسم وبينها وبين العسالة حرب فهي
تقصدها وتغتالها وتفتح عليها بيوتها وتقصد هلكها والعسالة شديدة التيقظ
والتحفظ منها فإذا هجمت عليها في بيوتها حاولتها وألجأتها إلى أبواب البيوت
فتتلطخ بالعسل فل تقدر على الطيران ول يفلت منها الكل طويل العمر فإذا
انقضت الحرب وبرد القتال عادت إلى القتلى فحملتها وألقتها خارج الخلية
وقد ذكرنا ان الملك ل يخرج إل في الحايين وإذا خرج خرج في جموع من
الفراخ والشبان وإذا عزم على الخروج ظل قبل ذلك اليوم أو يومين يعلم
الفراخ وينزلها منازلها ويرتبها فيخرج ويخرجن معه على ترتيب ونظام قد
دبره معهن ل يخرجن عنه وإذا تولدت عنده ذكران عرف أنهن يتطلبن الملك
فيجعل كل واحد منهم على طائفة من الفراخ ول يقتل ملك منها ملكا آخر
لما في ذلك من فساد الرعية وهلكها وتفرقها وإذا رأى صاحب الخلية
الملوك قد كثرت في الخلية وخاف من تفرق النحل بسببهم احتال
) (16/7
عليهم وأخذ الملوك كلها إل واحدا ويحبس الباقي عنده في إناء ويدع عندهم
من العسل ما يكفيهم حتى إذا حدث بالملك المنصوب حدث مرض أو موت
أو كان مفسدا فقتلته النحل أخذ من هؤلء المحبوسين واحدا وجعله مكانه
لئل يبقى النحل بل ملك فيتشتت أمرها ومن عجيب أمرها أن الملك إذا خرج
متنزها ومعه المراء والجنود ربما لحقه إعياء فتحمله الفراخ وفي النحل كرام
عمال لها سعي وهمة واجتهاد وفيها لئام كسالى قليلة النفع مؤثرة للبطالة
فالكرام دائما تطردها وتنفيها عن الخلية ول تساكنها خشية أن تعدي كرامها
وتفسدها والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه ولذلك ل تلقي زبلها إل حين تطير
وتكره النتن والروائح الخبيثة وأبكارها وفراخها أحرس وأشد اجتهادا من
الكبار وأقل لسعا وأجود عسل ولسعها إذا لسعت أقل ضررا من لسع الكبار
ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه قد خصت من وحي الرب تعالى
وهدايته لما لم يشركها فيه غيرها وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من
السقام والنور الذي يضيء في الظلم بمنزلة الهداة من النام كان أكثر
الحيوان أعداء وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة وهذه سنة الله
في خلقه وهو العزيز الحكيم
فصل :وهذه النمل من أهدى الحيوانات وهدايتها من أعجب شيء فإن النملة
الصغيرة تخرج من بيتها وتطلب قوتها وإن بعدت عليها لطريق فإذا ظفرت به
حملته وساقته في طرق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط في غاية من
التوعر حتى تصل إلى بيوتها فتخزن فيها أقواتها في وقت المكان
) (16/8
ص -69-فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين لئل ينبت فإن
كان ينبت مع فلقه باثنتين فلقته بأربعة فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن
والفساد انتظرت به يوما ذا شمس فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها ثم
أعادته إليها ول تتغذى منها نملة مما جمعه غيرها ويكفي في هداية النمل ما
حكاه الله سبحانه في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلمها وخطابها
84
َ
جُنود ُهُن وَ ُ سل َي ْ َ
ما ُ م ُ من ّك ُ ْ
حط ِ َ ساك ِن َك ُ ْ
م ل يَ ْ خُلوا َ
م َ م ُ
ل اد ْ ُ لصحابها بقولهاَ} :يا أي َّها الن ّ ْ
ن{ فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته ثم أتت شعُُرو َ م ل يَ ْ وَهُ ْ
بالسم المبهم ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس إرادة للعموم ثم أمرتهم
بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنون من العسكر ثم أخبرت عن سبب هذا
الدخول وهو خشية أن يصيبهم معرة الجيش فيحطمهم سليمان وجنوده ثم
اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم ل يشعرون بذلك وهذا من أعجب الهداية
جُنود ُهُ ن ُما َ سل َي ْ َشَر ل ِ ُ ح ِ وتأمل كيف عظم الله سبحانه شأن النمل بقوله} :وَ ُ
َ َ
وا عَلى َوادِ حّتى إ َِذا أت َ ْ ن{ ثم قالَ } : عو َم ُيوَز ُ س َوالط ّي ْرِ فَهُ ْ ن َوال ِن ْ ِ ن ال ْ ِ
ج ّ م َ ِ
ل{ فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي ودل على أن ذلك الوادي م ِالن ّ ْ
معروفا بالنمل كوادي السباع ونحوه ثم أخبر بما دل على شدة فطنة هذه
النملة ودقة معرفتها حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم فقد
عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكنا ل يدخل عليهم فيه سواهم ثم
قالت ل يحطمنكم سليمان وجنوده فجمعت بين اسمه وعينه وعرفته بهما
وعرفت جنوده وقائدها ثم قالت وهم ل يشعرون فكأنها جمعت بين العتذار
عن مضرة الجيش بكونهم ل يشعرون وبين لوم أمة النمل حيث لم يأخذوا
حذرهم ويدخلوا مساكنهم ولذلك تبسم نبي الله ضاحكا من قولها وأنه
لموضع تعجب وتبسم وقد روى الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عيينة
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه
) (16/9
وسلم" :نهى عن قتل النمل والنحلة والهدهد والصرد" وفي الصحيح عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" :نزل بني من النبياء تحت
شجرة فقرصته نملة فأمر بجهازه فأخرج وأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى
الله إليه أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من المم تسبح فهل نملة
واحدة" وذكر هشام بن حسان" :أن أهل الحنف بن قيس لقوا من النمل
شدة فأمر الحنف بكرسي فوضع عند تنورين فجلس عليه ثم تشهد ثم قال
لتنتهن أو ليحرقن عليكن ونفعل ونفعل قال فذهبن" وروى عوف بن أبي
جميلة عن قسامة بن زهير قال قال أبو موسى الشعري" :إن لكل شيء
سادة حتى للنمل سادة ومن عجيب هدايتها أنها تعرف ربها بأنه فوق سماواته
على عرشه كما رواه المام أحمد في كتاب الزهد من حديث أبي هريرة
يرفعه قال" :خرج نبي من النبياء بالناس يستسقون فأذاهم بنملة رافعة
قوائمها إلى السماء تدعو مستلقية على ظهرها فقال ارجعوا فقد كفيتم أو
سقيتم بغيركم" ولهذا الثر عدة طرق ورواه الطحاوي في التهذيب وغيره
وقال المام أحمد حدثنا قال" :خرج سليمان بن داؤد يستسقي فرأى نملة
مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول اللهم إنا خلق
من خلقك ليس بنا غنا عن سقياك ورزقك فأما أن تسقينا وترزقنا وإما أن
تهلكنا فقال ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم" ولقد حدثني أن نملة خرجت
من بيتها فصادفت شق جرادة فحاولت أن تحمله فلم تطق فذهبت وجاءت
معها بأعوان يحملنه معها قال فرفعت ذلك من الرض فطافت في مكانه فلم
تجده فانصرفوا وتركوها قال فوضعته فعادت تحاول حمله فلم تقدر فذهبت
85
وجاءت بهم فرفعته فطافت فلم تجده فانصرفوا قال فعلت ذلك مرارا فلما
كان في المرة الخرى استدار
) (16/10
) (16/11
وزنها وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل إل أن لها رائدا يطلب
الرزق فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات وكل نملة تجتهد في
صلح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئا لنفسها دون صواحباتها ومن
عجيب أمرها أن الرجل إذا أراد أن يحترز من النمل ل يسقط في عسل أو
نحوه فإنه يحفر حفيرة ويجعل حولها ماء أو يتخذ إناء كبيرا ويمله ماء ثم
يضع فيه ذلك الشيء فيأتي الذي يطيف به فل يقدر عليه فيتسلق في الحائط
ويمشي على السقف إلى أن يحاذي ذلك الشيء فتلقي نفسها عليه وجربنا
نحن ذلك وأحمى صانع مرة طوقا بالنار ورماه على الرض ليبرد واتفق أن
اشتمل الطوق على نمل فتوجه في الجهات ليخرج فلحقه وهج النار فلزم
86
المركز ووسط الطوق وكان ذلك مركزا له وهو أبعد مكان من المحيط.
فصل :وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الرض ل
يراه غيره ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أن قال لنبي الله سليمان
وقد فقده وتوعده فلما جاءه بدره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة
وخاطبه خطابا هيجه به على الصغاء إليه والقبول منه فقال أحطت بما لم
تحط به وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة بحيث أحطت
به وهو خبر عظيم له شأن فلذلك قال وجئتك من سبأ بنبأ يقين والنبأ هو
الخبر الذي له شأن والنفوس متطلعة إلى معرفته ثم وصفه بأنه نبأ يقين ل
شك فيه ول ريب فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ استفرغت
) (16/12
) (16/13
ويرجع إلى مكانه من مسيرة ألف فرسخ فما دونها وتنهي الخبار والغراض
والمقاصد التي تتعلق بها مهمات الممالك والدول والقيمون بأمرها يعتنون
87
بأنسابها اعتناء عظيما فيفرقون بين ذكورها وإناثها وقت السفاد وتنقل
الذكور عن إناثها إلى غيرها والناث عن ذكورها ويخافون عليها من فساد
أنسابها وحملها من غيرها ويتعرفون صحة طرقها ومحلها ل يأمنون أن تفسد
النثى ذكرا من عرض الحمام فتعتريها الهجنة والقيمون بأمرها ل يحفظون
أرحام نسائهم ويحتاطون لها كما يحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون لها
والقيمون لهم في ذلك قواعد وطرق يعتنون بها غاية العتناء بحيث إذا رأوا
حماما ساقطا لم يخف عليهم حسبها ونسبها وبلدها ويعظمون صاحب
التجربة والمعرفة وتسمح أنفسهم بالجعل الوافر له ويختارون لحمل الكتب
والرسائل الذكور منها ويقولون هو أحن إلى بيته لمكان أنثاه وهو أشد متنا
وأقوى بدنا وأحسن اهتداء وطائفة منهم يختار لذلك الناث ويقولون الذكر إذا
سافر وبعد عهده حن إلى الناث وتاقت نفسه إليهن فربما رأى أنثى في
طريقه ومجيئه فل يصبر عنها فيترك المسير ومال إلى قضاء وطره منها
وهدايته على قدر التعليم والتوطين والحمام موصوف باليمن واللف للناس
ويحب الناس ويحبونه ويألف المكان ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه وإن
أساء إليه ويعود إليه من مسافات بعيدة وربما صد فترك وطنه عشر حجج
وهو ثابت على الوفاء حتى إذا وجد فرصة واستطاعة عاد إليه والحمام إذا
أراد السفاد يلطف للنثى غاية اللطف فيبدأ بنشر ذنبه وإرخاء جناحه ثم يدنو
من النثى فيهدر لها ويقبلها ويزفها وينتفش
) (16/14
88
على تدريج بحسب قوة الفرخ وهو يطلب ذلك منهما حتى إذا علما أنه قد
أطاق اللقط منعاه بعض المنع ليحتاج إلى اللقط ويعتاده وإذا علما أن رئته
في قويت ونمت وأنهما إن فطماه فطما تاما قوي على اللقط وتبلغ
) (16/15
لنفسه ضرباه إذا سألهما الزق ومنعاه ثم تنزع تلك الرحمة العجيبة منهما
وينسيان ذلك التعطف المتمكن حين يعلمان أنه قد أطاق القيام بنفسه
والتكسب ثم يبتدآن العمل ابتداء على ذلك النظام والحمام يشاكل الناس
في أكثر طباعه ومذاهبه فإن من إناثه أنثى ل تريد إل زوجها وفيه أخرى ل
ترد يد لمس وأخرى ل تنال إل بعد الطلب الحثيث وأخرى تركب من أول
وهلة وأول طلب وأخرى لها ذكر معروف بها وهي تمكن ذكرا آخر منها إذا
غاب زوجها لم تمتنع ممن ركبها وأخرى تمكن من يغنيها عن زوجها وهو
يراهما ويشاهدهما ول تبالي بحضوره وأخرى تعمط الذكر وتدعوه إلى نفسها
وأنثى تركب أنثى وتساحقها وذكر يركب ذكرا ويعسفه وكل حالة توجد في
الناس ذكورهم وإناثهم توجد في الحمام وفيها من ل تبيض وإن باضت
أفسدت البيضة كالمرأة التي ل تريد الولد كيل يشغلها عن شأنها وفي إناث
الحمام من إذا عرض لها ذكر أي ذكر كان أسرعت هاربة ول تواتي غير
زوجها البتة بمنزلة المرأة الحرة ومنها ما يأخذ أنثى يتمتع بها تم ينتقل عنها
إلى غيرها وكذلك النثى توافق ذكرا آخر عن زوجها وتنتقل عنه وإن كانوا
جميعا في برج واحد ومنها ما يتصالح على النثى منها ذكران أو أكثر
فتعايرهم كلهم حتى إذا غلب واحد منهم لرفيقه وقهره مالت إليه وأعرضت
عن المغلوب وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم" :رأى حمامة تتبع
حمامة فقال شيطان يتبع شيطانه" ومنها ما يزق فراخه خاصة ومنا ما فيه
شفقة ورحمة بالغة يزق فراخه وغيرها ومن عجيب هداها أنها إذا حملت
الرسائل سلكت الطرق البعيدة عن القرى ومواضع الناس لئل يعرض لها من
) (16/16
89
عندهما ما يأكلن ويشربان قال فلما خلى سبيلي لم يكن لي هم غيرهما
ففتحت البيت فوجدت الفراخ قد كبرت ووجدت المقصوص على أحسن حال
فعجبت فما لبث أن جاء الزوج الطيار فدنا الزوج المقصوص إلى أفواههما
يستطعمانهما كما يستطعم الفرخ فزقاهم فانظر إلى هذه الهداية فإن
المقصوصبن لما شاهدا تلطف الفراخ للبوين وكيف يستطعمانهما إذا اشتد
بهما الجوع والعطش فعل كفعل الفرخين فأدركتهما رحمة الطيارين فزقاهما
كما يزقان فرخيهما ونظير ذلك ما ذكره الجاحظ وغيره قال الجاحظ" :وهو
أمر مشهور عندنا بالبصرة أنه لما وقع الطاعون الجارف أتى على أهل دار
فلم يشك أهل تلك المحلة أنه لم يبق منهم أحد فعمدوا إلى باب الدار
فسدوه وكان قد بقي صبي صغير يرضع ولم يفطنوا له فلما كان بعد ذلك
بمدة تحول إليها بعض ورثة القوم ففتح الباب فلما أفضى إلى عرصة الدار
إذا هو بصبي يلعب مع جراء
) (16/17
كلبة قد كانت لهل الدار فراعه ذلك فلم يلبث أن أقبلت كلبة قد كانت لهل
الدار فلما رآها الصبي حبا إليها فأمكنته من أطبائها فمصها وذلك أن الصبي
لما اشتد جوعه ورأى جراء الكلبة يرتضعون من أطباء الكلبة حبا إليها
فعطفت عليه فلما سقته مرة أدامت له ذلك وأدام هو الطلب ول يستبعد
هذا" وما هو أعجب منه فإن الذي هدى المولود إلى مص إبهامه ساعة يولد
ثم هداه إلى التقام حلمة ثدي لم يتقدم له به عادة كأنه قد قيل له هذه
خزانة طعامك وشرابك التي كأنك لم تزل بها عارفا وفي هدايته للحيوان إلى
مصالحة ما هو أعجب من ذلك ومن ذلك أن الديك الشاب إذا لقي حبا لم
يأكله حتى يفرقه فإذا هرم وشاخ أكله من غير تفريق كما قال المدائني "إن
إياس بن معاوية مر بديك ينقر حبا ول يفرقه فقال ينبغي أن يكون هرما فإن
الديك الشاب يفرق الحب ليجتمع الدجاج حوله فتصيب منه والهرم قد فنيت
رغبته فليس له همة إل نفسه قال إياس :والديك يأخذ الحبة فهو يريها
الدجاجة حتى يلقيها من فيه والهرم يبتلعها ول يلقيها للدجاجة" وذكر ابن
العرابي قال" :أكلت حبة بيض مكاء فجعل المكاء يصوت ويطير على رأسها
ويدنو منها حتى إذا فتحت فاها وهمت به ألقى حسكة فأخذت بحلقها حتى
ماتت" وأنشد أبو عمرو الشيباني في ذلك قول السدي:
إن كنت أبصرتني عيل ومصطلما فربما قتل المكاء ثعبانا
وهداية الحيوانات إلى مصالح معاشها كالبحر حدث عنه ول حرج ومن عجيب
هدايتها أن الثعلب إذا
) (16/18
ص -74-امتل من البراغيث أخذ صوفة بفمه ثم عمد إلى ماء رقيق فنزل فيه
قليل قليل حتى ترتفع البراغيث إلى الصوفة فيلقيها في الماء و يخرج ومن
عجيب أمره أن ذئبا أكل أولده وكان للذئب أولد وهناك زبية فعمد الثعلب
وألقى نفسه فيها وحفر فيها سردابا يخرج منه ثم عمد إلى أولد الذئب
فقتلهم وجلس ناحية ينتظر الذئب فلما أقبل وعرف أنها فعلته هرب قدامه
90
وهو يتبعه فألقى نفسه في الزبية ثم خرج من السرداب فألقى الذئب نفسه
وراءه فلم يجده ولم يطق الخروج فقتله أهل الناحية ومن عجيب أمره أن
رجل كان معه دجاجتان فاختفى له وخطف إحداهما وفر ثم أعمل فكرة في
أخذ الخرى فتراأى لصاحبها من بعيد وفي فمه شيء شبيه بالطائر وأطمعه
في استعادتها بأن تركه وفر فظن الرجل أنها الدجاجة فأسرع نحوها وخالفه
الثعلب إلى أختها فأخذها وذهب ومن عجيب أمره أنه أتى إلى جزيرة فيها
طير فأعمل الحيلة كيف يأخذ منها شيئا فلم يطق فذهب وجاء بضغث من
حشيش وألقاه في مجرى الماء الذي نحو الطير ففزع منه فلما عرفت أنه
حشيش رجعت إلى أماكنها فعاد لذلك مرة ثانية وثالثة ورابعة حتى تواظب
الطير على ذلك وألفته فعمد إلى جرزة أكبر من ذلك فدخل فيها وعبر إلى
الطير فلم يشك الطير أنه من جنس ما قبله فلم تنفر منه فوثب على طائر
منها وعدا به ومن عجيب أمر الذئب أنه عرض لنسان يريد قتله فرأى معه
قوسا وسهما فذهب وجاء بعظم رأس جمل في فيه وأقبل نحو الرجل فجعل
الرجل كلما رماه بسهم اتقاه بذلك العظم حتى أعجزه وعاين نفاذ سهمه
فصادف من استعان به على طرد الذئب ومن عجيب أمر القرد ما ذكره
البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الودي قال" :رأيت في الجاهلية
قردا وقردة زينا فاجتمع عليهما القرود فرجموهما حتى ماتا" فهؤلء القرود
أقاموا حد الله حين عطله بنو آدم وهذه البقر يضرب ببلدتها المثل وقد أخبر
النبي صلى الله عليه وسلم" :أن رجل بينا هو يسوق بقرة إذ ركبها فقالت لم
أخلق
) (16/19
لهذا فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر
وعمر وما هما ثم قال وبينا رجل يرعى غنما له إذ عدا الذئب على شاة منها
فاستنقذها منه فقال الذئب هذه استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم ل
راعي لها غيري فقال الناس سبحان الله ذئب يتكلم فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم أني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم" ومن هداية
الحمار الذي هو من أبلد الحيوان أن الرجل يسير به ويأتي به منزله من البعد
في ليلة مظلمة فيعرف المنزل فإذا خلى جاء إليه ويفرق بين الصوت الذي
يستوقف به والصوت الذي يحث به على السير ،ومن عجيب أمر الفأر أنها إذا
شربت من الزيت الذي في أعل الجرة فنقص وعز عليها الوصول إليه ذهبت
وحملت في أفواهها ماء وصبته في الجرة حتى يرتفع الزيت فتشربه والطباء
تزعم أن الحقنة أخذت من طائر طويل المنقار إذا تعسر عليه الذرق جاء إلى
البحر المالح وأخذ بمنقاره منه واحتقن به فيخرج الذرق بسرعة وهذا الثعلب
إذا اشتد به الجوع انتفخ ورمى بنفسه في الصحراء كأنه جيفة فتتداوله الطير
فل يظهر حركة ول نفسا فل تشك أنه ميت حتى إذا نقر بمنقاره وثب عليها
فضمها ضمة الموت وهذا ابن عرس والقنفذ إذا أكل الفاعي والحيات عمدا
إلى الصتر النهري فأكله كالترياق لذلك ومن عجيب أمر الثعلب أنه إذا أصاب
القنفذ قلبه لظهره لجل شوكه فيجتمع القنفذ حتى يصير كبة شوك فيبول
الثعلب على بطنه ما بين مغرز عجبه إلى فكيه فإذا أصابه البول اعتراه
91
السر فانبسط فيسلخه الثعلب من بطنه ويأكل مسلوخه وكثير من العقلء
يتعلم من الحيوانات البهم أمورا تنفعه في معاشه وأخلقه
) (16/20
) (16/21
الرض وهو يحتاج إليها فل يأكلها بل يستدعي الدجاج ويطلبهن طلبا حثيثا
حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها وهو مسرور بذلك طيب النفس به وإذا
وضع له الحب الكثير فرقه هاهنا وهاهنا وإن لم يكن هناك دجاج لن طبعه قد
ألف البذل والجود فهو يرى من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام" وقيل لخر:
"من علمك هذا التحيل في طلب الرزق ووجوه تحصيله قال من علم الثعلب
تلك الحيل التي يعجز العقلء عن علمها وعملها وهي أكثر من أن تذكر" ومن
علم السد إذا مشى وخاف أن يقتفى أثره ويطلب عفى أثر مشيته بذنبه
ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه فينفخ في منخريه
لن اللبؤة تضعه جروا كالميت فل تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك
ومن ألهم كرام السود وأشرافها أن ل تأكل إل من فريستها وإذا مر بفريسة
92
غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع ومن علم السد أن يخضع للبر ويذل له
إذا اجتمعا حتى ينال منه له ومن عجيب أمره أنه إذا استعصى عليه شيء من
السباع دعا السد فأجابه إجابة المملوك لمالكه ثم أمره فربض بين يديه
فيبول في أذنيه فإذا أراد السباع ذلك أذعنت له بالطاعة والخضوع ومن علم
الثعلب إذا اشتد به الجوع أن يستلقي على ظهره ويختلس نفسه إلى داخل
بدنه حتى ينتفخ فيظن الظان أنه ميتة فيقع عليه فيثب على من انقضى
عمره منها ومن علمه إذا أصابه صدع أو جرح أن يأتي إلى صبغ معروف
فيأخذ منه ويضعه على جرحه كالمرهم ومن علم الدب إذا أصابه كلم أن يأتي
إلى نبت قد عرفه وجهله صاحب الحشائش فيتداوى به فيبرأ ومن علم النثى
من الفيلة إذا دنا وقت ولدتها أن تأتي إلى الماء فتلد فيه لنها دون
) (16/22
) (16/23
ومن علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث فل يبقى عصفور بجوارها
حتى يجيء فيطيرون حول الفرخ ويحركونه بأفعالهم ويحدثون له قوة وهمة
وحركة حتى يطير معهم قال بعض الصيادين :ربما رأيت العصفور على
الحائط فأومئ بيدي كأني أرميه فل يطير وربما أهويت إلى الرض كأني
أتناول شيئا فل يتحرك فإن مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار
قبل أن تتمكن منها يدي ومن علم الحمامة إذا حملت أن تأخذ هي والب في
بناء العش وأن يقيما له حروفا تشبه الحائط ثم يسخناه ويحدثا فيه طبيعة
أخرى ثم يقلبان البيض في اليام ومن قسم بينهما الحضانة والكد فأكثر
ساعات الحضانة على النثى وأكثر ساعات جلب القوت على الب وإذا خرج
الفرخ علما ضيق حوصلته عن الطعام فنفخا فيه نفخا متداركا حتى تتسع
حوصلته ثم يزقانه اللعاب أو شيئا قبل الطعام وهو كاللبا للطفل ثم يعلمانه
93
احتياج الحوصلة إلى دباغ فيزقانه من أصل الحيطان من شيء بين الملح
والتراب تندبغ به الحوصلة فإذا اندبغت زقاه الحب فإذا علما أنه أطاق اللقط
منعاه الزق على التدريج فإذا تكاملت قوته وسألهما الكفالة ضرباه ومن
علمهما إذا أراد السفاد أن يبتدئ الذكر بالدعاء فتتطارد له النثى قليل لتذيقه
حلوة المواصلة ثم تطيعه في نفسها ثم تمتنع بعض التمنع ليشتد طلبه وحبه
ثم تتهادى وتتكسل وتريه معاطفها وتعرض محاسنها ثم يحدث بينهما من
التغزل والعشق والتقبيل والرشف ما هو مشاهد بالعيان ومن علم المرسلة
منها إذا سافرت ليل أن تستدل ببطون الودية ومجاري المياه والجبال ومهاب
الريح ومطلع الشمس ومغربها فتستدل بذلك وبغيره إذا ضلت فإذا عرفت
الطريق مرت كالريح ومن علم اللبب وهو صنف من العناكب أن يلطأ
بالرض ويجمع نفسه فيرى الذبابة أنه له عنها ثم يثب عليها وثوب الفهد ومن
علم العنكبوت أن تنسج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة وتجعل في أعلها
خيطا ثم تتعلق به فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة تدلت إليها فاصطادتها
ومن
) (16/24
علم الظبي أنه ل يدخل كناسة إل مستدبرا ليستقبل بعينيه ما يخافه على
نفسه وخشفه ومن علم السنور إذا رأى فأرة في السقف أن يرفع رأسه
كالمشير إليها بالعود ثم يشير إليها بالرجوع وإنما يريد أن يدهشها فتزلق
فتسقط ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي حيث يرتفع عن
مجرى السيل ليسلم من مدق الحافر ومجرى الماء ويعمقه ثم يتخذ في
زواياه
ص -77-أبوابا عديدة ويجعل بينها وبين وجه الرض حاجزا رقيقا فإذا أحس
بالشر فتح بعضها بأيسر شيء وخرج منه ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته
إل عند أكمة أو صخرة علمة له على البيت إذا ضل عنه ومن علم الفهد إذا
سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك السمن ثم يظهر ومن
علم اليل إذا سقط قرنه أن يتوارى لن سلحه قد ذهب فيسمن لذلك فإذا
كمل نبات قرنه تعرض للشمس والريح وأكثر من الحركة ليشتد لحمه ويزول
السمن المانع له من العدو وهذا باب واسع جدا ويكفي فيه قوله سبحانه:
ما فَّرط َْنا طائ ِر يطير بجناحيه إل ّ أ ُم َ َ
م َمَثال ُك ُ ْ
مأ ْ َ ٌ ض َول َ ٍ َ ِ ُ ِ َ َ َ ْ ِ ِ ن َداب ّةٍ ِفي الْر ِ م ْ ما ِ}وَ َ
م ْ
م وَب ُك ٌ ص ّ ن كذ ُّبوا ِبآَيات َِنا َُ ذي َ ّ
ن َوال ِ شُرو َ ح َم يُ ْ َ
م إ ِلى َرب ّهِ ْ يٍء ث ُ ّش ْ ن َ م ْ
ب ِ ْ
ِفي الك َِتا ِ
َ ْ ْ ْ ّ
م{ وقد قي ٍ
ست َ ِم ْط ُ صَرا ٍ ه عَلى ِ جعَل ُ شأ ي َ ْن يَ َم ْ ه وَ َ ضل ِل ُ ه يُ ْشأ ِ الل ُ ن يَ َم ْ
ت َ ِفي الظ ّل ُ َ
ما ِ
قال النبي صلى الله عليه وسلم" :لول أن الكلب أمة من المم لمرت
بقتلها" وهذا يحتمل وجهين أحدهما :أن يكون إخبارا عن أمر غير ممكن فعله
وهو أن الكلب أمة ل يمكن إفناؤها لكثرتها في الرض فلو أمكن إعدامها من
الرض لمرت بقتلها والثاني :أن يكون مثل قوله" :أمن أجل أن قرصتك نملة
أحرقت أمة من المم تسبح" فهي أمة مخلوقة بحكمة ومصلحة فإعدامها
وإفناؤها يناقض ما خلقت لجله والله أعلم بما أراد رسوله قال ابن عباس
في رواية عطاء} :" :إل ّ أ ُم َ
م{ يريد يعرفونني مَثال ُك ُ ْ مأ ْ َ ٌ ِ
94
) (16/25
) (16/26
فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك انتهى كلمه والله
سبحانه قد جعل بعض الدواب كسوبا محتال وبعضها متوكل غير محتال وبعض
الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته وبعضها يتكل على الثقة بأن له في كل
يوم قدر كفايته رزقا مضمونا وأمرا مقطوعا وبعضها يدخر وبعضها ل تكسب
له وبعض الذكورة يعول ولده وبعضها ل يعرف ولده البتة وبعض الناث تكفل
ولدها ل تعدوه وبعضها تضع ولدها وتكفل ولد غيرها وبعضها ل تعرف ولدها
إذا استغنى عنها وبعضها ل تزال تعرفه وتعطف عليه
) (16/27
95
السفاد ويكثر منه وبعضها ل يفعله في السنة إل مرة وبعضها يقتصر على
أنثاه وبعضها ل يقف على أنثى ولو كانت أمه أو أخته وبعضها ل تمكن غير
زوجها من نفسها وبعضها ل ترد يد لمس وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم
وبعضها يستوحش منهم وينفر غاية النفار وبعضها ل يأكل إل الطيب وبعضها ل
يأكل إل الخبائث وبعضها يجمع بين المرين وبعضها ل يؤذي إل من بالغ في
أذاها وبعضها يؤذي من ل يؤذيها وبعضها حقود ل تنسى الساءة وبعضها ل
يذكرها البتة وبعضها ل يغضب وبعضها يشتد غضبه فل يزال يسترضى حتى
يرضى وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة ل يهتدي إليها أكثر الناس
وبعضها ل معرفة له بشيء من ذلك البتة وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه
وبعضها الحسن والقبيح سواء عنده وبعضها يقبل التعليم بسرعة وبعضها مع
الطول وبعضها ل يقبل ذلك بحال وهذا كله من أدل الدلئل على الخالق لها
سبحانه وعلى إتقان صنعه وعجيب تدبيره ولطيف حكمته فإن فيما أودعها
من غرائب المعارف وغوامض الحيل وحسن التدبير والتأني لما تريده ما
يستنطق الفواه بالتسبيح ويمل القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته
وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق عبثا ولم يترك سدى وأن له سبحانه في
كل مخلوق حكمة باهرة وآية ظاهرة وبرهانا قاطعا يدل على أنه رب كل
شيء ومليكه وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه وأنه على كل شيء قدير
وبكل شيء عليم.
فصل :فلنرجع إلى ما ساقنا إلى هذا الموضع وهو الكلم على الهداية العامة
التي هي قرينة الخلق في الدللة على الرب تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته
وتوحيده قال تعالى إخبارا عن فرعون
) (16/28
ه ثُ ّ
م خل ْ َ
ق ُ يٍء َ ل َ
ش ْ ذي أ َعْ َ
طى ك ُ ّ ل َرب َّنا ال ّ ِ
سى َقا َ
مو َ
ما َيا ُن َرب ّك ُ َ أنه قال} :فَ َ
م ْ
دى{ قال مجاهد" :أعطى كل شيء خلقه لم يعط النسان خلق البهائم ول هَ َ
البهائم خلق النسان" وأقوال أكثر المفسرين تدور على هذا المعنى قال
عطية ومقاتل" :أعطى كل شيء صورته" وقال الحسن وقتادة" :أعطى كل
شيء صلحه" والمعنى أعطاه من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خلق له
ثم هداه لما خلق له وهداه لما يصلحه في معيشته ومطعمه ومشربه ومنكحه
وتقلبه وتصرفه هذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين فيكون
دى{ وقال الكلبي والسدي" :أعطى الرجل المرأة نظير قوله} :قَد َّر فَهَ َ
والبعير الناقة والذكر النثى من جنسه" ولفظ السدي" :أعطى الذكر النثى
مثل خلقه ثم هدى إلى الجماع" وهذا القول اختيار ابن قتيبة والفراء قال
الفراء" :أعطى الذكر من الناس امرأة مثله والشاة شاة والثور بقرة ثم ألهم
الذكر كيف يأتيها" قال أبو إسحاق" :وهذا التفسير جائز لنا نرى الذكر من
الحيوان يأتي النثى ولم ير ذكرا قد أتى أنثى قبله فألهمه الله ذلك وهداه
إليه" قال :والقول الول ينتظم هذا المعنى لنه إذا هداه لمصلحته فهذا داخل
في المصلحة قلت :أرباب هذا القول هضموا الية معناها فإن معناها أجل
وأعظم مما ذكروه وقوله أعطى كل شيء يأبى هذا التفسير فإن حمل كل
شيء على ذكور الحيوان وإناثه خاصة ممتنع ل وجه له وكيف يخرج من هذا
96
اللفظ الملئكة والجن ومن لم يتزوج من بني آدم ومن لم يسافد من الحيوان
وكيف يسمى الحيوان الذي يأتيه الذكر خلقا له وأين نظير هذا في القرآن
) (16/29
ذكروه وذكره ُْ ص -79-وهو سبحانه لما أراد التعبير عن هذا المعنى الذي
َ
ن الذ ّك ََر َوالَثى{ فحمل خل َقَ الّزوْ َ
جي ْ ِ ه َ بأدل عبارة عليه وأوضحها فقال} :وَأن ّ ُ
ه{ على هذا المعنى غير صحيح فتأمله وفي خل ْ َ
ق ُ يٍء َ
ش ْ قوله} :أ َعْ َ
طى ك ُ ّ
ل َ
الية قول آخر قاله الضحاك قال" :أعطى كل شيء خلقه أعطى اليد البطش
والرجل المشي واللسان النطق والعين البصر والذن السمع" ومعنى هذا
القول أعطى كل عضو من العضاء ما خلق له والخلق على هذا بمعنى
المفعول أي أعطى كل عضو مخلوقه الذي خلقه له فإن هذه المعاني كلها
مخلوقة لله أودعها العضاء وهذا المعنى وإن كان صحيحا في نفسه لكن
معنى الية أعم والقول هو الول وأنه سبحانه أعطى كل شيء خلقه
المختص به ثم هداه لما خلق له ول خالق سواه سبحانه ول هادي غيره فهذا
الخلق وهذه الهداية من آيات الربوبية ووحدانيته فهذا وجه الستدلل على
عدو الله فرعون ولهذا لما علم فرعون أن هذه حجة قاطعة ل مطعن فيها
ن ل ال ْ ُ
قُرو ِ بوجه من الوجوه عدل إلى سؤال فاسد عن وارد فقال} :فَ َ
ما َبا ُ
لوَلى{ أي فما للقرون الولى لم تقر بهذا الرب ولم تعبده بل عبدت الوثان ا ُ
والمعنى لو كان ما تقوله حقا لم يخف على القرون الولى ولم يهملوه فاحتج
عليه بما يشاهده هو وغيره من آثار ربوبية رب العالمين فعارضه عدو الله
بكفر الكافرين به وشرك المشركين وهذا شأن كل مبطل ولهذا صار هذا
ميزانا في ورثته يعارضون نصوص النبياء بأقوال الزنادقة والملحدة وأفراخ
الفلسفة والصابئة والسحرة ومبتدعة المة وأهل الضلل منهم فأجابه موسى
عن ْد َ َرّبي{ أي أعمال تلك القرون مَها ِ عل ْ ُعن معارضته بأحسن جواب فقالِ } :
وكفرهم وشركهم معلوم لربي قد أحصاه وحفظه وأودعه في كتاب فيجازيهم
عليه يوم القيامة ولم يودعه في كتاب خشية النسيان والضلل فإنه سبحانه ل
يضل ول ينسى وعلى هذا فالكتاب ها هنا كتاب العمال وقال الكلبي" :يعني
به اللوح المحفوظ"
) (16/30
وعلى هذا فهو كتاب القدر السابق والمعنى على هذا أنه سبحانه قد علم
أعمالهم وكتبها عنده قبل أن يعملوها فيكون هذا من تمام قوله الذي أعطى
كل شيء خلقه ثم هدى فتأمله.
فصل :وهو سبحانه في القرآن كثيرا ما يجمع بين الخلق والهداية كقوله في
ْ
ن
م ْن ِ سا َ خل َقَ ال ِن ْ َ خل َقَ َ ذي َ ك ال ّ ِ سم ِ َرب ّ َ أول سورة أنزلها على رسوله} :اقَْرأ ِبا ْ
عَل َق اقْرأ ْ ورب ّ َ َ
م{ وقوله: م ي َعْل َ ْ ما ل َ ْن َ سا َ م ال ِن ْ َ قل َم ِ عَل ّ َ م ِبال ْ َ ذي عَل ّ َ م ال ّ ِك الك َْر ُ َ ََ ٍ
ل ل َُ
ه جعَ ْ ن م َ ل خل َق النسان عَل ّمه ال ْبيان{ وقوله} :أ َ ن رآ ُ قْ لا م ّ ل ع ن
ْ َ ْ َ ُ ََ َ َ ِْ َ َ َ ْ َ َ َ }ال ّ ْ َ ُ
م ح ر
قَناخل َ ْة{ وقوله} :إ ِّنا َ قب َ َ م ال ْعَ َ ح َ ن َفل اقْت َ َ جد َي ْ ِ ن وَهَد َي َْناه ُ الن ّ ْ فت َ َي ْ ِش َ سانا ً وَ َ ن وَل ِ َ عَي ْن َي ْ ِ
مال إِ ّ سِبي َ صيرا ً إ ِّنا هَد َي َْناهُ ال ّ ميعا ً ب َ ِ س ِ جعَل َْناه ُ َ شاٍج ن َب ْت َِليهِ فَ َ م َ فةٍ أ ْ ن ن ُط ْ َ م ْ ن ِ سا َ اْل ِن ْ َ
َ َ َ َ َ ً ً
ن
م َ م ِل لك ُ ْ ض وَأن َْز َ ت َوالْر َ ماَوا ِ س َ خلقَ ال ّ ن َ م ْ فورا{ وقوله} :أ ّ ما ك َ ُ كرا وَإ ِ ّ شا ِ َ
97
َ َ
م ِفي ديك ُ ْ
ن ي َهْ ِم ْ ة{ اليات ثم قال} :أ ّ ج ٍ
ت ب َهْ َ دائ ِقَ َذا َ ح َماًء فَأن ْب َت َْنا ب ِهِ َ ماِء َ س َ ال ّ
ر{ فالخلق إعطاء الوجود العيني الخارجي والهدى إعطاء ح ِ ْ ْ
ت الب َّر َوالب َ ْ ما ِ ظ ُل ُ َ
الوجود العلمي الذهني فهذا خلقه وهذا هداه وتعليمه.
فصل :المرتبة الثانية من مراتب الهداية هداية الرشاد والبيان للمكلفين
وهذه الهداية ل تستلزم حصول التوفيق واّتباع الحق وإن كانت شرطا فيه أو
جزء سبب وذلك ل يستلزم حصول المشروط والمسبب بل قد يتخلف عنه
َ
مود ُ ما ث َ ُ
المقتضى إما لعدم كمال السبب أو لوجود مانع ولهذا قال تعالى} :وَأ ّ
وما ً ب َعْد َل قَ ْ ض ّ ن الل ّ ُ
ه ل ِي ُ ِ ما َ
كا َ دى{ وقال} :وَ َ مى عََلى ال ْهُ َ حّبوا ال ْعَ َ ست َ َم َفا ْ فَهَد َي َْناهُ ْ
ن{ فهداهم هدى البيان والدللة فلم يهتدوا قو َما ي َت ّ ُ
م َ ن ل َهُ ْحّتى ي ُب َي ّ َ م َ داهُ ْإ ِذ ْ هَ َ
فأضلهم عقوبة لهم على ترك
) (16/31
الهتداء أول
) (16/32
98
ظاهرا وباطنا ولم يحل بينهم وبين تلك السباب ومن حال بينه وبينها منهم
بزوال عقل أو صغر ل تمييز معه أو كونه بناحية من الرض لم تبلغه دعوة
رسله فإنه ل يعذبه حتى يقيم عليه حجته فلم يمنعهم من هذا الهدى ولم يحل
بينهم وبينه نعم قطع عنهم توفيقه ولم يرد من نفسه إعانتهم والقبال
بقلوبهم إليه فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم وإن حال بينهم وبين ما ل
يقدرون عليه وهو فعله ومشيئته وتوفيقه فهذا غير مقدور لهم وهو الذي
منعوه وحيل بينهم وبينه فتأمل هذا الموضع واعرف قدره والله المستعان.
فصل :المرتبة الثالثة من مراتب الهداية هداية التوفيق واللهام وخلق
المشيئة المستلزمة للفعل وهذه المرتبة أخص من التي قبلها وهي التي ضل
جهال القدرية بإنكارها وصاح عليهم سلف المة وأهل السنة منهم من نواحي
الرض عصرا بعد عصر إلى وقتنا هذا ولكن الجبرية ظلمتهم ولم تنصفهم كما
ظلموا أنفسهم بإنكار السباب والقوى وإنكار فعل العبد وقدرته وأن يكون له
تأثير في الفعل البتة فلم يهتدوا لقول هؤلء بل زادهم ضلل على ضللهم
وتمسكا بما هم عليه وهذا شأن المبطل إذا دعى مبطل آخر إلى ترك مذهبه
لقوله ومذهبه الباطل كالنصراني إذا دعى اليهودي إلى التثليث وعبادة
الصليب وأن المسيح إله تام غير مخلوق إلى أمثال ذلك من الباطل الذي هو
عليه وهذه المرتبة تستلزم أمرين أحدهما :فعل الرب تعالى وهو الهدى
والثاني :فعل
) (16/33
العبد وهو الهتداء وهو أثر فعله سبحانه فهو الهادي والعبد المهتدي قال
د{ ول سبيل إلى وجود الثر ه فَهُوَ ال ْ ُ
مهْت َ ِ ن ي َهْدِ الل ّ ُ
م ْ
تعالىَ } :
ص -81-إل بمؤثره التام فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد ولهذا قال
ل{ وهذا صريح في ض ّ ن يُ ِ م ْ دي َ ه ل ي َهْ ِ ن الل ّ َ م فَإ ِ ّ داهُ ْ ص عََلى هُ َ حرِ ْ ن تَ ْ تعالى} :إ ِ ْ
أن هذا الهدى ليس له صلى الله عليه وسلم ولو حرص عليه ول إلى أحد غير
الله وأن الله سبحانه إذا أضل عبدا لم يكن لحد سبيل إلى هدايته كما قال
ن
م ْ ه وَ َ ضل ِل ْ ُ ه يُ ْ شأ ِ الل ّ ُ ن يَ َ م ْ ه{ وقال تعالىَ } : هادِيَ ل َ ُ ه َفل َ ل الل ّ ُ ضل ِ ِ
ن يُ ْ م ْ تعالىَ } :
َ َ َ ي َ ْ
ه
مل ِ ِ سوُء عَ َ ه ُ نل ُ ن ُزي ّ َ م ْ م{ وقال تعالى} :أفَ َ قي ٍ ست َ ِ م ْ ط ُ صَرا ٍ ه عَلى ِ جعَل ْ ُ شأ ي َ ْ َ
م َ
سك عَلي ْهِ ْ َ ف ُ ب نَ ْ شاُء َفل ت َذ ْهَ ْ ن يَ َ م ْ دي َ شاُء وَي َهْ ِ ن يَ َ م ْ ل َ ض ّ ه يُ ِ ّ
ن الل َ سنا فَإ ِ ّ ً ح َ فََرآه ُ َ
ْ َ ّ ّ َ َ َ َ
علم ٍ ه عَلى ِ ه الل ُ ضل ُ واه ُ وَأ َ ه هَ َ خذ َ إ ِلهَ ُ ن ات ّ َ م ِ ت َ سَرات{ وقال تعالى} :أفََرأي ْ َ ح َ َ
هّ
ن ب َعْدِ الل ِ م ْ ديهِ ِ ن ي َهْ ِ م ْ شاوَةً فَ َ صرِهِ ِغ َ ل عَلى ب َ َ َ جعَ َ ْ
معِهِ وَقَلب ِهِ وَ َ س ْ م عَلى َ َ خت َ َ
وَ َ
ّ َ َ َ َ ّ َ
شاُء{ ن يَ َ م ْ دي َ ه ي َهْ ِ ن الل َ ّ م وَلك ِ داهُ ْ س عَلي ْك هُ َ َ ن{ وقال تعالى} :لي ْ أَفل ت َذ َكُرو َ
َ َ َ
ن ل َوْ مُنوا أ ْ نآ َ ذي َ س ال ّ ِ م َي َي ْأ ِ ها{ وقال} :أفَل َ ْ دا َ س هُ َ ف ٍ ل نَ ْ شئ َْنا لت َي َْنا ك ُ ّ وقال} :وَل َوْ ِ
صد َْرهُ ح َ شَر ْ ه يَ ْ ن ي َهْدِي َ ُ هأ ْ ن ي ُرِدِ الل ّ ُ م ْميعًا{ وقال} :فَ َ ج ِ س َ دى الّنا َ ه ل َهَ َ شاُء الل ّ ُ يَ َ
ماء{ َ َ ً ً ْ ّ َ
س َ صعّد ُ ِفي ال ّ ما ي َ ّ حَرجا كأن ّ َ ضّيقا َ صد َْره ُ َ جعَل َ ه يَ ْ ضل ُ ن يُ ِ ن ي ُرِد ْ أ ْ م ْ سلم ِ وَ َ ل ِل ِ ْ
داَنا ه ن َ أ ول َ ل ي د ت ه ن ل نا ُ ك ما و ذا َ ه ل نا دا ه ذي ّ ل ا ه ّ ل ل د م ح ْ ل }ا الجنة: أهل وقال
ْ َ َ ّ َِْ َ ِ َ ْ َ َ َ َ َ َِ َ ْ ُ ِ ِ ِ
الّله{ ولم يريدوا أن بعض الهدى منه وبعضه منهم بل الهدى كله منه ولول
هدايته لهم لما اهتدوا وقال تعالى:
) (16/34
99
َ
ما ل َ ُ
ه ه فَ َ ل الل ّ ُ ضل ِ ِ ن يُ ْ م ْ ن ُدون ِهِ وَ َ م ْ ن ِ ذي َ ك ِبال ّ ِ خوُّفون َ َ ف عَب ْد َه ُ وَي ُ َ كا ٍ ه بِ َ س الل ّ ُ }أل َي ْ َ
هاد ومن يهد الل ّه فَما ل َه من مض ّ َ
م{ وقال: قا ٍ زيزٍ ِذي ان ْت ِ َ ه ب ِعَ ِ س الل ّ ُ ل أل َي ْ َ ُ َ ُ ِ ْ ُ ِ ن َ ٍ َ َ ْ َْ ِ م ْ ِ
ّ َ ّ ْ َ
شاُء ن يَ َ م ْ ه َ ل الل ُ ض ّ م فَي ُ ِ ن لهُ ْ مهِ ل ِي ُب َي ّ َ ن قَوْ ِ سا ِل إ ِل ب ِل ِ َ سو ٍ ن َر ُ م ْ سلَنا ِ ما أْر َ }وَ َ
سول ً ُ ُ
قد ْ ب َعَث َْنا ِفي ك ّ َ ْ ْ ن يَ َ
مةٍ َر ُ لأ ّ م{ وقال} :وَل َ كي ُ ح ِ زيُز ال َ شاُء وَهُوَ العَ ِ م ْ دي َ وَي َهْ ِ
َ ّ ُ ّ ّ َ
ت عَلي ْهِ ق ْ ح ّ ن َ م ْ م َ من ْهُ ْه وَ ِ دى الل ُ ن هَ َ م ْ م َ من ْهُ ْ ت فَ ِ جت َن ُِبوا الطاغو َ ه َوا ْ دوا الل َ ن اعْب ُ ُ أ ِ
حَياةِ الد ّن َْيا ت ِفي ال ْ َ ل الّثاب ِ ِ قو ْ ِ مُنوا ِبال ْ َ نآ َ ذي َ ه ال ّ ِ ت الل ّ ُ ة{ وقال تعالى} :ي ُث َب ّ ُ ضلل َ ُ ال ّ
شاُء{ وقال تعالى} :ك َذ َل ِكَ ما ي َ َ ه َ ّ
فعَل الل ُ ُ ن وَي َ ْ مي َ ه الظال ِ ِ ّ ّ
ضل الل ُ ّ خَرةِ وَي ُ ِ وَِفي ال ِ
هو{ وقال: ّ َ
جُنود َ َرب ّك إ ِل ُ م ُ َ
ما ي َعْل ُ ن ي َشاُء وَ ََ م ْ دي َ ن ي َشاُء وَي َهْ ِ َ م ْ ه َ ل الل ّ ُ ض ّ يُ ِ
ه ب
َْ ِ ِ ِ دي ه ي } وقال: ن{ ِ ِ َقي س فا َ ْ ل ا ّ ل إ ه
َ َ ُ ِ ِ ِ ِ ب ّ
ل ض ي ما و ً ا ثير َ ك
ََْ ِ ِ ِ ِ ه ب دي ه ي و ً ا ثير َ
}ي ُ ِ ِ ِ ِ
ك ه ب ّ
ل ض
ت إ َِلى الّنورِ ب ِإ ِذ ْن ِ ِ
ه ما ِ ن الظ ّل ُ َ م َ م ِ جهُ ْ خرِ ُ سلم ِ وَي ُ ْ ل ال ّ سب ُ َ ه ُ وان َ ُ ض َ ن ات ّب َعَ رِ ْ م ِ ه َ الل ّ ُ
م{ وأمر سبحانه عباده كلهم أن يسألوه هدايتهم قي ٍ ست َ ِم ْ ط ُ صَرا ٍ م إ َِلى ِ ديهِ ْ وَي َهْ ِ
الصراط المستقيم كل يوم وليلة في الصلوات الخمس وذلك يتضمن الهداية
إلى الصراط والهداية فيه كما أن الضلل نوعان ضلل عن الصراط فل يهتدي
إليه وضلل فيه فالول ضلل عن معرفته والثاني ضلل عن تفاصيله أو
بعضها قال شيخنا" :ولما كان العبد في كل حال مفتقرا إلى هذه الهداية في
جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية فهو محتاج إلى التوبة
منها وأمور هدي إلى أصلها دون تفصيلها أو هدي إليها من وجه دون وجه فهو
محتاج إلى تمام الهداية فيها
) (16/35
) (16/36
) (16/37
القرآن وتتأوله على غير تأويله بل تتأوله بما يقطع ببطلنه وعدم إرادة
المتكلم له كقول بعضهم المراد من ذلك تسمية الله العبد مهتديا وضال
فجعلوا هداه وإضلله مجرد تسمية العبد بذلك وهذا مما يعلم قطعا أنه ل
يصح حمل هذه اليات عليه وأنت إذا تأملتها وجدتها ل تحتمل ما ذكروه البتة
وليس في لغة أمة من المم فضل عن أفصح اللغات وأكملها هداه بمعنى
سماه مهتديا وأضله سماه ضال وهل يصح أن يقال علمه إذا سماه عالما
كس عَل َي ْ َ
وفهمه إذا سماه فهما وكيف يصح هذا في مثل قوله تعالى} :ل َي ْ َ
شاء{ فهل فهم أحد غير القدرية المحرفة ن يَ َ
م ْ
دي َ ن الل ّ َ
ه ي َهْ ِ م وَل َك ِ ّ
داهُ ْ
هُ َ
للقرآن من هذا ليس عليك تسميتم مهتدين ولكن الله يسمي من يشاء
حب َْبت{ ل ك ل تهدي م َ مهتديا وهل فهم أحد قط من قوله تعالى} :إ ِن ّ َ
نأ ْ َ ْ َْ ِ
تسميه مهتديا ولكن الله يسميه بهذا السم وهل فهم أحد من قول الداعي
اهدنا الصراط المستقيم وقوله اللهم اهدني من عندك ونحوه اللهم سمني
مهتديا وهذا من جناية القدرية على القرآن ومعناه نظير جناية إخوانهم من
الجهمية على نصوص الصفات وتحريفها عن مواضعها وفتحوا للزنادقة
والملحدة جنايتهم على نصوص المعاد وتأويلها بتأويلت إن لم تكن أقوى من
تأويلتهم لم تكن دونها وفتحوا للقرامطة والباطنية تأويل نصوص المر
والنهي بنحو تأويلتهم فتأويل التحريف الذي سلسلته هذه الطوائف أصل
فساد الدنيا والدين وخراب العالم وسنفرد إن شاء الله كتابا نذكر فيه جناية
المتأولين على الدنيا والدين وأنت إذا وازيت بين تأويلت القدرية والجهمية
والرافضة لم تجد بينها وبين تأويلت الملحدة والزنادقة من القرامطة
الباطنية وأمثالهم كبير فرق والتأويل الباطل يتضمن تعطيل ما جاء به
الرسول والكذب على المتكلم أنه أراد ذلك المعنى فتتضمن إبطال الحق
وتحقيق الباطل ونسبة المتكلم إلى ما ل يليق به من التلبيس واللغاز مع
القول عليه بل علم أنه أراد هذا المعنى
101
) (16/38
فالمتأول عليه أن يبين صلحية اللفظ للمعنى الذي ذكره أول واستعمال
المتكلم له في ذلك المعنى في أكثر
ص -83-المواضع حتى إذا استعمله فيما يحتمل غيره حمل على ما عهد منه
استعماله فيه وعليه أن يقيم دليل سالما عن المعارض على الموجب لصرف
اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه واستعارته وإل كان ذلك مجرد دعوى
منه فل تقبل ،وتأويل بعضهم هذه النصوص على أن المراد بها هداية البيان
والتعريف ل خلق الهدى في القلب فإن الله سبحانه ل يقدر على ذلك عند
هذه الطائفة وهذا التأويل من أبطل الباطل فإن الله سبحانه يخبر أنه قسم
هدايته للعبد قسمين قسما ل يقدر عليه غيره وقسما مقدورا للعباد فقط في
م{ وقال في غير قي ٍ ست َ ِم ْط ُ صَرا ٍدي إ َِلى ِ ك ل َت َهْ ِالقسم المقدور للغير} :وَإ ِن ّ َ
َ
ي
هادِ َ ه َفل َ ل الل ّ ُضل ِ ِن يُ ْ م ْ ت{ وقالَ } : حب َب ْ َ
نأ ْ م ْ دي َ ك ل ت َهْ ِ المقدور للغير} :إ ِن ّ َ
ه{ ومعلوم قطعا أن البيان والدللة قد تحصل له ول تنفى عنه وكذلك قوله: لَ ُ
ل{ ل يصح حمله على هداية الدعوة والبيان فإن ض ّ ن يُ ِم ْ دي َ ن الل ّ َ
ه ل ي َهْ ِ }فَإ ِ ّ
ه عََلى ِ ْ َ
علم ٍ ه الل ّ ُضل ّ ُهذا يهدى وإن أضله الله بالدعوة والبيان وكذا قوله} :وَأ َ
ه{ن ب َعْدِ الل ّ ِ
م ْ ديهِ ِ ن ي َهْ ِ
م ْ شاوَةً فَ َصرِهِ ِغ َل عََلى ب َ َ جعَ َ معِهِ وَقَل ْب ِهِ وَ َ س ْ م عََلى َ خت َ َ
وَ َ
هل يجوز حمله على معنى فمن يدعوه إلى الهدى ويبين له ما تقوم به حجة
الله عليه وكيف يصنع هؤلء بالنصوص التي فيها أنه سبحانه هو الذي أضلهم
أيجوز لهم حملها على أنه دعاهم إلى الضلل فإن قالوا ليس ذلك معناها
وإنما معناها الفاهم ووجدهم كذلك أو أعلم ملئكته ورسله بضللهم أو جعل
على قلوبهم علمة يعرف الملئكة بها أنهم ضلل قيل هذا من جنس قولكم
إن هداه سبحانه وإضلله بتسميتهم مهتدين وضالين فهذه أربع تحريفات لكم
وهو أنه سماهم بذلك وعلمهم بعلمة يعرفهم بها الملئكة وأخبر عنهم بذلك
ووجدهم كذلك فالخبار من
) (16/39
جنس التسمية وقد بينا أن اللغة ل تحتمل ذلك وأن النصوص إذا تأملها
المتأمل وجدها أبعد شيء من هذا المعنى وأما العلمة فيا عجبا لفرقة
التحريف وما جنت على القرآن واليمان ففي أي لغة وأي لسان يدل قوله
حب َْبت{ على معنى أنك ل تعلمه بعلمة ولكن الله ك ل تهدي م َ تعالى} :إ ِن ّ َ
نأ َْ ْ َْ ِ
ه{ من يعلمه الله َ ه َفل َ
هادِيَ ل ُ ّ
ل الل ُ
ضل ِ ِ
ن يُ ْ
م ْ
هو الذي يعلمه بها وقولهَ } :
س شئ َْنا لت َي َْنا ك ُ ّ َ
ف ٍل نَ ْ بعلمة الضلل لم يعلمه غيره بعلمة الهدى وقوله} :وَلوْ ِ
ها{ لعلمناها بعلمة الهدى الذي خلقته هي لنفسها وأعطته نفسها وفي دا َ
هُ َ
أي لغة يفهم من قول الداعي اهدنا الصراط المستقيم علمنا بعلمة يعرف
الملئكة بها أننا مهتدون وقولهم ربنا ل تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ل تعلمها
بعلمة أهل الزيغ وقوله يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا مصرف
القلوب صرف قلبي على طاعتك وأمثال ذلك من النصوص ففي أي لغة وأي
لسان يفهم من هذا علمنا بعلمة الثبات والتصريف على طاعتك وفي أي لغة
102
سَية{ علمناها بعلمة القسوة أو م َقا ِ جعَل َْنا قُُلوب َهُ ْ يكون معنى قوله} :وَ َ
وجدناها كذلك نعم لو نزل القرآن بلغة القدرية والجهمية وأهل البدع لمكن
حمله على ذلك أو كان الحق تبعا لهوائهم وكانت نصوصه تبعا لبدع
المبتدعين وآراء المتحيرين وأنت تجد جميع هذه الطوائف تنزل القرآن على
مذاهبهم وبدعها وآرائها فالقرآن عند الجهمية جهمي وعند المعتزلة معتزلي
وعند القدرية قدري وعند الرافضة رافضي وكذلك هو عند جميع أهل الباطل:
قون ول َك َ كانوا أ َول ِياَءه إ َ
ن{ وأما م ل ي َعْل َ ُ
مو َ ن أك ْث ََرهُ ْ ن أوْل َِياؤُه ُ إ ِل ّ ال ْ ُ
مت ّ ُ َ َ ِ ّ ْ َ ُ ِ ْ ما َ ُ
}وَ َ
تحريفهم هذه النصوص وأمثالها بأن المعنى ألفاهم ووجدهم ففي أي لسان
وأي لغة وجدتم هديت الرجل إذا وجدته مهتديا وختم الله على قلبه وسمعه
وجعل على بصره غشاوة وجده كذلك وهل هذا إل افتراء محض على القرآن
واللغة فإن قالوا نحن لم نقل
) (16/40
هذا في نحو ذلك وإنما قلناه في نحو أضله الله أي وجده ضال كما يقال
أحمدت الرجل وأبخلته وأجننته إذا
ص -84-وجدته كذلك أو نسبته إليه فيقال لفرقة التحريف هذا إنما ورد في
ألفاظ معدودة نادرة وإل فوضع هذا البناء على أنك فعلت ذلك به ول سيما إذا
كانت الهمزة للتعدية من الثلثي كقام وأقمته وقعد وأقعدته وذهب وأذهبته
وسمع وأسمعته ونام وأنمته وكذا ضل وأضله الله وأسعده وأشقاه وأعطاه
وأخزاه وأماته وأحياه وأزاغ قلبه وأقامه إلى طاعته وأيقظه من غفلته وأراه
آياته وأنزله منزل مباركا وأسكنه جنته إلى أضعاف ذلك هل تجد فيها لفظا
واحدا معناه أنه وجده كذلك تعالى الله عما يقول المحرفون ثم انظر في
كتاب فعل وافعل هل تظفر فيه بأفعلته بمعنى وجدته مع سعة الباب إل في
الحرفين أو الثلثة نقل عن أهل اللغة ثم انظر هل قال أحد من الولين
والخرين من أهل اللغة أن العرب وضعت أضله الله وهداه وختم على سمعه
وقلبه وأزاغ قلبه وصرفه عن طاعته ونحو ذلك لمعنى وجده كذلك ولما أراد
دى{ ولم يقل وأضلك ضال ً فَهَ َ جد َ َ
ك َ سبحانه البانة عن هذا المعنى قال} :وَوَ َ
وقال في حق من خالف الرسول وكفر بما جاء به وأضله على علم ولم يقل
ووجده الله ضال ثم أي توحيد تمدح وتعريف للعباد أن المر كله لله وبيده
وأنه ليس لحد من أمره شيء في مجرد التسمية والعلمة ومصادفة الرب
تعالى عباده كذلك ووجوده لهم على هذا الصفات من غير أن يكون له فيها
صنع أو خلق أو مشيئة وهل يعجز البشر عن التسمية والمصادفة والوجود
كذلك فأي مدح وأي ثناء يحسن على الرب تعالى بمجرد ذلك فأنتم وإخوانكم
من الجبرية لم تمدحوا الرب بما يستحق أن يمدح به ولم تثنوا عليه بأوصاف
كماله ولم تقدروه حق قدره وأتباع الرسول وحزبه وخاصته بريئون منكم
ومنهم في باطلكم وباطلهم وهم معكم ومعهم فيما عندكم من الحق ل
يتحيزون إلى غير ما بينه الرسول وجاء به ول ينحرفون عنه نصرة لراء
الرجال
) (16/41
103
المختلفة وأهوائهم المتشتتة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل
العظيم قال ابن مسعود" :علمنا رسول لله صلى الله عليه وسلم التشهد في
الصلة والتشهد في الحاجة إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا من يهده الله فل مضل له ومن يضلل فل هادي له وأشهد أن ل
ق
ح ّ ه َ قوا الل ّ َ إله إل لله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ويقرأ ثلث آيات} :ات ّ ُ
م ُ َ
ن عَلي ْك ْ كا َه َن الل ّ َ م إِ ّ
حا َن ب ِهِ َوال َْر َساَءُلو َ ذي ت َ َ ه ال ّ ِقوا الل ّ َ ه{ اليةَ} :وات ّ ُ قات ِ ِ
تُ َ
ديدا{ الية" قال الترمذي هذا حديث صحيح ً س ِ ً َ
ه وَقولوا قوْل َ ُ ُ ّ
قوا الل َ ً
َرِقيبا{} :ات ّ ُ
وقال أبو داود حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن خالد الحذاء عن عبد
العلى عن عبد الله بن الحارث قال" :خطب عمر بن الخطاب بالجابية فحمد
الله وأثنى عليه وعنده جاثليق يترجم له ما يقول فقال :من يهد الله فل مضل
له ومن يضلل فل هادي له فنفض جبينه كالمنكر لما يقول قال عمر :ما يقول
قالوا :يا أمير المؤمنين يزعم أن الله ل يضل أحدا قال عمر :كذبت أي عدو
الله بل الله خلقك وقد أضلك ثم يدخلك النار أما والله لول عهد لك لضربت
عنقك إن الله عز وجل خلق أهل الجنة وما هم عاملون وخلق أهل النار وما
هم عاملون فقال هؤلء لهذه وهؤلء لهذه قال :فتفرق الناس وما يختلفون
في القدر".
فصل :المرتبة الرابعة من مراتب الهداية الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة
َ
ن الل ّ ِ
ه ن ُدو ِ م ْ ن ِ دو َكاُنوا ي َعْب ُ ُ ما َ م وَ َ
جهُ ْموا وَأْزَوا َ ن ظ َل َ ُ ذي َ شُروا ال ّ ِ ح ُ قال تعالى} :ا ْ
ن َ َ
ل اللهِ فل ّْ سِبي ِ
ن قت ِلوا ِفي َ ُ ُ ذي َ ّ
م{ وقال تعالىَ} :وال ِ ْ م إ َِلى ِ َفاهْ ُ
حي ِ ج ِ ط ال َ صَرا ِ دوهُ ْ
َ
م{ فهذه هداية بعد قتلهم فقيل المعنى ح َبال َهُ ْ صل ِ ُم وَي ُ ْ ديهِ ْسي َهْ ِ م َ مال َهُ ْ
ل أعْ َ ض ّيُ ِ
سيهديهم إلى طريق الجنة ويصلح حالهم في الخرة بإرضاء خصومهم وقبول
أعمالهم وقال ابن
) (16/42
) (16/43
شفاء العليل
الباب الخامس عشر :في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة
ونحوها وأنه مفعول الرب
الباب الخامس عشر :في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة
والحائل بين الكافر وبين اليمان وأن ذلك مجعول للرب تعالى
فروا سواٌء عَل َيهم أ َأ َنذ َرته َ
ن م ل ي ُؤْ ِ
مُنو َ م لَ ْ
م ت ُن ْذِْرهُ ْ مأ ْ ِْ ْ ْ ْ َُ ْ َ َ ن كَ َ ُ
ذي َن ال ّ ِقال تعالى} :إ ِ ّ
َ َ َ
ة{ وقال تعالى: شاوَ ٌ م ِغ َ صارِهِ ْم وَعَلى أب ْ َمعِهِ ْس ْ
م وَعَلى َ ه عََلى قُلوب ِهِ ْ
ُ م الل ّ ُ
خت َ َ
َ
104
َ َ َ
معِهِ وَقَل ْب ِهِ س ْ م عََلى َ عل ْم ٍ وَ َ
خت َ َ ه عََلى ِ ه الل ّ ُ ضل ّ ُواه ُ وَأ َ ه هَ َ خذ َ إ ِل َهَ ُ ن ات ّ َ ِ م
ت َ }أفََرأي ْ َ
َ
ن{ وقال تعالى: ن ب َعْدِ الل ّهِ أَفل ت َذ َك ُّرو َ م ْ ديهِ ِ ن ي َهْ ِ م ْشاوَةً فَ َ صرِهِ ِغ َ ل عََلى ب َ َ جعَ َوَ َ
هّ ْ
ك ي َطب َعُ الل ُ َ
م{ وقال} :كذ َل ِ َ فرِهِ ْ ُ
ه عَلي َْها ب ِك ْ َ ّ
ل طب َعَ الل ُ َ ف بَ ْ ْ
م قُلوب َُنا غُل ٌ ُ }وَقَوْل ِهِ ْ
ن{ وقال: مُعو َ س َم ل يَ ْ م فَهُ ْ ُ َ
ن{ وقال} :وَن َطب َعُ عَلى قُلوب ِهِ ْ ْ ري َ َ
ب الكافِ ِ ْ عََلى قُُلو ِ
ل عََلى حقّ ال ْ َ فال َُها{ وقال} :ل َ َ َ َ َ
قو ْ ُ قد ْ َ ب أقْ َ م عََلى قُُلو ٍ نأ ْ قْرآ َ ن ال ْ ُ }أَفل ي َت َد َب ُّرو َ
ن فَهُ ْ
م َ
ي إ ِ ََلى الذ َْقا ِ غلل ً فَهِ َ م أَ ْ َ
جعَل َْنا ِفي أعَْناقِهِ ْ ن إ ِّنا َ مُنو َ م ل ي ُؤْ ِ م فَهُ ْ أك ْث َرِهِ ْ
َ
سد ّا ً فَأغْ َ قمحون وجعل ْنا من بي َ
مل م فَهُ ْ شي َْناهُ ْ م َ فهِ ْ خل ْ ِ
ن َ م ْ سد ّا ً وَ ِ م َ ديهِ ْ ن أي ْ ِ م ْ َ ُ َ َ َ َ َ ِ ْ َ ْ َِ ُ
َ َ َ َ
ن{ وقد دخل هذه مُنو َ م ل ي ُؤْ ِ م ت ُن ْذِْرهُ ْ مل ْ مأ ْ م أأن ْذ َْرت َهُ ْ واٌء عَلي ْهِ ْ س َ ن وَ َ صُرو َ ي ُب ْ ِ
اليات ونحوها طائفتا القدرية والجبرية فحرفها القدرية بأنواع من التحريف
المبطل لمعانيها وما أريد منها وزعمت الجبرية أن الله أكرهها على ذلك
وقهرها عليه وأجبرها من غير فعل منها ول إرادة ول اختيار ول كسب البتة بل
حال بينها وبين الهدى ابتداء من غير ذنب ول سبب من العبد يقتضي ذلك بل
أمره وحال مع أمره بينه وبين الهدى فلم
) (17/1
ييسر إليه سبيل ول أعطاه عليه قدره ول مكنه منه بوجه وأراد بعضهم بل
أحب له الضلل والكفر والمعاصي ورضيه منه فهدى أهل السنة والحديث
وأتباع الرسول لما اختلف فيه هاتان الطائفتان من الحق بإذنه والله يهدي
من يشاء إلى صراط مستقيم ،قالت القدرية :ل يجوز حمل هذه اليات على
أنه منعهم من اليمان وحال بينهم وبينه إذ يكون لهم الحجة على الله
ويقولون كيف يأمرنا بأمر ثم يحول بيننا وبينه ويعاقبنا عليه وقد منعنا من
فعله وكيف يكلفنا بأمر ل قدرة لنا عليه وهل هذا إل بمثابة من أمر عبده
بالدخول من باب ثم سد عليه الباب سدا محكما ل يمكنه الدخول معه البتة
ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول وبمنزلة من أمره بالمشي إلى
مكان ثم قيده بقيد ل يمكنه معه نقل قدمه ثم أخذ يعاقبه على ترك المشي
وإذا كان هذا قبيحا في حق المخلوق الفقير المحتاج فكيف ينسب إلى الرب
تعالى مع كمال غناه وعلمه وإحسانه ورحمته قالوا وقد كذب الله سبحانه
الذين قالوا قلوبنا غلف وفي أكنة وأنها قد طبع عليها وذمهم على هذا القول
فكيف ينسب إليه تعالى ولكن القوم لما أعرضوا وتركوا الهتداء بهداه الذي
بعث به رسله حتى صار ذلك العراض والنفار كاللف والطبيعة والسجية
أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وصار هذا وقرا في آذانهم
وختما على قلوبهم وغشاوة على أعينهم فل يخلص إليها الهدى وإنما أضاف
الله تعالى ذلك إليه لن هذه الصفة قد صارت في تمكنها وقوة ثباتها كالخلقة
مام َن عََلى قُُلوب ِهِ ْ التي خلق عليها العبد قالوا ولهذا قال تعالى} :ك َل ّ ب َ ْ
ل َرا َ
َ
كاُنوا
) (17/2
ما َزا ُ
غوا م{ وقال} :فَل َ ّ فرِهِ ْ ه عَل َي َْها ب ِك ُ ْ
ل ط َب َعَ الل ّ ُ ن{ وقال} :ب َ ْ سُبو َص -86-ي َك ْ ِ
م إ َِلى ي َوْم ِ ي َل ْ َ َ َ
ماه بِ َقوْن َ ُ فاقا ً ِفي قُُلوب ِهِ ْ م نِ َ م{ وقال} :فَأعْ َ
قب َهُ ْ ه قُُلوب َهُ ْ أَزاغَ الل ّ ُ
ن{ ولعمر الله إن الذي قاله هؤلء حقه كاُنوا ي َك َذُِبو َ ما َ
دوه ُ وَب ِ َ
ما وَعَ ُ ه َفوا الل ّ َ أَ ْ
خل َ ُ
105
أكثر من باطله وصحيحه أكثر من سقيمه ولكن لم يوفوه حقه وعظموا الله
من جهة وأخلوا بتعظيمه من جهة فعظموه بتنزيهه عن الظلم وخلف الحكمة
وأخلوا بتعظيمه من جهة التوحيد وكمال القدرة ونفوذ المشيئة والقرآن يدل
على صحة ما قالوه في الران والطبع والختم من وجه وبطلنه من وجه وأما
صحته فإنه سبحانه جعل ذلك عقوبة لهم وجزاء على كفرهم وأعراضهم عن
الحق بعد أن عرفوه كما قال تعالى} :فَل َما زا ُ َ
هل م َوالل ّ ُ ه قُُلوب َهُ ْ غوا أَزاغَ الل ّ ُ ّ َ
ن{سُبو َ ْ
ما كاُنوا ي َك ِ َ م َ ُ
ن عَلى قلوب ِهِ ْ ُ َ ل َرا َ ن{ وقال} :ك َل ّ ب َ ْ قي َ س ِ فا ِ م ال ْ َ قو ْ َدي ال ْ َ ي َهْ ِ
َ َ َ َ َ ْ َ ّ
م ِفي مّرةٍ وَن َذ َُرهُ ْ مُنوا ب ِهِ أوّل َ م ي ُؤْ ِما ل ْ مك َ صاَرهُ ْ م وَأب ْ َب أفئ ِد َت َهُ ْ قل ُ وقال} :وَن ُ َ
م{ وقد اعترف ُ
ه قلوب َهُ ْ ُ ّ
ف الل ُ صَر َ صَرفوا َ ُ م ان ْ َ ُ
ن{ وقال} :ث ّ مُهو َ م ي َعْ َ ط ُغَْيان ِهِ ْ
بعض القدرية بأن ذلك خلق الله سبحانه ولكنه عقوبة على كفرهم وإعراضهم
السابق فإنه سبحانه يعاقب على الضلل المقدور بإضلل بعده ويثيب على
الهدى بهدى بعده كما يعاقب على السيئة بسيئة مثلها ويثيب على الحسنة
م{ وقال: واهُ ْ ق َ
م تَ ْ هدىً َوآَتاهُ ْ م ُ ن اهْت َد َْوا َزاد َهُ ْ ذي َ بحسنة مثلها وقال تعالىَ} :وال ّ ِ
َ َ َ ً ُ َ
م{ وقال مالك ُ ْ م أعْ َ ح لك ُ ْ صل ِ ْ ديدا ي ُ ْ س ِ ه وَُقولوا قَوْل ً َ قوا الل ّ َ مُنوا ات ّ ُ نآ َ ذي َ }َيا أي َّها ال ّ ِ
م فُْرَقانا ً وَي ُك َ ّ َ
فر{ ومن ل ل َك ُ ْ جعَ ْ ه يَ ْ قوا الل ّ َ ن ت َت ّ ُمُنوا إ ِ ْنآ َ ذي َ تعالىَ} :يا أي َّها ال ّ ِ
الفرقان الهدى الذي يفرق به بين الحق والباطل وقال في ضد ذلك:
) (17/3
106
) (17/4
صلى الله عليه وسلم" :ماض في حكمك عدل في قضاؤك" كيف ذكر العبد
في القضاء مع الحكم النافذ وفي ذلك رد لقول الطائفتين القدرة والجبرية
فإن العدل الذي أثبتته القدرية مناف للتوحيد معطل
ص -87-لكمال قدرة الرب وعموم مشيئته والعدل الذي أثبته الجبرية مناف
للحكمة والرحمة ولحقيقة العدل والعدل الذي هو اسمه وصفته ونعته سبحانه
خارج عن هذا وهذا ولم يعرفه إل الرسل وأتباعهم ولهذا قال هود عليه
و ّ
ن َداب ّةٍ إ ِل هُ َ
م ْ
ما ِ ت عََلى الل ّهِ َرّبي وََرب ّك ُ ْ
م َ الصلة والسلم لقومه} :إ ِّني ت َوَك ّل ْ ُ
م{ فأخبر عن عموم قدرته ونفوذ قي ٍ ست َ ِ
م ْط ُ صَرا ٍ ن َرّبي عََلى ِ خذ ٌ ب َِنا ِ
صي َت َِها إ ِ ّ آ ِ
مشيئته وتصرفه في خلقه كيف شاء ثم أخبر أنه في هذا التصرف والحكم
على صراط مستقيم وقال أبو إسحاق" :أي هو سبحانه وإن كانت قدرته
خذ ٌتنالهم بما شاء فإنه ل يشاء إل العدل" وقال ابن النباري" :لما قال} :هُوَ آ ِ
صي َت َِها{ كان في معنى ل يخرج من قبضته وأنه قاهر بعظيم سلطانه لكل ب َِنا ِ
م{" قال :وهذا نحو كلم العرب َ
قي ٍ ست َ ِم ْ ط ُ صَرا ٍ ن َرّبي عَلى ِ دابة فأتبع قوله} :إ ِ ّ
إذا وصفوا بحسن السيرة والعدل والنصاف قالوا فلن على طريقة حسنة
وليس ثم طريق" ثم ذكر وجها آخر فقال" :لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل
م{ أي ل تخفى عليه مشيئته قي ٍ ست َ ِ
م ْ ط ُ صَرا ٍ ن َرّبي عََلى ِ دابة أتبع هذا قوله} :إ ِ ّ
ول يعدل عنه هارب فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي ل
صاِد{" ،قلت فعلى هذا مْر َك ل َِبال ْ ِ ن َرب ّ َ يكون لحد مسلك إل عليه كما قال} :إ ِ ّ
القول الول يكون المراد أنه في تصرفه في ملكه يتصرف بالعدل ومجازات
المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ول يظلم مثقال ذرة ول يعاقب أحدا بما
لم يجنه ول يهضمه ثواب ما عمله ول يحمل عليه ذنب غيره ول يأخذ أحدا
بجريرة أحد ول يكلف نفسا ما ل تطيقه فيكون من باب له الملك وله الحمد
ومن باب ماض في حكمك عدل في
) (17/5
قضاؤك ومن باب الحمد لله رب العالمين أي كما أنه رب العالمين المتصرف
فيهم بقدرته ومشيئته فهو المحمود على هذا التصرف وله الحمد على جميعه
وعلى القول الثاني المراد به التهديد والوعيد وأن مصير العباد إليه وطريقهم
م{ قالقي ٌ
ست َ ِ
م ْي ُ ط عَل َ ّ صَرا ٌ ذا ِ عليه ل يفوته منهم أحد كما قال تعالىَ} :قا َ
ل هَ َ
صاِد{" قال: مْر َ ْ َ
ك لِبال ِن َرب ّ َ
الفراء" :يقول مرجعهم إلي فأجازيهم كقوله} :إ ِ ّ
"وهذا كما تقول في الكلم طريقك علي وأنا على طريقك لمن أوعدته"
ل{ على سِبي ِصد ُ ال ّ وكذلك قال الكلبي والكسائي ومثل قوله} :وَعََلى الل ّهِ قَ ْ
إحدى القولين في الية وقال مجاهد" :الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه"
ومنها أي ومن السبيل ما هو جائر عن الحق ولو شاء لهداكم أجمعين فأخبر
عن عموم مشيئته وأن طريق الحق عليه موصلة إليه فمن سلكها فإليه يصل
ومن عدل عنها فإنه يضل عنه والمقصود أن هذه اليات تتضمن عدل الرب
تعالى وتوحيده والله يتصرف في خلقه بمكله وحمده وعدله وإحسانه فهو
107
على صراط مستقيم في قوله وفعله وشرعه وقدره وثوابه وعقابه يقول
ل{ فهذا العدلسِبي َ
دي ال ّ
حقّ وَهُوَ ي َهْ ِل ال ْ َ
قو ُ الحق ويفعل العدلَ} :والل ّ ُ
ه يَ ُ
والتوحيد الذين دل عليهما القرآن ل يتناقضان وأما توحيد أهل القدر والجبر
وعدلهم فكل منهما يبطل الخر ويناقضه.
فصل :ومن سلك من القدرية هذه الطريق فقد توسط بين الطائفتين لكنه
يلزمه الرجوع إلى مثبتي القدر قطعا وإل تناقض أبين تناقض فإنه إذا زعم أن
الضلل والطبع والختم والقفل والوقر وما يحول بين العبد وببين اليمان
مخلوق لله وهو واقع بقدرته ومشيئته فقد أعطى أن أفعال العباد مخلوقة
وأنها واقعة بمشيئته فل فرق بين الفعل البتدائي والفعل الجزائي إن كان
هذا مقدور الله واقعا بمشيئته والخر كذلك وإن لم يكن ذاك مقدورا ول يصح
دخوله تحت المشيئة فهذا كذلك والتفريق بين النوعين تناقض محض وقد
حكى هذا التفريق عن بعض القدرية أبو
) (17/6
ص -88-الرشاد فقال" :ولقد اعترف بعض القدرية بأن الختم والطبع توابع
غير أنها عقوبات من الله لصحاب الجرائم" قال" :وممن صار إلى هذا
المذهب عبد الواحد بن زيد البصري وبكر ابن أخته" قال" :وسبيل المعاقبين
بذلك سبيل المعاقبين بالنار وهؤلء قد بقي عليهم درجة واحدة وقد تحيزوا
إلى أهل السنة والحديث".
فصل :وقالت طائفة منهم الكافر هو الذي طبع على قلب نفسه في الحقيقة
وختم على قلبه والشيطان أيضا فعل ذلك ولكن لما كان الله سبحانه هو
الذي أقدر العبد والشيطان على ذلك نسب الفعل إليه لقراره للفاعل على
ذلك لنه هو الذي فعله ،قال أهل السنة :والعدل هذا الكلم فيه حق وباطل
فل يقبل مطلقا ول يرد مطلقا فقولكم أن الله سبحانه أقدر الكافر
والشيطان على الطبع والختم كلم باطل فإنه لم يقدره إل على التزيين
والوسوسة والدعوة إلى الكفر ولم يقدره على خلق ذلك في قلب العبد البتة
وهو أقل من ذلك وأعجز وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم" :بعثت داعيا
ومبلغا وليس إلي من الهداية شيء وخلق إبليس مزينا وليس إليه من
الضللة شيء" فمقدور الشيطان أن يدعو العبد إلى فعل السباب التي إذا
فعلها ختم الله على قلبه وسمعه وطبع عليه كما يدعوه إلى السباب التي إذا
فعلها عاقبه الله بالنار فعقابه بالنار كعقابه بالختم والطبع وأسباب العقاب
فعله وتزيينها وتحسينها فعل الشيطان والجميع مخلوق لله ،وأما ما في هذا
الكلم من الحق فهو أن الله سبحانه أقدر العبد على الفعل الذي أوجب
الطبع والختم على قلبه فلول إقدار الله له على ذلك لم يفعله وهذا حق لكن
القدرية لم توف هذا الموضع حقه وقالت أقدره قدرة تصلح للضدين فكان
فعل أحدهما باختياره ومشيئته التي ل تدخل تحت مقدور الرب وإن دخلت
قدرته الصالحة لهما تحت مقدروه سبحانه فمشيئته واختياره وفعله غير واقع
تحت مقدور الرب وهذا من أبطل الباطل فإن كل ما سواه تعالى مخلوق وله
108
) (17/7
داخل تحت قدرته واقع بمشيئته ولو لم يشأ لم يكن ،قلت القدرية لما
أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى التذكر وكان ذلك مقارنا ل يراد الله
سبحانه حجته عليهم أضيفت أفعالهم إلى الله لن حدوثها إنما اتفق عند إيراد
الحجة عليهم ،قال أهل السنة :هذا من أمحل المحال أن يضيف الرب إلى
نفسه أمرا ل يضاف إليه البتة لمقارنته ما هو من فعله ومن المعلوم أن الضد
يقارن الضد فالشر يقارن الخير والحق يقارن الباطل والصدق يقارن الكذب
وهل يقال أن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان لمقارنتها ما يحبه من
اليمان والطاعة وأنه يحب إبليس لمقارنة وجوده لوجود الملئكة فإن قيل قد
ينسب الشيء إلى الشيء لمقارنته له وإن لم يكن له فيه تأثير كقوله تعالى:
َ قو ُ َ ُ
مُنوانآ َ ما ال ّ ِ
ذي َ مانا ً فَأ ّ
ه هَذِهِ ِإي َ ل أي ّك ُ ْ
م َزاد َت ْ ُ ن يَ ُم ْم َمن ْهُ ْسوَرة ٌ فَ ِ ت ُ ما أن ْزِل َ ْ }وَإ َِذا َ
جسا ً ُ ّ َ ً
م رِ ْض فََزاد َت ْهُ ْ مَر ٌ م َ ن ِفي قُلوب ِهِ ْ ذي َ ما ال ِن وَأ ّ شُرو َ ست َب ْ ِ
م يَ ْ
مانا وَهُ ْ م ِإي َ فََزاد َت ْهُ ْ
ن{ ومعلوم أن السورة لم تحدث لهم زيادة َ
م كافُِرو َ ماُتوا وَهُ ْ م وَ َ سهِ ْ ج ِ إ َِلى رِ ْ
رجس بل قارن زيادة رجسهم نزولها فنسب إليها قيل لم ينحصر المر في
هذين المرين اللذين ذكرتموهما وهما أحداث السورة الرجس والثاني
مقارنته لنزولها بل ههنا أمر ثالث وهو أن السورة لما أنزلت اقتضى نزولها
اليمان بها والتصديق والذعان لوامرها ونواهيها والعمل بما فيها فوطن
المؤمنون أنفسهم على ذلك فازدادوا إيمانا بسببها فنسبت زيادة اليمان إليها
إذ هي السبب في زيادته وكذب بها الكافرون وجحدوها وكذبوا من جاء بها
ووطنوا أنفسهم على مخالفة ما تضمنته وإنكاره فازدادوا بذلك رجسا فنسب
إليها إذ كان نزولها ووصولها إليهم هو السبب في تلك
) (17/8
109
ك بغير قسر ول إلجاء بل إيمان اختيار وطاعة كما قال تعالى} :وَل َوْ َ
شاَء َرب ّ َ
َ
ميعا{ وإيمان القسر واللجاء ل يسمى إيمانا ج ِ م َ ض ك ُل ّهُ ْ
ن ِفي الْر ِ م ْ
ن َ
م َ
ل َ
ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة ول يسمى ذلك إيمانا لنه عن إلجاء
ها{ وما يحصل للنفوس دا َ
س هُ َف ٍ شئ َْنا لت َي َْنا ك ُ ّ
ل نَ ْ واضطرار قال تعال} :وَل َوْ ِ
من المعرفة والتصديق بطريق اللجاء والضطرار والقسر ل يسمى هدى
ً َ َ َ
ميعا{ ج ِ
س َدى الّنا َ ه ل َهَ َ
شاُء الل ّ ُن ل َوْ ي َ َ
مُنوا أ ْ نآ َ ذي َ س ال ّ ِ
م ي َي ْأ ِ وكذلك قوله} :أفَل َ ْ
فقولكم لم يبق طريق إلى
) (17/9
اليمان إل بالقسر باطل فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يرهم الله إياه وهو
مشيئته وتوفيقه وإلهامه وإمالة قلوبهم إلى الهدى وإقامتها على الصراط
المستقيم وذلك أمر ل يعجز عنه رب كل شيء ومليكه بل هو القادر عليه
كقدرته على خلقه ذواتهم وصفاتهم ودرائهم ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله
فيهم وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم كما منع السفل خصائص
العلو ومنع الحار خصائص البارد ومنع الخبيث خصائص الطيب ول يقال فلم
فعل هذا فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته ومن مقتضيات أسمائه وصفاته
وهل يليق بحكمته أن يسوي بين الطيب والخبيث والحسن والقبيح والجيد
والرديء ومن لوازم الربوبية خلق الزوجين وتنويع المخلوقات وأخلقها،
فقول القائل لم خلق الرديء والخبيث واللئيم سؤال جاهل بأسمائه وصفاته
وملكه وربوبيته وهو سبحانه فرق بين خلقه أعظم تفريق وذلك من كمال
قدرته وربوبيته فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن ومنه ما ل يقبل شيئا
منه وبين ذلك درجات متفاوتة ل يحصيها إل الخلق العليم وهدى كل نفس
إلى حصول ما هي قابلة له والقابل والمقبول والقبول كله مفعوله ومخلوقه
وأثر فعله وخلقه وهذا هو الذي ذهب عن الجبرية والقدرية ولم يهتدوا إليه
وبالله التوفيق ،قالت القدرية :الختم والطبع هو شهادته سبحانه عليهم بأنهم
ل يؤمنون وعلى أسماعهم وعلى قلوبهم ،قال أهل السنة :هذا هو قولكم بأن
الختم والطبع هو الخبار عنهم بذلك وقد تقدم فساد هذا بما فيه كفاية وأنه ل
يقال في لغة من لغات المم لمن أخبر عن غيره بأنه مطبوع على قلبه وأن
عليه ختما أنه قد طبع على قلبه وختم عليه بل هذا كذب على اللغات وعلى
القرآن وكذلك قول من قال أن ختمه على قلوبهم اطلعه على ما فيها من
الكفر وكذلك قول من قال أنه إحصاؤه
) (17/10
ص -90-عليهم حتى يجازيهم به وقول من قال أنه أعلمها بعلمة تعرفها بها
الملئكة وقد بينا بطلن ذلك بما فيه كفاية ،قالت القدرية :ل يلزم من الطبع
والختم والقفل أن تكون مانعة من اليمان بل يجوز أن يجعل الله فيهم ذلك
من غير أن يكون منعهم من اليمان بل يكون ذلك من جنس الغفلة والبلدة
والغشا في البصر فيورث ذلك إعراضا عن الحق وتعاميا عنه ولو أنعم النظر
وتفكر وتدبر لما آثر على اليمان غيره وهذا الذي قالوه يجوز أن يكون في
أول المر فإذا تمكن واستحكم من القلب ورسخ فيه امتنع معه اليمان ومع
110
هذا فهو أثر فعله وإعراضه وغفلته وإيثاره وشهوته وكبره على الحق والهدى
فلما تمكن فيه واستحكم صار صفة راسخة وطبعا وختما وقفل ورانا فكان
مبداه غير حائل بينهم وبين اليمان واليمان ممكن معه لو شاؤا لمنوا مع
مبادئ تلك الموانع فلما استحكمت لم يبق إلى اليمان سبيل ونظير هذا أن
العبد يستحسن ما يهواه فيميل إليه بعض الميل ففي هذه الحال يمكن صرف
الداعية له إذ السباب لم تستحكم فإذا استمر على ميله واستدعى أسبابه
واستمكنت لم يمكنه صرف قلبه عن الهوى والمحبة فيطبع على قلبه ويختم
عليه فل يبقى فيه محل لغير ما يهواه ويحبه وكان النصراف مقدورا له في
أول المر فلما تمكنت أسبابه لم يبق مقدورا له كما قال الشاعر:
تولع بالعشق حتى عشق فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة فلما تمكن منها غرق
) (17/11
فلو أنهم بادروا في مبدأ المر إلى مخالفة السباب الصادة عن الهدى لسهل
عليهم ولما استعصى عليهم ولقدروا عليه ونظير ذلك المبادرة إلى إزالة
العلة قبل استحكام أسبابها ولزومها للبدن لزوما ل ينفك منها فإذا استحكمت
العلة وصارت كالجزء من البدن عز على الطبيب استنقاذ العليل منها ونظير
ذلك المتوحل في حمأة فإنه ما لم يدخل تحتها فهو قادر على التخلص فإذا
توسط معظمها عز عليه وعلى غيره إنقاذه فمبادئ المور مقدورة للعبد فإذا
استحكمت أسبابها وتمكنت لم يبق المر مقدور له فتأمل هذا الموضع حق
التأمل فإنه من أنفع الشياء في باب القدر والله الموفق للصواب والله
سبحانه جاعل ذلك كله وخالقه فيهم بأسباب منهم وتلك السباب قد تكون
أمورا عدمية يكفي فيها عدم مشيئة أضدادها فل يشاء سبحانه أن يخلق للعبد
أسباب الهدى فيبقى على العدم الصلي وإن أراد من عبده الهداية فهي ل
تحصل حتى يريد من نفسه إعانته وتوفيقه فإذا لم يرد سبحانه من نفسه ذلك
لم تحصل الهداية.
فصل :ومما ينبغي أن يعلم أنه ل يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول
اليمان بأن يفك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفل ذلك
الختم والطابع والقفل ويهديه بعد ضلله ويعلمه بعد جهله ويرشده بعد غيه
ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده حتى لو كتب على جبينه
الشقاوة والكفر لم يمتنع أن يمحوها ويكتب عليه السعادة واليمان وقرأ
ب أ َقْ َ
فال َُها{ م عََلى قُُلو ٍ
قرآ َ
نأ ْن ال ْ ُ ْ َ
َ
قارئ عند عمر بن الخطاب} :أَفل ي َت َد َب ُّرو َ
وعنده شاب فقال اللهم عليها أقفالها ومفاتيحها بيدك ل يفتحها سواك فعرفها
له عمر وزادته عنده خيرا وكان عمر يقول في دعائه" :اللهم إن كنت كتبتني
شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت" فالرب تعالى فعال
لما يريد ل حجر عليه وقد ضل ههنا فريقان القدرية حيث زعمت أن ذلك
ليس مقدورا للرب ول يدخل تحت فعله إذ لو كان مقدورا له ومنعه العبد
لناقض
) (17/12
111
جوده ولطفه والجبرية حيث زعمت أنه سبحانه إذا قدر قدرا أو علم
ص -91-شيئا فإنه ل يغيره بعد هذا ول يتصرف فيه بخلف ما قدره وعلمه
والطائفتان حجرت على من ل يدخل تحت حجر أحد أصل وجميع خلقه تحت
حجره شرعا وقدرا وهذه المسألة من أكبر مسائل القدر وسيمر بك إن شاء
الله في باب المحو والثبات ما يشفيك فيها والمقصود انه مع الطبع والختم
والقفل لو تعرض العبد أمكنه فك ذلك الختم والطابع وفتح ذلك القفل يفتحه
من بيده مفاتيح كل شيء وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه وإن
كان فك الختم وفتح القفل غير مقدور له كما أن شرب الدواء مقدور له
وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور فإذا استحكم به المرض وصار صفة
لزمة له لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء وإن كان غير
مقدور له ولكن لما ألف العلة وساكنها ولم يحب زوالها ول آثر ضدها عليها
مع معرفته بما بينها وبين ضدها من التفاوت فقد سد على نفسه باب الشفاء
بالكلية والله سبحانه يهدي عبده إذا كان ضال وهو يحسب أنه على هدى فإذا
تبين له الهدى لم يعدل عنه لمحبته وملءمته لنفسه فإذا عرف الهدى فلم
يحبه ولم يرض به وآثر عليه الضلل مع تكرار تعريفه منفعة هذا وخيره
ومضرة هذا وشره فقد سد على نفسه باب الهدى بالكلية فلو أنه في هذه
الحال تعرض وافتقر إلى من بيده هداه وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه وأنه
إن لم يهده الله فهو ضال وسأل الله أن يقبل بقلبه وأن يقيه شر نفسه وفقه
وهداه بل لو علم الله منه كراهية لما هو عليه من الضلل وأنه مرض قاتل
إن لم يشفه منه أهلكه لكانت كراهته وبغضه إياه مع كونه مبتلى به من
أسباب الشفاء والهداية ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلل محبته له
ورضاه به وكراهته الهدى والحق فلو أن المطبوع على قلبه المختوم عليه
كره ذلك ورغب إلى الله في فك ذلك عنه وفعل مقدوره لكان هداه أقرب
شيء إليه ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة
) (17/13
112
اليات في حق أقوام مخصوصين من الكفار فعل الله بهم ذلك عقوبة منه
لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة
وخنازير وبعضهم بالطمس على أعينهم فهو سبحانه يعاقب بالطمس على
القلوب كما يعاقب بالطمس على العين وهو سبحانه قد يعاقب بالضلل عن
الحق عقوبة دائمة مستمرة وقد يعاقب به إلى وقت ثم يعافي عبده ويهديه
كما يعاقب بالعذاب كذلك.
) (17/14
ص -92-فصل :وههنا عدة أمور عاقب بها الكفار بمنعهم عن اليمان وهي:
الختم والطبع والكنة والغطاء والغلف والحجاب والوقر والغشاوة والران
والغل والسد والقفل والصمم والبكم والعمى والصد والصرف والشد على
القلب والضلل والغفال والمرض وتقليب الفئدة والحول بين المرء وقلبه
وإزاغة القلوب والخذلن والركاس والتثبيط والتزيين وعدم إرادة هداهم
وتطهيرهم وإماتة قلوبهم بعد خلق الحياة فيها فتبقى على الموت الصلي
وإمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الصلية وجعل القلب قاسيا ل ينطبع
فيه مثال الهدى وصورته وجعل الصدر ضيفا حرجا ل يقبل اليمان وهذه
المور منها ما يرجع إلى القلب كالختم والطبع والقفل والكنة والغفال
والمرض ونحوها ومنها ما يرجع إلى رسوله الموصل إليه الهدى كالصمم
والوقر ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والغشا ومنها ما يرجع إلى
ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبكم النطقي وهو نتيجة البكم القلبي فإذا بكم
القلب بكم اللسان ول تصغ إلى قول من يقول أن هذه مجازات واستعارات
فإنه قال بحسب مبلغه من العلم والفهم عن الله ورسوله وكان هذا القائل
حقيقة الفعل عنده أن يكون من حديد والختم أن يكون بشمع أو طين
والمرض أن يكون حمى بنافض أو قولنج أو غيرهما من أمراض البدن
والموت هو مفارقة الروح للبدن ليس إل والعمى ذهاب ضوء العين الذي
تبصر به وهذه الفرقة من أغلظ الناس حجابا فإن هذه المور إذا أضيفت إلى
محلها كانت بحسب تلك المحال فنسبة قفل القلب إلى القلب كنسبة قفل
الباب إليه وكذلك الختم والطابع الذي عليه هو بالنسبة إليه كالختم والطابع
الذي على الباب والصندوق ونحوهما وكذلك نسبة الصمم والعمى إلى الذن
والعين وكذلك موته وحياته نظير موت البدن وحياته بل هذه المور ألزم
للقلب منها للبدن فلو قيل أنها حقيقة في ذلك مجاز في الجسام
المحسوسة لكان مثل قول هؤلء وأقوى منه وكلهما باطل فالعمى في
الحقيقة والبكم
) (17/15
والموت والقفل للقلب ثم قال تعالى فإنها ل تعمى البصار ولكن تعمى
القلوب التي في الصدور والمعنى أنه معظم العمى وأصله وهذا كقوله صلى
الله عليه وسلم" :إنما الربا في النسيئة" وقوله" :إنما الماء من الماء"
وقوله" :ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس" وقوله" :ليس
المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي
113
ل يجد ما يعنيه ول يفطن له فيتصدق عليه" وقوله" :ليس الشديد بالصرعة
إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" ولم يرد نفي السم عن هذه
المسميات إنما أراد أن هؤلء أولى بهذه السماء وأحق ممن يسمونه بها
فهكذا قوله ل تعمى البصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقريب من
ن ال ْب ِّر َ
ب وَل َك ِ ّ ق َوال ْ َ
مغْرِ ِ ل ال ْ َ
م ْ
شرِ ِ م قِب َ َ ن ت ُوَّلوا وُ ُ
جوهَك ُ ْ س ال ْب ِّر أ ْ
هذا قوله} :ل َي ْ َ
ر{ الية وعلى التقديرين فقد أثبت للقلب عمى ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ
خ ِ م َ
نآ َم َْ
حقيقة وهكذا جميع ما نسب إليه ولما كان القلب ملك العضاء وهي جنوده
وهو الذي يحركها ويستعملها والرادة والقوى والحركة الختيارية تنبعث كانت
هذه المثال أصل وللعضاء تبعا فلنذكر هذه المور مفصلة ومواقعها في
القرآن فقد تقدم الختم قال الزهري" :وأصله التغطية وختم البذر في الرض
إذ غطاه" قال أبو إسحاق" :معنى ختم وطبع في اللغة واحد وهو التغطية
َ
بم عََلى قُُلو ٍ على الشيء والستيثاق منه فل يدخله شيء كما قال تعالى} :أ ْ
م{" قلت الختم والطبع ه عََلى قُُلوب ِهِ ْ فال َُها{ وكذلك قوله} :ط َب َعَ الل ّ ُ أ َقْ َ
يشتركان فيما ذكر ويفترقان في معنى آخر وهو أن الطبع ختم يصير سجية
وطبيعة فهو تأثير لزم ل
) (17/16
ن ص -93-يفارق وأما الكنة ففي قوله تعالى} :وجعل ْنا عََلى قُُلوبهم أ َكن ً َ
ةأ ْ ِِ ْ ِّ َ َ َ َ
ه{ وهي جمع كنان كعنان وأعنة وأصله من الستر والتغطية ويقال كنه قُهو ُ ف َيَ ْ
وأكنه وكنان بمعنى واحد بل بينهما فرق فأكنة إذا ستره وأخفاه كقوله تعالى:
ن{ مك ُْنو ٌض َم{ وكنه إذا صانه وحفظه كقوله} :ب َي ْ ٌ سك ُ ْف ِم ِفي أ َن ْ ُ َ َ
}أوْ أك ْن َن ْت ُ ْ
ويشتركان في الستر والكنان ماأكن الشيء وستره وهو كالغلف وقد أقروا
عوَنا إ ِل َي ْهِ وَِفي آَذان َِنا وَقٌْر َ
ما ت َد ْ ُم ّعلى أنفسهم بذلك فقالوا} :قُُلوب َُنا ِفي أك ِن ّةٍ ِ
جاب{ فذكروا غطاء القلب وهي الكنة وغطاء الذن وهو ح َك ِ ن ب َي ْن َِنا وَب َي ْن ِ َ م ْ وَ ِ
الوقر وغطاء العين وهو الحجاب والمعنى ل نفقه كلمك ول نسمعه ول نراك
والمعنى إنا في ترك القبول منك بمنزلة من ل يفقه ما تقول ول يراك قال
ابن عباس" :قلوبنا في أكنة مثل الكنانة التي فيها السهام" وقال مجاهد:
"كجعبة النبل" وقال مقاتل" :عليها غطاء فل نفقه ما تقول.
نذي َ ّ ً
ن عَْرضا ال ِ ري َكافِ ِ مئ ِذ ٍ ل ِل ْ َم ي َوْ َ
جهَن ّ َضَنا َ فصل :وأما الغطاء فقال تعالى} :وَعََر ْ
ً ري وَ َ م ِفي ِغ َ َ
معا{ وهذا يتضمن س ْ ن َ طيُعو َ ست َ ِكاُنوا ل ي َ ْ ن ذِك ْ ِ
طاٍء عَ ْ ت أعْي ُن ُهُ ْ كان َ َْ
معنيين أحدهما :أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله وأدلة
توحيده وعجائب قدرته والثاني :أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن
وتدبره والهتداء به وهذا الغطاء للقلب أول ثم يسري منه إلى العين.
هم{ فرِ ِ ُ
ه ب ِك ْم الل ّ ُل ل َعَن َهُ ُ ف بَ ْ فصل :وأما الغلف فقال تعالى} :وََقاُلوا قُُلوب َُنا غُل ْ ٌ
وقد اختلف في معنى قولهم قلوبنا غلف فقالت طائفة المعنى قلوبنا أوعية
للحكمة والعلم فما بالها ل تفهم عنك ما أتيت به أو ل تحتاج إليك وعلى هذا
فيكون غلف جمع غلف والصحيح قول أكثر المفسرين أن المعنى قلوبنا ل
تفقه ول تفهم ما تقول وعلى هذا فهو جمع أغلف كأحمر وحمر وقال أبو
عبيدة" :كل
) (17/17
114
شيء في غلف فهو أغلف كما يقال سيف أغلف وقوس أغلف ورجل أغلف
غير مختون" قال ابن عباس وقتادة ومجاهد" :على قلوبنا غشاوة فهي في
أوعية فل تعي ول تفقه ما تقول" وهذا هو الصواب في معنى الية لتكرر
َ َ
م
ت أعْي ُن ُهُ ْ كان َ ْة{ وقوله تعالىَ } : نظائره في القرآن كقولهم} :قُُلوب َُنا ِفي أك ِن ّ ٍ
ري{ ونظائر ذلك وأما قول من قال هي أوعية للحكمة ن ذِك ْ ِ ِفي ِغ َ
طاٍء عَ ْ
فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة وليس له في القرآن نظير يحمل عليه ول
يقال مثل هذا اللفظ في مدح النسان نفسه بالعلم والحكمة فأين وجدتم في
الستعمال قول القائل قلبي غلف وقلوب المؤمنين العالمين غلف أي أوعية
للعلم والغلف قد يكون وعاء للجيد والرديء فل يلزم من كون القلب غلفا
أن يكون داخله العلم والحكمة وهذا ظاهر جدا فإن قيل فالضراب ببل على
هذا القول الذي قويتموه ما معناه وأما على القول الخر فظاهر أي ليست
قلوبكم محل للعلم والحكمة بل مطبوع عليها قيل وجه الضراب في غاية
الظهور وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به
الرسول ومعرفته بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فل تفقهه فكيف تقوم به
عليهم الحجة وكأنهم ادعوا أن قلوبهم خلقت في غلف فهم معذورون في
م{ وفي الية فرِهِ ْه عَل َي َْها ب ِك ُ ْ
ل ط َب َعَ الل ّ ُعدم اليمان فأكذبهم الله وقال} :ب َ ْ
م{ فاخبر سبحانه أن الطبع والبعاد عن فرِهِ ْ م الل ّ ُ
ه ب ِك ُ ْ ل ل َعَن َهُ ُ
الخرى} :ب َ ْ
توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لنفسهم وآثروه على اليمان
فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة والمعنى لم نخلق قلوبهم غلفا ل تعي ول تفقه
ثم نأمرهم باليمان وهم ل يفهمونه ول يفقهونه بل اكتسبوا أعمال عاقبناهم
عليها بالطبع على القلوب والختم عليها.
ب{ جا
ِ َ ٌ ح َ
ك ن ي ب و نا ني ب
َ ِ ْ ََِْ ََِْ ن م و } عنهم: حكاية فصل :وأما الحجاب ففي قوله تعالى
ْ
توقوله} :وَإ َِذا قََرأ َ
) (17/18
115
والموت يرون على الميت فيذهب به ومن هذا حديث اسيفع جهينة وقول
عمر" :فأصبح قدرين به أي غلب عليه وأحاط به الرين" وقال أبو معاذ
النحوي" :الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب وهو
أشد من الرين والقفال أشد من الطبع وهو أن يقفل على القلب" وقال
الفراء" :كثرت الذنوب والمعاصي منهم فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها"
وقال أبو إسحاق" :ران غطى يقال ران على قلبه الذنب يرين رينا أي غشيه"
قال" :والرين كالغشاء يغشى القلب ومثله الغين" قلت :أخطأ أبو إسحاق
فالغين ألطف شيء وأرقه
) (17/19
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" :وإنه ليغان على قلبي وإني لستغفر
الله في اليوم مائة مرة" وأما الرين والران فهو من أغلظ الحجب على
القلب وأكثفها وقال مجاهد" :هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب
بالقلب وتغشاه فيموت القلب" وقال مقاتل" :غمرت القلوب أعمالهم
الخبيثة" وفي سنن النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال" :إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة
سوداء فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه
ن{" قال سُبو َكاُنوا ي َك ْ ِما َ م َ ن عََلى قُُلوب ِهِ ْ ل َرا َ وهو الران الذي ذكر الله} :ك َل ّ ب َ ْ
الترمذي هذا حديث صحيح وقال عبد الله بن مسعود" :كلما أذنب نكت في
قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله فأخبر" سبحانه أن ذنوبهم التي
اكتسبوها أوجبت لهم رينا على قلوبهم فكان سبب الران منهم وهو خلق الله
فيهم فهو خالق السبب ومسببه لكن السبب باختيار العبد والمسبب خارج
عن قدرته واختياره.
َ
نمُنو َ م ل ي ُؤْ ِ م فَهُ ْل عََلى أك ْث َرِهِ ْ قو ْ ُحقّ ال ْ َ فصل :وأما الغل فقال تعالى} :ل َ َ
قد ْ َ
نن ب َي ْ ِ م ْ جعَل َْنا ِن وَ َحو َ م ُ ق َ م ْم ُ ن فَهُ ْ
َ
ي إ َِلى الذ َْقا ِ م أَ ْ
غلل ً فَهِ ََ
َ
جعَل َْنا ِفي أعَْناقِهِ ْإ ِّنا َ
سد ّا ً فَأغْ َ َ
ن{ قال الفراء: صُرو َ م ل ي ُب ْ ِ م فَهُ ْ شي َْناهُ ْ م َ خل ْ ِ
فهِ ْ ن َم ْسد ّا ً وَ ِ
م َ
ديهِ ْ
أي ْ ِ
"حبسناهم عن النفاق في سبيل الله" وقال أبو عبيدة" :منعناهم عن اليمان
بموانع" ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي
على القلب مانعا من اليمان فإن قيل فالغل المانع من اليمان هو الذي في
القلب فكيف ذكر الغل الذي في العنق قيل لما كان عادة الغل أن يوضع في
ل إنسا َ
مَناهُن أل َْز ْ العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب كقوله تعالى} :وَك ُ ّ ِ ْ َ ٍ
) (17/20
116
قولهم قلدت فلنا حكم كذا وكذا كأنك جعلته طوقا في عنقه وقد سمى الله
ت ل ال ِّتي َ
كان َ ْ م َواْل َ ْ
غل َ صَرهُ ْ
م إِ ْضعُ عَن ْهُ ْ
التكاليف الشاقة أغلل في قوله} :وَي َ َ
عَل َي ِْهم{ فشبهها بالغلل لشدتها وصعوبتها قال الحسن" :هي الشدائد التي
كانت في العبادة كقطع أثر البول وقتل النفس في التوبة وقطع العضاء
الخاطئة وتتبع العروق من اللحم" وقال ابن قتيبة" :هي تحريم الله سبحانه
عليهم كثيرا مما أطلقه لمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلها أغلل لن
ي إ َِلى ال َذ َْقان{ قالت طائفة: التحريم يمنع كما يقبض الغل اليد" وقوله} :فَهِ َ
"الضمير يعود إلى اليدي وإن لم تذكر لدللة السياق عليها قالوا لن الغل
يكون في العنق فتجمع إليه اليد ولذلك سمي جامعة وعلى هذا فالمعنى
فأيديهم أو فأيمانهم مضمومة إلى أذقانهم" هذا قول الفراء والزجاج وقالت
ي إ َِلى
طائفة" :الضمير يرجع إلى الغلل" وهذا هو الظاهر وقوله} :فَهِ َ
ال َذ َْقان{ أي واصلة وملزوزة إليها فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل
إلى الذقن وقوله فهم مقمحون قال الفراء والزجاج المقمح هو الغاض بصره
بعد رفع رأسه ومعنى القماح في اللغة رفع الرأس وغض البصر يقال أقمح
البعير رأسه وقمح وقال الصمعي" :بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض ولم
يشرب" قال الزهري" :لما غلت أيديهم إلى
) (17/21
) (17/22
117
ص -96-إرادة قلوب هؤلء وقلوب من هم بهذه الصفة ولو قال أم على
القلوب أقفالها لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة وفي قوله أقفالها
بالتعريف نوع تأكيد فإنه لو قال أقفال لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا السم
فلما أضافها إلى القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب
فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي ل تكون لغيرها والله أعلم.
ي{ وقولهُ} :أول َئ ِكَ م ٌ م عُ ْ م ب ُك ْ ٌ ص ّ فصل :وأما الصمم َوالوقر ففي قولهُ } :
م ك َِثيرا ً ْ َ َ َ
قد ْ ذ ََرأَنا ل ِ َ
جهَن ّ َ م{ وقوله} :وَل َ صاَرهُ ْ مى أب ْ َ م وَأعْ َ مهُ ْ ص ّ ه فَأ َ م الل ّ ُ ن ل َعَن َهُ ُ ذي َ ال ّ ِ
َ
من ب َِها وَل َهُ ْ صُرو َ ن ل ي ُب ْ ِ م أعْي ُ ٌ ن ب َِها وَل َهُ ْ قُهو َ ف َ
ب ل يَ ْ م قُُلو ٌ س ل َهُ ْ
ن َوال ِن ْ ِ ج ّ ن ال ْ ِ م َ ِ
ن{ وقوله: لوُ ف غا ْ لا م ه َ
ك ئَ لأو ُ ّ
ل ض َ أ م ه ْ
ل ب م عا َ
ن ل كا َ َ
ك ئَ ل ُ
أو ها ب ن عو م س ي ل ن َ
َ ُ ُ َ ِ ِ ُ ْ َ َْ ِ َ ِ َ ْ َ ُ َ َِ آ ٌ ذا
ى أول َئ ِ َُ
ن
كا ٍ م َن َ م ْ ن ِ ك ي َُناد َوْ َ عم ً م َ م وَقٌْر وَهُوَ عَل َي ْهِ ْ ن ِفي آَذان ِهِ ْ مُنو َ ن ل ي ُؤْ ِ ذي َ }َوال ّ ِ
د{ قال ابن عباس" :في آذانهم صمم عن استماع القرآن وهو عليهم عمى ب َِعي ٍ
أعمى الله قلوبهم فل يفقهون أولئك ينادون من مكان بعبد مثل البهيمة التي
ل تفهم إل دعاء ونداء" وقال مجاهد" :بعيد من قلوبهم" وقال الفراء" :تقول
للرجل الذي ل يفهم كذلك أنت تنادي من مكان بعيد قال :وجاء في التفسير
كأنما ينادون من السماء فل يسمعون" انتهى والمعنى أنهم ل يسمعون ول
يفهمون كما أن من دعى من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم.
ي{ والبكم جمع أبكم وهو الذي م ٌ م عُ ْ م ب ُك ْ ٌ ص ّ فصل :وأما البكم فقال تعالىُ } :
ل ينطق والبكم نوعان بكم القلب وبكم اللسان كما أن النطق نطقان نطق
القلب ونطق اللسان وأشدهما بكم القلب كما أن عماه وصممه أشد من
عمى العين وصمم الذن فوصفهم سبحانه بأنهم ل يفقهون الحق ول تنطق به
ألسنتهم والعلم يدخل إلى العبد من ثلثة أبواب من سمعه وبصره وقلبه وقد
عليهم سدت
) (17/23
هذه البواب الثلثة فسد السمع بالصمم والبصر بالعمى أو القلب بالبكم
قهون بها ول َه َ
ن ب َِهاصُرو َ ن ل ي ُب ْ ِ م أعْي ُ ٌ ف َ ُ َ َِ َ ُ ْ ب ل يَ ْ م قُُلو ٌونظيره قوله تعالى} :ل َهُ ْ
جعَل َْنا ن ب َِها{ وقد جمع سبحانه بين الثلثة في قوله} :وَ َ مُعو َ س َ
ن ل يَ ْ م آَذا ٌ وَل َهُ ْ
َ َ َ َ َ
مم َول أفْئ ِد َت ُهُ ْ صاُرهُ ْ م َول أب ْ َ معُهُ ْ س ْ
م َ ما أغَْنى عَن ْهُ ْ صارا ً وَأفْئ ِد َة ً فَ َ معا ً وَأب ْ َس ْ م َ ل َهُ ْ
ه{ فإذا أراد سبحانه هداية عبد فتح قلبه ت الل ّ ِ ن ِبآيا ِدو َ ح ُ ج َ يٍء إ ِذ ْ َ
كاُنوا ي َ ْ ش ْ ن َ م ْ
ِ
وسمعه وبصره وإذا أراد ضلله أصمه وأعماه وأبكمه وبالله التوفيق.
ه
صرِ ِ ل عََلى ب َ َ جعَ َ
فصل :وأما الغشاوة فهو غطاء العين كما قال تعالى} :وَ َ
ة{ وهذا الغطاء سري إليها من غطاء القلب فإن ما في القلب يظهر شاوَ ً ِغ َ
على العين من الخير والشر فالعين مرآة القلب تظهر ما فيه وأنت إذا
أبغضت رجل بغضا شديدا أو أبغضت كلمه ومجالسته تجد على عينك غشاوة
عند رؤيته ومخالطته فتلك أثر البغض والعراض عنه وغلظت على الكفار
عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول وجعل الغشاوة عليها يشعر
بالحاطة على ما تحته كالعمامة ولما عشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك
العشاء غشاوة على أعينهم فل تبصر مواقع الهدى.
نصد ّ ع َ ِ مل ِهِ وَ ُسوُء عَ َ ن ُ فْرعَوْ َ ن لِ ِ
ك ُزي ّ َ فصل :وأما الصد فقال تعالى} :وَك َذ َل ِ َ
ل{ قرأ أهل الكوفة على البناء للمفعول حمل على زين وقرأ الباقون سِبي ِ
ال ّ
118
وصد بفتح الصاد ويحتمل وجهين أحدهما :أعرض فيكون لزما والثاني :يكون
صد غيره فيكون متعديا والقراءتان كاليتين ل يتناقضان وأما الشد على
مل َه ُ ِزين َ ً
ة ن وَ َ
ت فِْرعَوْ َ سى َرب َّنا إ ِن ّ َ
ك آت َي ْ َ مو َل ُ القلب ففي قوله تعالى} :وََقا َ
ّ َ
ن
ضلوا عَ ْ وال ً ِفي ال ْ َ
حَياةِ الد ّن َْيا َرب َّنا ل ِي ُ ِ م َ
وَأ ْ
) (17/24
َ
مُنوا م َفل ي ُؤْ ِ شد ُد ْ عََلى قُُلوب ِهِ ْ م َوا ْ وال ِهِ ْم َس عََلى أ ْ م ْ ك َرب َّنا اط ْ ِ سِبيل ِ َ ص َ -97-
ما{ فهذا الشد على َ ُ ُ َ َ َ َ ْ
حّتى ي ََرُوا العَ َ
قي َست َ ِ
ما فا ْ ت د َعْوَت ُك َ جيب َ ْ
م قال قد ْ أ ِ ب الِلي َ ذا َ َ
القلب هو الصد والمنع ولهذا قال ابن عباس" :يريدا منعها" والمعنى قسها
وأطبع عليها حتى ل تلين ول تنشرح لليمان وهذا مطابق لما في التوراة أن
الله سبحانه قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسي قلبه فل يؤمن
حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر وهذا الشد والتقسية من كمال عدل الرب
سبحانه في أعدائه جعله عقوبة لهم على كفرهم وإعراضهم كعقوبته لهم
بالمصائب ولهذا كان محمودا عليه فهو حسن منه وأقبح شيء منهم فإنه
عدل منه وحكمة وهو ظلم منهم وسفه فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم
غني عليم يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما والمقضي المقدر يكون
ظلما وجورا وسفها وهو فعل جاهل ظالم سفيه.
َ َ ُ
م إ ِلى ضهُ ْسوَرة ٌ ن َظَر ب َعْ ُ ت ُ ما أن ْزِل َ ْ فصل :وأما الصرف فقال تعالى} :وَإ َِذا َ
َ ُ ّ ل يراك ُم م َ
مل م قَوْ ٌ م ب ِأن ّهُ ْه قُلوب َهُ ْ ف الل ُ صَر َ صَرُفوا َ م ان ْ َ حد ٍ ث ُ ّنأ َ ض هَ ْ َ َ ْ ِ ْ ب َعْ ٍ
ن{ فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو النصراف وعن فعله فيهم وهو قُهو َف َيَ ْ
صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره لنهم ليسوا أهل له فالمحل غير صالح ول
قابل فإن صلحية المحل بشيئين حسن فهم وحسن قصد وهؤلء قلوبهم ل
م
ه ِفيهِ ْ م الل ّ ُتفقه وقصودهم سيئة وقد صرح سبحانه بهذا في قوله} :وَل َوْ عَل ِ َ
َ
ن{ فأخبر سبحانه عن عدم ضو َ معْرِ ُ م ُ وا وَهُ ْ م ل َت َوَل ّ ْ معَهُ ْ س َ م وَل َوْ أ ْ معَهُ ْ خْيرا ً َل ْ
س َ َ
قابلية اليمان فيهم وأنهم ل خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم
سماع إفهام ينتفعون به وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع
الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر
قام بقلوبهم يمنعهم من اليمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص وهو الكبر
والتولي
) (17/25
119
ه قُُلوب َُهم{ وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه الل ّ ُ
فل يمكنه من القبال عليه ولتكن قصة إبليس منك على ذكر تنتفع بها أتم
انتفاع فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لمره وأصر على ذلك عاقبه بأن
جعله داعيا إلى كل معصية فعاقبه على معصيته الولى بأن جعله داعيا إلى
كل معصية وفروعها صغيرها وكبيرها وصار هذا العراض والكفر منه عقوبة
لذلك العراض والكفر السابق فمن عقاب السيئة السيئة بعدها كما أن من
ثواب الحسنة الحسنة بعدها فإن قيل فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم
ُ َ َ
ن{ و} :أّنى ي ُؤْفَكو َ
ن{ صَرُفو َ
النصراف والعراض عنه وقد قال تعالى} :أّنى ي ُ ْ
ن{ فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم ضي َ ن الت ّذ ْك َِرةِ ُ
معْرِ ِ ما ل َهُ ْ
م عَ ِ وقال} :فَ َ
معرضين ومأفوكين فكيف ينفي ذلك عليهم قيل هم دائرون بين عدله وحجته
عليهم فمكنهم وفتح لهم الباب ونهج لهم الطريق وهيأ لهم السباب فأرسل
إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ودعاهم على السنة رسله وجعل لهم عقول
تميز بين الخير والشر والنافع والضار وأسباب
) (17/26
ص -98-الردي وأسباب الفلح وجعل لهم أسماعا وأبصارا فآثروا الهوى على
التقوى واستحبوا العمى على الهدى وقالوا معصيتك آثر عندنا من طاعتك
والشرك أحب إلينا من توحيدك وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك
فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم وانصرفت عن طاعته ومحبته
فهذا عدله فيهم وتلك حجته عليهم فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة
منهم واختيارا فسده عليهم اضطرارا فخلهم وما اختاروا لنفسهم وولهم ما
تولوه ومكنهم فيما ارتضوه وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه وأغلق
عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون فل أقبح من فعلهم ول أحسن من
فعله ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة ولنشأهم على غير هذه النشأة
ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل والنور والظلمة والنافع والضار والطيب
والخبيث والملئكة والشياطين والشاء والذياب ومعطيها آلتها وصفاتها
وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له فبعضها بطباعها وبعضها بإرادتها
ومشيئتها وكل ذلك جار على وفق حكمته وهو موجب حمده ومقتضى كماله
المقدس وملكه التام ول نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم
بوجه ما إن هو إل كنقرة عصفور من البحر.
ْ ْ ْ َ
ن أغْ َ
ع
ن ذِكرَِنا َوات ّب َ َ فلَنا قَلب َ ُ
ه عَ ْ م ْ
فصل :وأما الغفال فقال تعالىَ} :ول ت ُط ِعْ َ
ْ ْ َ
مُره ُ فُُرطًا{ سئل أبو العباس ثعلب عن قوله} :أغْ َ كا َ
ن
ه عَ ْ فلَنا قَلب َ ُ نأ ْواه ُ وَ َ َ
هَ َ
ذِك ْرَِنا{ فقال :جعلناه غافل قال :ويكون في الكلم أغفلته سميته غافل
ووجدته غافل" قلت :الغفل الشيء الفارغ والرض الغفل التي ل علمة بها
والكتاب الغفل الذي ل شكل عليه فأغفلناه تركناه غفل عن الذكر فارغا منه
فهو إبقاء له على العدم الصلي لنه سبحانه لم يشأ له الذكر فبقي غافل
فالغفلة وصفه والغفال فعل الله فيه بمشيئته وعدم مشيئته لتذكره فكل
منهما مقتض لغفلته فإذا لم يشأ له التذكر لم يتذكر وإذا شاء غفلته امتنع منه
الذكر فإن قيل
) (17/27
120
فهل تضاف الغفلة والكفر والعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب أضدادها
كأم إلى مشيئته لوقوعها قيل القرآن قد نطق بهذا وبهذا قال تعالىُ} :أول َئ ِ َ
ال ّذين ل َم يرد الل ّ َ
ك لَ ُ
ه مل ِ َ ه فَل َ ْ
ن تَ ْ ه فِت ْن َت َ ُ ن ي ُرِدِ الل ّ ُ
م ْ م{ وقال} :وَ َ ن ي ُط َهَّر قُُلوب َهُ ْ هأ ْ ُ ِ َ ْ ُ ِ ِ
ه{ فإن قيل فكيف يكون عدم السبب ّ َ ً ن الل ّهِ َ
ضل ُ ن يُ ِ ن ي ُرِد ْ أ ْ م ْ شْيئا{} :وَ َ م َ
ِ
المقتضى موجبا للثر إن كان وجوديا فل بد له من مؤثر وجودي وأما العدم
فيكفي فيه عدم سببه وموجبه فيبقى على العدم الصلي فإذا أضيف إليه كان
من باب إضافة الشيء إلى دليله فعدم السبب دليل على عدم المسبب وإذا
سمي موجبا ومقتضيا بهذا العتبار فل مشاحة في ذلك وأما أن يكون العدم
أثرا ومؤثرا فل وهذا الغفال ترتب عليه اّتباع هواه وتفريطه في أمره قال
مجاهد" :كان أمره فرطا أي ضياعا" وقال قتادة" :أضاع أكبر الضيعة" وقال
السدي" :هلكا" وقال أبو الهيثم" :أمر فرط أي متهاون به مضيع والتفريط
تقديم العجز" قال أبو إسحاق" :من قدم العجز في أمر أضاعه وأهلكه" قال
الليث" :الفرط المر الذي يفرط فيه يقول كل أمر فلن فرط" قال الفراء:
"فرطا متروكا يفرط فيما ل ينبغي التفريط فيه واتبع مال ينبغي اّتباعه وغفل
عما ل يحسن الغفلة عنه".
ً
مَرضا{ ه َ ّ
م الل ُ ض فََزاد َهُ ُ مَر ٌ م َ ُ
فصل :وأما المرض فقال تعالىِ} :في قُلوب ِهِ ْ
بض{ وقالَ} :ول ي َْرَتا َ مَر ٌ ْ
ذي ِفي قَلب ِهِ َ معَ ال ّ ِ ل فَي َط ْ َقو ْ ِ ن ِبال ْ َ ضعْ َ خ َ وقالَ} :فل ت َ ْ
ْ ُ ّ ْ ال ّذي ُ
ن َ
ض َوالكافُِرو َ مَر ٌ م َ ن ِفي قُلوب ِهِ ْ ذي َل ال ِقو َ ن وَل ِي َ ُ مُنو َ مؤ ْ ِب َوال ُ ن أوُتوا ال ْك َِتا َ ِ َ
مث َل{ ومرض القلب خروج عن صحته واعتداله فإن صحته ً ه ب ِهَ َ ّ َ
ذا َ ماَذا أَراد َ الل ُ َ
أن يكون عارفا بالحق محبا له مؤثرا له على غيره فمرضه إما بالشك فيه
وإما بإيثار غيره عليه فمرض
) (17/28
121
) (17/29
هذا أصله في اللغة ثم الشك والجهل والحيرة والضلل وإرادة الغي وشهوة
الفجور في القلب تعود إلى هذه المور الربعة فيتعاطى العبد أسباب المرض
حتى يمرض فيعاقبه الله بزيادة المرض ليثاره أسبابه وتعاطيه لها.
َ َ
مما ل َ ْ م كَ َصاَرهُ ْم وَأب ْ َ ب أفْئ ِد َت َهُ ْ قل ّ ُ فصل :وأما تقليب الفئدة فقال تعالى} :وَن ُ َ
ن{ وهذا عطف على أنها إذا مُهو َ م ي َعْ َ م ِفي ط ُغَْيان ِهِ ْ مّرةٍ وَن َذ َُرهُ ْ ل َ مُنوا ب ِهِ أ َوّ َ ي ُؤْ ِ
جاءت ل يؤمنون أي نحول بينهم وبين اليمان ولو جاءتهم تلك الية فل
ة{ فقال كثير من مّر ٍ ل َ مُنوا ب ِهِ أ َوّ َ م ي ُؤْ ِما ل َ ْ يؤمنون واختلف في قوله} :ك َ َ
المفسرين المعنى نحول بينهم وبين اليمان لو جاءتهم الية كما حلنا بينهم
وبين اليمان أول مرة قال ابن عباس" :في رواية عطاء عنه ونقلب أفئدتهم
وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي قال وهذا كقوله
واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" وقال آخرون :المعنى ونقلب أفئدتهم
وأبصارهم لتركهم اليمان به أول مرة فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم
وهذا معنى حسن فإن كاف التشبيه تتضمن نوعا من التلعيل كقوله:
م ي َت ْلوُ ك{ وقوله} :ك َ َ }وأ َحسن ك َ َ
من ْك ُْ
سول ً ِ م َر ُ سل َْنا ِفيك ُ ْ ما أْر َ َ ه إ ِل َي ْ َ ن الل ّ ُس َ ح َ ما أ ْ َ ْ ِ ْ َ
ن مو َ
ْ َ ُ َْ ُ َلعت نوا كوُ ت م َ ل ما م ُ ك م ّ ل ع ي
َِ َ َ ِ َ َ ََُ ُ ْ َ و ةم ْ ك ح ْ لوا ب تا ك ْ لا مُ ك م
ْ ََُ ُ ُ ّ ل ع ي و مُ ك ّ
كي زم آَيات َِنا َ ُ َ
ي و عَل َي ْك ُ ْ
كم{ والذي حسن اجتماع التعليل والتشبيه العلم بأن الجزاء َ
َفاذ ْك ُُروِني أذ ْك ُْر ُ
من جنس العمل في الخير والشر والتقليب تحويل الشيء من وجه إلى وجه
وكان الواجب من مقتضى إنزال الية ووصولهم إليها كما سألوا أن يؤمنوا إذا
جاءتهم لنهم رأوها عيانا وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها فإذا لم يؤمنوا كان
تقليبا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه وقد روى
مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:
) (17/30
"إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه
كيف يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم مصرف القلوب
صرف قلوبنا على طاعتك" وروى الترمذي من حديث أنس قال" :كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول :يا مقلب
ص -100-القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت :يا رسول الله آمنا بك وبما
جئت به فهل تخاف علينا قال :نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله
يقلبها كيف يشاء" قال هذا حديث حسن وروى حماد عن أيوب وهشام ويعلي
بن زياد عن الحسن قال :قالت عائشة رضي الله تعالى عنها" :دعوة كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها يا مقلب القلوب ثبت
قلبي على دينك فقلت يا رسول الله دعوة كثيرا ما تدعو بها قال إنه ليس
من عبد إل وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فإذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا
ن{ قال ابنمُهو َ م ِفي ط ُغَْيان ِهِ ْ
م ي َعْ َ شاء أن يزيغه أزاغه" وقوله} :وَن َذ َُرهُ ْ
عباس" :أخذلهم وأدعهم في ضللهم يتمادون".
122
ه قُُلوب َُهم{ وقال فصل :وأما إزاغة القلوب فقال تعالى} :فَل َما زا ُ َ
غوا أَزاغ َ الل ّ ُ ّ َ
عن عباده المؤمنين أنهم سألوه ربنا ل تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وأصل الزيغ
الميل ومنه زاغت الشمس إذا مالت فإزاغة القلب إمالته وزيغه ميله عن
الهدى إلى الضلل والزيغ يوصف به القلب والبصر كما قال تعالى} :وَإ ِذ ْ
جر{ وقال قتادة ومقاتل" :شخصت فرقا" ب ال ْ َ
قُلو ُ
ت ال ْ ُ
صاُر وَب َل َغَ ِ َ َزاغَ ِ
حَنا ِ ت الب ْ َ
وهذا تقريب للمعنى فإن الشخوص غير الزيغ وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى
الشيء فل يطرق ومنه شخص بصر الميت ولما مالت البصار عن كل شيء
فلم تنظر إل إلى هؤلء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب اشتغلت عن النظر
إلى شيء آخر فمالت عنه وشخصت بالنظر إلى الحزاب وقال الكلبي:
"مالت أبصارهم إل من النظر إليهم" وقال الفراء" .زاغت عن كل شيء فلم
تلتفت إل إلى عدوها متحيرة تنظر إليه" قلت :القلب إذا امتل رعبا شغله
) (17/31
ذلك عن ملحظة ما سوى المخوف فزاغ البصر عن الوقوع عليه وهو مقابله.
ن ب ل َك ُ ْ
م وَإ ِ ْ غال ِ َ م الل ّ ُ
ه َفل َ صْرك ُ ُ
ن ي َن ْ ُ
فصل :وأما الخذلن فقال تعالى} :إ ِ ْ
ه{ وأصل الخذلن الترك والتخلية ن ب َعْدِ ِ
م ْ صُرك ُ ْ
م ِ ن َذا ال ّ ِ
ذي ي َن ْ ُ م ْ خذ ُل ْك ُ ْ
م فَ َ يَ ْ
ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها
خذول قال محمد بن إسحاق في هذه الية" :إن ينصرك الله فل غالب لك من
الناس ولن يضرك خذلن من خذلك وإن يخذلك فلن ينصرك الناس أي ل
تترك أمري للناس وارفض الناس لمري" والخذلن أن يخلي الله تعالى بين
العبد وبين نفسه ويكله إليها والتوفيق ضده أن ل يدعه ونفسه ول يكله إليها
بل يصنع له ويلطف به ويعينه ويدفع عنه ويكله كلءة الوالد الشفيق للولد
العاجز عن نفسه فمن خلى بينه وبين نفسه هلك كل الهلك ولهذا كان من
دعائه صلى الله عليه وسلم "يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والرض يا ذا
الجلل والكرام ل إله إل أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ول تكلني
إلى نفسي طرفة عين ول إلى أحد من خلقك" فالعبد مطروح بين الله وبين
عدوه إبليس فإن توله الله لم ظفر به عدوه وإن خذله وأعرض عنه افترسه
الشيطان كما يفترس الذئب الشاة فإن قيل فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي
بين الذئب وبينها وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه قيل لعمر الله
إن الشيطان ذئب النسان كما قاله الصادق المصدوق ولكن لم يجعل الله
لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا مع ضعفها فإذا أعطت بيدها
وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف بل أقبلت نحوه
سريعة مطيعة وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل ودخلت
في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم فهل الذئب كل الذئب إل
الشاة فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها وقد رآها مصارع الشاة التي
انفردت عن الراعي ودخلت وادي
) (17/32
123
كل واحد من ذلك ما ل يعطي غيره" لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن حمد بن
سعيد القطان ثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه" :أن قوما كانوا في
سفر فكان فيهم رجل يمر بالطائر فيقول أتدرون ما تقول هؤلء فيقولون ل
فيقول تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء ل ندري أصادق فيه هو أم كاذب إلى
أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها فجعلت تحنو عنقها
إليها وتثغو فقال أتدرون ما تقول هذه الشاة قلنا ل قال تقول للسخلة إلحقي
ل يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان قال فانتهينا إلى
الراعي فقلنا له ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا قال نعم ولدت سخلة عام
أول فأكلها الذئب بهذا المكان ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها
وهو يرغو ويحنو عنقه إليها فقال أتدرون ما يقول هذا البعير قلنا ل قال فإنه
يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه قال فانتهينا إليهم
فقلنا يا هؤلء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته ويزعم أنها
رحلته على مخيط وأنه في سنامه قال فأناخوا البعير وحطوا عنه فإذا هو كما
قال فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت وقد حذر الله
سبحانه آدم من ذئبه مرة بعد مرة وهو يأبى إل أن يستجيب له إذا دعاه
َ
م وَعْد َ ه وَعَد َك ُ ْ ن الل ّ َ مُر إ ِ ّ ي اْل ْ ض َ ما قُ ِ ن لَ ّطا ُ شي ْ َ ل ال ّ ويبيت معه ويصبح} :وََقا َ
َ ّ َ ْ َ خل َ ْ َ
م ُ
ن د َعَوْت ُك ْ ن إ ِل أ ْ سلطا ٍ ن ُ م ْ م ِ ُ
ي عَلي ْك ْ ن لِ َ َ
ما كا َ م وَ َ فت ُك ُ ْ م فَأ ْ حقّ وَوَعَد ْت ُك ُ ْ ال ْ َ
َ َ َ
م
ما أن ْت ُ ْ
م وَ َ خك ُ ْصرِ ِ م ْ ما أَنا ب ِ ُ م َ سك ُ ْف َموا أن ْ ُ موِني وَُلو ُ م ِلي َفل ت َُلو ُ جب ْت ُ ْست َ ََفا ْ
م{. َ م عَ َ َ ّ ن قَب ْ ُ ْ َ
ما أ ْ َ
ب أِلي ٌ ذا ٌ ن لهُ ْ مي َ ن الظال ِ ِ ل إِ ّ م ْن ِ مو ِ شَركت ُ ُ ت بِ َ فْر ُ ي إ ِّني ك َ خ ّ صرِ ِ م ْ بِ ُ
فصل :وأما الركاس فقال تعالى:
) (17/33
دوا }فَما ل َك ُم في ال ْمنافقين فئ َتين والل ّه أ َرك َسهم بما ك َسبوا أ َتريدو َ
ن ت َهْ ُ
نأ ُْ ِ ُ َ َ ُ ُ َ ِ ِ َ ِ َْ ِ َ ُ ْ َ ُ ْ ِ َ ْ ِ َ
ل{ قال الفراء" :أركسهم سِبي ً هَ ل د جت نَ لَ ف ه ّ لال ل ل ض ي ن م و هّ ل ال ّ
ل ضَ
ْ َ ِ َ ُ َ ُ ُ َ َ ْ ُ ْ ِ ِ ن َأ م ْ
َ
ردهم إلى الكفر" وقال أبو عبيدة" :يقال ركست الشيء وأركسته لغتان إذا
رددته والركس قلب الشيء على رأسه" أورد أوله على آخره والرتكاس
الرتداد قال أمية
فاركسوا في حميم النار إنهم كانوا عصاة وقالوا الفك الزورا
) (17/34
ومن هذا يقال للروث الركس لنه رد إلى حال النجاسة ولهذا المعنى سمي
رجيعا والركس والنكس والمركوس والمنكوس بمعنى واحد قال الزجاج:
"أركسهم نكسهم وردهم والمعنى أنه ردهم إلى حكم الكفار من الذل
والصغار" وأخبر سبحانه عن حكمه وقضائه فيهم وعدله وإن كان إركاسه كان
ن{سُبو َ كاُنوا ي َك ْ ِ
ما َ م َ ن عََلى قُُلوب ِهِ ْ ل َرا َ بسبب كسبهم وأعمالهم كما قال} :ب َ ْ
فهذا توحيده وهذا عدله ل ما تقوله القدرية المعطلة من أن التوحيد إنكار
الصفات والعدل والتكذيب بالقدر.
َ َ
ه عُد ّة ً وَل َك ِ ْ
ن دوا ل َ ُج لعَ ّ خُرو َفصل :وأما التثبيط فقال تعالى} :وَل َوْ أَراُدوا ال ْ ُ
ن{ والتثبيط رد النسان دي َ
ع ِقا ِمعَ ال ْ َدوا َ ل اقْعُ ُ م فَث َب ّط َهُ ْ
م وَِقي َ ك َرِهَ الل ّ ُ
ه ان ْب َِعاث َهُ ْ
عن الشيء الذي يفعله قال ابن عباس" :يريد خذلهم وكسلهم عن الخروج"
124
وقال في رواية أخرى" :حبسهم" قال مقاتل" :وأوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع
القاعدين" وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلن قبل وبعد فقال:
م ِفيم فَهُ ْ ت قُُلوب ُهُ ْ
خرِ َواْرَتاب َ ْ ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِمُنو َ ن ل ي ُؤْ ِ
ذي َ ك ال ّ ِست َأ ْذِن ُ َ
ما ي َ ْ}إ ِن ّ َ
ّ َ َ َ َ ْ َ َ
ه ان ْب َِعاث َهُ ْ
م ن كرِهَ الل ُ ه عُد ّة ً وَلك ِ ْ
دوا ل ُ ج لع َ ّ خُرو َ ن وَلوْ أَراُدوا ال ُ م ي َت ََرد ُّدو َ َري ْب ِهِ ْ
ن{ فلما تركوا اليمان به وبلقائه وارتابوا بما دي َ ع ِقا ِ ْ
معَ ال َ دوا َل اقْعُ ُ م وَِقي َ فَث َب ّط َهُ ْ
ل ريب فيه ولم يريدوا الخروج في طاعة الله ولم يستعدوا له ول أخذوا أهبة
ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه فإن من لم يرفع به وبرسوله أو كتابه
رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب
) (17/35
ص -102-خلقه إليه وأكرمهم عليه ولم يعرف قدر هذه النعمة ول شكرها
بل بدلها كفرا فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه
لئل يقع ما يكره من خروجه وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع
القاعدين ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلء
ضُعوا{ و الخبال الفساد خَبال ً وَل َوْ َ ما َزاُدوك ُ ْ
م إ ِل ّ َ جوا ِفيك ُ ْ
م َ عنهم فقال} :ل َوْ َ
خَر ُ
و الضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لفسدوا عليهم أمرهم فأوقعوا بينهم
الضطراب والختلف قال ابن عباس" :ما زادوكم إل خبال عجزا و جبنا"
يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم و تعظيمهم في صدورهم ثم
كم{ أي أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والفساد خلل َ ُضُعوا ِقال} :وَل َوْ َ
قال ابن عباس" :يريد ضعفوا شجاعتكم يعني بالتفريق بينهم لتفريق الكلمة
فيجبنوا عن العدو" وقال الحسن" :ل أوضعوا خللكم بالنميمة لفساد ذات
البين" وقال الكلبي" :ساروا بينكم يبغونكم العيب" قال لبيد:
أرانا موضعين لختم عيب وسحر بالطعام وبالشراب
أي مسرعين ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
تبا لهن بالعرفان لما عرفنني وقلن أمرؤ باغ أكل وأوضعا
) (17/36
125
الضدين تستلزم محبة الضد الخر فيكون قعودهم محبوبا له فكيف يعاقبهم
عليه قيل هذا سؤال له شأن وهو من أكبر السئلة في هذا الباب وأجوبة
الطوائف على حسب أصولهم فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله ل تعلل بالحكم
والمصالح وكل ممكن فهو جائز عليه ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه
ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء وهذه الفرقة
قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل والقدرية تجيب عنه على أصولها
بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم بل هم منعوا أنفسهم وثبطوها عن
الخروج وفعلوا ما ل يريد ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله
سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله قالوا وجعل سبحانه
إلقاء كراهة النبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة من غير أن يكره هو سبحانه
انبعاثهم فإنه أمرهم به قالوا وكيف يأمرهم بما يكرهه ول يخفى على من
) (17/37
نور الله بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دللة القرآن فالجواب
الصحيح أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولمره واّتباعا لرسوله صلى
الله عليه وسلم ونصرة له وللمؤمنين وأحب لك منهم ورضيه لهم دينا وعلم
سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا
) (17/38
126
آثار أسمائه وصفاته في الخلق والمر وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا
له فإنه يحب أن يذكر ويشكر ويطاع ويوحد ويعبد ولكن كان ذلك يستلزم
فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلئق في الطاعة واليمان وهو
محبته لجهاز أعدائه والنتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم وتخصيصهم
بفضله وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه وظهور عزته وقدرته وسطوته
وشدة أخذه وأليم عقابه وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي ل سبيل للخلق
ولو تناهوا في العلم والمعرفة إلى الحاطة بها ونسبة ما عقلوه منها إلى ما
خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر.
ن م َ فل أ ُمة عَمل َهم{ وقال} :أ َ ّ ُ كفصل :وأما التزيين فقال تعالى} :ك َ ِ َ ّ ّ ِ
ل نا ي ز كَ ل َ ذ
َ ْ ّ ٍ َ ُ
شاُء{ ن يَ َ
م ْدي َ ن يَ َ
شاُء وَي َهْ ِ م ْ ل َ ض ّ ه يُ ِ ن الل ّ َ سنا ً فَإ ِ ّ
ح َ مل ِهِ فََرآه ُ َ
سوُء عَ َ ن لَ ُ
ه ُ ُزي ّ َ
ن{ فأضاف التزيين إليه منه مُلو َ كاُنوا ي َعْ َ ما َ ن َ طا ُشي ْ َ
م ال ّن ل َهُ ُ
وقال} :وََزي ّ َ
سبحانه خلقا ومشيئة وحذف فاعله تارة ونسبة إلى سببه ومن أجراه على
يده تارة وهذا التزيين سبحانه حسن إذ هو ابتلء واختبار بعيد ليتميز المطيع
ما عََلى جعَل َْنا َ
منهم من العاصي والمؤمن من الكافر كما قال تعالى} :إ ِّنا َ
ل{ وهو من الشيطان قبيح وأيضا م ً ة ل َها ل ِنبل ُوهُم أ َيه َ َْ
ن عَ َ س ُ ح َ مأ ْ ض ِزين َ ً َ َ ْ َ ْ ّ ُ ْ الْر ِ
فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده
وعبوديته وإيثار سيء العمل على حسنه فإنه ل بد أن يعرفه سبحانه السيئ
من الحسن فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه زينه سبحانه له
وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحا وكل ظالم وفاجر وفاسق ل بد أن
يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية
قبحه من قلبه فربما رآه حسنا عقوبة له فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور
الذي في قلبه وهو حجة الله عليه فإذا تمادى في غيه وظلمه ذهب
) (17/39
127
الفعل وتهيئة طريق فعله وفتح الطريق له فنعم هو مقدور بهذا العتبار وإن
أريد بكونه مقدورا القدرة المقارنة للفعل وهي الموجبة له التي إذا وجدت لم
يتخلف عنها الفعل فليس بمقدور بهذا العتبار وتقرير ذلك أن القدرة نوعان
قدرة مصححة وهي قدرة السباب والشروط وسلمة اللة وهي مناط
التكليف وهذه متقدمة على الفعل غير موجبة له وقدرة مقارنة للفعل
مستلزمة له ل يتخلف الفعل عنها وهذه ليست شرطا في التكليف فل يتوقف
صحته وحسنه عليها فإيمان من لم يشأ الله إيمانه وطاعة من لم يشأ طاعته
مقدور
) (17/40
بالعتبار الول غير مقدور بالعتبار الثاني وبهذا التحقيق تزول الشبهة في
تكليف ما ل يطاق كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى فإذا قيل هل
خلق لمن علم أنه ل يؤمن قدرة على اليمان أم لم يخلق له قدرة قيل خلق
له قدرة مصححة متقدمة على الفعل هي مناط المر والنهي ولم يخلق له
قدرة موجبة للفعل مستلزمة له ل يتخلف عنها فهذه فضله يؤتيه من يشاء
وتلك عدله التي تقوم بها حجته على عبده فإن قيل فهل يمكنه الفعل ولم
يخلق له هذه القدرة قيل هذا هو السؤال السابق بعينه وقد عرفت جوابه
وبالله التوفيق.
ن َ ْ َ
م ْ موَْتى{ وقوله} :أوَ َ معُ ال َ س ِ فصل :وأما إماتة قلوبهم ففي قوله} :إ ِن ّك ل ت ُ ْ
َ
ت
ما ِ ُ ّ
ه ِفي الظل َ ُ
مث َل ُ ن َ م ْ َ
سك َ شي ب ِهِ ِفي الّنا م ِ ه ُنورا ً ي َ ْ جعَل َْنا ل َ ُ
حي َي َْناه ُ وَ َ مْيتا ً فَأ ْ ن َ كا َ َ
َ ِ
نم ْمٍع َ س ِ م ْ ت بِ ُ ما أن ْ َ حي ًّا{ وقوله} :وَ َ ن َ كا َ ن َ م ْ من َْها{ وقوله} :ل ِي ُن ْذَِر َ خارٍِج ِ س بِ َ ل َي ْ َ
قُبوِر{ فوصف الكافر بأنه ميت وأنه بمنزلة أصحاب القبور وذلك أن ِفي ال ْ ُ
القلب الحي هو الذي يعرف الحق ويقبله ويحبه ويؤثره على غيره فإذا مات
القلب لم يبق فيه إحساس ول تمييز بين الحق والباطل ول إرادة للحق
وكراهة للباطل بمنزلة الجسد الميت الذي ل يحس بلذة الطعام والشراب
وألم فقدهما وكذلك وصف سبحانه كتابه ووحيه بأنه روح لحصول حياة القلب
به فيكون القلب حيا ويزداد حياة بروح الوحي فيحصل له حياة على حياة
َ
مرِهِ عَلى ونور على نور نور الوحي على نور الفطرة قال} :يل ْقي الروح م َ
نأ ْ ّ َ ِ ْ ُ ِ
ت ُ َ ً حي َْنا إ ِل َي ْ َ عباده{ وقال} :وك َذ َل ِ َ َ ن يَ َ
ما كن ْ َ مرَِنا َ نأ ْ م ْ ك ُروحا ِ ك أوْ َ َ ن ِ َ ِ ِ م ْ شاُء ِ م ْ َ
عَبادَِنا{ ن ِ ْ م
ِ ُ ء شا َ َ ن ن م
ِ َ ْ ِ ه ب دي ِ ْ هَ ن ً ا نورُ ُ ه ناَ ْ ل َ عجَ نْ ِ كَ لَ و ن
ُ ما
ِ َ لي ا ولَ بُ تاَ ِ ك ْ لا ما
َ ري تَ ِ
ْ د
فجعله روحا لما يحصل
) (17/41
128
ه ُنوُر عنه نوره بأنه في الظلمة ليس له من نفسه نور فقال تعالى} :الل ّ ُ
ة
ج ٍ جا َ ح ِفي ُز َ صَبا ُ ح ال ْ ِ ش َ م ْ ل ُنورِهِ ك َ ِ مث َ ُ َ
م ْ صَبا ٌ م ْ كاةٍ ِفيَها ِ ض َ ت ََوالْر ِ ماَوا ِ س َ ال ّ
شْرقِي ّةٍ َول غَْرب ِي ّ ٍ
ة مَباَركةٍ َزي ُْتون َةٍ ل َ َ جَرةٍ ُ ن َ
ش َ م ْ ب د ُّريّ ُيوقَد ُ ِ َ َ
ة كأن َّها كوْك ٌ َ ج ُ
جا َ الّز َ
شاُء{ ن يَ َ م ْ ه ل ُِنورِهِ َ ّ
دي الل ُ َ
ه َناٌر ُنوٌر عَلى ُنورٍ ي َهْ ِ س ُ س ْ م َ م تَ ْ َ َ
ضيُء وَلوْ ل ْ كاد ُ َزي ْت َُها ي ُ ِ يَ َ
َ
مال ُهُ ْ
م فُروا أعْ َ ن كَ َ ذي َ ثم ذكر من أمسك عنه هذا النور ولم يجعله له فقالَ} :وال ّ ِ
هجد َ الل ّ َ شْيئا ً وَوَ َجد ْه ُ َ م يَ ِ جاَءه ُ ل َ ْ حّتى إ َِذا َ ماًء َ ن َ مآ ُ ه الظ ّ ْ سب ُ ُ ح َ قيعَةٍ ي َ ْ ب بِ ِ سَرا ٍ كَ َ
َ
شاهُ ي ي َغْ َ ج ّ حرٍ ل ُ ّ ت ِفي ب َ ْ ما ٍ ساب أوْ ك َظ ُل ُ َ ح َ ريعُ ال ْ ِ س ِه َ ه َوالل ّ ُ ساب َ ُ ح َ عن ْد َه ُ فَوَّفاه ُ ِ ِ
َ
ض إ َِذا أ ْ َ ُ ُ َ َ
ج ي َد َهُ خَر َ ضَها فوْقَ ب َعْ ٍ ت ب َعْ ُ ما ٌ ب ظل َ حا ٌ س َ ن فوْقِهِ َ م ْ ج ِ مو ْ ٌ ن فوْقِهِ َ م ْ ج ِ مو ْ ٌ َ
ن ُنوٍر{ وفي المسند من م ْ ه ِ َ
ما ل ُ َ ً
ه ُنورا ف َ َ
هل ُ ّ
ل الل ُ جعَ ِ م يَ ْ َ
نل ْ م ْ ها وَ َ َ
م ي َكد ْ ي ََرا َ لَ ْ
حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله
خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور
اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله وقال تعالى:
م وَب ُك ْ ٌ
م ص ّ ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا ُ ذي َ }َوال ّ ِ
) (17/42
) (17/43
129
اللين فهو يرى الحق بصفائه ويقبله بلينه
) (17/44
والمريض وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتا إليه وبعضها قاسيا
وجعل للقسوة آثارا وللخبات آثارا فمن آثاره القسوة تحريف الكلم عن
مواضعه وذلك من سوء الفهم وسوء القصد وكلهما ناشئ عن قسوة القلب
ومنها نسيان ما ذكر به وهو ترك ما أمر به علما وعمل ومن آثار الخبات وجل
القلوب لذكره سبحانه والصبر على أقداره والخلص في عبوديته والحسان
إلى خلقه.
ن
م ْ َ
فصل :وأما تضييق الصدر وجعله حرجا ل يقبل اليمان فقال تعالى} :ف َ
ضّيقا ً َ يرد الل ّ َ
صد َْره ُ َ جعَ ْ
ل َ ضل ّ ُ
ه يَ ْ ن يُ ِ
ن ي ُرِد ْ أ ْ
م ْ
سلم ِ وَ َ
صد َْره ُ ل ِل ِ ْح َ ه يَ ْ
شَر ْ ن ي َهْدِي َ ُ
هأ ْ ُ ُ ِ ِ
ماِء{ والحرج هو الشديد الضيق في قول أهل اللغة َ َ ً
س َ
صعّد ُ ِفي ال ّ ما ي َ ّحَرجا كأن ّ َ َ
جميعهم يقال رجل حرج وحرج أي ضيق الصدر قال الشاعر:
ل حرج الصدر ول عنيف
وقال عبيد بن عمير :قرأ ابن عباس هذه الية فقال" :هل هنا أحد من بني
بكر قال رجل نعم قال ما الحرجة فيكم قالوا الوادي الكثير الشجر الذي ل
طريق فيه فقال ابن عباس :كذلك قلب الكافر" وقرأ عمر بن الخطاب الية
فقال" :ايتوني رجل من كنانة واجعلوه راعيا فأتوه به فقال عمر :يا فتى ما
130
الحرجة فيكم فقال الشجرة تحدق بها الشجار الكثيرة فل تصل إليها راعية
ول وحشية فقال عمر كذلك قلب الكافر ل يصل إليه شيء من الخير" قال
ابن عباس" :يجعل صدره ضيقا حرجا إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وإن ذكر
شيء من عبادة الصنام ارتاح إلى ذلك" ولما كان القلب محل للمعرفة
والعلم والمحبة والنابة وكانت هذه الشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها
فإذا أراد الله هداية عبد وسع صدره وشرحه فدخلت فيه وسكنته وإذا أراد
ضلله ضيق صدره وأحرجه فلم يجد محل يدخل فيه فيعدل عنه ول يساكنه
وكل إناء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق
إل القلب اللين فكلما أفرغ فيه اليمان والعلم اتسع وانفسح
) (17/45
) (17/46
قلت نعم والله وهما مجرد فضله ومنته وإنما يجعلهما في المحل الذي يليق
بهما ويحبسهما عمن ل يصلح لهما فإن قلت فما ذنب من ل يصلح قلت أكثر
131
ذنوبه أنه ل يصلح لن صلحيته بما اختاره لنفسه وآثره وأحبه من الضلل
والغي على بصيرة من أمره فآثر هواه على حق ربه ومرضاته واستحب
العمى على الهدى وكان كفر المنعم عليه بصنوف النعم وجحدا لهيئته
والشرك به والسعي في مساخطه أحب إليه من شكره وتوحيده والسعي
في مرضاته فهذا من عدم صلحيته لتوفيق خالقه ومالكه وأي ذنب فوق هذا
فإذا أمسك الحكم العدل توفيقه عمن هذا شأنه كان قد عدل فيه وانسدت
عليه أبواب الهداية وطرق الرشاد فأظلم قلبه فضاق عن دخول السلم
واليمان فيه فلو جاءته كل آية لم تزده إل ضلل وكفرا وإذا تأمل من شرح
الله صدره للسلم واليمان هذه الية وما تضمنته من أسرار التوحيد والعذر
والعدل وعظمة شأن الربوبية صار لقلبه عبودية أخرى ومعرفة خاصة وعلم
أنه عبد من كل وجه وبكل اعتبار وأن الرب تعالى رب كل شيء وملكيه من
العيان والصفات والفعال والمر كله بيده والحمد كله له وأزمة المور بيده
ومرجعها كلها إليه ولهذه الية شأن فوق عقولنا وأجل من أفهامنا وأعظم مما
قال فيها المتكلمون الذين ظلموها معناها وأنفسهم كانوا يظلمون تالله لقد
غلظ عنها حجابهم وكثفت عنها أفهامهم ومنعتهم من الوصول إلى المراد بها
أصولهم التي أصلوها وقواعدهم التي أسسوها فإنها تضمنت إثبات التوحيد
والعدل الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه والعدل الذي يقوله معطلو
الصفات ونفاه القدر
) (17/47
132
حقائق اليمان وحقائق العبودية وما يصححها وما يفسدها وتفاوت معرفة
السماء والصفات واليمان والخلص وأحكام العبودية بحسب تفاوتهم في
َ َ
شي ب ِهِ ِفي ه ُنورا ً ي َ ْ
م ِ جعَل َْنا ل َ ُ مْيتا ً فَأ ْ
حي َي َْناه ُ وَ َ ن َ ن َ
كا َ م ْ
هذا النور قال تعالى} :أوَ َ
) (17/48
َ
مُنوانآ َذي َ من َْها{ وقالَ} :يا أي َّها ال ّ ِ خارٍِج ِ
س بِ َ ت ل َي ْ َ ما ِ ه ِفي الظ ّل ُ َ مث َل ُ ُ
ن َ م ْس كَ َ
الّنا ِ
ن
شو َ م ُ ً
م ُنورا ت َ ْ ُ َ
ل لك ْجعَ ْ
مت ِهِ وَي َ ْ
ح َ
ن َر ْ
م ْ
ن ِ َ ُ
سول ِهِ ي ُؤْت ِك ْ ّ
فلي ْ ِم كِ ْ مُنوا ب َِر ُ ه َوآ ِقوا الل َ
ات ّ ُ
ه{ فيكشف لقلب المؤمن في ضوء ذلك النور عن حقيقة المثل العلى بِ ِ
مستويا على عرش اليمان في قلب العبد المؤمن فيشهد بقلبه ربا عظيما
قاهرا قادرا أكبر من كل شيء في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله السماوات
السبع قبضة إحدى يديه والرضون السبع قبضة اليد الخرى يمسك
السماوات على أصبع والرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على
أصبع والثرى على أصبع ثم يهزهن ثم يقول أنا الملك فالسماوات السبع في
كفه كخردلة في كف العبد يحيط ول يحاط به ويحصر خلقه ول يحصرونه
ويدركهم ول يدركونه لو أن الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفا
واحدا ما أحاطوا به سبحانه ثم يشهده في علمه فوق كل عليم وفي قدرته
فوق كل قدير وفي جوده فوق كل جواد وفي رحمته فوق كل رحيم وفي
جماله فوق كل جميل حتى لو كان جمال الخلئق كلهم على شخص واحد
منهم ثم أعطي الخلق كلهم مثل ذلك الجمال لكانت نسبته إلى جمال الرب
سبحانه دون نسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس ولو اجتمعت قوى
الخلئق على شخص واحد منهم ثم أعطي كل منهم مثل تلك القوة لكانت
نسبتها إلى قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إلى حملة العرش ولو كان
جودهم على رجل واحد وكل الخلئق على ذلك الجود لكانت نسبته إلى جوده
دون نسبة قطرة إلى
) (17/49
ص -109-البحر وكذلك علم الخلئق إذا نسب إلى علمه كان كنقرة عصفور
من البحر وكذلك سائر صفاته كحياته وسمعه وبصره وإرادته فلو فرض البحر
المحيط بالرض مدادا تحيط به سبعة أبحر وجميع أشجار الرض شيئا بعد
شيء أقلم لفني ذلك المداد والقلم ول تفنى كلماته ول تنفد فهو أكبر في
علمه من كل عالم وفي قدرته من كل قادر وفي وجوده من كل جواد وفي
غناه من كل غني وفي علوه من كل عال وفي رحمته من كل رحيم استوى
على عرشه واستولى على خلقه متفرد بتدبير مملكته فل قبض ول بسط ول
منع ول ضلل ول سعادة ول شقاوة ول موت ول حياة ول نفع ول ضر إل بيده
ل مالك غيره ول مدبر سواه ل يستقل أحد معه بملك مثقال ذرة في
السماوات والرض ول له شركة في ملكها ول يحتاج إلى وزير ول ظهير ول
معين ول يغيب فيخلفه غيره ول يعي فيعينه سواه ول يتقدم أحد بالشفاعة
بين يديه إل من بعد إذنه لمن شاء وفيمن شاء فهو أول مشاهد المعرفة ثم
يترقى منه إلى مشهد فوقه ل يتم إل به وهو مشهد اللهية فيشهده سبحانه
متجليا في كماله بأمره ونهيه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه وفضله في ثوابه
133
فيشهد ربا قيوما متكلما آمرا ناهيا يحب ويبغض ويرضى ويغضب قد أرسل
رسله وأنزل كتبه وأقام على عباده الحجة البالغة وأتم عليهم نعمته السابغة
يهدى من يشاء منه نعمة وفضل ويضل من يشاء حكمة منه وعدل ينزل إليهم
أوامره وتعرض عليه أعمالهم لم يخلقهم عبثا ولم يتركهم سدى بل أمره جار
عليهم في حركاتهم وسكناتهم وظواهرهم وبواطنهم فلله عليهم حكم وأمر
في كل تحريكة وتسكينة ولحظة ولفظة وينكشف له في هذا النور عدله
وحكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وبره في شرعه وأحكامه وأنها أحكام رب
رحيم محسن لطيف حكيم قد بهرت حكمته العقول وأقرت بها الفطر
وشهدت لمنزلها بالوحدانية ولمن جاء بها بالرسالة والنبوة وينكشف له في
ضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال وتنزيهه سبحانه عن النقص والمثال وأن
كل
) (17/50
كمال في الوجود فمعطيه وخالقه أحق به وأولى وكل نقص وعيب فهو
سبحانه منزه متعال عنه وينكشف له في ضوء هذا النور حقائق المعاد واليوم
الخر وما أخبر به الرسول عنه حتى كأنه يشاهده عيانا وكأنه يخبر عن الله
وأسمائه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده إخبار من كأنه قد رأى وعاين
وشاهد ما أخبر به فمن أراد سبحانه هدايته شرح صدره لهذا فاتسع له
وانفسح ومن أراد ضللته جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج ل يجد فيه
مسلكا ول منفذا والله الموفق المعين وهذا الباب يكفي اللبيب في معرفة
هّ القدر والحكمة ويطلعه على العدل والتوحيد الذي تضمنهما قولهَ } :
شهِد َ الل ُ
أ َنه ل إل َه إل ّ هُو وال ْملئ ِك َ ُ ُ
ه إ ِل ّ هُوَ ال ْعَ ِ
زيُز ط ل إ ِل َ َ
س ِ ة وَأوُلو ال ْعِل ْم ِ َقاِئما ً ِبال ْ ِ
ق ْ َ َ َ ِ َ ِ ّ ُ
م{. سل
ِ ِ ْ ُل ا هّ ل ال د نع ن دي
ّ َ ِ ْ َ ال ال ْ َ ِ ُ ِ ّ
ن إ م كي ح
) (17/51
شفاء العليل
الباب السادس عشر :في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والفعال
الباب السادس عشر :فيما جاء في السنة من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال
العباد كما هو منفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم
قال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد حدثنا علي بن عبد الله ثنا مروان
بن معاوية ثنا أبو مالك
ص -110-عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال قال النبي صلى الله عليه
وسلم" :إن الله يصنع كل صانع وصنعته" قال البخاري" :وتل بعضهم عند
ن{" حدثنا محمد أبو معاوية عن العمش عن مُلو َ
ما ت َعْ َ
م وَ َ قك ُ ْخل َ َ
ه َ ذلكَ} :والل ّ ُ
شقيق عن حذيفة نحوه موقوفا عليه وأما استشهاد بعضهم بقوله تعالى:
ن{ بحمل ما على المصدر أي خلقكم وأعمالكم مُلو َ ما ت َعْ َم وَ َ قك ُ ْ خل َ َ }َوالل ّ ُ
ه َ
فالظاهر خلف هذا وأنها موصولة أي خلقكم وخلق الصنام التي تعملونها
فهو يدل على خلق أعمالهم من جهة اللزوم فإن الصنم اسم لللة التي حل
134
فيها العمل المخصوص فإذا كان مخلوقا لله كان خلقه متناول لمادته وصورته
قال البخاري :وحدثنا عمرو بن محمد حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن طاووس
عن ابن عمر" :كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك" قال البخاري:
وحدثني إسماعيل قال حدثني مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم
عن طاووس قال" :أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقولون كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" ورواه مسلم في صحيحه
عن طاووس وقال سمعت عبد الله بن عمر يقول :قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم" :كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" قال البخاري :وقال ليث
قد ٍَر{ حتى العجز خل َ ْ
قَناهُ ب ِ َ يٍء َ
ش ْ عن طاووس عن ابن عباس "} :إ ِّنا ك ُ ّ
ل َ
والكيس" قال البخاري :سمعت عبيد الله بن سعيد يقول سمعت يحيى بن
سعيد يقول" :ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة" قال
البخاري" :حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة" وقال جابر بن عبد
الله" :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا
) (18/1
135
) (18/2
ه
ف عَن ْ ُ
صرِ َ في حق يوسف الصديق} :ك َذ َل ِ َ
ك ل ِن َ ْ
كما أحسنت إليهم كما يقول الرجل للملك اجعلني من جملة من أغنيته
وأعطيته وأحسنت إليه الثالثة :إن ما حصل لولئك من الهدى لم يكن منهم
ول بأنفسهم وإنما كان منك فأنت الذي هديتهم وقوله "وعافني فيمن
عافيت" إنما يسأل ربه العافية المطلقة وهي العافية من الكفر والفسوق
والعصيان والغفلة والعراض وفعل ما ل يحبه وترك ما يحبه فهذا حقيقة
العافية ولهذا ما سئل الرب شيئا أحب إليه من العافية لنها كلمة جامعة
للتخلص من الشر كله وأسبابه وقوله "وتولني فيمن توليت" سؤال للتولي
الكامل ليس المراد به ما فعله بالكافرين من خلق القدرة وسلمة اللة وبيان
للطريق فإن كان هذا هو وليته للمؤمنين فهو ولي الكفار كما هو ولي
المؤمنين وهو سبحانه يتولى أولياءه بأمور ل توجد في حق الكفار من
توفيقهم وإلهامهم وجعلهم مهديين مطيعين ويدل عليه قوله "إنه ل يذل من
136
واليت" فإنه منصور عزيز غالب بسبب توليك له وفي هذا تنبيه على أن من
حصل له ذل في الناس فهو بنقصان ما فاته من تولي الله وإل فمع الولية
الكاملة ينتفي الذل كله ولو سلط عليه بالذى من في أقطارها فهو العزيز
غير الذليل وقوله "وقني شر ما قضيت" يتضمن أن الشر بقضائه فإنه هو
الذي يقي منه وفي المسند وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لمعاذ بن جبل" :يا معاذ والله إني لحبك فل تنس أن تقول دبر كل صلة
اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" وهذه أفعال اختيارية وقد
سأل الله أن يعينه على فعلها وهذا الطلب ل معنى له عند القدرية فإن
العانة عندهم القدار والتمكين وإزاحة العذار وسلمة اللة وهذا حاصل
للسائل وللكفار أيضا والعانة التي سألها أن يجعله ذاكرا شاكرا محسنا
لعبادته كما في حديث ابن
) (18/4
ص -112-عباس عنه صلى الله عليه وسلم في دعائه المشهور" :رب أعني
ول تعن علي وانصرني ول تنصر علي وامكر لي ول تمكر علي واهدني ويسر
الهدى لي وانصرني علي من بغى علي رب اجعلني لك شكارا لك ذكارا لك
رهابا لك مطواعا لك مخبتا إليك أواها منيبا رب تقبل توبتي واغسل حوبتي
وأجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي وسدد لساني واسلل سخيمة صدري"
رواه المام أحمد في المسند وفيه أحد وعشرون دليل فتأملها وفي
الصحيحين أنه صلى الله عيه وسلم كان يقول بعد انقضاء صلته" :ل إله إل
الله وحده ل شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم ل
مانع لما أعطيت ول معطي لما منعت ول ينفع ذا الجد منك الجد" وكان يقول
ذلك الدعاء عند اعتداله من الركوع ففي هذا نفي الشريك عنه بكل اعتبار
وإثبات عموم الملك له بكل اعتبار وإثبات عموم الحمد وإثبات عموم القدرة
وأن الله سبحانه إذا أعطى عبدا فل مانع له وإذا منعه فل معطي له ،وعند
القدرية أن العبد قد يمنع من أعطى الله ويعطي من منعه فإنه يفعل باختياره
عطاء ومنعا لم يشأه الله ولم يجعله معطيا مانعا فيتصور أن يكون لمن
أعطى مانع ولمن منع معط وفي الصحيح أن رجل سأله أن يدله على عمل
يدخل به الجنة فقال" :إنه ليسير على من يسره الله عليه" فدل على أن
التيسير الصادر من قبله سبحانه يوجب اليسر في العمل وعدم التيسير
يستلزم عدم العمل لنه ملزومه والملزوم ينتفي لنتفاء لزمه والتيسير
بمعنى التمكين وخلق الفعل وإزاحة العذار وسلمة العضاء حاصل للمؤمن
والكافر والتيسير المذكور في الحديث أمر آخر وراء ذلك وبالله التوفيق
والتيسير وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لبي موسى" :أل
أدلك على كنز من كنوز الجنة ل حول ول قوة إل بالله" وقد أجمع المسلمون
على هذه الكلمة وتلقيها بالقبول وهي شافية كافية في إثبات القدر وإبطال
قول القدرية وفي بعض الحديث "إذا قالها العبد قال الله أسلم عبدي
) (18/5
137
ي عبدي" قال بعض المنتسبين للقدر لما كانت واستسلم وفي بعضه فوض إل ّ
القدرة بالنسبة إلى الفعل وإلى الترك بحصول الدواعي على التسوية وما
دام المر كذلك امتنع صدور الفعل فإذا رجح جانب الفعل على الترك بحصول
الدواعي وإزالة الصوارف حصل الفعل وهذه القوة هي المشار إليها بقولنا ل
حول ول قوة إل بالله العلي العظيم وشأن الكلمة أعظم مما قال فإن العالم
العلوي والسفلي له تحول من حال إلى حال وذلك التحول ل يقع إل بقوة يقع
بها التحول فكذلك الحول وتلك القوة قائمة بالله وحده ليست بالتحويل
فيدخل في هذا كل حركة في العالم العلوي والسفلي وكل قوة على تلك
الحركة سواء كانت الحركة قسرية أو إرادية أو طبيعية وسواء كانت من
الوسط أو إلى الوسط أو على الوسط وسواء كانت في الكم أو الكيف أو
في الين كحركة النبات وحركة الطبيعة وحركة الحيوان وحركة الفلك وحركة
النفس والقلب والقوة على هذه الحركات التي هي حول فل حول ول قوة إل
بالله ولما كان الكنز هو المال النفيس المجتمع الذي يخفى على أكثر الناس
وكان هذا شأن هذه الكلمة كانت كنزا من كنوز الجنة فأوتيها النبي صلى الله
عليه وسلم من كنز تحت العرش وكان قائلها أسلم واستسلم لمن أزمة
المور بيديه وفوض أمره إليه وفي المسند والسنن عن أبي الديلمي قال:
"أتيت أبي كعب فقلت :في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله
يذهبه عني من قلبي فقال :إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم
وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو
أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله
) (18/6
138
تعذيب من استنفذ أوقات عمره كلها واستفرغ قواه في طاعته وفعل ما يحبه
ولم يعصه طرفة عين وكان يعمل بأمره دائما فكيف يقول الرسول صلى الله
عليه وسلم أن تعذيب هذا يكون عدل ل ظلما ول يقال أن حقه عليهم وما
ينبغي له أعظم من طاعاتهم فل تقع تلك الطاعات في مقابلة نعمه وحقوقه
فلو عذبهم لعذبهم بحقه عليهم لنهم إذا فعلوا مقدورهم من طاعته لم يكلفوا
) (18/7
بغيره فكيف يعذبون على ترك ما ل قدرة لهم عليه وهل ذلك إل بمنزلة
تعذيبهم على كونهم لم يخلقوا السماوات والرض ونحو ذلك مما ل يدخل
تحت مقدورهم قالوا فل وجه لهذا الحديث إل رده أو تأويله وحمله على معنى
يصح وهو أنه لو أراد تعذيبهم جعلهم أمة واحدة على الكفر فلو عذبهم في
هذه الحال لكان غير ظالم لهم وهو لم يقل لو عذبهم مع كونهم مطيعين له
عابدين له لعذبهم وهو غير ظالم لهم ثم أخبر أنه لو عمهم بالرحمة لكانت
رحمته لهم خيرا من أعمالهم ثم أخبر أنه ل يقبل من العبد عمل حتى يؤمن
بالقدر والقدر هو علم الله بالكائنات وحكمه فيها ووقفت طائفة أخرى في
وادي الحيرة بين القدر والمر والثواب والعقاب فتارة يغلب عليهم شهود
القدر فيغيبون به عن المر وتارة يغلب عليهم شهود المر فيغيبون عن القدر
وتارة يبقون في حيرة وعمى وهذا كله إنما سببه الصول الفاسدة والقواعد
الباطلة التي بنوا عليها ولو جمعوا بين الملك والحمد والربوبية واللهية
والحكمة والقدرة وأثبتوا له الكمال المطلق ووصفوه بالقدرة التامة الشاملة
والمشيئة العامة النافذة التي ل يوجد كائن إل بعد وجودها والحكمة البالغة
التي ظهرت في كل موجود لعلموا حقيقة المر وزالت عنهم الحيرة ودخلوا
إلى الله سبحانه من باب أوسع من السماوات السبع وعرفوا أنه ل يليق
بكماله المقدس إل ما أخبر به عن نفسه على ألسنة رسله وأن ما خالفه
ظنون كاذبة وأوهام باطلة تولدت بين أفكار باطلة وآراء مظلمة فنقول وبالله
التوفيق وهو المستعان وعليه التكلن ول حول ول قوة إل بالله ،الرب تبارك
اسمه وتعالى جده ول إله
) (18/8
139
الشكر يستدعيه ويقتضيه فإذا وزعت طاعات العبد كلها على هذه النعم لم
يخرج قسط كل نعمة منها إل جزء يسير جدا ل نسبة له إلى قدر تلك النعمة
بوجه من الوجوه قال أنس بن مالك ينشر للعبد يوم القيامة ثلثة دواوين
ديوان فيه ذنوبه وديوان فيه العمل الصالح فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من
نعمه فتقوم فتستوعب عمله كله ثم تقول أي رب وعزتك وجللك ما
استوفيت ثمني وقد بقيت الذنوب والنعم فإذا أراد الله بعبد خيرا قال ابن آدم
ضعفت حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ووهبت لك نعمي فما بيني وبينك وفي
صحيح الحاكم حديث "صاحب الرمانة الذي عبد الله خمسمائة سنة يأكل كل
يوم رمانة تخرج له من شجرة ثم يقوم إلى صلته فسأل ربه وقت الجل أن
يقبضه ساجدا وأن ل يجعل للرض عليه سبيل حتى يبعث وهو ساجد فإذا كان
يوم القيامة وقف بين يدي الرب فيقول تعالى أدخلوا عبدي الجنة برحمتي
فيقول رب بل بعملي فيقول الرب جل جلله قايسوا عبدي بنعمتي عليه
وبعمله فتؤخذ نعمة البصر بعبادة خمسمائة سنة وبقيت نعمة الجسد فضل
عليه
) (18/9
فيقول أدخلوا عبدي النار فيجر إلى النار فينادي رب برحمتك رب برحمتك
أدخلني الجنة فيقول ردوه فيوقف بين يديه فيقول يا عبدي من خلقك ولم
تكن شيئا فيقول أنت يا رب فيقول من قواك على عبادة خمسمائة سنة
فيقول أنت يا رب فيقول من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء
العذب من الماء المالح وأخرج لك كل يوم رمانة وإنما تخرج مرة في السنة
وسألتني أن أقبضك ساجدا ففعلت ذلك بك فيقول أنت يا رب فيقول الله
فذلك برحمتي وبرحمتي أدخلك الجنة" رواه من طريق يحيى بن بكير حدثنا
الليث بن سعد عن سليمان بن هرم عن محمد بن المنكدر عن جابر عن
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والسناد صحيح ومعناه صحيح ل ريب فيه
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال" :لن ينجو أحد منكم بعمله وفي
لفظ لن يدخل احد منكم الجنة بعمله قالوا ول أنت يا رسول الله قال ول أنا
إل أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" فقد أخبر صلى الله عليه وسلم" :أنه
ل ينجي أحدا عمله من الولين ول من الخرين إل أن يرحمه ربه سبحانه"
فتكون رحمته خير له من عمله لن رحمته تنجيه وعمله ل ينجيه فعلم أنه
سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم ببعض حقه عليهم ومما يوضحه
أنه كلما كملت نعمة الله على العبد عظم حقه عليه وكان ما يطالب به من
الشكر أكثر مما يطالب من دونه فيكون حق الله عليه أعظم وأعماله ل تفي
بحقه عليه وهذا إنما يعرفه حق المعرفة من عرف الله وعرف نفسه هذا كله
لو لم يحصل للعبد من الغفلة والعراض والذنوب ما يكون في قبالة طاعاته
فكيف إذا حصل له من ذلك ما يوازي طاعاته أو يزيد عليها فإن من حق الله
على عبده أن يعبده ل يشرك به
) (18/10
140
ص -115-شيئا وأن يذكره ول ينساه وأن يشكره ول يكفره وأن يرضى به
ربا وبالسلم دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسول وليس الرضا بذلك
مجرد إطلق هذا اللفظ وحاله وإرادته وتكذيبه وتخالفه فكيف يرضى به ربا
من يسخط ما يقضيه له إذا لم يكن موافقا لرادته وهواه فيظل ساخطا به
متبرما يرضى وربه غضبان ويغضب وربه راض فهذا إنما رضي من ربه حظا
لم يرض بالله ربا وكيف يدعي الرضا بالسلم دينا من ينبذ أصوله خلف
ظهره إذا خالفت بدعته وهواه وفروعه وراءه إذا لم يوافق غرضه وشهوته
وكيف يصح الرضا بمحمد رسول من لم يحكمه على ظاهره وباطنه ويتلق
أصول دينه وفروعه من مشكاته وحده وكيف يرضى به رسول من يترك ما
جاء به لقول غيره ول يترك قول غيره لقوله ول يحكمه ويحتج بقوله إل إذا
وافق تقليده ومذهبه فإذا خالفه لم يلتفت إلى قوله والمقصود أن من حقه
سبحانه على كل أحد من عبيده أن يرضى به ربا وبالسلم دينا وبمحمد
رسول وأن يكون حبه كله لله وبغضه في الله وقوله لله وتركه لله وأن يذكره
ول ينساه ويطيعه ول يعصيه ويشكره ول يكفره وإذا قام بذلك كله كانت نعم
الله عليه أكثر من عمله بل ذلك نفسه من نعم الله عليه حيث وفقه له
ويسره وأعانه عليه وجعله من أهله واختصه به على غيره فهو يستدعي
شكرا آخر عليه ول سبيل له إلى القيام بما يجب لله من الشكر أبدا فنعم
الله تطالبه بالشكر وأعماله ل تقابلها وذنوبه وغفلته وتقصيره قد تستنفد
عمله فديوان النعم وديوان الذنوب يستنفدان طاعاته كلها هذا وأعمال العبد
مستحقة عليه بمقتضى كونه عبدا مملوكا مستعمل فيما يأمره به سيده
فنفسه مملوكة وأعماله مستحقة بموجب العبودية فليس له شيء من أعماله
كما أنه ليس له ذرة من نفسه فل هو مالك لنفسه ول صفاته ول أعماله ول
لما بيده من المال في الحقيقة بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه
لمالكه أعظم استحقاقا من سيد اشترى عبدا بخالص ماله ثم قال اعمل وأد
ي
إل ّ
) (18/11
فليس لك في نفسك ول في كسبك شيء فلو عمل هذا العبد من العمال ما
عمل فإن ذلك كله مستحق عليه لسيده وحق من حقوقه عليه فكيف بالمنعم
المالك على الحقيقة الذي ل تعد نعمه وحقوقه على عبده ول يمكن أن تقابلها
طاعاته بوجه فلو عذبه سبحانه لعذبه وهو غير ظالم له وإذا رحمه فرحمته
خير له من أعماله ول تكون أعماله ثمنا لرحمته البتة فلول فضل الله ورحمته
ومغفرته ما هنا أحدا عيش البتة ول عرف خالقه ول ذكره ول آمن به ول
أطاعه فكما أن وجود العبد محض وجوده وفضله ومنته عليه وهو المحمود
على إيجاده فتوابع وجوده كلها كذلك ليس للعبد منها شيء كما ليس له في
وجوده شيء فالحمد كله لله والفضل كله له والنعام كله له والحق له على
جميع خلقه ومن لم ينظر في حقه عليه وتقصيره وعجزه عن القيام به فهو
من أجهل الخلق بربه وبنفسه ول تنفعه طاعاته ول يسمع دعاؤه قال المام
أحمد حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال" :بلغني أن نبي الله
موسى مر برجل يدعو ويتضرع فقال يا رب ارحمه فإني قد رحمته فأوحى
الله تعالى إليه لو دعاني حتى ينقطع فؤاده ما استجبت له حتى ينظر في
141
حقي عليه" والعبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منته عليه ونعمه
وحقوقه وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته فهو يعلم أن ربه لو
عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه وأن أقضيته كلها عدل فيه وأن ما فيه
من الخير فمجرد فضله ومنته وصدقته عليه ولهذا كان في حديث سيد
الستغفار "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي" فل يرى نفسه إل مقصرا مذنبا
ول يرى ربه إل محسنا
) (18/12
ص -116-متفضل وقد قسم الله خلقه إلى قسمين ل ثالث لهما تائبين
ن{ وكذلك جعلهم قسمين مو َ ظال ِ ُم ال ّ ك هُ ُ ب فَُأول َئ ِ َ م ي َت ُ ْ ن لَ ْ م ْ وظالمين فقال} :وَ َ
ب الل ّ ُ
ه معذبين وتائبين فمن لم يتب فهو معذب ول بد قال تعالى} :ل ِي ُعَذ ّ َ
نمِني َمؤ ْ ِ ه عََلى ال ْ ُ ب الل ّ ُ ت وَي َُتو َ كا ِ شرِ َ م ْ ن َوال ْ ُ كي َ شرِ ِ م ْ ت َوال ْ ُ قا ِ مَنافِ َ ن َوال ْ ُ قي َ مَنافِ ِ ال ْ ُ
ت{ وأمر جميع المؤمنين من أولهم إلى أخرهم بالتوبة ول يستثنى مَنا ِ مؤ ْ ِ َوال ْ ُ
َ ً
ميعا أي َّها ّ َ
ج ِ من ذلك أحد وعلق فلحهم بها قال تعالى} :وَُتوُبوا إ ِلى اللهِ َ
ن{ وعدد سبحانه من جملة نعمه على خير خلقه حو َ فل ِ ُ م تُ ْ ن ل َعَل ّك ُ ْ مُنو َ مؤ ْ ِ ال ْ ُ
وأكرمهم عليه وأطوعهم له وأخشاهم له أن تاب عليه وعلى خواص أتباعه
صارِ ال ّ ِ َ
ة
ساعَ ِ ن ات ّب َُعوه ُ ِفي َ ذي َ ن َواْلن ْ َ ري َ ج ِمَها ِ ي َوال ْ ُ ه عََلى الن ّب ِ ّ ب الل ّ ُ قد ْ َتا َ فقال} :ل َ َ
م{ ثم كرر توبته عليهم فقال: من ْهُ ْ
ق ِ ري ٍ ب فَ ِ زيغُ قُُلو ُ كاد َ ي َ ِ ما َ ن ب َعْد ِ َ م ْ سَرةِ ِ ال ْعُ ْ
م{ وقدم توبته عليهم على توبة الثلثة حي ٌ ف َر ِ ؤو ٌ م َر ُ ه ب ِهِ ْ م إ ِن ّ ُب عَل َي ْهِ ْ م َتا َ }ث ُ ّ
الذين خلفوا وأخبر سبحانه أن الجنة التي وعدها أهلها في التوراة والنجيل
أنها يدخلها التائبون فذكر عموم التائبين أول ثم خص النبي والمهاجرين
والنصار بها ثم خص الثلثة الذين خلفوا فعلم بذلك احتياج جميع الخلق إلى
توبته عليهم ومغفرته لهم وعفوه عنهم وقد قال تعالى لسيد ولد آدم وأحب
خلقه إليه عفا الله عنك فهذا خبر منه وهو أصدق القائلين أو دعاء لرسوله
بعفوه عنه وهو طلب من نفسه وكان صلى الله عليه وسلم يقول في
سجوده أقرب ما يكون من ربه" :أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من
عقوبتك وأعوذ بك منك ل أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وقال
لطوع نساء المة وأفضلهن وخيرهن الصديقة بنت الصديق وقد قالت له يا
رسول الله لئن وافقت ليلة القدر فما أدعو به قال" :قولي اللهم إنك عفو
تحب
) (18/13
العفو فاعف عني" قال الترمذي حديث حسن صحيح وهو سبحانه لمحبته
للعفو والتوبة خلق خلقه على صفات وهيئات وأحوال تقتضي توبتهم إليه
واستغفارهم وطلبهم عفوه ومغفرته وقد روى مسلم في صحيحه من حديث
أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" :لو لم تذنبوا لذهب
الله بكم و لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" و الله تعالى يحب
التوابين و التوبة من أحب الطاعات إليه و يكفي في محبتها شدة فرحه بها
كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و
سلم" :قال الله عز و جل :أنا عند ظن عبدي بي و أنا معه حين يذكرني و
142
ه أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلة" و في الصحيحين الله لل ُ
ه
من حديث عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم" :لل ُ
أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة معه راحلته
عليها طعامه و شرابه فنام فاستيقظ و قد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش
ثم قال أرجع إلى المكان الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على
ساعده ليموت فاستيقظ و عنده راحلته عليها زاده و طعامه و شرابه فالله
أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته و زاده" و في صحيح مسلم
ه أشد عن النعمان بن بشير يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال" :لل ُ
فرحا بتوبة عبده من رجل حمل زاده و مزاده على بعير ثم سار حتى كان
بفلة فأدركته القائلة فنزل فقال تحت شجرة فغلبته عينه و انسل بعيره
فاستيقظ فسعى شرفا فلم ير شيئا ثم سعى شرفا ثانيا ثم سعى شرفا ثالثا
فلم ير شيئا فأقبل حتى أتى إلى مكانه الذي قال فيه فبينا هو قاعد فيه إذ
جاء بعيره يمشي حتى وضع خطامه في يده" فالله أشد فرحا بتوبة العبد من
هذا حين وجد بعيره فتأمل محبته سبحانه لهذه الطاعة التي هي أصل
الطاعات و أساسها فإن من زعم أن أحدا من الناس يستغني عنها ول حاجة
) (18/14
143
وسلم في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب
الرحيم" قال الترمذي
) (18/15
هذا حديث حسن صحيح وقال المام أحمد حدثنا إسماعيل ثنا يونس عن
حميد بن هلل عن أبي بردة قال جلست إلى الشيخ من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم في مسجد الكوفة فحدثني قال :سمعت رسول الله أو
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" :يا أيها الناس توبوا إلى الله عز
وجل واستغفروه فإني أتوب إلى الله وأستغفره كل يوم مائة مرة" قال
المام أحمد وثنا يحيى عن شعبة ثنا عمرو بن مرة قال سمعت أبا بردة قال
سمعت الغر يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول" :يا أيها الناس توبوا إلى ربكم عز وجل فإني أتوب إليه في اليوم مائة
مرة" وقال أحمد ثنا يزيد أنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان
النهدي عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول" :اللهم
اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤا استغفروا" وكان من
دعائه صلى الله عليه وسلم في أول الصلة عند الستفتاح بعد التكبير:
"اللهم أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنه ل
يغفر الذنوب إل أنت واهدني لحسن الخلق ل يهدي لحسنها إل أنت لبيك
وسعديك والخير في يديك وأنا بك وإليك تباركت وتعاليت استغفرك وأتوب
إليك" رواه مسلم وفي الصحيحين عنه أنه كان يقول في دعائه" :اللهم باعد
بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من
خطاياي بالماء والثلج والبرد" وكان يقول هذا سرا لم يعلم به من خلفه حتى
سأله عنه أبو هريرة وروى عنه علي بن أبي طالب أنه كان إذا استفتح الصلة
قال ل إله إل أنت ظلمت نفسي وعملت سوأ فاغفر لي إنه ل يغفر
) (18/16
144
في قيامه إلى الصلة بالليل" :اللهم لك الحمد" الحديث وفيه "فاغفر لي ما
قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني
أنت المقدم وأنت المؤخر ل إله إل أنت" وفي الصحيحين عن أبي موسى
الشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء" :اللهم اغفر
لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني أنت المقدم
وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير" ،وحقيقة المر أن العبد فقير إلى
الله من كل وجه وبكل اعتبار فهو فقير إليه من جهة ربوبيته له وإحسانه إليه
وقيامه بمصالحه وتدبيره له وفقير إليه من جهة إلهيته وكونه معبوده وإلهه
ومحبوبه العظم الذي ل صلح له ول فلح ول نعيم ول سرور إل بأن يكون
أحب شيء إليه فيكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله ووالده وولده ومن
الخلق كلهم وفقير إليه من
) (18/17
جهة معافاته له من أنواع البلء فإنه إن لم يعافيه منها هلك ببعضها وفقير إليه
من جهة عفوه عنه ومغفرته له فإن لم يعف عن العبد ويغفر له فل سبيل
إلى النجاة فما نجى أحد إل بعفو الله ول دخل الجنة إل برحمة الله وكثير من
الناس ينظر إلى نفس ما يتاب منه فيراه نقصا ول ينظر إلى كمال الغاية
الحاصلة بالتوبة وأن العبد بعد التوبة النصوح خير منه قبل الذنب ول ينظر
إلى كمال الربوبية وتفرد الرب بالكمال وحده وأن لوازم البشرية ل ينفك
منها البشر وأن التوبة غاية كل أحد من ولد آدم وكماله كما كانت هي غايته
وكماله فليس للعبد كمال بدون التوبة البتة كما أنه ليس له انفكاك عن سببها
فإنه سبحانه هو المتفرد المستأثر بالغنى والحمد من كل وجه وبكل اعتبار
والعبد هو الفقير المحتاج إليه المضطر إليه بكل وجه وبكل اعتبار فرحمته
للعبد خير له من عمله فإن عمله ل يستقل بنجاته ول سعادته ولو وكل إلى
عمله لم ينج به البتة فهذا بعض ما يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم" :إن
الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم" ومما
يوضحه أن شكره سبحانه مستحق عليهم بجهة ربوبيته لهم وكونهم عبيده
ومماليكه وذلك يوجب عليهم أن يعرفوه ويعظموه ويوحدوه ويتقربوا إليه
تقرب العبد المحب الذي يتقلب في نعمه ول غناء به عنه طرفة عين فهو
يدأب في التقرب إليه بجهده ويستفرغ في ذلك وسعه وطاقته ول يعدل به
سواه في شيء من الشياء ويؤثر رضا سيده على إرادته وهواه بل ل هوى له
ول إرادة إل فيما يريد سيده ويحبه وهذا يستلزم علوما وأعمال وإرادات
وغرائم ل يعارضها غيرها ول يبقى له معها التفات إلى
) (18/18
145
ورحمته أن رضي من عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يعبد به ويستحقه
لذاته وإحسانه فل نسبة للواقع منهم إلى ما يستحقه بوجه من الوجوه فل
يسعهم إل عفوه وتجاوزه وهو سبحانه أعلم بعباده منهم بأنفسهم فلو عذبهم
لعذبهم بما يعلمه منهم وإن لم يحيطوا به علما ولو عذبهم قبل أن يرسل
رسله إليهم على أعمالهم لم يكن ظالما لهم كما أنه سبحانه لم يظلمهم
بمقته لهم قبل إرسال رسوله على كفرهم وشركهم وقبائحهم فإنه سبحانه
نظر إلى أهل الرض فمقتهم عربهم وعجمهم إل بقايا من أهل الكتاب ولكن
أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه ل يعذب أحدا إل بعد قيام الحجة
عليه برسالته وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر
نعمه ول يقوم بذلك أحد كان حقه سبحانه على كل أحد وله المطالبة به وإن
لم يغفر له ويرحمه وإل عذبه فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم
إلى حفظه وكلءته ورزقه فإن لم يحفظهم هلكوا وإن لم يرزقهم هلكوا وإن
لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا ولهذا قال أبوهم آدم وأمهم حواء:
ن{ وهذا ري َ س ِ ن ال ْ َ
خا ِ م َن ِ كون َ ّمَنا ل َن َ ُ
ح ْفْر ل ََنا وَت َْر َ م ت َغْ ِن لَ ْسَنا وَإ ِ ْ
ف َ مَنا أ َن ْ ُ
}َرب َّنا ظ َل َ ْ
سي ف ِت نَ ْ ب إ ِّني ظ َل َ ْ
م ُ شأن ولده من بعده وقد قال موسى كليمه سبحانهَ} :ر ّ
ب اغْ ِ
فْر ن{ وقالَ} :ر ّ مِني َمؤ ْ ِل ال ْ ُك وَأ ََنا أ َوّ ُ ت إ ِل َي ْ َ ك ت ُب ْ ُحان َ َ
سب ْ َ
فْر ِلي{ وقالُ } : َفاغْ ِ
ت َ َ َ َ ْ َ َ
ن{ وقال} :أن ْ َ مي َ ح ِم الّرا ِ ح ُت أْر َ مت ِك وَأن ْ َ ح َخلَنا ِفي َر ْ خي وَأد ْ ِ ِلي وَِل ِ
) (18/19
َ
ب ن{ وقال خليله إبراهيمَ} :ر ّ ري َ خي ُْر ال َْغافِ ِ ت َ مَنا وَأن ْ َ ح ْ فْر ل ََنا َواْر َ وَل ِي َّنا َفاغْ ِ
ي
وال ِد َ ّ فْر ِلي وَل ِ َ عاِء َرب َّنا اغْ ِ ل دُ َ قب ّ ْ ن ذ ُّري ِّتي َرب َّنا وَت َ َ م ْ صلةِ وَ ِ م ال ّ قي َ م ِ جعَل ِْني ُ ا ْ
ن{ إلى قوله: َ َ ّ ْ مؤ ْ ِ ْ
دي ِ قِني فهُوَ ي َهْ ِ خل َ ذي َ ب{ وقال} :ال ِ سا ُ ح َ م ال ِ قو ُ م يَ ُ
َ
ن ي َوْ َ مِني َ
َ
وَل ِل ُ
ن{ وقال أول رسله إلى أهل دي ال م و
َ ِ ِ َ ْ َ ي تي َ ئ طي خ لي ر ف
َ ُ ْ َْ ِ َ ِ غ ي ن أ ع م ْ ط أ ذي ّ
}َوا ِ ل
ّ ِ َ َ َ َ
فْر ِلي م وَإ ِل ّ ت َغْ ِ عل ْ ٌ س ِلي ب ِهِ ِ ما ل َي ْ َ ك َ سأل َ َ نأ ْ كأ ْ عوذ ُ ب ِ َ ب إ ِّني أ ُ الرضَ} :ر ّ
ن ال ْ َ َ
ن{ وقال لكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: ري َ ِ سخا ِ م َ ن ِ مِني أك ُ ْ ح ْ وَت َْر َ
َ
ب ك ال ْك َِتا َ ت{ وقال} :إ ِّنا أن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ مَنا ِ مؤ ْ ِ ن َوال ْ ُ مِني َ مؤْ ِ ك وَل ِل ْ ُ فْر ل ِذ َن ْب ِ َ ست َغْ ِ}َوا ْ
حيما{ وقال} :إ ِّنا ً فورا َر ِ ً ن غَ ُ كا َ ه َ ّ
ن الل َ ه إِ ّ ّ
فرِ الل َ ست َغْ ِ حق{ إلى قولهَ} :وا ْ ِبال ْ َ
َ
ه
مت َ ُ م ن ِعْ َ خَر وَي ُت ِ ّ ما ت َأ ّ ك وَ َ ن ذ َن ْب ِ َ م ْ م ِ قد ّ َ ما ت َ َ ه َ ك الل ّ ُ فَر ل َ َ مِبينا ً ل ِي َغْ ِ ك فَْتحا ً ُ حَنا ل َ َ فَت َ ْ
قيما{ وقد تقدم حديث ابن عباس في دعائه صلى ً ست َ ِ م ْ ً
صَراطا ُ ك ِ ك وَي َهْدِي َ َ عَل َي ْ َ
ي" وفيه "رب تقبل توبتي واغسل الله عليه وسلم" :رب أعني ول تعن عل ّ
حوبتي" الحديث وقد أخبر سبحانه عن أعبد البشر داود أنه استغفر ربه راكعا
قد ْ فَت َّنا ه ذ َِلك{ وقال عن نبيه سليمان} :وَل َ َ فْرَنا ل َ ُ وأناب وقال تعالى} :فَغَ َ
مْلكا ً َ ً ن وَأ َل ْ َ
ب ِلي ُ فْر ِلي وَهَ ْ ْ
ب اغ ِ ل َر ّ ب َقا َ م أَنا َ سدا ث ُ ّ ج َ سي ّهِ َ قي َْنا عََلى ك ُْر ِ ما َ سل َي ْ َ ُ
ب{ وقال عن نبيه يونس أنه ناداه في ْ َ َ َ
ها ُ ت الوَ ّ دي إ ِن ّك أن ْ َ ن ب َعْ ِ م ْ حد ٍ ِ ل ي َن ْب َِغي ل َ
ن{ وقال صديق ّ ُ َ َ ّ َ
مي َ ن الظال ِ ِ م َ ت ِ حان َك إ ِّني كن ْ ُ سب ْ َ ت ُ ه إ ِل أن ْ َ الظلمات} :ل إ ِل َ
المة وخيرها وأبرها وأتقاها لله بعد رسوله :يا رسول الله علمني دعاء أدعو
به في صلتي فقال" :قل اللهم إني ظلمت
) (18/20
146
نفسي ظلما كبيرا ول يغفر الذنوب إل أنت فاغفر لي مغفرة من عندك
وارحمني أنك أنت الغفور الرحيم" فاستفتح الخبر عن نفسه بأداة التوكيد
التي تقتضي تقرير ما بعدها ثم ثنى بالخبار عن ظلمه لنفسه ثم وصف ذلك
الظلم بكونه ظلما كبيرا ثم طلب من ربه أن يغفر له مغفرة من عنده أي ل
يبلغها
) (18/21
شفاء العليل
الباب السابع عشر :في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلحا وإطلقهما نفيا
وإثباتا
الباب السابع عشر :في الكسب والجبر ومعناهما لغة واصطلحا وإطلقهما
نفيا وإثباتا
وما دل عليه السمع والعقل من ذلك ،أما الكسب فأصله في اللغة الجمع
قاله الجوهري وهو طلب الرزق يقال كسبت شيئا واكتسبته بمعنى وكسبت
أهلي خيرا وكسبت الرجل مال فكسبه وهذا مما جاء على فعلته ففعل
والكواسب الجوارح وتكسب تكلف الكسب انتهى والكسب قد وقع في
ُ
خذ ُك ُ
م ؤا ِ القرآن على ثلثة أوجه أحدها عقد القلب وعزمه كقوله تعالى} :ل َ ي ُ َ
َ
م{ أي بما عزمتم ت قُُلوب ُك ُ ْ سب َ ْما ك َ َ م بِ َ خذ ُك ُ ْ ن يُ َ
ؤا ِ م وَل َك ِ ْ مان ِك ُ ْه ِبالل ّغْوِ ِفي أي ْ َ الل ّ ُ
عليه وقصدتموه وقال الزجاج" :أي يؤاخذكم بعزمكم" على أن ل تبروا وأن ل
تتقوا وأن تعتلوا في ذلك بأنكم حلفتم وكأنه التفت إلى لفظ المؤاخذة وأنها
تقتضي تعذيبا فجعل كسب قلوبهم عزمهم على ترك البر والتقوى لمكان
اليمين والقول الول أصح وهو قول جمهور أهل التفسير فإنه قابل به لغو
اليمين وهو أن ل يقصد اليمين فكسب القلب المقابل للغو اليمين هو عقده
َ
ن{ ما َ م الي ْ َ قد ْت ُ ُ
ما عَ ّ م بِ َ خذ ُك ُ ْؤا ِ ن يُ َ وعزمه كما قال في الية الخرى} :وَل َك ِ ْ
فتعقيد اليمان هو كسب القلب الوجه الثاني من الكسب :كسب المال من
ما
م ّ م وَ ِ سب ْت ُ ْما ك َ َ ت َ ن ط َي َّبا ِ م ْ قوا ِ مُنوا أ َن ْفِ ُ نآ َ ذي َ
َ
التجارة قال تعالىَ} :يا أي َّها ال ّ ِ
ض{ فالول للتجار والثاني للزراع والوجه الثالث من ن الْر ِ
َ
م َم ِ جَنا ل َك ُ ْخَر ْ أَ ْ
ماسعََها ل ََها َ فسا ً إ ِّل وُ ْ ه نَ ْف الل ّ ُ الكسب :السعي والعمل كقوله تعالى} :ل ي ُك َل ّ ُ
َ
س َ
ل ن ت ُب ْ َ ن{} :وَذ َك ّْر ب ِهِ أ ْ سُبو َ م ت َك ْ ِ ما ك ُن ْت ُ ْ ت{ وقوله} :ب ِ َ سب َ ْ ما اك ْت َ َ ت وَعَل َي َْها َ سب َ ْكَ َ
ت{ فهذا كله للعمل واختلف الناس في الكسب والكتساب سب َ ْما ك َ َ س بِ َ ف ٌ نَ ْ
هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق فقالت طائفة معناهما واحد
) (19/1
قال أبو الحسن علي بن أحمد وهو الصحيح عند أهل اللغة" :ول فرق بينهما"
قال ذو الرمة:
ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب
147
وقال الخرون الكتساب أخص من الكسب لن الكسب ينقسم إلى كسبه
لنفسه ولغيره ول يقال يكتسب قال الحطيئة:
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر هداك مليك الناس يا عمر
قلت :والكتساب افتعال وهو يستدعي اهتماما وتعمل واجتهادا وأما الكسب
فيصح نسبته بأدنى شيء ففي جانب الفضل جعل لها ما لها فيه أدنى سعى
وفي جانب العدل لم يجعل عليها إل مالها فيه اجتهاد واهتمام وأما الجبر
فيرجع في اللغة إلى ثلثة أصول أحدها :أن يغنى الرجل من فقر أو يجبر
عظمه من كسر وهذا من الصلح وهذا الصل يستعمل لزما ومتعديا يقول
جبرت العظم وجبر وقد جمع العجاج بينهما في قوله:
قد جبر الدين الله فجبر الصل الثاني :الكراه والقهر وأكثر ما يستعمل هذا
على أفعل يقال أجبرته على كذا إذا أكرهته عليه ول يكاد يجيء جبرته عليه
إل قليل والصل الثالث :من العز والمتناع ومنه نخلة جبارة قال الجوهري:
"والجبار من النخل ما طال وفات اليد" قال العشى:
طريق وجبار رواء أصوله عليه أبابيل من الطير تنعب
) (19/2
148
) (19/3
جبارة ولهذا جعل سبحانه اسمه الجبار مقرونا بالعزيز والمتكبر وكل واحد
من هذه السماء الثلثة تضمن السمين الخرين وهذه السماء الثلثة نظير
السماء الثلثة وهي الخالق البارئ المصور فالجبار المتكبر يجريان مجرى
التفصيل لمعنى اسم العزيز كما أن البارئ المصور تفصيل لمعنى اسم
الخالق فالجبار من أوصافه يرجع إلى كمال القدرة والعزة والملك ولهذا كان
من أسمائه الحسنى وأما المخلوق فاتصافه بالجبار ذم له ونقص كما قال
مت َك َب ّرٍ َ
جّباٍر{ وقال تعالى لرسوله ب ُ ل قَل ْ ِ ه عََلى ك ُ ّ ك ي َط ْب َعُ الل ّ ُ
تعالى} :ك َذ َل ِ َ
َ
جّبار{ أي مسلط تقهرهم وتكرههم ت عَل َي ْهِ ْ
م بِ َ ما أن ْ َ
صلى الله عليه وسلم} :وَ َ
على اليمان وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم" :يحشر
الجبارون والمتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطأهم الناس".
فصل :إذا عرف هذا فلفظ الكسب تطلقه القدرية على معنى والجبرية على
معنى وأهل السنة والحديث على معنى فكسب القدرية هو وقوع الفعل
عندهم بإيجاد العبد وإحداثه ومشيئته من غير أن يكون الله شاءه أو أوجده
وكسب الجبرية لفظ ل معنى له ول حاصل تحته وقد اختلفت عباراتهم فيه
وضربوا له المثال وأطالوا فيه المقال فقال القاضي" :الكسب ما وجدوا
عليه قدرة محدثة" وقيل :أنه المتعلق بالقادر على غير جهة الحدوث وقيل:
أنه المقدور بالقدرة الحادثة قالوا :ولسنا نريد بقولنا ما وجدوا عليه قدرة
محدثة أنها قدرة على وجوده فإن القادر على وجوده هو الله وحده وإنما
نعني بذلك أن للكسب تعلقا بالقدرة الحادثة ل من باب الحدوث والوجود
وقال السفرائيني" :حقيقة الخلق من الخالق وقوعه بقدرته من حيث صح
انفراده به وحقيقة الفعل وقوعه بقدرته وحقيقة
) (19/4
149
الحادثة هو كون الفعل كسبا دون كونه موجودا أو محدثا فكونه كسبا وصف
للوجود بمثابة كونه معلوما" ولخص بعض متأخريهم هذه العبارات بأن قال:
"الكسب عبارة عن القتران العادي بين القدرة المحدثة والفعل" فإن الله
سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته ل بهما فهذا
القتران هو الكسب ولهذا قال كثير من العقلء إن هذا من محالت الكلم
وإنه شقيق أحوال أبي هاشم وطفرة النظام والمعنى القائم بالنفس الذي
يسميه القائلون به كلما وشيء من ذلك غير معقول ول متصور والذي استقر
عليه قول الشعري" :أن القدرة الحادثة ل تؤثر في مقدورها ولم يقع
المقدور ول صفة من صفاته بل المقدور بجميع صفاته واقع بالقدرة القديمة
ول تأثير
) (19/5
للقدرة الحادثة فيه" وتابعه على ذلك عامة أصحابه والقاضي أبو بكر يوافقه
مرة ومرة يقول" :القدرة الحادثة ل تؤثر في إثبات الذات وأحداثها ولكنها
تقتضي صفة للمقدور زائدة على ذاته تكون حال له" ثم تارة يقول" :تلك
الصفة التي هي من أثر القدرة الحادثة مقدورة لله تعالى ولم يمتنع من
إثبات هذا المقدور بين قادرين على هذا الوجه" وقد اضطربت آراء أتباع
الشعري في الكسب اضطرابا عظيما و اختلفت عباراتهم فيه اختلفا كثيرا
وقد ذكره كله أبو القاسم سليمان بن ناصر النصاري في شرح الرشاد وذكر
اختلف طرائقهم واضطرابهم فيه ثم قال" :وقد قال الستاذ في المختصر
قول أهل الحق في الكسب ل يرجع إلى إثبات قدرة للعبد عليه" كما يقال أنه
معلوم له إل أن المام ادعى على الستاذ أنه أثبت للقدرة الحادثة أثرا في
الحدوث فإنه لما نفي الحوال وأثبت للقدرة الحادثة أثرا فل يعقل الجمع
بينهما إل أن يكون الثر في الحدوث ثم ذكر لنفسه مذهبا ذكره في الكتاب
المترجم بالنظامية وانفرد به عن الصحاب وهو قريب من مذهب المعتزلة
والخلف بينه وبينهم فيه في السم قال" :وهذه العقدة التي تورط الصحاب
فيها في الكسب شبيهة بالعقدة التي وقعت بين الئمة في القراءة والمقروء
"قالك "وما ذكره المام في النظامية له وجه غير أنه مما انفرد بإطلقه"
ولكل ناظر نظره والله يرحمنا وإياه قلت :الذي قاله المام في النظامية
أقرب إلى الحق مما قاله الشعري وابن الباقلني ومن تابعهما ونحن نذكر
كلمه بلفظه قالك "قد تقرر عند كل حاظ! بعقله مترق عن مراتب التقليد
في قواعد التوحيد أن الرب سبحانه يطالب عباده
) (19/6
150
والعقوبات ثم تلفت على الوعد والوعيد وما يجب عقده من تصديق
المرسلين في النباء عما يتوجه على المردة العتاة من الحساب والعقاب
وسوء المنقلب والمآب وقول الله لهم لم تعديتم وعصيتم وأبيتم وقد أرخيت
لكم الطول وفسحت لكم المهل وأرسلت الرسل وأوضحت المحجة لئل
يكون للناس علي حجة وأحاط بذلك كله ثم استراب في أن أفعال العباد
واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم فهو مصاب في عقله أو
مستقر على تقليده مصمم على جهله ففي المصير إليه أنه ل أثر لقدرة العبد
في فعله قطع طلبات الشرائع والتكذيب بما جاء به المرسلون فإن زعم من
لم يوفق لمنهج الرشاد أنه ل أثر لقدرة العبد في مقدوره أصل وإذا طولب
بمتعلق طلب الله بفعل العبد تحريما وفرضا ذهب في الجواب طول وعرضا
وقال لله أن يفعل ما يشاء ول يتعرض للعتراض عليه المعترضون ل يسئل
عما يفعل وهم يسئلون قيل له ليس لما جئت به حاصل كلمة حق أريد بها
باطل نعم يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ولكن يتقدس عن الخلف ونقيض
الصدق وقد فهمنا بضرورات المعقول من الشرع المنقول أنه عزت قدرته
طالب عباده بما أخبر أنهم ممكنون من الوفاء به فلم يكلفهم إل على مبلغ
الطاقة والوسع في موارد الشرع ومن زعم أنه ل أثر للقدرة الحادثة في
مقدورها كما ل أثر للعلم في معلومة فوجه مطالبة العبد بأفعاله عنده كوجه
مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانا وإدراكات وهذا خروج عن حد العتدال إلى
التزام
) (19/7
الباطل والمحال وفيه إبطال الشرع ورد ما جاء به النبيون فإذا لزم المصير
بأن القدرة الحادثة تؤثر في مقدورها واستحال إطلق القول بأن العبد خالق
أعماله فإن فيه الخروج عما درج عليه سلف المة واقتحام ورطات الضلل
ول سبيل إلى المصير إلى وقوع فعل العبد بقدرته الحادثة والقدرة القديمة
فإن الفعل الواحد يستحيل حدوثه بقادرين إذ الواحد ل ينقسم فإن وقع بقدرة
الله استقل بها وأسقط أثر القدرة الحادثة ويستحيل أن يقع بعضه بقدرة الله
تعالى فإن الفعل الواحد ل بعض له وهذه مهواة ل يسلم من غوائلها إل
مرشد موفق إذ المرء بين أن يدعى الستبداد وبين أن يخرج نفسه عن كونه
مطالبا بالشرائع وفيه أبطال دعوة المرسلين وبين أن يثبت نفسه شريكا لله
في إيجاد الفعل الواحد وهذه القسام بجملتها باطلة ول ينجى من هذه
الملتطم ذكر اسم محض ولقب مجرد من غير تحصيل معنى وذلك أن قائل
لو قال العبد يكتسب وأثر قدرته الكتساب والرب سبحانه خالق لما العبد
مكتسب له قيل له فما الكسب وما معناه وأديرت القسام المتقدمة على
هذا القائل فل يجد عنه مهربا ثم قال فنقول قدرة العبد مخلوقة لله تعالى
باتفاق القائلين بالصانع والفعل المقدور بالقدرة الحادثة واقع بها قطعا ولكنه
يضاف إلى الله سبحانه تقديرا وخلقا فإنه وقع بفعل الله وهو القدرة فعل
للعبد وإنما هي صفته وهي ملك لله وخلق له فإذا كان موقع الفعل خلقا لله
فالواقع به مضاف خلقا إلى الله تعالى وتقديرا وقد ملك الله تعالى العبد
اختيارا يصرف به القدرة فإذا أوقع بالقدرة شيئا آل الواقع إلى حكم الله
151
) (19/8
ص -124-من حيث أنه وقع بفعل الله ولو اهتدت إلى هذا الفرقة الضالة لم
يكن بيننا وبينهم خلف ولكنهم ادعوا استبدادا بالختراع وانفراد بالخلق
والبتداع فضلوا وأضلوا وتبين تميزنا عنهم بتفريع المذهبين فإنا لما أضفنا
فعل العبد إلى تقدير الله سبحانه قلنا أحدث الله تعالى القدرة في العبد
على أقدار أحاط بها علمه وهيأ أسباب الفعل وسلب العبد العلم بالتفاصيل
وأراد من العبد أن يفعل فأحدث فيه دواع مستحثة وخيرة وإرادة وعلم أن
الفعال ستقع على قدر معلوم فوقعت بالقدرة التي اخترعها العبد على ما
علم وأراد فاختيارهم واتصافهم بالقتداء والقدرة خلق الله ابتداء ومقدورها
مضاف إليه مشيئة وعلما وقضاء وخلقا من حيث أنه نتيجة ما انفرد بخلقه
وهو القدرة ولو لم يرد وقوع مقدورها لما أقدره عليه ولما هيأ أسباب وقوعه
ومن هدي لهذا استمر له الحق المبين فالعبد فاعل مختار مطالب مأمور
منهي وفعله تقدير لله من أدلة خلق مقضي ونحن نضرب في ذلك مثل
شرعيا يستروح إليه الناظر في ذلك فنقول :العبد ل يملك آن يتصرف في
مال سيده ولو استبد بالتصرف فيه لم ينفذ تصرفه فإذا أذن له في بيع ماله
فباعه نفذ والبيع في التحقيق معزو إلى السيد من حيث أن سببه إذنه ولول
إذنه لم ينفذ التصرف ولكن العبد يؤمر بالتصرف وينهى ويوبخ على المخالفة
ويعاقب فهذا والله الحق الذي ل غطاء دونه ول مراء فيه لمن وعاه حق وعيه
وأما الفرقة الضالة فإنهم اعتقدوا انفراد العبد بالخلق ثم صاروا إلى أنه إذا
عصى فقد انفرد بخلق فعله والرب كاره له فكان العبد على هذا الرأي
الفاسد مزاحما لربه في التدبير موقعا ما أراد إيقاعه شاء الرب أو كره ,فإن
قيل على ماذا تحملون آيات الطبع والختم والضلل في القرآن وهي متضمنة
اضطرار الرب سبحانه للشقياء إلى ضللتهم ,قلنا إذا أباح الله حل هذا
الشكال والجواب عن هذا السؤال لم يبق على ذوي البصائر بعده غموض
فنقول أول من أنبأ الله سبحانه
) (19/9
عن الطبع على قلوبهم كانوا مخاطبين باليمان مطالبين بالسلم والتزام
الحكام مطالبة تكاليف ودعاء مع وصفهم بالتمكن والقتدار واليثار كما سبق
تقريره ومن اعتقد أنهم كانوا ممنوعين مأمورين مصدودين قهرا مدعوين
فالتكليف عنده إذا بمثابة ما لو شد من الرجل يداه ورجله رباطا وألقي في
البحر ثم قيل له ل تبتل وهذا أمر ل يحمل شرائع الرسل عليه إل عائب
بنفسه مجترئ على ربه ول فرق عند هذا القائل بين أمر التسخير والتكوين
َ مُره ُ إ َِذا أ ََراد َ َ َ
قو َ
ل شْيئا ً أ ْ
ن يَ ُ ما أ ْ
ن{ وقوله} :إ ِن ّ َ
سِئي َ
خا ِ في قولهُ } :
كوُنوا قَِرد َة ً َ
ن{ وبين أمر التكليف فإذا بطل ذلك فالوجه في الكلم على هذه ن فَي َ ُ
كو ُ لَ ُ
ه كُ ْ
الي وقد غوى في حقائقها أكثر الفرق أن يقول إذا أراد الله بعبد خيرا أكمل
عقله وأتم بصيرته ثم صرف عنه العوائق والدوافع وأزاح عنه الموانع ووفق
له قرناء الخير وسهل له سبله وقطع عنه الملهيات وأسباب الغفلت وقيض
له ما يقربه إلى القربات فيوافيها ثم يعتادها ويمرن عليها وإذا أراد الله بعبده
152
شرا قدر له مما يبعده عن الخير ويقصيه وهيأ له أسباب تماديه في الغي
وحبب إليه التشوف إلى الشهوات وعرضه للفات وكلما غلبت عليه دواعي
النفس خنست دواعي الخير ثم يستمر على الشرور على مر الدهور ويأتي
مهاويها ويتعاون عليه الوسواس ونزعات الشيطان ونزفات النفس المارة
بالسوء فتنسخ الغفلة على قلبه غشاوة بقضاء الله وقدره فذلكم الطبع
والختم والكنة وأنا أضرب في ذلك مثل فأقول لو فرضنا شابا حديث العهد
بحلمه لم تهذبه المذاهب ولم تحنكه التجارب وهو على نهاية في غلمته
وشهوته وقد استمكن من بلغة من الحطام
) (19/10
) (19/11
وأمدهم بالعدد والعدد والعتاد وسهل لهم طريق الحيد عن السداد ,فإن قيل:
فعل ذلك بهم ليطيعوه ,قلنا أنى يستقيم ذلك وقد علم أنهم يعصونه ويهلكون
أنفسهم ويهلكون أولياءه وأنبيائه ويشقون شقاوة ل يسعدون بها أبدا ولو علم
سيد عن وحي أو أخبار نبي أنه لو أمد عبده بالمال لطغى وأبق وقطع
الطريق فأمده بالمال زاعما أنه يريد منه ابتناء القناطر والمساجد وهو مع
153
ذلك يقول أعلم أنه ل يفعل ذلك قطعا فهذا السيد مفسد عبده وليس مصلحا
له باتفاق من أرباب اللباب فقد زاغت الفئتان وضلت الفرقتان واعترضت
إحداهما على القواعد الشرعية وزاحمت الخرى أحكام الربوبية واقتصد
الموفقون فقالوا مراد الله من عباده ما علم أنهم إليه يصيرون ولكنه لم
يسلبهم قدرتهم ولم يمنعهم مراشدهم فقرت الشريعة في نصابها وجرت
العقيدة في الحكام اللهية على صوابها ,فإن قيل كيف يريد الحكيم السفه
فقد أوضحنا أن الفعال متساوية في حق من ل ينتفع ول يتضرر ولكن إذا
أخبر أنه مكلف مطالب عباده مزيح عللهم فقوله الحق وكلمه الصدق
وأقرب أمر يعارضون به أن الحكيم منا إذا رأى جواريه وعبيده يمرج بعضهم
في بعض وهم على محارمهم بمرأى منه ومسمع فل يحسن تركهم على ما
هم عليه والرب سبحانه يطلع على سوء أفعالهم ويستدرجهم من حيث ل
يعلمون ثم قال قد أطلقت أنفاسي ولكن لو وجدت في اقتباس هذا العلم
من يسرد لي هذا الفصل لكان وحق القائم على كل نفس بما كسبت أحب
إلي من ملك الدنيا بحذافيرها أطول أمدها" انتهى كلمه بلفظه وهذا توسط
حسن بين الفريقين وقد أنكره عليه عامة أصحابه منهم النصاري شارح
الرشاد وغيره وقالوا هو أقرب من مذهب
) (19/12
ص -126-المعتزلة ول يرجع الخلف بينه وبينهم إل إلى السم فقط وأن هذا
مما انفرد به ولكن بقي عليه فيه أمور منها أنه نفى كراهة الله لما قدره من
المعاصي بناء على أصله أن كل مراد له فهو محبوب له وأنه إذا كان قد قدر
الكفر والفسوق والعصيان فهو يريده ويحبه ول يكرهه وإن كانت قدرة العبد
واختياره مؤثرة في إيجاد الفعل عنده بأقدار الرب سبحانه وقد أصاب في
هذا وأجاد ولكن القول بأن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان ول
يكرهه إذا كان واقعا قول في غاية البطلن وهو مخالف لصريح العقل والنقل
والذي قاده إلى ذلك قوله أن المحبة هي الرادة والمشيئة وأن كل ما شاءه
فقد أراده وأحبه ومن لم يفرق بين المشيئة والمحبة لزمه أحد أمرين باطلين
ل بد له من التزامه أما القول بأن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق
والعصيان أو القول بأنه ما شاء ذلك ول قدره ول قضاه وقد قال بكل من
المتلزمين طائفة قالت طائفه ل يحبها ول يرضاها فما شاءها ول قضاها
وقالت طائفة هي واقعة بمشيئته وإرادته فهو يحبها ويرضاها فاشترك
الطائفتان في هذا الصل وتباينا في لزمه وقد أنكر الله سبحانه على من
احتج على محبته بمشيئته في ثلثة مواضع من كتابه في سورة النعام
َ ن أَ ْ
شَركَناْ ما أ ْ ه َ شاَء الل ّ ُ كوا ل َوْ َ شَر ُ ذي َل ال ّ ِ قو ُ سي َ ُ والنحل والزخرف فقال تعالىَ } :
ْ ُ َ ّ َ يٍء ك َذ َل ِ َ
سَناحّتى َذاقوا ب َأ َ م َ ن قب ْل ِهِ ْ م ْ ن ِ ذي َب ال ِ ك كذ ّ َ ش ْ ن َ م ْ مَنا ِحّر ْ َول آَباؤَُنا َول َ
َ ّ َ ْ
م إ ِل ّ ن أن ْت ُ ْ ن وَإ ِ ْن إ ِل الظ ّ ّ ن ت َت ّب ُِعو َ جوه ُ لَنا إ ِ ْ خرِ ُ َ
ع لم ٍ ف ت ُ ْ ن ِ م ْم ِ عن ْد َك ُ ْ
ل ِ ل هَ ْ قُ ْ
ن
م ْ ن ِ ذي َ ل ال ّ ِ ك فَعَ َ ن{ وكذلك حكى عنهم في النحل ثم قال} :ك َذ َل ِ َ صو َ خُر ُ تَ ْ
شاءَ ن{ وقال في الزخرف} :وََقاُلوا ل َوْ َ مِبي ُ ل إ ِل ّ ال َْبلغُ ال ْ ُ س ِ ل عََلى الّر ُ م فَهَ ْ قَب ْل ِهِ ْ
م إ ِل ّ ن هُ ْ عل ْم ٍ إ ِ ْ ن ِ م ْ ك ِ م ب ِذ َل ِ َما ل َهُ ْ م َ ما عَب َد َْناهُ ْ ن َ م ُ ح َالّر ْ
) (19/13
154
ن{ فاحتجوا على محبته لشركهم ورضاه به بكونه أقرهم عليه وأنه صو َخُر ُ يَ ْ
لول محبته له ورضاه به لما شاءه منهم وعارضوا بذلك أمره ونهيه ودعوة
الرسل قالوا كيف يأمر بالشيء قد شاء منا خلفه وكيف يكره منا شيئا قد
شاء وقوعه ولو كرهه لم يمكنا منه ولحال بيننا وبينه فكذبهم سبحانه في ذلك
وأخبر أن هذا تكذيب منهم لرسله وأن رسله متفقون على أنه سبحانه يكره
شركهم ويبغضه ويمقته وأنه لول بغضه وكراهته لما أذاق المشركين بالله
عذابه فإنه ل يعذب عبده على ما يحبه ثم طالبهم بالعلم على صحة مذهبهم
بأن الله أذن فيه وأنه يحبه ويرضى به ومجرد إقراره لهم قدرا ل يدل على
ذلك عند أحد من العقلء وإل كان الظلم والفواحش والسعي في الرض
بالفساد والبغي محبوبا له مرضيا ثم أخبر سبحانه أن مستندهم في ذلك إنما
هو الظن وهو أكذب الحديث وأنهم لذلك كانوا أهل الخرص والكذب ثم أخبر
سبحانه أن له الحجة عليهم من جهتين إحداهما ما ركّبه فيهم من العقول
التي يفرقون بها بين الحسن والقبيح والباطل والسماع والبصار التي هي آلة
إدراك الحق والتي يفرق بها بينه وبين الباطل والثانية إرسال رسله وإنزال
كتبه وتمكينهم من اليمان والسلم ولم يؤاخذهم بأحد المرين بل بمجموعها
لكمال عدله وقطعا لعذرهم من جميع الوجوه ولذلك سمى حجته عليهم بالغة
أي قد بلغت غاية البيان وأقصاه بحيث لم يبق معها مقال لقائل ول عذر
وَ
لمعتذر ومن اعتذر إليه سبحانه بعذر صحيح قبله ثم ختم الية بقوله} :فَل ْ
ن{ وأنه ل يكون شيء إل بمشيئته وهذا من تمام حجته شاَء ل َهداك ُ ََ
مِعي َ
ج َ
مأ َْ َ ْ
البالغة فإنه إذا امتنع الشيء لعدم مشيئته لزم وجوده عند مشيئته فما شاء
كان وما لم يشأ لم يكن كان هذا من أعظم أدلة التوحيد ومن أبين أدلة
بطلن ما أنتم عليه من الشرك واتخاذ النداد من دونه فما احتججتم به من
المشيئة على ما أنتم عليه من الشرك هو من
) (19/14
ص -127-أظهر الدلة على بطلنه وفساده فلو أنهم ذكروا القدر والمشيئة
توحيدا له وافتقارا والتجاء إليه وبراءة من الحول والقوة إل به ورغبة إليه أن
يقيلهم مما لو شاء أن ل يقع منهم لما وقع لنفعهم ذلك ولفتح لهم باب
الهداية ولكن ذكروه معارضين به أمره ومبطلين به دعوة الرسل فما ازدادوا
به إل ضلل والمقصود أنه سبحانه قد فرق بين حجته ومشيئته وقد حكى أبو
الحسن الشعري في مقالته اتفاق أهل السنة والحديث على ذلك والذي
حكى عنه ابن فورك في كتاب تجريده لمقالته أنه كان يفرق بين ذلك قال:
"وكان ل يفرق بين الود والحب والرادة والمشيئة والرضا وكان ل يقول أن
شيئا منها يخص بعض المردات دون بعض بل كان يقول أن كل واحد منها
بمعنى صاحبه على جهة التقييد الذي يزول معه البهام وهو أن المؤمن
محبوب لله أن يكون مؤمنا من أهل الخير كما علم والكافر أيضا مراد أن
يكون كافرا كما علم من أهل الشر ويحب أن يكون ذلك كذلك كما علم
وكذلك كان يقول في الرضا والصطفاء والختيار ويقيد اللفظ بذلك حتى ل
يتوهم فيه الخطأ" انتهى والذي عليه أهل الحديث والسنة قاطبه والفقهاء
كلهم وجمهور المتكلمين والصوفية أنه سبحانه يكره بعض العيان والفعال
155
والصفات وإن كانت واقعة بمشيئته فهو يبغضها ويمقتها كما يبغض ذات
إبليس وذوات جنوده ويبغض أعمالهم ول يحب ذلك وإن وجد بمشيئته قال
ن{ وقال:: مي َ ب ال ّ
ظال ِ ِ ح ّ ه ل يُ ِ ساَد{ وقالَ} :والل ّ ُ ف َ ب ال ْ َح ّه ل يُ ِ الله تعالىَ} :والل ّ ُ
نم َسوِء ِ
جهَْر ِبال ّ ه ال ْ َ ب الل ّ ُ ح ّخوٍر{ وقال} ::ل ي ُ ِ ل فَ ُ خَتا ٍ
م ْل ُ ب كُ ّ ح ّ ن الل ّ َ
ه ل يُ ِ }إ ِ ّ
ن{ وقال:: دي َمعْت َ ِ ْ
ب ال ُ ح ّ ه ل يُ ِ ّ
ن الل َدوا إ ِ ّم{ وقالَ} ::ول ت َعْت َ ُ ُ
ن ظل ِ َ م ْ ّ
ل إ ِل َ قو ْ ِ ال ْ َ
فَر{ فهذا إخبار عن عدم ضى ل ِعَِبادِهِ ال ْك ُ ْ م َول ي َْر َ ي عَن ْك ُ ْه غَن ِ ّن الل ّ َ فُروا فَإ ِ ّ ن ت َك ْ ُ }إ ِ ْ
محبته لهذه المور ورضاه بها بعد وقوعها فهذا صريح في إبطال
) (19/15
قول من تأول النصوص على أنه ل يحبها ممن لم تقع منه ويحبها إذا وقعت
فهو يحبها ممن وقعت منه ول يحبها ممن لم تقع منه وهذا من أعظم الباطل
والكذب على الله بل هو سبحانه يكرهها ويبغضها قبل وقوعها وحال وقوعها
وبعد وقوعها فإنها قبائح وخبائث والله منزه عن محبة القبيح والخبيث بل هو
مك ُْروهًا{ وقد عن ْد َ َرب ّ َ
ك َ سي ّئ ُ ُ
ه ِ ن َ ك َ
كا َ أكره شيء إليه قال الله تعالى} :ك ُ ّ
ل ذ َل ِ َ
أخبر سبحانه أنه يكره طاعات المنافقين ولجل ذلك يثبطهم عنها فكيف يحب
نفاقهم ويرضاه ويكون أهله محبوبين له مصطفين عنده مرضيين ومن هذا
الصل الباطل نشأ قولهم باستواء الفعال بالنسبة إلى الرب سبحانه وأنها ل
تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح فل فرق بالنسبة إليه سبحانه بين الشكر
والكفر ولذلك قالوا ل يجب شكره على نعمه عقل فعن هذا الصل قالوا أن
مشيئته هي عين محبته وإن كل ما شاءه فهو محبوب له ومرضى له
ومصطفى ومختار فلم يمكنهم بعد تأصل هذا الصل أن يقولوا أنه يبغض
العيان والفعال التي خلقها ويحب بعضها بل كل ما فعله وخلقه فهو محبوب
له والمكروه المبغوض ما لم يشأه ولم يخلقه وإنما أصلوا هذا الصل
محافظة منهم على القدر فحثوا به على الشرع والقدر والتزموا لجله لوازم
شوشوا بها على القدر والحكمة وكابروا لجلها صريح العقل وسووا بين أقبح
القبائح وأحسن الحسنات في نفس المر وقالوا هما سواء ل فرق بينهما إل
بمجرد المر والنهي فالكذب عندهم والظلم والبغي والعدوان مساو للصدق
والعدل والحسان في نفس المر ليس في هذا ما يقتضي حسنه ول في هذا
ما يقتضي قبحه وجعلوا هذا المذهب شعارا لهل السنة والقول بخلفه قول
أهل البدع من المعتزلة وغيرهم ولعمر الله أنه لمن أبطل القوال وأشدها
منافاة
) (19/16
ص -128-للعقل والشرع ولفطرة الله التي فطر عليها خلقه وقد بينا بطلنه
من أكثر من خمسين وجها في كتاب المفتاح والمقصود أنه لما انضم القول
به إلى القول بأنه سبحانه ل يحب شيئا ويبغض شيئا بل كل موجود فهو
محبوب له وكل معدوم فهو مكروه له وانضم إلى هذين الخرين إنكار الحكم
والغايات المطلوبة في أفعاله سبحانه وأنه ل يفعل شيئا لمعنى ألبتة وانضم
إلى ذلك إنكار السباب وأنه ل يفعل شيئا بشيء وإنكار القوى والطبائع
والغرائز وأن تكون أسبابا أو يكون لها أثر انسد عليهم باب الصواب في
156
مسائل القدر والتزموا لهذه الصول الباطلة لوازم هي أظهر بطلنا و فسادا
و هي من أول شيء على فساد هذه الصول وبطلنها فإن فساد اللزم من
فساد ملزومه فإن قيل الكراهة والمحبة ترجع إلى المنافرة والملئمة للطبع
وذلك محال في حق من ل يصف بطبع ول منافرة ول ملئمة قيل قد دلت
النصوص التي ل تدفع على وصفه تعالى بالمحبة و الكراهة فتبينكم حقائق ما
دلت عليه بالتعبير عنها بملئمة الطبع ومنافرته باطل وهو كنفي كل مبطل
حقائق أسمائه وصفاته بالتعبير عنها بعبارات اصطلحية توصل بها إلى نفي ما
وصف به نفسه كتسمية الجهمية المعطلة صفاته أعراضا ثم توصلوا بهذه
التسمية إلى نفيها وسموا أفعاله القائمة به حوادث ثم توصلوا بهذه التسمية
إلى نفيها وقالوا ل تحله الحوادث كما قالت المعطلة ل تقوم به العراض
وسموا علوه على خلقه واستواءه على عرشه وكونه قاهرا فوق عباده تحيزا
وتجسما ثم توصلوا بنفي ذلك إلى نفي علوه عن خلقه واستوائه على عرشه
وسموا ما أخبر به عن نفسه من الوجه واليدين والصبع جوارح وأعضاء ثم
َ
ماٌء ي إ ِل ّأ ْ
س َ ن هِ َ نفوا ما أثبته لنفسه بتسميتهم له بغير تلك السماء} :إ ِ ْ
ما
ن وَ َ ّ
لالظ ّ ن إِ ّ
ن ي َت ّب ُِعو َن إِ ْ سل ْ َ
طا ٍ ن ُ
م ْ
ه ب َِها ِ ما أ َن َْز َ
ل الل ّ ُ م َم َوآَباؤُك ُ ْ
سميتمو َ َ
ها أن ْت ُ ْ َ ّ ُْ ُ
ن َ َ
م ْ م ِ جاَءهُ ْ قد ْ َس وَل َ ف ُ وى الن ْ ُ ت َهْ َ
) (19/17
) (19/18
157
ص -129-وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي والمام أحمد وغيرهم هذا
اللفظ قال الوزاعي والزبيدي" :ليس في الكتاب والسنة لفظ جبر وإنما
جاءت السنة بلفظ الجبر كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال" :لشج عبد القيس إن فيك خلقين يحبهما الله الحلم والناة فقال
أخلقين تخلقت بهما أم جبلت عليهما فقال :بل جبلت عليهما فقال الحمد لله
الذي جبلني على ما يحب" فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جبله
على الحلم والناة وهما من الفعال الختيارية وإن كانا خلقين قائمين بالعبد
فإن من الخلق ما هو كسبي ومنها ما ل يدخل تحت الكسب والنوعان قد
جبل الله العبد عليهما وهو سبحانه يهب ما جبل عبده عليه من محاسن
الخلق ويكره ما جبله عليه من مساويها فكلهما بجبله وهذا محبوب له وهذا
مكروه كما أن جبريل صلوات الله عليه مخلوق له وإبليس عليه لعائن الله
مخلوق له وجبريل محبوب له مصطفى عنده وإبليس أبغض خلقه إليه ومما
يوضح ذلك أن لفظ الجبر لفظ مجمل فإنه يقال أجبر الب ابنته على النكاح
وجبر الحاكم الرجل على البيع ومعنى هذا الجبر أكرهه عليه ليس معناه أنه
جعله محبا لذلك راضيا به مختارا له والله تعالى إذا خلق فعل العبد جعله
محبا له مختارا ليقاعه راضيا به كارها لعدمه فإطلق لفظ الجبر على ذلك
فاسد لفظا ومعنى فإن الله سبحانه أجل وأعز من أن يجبر عبده بذلك
المعنى وإنما يجبر العاجز عن أن يجعل غيره فاعل بإرادته ومحبته ورضاه
وأما من جعل فعل العبد مريدا محبا مؤثرا لما يفعله فكيف يقال أنه جبره
عليه فهو سبحانه أجل وأعظم وأقدر من أن يجبر عبده ويكرهه على فعل
يشاؤه منه بل إذا شاء من عبده أن يفعل فعل جعله قادرا عليه مريدا له محبا
مختارا ليقاعه وهو أيضا قادر على أن يجعله فاعل له باختياره مع كراهته له
وبغضه ونفرته عنه فكل ما يقع من العباد بإرادتهم ومشيئاتهم فهو سبحانه
الذي جعلهم فاعلين له سواء أحبوه و أبغضوه
) (19/19
وكرهوه وهو سبحانه لم يجبرهم في النوعين كما يجبر غيره من ل يقدر على
جعله فاعل بإرادته ومشيئته نعم نحن ل ننكر استعمال لفظ الجبر فيما هو
أعم من ذلك بحيث يتناول من قهر غيره وقدر على جعله فاعل لما يشاء
فعله وتاركا لما ل يشاء فعله فإنه سبحانه المحدث لرادته له وقدرته عليه
قال محمد بن كعب القرطبي في اسم الجبار" :أنه سبحانه هو الذي جبر
العباد على ما أراد" وفي الدعاء المعروف عن علي رضي الله عنه" :اللهم
داحي المدحوات وبارئ المسموكات جبار القلوب على فطرتها شقيها
وسعيدها" فالجبر بهذا المعنى معناه القهر والقدرة وأنه سبحانه قادر على أن
يفعل بعبده ما شاء وإذا شاء منه شيئا وقع ول بد وإن لم يشأ لم يكن ليس
كالعاجز الذي يشاء ما ل يكون ويكون ما ل يشاء والفرق بين هذا الجبر وجبر
المخلوق لغيره من وجوه ،أحدها أن المخلوق ل قدرة له على جعل الغير
مريدا للفعل محبا له والرب تعالى قادر على جعل عبده كذلك ،الثاني أن
المخلوق قد يجبر غيره إجبارا يكون به ظالما معتديا عليه والرب أعدل من
ذلك فإنه ل يظلم أحدا من خلقه بل مشيئته نافذة فيهم بالعدل والحسان بل
158
عدله فيهم من إحسانه إليهم كما سنبينه إن شاء الله تعالى ،الثالث أن
المخلوق يكون في جبره لغيره سفيها أو عائبا أو جاهل والرب تعالى إذا جبر
عبده على أمر من المور كان له في ذلك من الحكمة والعدل والحسان
والرحمة ما هو محمود عليه بجميع وجوه الحمد ،الرابع أن المخلوق يجبر
غيره لحاجته إلى ما جبره عليه ولنتفاعه بذلك وهذا لنه فقير بالذات وأما
الرب تعالى فهو الغني بذاته الذي كل ما سواه محتاج إليه وليس به حاجة
إلى أحد ،الخامس أن المخلوق يجبر غيره
) (19/20
) (19/21
وذلك ل يصير العبد فاعل فالمخلوق هو يجبر غيره على الفعل ويكرهه عليه
فنسبه ذلك إلى الرب تشبيه له في أفعاله بالمخلوق الذي ل يجعل غيره
فاعل إل بجبره له وإكراهه فكمال قدرته تعالى وكمال علمه وكمال مشيئته
وكمال عدله وإحسانه وكمال غناه وكمال ملكه وكمال حجته على عبده تنفي
159
الجبر.
فصل :فالطوائف كلها متفقة على الكسب ومختلفون في حقيقته فقالت
القدرية هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلل وليس للرب صنع فيه
ول هو خالق فعله ول مكونه ول مريدا له وقالت الجبرية الكسب اقتران
الفعل بالقدرة الحادثه من غير أن يكون لها فيه أمر وكل الطائفتين فرق بين
الخلق والكسب ثم اختلفوا فيما وقع به الفرق فقال الشعري في عامة كتبه:
"معنى الكسب أن يكون الفعل بقدرة محدثة فمن وقع منه الفعل بقدرة
قديمة فهو فاعل خالق ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب" وقال
قائلون من يفعل بغير آلة ول جارحة فهو خالق ومن يحتاج في فعله إلى
اللت والجوارح فهو مكتسب وهذا قول السكافي وطوائف من المعتزلة
قال واختلفوا هل يقال أن النسان فاعل على الحقيقة فقالت المعتزلة كلها
إل الناشئ" :أن النسان فاعل محدث ومخترع ومنشئ على الحقيقة دون
المجاز" وقال الناشئ" :النسان ل يفعل في الحقيقة ول يحدث في الحقيقة"
وكان يقول" :أن البارئ أحدث كسب النسان قال فلزمه محدث ل لمحدث
في الحقيقة ومفعول ل لفاعل في الحقيقة" قلت وجه إلزامه ذلك أنه قد
أعطى أن النسان غير فاعل
) (19/22
160
) (19/23
فأحدث لها شكرا وإذا أحدثت ذنبا فأحدث له توبة" ومنه قوله هل أحدثت
توبة وأحدث للذنب استغفارا ول يلزم من ذلك إطلق اسم المحدث عليه
والحداث على فعله قال الشعري وبلغني أن بعضهم أطلق في النسان أنه
محدث في الحقيقة بمعنى مكتسب قلت ههنا ألفاظ وهي فاعل وعامل
ومكتسب وكاسب وصانع ومحدث وجاعل ومؤثر ومنشئ وموجد وخالق
وبارئ ومصور وقادر ومريد وهذه اللفاظ ثلثة أقسام قسم لم يطلق إل على
الرب سبحانه كالبارئ والبديع والمبدع وقسم ل يطلق إل على العبد
كالكاسب والمكتسب وقسم وقع إطلقه على الرب والعبد كاسم صانع
وفاعل وعامل ومنشئ ومريد وقادر وأما الخالق والمصور فإن استعمل
مطلقين غير مقيدين لم يطلقا إل على الرب كقوله الخالق البارئ المصور
وإن استعمل مقيدين أطلقا على العبد كما يقال لمن قدر شيئا في نفيه أنه
خلقه قال:
ولنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم ل يفر
أي لك قدرة تمضي وتنفذ بها ما قدرته في نفسك وغيرك يقدر أشياء وهو
عاجز عن إنفاذها وإمضائها وبهذا العتبار صح إطلق خالق على العبد في
ن{ أي أحسن المصورين والمقدرين ن ال ْ َ ك الل ّ َ
قوله تعالى} :فَت ََباَر َ
قي َ
خال ِ ِ س ُ
ح َ
هأ ُْ
والعرب تقول قدرت الديم وخلقته إذا قسته لتقطع منه مزادة أو قربة
ونحوها قال مجاهد" :يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين" وقال الليث:
"رجل خالق أي صانع وهن الخالقات للنساء" وقال مقاتل" :يقول تعالى هو
أحسن خلقا من الذين يخلقون التماثيل وغيرها التي ل يتحرك منها شيء وأما
البارئ فل يصح إطلقه إل عليه سبحانه فإنه الذي برأ الخليقة وأوجدها بعد
عدمها
) (19/24
161
أوجده مال وغنى وأن يكون من باب صيره واجدا مثل أغناه وأفقره إذا صيره
غنيا وفقيرا فعلى التقدير الول يكون تعديه وجد مال وغنى وأوجده الله إياه
وعلى الثاني يكون تعديه وجد وجدا إذا استغنى ومصدر هذا الوجد بالضم
َ
م{ فغير جدِك ُ ْ ن وُ ْ
م ْ م ِسك َن ْت ُ ْث َ حي ْ ُ
ن َ
م ْ ن ِ سك ُِنوهُ ّ
والفتح والكسر قال تعالى} :أ ْ
ممتنع أن يطلق على من يفعل بالقدرة المحدثة أنه أوجد مقدوره كما يطلق
عليه أنه فعله وعمله وصنعه وأحدثه ل على سبيل الستقلل وكذلك لفظ
المؤثر لم يرد إطلقه في أسماء الرب وقد وقع إطلق الثر والتأثير! على
م{ قالموا َوآَثاَرهُ ْ ما قَد ّ ُ ب َ موَْتى وَن َك ْت ُ ُي ال ْ َح ِ
ن نُ ْح ُ فعل العبد قال تعالى} :إ ِّنا ن َ ْ
ابن عباس" :ما أثروا من خير أو شر فسمى ذلك آثارا لحصوله بتأثيرهم"
ومن
) (19/25
) (19/26
162
فهو منشأ لذلك وهذا إنشاء مقيد وإنشاء الرب إنشاء مطلق وهذه اللفظة
تدور على معنى البتداء أنشأه الله أي ابتدأ خلقه وأنشأ يفعل كذا ابتداء
وفلن ينشئ الحاديث أي يبتدئ وضعها والناشئ أول ما ينشأ من السحاب
قال الجوهري" :وناشئة الليل أول ساعاته" قلت هذا قد قاله غير واحد من
السلف إن ناشئة الليل أوله التي منها ينشأ الليل والصحيح أنها ل تختص
بالساعة الولى بل هي ساعاته ناشئة بعد ناشئة كلما انقضت ساعة نشأت
بعدها أخرى وقال أبو عبيدة" :ناشئة الليل ساعاته وآناؤه ناشئة بعد ناشئة"
قال الزجاج" :ناشئة الليل كلما نشأ منه أي حدث منه فهو ناشئة" قال ابن
قتيبة" :هي آناء الليل وساعاته" مأخوذة من نشأت تنشأ نشأ أي ابتدأت
وأقبلت شيئا بعد شيء وأنشأها الله فنشأت والمعنى أن ساعات الليل
الناشئة وقول صاحب الصحاح منقول عن كثير من السلف قال علي بن
الحسين" :ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء" وهذا قول أنس وثابت
وسعيد بن جبير والضحاك والحكم واختيار الكسائي قالوا" :ناشئة الليل أوله"
وهؤلء راعوا معنى الولية في الناشة وفيها قول ثالث أن الليل كله ناشئة
وهذا قول عكرمة وأبي مجلز ومجاهد والسدي وابن الزبير وابن عباس في
رواية قال ابن أبي مليكة سألت ابن الزبير وابن عباس عن ناشئة الليل فقال:
"الليل كله ناشئة" فهذه أقوال من جعل ناشئة الليل زمانا وأما من جعلها
فعل ينشأ بالليل فالناشئة عندهم اسم لما يفعل بالليل من القيام وهذا قول
ابن
) (19/27
مسعود ومعاوية بن قرة وجماعة قالوا" :ناشئة الليل قيام الليل" وقال
آخرون منهم عائشة إنما يكون القيام ناشئة إذا تقدمه نوم قالت عائشة:
"ناشئة الليل القيام بعد النوم" وهذا قول ابن العرابي قال" :إذا نمت من
أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة" ومنه ناشئة الليل فعلى قول الولين
ناشئة الليل بمعنى من إضافة نوع إلى جنسه أي ناشئة منه وعلى قول هؤلء
إضافة بمعنى في أي طاعة ناشئة فيه والمقصود أن النشاء ابتداء سواء
تقدمه مثله كالنشأة الثانية أو لم يتقدمه كالنشأة الولى وأما الجعل فقد
أطلق على الله سبحانه بمعنيين أحدهما :اليجاد والخلق والثاني :التصيير
فالول يتعدى إلى مفعول كقوله وجعلنا الظلمات والنور والثاني :أكثر ما
جعَل َْناه ُ قُْرآنا ً عََرب ِي ًّا{ وأطلق على العبد يتعدى إلى مفعولين كقوله} :إ ِّنا َ
ً َ ْ ْ َ ّ ُ
صيبا{ ث َوالن َْعام ِ ن َ ِ حْر ِ ن ال َ م َ ما ذ ََرأ ِ م ّ جعَلوا ل ِلهِ ِ بالمعنى الثاني خاصة كقوله} :وَ َ
وغالب ما يستعمل في حق العبد في جعل التسمية والعتقاد حيث ل يكون
ً
ن إ َِناثا{ ة ال ّ ِملئ ِك َ َ جعَُلوا ال ْ َ
م ِ ح َ عَباد ُ الّر ْ م ِ ن هُ ْ ذي َ له صنع في المجعول كقوله} :وَ َ
حلل{ً ً
حَراما وَ َ ه َمن ْ ُ م ِ ْ
جعَلت ُ ْ َ
قف َ ن رِْز ٍ م ْم ِ ه ل َك ْ
ُ ل الل ّ ُ ما أ َن َْز َ
م َ
وقوله} :قُ ْ َ َ
ل أَرأي ْت ُ ْ
وهذا يتعدى إلى واحد وهو جعل اعتقاد وتسمية وأما الفعل والعمل فإطلقه
مان{} :ب ِ َ مُلو َ كاُنوا ي َعْ َ ما َ س َ ن{} :ل َب ِئ ْ َ فعَُلو َ كاُنوا ي َ ْ ما َ س َ على العبد كثير} :ل َب ِئ ْ َ
ما ه َ ل الل ّ ُ فعَ ُ ن{ وأطلقه على نفسه فعل واسما فالول كقوله} :وَي َ ْ مُلو َ ك ُن ْت ُ ْ
م ت َعْ َ
ن{ في موضعين عِلي َ د{ وقوله} :وَك ُّنا َفا ِ ري ُما ي ُ ِ ل لِ َ شاُء{ والثاني كقوله} :فَّعا ٌ يَ َ
ّ
ن َوالطي َْر وَك ُّنا ح َ سب ّ ْل يُ َ جَبا َ ْ
معَ َداوُد َ ال ِ خْرَنا َ س ّ من كتابه أحدهما قوله} :وَ َ
163
ما ب َد َأ َْنا ل ل ِل ْك ُت ُ ِ
ب كَ َ ج ّ
س ِ ماءَ ك َط َ ّ
ي ال ّ س َ م ن َط ْ ِ
وي ال ّ ن{ والثاني قوله} :ي َوْ َ
عِلي ََفا ِ
أ َوّ َ
ل
) (19/28
ن{ فتأمل قوله كنا فاعلين في هذين عدا ً عَل َي َْنا إ ِّنا ك ُّنا َفا ِ
عِلي َ ق ن ُِعيد ُه ُ وَ ْ َ ْ
خل ٍ
الموضعين
) (19/29
شفاء العليل
الباب الثامن عشر :في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والنفعال
الباب الثامن عشر :في فعل وافعل في القضاء والقدر والكسب وذكر الفعل
والنفعال
ينبغي العتناء بكشف هذا الباب وتحقيق معناه فبذلك ينحل عن العبد أنواع
من ضللت القدرية والجبرية حيث لم يعطوا هذا الباب حقه من العرفان،
اعلم أن الرب سبحانه فاعل غير منفعل والعبد فاعل منفعل وهو في فاعليته
منفعل للفاعل الذي ل ينفعل بوجه فالجبرية شهدت كونه منفعل يجري عليه
الحكم بمنزلة اللة والمحل وجعلوا حركته بمنزلة حركات الشجار ولم
يجعلوه فاعل إل على سبيل المجاز فقام وقعد وأكل وشرب وصلى وصام
عندهم بمنزلة مرض وألم ومات ونحو ذلك مما هو فيه منفعل محض
والقدرية شهدت كونه فاعل محضا غير منفعل في فعله وكل من الطائفتين
نظر بعين عوراء وأهل العلم والعتدال أعطوا كل المقامين حقه ولم يبطلوا
أحد المرين بالخر فاستقام لهم نظرهم ومناظرتهم واستقر عندهم الشرع
والقدر في نصابه ومهدوا وقوع الثواب والعقاب على من هو أولى به فأثبتوا
م جُلودِهِ ْ
م لِ َ نطق العبد حقيقة وإنطاق الله له حقيقة قال تعالى} :وََقاُلوا ل ِ ُ
يٍء{ فالنطاق فعل الله ش ْ ل َ ذي أ َن ْط َقَ ك ُ ّ ه ال ّ ِ
قَنا الل ّ ُ م عَل َي َْنا َقاُلوا أ َن ْط َ َ َ
شهِد ْت ُ ْ
الذي ل يجوز تعطيله والنطق فعل العبد الذي ل يمكن إنكاره كما قال تعالى:
َ َ
ن{ فعلم أن كونهم قو َم ت َن ْط ِ ُ ما أن ّك ُ ْل َمث ْ َ
حق ّ ِ ه لَ َ ض إ ِن ّ ُ
ماِء َوالْر ِ س َ ب ال ّ }فَوََر ّ
ينطقون هو أمر حقيقي حتى شبه به في تحقيق كون ما أخبر به وأن هذا
حقيقة ل مجاز ومن جعل إضافة نطق العبد إليه مجازا لم يكن ناطقا عنده
حقيقه فل يكون التشبيه بنطقه محققا لما أخبر به فتأمله ونظير هذا قوله
كى{ فهو المضحك المبكي حقيقة والعبد الضاحك ك وَأ َب ْ َ ح َض َ
َ
ه هُوَ أ ْ
َ
تعالى} :وَأن ّ ُ
كوا ك َِثيرًا{
كوا قَِليل ً وَل ْي َب ْ ُ ح ُض َالباكي حقيقة كما قال تعالى} :فَل ْي َ ْ
164
) (20/1
َ
ن{ فلول المنطق الذي كو َ ن َول ت َب ْ ُ كو َ ح ُض َ ن وَت َ ْ جُبو َث ت َعْ َ
دي ِح ِ ذا ال ْ َ ن هَ َ م ْوقال} :أفَ ِ
أنطق والمضحك المبكي الذي أضحك وأبكى لم يوجد ناطق ول ضاحك ول
باك فإذا أحب عبدا أنطقه بما يحب وأثابه عليه وإذا أبغضه أنطقه بما يكرهه
فعاقبه عليه وهو الذي أنطق هذا وهذا وأجرى ما يحب على لسان هذا وما
يكره على لسان هذا كما أنه أجرى على قلب هذا ما أضحكه وعلى قلب هذا
ر{ وقوله: م ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ
ح ِ سي ُّرك ُ ْ ذي ي ُ َ ما أبكاه وكذلك قوله تعالى} :هُوَ ال ّ ِ
ض{ فالتسيير فعله حقيقة والسير فعل العبد حقيقة َ }ق ُ ْ
سيُروا ِفي الْر ِ ل ِ
ضىما قَ َ َ
فالتسيير فعل محض والسير فعل وانفعال ومن هذا قوله تعالى} :فَل ّ
جَناك ََها{ فهو سبحانه المزوج ورسوله المتزوج وكذلك قوله: طرا ً َزوّ ْمن َْها وَ َ
َزي ْد ٌ ِ
ن{ فهو المزوج وهم المتزوجون وقد جمع سبحانه بين عي ٍ حورٍ ِ م بِ ُجَناهُ ْ
}وََزوّ ْ
ُ ّ َ َ ُ َ
م{ فالزاغة فعله والزيغ فعلهم ه قُلوب َهُ ْ ما َزاغوا أَزاغ الل ُ المرين في قوله} :فَل ّ
فإن قيل أنتم قررتم أنه لم يقع منهم الفعل إل بعد فعله وأنه لول إنطاقه لهم
وإضحاكه وإبكاؤه لما نطقوا ول ضحكوا ول بكوا وقد دلت هذه الية على أن
فعله بعد فعلهم وأنه أزاغ قلوبهم بعد أن
) (20/2
165
فهو سبحانه ماض في عبده حكمه عدل فيه قضاؤه وله فيها قضاآن قضاء
السبب
) (20/3
وقضاء المسبب وكلهما عدل فيه فإنه لما ترك ذكره وترك فعل ما يحبه
عاقبه بنسيان نفسه فأحدث له هذا النسيان ارتكاب ما يبغضه ويسخطه
بقضائه الذي هو عدل فترتب له على هذا الفعل والترك عقوبات وآلم لم
يكن له منها بد بل هي مترتبة عليه ترتب المسببات على أسبابها فهو عدل
محض من الرب تعالى فعدل في العبد أول وآخرا فهو محسن في عدله
محبوب عليه محمود فيه يحمده من عدل فيه طوعا وكرها قال الحسن" :لقد
دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيل" وستزيد هذا الموضع
بسطا وبيانا في باب دخول الشر في القضاء اللهي إن شاء الله إذ المقصود
ههنا بيان كون العبد فاعل منفعل والفرق في هذا الباب بين فعل وافعل وأن
الله سبحانه أفعل والعبد فعل فهو الذي أقام العبد وأضله وأماته والعبد هو
الذي قام وضل ومات وأما قولكم أن معنى أنطقه وأضحكه وأبكاه جعل له
آلة ينطق بها ويضحك ويبكي فإعطاؤه اللة وحدها ل يكفي في صدق الفعل
بأنه أنطقه وأضحكه فلو أن رجل صمت يوما كامل فحلف حالف أن الله
أنطقه لكان كاذبا حانثا ولو دعوت كافرين إلى السلم فنطق أحدهما بكلمة
الشهادة وسكت الخر لم يقل أحد قط إن الله قد أنطق الساكت كما أنطق
المتكلم وكلهما قد أعطى آلة النطق ومتعلق المر والنهي والثواب والعقاب
الفعل ل الفعال ،فإن قيل هل تطردون هذا في جميع أفعال العبد من كفره
وزناه وسرقته فتقولون أن الله أفعله وهو الذي فعل أو تخصون ذلك ببعض
الفعال فيظهر تناقضكم ،قيل ههنا أمران أمر لغوي وأمر معنوي فأما اللغوي
فإن ذلك ل يطرد في لغة
) (20/4
166
فينكرها من يريد باطلها فيرد عليه من يريد حقها وهذا باب إذا تأمله الذكي
الفطن رأى منه عجائب وخلصه من ورطات تورط فيها أكثر الطوائف
فالجعل المضاف إلى الله سبحانه يراد به الجعل الذي يحبه ويرضاه والجعل
صيل َةٍ َول
سائ ِب َةٍ َول وَ ِ
حيَرةٍ َول َ
ن بَ ِ م ْ
ه ِل الل ّ ُ جعَ َما َ الذي قدره وقضاه قال اللهَ } :
م{ فهذا نفي لجعله الشرعي الديني أي ما شرع ذلك ول أمر به ول أحبه حا ٍ
َ
ن إ ِلى الّناِر{ فهذا جعل كوني َ َ ْ
عو َ ة ي َد ْ ُ
م ً
م أئ ِ ّجعَلَناهُ ْ
ورضيه وقال تعالى} :وَ َ
قدري أي قدرنا ذلك وقضيناه وجعل العبد إماما يدعو إلى النار أبلغ من جعله
يزني ويسرق ويقتل وجعله كذلك أيضا لفظ مجمل يراد به أنه جبره
) (20/5
وأكرهه عليه واضطره إليه وهذا محال في حق الرب تعالى وكماله المقدس
يأبى ذلك وصفات كماله تمنع منه كما تقدم ويراد به أنه مكنه من ذلك
وأقدره عليه من غير أن يضطره إليه ول أكرهه ول أجبره فهذا حق ،فإن قيل
هذا كله عدول عن المقصود فمن أحدث معصية وأوجدها وأبرزها من العدم
إلى الوجود ،قيل الفاعل لها هو الذي أوجدها وأحدثها وأبرزها من العدم إلى
الوجود بأقدار الله له على ذلك وتمكينه منه من غير إلجاء له ول اضطرار منه
إلى فعلها ،فإن قيل فمن الذي خلقها إذا ،قيل لكم ومن الذي فعلها فإن قلتم
الرب سبحانه هو الفاعل للفسوق والعصيان أكذبكم العقل والفطرة وكتب
الله المنزلة وإجماع رسله وإثبات حمده وصفات كماله فإن فعله سبحانه كله
خير وتعالى أن يفعل شرا بوجه من الوجوه فالشر ليس إليه والخير هو الذي
إليه ول يفعل إل خيرا ول يريد إل خيرا ولو شاء لفعل غير ذلك ولكنه تعالى
تنزه عن فعل مال ينبغي وإرادته ومشيئته كما هو منزه عن الوصف به
والتسمية به ،وإن قلتم العبد هو الذي فعلها بما خلق فيه من الرادة
والمشيئة ،قيل فالله سبحانه خالق أفعال العباد كلها بهذا العتبار ولو سلك
الجبري مع القدري هذا المسلك لستراح معه وأراحه وكذلك القدري معه
ولكن انحرف الفريقان عن سواء السبيل كما قال:
سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب
فإن قيل فهل يمكنه المتناع منها وقد خلقت فيه نفسها أو أسبابها الموجبة
لها وخلق السبب الموجب خلق لمسببه وموجبه قيل هذا السؤال يورد على
وجهين أحدهما أن يراد به أنه يصير مضطرا إليها
) (20/6
ص -137-ملجأ إلى فعلها بخلقها أو خلق أسبابها بحيث ل يبقى له اختيار في
نفسه ول إرادة وتبقى حركته قسرية ل إرادية الثاني أنه هل لختياره وإرادته
وقدرته تأثير فيها أو التأثير لقدرة الرب ومشيئته فقط وذلك هو السبب
الموجب للفعل فإن أوردتموه على الوجه الول فجوابه أنه يمكنه أن يفعل
وأن ل يفعل ول يصير مضطرا ملجأ بخلقها فيه ول بخلق أسبابها ودواعيها
فإنها إنما خلقت فيه على وجه يمكنه فعلها وتركها ولو لم يمكنه الترك لزم
اجتماع النقيضين وأن يكون مريدا غير مريد فاعل غير فاعل ملجأ غير ملجأ
وأن أوردتموه على الوجه الثاني فجوابه أن لرادته واختياره وقدرته أثرا فيها
167
وهي السبب الذي خلقها الله به في العبد فقولكم أنه ل يمكنه الترك مع
العتراف بكونه متمكنا من الفعل جمع بين النقيضين فإنه إذا تمكن من
الفعل كان الفعل اختياريا إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله فكيف يصح أن
يقال ل يمكنه ترك الفعل الختياري الممكن هذا خلف من القول وحقيقة
المر أنه يمكنه الترك لو أراده لكنه ل يريده فصار لزما بالرادة الجازمة،
فإن قيل فهذا يكفي في كونه مجبورا عليه ،قيل هذا من أدل شيء على
بطلن الجبر فإنه إنما لزم بإرادته المنافية للجبر ولو كان وجوب الفعل
بالرادة يقتضي الجبر لكان الرب تعالى وتقدس مجبورا على أفعاله لوجوبها
بإرادته ومشيئته وذلك محال ،فإن قيل الفرق أن إرادة الرب تعالى من نفسه
لم يجعله غيره مريدا والعبد إرادته من ربه إذ هي مخلوقة له فإنه هو الذي
جعله مريدا ،قيل هذا موضع اضطرب فيه الناس فسلكت فيه القدرية واديا
وسلكت الجبرية واديا فقالت القدرية العبد هو الذي يحدث إرادته وليست
مخلوقة لله والله مكنه من إحداث إرادته بأن خلقه كذلك وقالت الجبرية بل
الله هو الذي يحدث إرادات العبد شيئا بعد شيء فإحداث الرادات فيه
كإحداث لونه وطوله وقصره وسواده وبياضه مما ل صنع له فيه البتة فلو أراد
أن ل يريد لما أمكنه ذلك
) (20/7
وكان كما لو أراد أن يكون طوله وقصره ولونه على غير ما هو عليه فهو
مضطر إلى الرادة وكل إرادة من إراداته فهي متوقفة على مشيئة الرب لها
بخصوصها فهي مرادة له سبحانه كما هي معلومة مقدورة فلزمهم القول
بالجبر من هذه الجهة ومن جهة تفيهم أن يكون لرادة العبد وقدرته أثر في
الفعل ،فإن قيل فأي واد تسلكونه غير هذين الواديين وأي طريق تمرون فيها
سوى هذين الطريقين ،قيل نعم ههنا طريقة ثالثة لم يسلكها الفريقان ولم
يهتد إليها الطائفتان ولو حكمت كل طائفة ما معها من الحق والتزمت لوازمه
وطردته لساقها إلى هذه الطريق ولوقعها على المحجة المستقيمة فنقول
وبالله التوفيق وهو المستعان وعليه التكلن ول حول ول قوة إل بالله ،العبد
بجملته مخلوق لله جسمه وروحه وصفاته وأفعاله وأحواله فهو مخلوق من
جميع الوجوه وخلق على نشأة وصفة يتمكن بها من إحداث إرادته وأفعاله
وتلك النشأة بمشيئة الله وقدرته وتكوينه فهو الذي خلقه وكونه كذلك وهو لم
يجعل نفسه كذلك بل خالقه وباريه جعله محدثا لرادته وأفعاله وبذلك أمره
ونهاه وأقام عليه حجته وعرضه للثواب والعقاب فأمره بما هو متمكن من
إحداثه ونهاه عما هو متمكن من تركه ورتب ثوابه وعقابه على هذه الفعال
والتروك التي مكنه منها وأقدره عليها وناطها به وفطر خلقه على مدحه
وذمه عليها مؤمنهم وكافرهم المقر بالشرائع منهم والجاحد لها فكان مريدا
شائيا بمشيئة الله له ولول مشيئة الله أن يكون شائيا لكان أعجز وأضعف من
أن يجعل نفسه شائيا فالرب سبحانه أعطاه مشيئة وقدره وإرادة وعرفه ما
ينفعه وما يضره وأمره أن يجري مشيئته وإرادته
) (20/8
168
ص -138-وقدرته في الطريق التي يصل بها إلى غاية صلحه فإجراؤها في
طريق هلكه بمنزلة من أعطى عبده فرسا يركبها وأوقفه على طريق نجاة
وهلكة وقال أجرها في هذه الطريق فعدل بها إلى الطريق الخرى وأجراها
فيها فغلبته بقوة رأسها وشدة سيرها وعز عليه ردها عن جهة جريها وحيل
بينه وبين إدارتها إلى ورائها مع اختيارها وإرادتها فلو قلت كان ردها عن
طريقها ممكنا له مقدورا أصبت وإن قلت لم يبق في هذه الحال بيده من
أمرها شيء ول هو متمكن أصبت بل قد حال بينه وبين ردها من يحول بين
المرء وقلبه ومن يقلب أفئدة المعاندين وأبصارهم وإذا أردت فهم هذا على
الحقيقة فتأمل حال من عرضت له سورة بارعة الجمال فدعاه حسنها إلى
محبتها فنهاه عقله وذكره ما في ذلك من التلف والعطب وأراه مصارع
العشاق عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه فعاد يعاود النظر
مرة مرة ويحث نفسه على التعلق وقوة الرادة ويحرض على أسباب المحبة
ويدني الوقود من النار حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ورمت بشررها وقد
أحاطت به طلب الخلص قال له القلب هيهات لت حين مناص وأنشده:
تولع بالعشق حتى عشق فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة فلما تمكن منها غرق
فكان الترك أول مقدورا له لما لم يوجد السبب التام والرادة الحازمة
الموجبة للفعل فلما تمكن الداعي واستحكمت الرادة قال المحب لعاذله:
يا عاذلي والمر في يده هل عذلت وفي يدي المر
) (20/9
فكان أول المر إرادة واختيار ومحبة ووسطه اضطرارا وآخره عقوبة وبلء
ومثل هذا برجل ركب فرسا ل يملكه راكبه ول يتمكن من رده وأجراه في
طريق ينتهي به إلى موضع هلك فكان المر إليه قبل ركوبها فلما توسطت
به الميدان خرج المر عن يده فلما وصلت به إلى الغاية حصل على الهلك
ويشبه هذا حال السكران الذي قد زال عقله إذا جني عليه في حال سكره
لم يكن معذورا لتعاطيه السبب اختيارا فلم يكن معذورا بما ترتب عليه
اضطرارا وهذا مأخذ من أوقع طلقه من الئمة ولهذا قالوا إذا زال عقله
بسبب يعذر فيه لم يقع طلقه فجعلوا وقوع الطلق عليه من تمام عقوبته
والذين لو يوقعوا الطلق قولهم أفقه كما أفتى به عثمان بن عفان ولم يعلم
له في الصحابة مخالف ورجع عليه المام أحمد واستقر عليه قوله فإن
الطلق ما كان عن وطر والسكران ل وطر له في الطلق وقد حكم النبي
صلى الله عليه وسلم بعدم عدم الطلق في حال الغلق والسكر من الغلق
كما أن الكراه والجنون من الغلق بل قد نص المام أحمد وأبو عبيد وأبو داود
على أن الغضب إغلق وفسر به المام أحمد الحديث في رواية أبي طالب
وهذا يدل على أن مذهبه أن طلق الغضبان ل يقع وهذا هو الصحيح الذي
يفتى به إذا كان الغضب شديدا قد أغلق عليه قصده فإنه يصير بمنزلة
السكران والمكره بل قد يكونان أحسن حال منه فإن العبد في حال شدة
غضبه يصدر منه ما ل يصدر من السكران من القوال والفعال وقد أخبر الله
سبحانه أنه ل يجيب دعاءه على نفسه وولده في هذا الحال ولو أجابه لقضى
إليه أجله وقد عذر سبحانه من اشتد به الفرح بوجود راحلته في الرض
169
المهلكة بعدما يأس منها فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك ولم يجعله بذلك
كافرا لنه أخطأ بهذا القول من شدة الفرح فكمال
) (20/10
) (20/11
شفاء العليل
) (21/1
170
وأجبره على ضده وحال بينه وبين ما أمره به ومنعه منه وصده عنه ولم
يجعل له إليه سبيل بوجه من الوجوه مع قولك أنه ل يحب ول يحب فل تتألهه
القلوب بالمحبة والود والشوق والطلب وإرادة وجهه والتوحيد معنى ينتظم
من إثبات اللهية واثبات العبودية فرفعت معنى اللهية بإنكار كونه محبوبا
مودودا تتنافس القلوب في محبته وإرادة وجهه والشوق إلى لقائه ورفعت
حقيقة العبودية بإنكار كون العبد فاعل وعابدا ومحبا فإن هذا كله مجاز ل
حقيقة له عندك فضاع التوحيد بين الجبر وإنكار محبته وإرادة وجهه ل سيما
والوصف الذي وصفته به منفر للقلوب عنه حائل بينها وبين محبته فإنك
وصفته بأنه يأمر عبده بما ل قدرة له على فعله وينهاه عما ل يقدر على تركه
بل يأمره بفعله هو سبحانه وينهاه عن فعله هو سبحانه ثم يعاقبه أشد
العقوبة على ما لم يفعله البتة بل يعاقبه على أفعاله هو سبحانه وصرحت
بأن عقوبته على ترك ما أمره وفعل ما نهاه بمنزلة عقوبته على ترك طيرانه
إلى السماء وترك تحويله للجبال عن أماكنها ونقله مياه البحار عن مواضعها
وبمنزلة عقوبته له على ما ل صنع له فيه من لونه وطوله وقصره وصرحت
بأنه يجوز عليه أن يعذب أشد العذاب لمن لم يعصه طرفة عين وأن حكمته
ورحمته
) (21/2
ص -140-ل تمنع ذلك بل هو جائز عليه ولول خبره عن نفسه بأنه ل يفعل
ذلك لم ننزهه عنه وقلت أن تكليفه عباده بما كلفهم بمنزلة تكليف العمى
للكتابة والزمن للطيران فبغضت الرب إلى من دعوته إلى هذا العتقاد
ونفرته عنه وزعمت أنك تقرر بذلك توحيده وقد قلعت شجرة التوحيد من
أصلها وأما منافاة الجبر للشرائع فأمر ظاهر ل خفاء به فإن مبنى الشرائع
على المر والنهي وأمر المر لغيره بفعل نفسه ل بفعل المأمور ونهيه عن
فعله ل فعل المنهي عبث ظاهر فإن متعلق المر والنهي فعل العبد وطاعته
ومعصيته فمن ل فعل له كيف يتصور أن يوقعه بطاعة أو معصية وإذا ارتفعت
حقيقة الطاعة والمعصية ارتفعت حقيقة الثواب والعقاب وكان ما يفعله الله
بعباده يوم القيامة من النعيم والعذاب أحكاما جارية بمحض المشيئة والقدرة
ل أنها بأسباب طاعاتهم ومعاصيهم بل ههنا أمر آخر وهو أن الجبر مناف
للخلق كما هو مناف للمر فإن الله سبحانه له الخلق والمر وما قامت
السماوات إل بعدله فالخلق قام بعدله وبعدله ظهر كما أن المر بعدله وبعدله
وجد فالعدل سبب وجود الخلق والمر وغايته فهو علية الفاعلية الغائية
والجبر ل يجامع العدل ول يجامع الشرع والتوحيد قال الجبري :لقد نطقت
أيها السني بعظيم وفهمت بكبير وناقضت بين متوافقين وخالفت بين
متلزمين فإن أدلة العقول والشرع المنقول قائمة على الجبر وما دل عليه
العقل والنقل كيف ينافي موجب العقل والشرع فاسمع الن الدليل الباهر
والبرهان القاهر على الجبر ثم نتبعه بأمثال فنقول صدور الفعل عند حصول
القدرة والداعي إما أن يكون واجبا أول يكون واجبا فإن كان واجبا كان فعل
العبد اضطراريا وذلك عين الجبر لن حصول القدرة والداعي ليس بالعبد
واللزام التسلسل وهو ظاهر وإذا كان كذلك فعند حصولهما يكون واجبا وعند
171
عدم حصولهما يكون الفعل ممتنعا فكان الجبر لزما ل محالة وأما إن لم يكن
حصول الفعل عند حصول القدرة والداعي واجبا
) (21/3
فإما أن يتوقف رجحان الفعل على رجحان الترك على مرجح أول يتوقف فإن
توقف كان حصول ذلك الفعل عند حصول المرجح واجبا وإل عاد الكلم ولزم
التسلسل وإذا كان واجبا كان اضطراريا وهو عين الجبر وإن لم يتوقف على
مرجح كان جائز الوقوع وجائز العدم فوقوعه بغير مرجح يستلزم حصول الثر
بل مؤثر وذلك محال ،فإن قلت المرجح هو إرادة العبد ،قلت لك إرادة العبد
حادثة والكلم في حدوثها كالكلم في حدوث المراد بها ويلزم التسلسل قال
السني :هذا أحد سهم في كنانتك وهو بحمد الله سهم ل ريش له ول نصل مع
عوجه وعدم استقامته وأنا أستفسرك عما في هذه الحجة من اللفاظ
المجملة المستعملة على حق وباطل وأبين فسادها فما تعني بقولك إن كان
الفعل عند القدرة والداعي واجبا كان فعل العبد اضطراريا وهو عين الجبر
أتعني به أن يكون مع القدرة والداعي بمنزلة حركة المرتعش وحركة من
نفضته الحمى وحركة من رمي به من مكان عال فهو يتحرك في نزوله
اضطرارا منه أم تعني به أن الفعل عند اجتماع القدرة والداعي يكون لزم
الوقوع بالقدرة فإن أردت بكونه اضطراريا المعنى الول كذبتك العقول
والفطر والحس والعيان فإن الله فطر عباده على التفريق بين حركة من
رمي به من شاهق فهو يتحرك إلى أسفل وبين حركة من يرقى في الجبل
إلى علوه وبين حركة المرتعش وبين حركة المصفق وبين حركة الزاني
والسارق والمجاهد والمصلي وحركة المكتوف الذي قد أوثق رباطا وجر على
الرض فمن سوى بين الحركتين فقد خلع ربقة العقل والفطرة
) (21/4
ص -141-والشرعة من عنقه وإن أردت المعنى الثاني وهو كون العقل لزم
الوجود عند القدرة والداعي كان لزم الوجود وهذا ل فائدة فيه وكونه لزما
وواجبا بهذا المعنى ل ينافي كونه مختارا مرادا له مقدورا له غير مكره عليه
ول مجبور فهذا الوجوب واللزوم ل ينافي الختيار ثم نقول لو صحت هذه
الحجة لزم أن يكون الرب سبحانه مضطرا على أفعاله مجبورا عليها بمعنى
ما ذكرت من مقدماتها وأنه سبحانه يفعل بقدرته ومشيئته وما ذكرت من
وجوب الفعل عند القدرة والداعي وامتناعه عند عدمهما ثابت في حقه
سبحانه وقد اعترف أصحابك بهذا اللزام وأجابوا عنه بما ل يجدي شيئا قال
ابن الخطيب عقيب ذكر هذه الشبهة" :فإن قلت هذا ينفي كونه فاعل مختارا
قلت الفرق أن إرادة العبد محدثة فافتقرت إلى إرادة يحدثها الله دفعا
للتسلسل وإرادة الباري قديمة فلم يفتقر إلى إرادة أخرى" ورد هذا الفرق
صاحب التحصيل فقال" :ولقائل أن يقول هذا ل يدفع التقسيم المذكور" قلت
فإن التقسيم متردد بين لزوم الفعل عند الداعي وامتناعه عند عدمه وهذا
التقسيم ثابت في حق الغائب والشاهد وكون إرادة الرب سبحانه قديمة من
لوازم ذاته ل فاعل لها ل يمنع هذا الترديد والتقسيم فإن عند تعلقها بالمراد
172
يلزم وقوعه وعند عدم تعلقها به يمتنع وقوعه وهذا اللزوم والمتناع ل يخرجه
سبحانه عن كونه فاعل مختارا ثم نقول هذا المعنى ل يسمى جبرا ول
اضطرارا فإن حقيقة الجبر ما حصل بإكراه غير الفاعل له على الفعل وحمله
على إيقاعه بغير رضاه واختياره والرب سبحانه هو الخالق للرادة والمحبة
والرضا في قلب العبد فل يسمى ذلك جبرا ل لغة ول عقل ول شرعا ومن
العجب احتجاجك بالقدرة والداعي على أن الفعل الواقع بهما اضطراري من
العبد والفعل عندكم لم يقع بهما ول هو فعل العبد بوجه وإنما هو عين فعل
الله وذلك ل يتوقف على قدرة من العبد ول داع منه ول هناك ترجيح له عند
وجودهما ول عدم ترجيح عند
) (21/5
عدمهما بل نسبة الفعل إلى القدرة والداعي كنسبته إلى عدمهما فالفعل
عندك غير فعل الله فل ترجيح هناك من العبد ول مرجح ول تأثير ول أثر قال
السني :وقد أجابك إخوانك من القدرية عن هذه الحجة بأجوبة أخرى فقال
أبو هاشم وأصحابه ل يتوقف فعل القادر على الداعي بل يكفي في فعله
مجرد قدرته قالوا فقولك عند حصول الداعي إما أن يجب الفعل أو ل يجب
عندنا ل يجب الفعل بالداعي ول يتوقف عليه ول يمكنك أيها الجبري الرد على
هؤلء فإن الداعي عندك ل تأثير له في الفعل البتة ول هو متوقف عليه ول
على القدرة فإن القدرة الحادثة عندك ل تؤثر في مقدورها فكيف يؤثر
الداعي في الفعل فهذه الحجة ل تتوجه على أصولك البتة وغايتها إلزام
خصومك بها على أصولهم وقال أبو الحسين البصري وأصحابه" :يتوقف
الفعل على الداعي" ثم قال أبو الحسين" :إذا تجرد الداعي وجب وقوع
الفعل ول يخرج بهذا الوجوب عن كونه اختياريا" وقال محمود الخوارزمي
صاحبه" :ل ينتهي بهذا الداعي إلى حد الوجوب بل يكون وجوده أولى" قالوا
فنجيبك عن هذه الشبهة على الرأيين جميعا أما على رأي أبي هاشم فنقول
صدور إحدى الحركتين عنه دون الخرى ل يحتاج إلى مرجح بل من شأن
القادر أن يوقع الفعل من غير مرجح لجانب وجوده على عدمه قالوا ول
استبعاد في العقل في وجود مخلوق متمكن من الفعل بدل عن الترك وبالضد
من غير مرجح كما أن النائم والساهي يتحركان من غير داع وإرادة فإن قلتم
بل هناك داع وإرادة ل يذكرها النائم والناسي كان ذلك مكابرة قلت وأصحاب
هذا القول يقولون أن
) (21/6
173
أن قدرة العبد مؤثرة في مقدوره مع قدرة الله على عين مقدور العبد وهذا
قول أبي إسحق واختيار الجويني في النظامية الثالث قول من يقول يجب
بقدرة الله فقط وهذا قول الشعري والقاضي أبي بكر ثم إختلفا فقال
القاضي" :كونه فعل واقع بقدرة الله وكونه صلة أو حجا أو زنا أو سرقة واقع
بقدرة العبد فتأثير قدرة الله في ذات الفعل وتأثير قدرة العبد في صفة
الفعل" وقال الشعري" :أصل الفعل ووصفه واقعان بقدرة الله ول تأثير
لقدرة العبد في هذا ول هذا" الرابع قول من يقول ل يجب الفعل من القادر
البتة بل القادر هو الذي يفعل مع جواز أن ل يفعل فل ينتهي فعل القادر
المختار إلى الوجوب أصل وهذا قول أبي هاشم وأصحابه الخامس أن يكون
عند الداعي أولى بالوقوع ول ينتهي إلى حد الوجوب وهذا قول الخوارزمي
وقد سلم أبو الحسين أن الفعل يجب مع الداعي وسلم أن الداعي مخلوق
لله وقال أن العبد مستقل بإيجاد فعله قال" :والعلم بذلك ضروري" قال ابن
الخطيب" :وهذا غلو منه في القدر" وقوله أنه يتوقف على الداعي والداعي
خلق لله غلو في الجبر فجمع بين القدر والجبر مع غلوه فيهما ولم ينصفه
فليس ما ذهب إليه غلو في قدر ول جبر فإن توقف الفعل على الداعي
ووجوبه عنده بقدرة العبد ليس جبرا فضل أن يكون غلوا فيه وكون العبد
محدثا لفعله ضرورة بما خلقه الله فيه من القدرة والختيار ليس قول بمذهب
) (21/7
) (21/8
174
ص -143-كمن شاهد إنسانا في نار متأججة وهو قادر على إطفائها عنه من
غير مشقة ول مانع فإنه إن لم يطفئها استحق الذم وإن كان الحراق من أثر
النار وقد أجاب ابن أبي الحديد بجواب آخر فقال ويمكن أن يقال إذا تجرد
الداعي كما ذكرتم في صورة العطشان فإن التكليف بالفعل والترك يسقط
لنه يصير أسوأ حال من الملجأ وهذا من أفسد الجوبة على أصول جميع
الفرق فإن مقتضى التكليف قائم فكيف يسقط مع حضور الفعل والقدرة
وهذا قسم رابع من الذين رفع عنهم التكليف أثبته هذا القدري زائدا على
الثلثة الذين رفع عنهم القلم وهذا خرق منه لجماع المة المعلوم بالضرورة
ولو سقط التكليف عند تجرد الداعي لكان كل من تجرد داعيه إلى فعل ما
أمر به قد سقط عنه التكليف وهذا القول أقبح من القول بتكليف ما ل يطاق
ولهذا كان القائلون به أكثر من هذا القائل وقولهم يحكى ويناظر عليه ،قال
الجبري :إذا كان الداعي من الله وهو سبب الفعل والفعل واجب عنده كان
خالق الفعل هو خالق الداعي أي خالق السبب ،قال السني :هذا حق فإن
الداعي مخلوق لله في العبد وهو سبب الفعل والفعل يضاف إلى الفاعل لنه
صدر منه ووقع بقدرته ومشيئته واختياره وذلك ل يمنع إضافته بطريق العموم
إلى من هو خالق كل شيء وهو على كل شيء قدير وأيضا فالداعي ليس هو
المؤثر بل هو شرط في تأثير القادر في مقدوره وكون الشرط ليس من
العبد ل يخرجه عن كونه فاعل وغاية قدرة العبد وإرادته الجازمة أن يكون
شرطا أو جزء سبب والفعل موقوف على شروط وأسباب ل صنع للعبد فيها
البتة وأسهل الفعال رفع العين لرؤية الشيء فهب أن فتح العين فعل العبد
إل أنه ل يستقل بالدراك فإن تمام الدراك موقوف على خلق الدرك وكونه
قابل للرؤية وخلق آلة الدراك وسلمتها وصرف الموانع عنها فما تتوقف عليه
الرؤية من السباب والشروط التي ل تدخل تحت مقدور العبد أضعاف
أضعاف ما يقدر عليه من تقليب حدقته نحو المرئي فكيف يقول عاقل أن
) (21/9
جزء السبب أو الشرط موجب مستقل لوجود الفعل وهذا الموضع مما ضل
فيه الفريقان حيث زعمت القدرية أنه موجب للفعل وزعمت الجبرية أنه ل
أثر له فيه فخالفت الطائفتان صريح المعقول والمنقول وخرجت عن السمع
والعقل والتحقيق أن قدرة العبد وإرادته ودواعيه جزء من أجزاء السبب التام
الذي يجب به الفعل فمن زعم أن العبد مستقل بالفعل مع أن أكثر أسبابه
ليست إليه فقد خرج عن موجب العقل والشرع فهب أن دواعي حركة
الضرب منك مستقل بها فهل سلمة اللة منك وهل وجود المحل المنفعل
وقبوله منك وهل خلق الفضاء بينك وبين المضروب وخلوه عن المانع منك
وهل إمساك قدرته عن مضاربتك وغلبك منك وهل القوة التي في اليد
والرباطات والتصالت التي بين عظامها وشد أسرها منك ومن زعم أنه ل أثر
للعبد بوجه ما في الفعل وأن وجود قدرته وإرادته وعدمهما بالنسبة إلى
الفعل على السواء فقد كابر العقل والحس ،قال الجبري :إن انتهت سلسلة
الترجيحات إلى مرجح من العبد فذلك المرجح ممكن ل محالة فإن ترجح بل
مرجح انسد عليكم باب إثبات الصانع إذا جوزتم رجحان أحد طرفي الممكن
وإن توقف على مرجح آخر لزم التسلسل فل بد من انتهائه إلى مرجح من
175
الله ل صنع للعبد فيه قال السني :أما إخوانك القدرية فإنهم يقولون القادر
المختار يحدث إرادته وداعيته بل مرجح من غيره قالوا والفطرة شاهدة بذلك
فإنا ل نفعل ما لم نرد ول نريد ما لم نعلم إن في الفعل منفعة لها أو دفع
مضرة ول نجد لهذه الرادة إرادة
) (21/10
) (21/11
َ
ماءٌ ي إ ِل ّ أ ْ
س َ ن هِ َ
نجحده لتسمية القدري له جبرا فليس الشأن في السماء} :إ ِ ْ
ن{ فل نترك لهذه السماء سل ْ َ
طا ٍ ن ُ
م ْ
ه ب َِها ِ ما أ َن َْز َ
ل الل ّ ُ م َوآَباؤُك ُ ْ
م َ
سميتمو َ َ
ها أن ْت ُ ْ َ ّ ُْ ُ
مقتضى العقل واليمان والمحذور كل المحذور أن نقول أن الله يعذب عبده
على ما ل صنع له فيه ول قدرة له عليه ول تأثير له في فعله بوجه ما بل
يعذبه على فعله هو سبحانه وعلى حركته إذا سقط من علو إلى سفل نعم ل
يمتنع أن يعذبه على ذلك إذ كان قد تعاطي أسبابه بإرادته ومحبته كما يعاقب
السكران على ما جناه في حال سكره لتفريطه وعدوانه بارتكاب السبب
وكما يعاقب العاشق الذي غلب على صبره وعقله وخرج المر عن يده
176
لتفريطه السابق بتعاطي أسباب العشق وكما يعاقب الذي آل به إعراضه
وبغضه للحق إلى أن صار طبعا وقفل ورينا على قلبه فخرج المر عن يده
وحيل بينه وبين الهدى فيعاقبه على ما لم يبق له قدرة عليه ول إرادة بل هو
ممنوع منه وعقوبته عليه عدل محض ل ظلم فيه بوجه ما ،فإن قيل فهل
يصير في هذه الحال مكلفا وقد حيل بينه وبين ما أمر به وصد عنه ومنع منه
أم يزول التكليف ،قيل ستقف على الجواب الشافي إن شاء الله عن هذا
السؤال في باب القول في تكليف ما ل يطاق قريبا فإنه سؤال جيد إذ
المقصود ههنا الكلم في الجبر وما في لفظه من الجمال وما في معناه من
الهدى والضلل.
فصل :قال الجبري :إذا صدر من العبد حركة معينة فإما أن تكون مقدورة
للرب وحده أو العبد وحده أو للرب والعبد أو ل للرب ول للعبد وهذا القسم
الخير باطل قطعا والقسام
) (21/12
ص -145-الثلثة قد قال بكل واحد منها طائفة فان كانت مقدورة للرب
وحده فهو الذي يقوله وذلك عين الجبر وان كانت مقدورة للعبد وحده فذلك
إخراج لبعض الشياء عن قدرة الرب تعالى فل يكون على كل شيء قدير
ويكون العبد المخلوق الضعيف قادرا على ما لم يقدر عليه خالقه وفاطره
وهذا هو الذي فارقت به القدرية للتوحيد وضاهت به المجوس وإن كانت
مقدورة للرب والعبد لزمت الشركة ووقوع مفعول بين فاعلين ومقدور بين
قادرين وأثر بين مؤثرين وذلك محال لن المؤثرين إذا اجتمعا استقلل على
أثر واحد فهو غني عن كل منهما بكل منهما فيكون محتاجا إليهما مستغنيا
عنهما قال السني :قد افترق الناس في هذا المقام فرقا شتى ففرقة قالت
إنما تقع الحركة بقدرة الله وحده ل بقدرة العبد وتأثير قدرة العبد في كونها
طاعة أو معصية فقدرة الرب وحده اقتضت وجودها وقدرة العبد اقتضت
صفتها وهذا قول القاضي أبي بكر ومن اتبعه ولعمر الله أنه لغير شاف ول
كاف فإن صفة الحركة إن كان أثرا وجوديا فقد أثرت قدرته في أمر موجود
فل يمتنع تأثيرها في نفس الحركة وإن كان صفتها أمرا عدميا كان متعلق
قدرته عدما ل وجودا وذلك ممتنع إذ أثر القدرة ل يكون عدما صرفا وفرقة
أخرى قالت بل الفعل وصفته واقع بمحض قدرة الله وحده ول تأثير لقدرة
العبد في هذا ول هذا وهذا قول الشعري ومن اتبعه وفرقة قالت بل المؤثر
قدرة العبد وحده دون قدرة الرب ثم انقسمت هذه الفرقة إلى فرقتين فرقة
قالت أن قدرة العبد هي المؤثرة مع كون الرب قادرا على الحركة وقالت أن
مقدورات العباد مقدورة لله تعالى وهذا قول أبي الحسين البصري وأتباعه
الحسينية وفرقة قالت أن قدرة العبد هي المؤثرة والله سبحانه غير قادر
على مقدور وهذا قول المشايخية أتباع أبي على وأبي هاشم وليس عند ابن
الخطيب وجمهور المتكلمين غير هذه القوال التي ل تشفي عليل ول تروي
غليل وليس عند أربابها إل مناقضة بعضهم بعضا وقد أجاب بعض
) (21/13
177
أصحاب أبي الحسين عن هذا السؤال انه كان يقول بمقدور بين قادرين فله
أن يقول في هذا المقام ان كان الدليل الذي ذكرته دليل صحيحا على
استحالة اجتماعهما على فعل واحد فإنما يدل على استحالته على فعلهما
على سبيل الجمع ول يستحيل على سبيل البدل كما يستحيل حصول جوهرين
في مكان واحد ول يستحيل حصولهما فيه على البدل وهذا جواب باطل قطعا
فإن مضمونه أن أحدهما ل يقدر عليه إل إذا تركه الخر فحال تلبس العبد
بالفعل بقدرته وإرادته إن كان مقدورا لله فهو القول بمقدور بين قادرين وان
لم يكن مقدورا له لزم إخراج بعض الممكنات عن قدرته فإن قلت هو قادر
عليه بشرط أن ل يقدر عليه العبد قيل لك فهذا تصريح منك بأنه في حال
قدرة العبد عليه ل يقدر عليه الرب فل ينفعك القول بأنه قادر عليه على
البدل وأيضا فإن قدر عليه بشرط أن ل يقدر عليه العبد فإذا قدر العبد عليه
انتفت قدرة الرب لنتفاء شرطها وهذا مما صاح به عليكم أهل التوحيد من
أقطار الرض ورموكم به عن قوس واحدة وإنما صانعتم به أهل السنة
مصانعة وإل فحقيقة هذا القول أن العبد يقدر عليه على مال يقدر عليه الرب
وحكاية هذا الرأي الباطل كافية في فساده فإن قلت كما ل يمتنع معلوم
واحد بين عالمين ومراد واحد بين مريدين قيل هذا من أفسد القياس لن
المعلوم ل يتأثر بالعالم والمراد ل يتأثر بالمريد فيصح الشتراك في المعلوم
والمراد كما يصح الشتراك في المرئي والمسموع وأما المقدور فيجوز
اشتراك القادرين فيه بالقدرة المصححة
) (21/14
178
يضرب بعضها ببعض بل يقال بها كلها ويذهب إلى موجبها فإنها يصدق بعضها
بعضا وإنما يعارض بينهما من ضعفت بصيرته وإن كثر كلمه وكثرت شكوكه
والعلم أمر آخر وراء الشكوك والشكالت ولهذا تناقض الخصوم ،وهذا رأس
مال المتكلمين والقول الحق لم ينحصر في هذه القوال التي
) (21/15
حكوها في المسألة ،والصواب أن يقال تقع الحركة بقدرة العبد وإرادته التي
جعلها الله فيه فالله سبحانه إذا أراد فعل العبد خلق له القدرة والداعي إلى
فعله فيضاف الفعل إلى قدرة العبد إضافة السبب إلى مسببه ويضاف إلى
قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق فل يمتنع وقوع مقدور بين قادرين
قدرة أحدهما أثر لقدرة الخر وهي جزء سبب وقدرة القادر الخر مستقلة
بالتأثير والتعبير عن هذا المعنى بمقدور بين قادرين تعبير فاسد وتلبيس فإنه
يوهم أنهما متكافئان في القدرة كما تقول هذا الثوب بين هذين الرجلين
وهذه الدار بين هذين الشريكين وإنما المقدور واقع بالقدرة الحادثة وقوع
المسبب بسببه والسبب أو المسبب والفاعل واللة كله أثر القدرة القديمة
ول نعطل قدرة الرب سبحانه عن شمولها وكمالها وتناولها لكل ممكن ول
نعطل قدرة الرب التي هي سبب عما جعلها الله سببا له ومؤثرة فيه وليس
في الوجود شيء مستقل بالتأثير سوى مشيئة الرب سبحانه وقدرته وكل ما
سواه مخلوق له وهو أثر قدرته ومشيئته ومن أنكر ذلك لزمه إثبات خالق
سوى الله أو القول بوجود مخلوق ل خالق له فإن فعل العبد إن لم يكن
مخلوقا لله كان مخلوقا للعبد إما استقلل وإما على سبيل الشركة وإما أن
يقع بغير خالق ول مخلص عن هذه القسام لمنكر دخول الفعال تحت قدرة
الرب ومشيئته وخلقه وإذا عرف هذا فنقول الفعل وقع بقدرة الرب خلقا
وتكوينا كما وقعت سائر المخلوقات بقدرته وتكوينه وبقدرة العبد سببا
ومباشرة والله خلق الفعل
) (21/16
179
العقلء فما الظن بالحيوانات العجم في مشيها وطيرانها وسباحتها حتى الذر
والبعوض وهنا مشاهد في السكران ومن اشتد به الغضب ولهذا قال تعالى:
َ َ
ن{قوُلو َ
ما ت َ ُ حّتى ت َعْل َ ُ
موا َ س َ
كاَرى َ م ُ
صلة َ وَأن ْت ُ ْ
قَرُبوا ال ّ
مُنوا ل ت َ ْ
نآ َ }َيا أي َّها ال ّ ِ
ذي َ
فدل على أن السكران يصدر منه أقوال ل يعلم بها فكيف يكون هو المحدث
لتلك القوال وهو ل يشعر بها والرادة فرع الشعور ولهذا أفتى الصحابة بأنه
ل يقع طلق السكران نزلوا حركة لسانه منزلة تحريك غيره له بغير إرادته
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم" :ل طلق في الغلق" لن الغلق
يمنع العلم والرادة فكيف يكون التطليق فعله وهو غير عالم به ول مريد له
وأيضا فقد قال جمهور الفقهاء أن الناسي غير مكلف لن فعله ل يدخل تحت
الختيار ففعله غير مضاف إليه مع أنه وقع باختياره وقد أشار النبي صلى الله
عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه
) (21/17
في قوله" :من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه"
فأضاف فعله إلى الله ل إليه فلم يكن له فعل في الكل والشرب فلم يفطر
به قال السني :هذا موضع تفصيل ل يليق به الجمال فنقول ما يصدر من
العبد من الفعال ينقسم أقساما متعددة بحسب قدرته وعلمه وداعيته
وإرادته فتارة يكون ملجأ إلى الفعل ل إرادة له فيه بوجه ما كمن أمسكت
يده وضرب بها غيره أو أمسكت أصبعه وقلع بها عين غيره فهذا فعله بمنزلة
حركات الشجار بالريح ولهذا ل يترتب عليه حكم البتة ول يمدح عليه ول يذم
ول يثاب ول يعاقب وهذا ل يسمى فاعل عقل ول شرعا ول عرفا وتارة يكون
مكرها على أن يفعل فهذا فعله يضاف إليه وليس كالملجأ الذي ل فعل له
واختلف الناس هل يقال أنه فعل باختياره وأنه يختار ما فعله أو ل يطلق عليه
ذلك على قولين والتحقيق أن النزاع لفظي فإنه فعل بإرادة هو محمول عليها
مكره عليها فهو مكره مختار مكره على أن يفعل بإرادته مريد ليفعل ما أكره
عليه فإن أريد بالمختار من يفعل بإرادته وإن كان كارها للفعل فالمكره
مختار وأيضا فهو مختار ليفعل ما أكره لتخلصه به مما هو أكره إليه من
الفعل فلما عرض له مكروهان أحدهما أكره إليه من الخر اختار أيسرهما
دفعا لشقهما ولهذا يقتل قصاصا إذا قتل عند الجمهور والملجأ ل يقتل باتفاق
الناس ومما يوضح هذا أن المكره على التكلم ل يتأتى منه التكلم إل باختياره
وإرادته ولهذا أوقع طلقه وعتاقه بعض العلماء والجمهور قالوا ل يقع لن الله
جعل كلم المكره على كلمة الكفر لغو ل يترتب عليه أثره لنه وإن قصد
التكلم باللفظ دفعا عن نفسه فلم يقصد معناه وموجبه حتى قال بعض
الفقهاء لو قصد الطلق بقلبه مع الكراه لم
) (21/18
ص -148-يقع طلقه لن قوله هدر ولغو عند الشارع فوجوده كعدمه في
حكمه فبقي مجرد القصد وهو غير موجب للطلق وهذا ضعيف فإن الشارع
إنما ألغى قول المكره إذا تجرد عن القصد وكان قلبه مطمئنا بضده فأما إذا
قارن اللفظ القصد واطمأن القلب بموجبه فإنه ل يعذر ،فإن قيل فما تقولون
180
فيمن ظن أن الكراه ل يمنع وقوع الطلق فقصده جاهل بأن الكراه مانع من
وقوعه ،قيل هذا ل يقع طلقه لنه لما ظن أن الكراه على الطلق يوجب
وقوعه إذا تكلم به كان حكم قصده حكم لفظه فإنه إنما قصده دفعا عن
نفسه لما علم أنه ل يتخلص إل به ولم يظن أن الكلمة بدون القصد لغوا
ودهش عن ذلك ول وطر له في الطلق فهذا ل يقع بخلف الول فإنه لما
أكره على الطلق نشأ له قصد طلقها إذ ل غرض له أن يقيم مع امرأة أكره
على طلقها وإن كان لو لم يكره لم يبتدي طلقها والمقصود أن المكره مريد
لفعله غير ملجأ إليه.
فصل :وأما أفعال النائم فل ريب في وقوع الفعل القليل منه والكلم المفيد
واختلف الناس هل تلك الفعال مقدورة له أو مكتسبة أو ضرورية بعد
اتفاقهم على أنها غير داخلة تحت التكليف فقالت المعتزلة وبعض الشعرية
هي مقدورة له والنوم ل يضاد القدرة وإن كان يضاد العلم وغيره من
الدراكات وذهب أبو إسحاق إلى أن ذلك الفعل غير مقدور له وأن النوم
يضاد القدرة كما يضاد العلم وذهب القاضي أبو بكر وكثير من الشعرية إلى
أن فعل النائم ل يقطع بكونه مكتسبا ول بكونه ضروريا وكل من المرين
ممكن قال أصحاب القدرة كان النائم قادرا في يقظته وقدرته باقية والنوم ل
ينافيها فوجب استصحاب حكمها قالوا وأيضا فالنائم إذا انتبه فهو على ما كان
عليه في نومه ول يتجدد أمر وراء زوال النوم وهو قادر بعد النتباه وزوال
النوم غير موجب للقتدار ول وجوده نافيا لقدرة قالوا وأيضا قد يوجد من
النائم ما لو وجد منه في حال اليقظة لكان واقعا على حسب الداعي
والختيار والنوم وإن نافى
) (21/19
القصد فل ينافي القدرة قال النافون للقدرة قولكم النوم ل ينافي القدرة
دعوى كاذبة فإن النائم منفعل محض متأثر صرف ولهذا ل يمتنع ممن يؤثر
فيه وقولكم لم يتجدد له أمر غير زوال النوم فالتجدد زوال المانع من القدرة
فعاد إلى ما كان عليه كمن أوثق غيره رباطا ومنعه من الحركة فإذا حل
رباطه تجدد زوال المانع قالوا نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة
المرتعش والمفلوج وما ذاك إل أن حركته مقدورة له وحركة المرتعش غير
مقدورة له والتحقيق أن حركة النائم ضرورية له غير مكتسبة وكما فرقنا في
حق المستيقظ بين حركة ارتعاشه وحركة تصفيقه كذلك نجد تفرقه ضرورية
بين حركة النائم وحركة المستيقظ.
فصل :وأما زائل العقل بجنون أو سكر فليست أفعاله اضطرارية كأفعال
الملجأ ول اختيارية بمنزلة أفعال العامل العالم بما يفعله بل هي قسم آخر
من الضطرارية وهي جارية مجرى أفعال الحيوان وفعل الصبي الذي ل تمييز
له بل لكل واحد من هؤلء داعية إلى الفعل يتصورها وله إرادة يقصد بها
وقدرة ينفذ بها وإن كان داعية نوع آخر غير داعي العاقل العالم بما يفعله فل
بد أن يتصور ما في الفعل من الغرض ثم يريده ويفعله وهذه أفعال طبيعية
واقعة بالداعي والرادة والقدرة والدواعي والرادات تختلف ولهذا ل يكلف
أحد هؤلء بالفعل فأفعاله ل تدخل تحت التكليف وليست كأفعال الملجأ ول
181
المكره وهي مضافة إليهم مباشرة وإلى خالق ذواتهم وصفاتهم خلقا فهي
مفعولة وأفعال
) (21/20
ص -149-لهم والساهي الذي يفعل الفعل مع غفلته وذهوله فهو إنما يفعله
بقدرته إذ لو كان عاجزا لما تأتى منه الفعل وله إرادة لكنه غافل عنها
فالرادة شيء والشعور بها شيء آخر فالعبد قد يكون له إرادة وهو ذاهل عن
شعوره بها لشتغال محل التصور منه بأمر آخر منعه من الشعور بالرادة
فعملت عملها وهي غير مشعور بها وإن كان ل بد من الشعور عند كل جزء
من أجزائه وبالله التوفيق وبالجملة فالفعل الختياري يستلزم الشعور بالفعل
في الجملة وأما الشعور به على التفصيل فل يستلزمه.
فصل :قال الجبري :ضلل الكافر وجهله عند القدري مخلوق له موجود
بإيجاده اختيارا وهذا ممتنع فإنه لو كان لكان كذلك قاصدا له إذا القصد من
لوازم الفعل اختيارا واللزم ممتنع فإن عاقل ل يريد لنفسه الضلل والجهل
فل يكون فاعل له اختيارا ،قال السني :عجبا لك أيها الجبري تنزه العبد أن
يكون فاعل للكفر والجهل والظلم ثم تجعل ذلك كله فعل الله سبحانه ومن
العجب قولك أن العاقل ل يقصد لنفسه الكفر والجهل وأنت ترى كثيرا من
الناس يقصد لنفسه ذلك عنادا وبغيا وحسدا مع علمه بأن الرشد والحق في
خلفه فيطيع دواعي هواه وغيه وجهله ويخالف داعي رشده وهداه ويسلك
طرق الضلل ويتنكب عن طريق الهدى وهو يراهما جميعا ،قال أصدق
َ القائلينَ } :
ن ي ََرْوا
حقّ وَإ ِ ْ ض ب ِغَي ْرِ ال ْ َن ِفي الْر ِ ن ي َت َك َب ُّرو َ
ذي َ ي ال ّ ِن آَيات ِ َ ف عَ ْ صرِ ُ سأ ْ َ
سِبيلَ ن ي ََرْوا َ ً
سِبيل وَإ ِ ْ ذوه ُ َ خ ُ
شدِ ل ي َت ّ ِ سِبيل الّر َْ ن ي ََرْوا َ مُنوا ب َِها وَإ ِ ْ ل آي َةٍ ل ي ُؤْ ِ كُ ّ
َ
ن{ ،وقال تعالى: كاُنوا عَن َْها َ
غافِِلي َ م ك َذ ُّبوا ِبآيات َِنا وَ َ ك ب ِأن ّهُ ْسِبيل ً ذ َل ِ َ ذوه ُ َ خ ُ ي ي َت ّ ِ ال ْغَ ّ
َ
دى{ وقال تعالى عن قوم مى عََلى ال ْهُ َ حّبوا ال ْعَ َ ست َ َ م َفا ْ مود ُ فَهَد َي َْناهُ ْ ما ث َ ُ }وَأ ّ
دوا ب َِها ح ُج َ ن وَ َ مِبي ٌ
حٌر ُ س ْ ذا ِ صَرة ً َقاُلوا هَ َ مب ْ ِ
م آَيات َُنا ُ جاَءت ْهُ ْما َ فرعون} :فَل َ ّ
قن َت َْها
ست َي ْ ََوا ْ
) (21/21
طا َ أ َن ْ ُ
م
صد ّهُ ْ م فَ َ مال َهُ ْن أعْ َ شي ْ َ ُ م ال ّ ن ل َهُ ُ م ظ ُْلما ً وَعُل ُوًّا{ وقال تعالى} :وََزي ّ َ سهُ ْف ُ
ما ل َ ُ
ه شت ََراه ُ َ نا ْ م ِموا ل َ َ قد ْ عَل ِ ُ ن{ وقال تعالى} :وَل َ َ ري َ ص ِ ست َب ْ ِ م ْ كاُنوا ُ ل وَ َ سِبي ِ ن ال ّ عَ ِ
َ ْ َ َ ْ
ما أن َْز َ
ل فُروا ب ِ َ ن ي َك ُ مأ ْ سهُ ْ ف َ شت ََرْوا ب ِهِ أن ْ ُ ما ا ْ س َ ق{ وقال} :ب ِئ ْ َ خل ٍ ن َ م ْ خَرةِ ِ ِفي ال ِ
َ ّ َ ً
ه{ وقال تعالىَ} :يا عَبادِ ِ ن ِ م ْ شاُء ِ ن يَ َ م ْ ضل ِهِ عَلى َ ن فَ ْ م ْ ه ِ ل الل ُ ن ي ُن َّز َ ه ب َْغيا أ ْ الل ّ ُ
َ َ أ َهْ َ
ن
سو َ م ت َل ْب ِ ُ
ب لِ َ ل ال ْك َِتا ِ ن َيا أهْ َ دو َ شهَ ُ م تَ ْ ت الل ّهِ وَأن ْت ُ ْ ن بآَيا ِ فُرو َ م ت َك ْ ُ ب لِ َ ل ال ْك َِتا ِ
م
ب لِ َ ل ال ْك َِتا ِ ل َيا أ َهْ َ ن{ وقال} :قُ ْ مو َ م ت َعْل َ ُ
َ
حقّ وَأن ْت ُ ْ ن ال ْ َ مو َ ل وَت َك ْت ُ ُ حقّ ِبال َْباط ِ ِ ال ْ َ
َ
داُء{ وهذا في القرآن شهَ َ م ُ وجا ً وَأن ْت ُ ْ ع َ ن ت َب ُْغون ََها ِ م َ نآ َ م ْ ل الل ّهِ َ سِبي ِ ن َ ن عَ ْ دو َ ص ّ تَ ُ
كثير يبين سبحانه فيه اختيارهم الضلل والكفر عمدا على علم! هذا وكم من
قاصد أمرا يظن أنه رشد وهو ضلل وغي.
فصل :قال الجبري :لو جاز تأثير قدرة العبد في القول باليجاد لجاز تأثيرها
في إيجاد كل موجود لن الوجود قضية واحدة مشتركة بين الموجودات
الممكنة وإن اختلفت محاله وجهاته ويلزم من صحة تأثير القدرة في بعضه
182
صحة تأثيرها في جميعه لتحاد المتعلق وإن ما ثبت لحد المثلين ثبت للخر
وأيضا فالمصحح للتأثير هو المكان ويلزم من الشتراك في المصحح للتأثير
الشتراك في الصحة ومعلوم قطعا أن قدرة العبد ل تتعلق بإيجاد الجسام
وأكثر العراض إنما تتعلق ببعض العراض القائمة لمحل قدرته ،قال السني:
لقد كشف الله عوار مذهب يكون إثباته مستندا إلى مثل هذه الخرافات التي
حاصلها أنه يلزم من صحة قدرة العبد على قلع حصاة من الرض صحة قدرته
على قلع الجبل ومن إمكان حمله لرطل إمكان حمله لمائة ألف رطل ومن
إيجاده للفعل القائم به من الكل والشرب والصلة وغيرها صحة إيجاده لخلق
السماوات والرض
) (21/22
) (21/23
183
ل يمتنع وقوع مقدور بين قادرين لقدرة أحدهما تأثير في إيجاده ولقدرة الخر
تأثير في صفته كما يقوله القاضي أبو بكر ومن تبعه والشعري يجيب عنه
على أصله بأن الفعل وقع بين قادرين ل تأثير لقدرة أحدهما في المقدور بل
تعلق قدرته بمقدورها كتعلق العلم بمعلومه وإنما الممتنع عنده وقوع مقدور
بين قادرين مؤثرين وهذا العتذار ل يخرج عن الجبر وأن زخرفت له
العبارات ،وأجاب عنه الحسينية بما حكيناه أنه ل يمتنع مقدرو بين قادرين
على سبيل البدل ويمتنع على سبيل الجمع وقد تقدم فساده وأجاب عنه
المشايخية بأنه مقدور للعبد وليس مقدورا للرب وهذا أبطل الجوبة وأفسدها
والقائلون به يقولون أن الله سبحانه عن إفكهم يريد الشيء فل يكون ويكون
الشيء بغير إرادته ومشيئته فيريد ما ل يكون ويكون ما ل يريد وكفى بهذا
بطلنا وفسادا ،قال الجبري :الفعل عند المرجح التام واجب والمرجح ليس
من العبد وإل لزم التسلسل فهو من الرب فإذا وجب الفعل عنده فهو الجبر
بعينه ،قال السني :قد تقدم هذا الدليل وبيان ما فيه وحيث أعدتموه بهذه
العبارة الوجيزة المختصرة فنحن نذكر الجوبة عنه كذلك قولكم ل بد من
مرجح يرجح الفعل على الترك أو بالعكس مسلم قولكم المرجح إن كان من
العبد لزم التسلسل وإن كان من الرب لزم الجبر جوابه ما المانع أن يكون
من فعل العبد ول يلزم التسلسل بأن يكون من فعله على وجه ل يكون
الترك ممكنا له حينئذ ول يلزم من سلب الختيار عنه في فعل المرجح سلبه
عنه مطلقا ثم ما المانع أن يكون المرجح من فعل الله ول يلزم الجبر فإنكم
إن
) (21/24
ص -151-عنيتم بالجبر أنه غير مختار للفعل ول مريد له لم يلزم الجبر بهذا
العتبار لن الرب سبحانه جعل المرجح اختيار العبد ومشيئته فانتفى الجبر
وإن عنيتم بالجبر أنه وجد ل بإيجاد العبد لم يلزم الجبر أيضا بهذا العتبار وإن
عنيتم أنه يجب عند وجود المرجح وأنه ل بد منه فنحن ل ننفي الجبر بهذا
العتبار وتسمية ذلك جبرا اصطلح يختص بكم وهو اصطلح فاسد فإن فعل
الرب سبحانه يجب عند وجود مرجحه التام ول يكون ذلك جبرا بالنسبة إليه
سبحانه ثم هذا لزم على من اثبت الكسب منكم فنقول له في الكسب ما
قاله في أصل الفعل سواء ومن لم يثبت الكسب لزم ذلك في فعل الرب
كما تقدم فإن قلتم الفرق أن صدور الفعل عن القادر موقوف على الرادة
وإرادة العبد محدثة فافتقرت إلى محدث فإن كان ذلك المحدث هو العبد لزم
التسلسل فوجب انتهاء جميع الرادات إلى إرادة ضرورية يخلقها الله في
القلب ابتداء ويلزم منه الجبر بخلف إرادة الرب سبحانه فإنها قديمة
مستغنية عن إرادة أخرى فل تسلسل قيل لكم ل يجدي هذا عليكم في دفع
اللزام فإن الرادة القديمة إما أن يصح معها الفعل بدل عن الترك وبالعكس
أو ل فإن كان الول فل بد لحد الطرفين من مرجح والكلم في ذلك المرجح
كالكلم في الول ويلزم التسلسل وإن كان الثاني لزم الجبر ،قال الجبري:
معتمدي في الجبر على حرف ل خلص لكم منه إل بإلزام الجبر وهو أن العبد
لو كان فاعل لفعله لكان محدثا له ولو كان محدثا له لكان خالقا له والشرع
َ
ن
م ْل ِ ت الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ
م هَ ْ س اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ
م َ والعقل ينفيه قال تعالىَ} :يا أي َّها الّنا ُ
184
ه إ ِل ّ هُوَ فَأ َّنى ت ُؤْفَ ُ َْ
ن{ ،قالكو َ ض ل إ ِل َ َ
ماِء َوالر ِ
س َ
ن ال ّ
م َ ق غَي ُْر الل ّهِ ي َْرُزقُك ُ ْ
م ِ خال ِ ٍ
َ
السني :قد دل العقل والشرع والحس على أن العبد فاعل له وأنه يستحق
عليه الذم واللعن كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى حمارا قد
وسم في وجهه فقال" :ألم
) (21/25
عْلما ً كما ً وَ ِح ْ أنه عن هذا لعن الله من فعل هذا" وقال تعالى} :وَُلوطا ً آت َي َْناه ُ ُ
ما ك ُن ْت ُ ْ
م ن إ ِل ّ َجَزوْ َل تُ ْ ث{ وقال} :هَ ْ ل ال ْ َ
خَبائ ِ َ م ُ
ت ت َعْ َ قْري َةِ ال ِّتي َ
كان َ ْ ن ال ْ َ
م َ
جي َْناه ُ ِوَن َ ّ
ت{ وهذا في القرآن أكثر من أن َ
مل ْ ما عَ ِ س َ ّ ُ ّ ُ
ف ٍ ت كل ن َ ْ ن{ وقال} :وَوُفي َ ْ ملو َ ت َعْ َ
يذكر والحس شاهد به فل تقبل شبهة تقام على خلفه ويكون حكم تلك
الشبهة حكم القدح في الضروريات فل يلتفت إليه ول يجب على العالم حل
كل شبهة تعرض لكل أحد فإن هذا ل آخر له فقولكم لو كان فاعل لفعله
لكان محدثا له إن أردتم بكونه محدثا صدور الفعل منه اتحد اللزم والملزوم
وصار حقيقة قولكم لو كان فاعل لكان فاعل وإن أردتم بكونه محدثا كونه
خالقا سألناكم ما تعنون بكونه خالقا هل تعنون به كونه فاعل أم تعنون به
أمرا آخرا فإن أردتم الول كان اللزم فيه عين الملزوم وإن أردتم أمرا آخر
غير كونه فاعل فبينوه ،فإن قلتم نعني به كونه موجودا للفعل من العدم إلى
الوجود ،قيل هذا معنى كونه فاعل فما الدليل على إحالة هذا المعنى فسموه
ما شئتم إحداثا أو إيجادا أو خلقا فليس الشأن في التسميات وليس الممتنع
أل أن يكون مستقل باليجاد وهذا غير لزم لكونه فاعل فإنا قد بينا أن غاية
قدرة العبد وإراداته وداعية وحركته أن تكون جزء سبب وما توقف عليه
الفعل من السباب التي ل تدخل تحت قدرته أكثر من الجزء الذي إليه
بأضعاف مضاعفة والفعل ل يتم إل بها ،فإن قيل فهذا الجبر بعينه ،قيل ذلك
السبب الذي أعني به من القدرة والرادة هو الذي أخرجه من الجبر وأدخله
في الختيار وكون ذلك السبب من خالقه وفاطره ومنشيه هو الذي أخرجه
من الشرك والتعطيل وأدخله في باب التوحيد فالول
) (21/26
) (21/27
شفاء العليل
185
قال القدري :قد أضاف الله العمال إلى العباد بأنواع الضافة العامة
َ
م طوْل ً من ْك ُ ْ
ست َط ِعْ ِم يَ ْ ن لَ ْ
م ْوالخاصة فأضافها إليهم بالستطاعة تارة كقوله} :وَ َ
َ َ
ن مأ ْ ُ
من ْك ْ شاَء ِ ن َم ْت{ وبالمشيئة تارة كقوله} :ل ِ َ مؤ ْ ِ
مَنا ِ ت ال ْ ُصَنا ِ
ح َ ح ال ْ ُ
م ْ ن ي َن ْك ِ َ أ ْ
م{ وبالرادة تارة كقول الخضر فأردت أن أعيبها وبالفعل والكسب قي َ ست َ ِ يَ ْ
َ
ما كاُنوا س َ َ
ن{} :لب ِئ ْ َ سُبو َ ْ
م ت َك ِ ُ
ما كن ْت ُ ْ
ن{} :ب ِ َ ُ
ملو َن{} :ي َعْ َ فعَلو َُ والصنع كقوله} :ي َ ْ
ن{ وأما بالضافة الخاصة فكإضافة الصلة والصيام والحج والطهارة صن َُعو َ يَ ْ
والزنا والسرقة والقتل والكذب والكفر والفسوق وسائر أفعالهم إليهم وهذه
الضافة تمتنع إضافتها إليه كما أن إضافة أفعاله تعالى تمتنع إضافتها إليهم فل
تجوز إضافة أفعالهم إليه سبحانه دونهم ول إليه معهم فهي إذا مضافة إليهم
دونه قال السني :هذا الكلم مشتمل على حق وباطل أما قولك أنه أضاف
الفعال إليهم فحق ل ريب فيه وهذا حجة لك على خصومك من الجبرية وهم
يجيبونك بأن هذا السناد ل حقيقة له وإنما هو نسبة مجازية صححها قيام
الفعال بهم كما يقال جرى الماء وبرد وسخن ومات زيد ونحن نساعدك على
بطلن هذا الجواب ومنافاته للعقول والشرائع والفطر ولكن قولك هذه
الضافة تمنع إضافتها إليه سبحانه كلم فيه إجمال وتلبيس فإن أردت بمنع
الضافة إليه منع قيامها به ووصفه بها وجريان أحكامها عليه واشتقاق السماء
منه له فنعم هي غير مضافة إليه بشيء من هذه العتبارات والوجوه وإن
أردت بعدم إضافتها إليه عدم إضافتها إلى علمه بها وقدرته عليها ومشيئته
العامة وخلقه فهذا باطل فإنها معلومة له سبحانه مقدورة له مخلوقة
وإضافتها إليهم ل تمنع هذه الضافة كالموال فإنها مخلوقة له سبحانه وهي
ملكه حقيقة قد أضافها إليهم فالعمال والموال خلقه
) (22/1
وملكه وهو سبحانه يضيفها إلى عبيده وهو الذي جعلهم مالكيها وعامليها
فصحت النسبتان وحصول الموال بكسبهم وإرادتهم كحصول العمال وهو
الذي خلق الموال وكاسبيها والعمال وعامليها فأموالهم وأعمالهم ملكه
وبيده كما أن أسماعهم وأبصارهم وأنفسهم ملكه وبيده فهو الذي جعلهم
يسمعون ويبصرون ويعملون فأعطاهم حاسة السمع والبصر وقوة السمع
والبصر وفعل السماع والبصار وأعطاهم آلة العمل وقوة العمل ونفس
العمل فنسبة قوة العمل إلى اليد والكلم إلى اللسان كنسبة قوة السمع إلى
الذن والبصر إلى العين ونسبة الرؤية والستماع اختيارا إلى محلهما كنسبة
الكلم والبطش إلى محلهما وإن كانوا هم الذين خلقوا لنفسهم الرؤية
والسمع فهل خلقوا محلهما وقوى المحل والسباب الكثيرة التي تصلح معها
الرؤية والسمع أم الكل خلق من هو خالق كل شيء وهو الواحد القهار قال
القدري :لو كان الله سبحانه هو الفاعل لفعالهم لشتقت له منها السماء
وكان أولى بأسمائها منهم إذ ل يعقل الناس على اختلف لغاتهم وعاداتهم
ودياناتهم قائما إل من فعل القيام وآكل إل من فعل الكل وسارقا إل من فعل
السرقة وهكذا جميع الفعال لزمها ومتعديها
) (22/2
186
ص -153-فقلبتم أنتم المر وقلبتم الحقائق فقلتم من فعل هذه الفعال
حقيقة ل يشتق له منها اسم وإنما يشتق منها السماء لمن لم يفعلها ولم
يحدثها وهذا خلف العقول واللغات وما تتعارفه المم قال السني :هذا إنما
يلزم إخوانك وخصومك الجبرية القائلين بأن العبد لم يفعل شيئا البتة وأما
من قال العبد فاعل لفعله حقيقة والله خالقه وخالق آلت فعله الظاهرة
والباطنة فإنه إنما يشتق السماء لمن فعل تلك الفعال فهو القائم والقاعد
والمصلي والسارق والزاني حقيقة فإن الفعل إذا قام بالفاعل عاد حكمه إليه
ولم يعد إلى غيره واشتق له منه اسم ولم يشتق لمن لم يقم به فههنا أربعة
أمور أمران معنويان في النفي والثبات وأمران لفظيان فيهما فلما قام الكل
والشرب والزنا والسرقة بالعبد عادت أحكام هذه الفعال إليه واشتقت له
منها السماء وامتنع عود أحكامها إلى الرب واشتقاق أسمائها له ولكن من
أين يمنع هذا أن تكون معلومة للرب سبحانه مقدورة له مكونة له واقعة من
العباد بقدرة ربهم وتكوينه قال القدري :لو كان خالقا لها لزمته هذه المور
قال السني :هذا باطل ودعوى كاذبة فإنه سبحانه ل يشتق له اسم مما خلقه
في غيره ول يعود حكمه عليه وإنما يشتق السم لمن قام به ذلك فإنه
سبحانه خلق اللوان والطعوم والروائح والحركات في محالها ولم يشتق له
منها اسم ول عادات أحكامها إليه ومعنى عود الحكم إلى المحل الخبار عنه
بأنه يقوم ويقعد ويأكل ويشرب قال السني :ومن ههنا علم ضلل المعتزلة
الذين يقولون أن القرآن مخلوقا خلقه الله في محل ثم اشتق له اسم
المتكلم باعتبار خلقه له وعاد حكمه إليه فأخبر عنه أنه تكلم به ومعلوم أن
الله سبحانه خالق صفات الجسام وأعراضها وقواها فكيف جاز أن يشتق له
اسم مما خلقه من الكلم في غيره ولم يشتق له اسم مما خلقه من
الصفات والعراض في غيره فأنت أيها القدري نقضت أصولك بعضها ببعض
وأفسدت قولك في مسألة الكلم بقولك في
) (22/3
مسألة القدر وقولك في القدر بقولك في الكلم فجعلته متكلما بكلم قائم
بغيره وأبطلت أن يكون فاعل الفعل قائما بغيره فإن كنت أصبت في مسألة
الكلم فقد نقضت أصلك في القدر وإن أصبت في هذا الصل لزم خطأك في
مسألة الكلم فأنت مخطئ على التقديرين قال القدري فما تقول أنت في
هذا المقام قال السني :ل تناقض في هذا ول في هذا بل أصفه سبحانه بما
قام به وامتنع من وصفه بما لم يقم قال القدري فالن حمى الوطيس فأنت
والمسلمون وسائر الخلق تسمونه تعالى خالقا ورازقا ومميتا والخلق والرزق
والموت قائم بالمخلوق والمرزوق والميت إذ لو قام ذلك بالرب سبحانه
فالخلق إما قديم وإما حادث فإن كان قديما لزم قدم المخلوق لنه نسبة بين
الخالق والمخلوق ويلزم من كونها قديمة قدم المصحح لها وإن كان حادثا
لزم قيام الحوادث به وافتقر ذلك الخلق إلى خلق آخر فلزم التسلسل فثبت
أن الخلق غير قائم به سبحانه وقد اشتق له منه اسم قال السني :أي لزم
من هذه اللوازم التزمه المرء كان خيرا من أن ينفي صفة الخالقية عن الرب
سبحانه فإن حقيقة هذا القول أنه غير خالق فإن إثبات خالق بل خلق إثبات
اسم ل معنى له وهو كإثبات سميع ل سمع له وبصير ل بصر له ومتكلم وقادر
187
ل كلم له ول قدرة فتعطيل الرب سبحانه عن فعله القائم به كتعطيله عن
صفاته القائمة به والتعطيل أنواع تعطيل المصنوع عن الصانع وهو تعطيل
الدهرية والزنادقة وتعطيل الصانع عن صفات كماله ونعوت جلله وهو تعطيل
الجهمية نفاة الصفات وتعطيله عن أفعاله وهو أيضا تعطيل الجهمية وهم
أبنائه ودب فيمن عداهم من الطوائف فقالوا ل يقوم بذاته فعل لن الفعل
) (22/4
ص -154-حادث وليس محل للحوادث كما قال إخوانهم ل تقوم بذاته صفة
لن الصفة عرض وليس محل للعراض فلو التزم الملتزم أي قول التزمه
كان خيرا من تعطيل صفات الرب وأفعاله فالمشبهة ضللهم وبدعتهم خير
من المعطلة ومعطلة الصفات خير من معطلة الذات وإن كان التعطيلن
متلزمين لستحالة وجود ذات قائمة بنفسها ل توصف بصفة فوجود هذه
محال في الذهن وفي الخارج ومعطلة الفعال خير من معطلة الصفات فإن
هؤلء نفوا صفة الفعل وإخوانهم نفوا صفات الذات وأهل السمع والعقل
وحزب الرسول والفرقة الناجية برآء من تعطيل هؤلء كلهم فإنهم أثبتوا
الذات والصفات والفعال وحقائق السماء الحسنى إذ جعلها المعطلة مجازا
ل حقيقة له فشر هذه الفرق لخيرها الفداء والمقصود أنه أي قول لزمه
الملتزم كان خيرا من نفي الخلق وتعطيل هذه الصفة عن الله وإذا عرض
على العقل السليم مفعول ل فاعل له ومفعول ل فاعل لفعله لم يجد بين
المرين فرقا في الحالة فمفعول بل فعل كمفعول بل فاعل ل فرق بينهما
البتة فليعرض العاقل على نفسه القول بتسلسل الحوادث والقول بقيام
الفعال بذات الرب سبحانه والقول بوجود مخلوق حادث عن خلق قديم قائم
بذات الرب سبحانه والقول بوجود مفعول بل فعل ولينظر أي هذه القوال
أبعد عن العقل والسمع وأيها أقرب إليهما ونحن نذكر أجوبة الطوائف عن
هذا السؤال فقالت طائفة يختار من هذا التقسيم والترديد كون الخلق
والتكوين قديما قائما بذات الرب سبحانه ول يلزمنا قدم المخلوق المكون
كما نقول نحن وأنتم أن الرادة قديمة ول يلزم من قدمها قدم المراد وكل ما
أجبتم به في صورة اللزام فهو جوابنا بعينه في مسألة المكون وهذا جواب
سديد وهو جواب جمهور الحنفية والصوفية وأتباع الئمة فإن قلتم إنما ل يلزم
من قدم الرادة قدم المراد لنها تتعلق بوجود المراد في وقته فهو يريد كون
الشيء في ذلك الوقت وأما تكوينه وخلقه قبل وجوده فمحال قيل لكم لسنا
نقول
) (22/5
أنه كونه قبل وقت كونه بل التكوين القديم اقتضى كونه في وقته كما
اقتضت الرادة القديمة كونه في وقته فإن قلتم كيف يعقل تكوين ول مكون
قيل كما عقلتم إرادة ول مراد فإن قلتم المريد قد يريد الشيء قبل كونه ول
يكونه قبل كونه قيل كلمنا في الرادة المستلزمة لوجوده في الرادة التي ل
تستلزم المراد وإرادة الرب سبحانه ومشيئته تستلزم وجود مراده وكذلك
التكوين يوضحه أن التكوين هو اجتماع القدرة والرادة وكلمة التكوين وذلك
188
كله قديم ولم يلزم منه قدم المكون قالوا وإذا عرضنا هذا على العقول
السليمة وعرضنا عليها مفعول بل فعل بادرت إلى قبول ذاك وإنكار هذا فهذا
جواب هؤلء وقالت الكرامية بل نختار من هذا الترديد كون التكوين حادثا
وقولكم يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الرب سبحانه فالتكوين هو فعله
وهو قائم به وكأنكم قلتم يلزم من قيام فعله به قيامه به وسميتم أفعاله
حوادث وتوسلتم بهذه التسمية إلى تعطيلها كما سمى إخوانكم صفاته
إعراضا وتوسلوا بهذه التسمية إلى نفيها عنه وكما سموا علوه على مخلوقاته
واستواءه على عرشه تحيزا وتوسلوا بهذه إلى نفيه وكما سموا وجهه العلى
ويديه جوارح وتوسلوا بذلك إلى نفيها قالوا ونحن ل ننكر أفعال خالق
السماوات والرض وما بينهما وكلمه وتكليمه ونزوله إلى السماء واستواءه
على عرشه ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده وندائه لنبيائه
ورسله وملئكته وفعله ما شاء بتسميتكم لهذا كله حوادث ومن أنكر ذلك فقد
أنكر كونه
) (22/6
) (22/7
189
بصفاته وفعله وأمره وكلمه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان بفعله
وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون فصرح إمام السنة أن
صفة التخليق هي فعل الرب وأمره وأنه خالق بفعله وكلمه وجميع جند
الرسول وحزبه مع محمد بن إسماعيل في هذا والقرآن مملوء من الدللة
َ
تماَوا ِ خل َقَ ال ّ
س َ ذي َ س ال ّ ِ عليه كما دل عليه العقل والفطرة قال تعالى} :أوَل َي ْ َ
م{ ثم أجاب نفسه بقوله} :ب ََلى وَهُوَ ال ْ َ َ َ
خل ّقُ مث ْل َهُ ْ
خل ُقَ ِ ن يَ ْقادِرٍ عََلى أ ْ ض بِ ََوالْر َ
م{ فأخبر أنه قادر على نفس فعله وهو أن يخلق فنفس أن يخلق فعل ال ْعَِلي ُ
له وهو قادر عليه ومن يقول ل فعل له وأن الفعل هو عين المفعول يقول ل
يقدر على فعل يقوم به البتة بل ل يقدر إل على المفعول المباين له الحادث
بغير فعل منه سبحانه وهذا أبلغ في الحالة من حدوثه بغير قدرة بل هو في
الحالة كحدوثه بغير فاعل فإن المفعول يدل على قدرة الفاعل باللزوم
العقلي ويدل على فعله الذي وجد به بالتضمن فإذا سلبت دللته التضمنية
كان سلب دللته اللزومية أسهل ودللة المفعول على فاعله وفعله دللة
واحدة وهي أظهر بكثير من دللته قدرته وإرادته في القرآن كثير كقوله:
َ
م{وأن يبعث هو نفس ن فَوْقِك ُ ْ
م ْذابا ً ِ ث عَل َي ْك ُ ْ
م عَ َ ن ي َب ْعَ َقادُِر عََلى أ ْل هُوَ ال ْ َ }ق ُ ْ
َ
قادِرٍ عَلى َ
س ذ َل ِك ب ِ َ َ َ
فعله والعذاب هو مفعوله المباين له وكذلك قو 4له} :ألي ْ َ
َ
موَْتى{ فإحياء الموتى نفس فعله وحياتهم مفعوله المباين له ي ال ْ َ حي ِ َن يُ ْأ ْ
َ
ه{ فتسوية سوّيَ ب ََنان َ ُ ن نُ َ ن عََلى أ ْ وكلهما مقدور له وقال تعالى} :ب ََلى َقادِِري َ
البنان فعله واستواؤها
) (22/8
190
العقول ما يقضي بذلك قالوا والتسلسل لفظ مجمل لم يرد بنفيه ول إثباته
كتاب ناطق ول سنة متبعة فيجب مراعاة لفظه وهو ينقسم إلى واجب
وممتنع وممكن كالتسلسل في المؤثر محال ممتنع لذاته وهو أن يكون
) (22/9
مؤثرين كل واحد منهم استفاد تأثيره ممن قبله ل إلى غاية والتسلسل
الواجب ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تعالى في البد وأنه
كلما انقضى لهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيما آخر ل نفاد له وكذلك التسلسل
في أفعاله سبحانه من طرق الزل وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر فهذا
واجب في كلمه فإنه لم يزل متكلما إذا شاء ولم تحدث له صفة الكلم في
وقت وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته فإن كل حي فعال والفرق بين
الحي والميت بالفعل ولهذا قال غير واحد من السلف الحي الفعال ،وقال
عثمان بن سعيد :كل حي فعال ولم يكن ربنا سبحانه قط في وقت من
الوقات المحققة أو المقدرة معطل عن كماله من الكلم والرادة والفعل
وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولته من هذا الطرف كما
يتسلسل في طرف البد فإنه إذا لم يزل حيا قادرا مريدا متكلما وذلك من
لوازم ذاته فالفعل ممكن هذه الصفات له وأن يفعل أكمل من أن ل يفعل ول
يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من
مخلوقاته تقدم ل أول له فلكل مخلوق أول والخالق سبحانه ل أول له فهو
وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن قالوا وكل قول
سوى هذا فصريح العقل يرده ويقضي ببطلنه وكل من اعترف بأن الرب
سبحانه لم يزل قادرا على الفعل لزمه أحد المرين ل بد له منهما أما أن
يقول بأن الفعل لم يزل ممكنا وأما أن يقول لم يزل واقعا إل تناقض تناقضا
بينا حيث زعم أن الرب سبحانه لم يزل قادرا على الفعل والفعل محال
ممتنع لذاته لو أراده لم يكن وجوده بل فرض إرادته عنده محال وهو مقدور
له وهذا قول ينقض بعضه بعضا وأجابت طائفة أخرى بالجواب المركب على
جميع التقادير فقالوا
) (22/10
ص -157-تسلسل الثار إما أن يكون ممكنا أو ممتنعا فإن كان ممكنا فل
محذور في التزامه وإن كان ممتنعا لم يلزم من بطلنه بطلن الفعل الذي ل
يكون المخلوق إل به فإنا نعلم أن المفعول المنفصل ل يكون إل بفعل
والمخلوق ل يكون إل بخلق قبل العلم بجواز التسلسل وبطلنه ،ولهذا كثير
من الطوائف يقولون الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول مع قولهم
ببطلن التسلسل مثل كثير من أتباع الئمة الربعة وكثير من أهل الحديث
والصوفية والمتكلمين ثم من هؤلء من يقول الخلق الذي هو التكوين صفة
كالرادة ومنهم من يقول بل هي حادثة بعد أن لم تكن كالكلم والرادة وهي
قائمة به سبحانه وهم الكرامية ومن وافقهم أثبتوا حدوثها وقيامها بذاته
وأبطلوا دوامها فرارا من القول بحوادث ل أول لها وكل الفريقين يقول أن
ذلك التكوين والخلق مخلوق بل يقول أن المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة
191
قالوا فإذا كان القول بالتسلسل لزما لكل من قال أن الرب تعالى لم يزل
قادرا على الخلق يمكنه أن يفعل بل ممانع فهو لزم لك كما ألزمته لخصومك
فل ينفردون بجوابه دونك وأما ما ألزموك به من وجود مفعول بل فعل
ومخلوق بل خلق فهو لزم لك وحدك قالوا ونحن إنما قلنا الفعل صفة قائمة
به سبحانه وهو قادر عليه ل يمنعه منه مانع والفعل القائم به ليس هو
المخلوق المنفصل عنه فل يلزم أن يكون معه مخلوقا في الزل إل إذا ثبت
أن الفعل اللزم يستلزم الفعل المتعدي وأن المتعدي يستلزم دوام نوع
المفعولت ودوام نوعها يستلزم أن يكون معه سبحانه في الزل شيء منها
وهذه المور ل سبيل لك ول لغيرك إلى الستدلل على ثبوتها كلها وحينئذ
فنقول أي لزم لزم من إثبات فعله كان القول به خيرا من نفي الفعل
وتعطيله فإن ثبت قيام فعله به من غير قيام الحوادث به كما يقوله كثير من
الناس بطل قولكم وإن لزم من إثبات فعله قيام المور الختيارية به والقول
بأنها مفتتحة ولها أول فهو خير من
) (22/11
قولكم كما تقوله الكرامية وإن لزم تسلسلها وعدم أوليتها في الفعال
اللزمة فهو خير من قولكم وإن لزم تسلسل الثار وكونه سبحانه لم يزل
خالقا كما دل عليه النص والعقل فهو خير من قولكم ولو قدر أنه يلزم أن
الخلق لم يزل مع الله قديما بقدمه كان خيرا من قولكم مع أن هذا ل يلزم
ولم يقل به أحد من أهل السلم بل ول أهل الملل فكلهم متفقون على أن
الله وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق موجود بعد عدمه وليس معه غيره
من المخلوقات يكون وجوده مساويا لوجوده فما لزم بعد هذا من إثبات خلقه
وأمره وصفات كماله ونعوت جلله وكونه رب العالمين وأن كماله المقدس
من لوازم ذاته فإنا به قائلون وله ملتزمون كما إنا ملتزمون لكل ما لزم من
كونه حيا عليما قديرا سميعا بصيرا متكلما آمرا ناهيا فوق عرشه بائن من
خلقه يراه المؤمنون بأبصارهم عيانا في الجنة وفي عرصات القيامة ويكلمهم
ويكلمونه فإن هذا حق ولزم الحق مثله وما لم يلزم من إثبات ذلك من
الباطل الذي تتخيله خفافيش العقول فنحن له منكرون وعن القول به
عادلون وبالله التوفيق ،قال القدري :كون العبد موجدا لفعاله وهو الفاعل
لها من أجل الضروريات والبديهيات فإن كل عاقل يعلم من نفسه أنه فاعل
لما يصدر منه من الفعال الواقعة على وفق قصده وداعيته بخلف حركة
المرتعش والمجرور على وجهه وهذا ل يتمارى فيه العاقل ول يقبل التشكيك
والقدح في ذلك والستدلل على خلفه استدلل على بطلن ما علمت صحته
بالضرورة فل يكون مقبول ،قال السني :قد أجابك خصومك من الجبرية عن
هذا بأن العاقل يعلم من نفسه وقوع الفعل مقارنا لقدرته
) (22/12
ص -158-ول يعلم من نفسه أنه واقع بقدرته والفرق بين المرين ظاهر ولو
كان وقوعه بقدرته هو المعلوم بالضرورة لما خالف فيه جمع عظيم من
العقلء يستحيل عليهم الطباق على جحد الضروريات وهذا الجواب مما ل
192
يشفي عليل ول يروي غليل وهو عبارات ل حاصل تحتها فإن كل عاقل يجد
من نفسه وقوع الفعل بقدرته وإراداته وداعيته فإن ذلك هو المؤثر في الفعل
ويجد تفرقة ضرورية بين مقارنة القدرة والداعية للفعل ومقارنة طوله ولونه
وشمه وغير ذلك من صفاته للفعل ونسبة ذلك كله عند الجبري إلى الفعل
نسبة واحدة والله سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند القدرة والداعي ل
بهما وإنما اقترن الداعي والقدرة بالفعل اقترانا مجردا ومعلوم أن هذا قدح
في الضروريات ول ريب أن من نظر إلى تصرفات العقلء ومعاملتهم مع
بعضهم بعضا وجدهم يطلبون الفعل من غيرهم طلب عالم بالضطرار أن
المطلوب منه الفعل هو المحصل له فالواقع بقدرته وإرادته ولذلك يتلطفون
لوقوع الفعل منه بكل لطيفة ويحتالون عليه بكل حيلة فيعطونه تارة
ويزجرونه تارة ويخوفونه تارة ويتوصلون إلى إخراج الفعل منه بأنواع الرغبة
والرهبة ويقولون قد فعل فلن كذا فما لك ل تفعل كما فعل وهذا أمر مشاهد
بالحس والضرورة فالعقلء ساكنو لنفس إلى أن الفعل من العبد يقع وبه
يحصل ولو حرك أحدهم أصبعه فشتمت المحرك لها لغضب وشتمك وقال
كيف تشتمني ولم يقل لي لم تشتم ربي وهذا أوضح من أن يضرب له المثال
أو يبسط فيه المقال وما يعرض في ذلك من الشبه جار مجرى السفسطة
وقد فطر الله العقلء على ذم فاعل الساءة ومدح فاعل الحسان وهذا يدل
على أنهم مفطورون على العلم بأنه فاعل لن الذم فرع عليه ويستحيل أن
يكون الفرع معلوما باضطرار والصل ليس كذلك والعقلء قاطبة يعلمون أن
الكاتب مثل يكتب إذا أراد ويمسك إذا أراد وكذلك الباني والصانع وأنه إذا
عجزت قدرته أو عدمت إرادته بطل فعله فإن عادت إليه القدرة والرادة عاد
) (22/13
الفعل وقولك لو كان ذلك أمرا ضروريا لشترك العقلء فيه جوابك انه ل يجب
الشتراك في الضروريات فكثير من العقلء يخالفون كثيرا من الضروريات
لدخول شبهة عليهم ول سيما إذا تواطؤا عليها وتناقلوها كمخالفة الفلسفة
في اللهيات بيسير من الضروريات وهم جمع كثير من العقلء وهؤلء
النصارى يقولون ما يعلم فساده بضرورة العقل وهم يناظرون عليه
وينصرونه وهؤلء الرافضة يزعمون أن أبا بكر وعمر لم يؤمنا بالله ورسوله
طرفة عين ولم يزال عدوين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مترصدين
لقتله وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام عليا على رؤوس جميع
الصحابة وهم ينظرون إليه جهرة وقال" :هذا وصي وولي العهد من بعدي
فكلكم له تسمعون" وأطبقوا على كتمان هذا النص وعصيانه وهؤلء الجهمية
ومن قال بقولهم يقولون ما يخالف صريح العقل من وجود مفعول بل فعل
ومخلوق بل خلق وهؤلء الفلسفة وهم المدلون بعقولهم يثبتون ذواتا قائمة
بأنفسهم خارج الذهن ليست في العالم ول خارجة عن العالم ول متصلة به
ول منفصلة عنه ول مباينة له ول محايثة وهو ما يعلم بصريح العقل فساده
وهؤلء طائفة التحادية تزعم أن الله هو هذا الوجود وأن التعدد والتكثير فيه
وهم محض وهؤلء منكرو السباب يزعمون أنه ل حرارة في النار تحرق بها
ول رطوبة في الماء يروى بها وليس في الجسام أصل ل قوى ول طبائع ول
193
في العالم شيء يكون سببا لشيء آخر البتة وإن لم تكن هذه المور جحدا
للضروريات فليس في العالم من جحد الضروريات وإن كانت جحدا
) (22/14
) (22/15
استفهام مقدر تقديره أفمن نفسك فهو إنكار ل إثبات وقرأها بعضهم فمن
نفسك بفتح الميم ورفع نفسك أي من أنت حتى تفعلها وقال ول بد من تأويل
ن قوُلوا هَذِهِ ِ
م ْ ة يَ ُ
سن َ ٌ
ح َ م َ صب ْهُ ْ
ن تُ ِ الية وإل ناقض قوله في الية التي قبلها} :وَإ ِ ْ
ه{ فأخبر ّ
عن ْدِ الل ِ
ن ِ م ْ ّ ُ
عن ْدِك قل كل ُِ َ ن ِم ْقوُلوا هَذِهِ ِ سي ّئ َ ٌ
ة يَ ُ م َ صب ْهُ ْ
ن تُ ِعن ْدِ الل ّهِ وَإ ِ ْ
ِ
أن الحسنات والسيئات جميعا من عنده ل من عند العبد ،قال السني:
أخطأتما جميعا في فهم الية أقبح الخطأ ومنشأ غلطكما إن الحسنات
والسيئات في الية المراد بها الطاعات والمعاصي التي هي فعل العبد
الختياري وهذا وهم محض في الية وإنما المراد بها النعم والمصائب ولفظ
الحسنات والسيئات في كتاب الله يراد به هذا تارة وهذا تارة فقوله تعالى:
ن
حوا ب َِها{ وقوله} :إ ِ ْ فَر ُة يَ ْ سي ّئ َ ٌ
م َصب ْك ُ ْ
ن تُ ِ سؤْهُ ْ
م وَإ ِ ْ ة تَ ُ سن َ ٌ
ح َ م َسك ُ ْس ْ م َن تَ ْ}إ ِ ْ
194
ن قَب ْ ُ َ قوُلوا قَد ْ أ َ َ صب ْ َ صب ْ َ
ل{ م ْ مَرَنا ِ خذ َْنا أ ْ ة يَ ُصيب َ ٌ م ِ ك ُ ن تُ ِ م وَإ ِ ْ سؤْهُ ْ ة تَ ُ سن َ ٌح َ ك َ تُ ِ
ماة بِ َ سي ّئ َ ٌم َ صب ْهُ ْ ن تُ ِ ت{ وقوله} :وَإ ِ ْ سّيئا ِ ت َوال ّ سَنا ِ ح َ ْ
م ِبال َ َ
وقوله} :وَب َلوَْناهُ ْ
َ ُ ْ َ َ
ة َقالوا لَنا هَذِ ِ
ه سن َ ُح َ م ال َ جاَءت ْهُ ُ فوٌر{ وقوله} :فَإ َِذا َ نك ُ سا َ ن ال ِن ْ َ م فَإ ِ ّ ديهِ ْ ت أي ْ ِ م ْ قَد ّ َ
ة َ َ ّ سي ّئ َ ٌ
سن َ ٍح َ ن َ م ْ صاب َك ِ ما أ َ ه{ وقولهَ } : معَ ُ ن َ م ْسى وَ َ مو َ ة ي َطي ُّروا ب ِ ُ م َ صب ْهُ ْ ن تُ ِ وَإ ِ ْ
َ َ َ ّ
سك{ المراد في هذا كله النعم ف ِ ن نَ ْ م ْ سي ّئ َةٍ فَ ِن َ م ْ صاب َك ِ ما أ َ ن اللهِ وَ َ م َ فَ ِ
َ َ ْ
سي ّئ َ ِ
ة جاَء ِبال ّ ن َ م ْ مَثال َِها وَ َ شُر أ ْ ه عَ ْ سن َةِ فَل ُ ح َ جاَء ِبال َ ن َ م ْوالمصائب وأما قولهَ } :
ت{ وقوله} :فَُأول َئ ِكَ َ
سي ّئا ِ ن ال ّ ت ي ُذ ْهِب ْ َ سَنا ِ ح َ ْ
ن ال َ مث ْل ََها{ وقوله} :إ ِ ّ جَزى إ ِل ّ ِ َفل ي ُ ْ
ت{ والمراد به في هذا كله العمال المأمور بها سَنا ٍ ح َ م َسي َّئات ِهِ ْ ه َ ل الل ّ ُ ي ُب َد ّ ُ
والمنهي عنها وهو سبحانه إنما قال ما أصابك ولم
) (22/16
و
ت وَهُ َ حا ِ صال ِ َ ن ال ّ م َ ل ِ م ْ ن ي َعْ َ م ْ ص -160-ما أصبت وكسبت وعملت كقوله} :وَ َ
ً َ
ة أوْ إ ِْثما{ طيئ َ ً
خ ِ ب َ س ْ ن ي َك ْ ِ م ْ ه{} :وَ َ جَز ب ِ ِ سوءا ً ي ُ ْ ل ُ م ْ ن ي َعْ َ م ْ ن{ وكقولهَ } : م ٌ مؤ ْ ِ ُ
وقول المذنب التائب يا رسول الله أصبت ذنبا فأقم علي كتاب الله ول يقال
في هذا أصابك ذنب وأصابتك سيئة وما يفعل به بغير اختياره يقال فيه أصابك
َ َ
صب ْ َ
ك ن تُ ِ م{ وقوله} :وَإ ِ ْ ديك ُ ْ ت أي ْ ِ سب َ ْ ما ك َ َ صيب َةٍ فَب ِ َ م ِ ن ُ م ْ م ِ صاب َك ُ ْما أ َكقوله} :وَ َ
ُ َ َ َ َ َ
قوُلوا قَد ْ أ َ
ة قَد ْ صيب َ ٌ م ِ م ُ صاب َت ْك ْ ما أ َ ل{ وقوله} :أوَل ّ ن قَب ْ ُ م ْ مَرَنا ِ خذ َْنا أ ْ ة يَ ُ صيب َ ٌ م ِ ُ
مث ْلي َْها{ فجمع الله في الية بين ما أصابوا بفعلهم وكسبهم وما أصابهم َ َ
م ِ صب ْت ُ ْ أ َ
مما ليس فعل لهم وقوله} :ونحن نتربص بك ُ َ
نم ْب ِ ذا ٍ ه ب ِعَ َ م الل ّ ُ صيب َك ُ ُن يُ ِ مأ ْ ََ ْ ُ َََ ّ ُ ِ ْ
ة{ وقوله: َ
صن َُعوا قارِعَ ٌ ما َ م بِ َ صيب ُهُ ْ فُروا ت ُ ِ ن كَ َ ذي َل ال ّ ِ ه{ وقولهَ} :ول ي ََزا ُ عن ْدِ ِ ِ
ة{ هو من هذا ن س ح ن م َ
ك ب صا َ أ ما } فقوله: ت{ و م ْ ل ا ةب صي م م ُ ك ت بصا }فَأ َ
ِ ْ َ َ َ ٍ َ َ َ َ َْ ْ ُ ِ َ ُ َ ْ ِ
القسم الذي يصيبه العبد ل باختياره وهذا إجماع من السلف في تفسير هذه
الية ،قال أبو العالية" :وإن تصبكم حسنة هذا في السراء وإن تصبهم سيئة
هذ في الضراء" ،قال السدي" :الحسنة الخصب تنتج مواشيهم وأنعامهم
ويحسن حالهم فتلد نساؤهم الغلمان قالوا هذا من عند الله وإن تصبهم سيئة
قال الضر في أموالهم تشاءموا بمحمد وقالوا هذه من عنده قالوا بتركنا ديننا
وإتباعنا محمدا أصابنا ما أصابنا فأنزل الله سبحانه ردا عليهم قل كل من عند
الله الحسنة والسيئة" وقال الوالبي عن ابن عباس ما أصابك من حسنة فمن
الله قال ما فتح الله عليك يوم بدر وقال أيضا هو الغنيمة والفتح والسيئة ما
أصابه يوم أحد شج في وجهه وكسرت رباعيته وقال أما الحسنة فأنعم الله
بها عليك وأما السيئة فابتلك بها وقال أيضا ما أصابك من
) (22/17
نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم وفي تفسير
أبي صالح عن ابن عباس" :إن تصبك حسنة الخصب وإن تصبك سيئة الجدب
والبلء" وقال ابن قتيبة في هذه الية" :الحسنة النعمة والسيئة البلية" فإن
قيل فقد حكى أبو الفرج بن الجوزي عن أبي العالية أنه فسر الحسنة
والسيئة في هذه الية بالطاعة والمعصية وهو من أعلم التابعين فالجواب أنه
195
لم يذكر بذلك إسنادا ول نعلم صحته عن أبي العالية وقد ذكر ابن أبي حاتم
بإسناده عن أبي العالية ما تقدم حكايته أن ذلك في السراء والضراء وهذا هو
المعروف عن أبي العالية ولم يذكر ابن أبي حاتم عنه غيره وهو الذي حكاه
ابن قتيبة عنه وقد يقال أن المعنيين جميعا مرادان باعتبار أن ما يوفقه الله
مةٍن ن ِعْ َ
م ْم ِ ما ب ِك ُ ْ
من الطاعات فهو نعمة في حقه أصابته من الله كما قال} :وَ َ
ه{ فهذا يدخل فيه نعم الدين والدنيا وما يقع منه من المعصية فهو ن الل ّ ِم َفَ ِ
مصيبة أصابته من الله وإن كان سببها منه والذي يوضح ذلك أن الله سبحانه
صاب َكَ َ
ما أ َ إذا جعل السيئة هي الجزاء على المعصية من نفس العبد بقوله} :وَ َ
ك{ فالعمل الذي أوجب الجزاء أولى أن يكون من نفسه س َف ِن نَ ْ سي ّئ َةٍ فَ ِ
م ْ ن َ م ِْ
فل منافاة بين أن تكون سيئة العمل من نفسه وسيئة الجزاء من نفسه ول
ينافي ذلك أن يكون الجميع من الله قضاء وقدرا ولكن هو من الله عدل
وحكمة ومصلحة وحسن ومن العبد سيئة وقبيح وقد وري عن ابن عباس أنه
س َ صاب َ َ َ
ك{ وأنا قدرتها عليك وهذه ف ِ
ن نَ ْ سي ّئ َةٍ فَ ِ
م ْ ن َ
م ْ
ك ِ ما أ َ كان يقرأها} :وَ َ
ه{ على ّ
عن ْدِ الل ِ ن ِم ْ القراءة زيادة بيان وإل فقد دل قوله قبل ذلكُ} :قل ك ُ ّ
ل ِ
السابق القضاء والقدر النافذ والمعاصي قد تكون بعضها عقوبة بعض فيكون
لله على المعصية عقوبتان عقوبة بمعصية تتولد منها وتكون الولى سببا فيها
وعقوبة بمؤلم يكون جزاؤها كما في الحديث المتفق على صحته عن ابن
مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم" :عليكم بالصدق
) (22/18
ص -161-ول يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا
وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ول
يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا" وقد ذكر الله
سبحانه في غير موضع من كتابه أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب
الحسنة الولى وأن المعصية قد تكون عقوبة للمعصية الولى فالول كقوله
شد ّ ت َث ِْبيتا ً وَِإذا ً م وَأ َ َ خْيرا ً ل َهُ ْ ن َ كا َن ب ِهِ ل َ َظو َ ما ُيوعَ ُ م فَعَُلوا َ
َ
تعالى} :وَل َوْ أن ّهُ ْ
قيمًا{ وقال تعالى: َ
ست َ ِ
م ْ صَراطا ً ُ م ِ ظيما ً وَل َهَد َي َْناهُ ْ جرا ً عَ ِ ن ل َد ُّنا أ ْ م ْم ِ لت َي َْناهُ ْ
ه
وان َ ُ
ض َن ات ّب َعَ رِ ْ ّ َ َ }َوال ّ ِ
م ِ ه َ دي ب ِهِ الل ُ سب ُلَنا{ وقال} :ي َهْ ِ م ُ دوا ِفيَنا لن َهْدِي َن ّهُ ْ جاهَ ُ ن َ ذي َ
ط
صَرا ٍ م إ َِلى ِ ديهِ ْ ت إ َِلى الّنورِ ب ِإ ِذ ْن ِهِ وَي َهْ ِ ما ِ ن الظ ّل ُ َ م َ م ِ جهُ ْ خرِ ُ سلم ِ وَي ُ ْ ل ال ّ سب ُ َ
ُ
َ َ َ ّ ُ ّ
ممالهُ ْ ل أعْ َ ض ّ ن يُ ِ ل اللهِ فَل ْ ن قُت ِلوا ِفي َ
سِبي ِ ذي َم{ وأما قولهَ} :وال ِ قي ٍ ست َ ِ
م ْ ُ
م{ فيحتمل أن ل يكون من هذا وتكون الهداية في َ
ح َبالهُ ْ صل ِ ُ م وَي ُ ْديهِ ْ سي َهْ ِ َ
الخرة إلى طريق الجنة فإنه رتب هذا الجزاء على قتلهم ويحتمل أن يكون
منه ويكون قوله سيهديهم ويصلح بالهم إخبارا منه سبحانه عما يفعله بهؤلء
الذين قتلوا في سبيله قبل أن قتلوا وأتى به بصيغة المستقبل إعلما منه بأنه
يجدد له كل وقت نوعا من أنواع الهداية وإصلح البال شيئا بعد شيء فإن
قلت فكيف يكون ذلك المستقبل خبرا عن الذين قتلوا قلت الخبر قوله:
}فلن يضل أعمالهم{ أي أنه ل يبطلها عليهم ول يترهم إياها هذا بعد أن قتلوا
ثم أخبر سبحانه خبرا مستأنفا عنهم أنه سيهديهم ويصلح بالهم لما علم أنهم
سيقتلون في سبيله وأنهم بذلوا أنفسهم له فلهم جزاآن جزاء في الدنيا
196
بالهداية على الجهاد وجزاء في الخرة بدخول الجنة فيرد السامع كل جملة
إلى
) (22/19
وقتها لظهور المعنى وعدم التباسه وهو في القرآن كثير والله أعلم وقال
شد ّهُ ما ب َل َغَ أ َ ُ شاَء{ وقال} :وَل َ ّ ح َ ف ْ سوَء َوال ْ َ ه ال ّ ف عَن ْ ُ صرِ َ ك ل ِن َ ْ تعالى} :ك َذ َل ِ َ
َ
نذي َ ن{ وقالَ} :يا أي َّها ال ّ ِ سِني َ ح ِ م ْ زي ال ْ ُ ج ِ ك نَ ْ عْلما ً وَك َذ َل ِ َ كما ً وَ ِ ح ْ وى آت َي َْناه ُ ُ ست َ َ َوا ْ
ُ ُ َ ُ َ َ ُ َ ً ً َ ُ ُ ّ
م{ م ذ ُُنوب َك ْ فْر لك ْ م وَي َغْ ِ مالك ْ م أعْ َ ح لك ْ صل ِ ْ ديدا ي ُ ْ س ِه وَقولوا قوْل َ قوا الل َ مُنوا ات ّ ُ آ َ
ذي ّ
ماما عَلى ال ِ َ ً ب تَ َ ْ
سى الك َِتا َ مو َ م آت َي َْنا ُ ُ
دوا{ وقال} :ث ّ طيُعوه ُ ت َهْت َ ُ ن تُ ِ وقال} :وَإ ِ ْ
ن{ فضمن التمام معنى النعام فعداه بعلى أي أنعاما منا على الذي َ
س َ ح َ أ ْ
أحسن وهذا جزاء على الطاعات بالطاعات وأما الجزاء بالمعاصي على
المعاصي فكقوله} :فَل َما زا ُ َ
ن
ذي َ كال ّ ِ كوُنوا َ م{ وقولهَ} :ول ت َ ُ ه قُُلوب َهُ ْ غوا أَزاغَ الل ّ ُ ّ َ
َ قل ّب أ َفْئ ِدتهم وأ َ م أ َن ْ ُ َ
م
ْ ل ما َ ك م
َ ُ ْ َ ْ َ َ ْ َُ ه ر صا ب َ ُ َ ُ ن َ و } وقوله: م{ سهُ ْ ف َ ساهُ ْ ه فَأن ْ َ سوا الل ّ َ نَ ُ
ّ ّ ُ َ
مُنوا ب ِهِ أوّ َ
وان ت َوَل ْ ذي َ ن ال ِ ن{ وقوله} :إ ِ ّ مُهو َ م ي َعْ َ م ِفي طغَْيان ِهِ ْ مّرةٍ وَن َذ َُرهُ ْ ل َ ي ُؤْ ِ
سُبوا{ وقوله: ما ك َ َ ض َ َ م ال ّ ّ ْ ْ من ْك ُ ْ
ن ب ِب َعْ ِ شي ْطا ُ ست ََزلهُ ُ ما ا ْ ن إ ِن ّ َ مَعا ِ ج ْ قى ال َ م الت َ َ م ي َوْ َ ِ
م
ن{ وقوله} :وَي َوْ َ مُنو َ ما ي ُؤْ ِ قِليل ً َ م فَ َ فرِهِ ْ ُ
ه ب ِك ْ ّ
م الل ُ ل لعَن َهُ ُ َ ف بَ ْ ْ
}وََقالوا قُلوب َُنا غُل ٌ ُ ُ
َ ُ َ ً ُ َ َ
ما ض بِ َ م الْر ُ ت عَلي ْك ُ ضاقَ ْ شْيئا وَ َ م َ ن عَن ْك ْ م ت ُغْ ِ م فَل ْ م ك َث َْرت ُك ْ
ُ جب َت ْك ُ ْ ن إ ِذ ْ أعْ َ حن َي ْ ٍُ
ن{ وهو كثير في القرآن وعلى هذا فيكون النوعان من ري َ مد ْب ِ ِ م ُ ّ
م وَلي ْت ُ ْ ت ثُ ّ حب َ ْ َر ُ
السيئات أعني المصائب والمعايب من نفس النسان وكلهما بقدر الله فشر
النفس هو الذي أوجب هذا وهذا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في
خطبته المعروفة" :ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" فشر
النفس نوعان صفة وعمل والعمل ينشأ عن الصفة والصفة تتأكد وتقوى
بالعمل
) (22/20
فكل منهما يمد الخر وسيئات العمال نوعان قد فسرهما الحديث أحدهما
مساويها وقبائحها فتكون الضافة فيه من النوع إلى جنسه وهي إضافة بمعنى
من أي السيئات من أعمالنا والثاني أنها ما يسوء العامل مما يعود عليه من
عقوبة عمله فيكون من إضافة المسبب إلى سببه وتكون الضافة على معنى
اللم وقد يرجح الول بأنه يكون قد استعاذ من الصفة والعمل الناشئ عنها
وذلك يتضمن الستعاذة من الجزاء السيئ
197
ومليكه أشهد أن ل إله إل أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان
وشركه وأن أقترف على نفسي سوأ أو أجره إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا
أمسيت وإذا أخذت مضجعك" ،ولما كان الشر له مصدر يبتدي منه وغاية
ينتهي إليها وكان مصدرها إما من نفس النسان وإما من الشيطان وغايته أن
يعود على صاحبه أو على أخيه المسلم تضمن الدعاء هذه المراتب الربعة
بأوجز لفظ وأوضحه وأبينه.
فصل :قال السني :فليس لك أيها القدري أن تحتج بالية التي نحن فيها
لمذهبك لوجوه أحدها أنك تقول فعل العبد حسنة كان أو سيئة هو منه ل من
الله بل الله سبحانه قد أعطى كل واحد من الستطاعة ما يفعل به الحسنات
والسيئات ولكن هذا أحدث من عند نفسه إرادة فعل بها الحسنات وهذا
أحدث إرادة فعل بها السيئات وليست واحدة من الرادتين من إحداث الرب
سبحانه
) (22/21
) (22/22
198
وإل لم يستقم
ص -163-جعل أحدهما عقوبة على الخر وقد صرح بذلك في قوله} :فَب ِ َ
ما
ة{ فأضاف نقض الميثاق إليهم م َقا ِ
سي َ ً جعَل َْنا قُُلوب َهُ ْ م وَ َ م ل َعَّناهُ ْ ميَثاقَهُ ْ م ِ ضهِ ْ ق ِ نَ ْ
وتقسية القلوب إليه فالول سبب منهم والثاني جزاء منه سبحانه قال تعالى:
م ِفي ط ُغَْيان ِهِ ْ
م مّرةٍ وَن َذ َُرهُ ْ ل َ مُنوا ب ِهِ أ َوّ َم ي ُؤْ ِما ل َ ْ
م كَ َ صاَرهُ ْ
َ
م وَأب ْ َ
َ
ب أفْئ ِد َت َهُ ْ قل ّ ُ}وَن ُ َ
ن{ فأضاف عدم اليمان أول إليهم إذ هو السبب وتقليب القلوب مُهو َ ي َعْ َ
م{ ُ ُ ّ َ َ ُ َ َ
ه قلوب َهُ ْ ما َزاغوا أَزاغ الل ُ وتركهم في طغيانهم هو الجزاء ومثله قوله} :فل ّ
واليات التي سمعتموها آنفا إنما تدل على هذا قال السني :نعم هذا حق لكن
ليس فيه إخراج السبب عن كونه مقدورا للرب سبحانه واقعا بمشيئته ولو
شاء لحال بين العبد وبينه ووفقه لضده فهي البقية التي بقيت عليك من
القدر كما أن إنكار إثبات السباب واقتضائها لمسبباتها وترتبها عليها هي
البقية التي بقيت على الجبري في المسألة أيضا وكلكما مصيب من وجه
مخطئ من وجه ولو تخلص كل منكما من البقية التي بقيت عليه لوجدتما
روح الوفاق واصطلحتما على الحق وبالله التوفيق قال القدري :فما تقول
أنت أيها السني في العقل الول إذا لم يكن جزاء فما وجهه وأنت ممن يقول
بالحكمة والتعليل وتنزه الرب سبحانه عن الظلم الذي هو ظلم ل ما يقوله
الجبري أنه الجمع بين النقيضين قال السني :ل يلزمني في هذ ا المقام بيان
ذلك فإني لم أنتصب له إنما انتصبت لبطال احتجاجك بالية لمذهبك الباطل
وقد وفيت به ولله في ذلك حكم وغايات محمودة ل تبلغها عقول العقلء
ومباحث الذكياء فالله سبحانه إنما يضع فضله وتوفيقه وإمداده في المحل
الذي يصلح له وما ل يصلح له من المحال يدعه غفل فارغا من الهدى
خْيرا ً
م َ ه ِفيهِ ْ م الل ّ ُوالتوفيق فيجري مع طبعه الذي خلق عليه} :وَل َوْ عَل ِ َ
َ َ
م
وا وَهُ ْ م ل َت َوَل ّ ْمعَهُ ْ س َم وَل َوْ أ ْ معَهُ ْس َ ل ْ
) (22/23
ن{ قال القدري :فإذا كان الله سبحانه قد أحدث فيهم تلك الرادة ضو َ
معْرِ ُ
ُ
والمشيئة المستلزمة لوجود الفعل كان ذلك إيجادا منه سبحانه لذلك فيهم
كما أوجد الهدى واليمان في أهله قال السني هذا معترك النزال وتفرق
طرق العالم والله سبحانه أعطى العبد مشيئة وقدرة وإرادة تصلح لهذا ولهذا
ثم أمد أهل الفضل بأمور وجودية زائدة على ذلك المشترك أوجب له الهداية
واليمان وأمسك ذلك المداد عمن علم أنه ل يصلح له ول يليق به فانصرفت
قوى إرادته ومشيئته إلى ضده اختيارا منه ومحبة ل كرها واضطرارا قال
القدري :فهل كان يمكنه إرادة ما لم يعن عليه ولم يوفق له بإمداد زائد على
خلق الرادة قال السني :إن أردت بالمكان أنه يمكنه فعله لو أراده فنعم هو
ممكن بهذا العتبار مقدور له وإن أردت به أنه ممكن وقوعه بدون مشيئة
الرب وإذنه فليس يمكن فإنه ما شاء الله كان ووجب وجوده وما لم يشأ لم
يكن وامتنع وجوده قال القدري :فقد سلمت حينئذ أنه غير ممكن للعبد إذا لم
يشأ الله منه أن يفعله فصار غير مقدور للعبد فقد عوقب على ترك ما ل
يقدر على فعله قال السني :عدم إرادة الله سبحانه للعبد ومشيئته أن يفعل
ل يوجب كون الفعل غير مقدور له فإنه سبحانه ل يريد من نفسه أن يعينه
199
عليه مع كونه أقدره عليه ول يلزم من إقداره عليه وقوعه حتى توجد منه
إعانة أخرى فانتفاء تلك العانة ل يخرج الفعل عن كونه مقدورا للعبد فإنه قد
يكون قادرا على الفعل لكن يتركه كسل وتهاونا وإيثارا لفعل ضده فل يصرف
الله عنه ترك الواقع ول يوجب عدم صرفه كونه عاجزا عن الفعل فإن الله
سبحانه يعلم أنه قادر عليه بالقدرة التي أقدره بها ويعلم أنه ل يريده مع كونه
قادرا عليه فهو سبحانه مريد له ومنه الفعل ول يريد من نفسه إعانته وتوفيقه
وقطع هذه العانة والتوفيق ل يخرج الفعل عن كونه مقدورا له وإن جعلته
غير مراد وسر
) (22/24
ص -164-المسألة الفرق بين تعلق الرادة بفعل العبد وتعلقها بفعله هو
سبحانه بعده فمن لم يحط معرفة بهذا الفرق لم يكشف له حجاب المسألة
قال الجبري :أما أن تقول أن الله علم أن العبد ل يفعل أو لم يعلم ذلك
والثاني محال وإذا كان قد علم أنه ل يفعله صار الفعل ممتنعا قطعا إذ لو
فعله ل نقلب العلم القديم جهل قال السني :هذه حجة باطلة من وجوه
أحدهما أن هذا بعينه يقال فيما علم الله أنه ل يفعله وهو مقدور له فإنه ل
ينفع البتة مع كونه مقدورا له فما كان جوابك عن ذلك فهو جوابنا لك وثانيها
أن الله سبحانه يعلم المور على ما هي عليه فهو يعلم أنه ل يفعله لعدم
إرادته له ل لعدم قدرته عليه وثالثها أن العلم كاشف ل موجب وإنما الموجب
مشيئة الرب والعلم يكشف حقائق المعلومات ،عدنا إلى الكلم على الية
التي احتج بها القدري وبيان أنه ل حجة فيها من ثلثة أوجه أحدها أنه قال ما
أصابك ولم يقل ما أصبت الثاني أن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والمصيبة
ه{ فالنسان هو فاعل السيئات ويستحق عن ْدِ الل ّ ِ
ن ِ م ْل ِالثالث أنه قالُ} :قل ك ُ ّ
علها العقاب والله هو المنعم عليه بالحسنات عمل وجزاء والعادل فيه
بالسيئات قضاء وجزاء ولو كان العمل الصالح من نفس العبد كما كان السيئ
من نفسه لكان المران كلهما من نفسه والله سبحانه قد فرق بين النوعين
وفي الحديث الصحيح اللهي" :يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم
أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل
نفسه".
فصل :قال الجبري :أول الية محكم وهو قوله كل من عند الله وآخرها
َ َ
ن
م ْسي ّئ َةٍ فَ ِ
ن َ
م ْ صاب َ َ
ك ِ ن الل ّهِ وَ َ
ما أ َ سن َةٍ فَ ِ
م َ ح َ ن َم ْ ك ِ صاب َ َ
ما أ َ متشابه وهو قولهَ } :
ك{ قال القدري :آخرها محكم وأولها متشابه قال السني :أخطأتما س َ
ف ِ
نَ ْ
جميعا بل كلهما محكم مبين وإنما أتيتما من قلة الفهم في القرآن وتدبره
فليس بين اللفظين تناقض ل في المعنى ول في
) (22/25
200
والعمال التي ظنوا أنها سبب المصائب هي التي أمروا بها وقولهم في
السيئة التي تصيبهم هذه من عندك تتناول مصائب الجهاد التي حصلت لهم
من الهزيمة والجراح وقتل من قتل منهم وتتناول مصائب الرزق على وجه
التطير والتشاؤم أي أصابنا هذا بسبب دينك كما قال تعالى عن قوم فرعون:
ن
م ْسى وَ َ مو َة ي َط ّي ُّروا ب ِ ُ سي ّئ َ ٌ
م َ صب ْهُ ْ ة َقاُلوا ل ََنا هَذِهِ وَإ ِ ْ
ن تُ ِ سن َ ُح َم ال ْ َ }فَإ َِذا َ
جاَءت ْهُ ُ
ه{ أي إذا جاءهم ما يسرون به ويتنعمون به من النعم قالوا نحن أهل ذلك معَ ُ
َ
ومستحقوه وإن أصابهم ما يسوءهم قالوا هذا بسبب ما جاء به موسى وقال
أهل القرية للمرسلين إنا تطيرنا بكم وقال قوم صالح له عليه السلم اطيرنا
بك وبمن معك وكانوا يقولون لما ينالهم من سبب الحرب هذا منك لنك
أمرتنا بالعمال الموجبة له وللمصائب الحاصلة من غير جهة العدو وهذا أيضا
منك أي بسبب مفارقتنا لديننا ودين آبائنا والدخول في طاعتك وهذه حال كل
من جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم سببا لشر أصابه من السماء
أو من الرض وهؤلء كثير في الناس وهم القلون عند الله تعالى قدرا
الرذلون عنده ومعلوم أنهم لم يقولوا هذه من عندك بمعنى أحدثتها ومن
َ َ
كصاب َ َما أ َ ن الل ّهِ وَ َ سن َةٍ فَ ِ
م َ ح َ ن َ م ْ
ك ِ صاب َ َ
ما أ َ فهم هذا يتبين له أن قوله تعالىَ } :
ه{ بل هذا ّ
عن ْد ِ الل ِن ِ م ْل ِ ُ
ك{ ل يناقض قوله تعالىُ} :قل ك ّ س َ ف ِن نَ ْ م ْسي ّئ َةٍ فَ ِ
ن َ م ْ ِ
تحقيق له فإنه سبحانه
) (22/26
ص -165-بين أن النعم والمصائب كلها من عنده فهو الخالق لها المقدر لها
المبتلي خلقه بها فهي من عنده ليس بعضها من عنده وبعضها خلقا لغيره
فكيف يضاف بعضها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبعضها إلى الله
تعالى ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدثها فلم يبق إل ظنهم
أنه سبب لحصولها إما في الجملة كحال أهل التطير وإما في الواقعة المعينة
كحال اللئمين له في الجهاد فأبطل الله سبحانه وذلك الوهم الكاذب والظن
الباطل وبين أن ما جاء به ل يوجب الشر البتة بل الخير كله فيما جاء صلى
الله عليه وسلم به والشر بسبب أعمالهم وذنوبهم كما قال الرسل عليهم
السلم لهل القرية طائركم معكم ول يناقض هذا قول صالح عليه السلم
م
صب ْهُ ْ
ن تُ ِ
ه{ وقوله تعالى عن قوم فرعون} :وَإ ِ ْ عن ْد َ الل ّ ِ
م ِ لقومهَ } :
طائ ُِرك ُ ْ
ة يط ّيروا بموسى ومن مع َ
ه{ بل هاتان النسبتان عن ْد َ الل ّ ِ
م ِ ما َ
طائ ُِرهُ ْ ه أل إ ِن ّ َ
َ َ ْ َ َ ُ ِ ُ َ سي ّئ َ ٌ َ ّ ُ
َ
نظير هاتين النسبتين في هذه الية وهي نسبة السيئة إلى نفس العبد ونسبة
الحسنة والسيئة إلى أنهما من عند الله عز وجل فتأمل اتفاق القرآن
وتصديق بعضه بعضا فحيث جعل الطائر معهم والسيئة من نفس العبد فهو
على وجهة السبب والموجب أي الشر والشؤم الذي أصابكم هو منكم ومهما
فإن أسبابه قائمة بكم كما تقول شرك منك وشؤمك فيك يراد به العمل
وطائرك معك وحيث جعل ذلك كله من عنده فهو لنه الخالق له المجازي به
عدل وحكمة فالطائر يراد به العمل وجزاءه فالمضاف إلى العبد العمل
والمضاف إلى الرب الجزاء فطائركم معكم طائر العمل وطائركم عند الله
الجزاء فما جاءت به الرسل ليس سببا لشيء من المصائب ول تكون طاعة
الله ورسوله سببا لمصيبة قط بل طاعة الله ورسوله ل توجب إل خيرا في
الدنيا والخرة ولكن قد يصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم
201
وتقصيرهم في طاعة الله ورسوله كما لحقهم يوم أحد ويوم حنين وكذلك ما
امتحنوا به من الضراء
) (22/27
وأذى الكفار لهم ليس هو بسبب نفس إيمانهم ول هو موجبه وإنما امتحنوا به
ليخلص ما فيهم من الشر فامتحنوا بذلك كما يمتحن الذهب بالنار ليخلص من
غشه والنفوس فيها ما هو من مقتضى طبعها فالمتحان يمحص المؤمن من
مُنوا نآ َ ذي َ ه ال ّ ِ
ص الل ّ ُح َ م ّ ذلك الذي هو من موجبات طبعه كما قال تعالى} :وَل ِي ُ َ
م{ فطاعة الله دورِك ُ ْ ص ُ
ما ِفي ُ ه َي الل ّ ُن{ وقال} :وَل ِي َب ْت َل ِ َ ري َ حقَ ال ْ َ
كافِ ِ م َ وَي َ ْ
ورسوله ل تجلب إل خيرا ومعصيته ل تجلب إل شرا ولهذا قال سبحانه:
ديثًا{ فإنهم لو فقهوا الحديث لعلموا ح ِن َ قُهو َ ف َن يَ ْ قوْم ِ ل ي َ َ
كاُدو َ ؤلِء ال ْ َ ل هَ ُما ِ }ف َ َ
أنه ليس في الحديث الذي أنزله الله على رسوله ما يوجب شرا البتة
ولعلموا أنه سبب كل خير ولو فقهوا لعلموا أن العقول والفطر تشهد بأن
مصالح المعاش والمعاد متعلقة بما جاء به الرسول فلو فقهوا القرآن علموا
أنه أمرهم بكل خير ونهاهم عن كل شر وهذا مما يبين أن ما أمر الله به يعلم
حسنه بالعقل وأنه كله مصلحة ورحمة ومنفعة وإحسان بخلف ما يقوله كثير
من أهل الكلم الباطل أنه سبحانه يأمر العباد بما ل مصلحة لهم فيه بل
يأمرهم بما فيه مضرة لهم وقول هؤلء تصديق وتقرير لقول المتطيرين
بالرسل.
ة َ َ
سن َ ٍح َ ن َ م ْ
صاب َك ِ ما أ َفصل :ومما يوضح المر في ذلك أنه سبحانه لما قالَ } :
سل َْناكَ ك{ عقب ذلك بقوله} :وأرَ َ
َ ْ َ س َ ف ِ ن نَ ْ
م ْسي ّئ َةٍ فَ ِ ن َم ْ ك ِ صاب َ َما أ َ ن الل ّهِ وَ َم َ فَ ِ
شِهيدًا{ وذلك يتضمن أشياء منها تنبيه أمته على أن فى ِبالل ّهِ َ سول ً وَك َ َ س َر ُِللّنا ِ
رسوله الذي شهد له بالرسالة إذا أصابه ما يكره فمن نفسه فما الظن بغيره
ومنها أن حجة الله قد قامت عليهم بإرساله فإذا أصابهم سبحانه بما يسوءهم
لم يكن ظالما لهم في ذلك لنه قد أرسل رسوله إليهم يعلمهم بما فيه
مصالحهم وما يجلبها لهم وما فيه مضرتهم وما يجلبها لهم
) (22/28
ص -166-فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل نفسه
ومنها أنه سبحانه قد شهد له بالرسالة بما أظهره على يديه من اليات الدالة
على صدقه وأنه رسوله حقا فل يضره جحد هؤلء الجاهلين الظالمين
المتطيرين به لرسالته ومن شهد له رب السماوات والرض ومنها أنهم أرادوا
أن يجعلوا سيئاتهم وعقوباتها حجة على إبطال رسالته فشهد له بالرسالة
وأخبر أن شهادته كافيه فكان في ضمن ذلك إبطال قولهم أن المصائب من
عند الرسول صلى الله عليه وسلم وإثبات أنها من عند أنفسهم بطريق
الولى ومنها إبطال قول الجهمية المجبرة ومن وافقهم في قولهم إن الله قد
يعذب العباد بل ذنب ومنها إبطال قول القدرية الذين يقولون أن أسباب
الحسنات والسيئات ليست من الله بل هي من العبد ومنها ذم من لم يتدبر
القرآن ولم يفقهه وإن إعراضه عن تدبره وفقهه يوجب له من الضلل
والشقاء بحسب إعراضه ومنها إثبات السباب وإبطال قول من ينفيها ول
202
يرى لها ارتباطا بمسبباتها ومنها أن الخير كله من الله والشر كله من النفس
فإن الشر هو الذنوب وعقوبتها والذنوب من النفس وعقوباتها مترتبة عليها
والله هو الذي قدر ذلك وقضاه وكل من عنده قضاء وقدرا وإن كانت نفس
العبد سببه بخلف الخير والحسنات فإن سببها مجرد فضل الله ومنه وتوفيقه
كما تقدم تقريره ومنها أنه سبحانه لما رد قولهم أن الحسنة من الله والسيئة
ه{ رفع وهم من توهم أن عن ْدِ الل ّ ِ
ن ِم ْ ل ِمن رسوله وأبطله بقولهُ} :قل ك ُ ّ
ة صاب َ َ َ
سن َ ٍ
ح َن َ
م ْ
ك ِ ما أ َ نفسه ل تأثير لها في السيئة ول هي منها أصل بقولهَ } :
َ
ك{ وخاطبه بهذا تنبيها لغيره كما س َ ف ِن نَ ْ
م ْسي ّئ َةٍ فَ ِ
ن َ
م ْ صاب َ َ
ك ِ ن الل ّهِ وَ َ
ما أ َ فَ ِ
م َ
ه{ ولم يقل من الله عن ْدِ الل ّ ِ
ن ِ
م ْ ل ِ تقدم ومنها أنه قال في الرد عليهمُ} :قل ك ُ ّ
لما جمع بين الحسنات والسيئات والحسنة مضافة إلى الله من كل وجه
والسيئة إنما تضاف إليه قضاء وقدرا وخلقا وأنه خالقها كما هو خالق
) (22/29
ه{ وهو سبحانه إنما خلقها لحكمة فل عن ْدِ الل ّ ِ ن ِ م ْل ِ الحسنة فلهذا قالُ} :قل ك ُ ّ
تضاف إليه من جهة كونها سيئة بل من جهة ما تضمنته من الحكمة والعدل
والحمد وتضاف إلى النفس كونها سيئة ولما ذكر الحسنة مفردة عن السيئة
َ
ه{ ولم يقل من عند الله فالخير منه وأنه ن الل ّ ِ م َسن َةٍ فَ ِ ح َ ن َ م ْ ك ِ صاب َ َما أ َ قالَ } :
موجب أسمائه وصفاته والشر الذي هو بالنسبة إلى العبد شر من عنده
صاب َ َ َ
ن
م ْ سي ّئ َةٍ فَ ِ ن َ م ْ ك ِ ما أ َ سبحانه فإنه مخلوق له عدل منه وحكمة ثم قال} :وَ َ
ك{ ولم يقل من عندك لن النفس طبيعتها ومقتضاها ذلك فهو من س َ ف ِ نَ ْ
نفسها والجميع من عند الله فالسيئة من نفس النسان بل ريب والحسنة من
الله بل ريب وكلهما من عنده سبحانه قضاء وقدرا وخلقا ففرق بين ما من
الله وبين ما من عنده والشر ل يضاف إلى الله إرادة ول محبة ول فعل ول
وصفا ول اسما فإنه ل يريد إل الخير ول يحب إل الخير ول يفعل شرا ول
يوصف به ول يسمى باسمه وسنذكر في باب دخول الشر في القضاء اللهي
وجه نسبته إلى قضائه وقدره إن شاء الله.
صاب َ َ َ
ن
م َ سن َةٍ فَ ِ ح َن َ م ْ ك ِ ما أ َفصل :وقد اختلف في كاف الخطاب في قولهَ } :
َ
ك{ هل هي لرسول الله أو هي لكل واحد س َ ف ِن نَ ْ م ْسي ّئ َةٍ فَ ِ
ن َ م ْ ك ِ صاب َ َ ما أ َ الل ّهِ وَ َ
من الدميين ،فقال ابن عباس في رواية الوالبي عنه" :الحسنة ما فتح الله
عليه يوم بدر من الغنيمة والفتح والسيئة ما أصابه يوم أحد أن شج في وجهه
وكسرت رباعيته" ،وقالت طائفة بل المراد جنس ابن آدم كقولهَ} :يا أ َي َّها
َ
سي ّئ َ ٍ
ة ن َ م ْ
ك ِ صاب َ َ
ما أ َ م{ روى سعيد عن قتادة} :وَ َ ري ِ ك ال ْك َ ِك ب َِرب ّ َما غَّر َ ن َ سا ُ ال ِن ْ َ
سك{ قال عقوبة يا ابن آدم بذنبك َ ف ِ ن نَ ْم ْ فَ ِ
) (22/30
203
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم معصوم ل يصدر عنه ما يوجب أن
تصيبه به سيئة قالوا والخطاب وإن كان له في الصورة فالمراد به المة
ساَء{ قالوا ولما كان أول الية خطابا له ي إ َِذا ط َل ّ ْ َ
م الن ّ َ قت ُ ُ كقولهَ} :يا أي َّها الن ّب ِ ّ
أجرى الخطاب جميعه على وجه واحد فأفرده في الثاني والمراد به الجميع
والمعنى وما أصابكم من سيئة فمن أنفسكم فالول له والثاني لمته ولهذا
َ َ
م{ديك ُ ْ ت أي ْ ِ سب َ ْ ما ك َ َ صيب َةٍ فَب ِ َ م ِ ن ُ م ْ م ِ صاب َك ُ ْ ما أ َ لما أفرد إصابة السيئة قال} :وَ َ
َ ْ َ َ َ َ
عن ْدِ
ن ِ م ْ ل هُوَ ِ ُ
ذا ق ْ م أّنى هَ َ ُ
مث ْلي َْها قلت ُ ْ م ِ صب ْت ُ ْ ة قَد ْ أ َ صيب َ ٌ م ِ م ُصاب َت ْك ُ ْ ما أ َ وقال} :أوَل َ ّ
شْيئا ً َ أ َن ْ ُ
م َ ن عَن ْك ُ ْ م فَل َ ْ
م َت ُغْ ِ م ك َث َْرت ُك ُ ْ جب َت ْك ُ ْ ن إ ِذ ْ أعْ َ حن َي ْ ٍم ُ م{ وقال} :وَي َوْ َ سك ُ ْف ِ
ه عََلى َ
كين َت َ ُ س ِ ه َ ل الل ّ ُ م أن َْز َ ن ثُ ّ ري َ مد ْب ِ ِ
م ُ م وَل ّي ْت ُ ْ ت ثُ ّ حب َ ْ ما َر ُ ض بِ َم اْلْر ُ ت عَل َي ْك ُ ُ ضاقَ ْ وَ َ
ن{ فأخبر أن الهزيمة بذنوبهم وإعجابهم وأن النصر بما ني
ُ ِ ِ َ م ْ ؤ م ْ ل ا لى َ َر ُ ِ ِ َ َ
ع و ه ل سو
أنزله على رسوله وأيده به إذ لم يكن منه من سبب الهزيمة ما كان منه
وجمعت طائفة ثالثة بين القولين وقالوا صورة الخطاب له صلى الله عليه
ه َول ت ُط ِِع ال ْ َ َ
ن
ري َ كافِ ِ ق الل ّ َ ي ات ّ ِ وسلم والمراد العموم كقولهَ} :يا أي َّها الن ّب ِ ّ
ل عََلى ك{ ثم قال} :وَت َوَك ّ ْ ن َرب ّ َ م ْ ك ِ حى إ ِل َي ْ َ ما ُيو َ ن{ ثم قالَ} :وات ّب ِعْ َ قي َ مَنافِ َِوال ْ ُ
كي إ ِل َي ْ َ ح َ قد ْ ُأو ِ ه{ وكقوله} :وَل َ َ الل ّ ِ
) (22/31
ل
ن بَ ِ ري َ س ِ خا ِ ن ال ْ َ م َ ن ِكون َ ّك وَل َت َ ُمل ُ َن عَ َ حب َط َ ّ ت ل َي َ ْ شَرك ْ َ ن أَ ْ ك ل َئ ِ ْ ن قَب ْل ِ َ م ْن ِ ذي َ وَإ َِلى ال ّ ِ
َ
ما أن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ
ك م ّ ك ِ ش ّ ت ِفي َ ن ك ُن ْ َن{ وقوله} :فَإ ِ ْ ري َ شاك ِ ِ ن ال ّ م َ ن ِ ه ََفاعْب ُد ْ وَك ُ ْ الل ّ َ
ُ
ك{ قالوا وهذا الخطاب نوعان نوع ن قَب ْل ِ َ م ْب ِ ن ال ْك َِتا َ قَرأو َ ن يَ ْ ذي َ ل ال ّ ِ سأ ِ َفا ْ
م َ
ي لِ َ يختص لفظه به لكن يتناول غيره بطريق الولى كقولهَ} :يا أي َّها الن ّب ِ ّ
َ ّ َ ه لَ َ َ
م ُ
ه لك ْ ض الل ُ ك{ ثم قال} :قَد ْ فََر َ ج َ ت أْزَوا ِ ضا َ مْر َ ك ت َب ْت َِغي َ ل الل ّ ُ ح ّ ما أ َ م َ حّر ُ تُ َ
م{ ونوع يكون الخطاب له وللمة فأفرده بالخطاب لكونه هو مان ِك ُْ ة أَ ّ
تَ ِ َ ْ َ
ي ل ح
المواجه بالوحي وهو الصل فيه والمبلغ للمة والسفير بينهم وبين الله وهذا
معنى قول كثير من المفسرين الخطاب له والمراد غيره ولم يريدوا بذلك أنه
لم يخاطب بذلك أصل ولم يرد به البتة بل المراد أنه لما كان إمام الخلئق
ومقدمهم ومتبوعهم أفرد بالخطاب وتبعته المة في حكمه كما يقول
السلطان لمقدم العساكر أخرج غدا وأنزل بمكان كذا وأحمل على العدو
َ َ
سي ّئ َ ٍ
ة ن َ م ْ ك ِ صاب َ َما أ َ ن الل ّهِ وَ َ م َسن َةٍ فَ ِ ح َن َ م ْ ك ِ صاب َ َ ما أ َ وقت كذا قالوا فقولهَ } :
ك{ خطاب له وجميع المة داخلون في ذلك بطريق الولى بخلف س َ ف ِ ن نَ ْم ْ فَ ِ
سول{ فإن هذا له خاصة قالوا وهذه الشرطية ل ً َ ْ َ
س َر ُ سلَناك ِللّنا ِ قوله} :وَأْر َ
تستلزم الوقوع بل تربط الجزاء بالشرط وأما وقوع الشرط والجزاء فل يدل
عليه فهو مقدر في حقه محقق في غيره والله أعلم ،قال القدري :إذا كانت
الطاعات والمعاصي مقدرة والنعم والمصائب مقدرة فلم فرق سبحانه بين
الحسنات التي هي النعم والسيئات التي هي المصائب فجعل هذه منه
سبحانه وهذه من نفس النسان والجميع مقدر ،قال السني :بينهما فروق
الفرق الول أن نعم الله وإحسانه إلى عباده يقع بل كسب منهم أصل بل
الرب سبحانه ينعم عليهم بالعافية والرزق والنصر وإرسال الرسل وإنزال
) (22/32
204
الكتب وأسباب الهداية فيفعل ذلك من لم يكن منه سبب يقتضيه وينشئ
للجنة خلقا يسكنهم إياها بغير سبب منهم ويدخل أطفال المؤمنين ومجانينهم
الجنة بل عمل وأما العقاب فل يعاقب أحدا إل بعمله ،الفرق الثاني أن عمل
الحسنات من إحسان الله
مد ُ ح ْص -168-ومنه وتفضله عليه بالهداية واليمان كما قال أهل الجنة} :ال ْ َ
َ
ه{ فخلق الرب سبحانه داَنا الل ّ ُ
ن هَ َ
ول أ ْ ما ك ُّنا ل ِن َهْت َدِيَ ل َ ْ ذا وَ َداَنا ل ِهَ َذي هَ َ ل ِل ّهِ ال ّ ِ
لهم الحياة والسمع والبصر والعقول والفئدة وإرسال الرسل وتبليغهم البلغ
الذي اهتدوا به وإلهامهم اليمان وتحبيبه إليهم وتزيينه في قلوبهم وتكريه
ن
لي َ َ
ما ما ِ ب إ ِل َي ْك ُ ُحب ّ َه َ ن الل ّ َضده إليهم كل ذلك من نعمه كما قال تعالى} :وَل َك ِ ّ
ُ
ن أول َئ ِ َ
ن
دو َ ش ُم الّرا ِ ك هُ ُ سوقَ َوال ْعِ ْ
صَيا َ ف ُفَر َوال ْ ُ م ال ْك ُ ْ
م وَك َّرهَ إ ِل َي ْك ُ ُه ِفي قُُلوب ِك ُ ْ وََزي ّن َ ُ
م{ فجميع ما يتقلب فيه العالم من خير كي ٌ ح ِ م َ ه عَِلي ٌ ة َوالل ّ ُ ن الل ّهِ وَن ِعْ َ
م ً ضل ً ِ
م َ فَ ْ
الدنيا والخرة هو نعمة محضة بل سبب سابق يوجب ذلك لهم ومن غير حول
وقوة منهم إل به وهو خالقهم وخالق أعمالهم الصالحة وخالق جزائها وهذا
كله منه سبحانه بخلف الشر فإنه ل يكون إل بذنوب العبد وذنبه من نفسه
وإذا تدبر العبد هذا علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله فشكر ربه
على ذلك فزاده من فضله عمل صالحا ونعما يفيضها عليه وإذا علم أن الشر
ل يحصل له إل من نفسه وبذنوبه استغفر ربه وتاب فزال عنه سبب الشر
فيكون دائما شاكرا مستغفرا فل يزال الخير يتضاعف له والشر يندفع عنه
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته الحمد لله فيشكر الله
ثم يقول نستعينه ونستغفره نستعينه على طاعته ونستغفره من معصيته
ونحمده على فعله وإحسانه ثم قال ونعوذ بالله من شرور أنفسنا لما
استغفره من الذنوب الماضية استعاذ به من الذنوب التي لم تقع بعد ثم قال
ومن سيئات
) (22/33
أعمالنا فهذه استعاذة من عقوبتها كما تقدم ثم قال من يهده الله فل مضل
له ومن يضلل فل هادي له فهذه شهادة للرب بأنه المتصرف في خلقه
بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء فإذا
هدى عبدا لم يضله أحد وإذا أضله لم يهده أحد وفي ذلك إثبات ربوبيته
وقدرته وعلمه وحكمته وقضائه وقدره الذي هو عقد نظام التوحيد وأساسه
وكل هذا مقدمة بين يدي قوله وأشهد أن ل إله إل الله وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله فإن الشهادتين إنما تتحققان بحمد الله واستعانته واستغفاره
واللجأ إليه واليمان بأقداره والمقصود أنه سبحانه فرق بين الحسنات
والسيئات بعد أن جمع بينهما في قوله كل من عند الله فجمع بينهما الجمع
الذي ل يتم اليمان إل به وهو اجتماعهما في قضائه وقدره ومشيئته وخلقه
ثم فرق بينهما الفرق الذي ينتفعون به وهو أن هذا الخير والحسنة نعمة منه
فاشكروه عليه يزدكم من فضله ونعمه وهذا الشر والسيئة بذنوبكم
فاستغفروه يرفعه عنكم وأصله من شرور أنفسكم فاستعيذوا به يخلصكم
منها ول يتم ذلك إل باليمان بالله وحده وهو الذي يهدي ويضل وهو اليمان
بالقدر فادخلوا عليه من بابه فإن أزمة المور بيده فإذا فعلتم ذلك صدق
205
منكم شهادة أن ل إله إل الله وأن محمدا رسول الله فهذه الخطبة العظيمة
عقد نظام السلم واليمان فلو اقتصر لهم على الجمع دون الفرق أعرض
العاصي والمذنب عن ذم نفسه والتوبة من ذنوبه والستعاذة من شرها وقام
في قلبه شاهد الحتجاج على ربه بالقدر وتلك حجة داحضة تبع الشقياء فيها
إبليس وهي ل تزيد صاحبها إل شقاء وعذابا كما زادت إبليس طردا وبعدا عن
ربه وكما زادت المشركين ضلل وشقاء حين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ول
آباؤنا وكما تزيد الذي يقول يوم القيامة لو أن الله هداني لكنت من المتقين
حسرة وعذابا ولو اقتصر لهم على الفرق دون الجمع لغابوا به في التوحيد
واليمان بالقدر واللجأ إلى الله في الهداية والتوفيق
) (22/34
) (22/35
وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه فإن الرب سبحانه ل يفعل سوأ قط كما
ل يوصف به ول يسمى باسمه بل فعله كله حسن وخير وحكمة كما قال
تعالى بيده الخير وقال أعرف الخلق به" :والشر ليس إليك" فهو ل يخلق
شرا محضا من كل وجه بل كل ما خلقه ففي خلقه مصلحة وحكمة وإن كان
206
في بعضه شر جزئي إضافي وأما الشر الكلي المطلق من كل وجه فهو
تعالى منزه عنه وليس إليه ،الفرق السادس أن ما يحصل للنسان من
الحسنات التي يعملها فهي أمور وجودية متعلقة بمشيئة الرب وقدره ورحمته
وحكمته وليست أمورا عدمية تضاف إلى غير الله بل هي كلها أمور وجودية
وكل موجود حادث والله محدثه وخالقه وذلك أن الحسنات إما فعل مأمور أو
ترك محظور والترك أمر وجودي فترك النسان لما نهى عنه ومعرفته بأنه
ذنب قبيح وبأنه سبب العذاب فبغضه له وكراهته له ومنع نفسه إذا هويته
وطلبته منه أمور وجودية كما أن معرفته بالحسنات كالعدل والصدق حسنة
وفعله لها أمر وجودي والنسان إنما يثاب على ترك السيئات إذا تركها على
ن الل ّ َ
ه وجه الكراهة لها والمتناع عنها وكف للنفس عنها قال تعالى} :وَل َك ِ ّ
ن{صَيا َ سوقَ َوال ْعِ ْ ف ُ فَر َوال ْ ُ م ال ْك ُ ْ م وَك َّرهَ إ ِل َي ْك ُ ُه ِفي قُُلوب ِك ُ ْ ن وََزي ّن َ ُ ما َ لي َماِْ
ب إ ِل َي ْك ُ ُ
حب ّ َ
َ
ن إ} وقال: وى{ ه ْ لا ن َ ع س ْ ف ن ال هى ن و ه ب ر م قا
َ م ف خاَ ن م ما َ أ و} تعالى: وقال
ِ ّ ِ َ َ َ ّ َ َ َ َ ّ ِ َََ َ ّ َ ْ
ر{ ،وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه شاِء َوال ُْ
من ْك َِ ح َ ف ْن ال ْ َ صلة َ ت َن َْهى عَ ِ ال ّ
وسلم" :ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان من كان الله ورسوله أحب إليه
مما سواهما ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لله ومن كان يكره أن يرجع في
الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" وقد جعل صلى الله
عليه وسلم البغض في الله من أوثق عرى اليمان وهو أصل الترك وجعل
المنع لله من كمال اليمان وهو أصل الترك فقال" :من أوثق عرى اليمان
الحب في الله والبغض في الله" وقال" :من أحب
) (22/36
لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل اليمان" وجعل إنكار
المنكر بالقلب من مراتب اليمان
ص -170-وهو بغضه وكراهته المستلزم لتركه فلم يكن الترك من اليمان إل
بهذه الكراهة والبغض والمتناع والمنع لله وكذلك براءة الخليل وقومه من
المشركين ومعبودهم ليست تركا محضا بل تركا صادرا عن بغض ومعاداة
وكراهة هي أمور وجودية هي عبودية للقلب يترتب عليها خلو الجوارح من
العمل كما أن التصديق والرادة والمحبة للطاعة من عبودية القلب يترتب
عليها آثارها في الجوارح وهذا الحب والبغض تحقيق شهادة أن ل إله إل الله
وهو إثبات تأله القلب لله ومحبته ونفي تألهه لغيره وكراهته فل يكفي أن يعبد
الله ويحبه ويتوكل عليه وينيب إليه ويخافه ويرجوه حتى يترك عبادة غيره
والتوكل عليه والنابة إليه وخوفه ورجاه ويبغض ذلك وهذه كلها أمور وجودية
وهي الحسنات التي يثيب الله عليها وأما مجرد عدم السيئات من غير أن
يعرف أنها سيئة ول يكرهها بقلبه ويكف نفسه عنها بل يكون تركها لعدم
خطورها بقلبه ول يثاب على هذا الترك فهذا تكون السيئات في حقه بمنزلتها
في حق الطفل والنائم لكن قد يثاب على اعتقاد تحريمها وإن لم يكن له
إليها داعية البتة فالترك ثلثة أقسام قسم يثاب عليه وقسم يعاقب عليه
وقسم ل يثاب ول يعاقب عليه فالول ترك العالم بتحريمها الكاف نفسه عنها
لله مع قدرته عليها والثاني كترك من يتركها لغير الله ل لله فهذا يعاقب على
تركه لغير الله كما يعاقب على فعله لغير الله فإن ذلك الترك والمتناع فعل
207
من أفعال القلب فإذا عبد به غير الله استحق العقوبة ،والثالث كترك من لم
يخطر على قلبه علما ول محبة ول كراهة بل بمنزلة ترك النائم والطفل ،فإن
قيل كيف يعاقب على ترك المعصية حياء من الخلق وإبقاء على جاهه بينهم
وخوفا منهم أن يتسلطوا عليه والله سبحانه ل يذم على ذلك ول يمنع منه،
قيل ل ريب أنه ل يعاقب على ذلك وإنما يعاقب على تقربه
) (22/37
إلى الناس بالترك ومرآتهم به وأنه تركها خوفا من الله ومراقبة وهو في
الباطن بخلف ذلك فالفرق بين ترك يتقرب به إليهم ومرآتهم به وترك يكون
مصدره الحياء منهم وخوف أذاهم له وسقوطه من أعينهم فهذا ل يعاقب
عليه بل قد يثاب عليه إذا كان له فيه غرض يحبه الله من حفظ مقام الدعوة
إلى الله وقبولهم منه ونحو ذلك وقد تنازع الناس في الترك هل هو أمر
وجودي أم عدمي والكثرون على أنه وجودي ،وقال أبو هاشم وأتباعه هو
عدمي وأن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل ل على ترك يقوم بقلبه
وهؤلء رتبوا الذم والعقاب على العدم المحض والكثرون يقولون إنما يثاب
من ترك المحظور على ترك وجودي يقوم بنفسه ويعاقب تارك المأمور على
ترك وجودي يقوم بنفسه وهو امتناعه وكفه نفسه عن فعل ما أمر به إذا تبين
هذا فالحسنات التي يثاب عليها كلها وجودية فهو سبحانه الذي حبب اليمان
والطاعة إلى العبد وزينه في قلبه وكره إليه أضدادها وأما السيئات فمنشأها
من الجهل والظلم فإن العبد ل يفعل القبيح إل لعدم علمه بكونه قبيحا أو
لهواه وشهوته مع علمه بقبحه فالول جهل والثاني ظلم ول يترك حسنة إل
لجهله بكونها حسنة أو لرغبته في ضدها لموافقته هواه وغرضه وفي الحقيقة
فالسيئات كلها ترجع إلى الجهل وإل فلو كان علمه تاما برجحان ضررها لم
يفعلها فإن هذا خاصة الفعل فإنه إذا علم أن إلقاءه من مكان عال يضره لم
يقدم عليه وكذلك لبثه تحت حائط مائل وإلقاءه نفسه في ماء يغرق فيه
وأكله طعاما مسموما ول يفعله لعلمه التام بمضرته الراجحة بل هذه فطرة
فطر الله عليها الحيوان بهيمة وناطقة ومن لم يعلم أن ذلك يضره كالطفل
والمجنون والسكران الذي انتهى سكره فقد يفعله وأما من أقدم على ما
يضره مع علمه
) (22/38
208
الذنب والغفلة من أضداد العلم كالغفلة والشهوة أصل الشر كله قال تعالى:
مُرهُ فُُرطًا{ وينبغي أن كا َ ن أ َغْ َ
نأ ْ واه ُ وَ َ َ ن ذِك ْرَِنا َوات ّب َعَ هَ َ
ه عَ ْ فل َْنا قَل ْب َ ُ م ْ
}َول ت ُط ِعْ َ
يعلم أن الهوى وحده ل يستقل بفساد السيئات إل مع الجهل وإل فصاحب
الهوى لو جزم بأن ارتكاب هواه يضره ول بد ضررا راجحا لنصرفت نفسه
عن طاعته له بالطبع فإن الله سبحانه جعل في النفس حبا لما ينفعها وبغضا
لما يضرها فل تفعل مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضررا راجحا ولهذا
يوصف تارك ذلك بالعقل والحجى واللب فالبلء مركب من تزيين الشيطان
وجهل النفس فإنه يزين لها السيئات ويريها أنها في صور المنافع واللذات
والطيبات ويغفلها عن مطالعتها لمضرتها فتولد من بين هذا التزيين وهذا
الغفال والنساء لها إرادة وشهوة ثم يمدها بأنواع التزيين فل يزال يقوى
حتى يصير عزما جازما يقترن به الفعل كما زين للبوين الكل من الشجرة
وأغفلهما عن مطالعة مضرة المعصية فالتزيين هو سبب إيثار الخير والشر
َ
ن لَ ُ
ه ن ُزي ّ َ ن{ وقال} :أفَ َ
م ْ مُلو َ ما َ
كاُنوا ي َعْ َ ن َ شي ْ َ
طا ُ م ال ّن ل َهُ ُ كما قال تعالى} :وََزي ّ َ
سنًا{ وقال ح َ مل ِهِ فََرآه ُ َ
سوُء عَ َُ
) (22/39
م{ وقال ه ِفي قُُلوب ِك ُ ْ ن وََزي ّن َ ُ ما َ لي َ ما ِ ب إ ِل َي ْك ُ ُ حب ّ َه َ ن الل ّ َ في تزيين الخير} :وَل َك ِ ّ
ُ
مجعُهُ ْ مْر ِ م َ م إ َِلى َرب ّهِ ْ م ثُ ّ مل َهُ ْ مةٍ عَ َ لأ ّ ك َزي ّّنا ل ِك ُ ّ في تزيين النوعين} :ك َذ َل ِ َ
ن{ وتزيين الخير والهدى بواسطة الملئكة والمؤمنين مُلو َ كاُنوا ي َعْ َ ما َ م بِ َ فَي ُن َب ّئ ُهُ ْ
وتزيين الشر والضلل بواسطة الشياطين من الجن والنس كما قال تعالى:
شركين قَت َ َ
م{ وحقيقة المر أن كاؤُهُ ْ شَر َ م ُ ل أْولدِهِ ْ م ْ ِ ِ َ ْ ن ال ْ ُ م َ ن ل ِك َِثيرٍ ِ ك َزي ّ َ }وَك َذ َل ِ َ
التزيين إنما يغتر به الجاهل لنه يلبس له الباطل والضار المؤذي صورة الحق
والنافع الملئم فأصل البلء كله من الجهل وعدم العلم ولهذا قال الصحابة
ن
ذي َ ة عََلى الل ّهِ ل ِل ّ ِ ما الت ّوْب َ ُ كل من عصى الله فهو جاهل وقال تعالى} :إ ِن ّ َ
ن
ذي َ ك ال ّ ِ جاَء َ ب{ وقال} :وَإ َِذا َ ري ٍ ن قَ ِ م ْ ن ِ م ي َُتوُبو َ جَهال َةٍ ث ُ ّ سوَء ب ِ َ ن ال ّ مُلو َ ي َعْ َ
َ م عََلى ن َ ْ
م َ
ل ن عَ ِ م ْ ه َ ة أن ّ ُ م َح َ سهِ الّر ْ ف ِ ب َرب ّك ُ ْ م ك َت َ َ م عَل َي ْك ُ ْ سل ٌ ل َ ق ْ ن ِبآيات َِنا فَ ُ مُنو َ ي ُؤْ ِ
َ َ َ َ ً
م{ قال أبو العالية: حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ ح فَأن ّ ُ صل َ ن ب َعْدِهِ وَأ ْ م ْ ب ِ م َتا َ جَهالةٍ ث ُ ّ سوءا ب ِ َ م ُ من ْك ُ ْ ِ
سوَءن ال ّ ملو َ ُ ن ي َعْ َ ذي َ ّ ّ
ة عَلى اللهِ ل ِل ِ َ ما الت ّوْب َ ُ "سألت أصحاب محمد عن قوله} :إ ِن ّ َ
ب{ فقالوا :كل من عصى الله فهو جاهل ومن تاب ري ٍ ن قَ ِ م ْ ن ِ م ي َُتوُبو َ جَهال َةٍ ث ُ ّ بِ َ
قبل الموت فقد تاب من قريب" وقال قتادة" :أجمع أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو
لم يكن وكل من عصى الله فهو جاهل" وقال مجاهد" :من شيخ أو شاب فهو
بجهالة" وقال" :من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن خطيئته" وقال هو
وعطاء" :الجهالة العمد" وقال مجاهد" :من عمل سوأ خطأ أو عمدا فهو
جاهل حتى ينزع منه" ذكر هذه الثار ابن أبي حاتم ثم قال وروي عن قتادة
وعمرو بن مرة والثوري نحو ذلك خطأ أو
) (22/40
209
ص -172-حراما ولكن من جهالته حين دخل فيه" وقال عكرمة" :الدماء كلها
ماُء{ وكل من عَبادِهِ ال ْعُل َ َ ن ِ م ْه ِ شى الل ّ َ خ َ ما ي َ ْ جهالة ومما يبين ذلك قوله} :إ ِن ّ َ
و َ
ن هُ َ م ْ خشيه فأطاعه بفعل أوامره وترك نواهيه فهو عالم كما قال تعالى} :أ ّ
وي ست َ ِ ل يَ ْل هَ ْ ة َرب ّهِ قُ ْ م َ ح َ جو َر ْ خَرة َ وَي َْر ُ حذ َُر ال ِ جدا ً وََقاِئما ً ي َ ْ سا ِ ل َ ت آَناَء الل ّي ْ ِ َقان ِ ٌ
ن{" وقال رجل للشعبي :أيها العالم فقال: مو َ َ
ن ل ي َعْل ُ ذي َ ّ
ن َوال ِ مو َ َ
ن ي َعْل ُ ذي َ ال ّ ِ
"لسنا بعلماء إنما العالم من يخشى الله" وقال ابن مسعود" :وكفى بخشية
الله علما وبالغترار بالله جهل" وقوله إنما يخشى الله من عباده العلماء
يقتضي الحصر من الطرفين أن ل يخشاه إل العلماء ول يكون عالما إل من
يخشاه فل يخشاه إل عالم وما من عالم إل وهو يخشاه فإذا انتفى العلم
انتفت الخشية وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم لكن وقع الغلط في
مسمى العلم اللزم للخشية حيث يظن أنه يحصل بدونها وهذا ممتنع فإنه
ليس في الطبيعة أن ل يخشى النار والسد والعدو من هو عالم بها مواجه لها
وأنه ل يخشى الموت من ألقى نفسه من شاهق ونحو ذلك فأمنه في هذه
المواطن دليل عدم علمه وأحسن أحواله أن يكون معه ظن ل يصل إلى رتبة
العلم اليقيني فإن قيل فهذا ينتقض عليكم بمعصية إبليس فإنها كانت عن
مى عََلى َ
حّبوا ال ْعَ َ ست َ َم َفا ْ مود ُ فَهَد َي َْناهُ ْ ما ث َ ُ علم ل عن جهل وبقوله} : :وَأ ّ
ة{ وقال عن قوم فرعون: صَر ً مب ْ ِ ة ُ مود َ الّناقَ َ دى{ وقالَ} : :وآت َي َْنا ث َ ُ ال ْهُ َ
َ
مود َ وَقَد ْ ت َب َي ّ َ
ن عادا ً وَث َ ُ م ظ ُْلما ً وَعُل ُوًّا{ وقال} :وَ َ سهُ ْ ف ُ قن َت َْها أن ْ ُ ست َي ْ َ دوا ب َِها َوا ْ ح ُ ج َ }وَ َ
َ َ َ َ
ل وَكاُنواَ سِبي ِ ن ال ّ م عَ ِ صد ّهُ ْ م فَ َ مالهُ ْ ن أعْ َ شي ْطا ُ م ال ّ ن لهُ ُ م وََزي ّ َ ساك ِن ِهِ ْ م َ ن َ م ْ م ِ ل َك ُ ْ
ن{ وقال موسى لفرعون: ري َ ص ِ ست َب ْ ِ م ْ ُ
) (22/41
210
المسألة وسر الجواب فما دخل النار إل عالم ول دخلها إل جاهل وهذا العلم
ل يجتمع مع الجهل في الرجل الواحد يوضحه أن
) (22/42
ص -173-وينفذ قضائه وقدره ولو ظن آدم وحواء أنهما إذا أكل من الشجرة
خرجا من الجنة وجرى عليهما ما جرى ما قرباها ولو علم أعداء الرسل
تفاصيل ما يجري عليهم وما يصيبهم يوم القيامة وجزموا بذلك لما عادوهم
م ب َط ْ َ قال تعالى عن قوم فرعون} :ول َ َ َ
ماَرْوا ِبالن ّذ ُِر{ وقال: شت ََنا فَت َ َ قد ْ أن ْذ ََرهُ ْ َ
كاُنوا ِفي م َ ه ن إ ُ
ل بَ ق ن م م ه ع يا شْ َ أ ب َ
ل عُ ف ما َ ما ي َ ْ حي َ
ّ
ِ ُ ْ ْ ْ ِ ِ ْ ِ َ ِ ِ ن َك شت َُهو َ ن َ م وَب َي ْ َ ل ب َي ْن َهُ ْ }وَ ِ
ب{ وقال عن المنافقين وقد شاهدوا آيات الرسول وبراهين صدقه ري ٍ م ِك ُ ش ّ َ
م فَت َن ْت ُ ْ
م ُ َ
ن{ وقال} :وَلك ِن ّك ْ م ي َت ََرد ُّدو َ م ِفي َري ْب ِهِ ْ م فَهُ ْ ُ
ت قُلوب ُهُ ْ عياناَ} :واْرَتاب َ ْ
ض{ وهو الشك ولو كان مَر ٌ م َ ُ
م{ وقالِ} :في قُلوب ِهِ ْ م َواْرت َب ْت ُ ْ صت ُ ْ م وَت ََرب ّ ْ سك ُ ْف َ أ َن ْ ُ
هذا لعدم العلم الذي تقوم به الحجة عليهم لما كانوا في الدرك السفل من
النار بل هذا بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم الذي لم ينفعهم فالعلم يضعف
قطعا بالغفلة والعراض واّتباع الهوى وإيثار الشهوات وهذه المور توجب
شبهات وتأويلت تضاده فتأمل هذا الموضع حق تأمل فإنه من أسرار القدر
والشرع والعدل فالعلم يراد به العلم التام المستلزم لثره ويراد به المقتضى
وإن لم يتم بوجود شروطه وانتقاء موانعه فالثاني يجامع الجهل دون الول
فتبين أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم وإن كان كذلك فعدم العلم ليس
أمرا وجوديا بل هو لعدم السمع والبصر والقدرة والرادة والعدم ليس شيئا
حتى يستدعي فاعل مؤثرا فيه بل يكفي فيه عدم مشيئة
) (22/43
ضده وعدم السبب الموجب لضده والعدم المحض ل يضاف إلى الله فإنه
شر والشر ليس إليه فإذا انتفى هذا الجازم عن العبد ونفسه بطبعها متحركة
مريدة وذلك من لوازم شأنها تحركت بمقتضى الطبع والشهوة وغلب ذلك
فيها على داعي العلم والمعرفة فوقعت في أسباب الشر ول بد.
فصل :والله سبحانه قد أنعم على عباده من جملة إحسانه ونعمه بأمرين هما
أصل السعادة أحدهما :أن خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة
فكل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يخرجانه عنها كما
ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وشبه ذلك بخروج البهيمة صحيحة
سالمة حتى يجدعها صاحبها وثبت عنه أنه قال" :يقول الله تعالى إني خلقت
عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت
211
لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" فإذا تركت النفس
وفطرتها لم تؤثر على محبة باريها وفاطرها وعبادته وحده شيئا ولم تشرك
به ولم تجحد كمال ربوبيته وكان أحب شيء إليها وأطوع شيء لها وآثر شيء
عندها ولكن يعدها من يقترن بها من شياطين الجن والنس بتزيينه وإغوائه
حتى ينغمس موجبها وحكمها المر الثاني أنه سبحانه هدى الناس هداية عامة
بما أودعه فيهم من المعرفة ومكنهم من أسبابها وبما أنزل إليهم من الكتب
وأرسل إليهم من الرسل وعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه ففي كل نفس ما
يقتضي معرفتها بالحق ومحبتها له وقد هدى الله كل عبد إلى أنواع من العلم
يمكنه التوصل بها إلى سعادة الخرة وجعل في فطرته محبة لذلك لكن قد
يعرض العبد عن طلب علم ما ينفعه فل يريده ول يعرفه وكونه ل يريد ذلك
ول يعرفه أمر عدمي فل يضاف إلى الرب ل هذا ول هذا فإنه من هذه الحيثية
شر والذي يضاف إلى الرب علمه به وقضاؤه له بعدم مشيئته لضده وإبقائه
على العدم الصلي وهو من هذه الجهة خير فإن العلم بالشر خير من الجهل
به وعدم رفعه بإثبات ضده إذا كان مقتضى الحكمة كان خيرا وإن كان شرا
بالنسبة
) (22/44
إلى محله وسيأتي تمام تقرير هذا في باب دخول الشر في القضاء اللهي إن
شاء الله سبحانه.
فصل :وههنا حياة أخرى غير الحياة الطبيعية الحيوانية نسبتها إلى القلب
كنسبة حياة
ص -174-البدن إليه فإذا أمد عبده بتلك الحياة أثمرت له من محبته وإجلله
وتعظيمه والحياء منه ومراقبته وطاعته مثل ما تثمر حياة البدن له من
التصرف والفعل وسعادة النفس ونجاتها وفلحها بهذه الحياة وهي حياة دائمة
سرمدية ل تنقطع ومتى فقدت هذه الحياة واعتاضت عنها بحياتها الطبيعية
الحيوانية كانت ضالة معذبة شقية ولم تسترح راحة الموات ولم تعش عيش
صَلى الّناَر قى ال ّ ِ
ذي ي َ ْ جن ّب َُها ال َ ْ
ش َ خ َ
شى وَي َت َ َ ن يَ ْ سي َذ ّك ُّر َ
م ْ الحياء كما قال تعالىَ } :
حَيى{ فإن الجزاء من جنس العمل فإنه في ت ِفيَها َول ي َ ْ
مو ُ ال ْك ُب َْرى ث ُ ّ
م ل يَ ُ
الدنيا لما لم يحي الحياة النافعة الحقيقية التي خلق لها بل كانت حياته من
جنس حياة البهائم ولم يكن ميتا عديم الحساس كانت حياته في الخرة
كذلك فإن مقصود الحياة حصول ما ينتفع به ويلتذ به والحي ل بد له من لذة
أو ألم فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة كمن هو حي في
الدنيا وبه أمراض عظيمة تحول بينه وبين التنعم بما يتنعم به الصحاء فهو
يختار الموت ويتمناه ول يحصل له فل هو مع الحياء ول مع الموات إذا عرف
هذا فالشر من لوازم هذه الحياة وعدمها شر وهو ليس بشيء حتى يكون
مخلوقا والله خالق كل شيء فإذا أمسك عن عبد هذه الحياة كان إمساكها
خيرا بالنسبة إليه سبحانه وإن كان شرا بالضافة إلى العبد لفوات ما يلتذ
ويتنعم به فالسيئات من طبيعة النفس ولم يمد بهذه الحياة التي تحول بينها
وبينها فصار الشر كله من النفس والخير كله من الله والجميع بقضائه وقدره
وحكمته وبالله التوفيق.
212
فصل :قال القدري :ونحن نعرف بهذا جميعه ونقر بأن الله خلق النسان
مريدا ولكن جعله على خلقة يريد بها وهو مريد بالقوة والقبول أي خلقه
) (22/45
قابل لن يريد هذا وهذا وأما كونه مريدا لهذا المعنى فليس ذلك بخلق الله
ولكنه هو الذي أحدثه بنفسه ليس هو من إحداث الله قال الجبري :هذه
الرادة حادثة فل بد لها من محدث فالمحدث لها إما أن يكون نفس النسان
أو مخلوق خارج عنها أو ربها وفاطرها وخالقها والقسمان الولن محال فتعين
الثالث أما المقدمة الولى فظاهرة إذ المحدث إما النفس وإما أمر خارج
عنها والخارج عنها إما الخالق أو المخلوق وأما المقدمة الثانية فبيانها أن
النفس ل يصح أن تكون هي المحدثة لرادتها فإنها إما أن تحدثها بإرادة أو
بغير إرادة وكلهما ممتنع فإنها لو توقف إحداثها على إرادة أخرى فالكلم فيها
كالكلم في الولى ويلزم التسلسل إلى غير نهاية فل توجد إرادة حتى
يتقدمها إرادات ل تتناهى وإن لم يتوقف إحداثها على إرادة منها بطل أن
تكون هي المؤثرة في إحداثها إذ وقوع الحادث بل إرادة من الفاعل المختار
محال وإذا بطل أن تكون محدثة للرادة بإدارة وأن يحدثها بغير إرادة تعين أن
يكون المحدث لتلك الرادة أمرا خارجا عنها فحينئذ إما أن يكون مخلوقا أو
يكون هو الخالق سبحانه والول محال لن ذلك المحدث إن كان غير مريد لم
يمكنه جعل النسان مريدا وإن كان مريدا فالكلم في إرادته كالكلم في
إرادة النسان سواء فتعين أن يكون المحدث لتلك الرادة هو الخالق لكل
شيء الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن قال القدري :قد اختلفت طرق
أصحابنا في الجواب عن هذا اللزام فقال الجاحظ :العبد يحدث أفعاله بغير
إرادة منه بل مجرد قدرته وعلمه بما في الفعل من الملئمة فإذا علم موافقة
الفعل له وهو قادر عليه أحدثه بقدرته وعلمه وأنكر توقفه على إرادة محدثه
وأنكر حقيقة الرادة في الشاهد ولم ينكر الميل والشهوة ولكن ل يتوقف
إحداث عليها فإن النسان قد يفعل ما ل يشتهيه ول يميل إليه وخالفه جميع
) (22/46
213
المقدورين المرادين من قبلها فهي التي رجحته قالوا والقادر المختار يرجح
أحد مقدوريه على الخر بغير مرجح كالعطشان إذا قدم له قدحان متساويان
من كل وجه والهارب إذا عن له طريقان كذلك فإنه يرجح أحدهما بل مرجح
فالله سبحانه أحدث فيه إرادة الفعل ولكن الرادة ل توجب المراد فأحدثها
فيه امتحانا له وابتلء وأقدره على خلفها وأمره بمخالفتها ول ريب أنه قادر
على مخالفتها فل يلزم من كونها مخلوقة لله حاصلة بإحداثه وجوب الفعل
عندها وقال أبو الحسين البصري" :إن الفعل يتوقف على الداعي والقدرة
وهما من الله خلقا فيه وعندهما يجب وجود الفعل باختيار العبد وداعيه
فيكون هو المحدث له بما فيه من الدواعي والقدرة" فهذه طرق أصحابنا في
الجواب عما ذكرتم قال السني :لم تتخلصوا بذلك من اللزام ولم تبينوا به
بطلن حجتهم المذكورة فل منعتم مقدماتها وبينتم فسادها ول عارضتموها
بما هو أقوى منها كما أنهم لم يتخلصوا من
) (22/47
إلزامكم ولم يبينوا بطلن دليلكم وكان غاية ما عندكم وعندهم المعارضة
وبيان كل منكم تناقض الخر وهذا ل يفيد نصرة الحق وإبطال الباطل بل يفيد
بيان خطأكم وخطأهم وعدولكم وإياهم عن منهج الصواب فنقول وبالله
التوفيق مع كل منكما صواب من وجه وخطأ من وجه فأما صواب الجبري
فمن جهة إسناده الحوادث كلها إلى مشيئة الله وخلقه وقضائه وقدره
والقدري خالف الضرورة في ذلك فإن كون العبد مريدا فاعل بعد أن لم يكن
أمر حادث فأما أن يكون له محدث وأما أن ل يكون فإن لم يكن له محدث
لزم حدوث الحوادث بل محدث وإن كان له محدث فأما أن يكون هو العبد أو
الله سبحانه أو غيرهما فإن كان هو العبد فالقول في إحداثه لتلك الفاعلية
كالقول في إحداث سببها ويلزم التسلسل وهو باطل ههنا بالتفاق لن العبد
كائن بعد أن لم يكن فيمتنع أن تقوم به حوادث ل أول لها وإن كان غير الله
فالقول فيه كالقول في العبد فتعين أن يكون الله هو الخالق المكون لرادة
العبد وقدرته وإحداثه وفعله وهذه مقدمات يقينية ل يمكن القدح فيها فمن
قال إن إرادة العبد وإحداثه حصل بغير سبب اقتضى حدوث ذلك والعبد
أحدث ذلك وحاله عند إحداثه كما كان قبله بل خص أحد الوقتين بالحداث
من غير سبب اقتضى تخصيصه وأنه صار مريدا فاعل محدثا بعد أن لم يكن
كذلك من غير من جعله كذلك فقد قال ما ل يعقل بل يخالف صريح العقل
وقال بحدوث حوادث بل محدث وقولكم أن الرادة ل تعلل كلم باطل ل
حقيقة له فإن الرادة أمر حادث فل بد له من محدث ونظير هذا المحال
قولكم في فعل الرب سبحانه أنه بواسطة إرادة يحدثها
) (22/48
214
شئت قلت كون العبد مريدا أمر ممكن والممكن ل يترجح وجوده على عدمه
إل لمرجح تام والمرجح التام إما من العبد وإما من مخلوق آخر وأما من الله
سبحانه والقسمان الولن باطلن فتعين الثالث كما تقدم فهذه الحجة ل
يمكن دفعها ول يمكن دفع العلم الضروري باستناد أفعالنا الختيارية إلى
إرادتنا وقدرتنا وإنا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة وبالعكس فهذه الحجة
ل يمكن دفعها والجمع بين الحجتين هو الحق فإن الله سبحانه خالق إرادة
العبد وقدرته وجاعلهما سببا لحداثه الفعل فالعبد محدث لفعله بإرادته
واختياره وقدرته حقيقة وخالق السبب خالق للمسبب ولو لم يشأ سبحانه
وجود فعله لما خلق له السبب الموجد له فقال الفريقان للسني كيف يكون
الرب تعالى محدثا لها والعبد أيضا ،قال السني :إحداث الله سبحانه لها
بمعنى أنه خلقها منفصلة عنه قائمة بمحلها وهو العبد فجعل العبد فاعل لها
بما أحدث فيه من القدرة والمشيئة وإحداث العبد لها بمعنى أنها قامت به
وحدثت بإرادته وقدرته وكل من الحداثين مستلزم للخر ولكن جهة الضافة
مختلفة فما أحدثه الرب سبحانه من ذلك فهو مباين له قائم بالمخلوق
مفعول له ل فعل وما أحدثه العبد فهو فعل له قائم به يعود إليه حكمه
ويشتق له منه اسمه وقد أضاف الله سبحانه كثيرا من الحوادث إليه وأضافها
تم ْ موْت َِها َوال ِّتي ل َ ْ
م تَ ُ ن َ حي َ
س ِ ف َ ه ي َت َوَّفى ال َن ْ ُ إلى بعض مخلوقاته كقوله} :الل ّ ُ
م{ وقال} :ت َوَفّت ْ ُ
ه ل ب ِك ُ ْ
ذي وُك ّ َت ال ّ ِ
موْ ِ ك ال ْ َ
مل َ ُ ل ي َت َوَّفاك ُ ْ
م َ مَها{ ،وقال} :قُ ْ مَنا ِ
ِفي َ
ةَ
ملئ ِك ِ ْ َ َ
حي َرب ّك إ ِلى ال َ سل َُنا{ وقال} :إ ِذ ْ ُيو ِ
ُر ُ
) (22/49
ُ َ
ب{ وقال: فُروا الّرعْ َ ن كَ َ ذي َ ب ال ّ ِ قي ِفي قُُلو ِ سأل ْ ِمُنوا َ نآ َ م فَث َب ُّتوا ال ّ ِ
ذي َ معَك ُ ْ أّني َ
حَياةِ الد ّن َْيا{ وقال وأنزل الله ت ِفي ال ْ َ ل الّثاب ِ ِ قو ْ ِ مُنوا ِبال ْ َنآ َ ذي َ ه ال ّ ِت الل ّ ُ }ي ُث َب ّ ُ
َ
خذ َهُ ُ
م ق{ وقال} :فَأ َ ح ّك ِبال ْ َ ن َرب ّ َ م ْ س ِ قد ُ ِح ال ْ ُه ُرو ُ ل ن َّزل َ ُ عليك الكتاب وقال} :قُ ْ
َ َ َ َ ال ْعَ َ
ز
زي ٍخذ َ ع َ ِ مأ ْ ه{ }فَأ َ
خذ َْناهُ ْ خذ َْنا ب ِذ َن ْب ِ ِة{ وقال} :فَك ُل ً أ َ ح ُ صي ْ َم ال ّ خذ َت ْهُ ُب{ }فَأ َ ذا ُ
قت َدٍِر{ وهذا كثير فأضاف هذه الفعال إلى نفسه إذ هي واقعة بخلقه م ْ ُ
ومشيئته وقضائه وأضافها إلى أسبابها إذ هو الذي جعلها أسبابا لحصولها بين
الضافتين ول تناقض بين السببين وإذا كان كذلك تبين أن إضافة الفعل
الختياري إلى الحيوان بطريق التسبب وقيامه به ووقوعه بإرادته ل ينافي
إضافته إلى الرب سبحانه خلقا ومشيئة وقدرا ونظيره قوله تعالى} :إ ِّنا ل َ ّ
ما
ن
جي ْ ِل َزوْ َ ن كُ ّم ْل ِفيَها ِ م ْ ح ِ ة{ وقال لنوح} :قُل َْنا ا ْ جارِي َ ِ م ِفي ال ْ َ مل َْناك ُ ْح َ ماُء َ ط ََغا ال ْ َ
ن{ فالرب سبحانه هو الذي حملهم فيها بإذنه وأمره ومشيئته ونوح اث ْن َي ْ ِ
حملهم بفعله ومباشرته.
فصل :وأما قول الجاحظ أن العبد يحدث أفعاله الختيارية من غير إرادة منه
بل بمجرد القدرة والداعي فإن أراد نفي إرادة العبد وجحد هذه الصفة عنه
فمكابرة ل تنكر من طوائف هم أكثر الناس مكابرة وجحدا للمعلوم بالضرورة
فل أرخص من ذلك عندهم وأن أراد أن الرادة أمر عدمي وهو كونه غير
مغلوب ول ملجأ فيقال هذا العدم من لوازم الرادة ل أنه نفسها وكون الرادة
أمرا عدميا مكابرة أخرى وهي بمنزلة قول القائل القدرة أمر عدمي لنها
بمعنى عدم العجز والكلم عدمي لنه عدم الخرس والسمع والبصر عدمي
215
لنهما عدم الصمم والعمى وأما قوله أن الفعل يقع بمجرد القدرة وعلم
الفاعل بما فيه من الملئمة فمكابرة ثالثة فإن العبد يجد من نفسه قدرة
) (22/50
) (22/51
أنفع شيء لهم ل صلح لهم ول فلح ول سعادة إل بمعرفتها وطلبها وفعلها ول
سبيل لهم إلى ذلك إل بوحي منه وتعريف خاص فأرسل إليهم رسله وأنزل
عليهم كتبه فعرفهم ما هو النفع لهم ما فيه سعادتهم وفلحهم فصادفتهم
الرسل مشتغلين بأضدادها قد ألفوها وساكنوها وجرت عليها عوائدهم حين
ألفتها الطباع فأخبرتهم الرسل أنها أضر شيء عليهم وأنها من أعظم أسباب
ألمهم وفوات إربهم وسرورهم فنهضت الرادة طالبة للسعادة والفلح إذ
الدعوة إلى ذلك محركة للقلوب والسماع والبصار إلى الستجابة فقام داعي
الطبع واللف والعادة في وجه ذلك الداعي معارضا له يعد النفس ويمنيها
216
ويرغبها ويزين لها ما ألفته واعتادته لكونه ملئما له وهو نقد عاجل وراحة
مؤثرة ولذة مطلوبة ولهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر وداعي الفلح يدعو إلى
أمر آجل في دار غير هذه الدار ل ينال إل بمفارقة ملذها وطيباتها ومسراتها
وتجرع مرارتها والتعرض لفاتها وإيثار الغير لمحبوباتها ومشتهياتها يقول خذ
ما تراه ودع ما سمعت به فقامت الرادة بين الداعيين تصغي إلى هذا مرة
وإلى هذا مرة فههنا معركة الحرب ومحل المحنة فقتيل وأسير وفائز بالظفر
والغنيمة فإذا شاء الله سبحانه وتعالى رحمة عبد جذب قوى إرادته وعزيمته
إلى ما ينفعه ويحييه الحياة الطيبة فأوحى إلى ملئكته أن ثبتوا عبدي
حي َرب ّكَواصرفوا همته وإرادته إلى مرضاتي وطاعتي كما قال تعالى} :إ ِذ ْ ُيو ِ
َ
مُنوا{
نآ َ م فَث َب ُّتوا ال ّ ِ
ذي َ معَك ُ ْ إ َِلى ال ْ َ
ملئ ِك َةِ أّني َ
) (22/52
ص -178-وقال النبي صلى الله عليه وسلم" :إن للملك بقلب ابن آدم لمة
وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد ولمة الشيطان إيعاد
م ِبال ْ َ ْ م ال ْ َ شي ْ َ
شاِءح َ
ف ْ مُرك ُ ْ
قَر وَي َأ ُ
ف ْ ن ي َعِد ُك ُ ُ
طا ُ بالشر وتكذيب بالحق ثم قرأ} :ال ّ
ل{ وإذا أراد خذلن عبد أمسك عنه تأييده وتثبيته ض ً
ه وَفَ ْ
من ْ ُ
فَرةً ِ
مغْ ِ
م َ َوالل ّ ُ
ه ي َعِد ُك ُ ْ
وخلى بينه وبين نفسه ولم يكن بذلك ضال له لنه قد أعطاه قدرة وإرادة
وعرفه الخير والشر وحذر طريق الهلك وعرفه بها وحضه على سلوك طريق
النجاة وعرفه بها ثم تركه وما اختار لنفسه ووله ما تولى فإذا وجد شرا فل
يلومن إل نفسه ،قال القدري :فتلك الرادة المعينة المستلزمة للفعل المعين
إن كانت بإحداث العبد فهو قولنا وإن كانت بإحداث الرب سبحانه فهو قول
الجبري وإن كانت بغير محدث لزم المحال ،قال السني :ل تفتقر كل إرادة
من العبد إلى مشيئة خاصة من الله توجب حدوثها بل يكفي في ذلك المشيئة
العامة لجعله مريدا فإن الرادة هي حركة النفس والله سبحانه شاء أن تكون
متحركة وأما أن تكون كل حركة تستدعي مشيئة مفردة فل وهذا كما أنه
سبحانه شاء أن يكون الحي متنفسا ول يفتقر كل نفس من أنفاسه إلى
مشيئة خاصة وكذلك شاء أن يكون هذا الماء بجملته جاريا ول تفتقر كل
قطرة منه إلى مشيئة خاصة يجري بها الماء وكذلك مشيئته لحركات الفلك
وهبوب الرياح ونزول الغيث وكذلك خطرات القلوب ووساوس النفس وكذلك
مشيئته أن يكون العبد متكلما ل يستلزم أن يكون كل حرف بمشيئته غير
مشيئة الحرف الخر وإذا تبين ذلك فهو سبحانه شاء أن يكون عبده شائيا
مريدا وتلك الرادة والمشيئة صالحة للضدين فإذا شاء أن يهدي عبدا صرف
داعيه ومشيئته وإرادته إلى معاشه ومعاده وإذا شاء أن يضله تركه ونفسه
وتخلى عنه والنفس متحركة بطبعها ل بد لها من مراد محبوب هو مألوهها
ومعبودها فإن لم يكن الله وحده هو معبودها ومرادها وإل كان غيره لها
معبودا
) (22/53
ومرادا ول بد فإن حركتها ومحبتها من لوازم ذاتها فإن لم تحب ربها وفاطرها
وتعبده أحبت غيره وعبدته وإن لم تتعلق إرادتها بما ينفعها في معادها تعلقت
217
بما يضرها فيه ول بد فل تعطيل في طبيعتها وهكذا خلقت فإن قلت فأين
مشيئة الله لهداها وضللها قلت إذا شاء إضللها تركها ودواعيها وخلى بينها
وبين ما تختاره وإذا شاء هداها جذب دواعيها وإرادتها إليه وصرف عنها موانع
القبول فيمدها على القدر المشترك بينها وبين سائر النفوس بإمداد وجودي
ويصرف عنها الموانع التي خلى بينها وبين غيرها فيها وهذا بمشيئته وقدرته
فلم يخرج شيء من الموجودات عن مشيئته وقدرته وتكوينه البتة لكن يكون
ما يشاء بأسباب وحكم ولو أن الجبرية أثبتت السباب والحكم لنحلت عنها
عقد هذه المسألة ولو أن القدرية سحبت ذيل المشيئة والقدر والخلق على
جميع الكائنات مع إثبات الحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب سبحانه
لنحلت عنها عقدها وبالله التوفيق.
) (22/54
شفاء العليل
الباب الحادي والعشرون :في تنزيه القضاء اللهي عن الشر ودخوله في
المقضي
الباب الحادي والعشرون :في تنزيه القضاء اللهي عن الشر
شاُءن تَ َم ْ مل ْك َ
َ ك ت ُؤِْتي ال ْ ُ
مل ْ ِك ال ْ ُمال ِ َم َل الل ّهُ ّقال الله تعالى} :قل اللهم قُ ِ
َ َ
خي ُْر إ ِن ّك عَلى ْ َ
شاُء ب ِي َدِك ال َ ن تَ َم ْ ل َ شاُء وَت ُذِ ّن تَ َ م ْ ن تَ َ
شاُء وَت ُعِّز َ م ْ
م ّ
ك ِمل ْ َ
وَت َن ْزِعُ ال ْ ُ
ديٌر{ فصدر الية سبحانه بتفرده بالملك كله وأنه هو يٍء قَ ِ ش ْ ل َ كُ ّ
) (23/1
218
محله لم يكن شرا فعلم أن الشر ليس إليه وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك
فإن منها القدوس السلم العزيز الجبار المتكبر فالقدوس المنزه من كل شر
ونقص وعيب كما قال أهل التفسير هو الطاهر من كل عيب المنزه عما ل
يليق به وهذا قول أهل اللغة وأصل الكلمة من الطهارة والنزاهة ومنه بيت
المقدس لنه مكان يتطهر فيه من الذنوب ومن أمه ل يريد إل الصلة فيه
رجع من خطيئته كيوم ولدته أمه ومنه سميت الجنة حظيرة القدس
) (23/2
لطهارتها من آفات الدنيا ومنه سمي جبريل روح القدس لنه طاهر من كل
عيب ومنه قول الملئكة ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فقيل المعنى
ونقدس أنفسنا لك فعدى باللم وهذا ليس شيء والصواب أن المعنى
نقدسك وننزهك عما ل يليق بك هذا قول جمهور أهل التفسير ،وقال ابن
جرير" :ونقدس لك ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الدناس
ومما أضاف إليك أهل الكفر بك" قال وقال بعضهم" :نعظمك ونمجدك" قاله
أبو صالح ،وقال مجاهد" :نعظمك ونكبرك" انتهى وقال بعضهم ننزهك عن
م{ لن ف ل َك ُ ْ
السوء فل ننسبه إليك واللم فيه على حدها في قولهَ} :ردِ َ
المعنى تنزيه الله ل تنزيه نفوسهم لجله قلت ولهذا قرن هذا اللفظ بقولهم
نسبح بحمدك فإن التسبيح تنزيه الله سبحانه عن كل سوء ،قال ميمون بن
مهران" :سبحان الله كلمة يعظم بها الرب ويحاشى بها من السوء" وقال ابن
عباس" :هي تنزيه لله من كل سوء" وأصل اللفظة من المباعدة من قولهم
سبحت في الرض إذا تباعدت فيها ومنه كل في فلك يسبحون فمن أثنى
على الله ونزهه عن السوء فقد سبحه ويقال سبح الله وسبح له وقدسه
وقدس له وكذلك اسمه السلم فإنه الذي سلم من العيوب والنقائص ووصفه
بالسلم أبلغ في ذلك من وصفه بالسالم ومن موجبات وصفه بذلك سلمة
خلقه من ظلمه لهم فسلم سبحانه من إرادة الظلم والشر ومن التسمية به
ومن فعله ومن نسبته إليه فهو السلم من صفات النقص وأفعال النقص
وأسماء النقص المسلم لخلقه من الظلم ولهذا وصف سبحانه ليلة القدر بأنها
سلم والجنة بأنها دار السلم وتحية أهلها السلم وأثنى على أوليائه بالقول
السلم
) (23/3
219
والسوء والظلم إليه مع أنه سبحانه الخالق لكل شيء فهو الخالق للعباد
وأفعالهم وحركاتهم وأقوالهم والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل
الشر والسوء والرب سبحانه هو الذي جعله فاعل لذلك وهذا الجعل منه عدل
وحكمة وصواب فجعله فاعل خير والمفعول شر قبيح فهو سبحانه بهذا الجعل
قد وضع الشيء موضعه لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها
فهو خير وحكمة ومصلحة وإن كان وقوعه من العبد عيبا ونقصا وشرا وهذا
أمر معقول في الشاهد فإن الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء والحجر
المكسور واللبنة الناقصة فوضع ذلك في موضع يليق به ويناسبه كان ذلك
منه عدل وصوابا يمدح به وإن كان في المحل عوج ونقص وعيب يذم به
المحل ومن وضع الخبائث في موضعها ومحلها اللئق بها كان ذلك حكمة
وعدل وصوابا وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها فمن وضع
العمامة على الرأس والنعل في الرجل والكحل في العين والزبالة في
الكناسة فقد وضع الشيء موضعه ولم يظلم النعل والزبالة إذ هذا محلهما
ومن أسمائه سبحانه العدل والحكيم الذي ل يضع الشيء إل في موضعه فهو
المحسن الجواد الحكيم العدل في كل ما خلقه وفي كل ما وضعه في محله
وهيأه له وهو سبحانه له الخلق
) (23/4
والمر فكما أنه في أمره ل يأمر إل بأرجح المرين ويأمر بتحصيل المصالح
وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإذا تعارض أمران رجح أحسنهما
وأصلحهما وليس في الشريعة أمر يفعل إل ووجوده للمأمور خير من عدمه
ول نهي عن فعل إل وعدمه خير من وجوده فإن قلت فإذا كان وجوده خيرا
من عدمه فكيف ل يشاء وجوده فإذا كان عدمه خيرا من وجوده فكيف يشاء
وجوده فالمشيئة العامة تنقض عليك هذه القاعدة الكلية قلت ل تنقضها لن
وجوده وإن كان خيرا من عدمه فقد يستلزم وجوده فوات محبوب له هو
أحب إليه من وقوع هذا المأمور من هذا المعنى وعدم المنهي وإن كان خيرا
من وجوده فقد يكون وجوده وسيلة وسببا إلى ما هو أحب إليه من عدمه
وسيأتي تمام تقرير ذلك في باب اجتماع القدر والشرع وافتراقهما إن شاء
الله والرب سبحانه إذا أمر بشيء فقد أحبه ورضيه وأراده وبينه وهو ل يحب
شيئا إل ووجوده خير من عدمه وما نهى عنه فقد أبغضه وكرهه وهو ل يبغض
شيئا إل وعدمه خير من وجوده هذا بالنظر إلى ذات هذا وهذا وأما باعتبار
إفضائه إلى ما يحب ويكره فله حكم آخر ولهذا أمر سبحانه عباده أن يأخذوا
بأحسن ما أنزل إليهم فالحسن هو المأمور به وهو خير من المنهي عنه وإذا
كانت هذه سنته في أمره وشرعه فهكذا سنته في خلقه وقضائه وقدره فما
أراد أن يخلقه أو يفعله كان أن يخلقه ويفعله خيرا من أن ل يخلقه ول يفعله
وبالعكس وما كان عدمه خيرا من وجوده فوجوده شر وهو ل يفعله بل هو
منزه عنه والشر ليس
) (23/5
220
ص -181-إليه ،فإن قلت فلم خلقه وهو شر ،قلت خلقه له وفعله خير ل شر
فإن الخلق والفعل قائم به سبحانه والشر يستحيل قيامه به واتصافه به وما
كان في المخلوق من شر فلعدم إضافته ونسبته إليه والفعل والخلق يضاف
إليه فكان خيرا والذي شاءه كله خير والذي لم يشأ وجوده بقي على العدم
الصلي وهو الشر فإن الشر كله عدم وأن سببه جهل وهو عدم العلم أو ظلم
وهو عدم العدل وما يترتب على ذلك من اللم فهو من عدم استعداد المحل
وقبوله لسباب الخيرات واللذات ،فإن قلت كثير من الناس يطلق القول بأن
الخير كله من الوجود ولوازمه والشر كله من العدم ولوازمه والوجود خير
والشر المحض ل يكون إل عدما ،قلت هذا اللفظ فيه إجمال فإن أريد به أن
كل ما خلقه الله وأوجده ففيه الخير ووجوده خير من عدمه وما لم يخلقه
ولم يشأه فهو المعدوم الباقي على عدمه ول خير فيه إذ لو كان فيه خير
لفعله فإنه بيده الخير فهذا صحيح فالشر العدمي هو عدم الخير وإن أريد أن
كل ما يلزم الوجود فهو خير وكل ما يلزم العدم فهو شر فليس بصحيح فإن
الوجود قد يلزمه شر مرجوح والعدم قد يلزمه خير راجح مثال الول النار
والمطر والحر والبرد والثلج ووجود الحيوانات فإن هذا موجود ويلزمه شر
جزئي مغمور بالنسبة إلى ما في وجود ذلك من الخير وكذلك المأمور به قد
يلزمه من اللم والمشقة ما هو شر جزئي مغمور بالنسبة إلى ما فيه من
الخير.
فصل :وتحقيق المر أن الشر نوعان شر محض حقيقي من كل وجه وشر
نسبي إضافي من وجه دون وجه فالول ل يدخل في الوجود إذ لو دخل في
الوجود لم يكن شرا محضا والثاني هو الذي يدخل في الوجود فالمور التي
يقال هي شرور إما أن تكون أمورا عدمية أو أمورا وجودية فإن كانت عدمية
فإنها إما أن تكون عدما لمور ضرورية للشيء في وجوده أو ضرورية له في
دوام وجوده وبقائه أو ضرورية له في كماله وإما أن تكون غير ضرورية له
في وجوده ول بقائه ول كماله وإن كان وجودها خيرا من
) (23/6
221
سببا للشر وإنما يترتب الشر من عدم صفة تقتضي الخير كعدم العفة
والصبر والعدل في حق الغنى فيحصل الشر له في غناه بعدم هذه الصفات
وكذلك عدم الحكمة ووضع الشيء موضعه وعدم إرادة الحكمة في حق
صاحب العلم يوجب ترتب الشر له على ذلك فظهر أن الشر لم يترتب إل
على عدم وإل فالموجود من حيث وجوده ل يكون شرا ول سببا للشر فالمور
الوجودية ليست شرورا
) (23/7
) (23/8
غير موضعه والعدول به عن المحل المؤدي إلى غيره وهذا بالنسبة إلى
الفاعل وأما بالنسبة إلى المفعول فهو شر إضافي أيضا وهو ما حصل له من
التألم وفاته من الحياة وقد يكون ذلك خيرا له من جهة أخرى وخير لغيرة
وكذلك الوطء فإن قوة الفاعل وقبول المحل كمال ولكن الشر في العدول
به عن المحل الذي يليق به إلى محل ل يحسن ول يليق وهكذا حركة اللسان
وحركات الجوارح كلها جارية على هذا المجرى فظهر أن دخول الشر في
222
المور الوجودية إنما هو بالنسبة والضافة ل أنها من حيث وجودها وذواتها شر
وكذلك السجود ليس هو شرا من حيث ذاته ووجوده فإذا أضيف إلى غير الله
كان شرا بهذه النسبة والضافة وكذلك كل ما وجوده كفر وشرك إنما كان
شرا بإضافته إلى ما جعله كذلك كتعظيم الصنام فالتعظيم من حيث هو
تعظيم ل يمدح ول يذم إل باعتبار متعلقه فإذا كان تعظيما لله وكتابه ودينه
ورسوله كان خيرا محضا وإن كان تعظيما للصنم وللشيطان فإضافته إلى هذا
المحل جعلته شرا كما أن إضافة السجود إلى غير الله جعلته كذلك.
فصل :ومما ينبغي أن يعلم أن الشياء المكونة من موادها شيئا فشيئا
كالنبات والحيوان أما إن يعرض لها النقص الذي هو شر في ابتدائها أو بعد
تكونها فالول هو بأن يعرض لمادتها من السباب ما يجعلها ردية المزاج
ناقصة الستعداد فيقع الشر فيها والنقص في خلقها بذلك السبب وليس ذلك
بأن الفاعل حرمه وأذهب عنه أمرا وجوديا به كماله بل لن المنفعل لم يقبل
الكمال والتمام وعدم قبوله
) (23/9
ص -183-أمر عدمي ليس بالفاعل وأما الذي بالفاعل فهو الخير الوجودي
الذي يتقبل به كماله وتمامه ونقصه والشر الذي حصل فيه هو من عدم
إمداده بسبب الكمال فبقي على العدم الصلي وبهذا يفهم سر قوله تعالى:
ت{ فإن ما خلقه فهو أمر وجودي به فاوُ ٍ
ن تَ َ
م ْ
ن ِ ما ت ََرى ِفي َ ْ
م ِ
ح َ
ق الّر ْ
خل ِ } َ
كمال المخلوق وتمامه وأما عيبه ونقصه فمن عدم قبوله وعدم القبول ليس
أمرا مخلوقا يتعلق بفعل الفاعل فالخلق الوجودي ليس فيه تفاوت والتفاوت
إنما حصل بسبب هذا الخلق فإن الخالق سبحانه لم يخلق له استعدادا
فحصل التفاوت فيه من عدم الخلق ل من نفس الخلق فتأمله والذي إلى
الرب سبحانه هو الخلق وأما العدم فليس هو بفاعل له فإذا لم يكمل في
مادة الجنين في الرحم ما يقتضي كماله وسلمة أعضائه واعتدالها حصل فيه
التفاوت وكذلك النبات.
فصل :وأما الثاني وهو أن الشر الحاصل بعد تكونه وإيجاده فهو نوعان أيضا
أحدهما أن يقطع عنه المداد الذي به كماله بعد وجوده كما يقطع عن النبات
إمداده بالسقي وعن الحيوان إمداده بالغذاء فهو شر مضاف إلى العدم أيضا
وهو عدم ما يكمل به الثاني حصول مضاد مناف وهو نوعان أحدهما قيام مانع
في المحل يمنع تأثير السباب الصالحة فيه كما تقوم بالبدن أخلط ردية تمنع
تأثير الغذاء فيه وانتفاعه به وكما تقوم بالقلب إرادات واعتقادات فاسدة تمنع
انتفاعه بالهدى والعلم فهذا الشر وإن كان وجوديا وأسبابه وجودية فهو أيضا
من عدم القوة والرادة التي يدفع بها ذلك المانع فلو وجدت قوة وإرادة
تدفعه لم يتأثر المحل به مثاله أن غلبة الخلط واستيلئها من عدم القوة
المنضجة لها أو القوة الدافعة لما يحتاج إلى خروج وكذلك استيلء الرادات
الفاسدة لضعف قوة العفة والصبر واستيلء العتقادات الباطلة لعدم العلم
المطابق لمعلومه فكل شر ونقص فإنما حصل لعدم سبب ضده وعدم سبب
ضده ليس فاعل له بل يكفي فيه بقاؤه على العدم الصلي الثاني مانع من
خارج كالبرد
223
) (23/10
الشديد والحرق والغرق ونحو ذلك مما يصيب الحيوان والنبات فيحدث فيه
الفساد فهذا ل ريب انه شر وجودي مستند إلى سبب وجودي ولكنه شر
نسبي إضافي وهو خير من وجه آخر فإن وجود ذلك الحر والبرد والماء يترتب
عليه مصالح وخيرات كلية هذا الشر بالنسبة إليها جزئي فتعطيل تلك
السباب لتفويت هذا الشر الجزئي يتضمن شرا أكثر منه وهو فوات تلك
الخيرات الحاصلة بها فإن ما يحصل بالشمس والريح والمطر والثلج والحر
والبرد من مصالح الخلق أضعاف أضعاف ما يحصل بذلك من مفاسد جزئية
هي في جنب تلك المصالح كقطرة في بحر هذا لو كان شرها حقيقيا فكيف
وهي خير من وجه وشر من وجه وإن لم يعلم جهة الخير فيها كثير من الناس
فما قدرها الرب سبحانه سدى ول خلقها باطل وعند هذا فيقال الوجود إما أن
يكون خيرا من كل وجه أو شرا من كل وجه أو خيرا من وجه شرا من وجه
وهذا على ثلثة أقسام قسم خيره راجح على شره وعكسه وقسم مستو
خيره وشره وأما أن ل يكون فيه خير ول شر فهذه ستة أقسام ول مزيد
عليها فبعضها واقع وبعضها غير واقع فأما القسم الول وهو الخير المحض
من كل وجه الذي ل شر فيه بوجه ما فهو أشرف الموجودات على الطلق
وأكملها وأجلها وكل كمال وخير فيها فهو مستفاد من خيره وكماله في نفسه
وهي تستمد منه وهو ل يستمد منها وهي فقيرة إليه وهو غني عنها كل منها
يسأله كماله فالملئكة تسأله ما ل حياة لها إل به وإعانته على ذكره وشكره
وحسن
) (23/11
224
تدخل في الوجود أما الشر المحض الذي ل خير فيه فذاك ليس له حقيقة بل
هو العدم المحض ،فإن قيل فإبليس شر محض والكفر والشرك كذلك وقد
دخلوا في الوجود فأي خير في إبليس وفي وجود الكفر ،قيل في خلق إبليس
من الحكم والمصالح والخيرات التي ترتبت على وجوده ما ل يعلمه إل الله
كما سننبه على بعضه فالله سبحانه لم يخلقه عبثا ول قصد بخلقه إضرار
عباده وهلكهم فكم لله في خلقه من حكمة باهرة وحجة قاهرة وآية ظاهرة
ونعمة سابغة وهو وإن كان للديان واليمان كالسموم للبدان ففي
) (23/12
) (23/13
ص -185-الشر بالكلية وإذا كان قد خلقهم لعبادته فكيف اقتضت حكمته أن
صرف إليهم عنا ووفق لها القل من الناس وأي خير يغلب في خلق الكفر
والفسوق والعصيان والظلم والبغي وأي خير في إيلم غير المكلفين
كالطفال والمجانين فإن قلتم فائدته التعويض أنقض عليكم بإيلم البهائم ثم
وأي خير في خلق الدجال وتمكينه من الظهور والفتتان به وإذ قد اقتضت
الحكمة ذلك فأي خير حصل في تمكينه من إظهار تلك الخوارق والعجائب
وأي خير في السحر وما يترتب عليه من المفاسد والمضار وأي خير في
إلباس الخلق شيعا وإذاقة بعضهم بأس بعض وأي خير في خلق السموم
وذات السموم والحيوانات العادية المؤذية بطبعها وأي خير في خراب هذه
225
البنية بعد خلقها في أحسن تقويم وردها إلى أرذل العمر بعد استقامتها
وصلحها وكذلك خراب هذا الدار ومحو أثرها فإن كان وجود ذلك خيرا غالبا
فإبطاله إبطال للخير الغالب دع هذا كله فأي خير راجح أو مرجوح في النار
وهي دار الشر العظم والبلء الكبر ول خلص لكم عن هذه السئلة إل بسد
باب الحكم والتعليل وإسناد الكون إلى محض المشيئة أو القول باليجاب
الذاتي وأن الرب ل يفعل باختياره ومشيئته وهذه السئلة إنما ترد على من
يقول بالفاعل المختار فلهذا لجأ القائلون إلى إنكار التعليل جملة فاختاروا
أحد المذهبين وتحيزوا إلى إحدى الفئتين وإل فكيف تجمعون بين القول
بالحكمة والتعليل وبين هذه المور فالجواب بعد أن نقول سبحان الله والحمد
لله ول إله إل الله والله أكبر بل في تحقيق هذه الكلمات الجواب الشافي:
ماَء
س َ قَنا ال ّخل َ ْما َب الّناِر{} :وَ َ ذا َ قَنا عَ َك فَ ِ حان َ َ
سب ْ َذا َباط ِل ً ُ ت هَ َ ق َ خل َ ْ ما َ }َرب َّنا َ
خل َ ْ ما إ ِل ّ ِبال ْ َ خل َ ْ َ
ماَء
س َقَنا ال ّ ما َق{} :وَ َ ح ّ قَناهُ َ ما َ ن{ } َ عِبي َما ل ِ ما ب َي ْن َهُ َ ض وَ ََواْلْر َ
ل ل ِل ّ ِ ن ال ّ ِ َ
ن
م َفُروا ِ ن كَ َ
ذي َ فُروا فَوَي ْ ٌ ن كَ َذي َ ك ظَ ّ ما َباط ِل ً ذ َل ِ َ ما ب َي ْن َهُ َ ض وَ ََوالْر َ
) (23/14
) (23/15
بالموجب بالذات أو القول بإبطال الحكمة والتعليل وأنه سبحانه ل يفعل شيئا
لشيء ول يأمر بشيء لحكمة ول جعل شيئا من الشياء سببا لغيره وما ثم إل
مشيئة محضة وقدرة ترجح مثل على مثل بل سبب ول على وأنه ل يقال
226
ص -186-في فعله لم ول كيف ول لي سبب وحكمة ول هو معلل بالمصالح
قال الرازي في مباحثه" :فإن قيل فلم لم يخلق الخالق هذه الشياء عرية
عن كل الشرور فنقول لنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الول وذلك
مما خرج عنه" يعني كان ذلك هو القسم الذي هو خير محض ل شر فيه قال:
"وبقي في الفعل قسم آخر وهو الذي يكون خيره غالبا على شره" وقد بينا
أن الولى بهذا القسم أن يكون موجودا قال وهذا الجواب ل يعجبني لن
لقائل أن يقول أن جميع هذه الخيرات والشرور إنما توجد باختيار الله سبحانه
وإرادته فالحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجبا عن النار بل الله اختار
خلقه عقيب مماسة النار وإذا كان حصول الحتراق عقيب مماسة النار
باختيار الله وإرادته فكان يمكنه أن يختار خلق الحراق عندما يكون خيرا ول
يختار خلقه عندما يكون شرا ول خلص عن هذه المطالبة إل ببيان كونه فاعل
بالذات ل بالقصد والختيار ويرجع حاصل الكلم في هذه المسألة إلى مسألة
القدم والحدوث فانظر كيف اعترف بأنه ل خلص عن هذه السئلة إل بتكذيب
جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وإبطال جميع الكتب المنزلة من عند الله
ومخالفة صريح العقل في أن خالق العالم سبحانه مريد مختار ما شاء كان
بمشيئته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته وأنه ليس في الكون شيء حاصل
بدون مشيئته البتة فأقر على نفسه أنه ل خلص له في تلك السئلة إل
بالتزام طريقة أعداء الرسل والملل القائلين بأن الله لم يخلق السماوات
والرض في ستة أيام ول أوجد العالم بعد عدمه ول يفنيه بعد إيجاده وصدور
ما صدر عنه بغير اختياره ومشيئته فلم يكن مختارا مريدا للعالم وليس عنده
إل هذا القول أو قول
) (23/16
الجبرية منكري السباب والحكم والتعليل أو قول المعتزلة الذين أثبتوا حكمة
ل ترجع إلى الفاعل وأوجبوا رعاية مصالح شبهوا فيها الخالق بالمخلوق
وجعلوا له بعقولهم شريعة أوجبوا عليه فيها وحرموا وحجروا عليه فالقوال
الثلثة تتردد في صدره وتتقاذف به أمواجها تقاذف السفينة إذا لعبت بها
الرياح الشديدة والعاقل ل يرضى لنفسه بواحد من هذه القوال لمنافاتها
العقل والنقل والفطرة والقول الحق في هذه القوال كيوم الجمعة في اليام
أضل الله عنه أهل الكتابين قبل هذه المة وهداهم إليه كما قال النبي صلى
الله عليه وسلم في الجمعة" :أضل الله عنها من كان قبلنا فاليوم لنا وغدا
لليهود وبعد غد للنصارى" ونحن هكذا نقول بحمد الله ومنه القول الوسط
الصواب لنا وإنكار الفاعل بالمشيئة والختيار لعداء الرسول وإنكار الحكمة
والمصلحة والتعليل والسباب للجهمية والجبرية وإنكار عموم القدرة
والمشيئة العائدة إلى الرب سبحانه من محبته وكراهته وموجب حمده
ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية ونحن نبرأ إلى
الله من هذه القوال وقائلها إل من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم فنحن
به قائلون وإليه منقادون وله ذاهبون.
فصل :الصل الول :إثبات عموم علمه سبحانه وإحاطته بكل معلوم وأنه ل
تخفى عليه خافية ول يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والرض بل قد
أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا والخلف في هذا الصل مع
227
فرقتين إحداهما أعداء الرسل كلهم وهم الذين ينفون علمه بالجزئيات
وحاصل قولهم أنه ل يعلم موجودا البتة فإن كل موجود جزئي معين فإذا لم
يعلم الجزئيات لم يكن عالما بشيء من العالم العلوي والسفلي والفرقة
الثانية غلة القدرية الذين اتفق السلف على كفرهم وحكموا بقتلهم الذين
يقولون ل يعلم أعمال العباد حتى يعلموها ولم يعلمها قبل ذلك ول كتبها ول
قدرها فضل
) (23/17
) (23/18
وأعظم القحة والجراءة أن يعترض من ل نسبة لعلمه إلى علوم الناس التي
ل نسبة لها إلى علوم الرسل التي ل نسبة لها إلى علم رب العالمين عليه
ويقدح في حكمته ويظن أن الصواب والولى أن يكون غير ما جرى به قلمه
وسبق به علمه وأن يكون المر بخلف ذلك فسبحان الله رب العالمين تنزيها
لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلله عما ل يليق به من كل ما نسبه إليه
الجاهلون الظالمون فسبحان الله كلمة يحاشى الله بها عن كل ما يخالف
كماله من سوء ونقص وعيب فهو المنزه التنزيه التام من كل وجه وبكل
اعتبار عن كل نقص متوهم وإثبات عموم حمده وكماله وتمامه ينفي ذلك
228
واتصافه بصفات اللهية التي ل تكون لغيره وكونه أكبر من كل شيء في ذاته
وأوصافه وأفعاله ينفي ذلك لمن رسخت معرفته في معنى سبحان الله
والحمد لله ول إله إل الله والله أكبر وسافر قلبه في منازلها وتلقى معانيها
من مشكاة النبوة ل من مشكاة الفلسفة والكلم الباطل وآراء المتكلمين
فهذا أصل يجب التمسك به في هذا المقام وأن يعلم أن عقول العالمين
ومعارفهم وعلومهم وحكمهم تقصر عن الحاطة بتفاصيل حكمة الرب
سبحانه في أصغر مخلوقاته ،الصل الثاني :أنه سبحانه حي حقيقة وحياته
أكمل الحياة وأتمها وهي حياة تستلزم جميع صفات الكمال ونفي أضدادها
من جميع الوجوه ومن لوازم الحياة الفعل الختياري فإن كل حي فعال
وصدور الفعل عن الحي بحسب كمال حياته ونقصها وكل من كانت حياته
أكمل من غيره كان فعله أقوى وأكمل وكذلك قدرته ولذلك كان الرب
سبحانه على كل شيء قدير وهو فعال لما يريد وقد ذكر البخاري في كتاب
خلق الفعال عن نعيم بن حماد أنه قال" :الحي هو الفعال" وكل حي فعال
فل فرق بين الحي والميت إل بالفعل والشعور وإذا كانت الحياة مستلزمة
للفعل وهو الصل الثالث فالفعل
) (23/19
229
خذهم الربا وقَد نهوا عَنه وأ َك ْل ِه َ َ
ل{: س ِبال َْباط ِ ِ ل الّنا ِ وا َ م َ مأ ْ ِ ْ ْ ُ َ ل الل ّهِ ك َِثيرا ً وَأ ْ ِ ِ ُ ّ َ ْ ُ ُ سِبي ِ َ
م ه ل و َ ق و ق ح ر ي غ ب َ ء يا ب َ
ن ل ا م ه ل ت َ ق و هّ ل ال ت يا بآ م ه ر ْ ف ُ ك و م ه َ ق َ
ثا مي م ه ض ْ ق ن ما َ
ّ َ ْ ِ ْ ِ َ ِ ِ ْ َ َ ِ ْ ِ ُ ِ ْ َ ِ ِ َ ِ ْ ِ ِ ُ ْ َ ِ ِ ْ ِ َ } ِ َ ب ف
ظيما وَقَوْل ِهِ ْ
م ً م ب ُهَْتانا عَ ِ ً مْري َ َ م عَلى َ َ م وَقَوْل ِهِ ْ فرِهِ ْ ُ
ف{ إلى قوله} :وَب ِك ْ قُُلوب َُنا غُل ٌ
ْ
مم ل َعَّناهُ ْ ميَثاقَهُ ْ م ِ ضهِ ْ ق ِ ما ن َ ْ م{ وقوله} :فَب ِ َ مْري َ َ ن َ سى اب ْ َ عي َ ح ِ سي َ م ِ إ ِّنا قَت َل َْنا ال ْ َ
ك م{ وقوله} :ذ َل ِ َ ت ل َهُ ْ ن الل ّهِ ل ِن ْ َ م َ مةٍ ِ ح َ ما َر ْ ة{ وقوله} :فَب ِ َ سي َ ً م َقا ِ جعَل َْنا قُُلوب َهُ ْ وَ َ
َ َ ّ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ
م ه{ وقوله} :ذ َل ِك ب ِأن ّهُ ْ م الل ُ خذ َهُ ُ فُروا فأ َ ت فك َ م ِبالب َي َّنا ِ سلهُ ْ م ُر ُ ت ت َأِتيهِ ْ م كان َ ْ ب ِأن ّهُ ْ
فروا اتبعوا ال ْباط َ َ ل الربا{ وقوله} :ذ َل َ َ
نل وَأ ّ َ ِ َُّ ُ ن كَ َ َ ن ال ّ ِ
ذي ك ب ِأ ّ ِ مث ْ ُ ّ ما ال ْب َي ْعُ ِ َقاُلوا إ ِن ّ َ
َ
م خذ َهُ ْ م فَأ َ ل َرب ّهِ ْ سو َ وا َر ُ ص ْ م{ وقوله} :فَعَ َ ن َرب ّهِ ْ م ْ حقّ ِ مُنوا ات ّب َُعوا ال ْ َ نآ َ ذي َ ال ّ ِ
ن
صى فِْرعَوْ ُ ن{} :فَعَ َ كي َ مهْل َ ِ ن ال ْ ُ م َ كاُنوا ِ ما فَ َ ة{ وقوله} :فَك َذ ُّبوهُ َ خذ َة ً َراب ِي َ ً أَ ْ
الرسو َ َ
م ب ِذ َن ْب ِهِ ْ
م م َرب ّهُ ْ م عَل َي ْهِ ْ مد َ َ ها فَد َ ْ قُرو َ ل{} :فَك َذ ُّبوه ُ فَعَ َ خذا ً وَِبي ً خذ َْناه ُ أ َ ْ ل فَأ َ ّ ُ
ْ َ قمنا منهم فَأ َغْرقْناهُم أ َ َ َ
م
َ َ َ َ ْ ُ ه نا ل ع ج ف ن عي ِ م ج
َ َ ْ ْ َ َ َ َْ ْ َ ِ ُْ ْ َ ت ن ا نا فو ُ س آ ما ّ ل ف } وقوله: ها{ َ وا س ّ فَ َ
َ
تجّنا ٍ مَباَركا ً فَأن ْب َت َْنا ب ِهِ َ ماًء ُ ماِء َ س َ ن ال ّ م َ ن{ وقوله} :وَن َّزل َْنا ِ ري َ خ ِ مث َل ً ِلل ِ سَلفا ً وَ َ َ
ْ َ َ ً ً ّ َ ْ
ت فَأن َْزلَنا ب ِهِ مي ّ ٍ َ ٍ د لَ ب ِ ل ُ ه نا
َ ْ ق س
ُ ل قاَ ِ ث ا حاب َ س ْ َ ت ل َ ق أ َ
ذا ِ إ تى ّ ح
َ } وقوله: د{ ِ صيِ ح َ ل ا ب ّ حَ وَ
ّ ن كُ ّ َ ْ
ه
وان َ ُ ض َ ن ات ّب َعَ رِ ْ م ِ ه َ دي ب ِهِ الل ُ ت{ وقوله} :ي َهْ ِ مَرا ِ ل الث ّ َ م ْ جَنا ب ِهِ ِ خَر ْ ماَء فَأ ْ ال َ
هّ
م الل ُ م ي ُعَذ ّب ْهُ ُ ُ
م{ وقولهَ} :قات ِلوهُ ْ سب ُ َ
سل ِ ل ال ّ ُ
) (23/21
َ َ
ج ب ِهِ خرِ َ جاجا ً ل ِن ُ ْ ماًء ث َ ّ ت َ صَرا ِ معْ ِ ن ال ْ ُ م َ م{ الية وقوله} :وَأن َْزل َْنا ِ خزِهِ ْ م وَي ُ ْ ديك ُ ْ ب ِأي ْ ِ
فافًا{ وكل موضع رتب فيه الحكم الشرعي أو الجزائي ت أ َل ْ َ جّنا ٍ حب ّا ً وَن ََباتا ً وَ َ َ
ما َ َ ْ َ َ
ة فاقطُعوا أي ْدِي َهُ َ سارِق ُ سارِقُ َوال ّ على الوصف أفاد كونه سببا له كقولهَ} :وال ّ
حد ٍ ّ
دوا كل َوا ِ ُ جل ِ ُ َ
ة َوالّزاِني فا ْ ه{ وقوله} :الّزان ِي َ ُ ن الل ّ ِ كال ً ِ
م َ سَبا ن َ َ ما ك َ َ جَزاًء ب ِ َ َ
صلة َ إ ِّنا ل ال موا قاَ َ أ و ب تا كْ ل با ن كو ُ س م ي ن ذيّ ل وا } وقوله: ة{ ْ َ
ّ ُ َ ِ َِ ِ َ َ ِ َ ُ َ ّ م ُْ َ ِ َ َ َ ٍ
د ل ج ة ئ ما ما ه ن ِ
م ه نا د ز ه ّ ل ال ل بي س ن ع دوا ص و روا َ فَ ك ن ذي ّ ل}ا وقوله: ن{ حي ل ص م ْ لا ر َ
ِ ِ َْ ُ ْ ْ َ ِ ِ َ َ َ ّ ُ ِ َ ُ ْ ِ ِ َ نُ ِ ُ ْ َ
ج أ ع ضي
ن{ وهذا أكثر من أن يستوعب وكل دو َ س ُ ف ِ كاُنوا ي ُ ْما َب بِ َ ذا ِ ذابا ً فَوْقَ ال ْعَ َ عَ َ
موضع تضمن الشرط والجزاء أفاد سببية
) (23/22
َ
ن
ذي َص -189-الشرط والجزاء وهو أكثر من أن يستوعب كقولهَ} :يا أي َّها ال ّ ِ
َ
م وَل َئ ِ ْ
ن م لِزيد َن ّك ُ ْ
شك َْرت ُ ْ م فُْرَقانًا{ وقوله} :ل َئ ِ ْ
ن َ ل ل َك ُ ْ
جعَ ْ ه يَ ْ قوا الل ّ َن ت َت ّ ُ
مُنوا إ ِ ْ آ َ
د{ وكل موضع رتب فيه الحكم على ما قبله بحرف دي ٌ
ش ِ َ
ذاِبي ل َ ن عَ َ م إِ ّ كَ َ
فْرت ُ ْ
أفاد التسبب وقد تقدم وكل موضع تقدم ذكرت فيه الباء تعليل لما قبلها بما
بعدها أفاد التسبب وكل موضع صرح فيه بأن كذا جزاء لكذا أفاد التسبيب
فإن العلة الغائية عله للعلة الفاعلية ولو تتبعنا ما يفيد إثبات السباب من
القرآن والسنة لزاد على عشرة آلف موضع ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة
ويكفي شهادة الحس والعقل والفطر ولهذا قال من قال من أهل العلم تكلم
قوم في إنكار السباب فأضحكوا ذوي العقول على عقولهم وظنوا أنهم بذلك
ينصرون التوحيد فشابهوا المعطلة الذين أنكروا صفات الرب ونعوت كماله
وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لملئكته
وعباده وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد فما أفادهم إل تكذيب الله ورسله
230
وتنزيهه عن كل كمال ووصفه بصفات المعدوم والمستحيل ونظير من نزه
الله في أفعاله وأن يقوم به فعل البتة وظن أنه ينصر بذلك حدوث العالم
وكونه مخلوقا بعد أن لم يكن وقد أنكر أصل الفعل والخلق جملة ثم من
أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد إيهام الناس أن التوحيد ل يتم
إل بإنكار السباب فإذا رأى العقلء أنه ل يمكن إثبات توحيد الرب سبحانه إل
بإبطال السباب ساءت ظنونهم بالتوحيد وبمن جاء به وأنت ل تجد كتابا من
الكتب أعظم إثباتا للسباب من القرآن ويا لله العجب إذا كان الله خالق
السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببا لهذا والسباب والمسببات طوع
مشيئته وقدرته منقادة لحكمه إن شاء أن يبطل سببية الشيء أبطلها كما
أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم وإغراق الماء على كليمه وقومه وإن
شاء أقام لتلك السباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء
) (23/23
قواها وإن شاء خلى بينها وبين اقتضائه لثارها فهو سبحانه يفعل هذا وهذا
وهذا فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد وأي شرك يترتب على ذلك بوجه من
الوجوه ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار ل تحرق والماء ل يغرق
والخبر ل يشبع والسيف ل يقطع ول تأثير لشيء من ذلك البتة ول هو سبب
لهذا الثر وليس فيه قوة وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه
الثار عند ملقاة كذا لكذا قالت هذا هو التوحيد وإفراد الرب بالخلق والتأثير
ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد وتسليط لعداء الرسل على
ما جاؤوا به كما تراه عيانا في كتبهم ينفرون به الناس عن اليمان ول ريب
أن الصديق الجاهل قد يضر مال يضره العدو العاقل قال تعالى عن ذي
سَببًا{ قال علي بن أبي طلحة عن ابن يٍء َ ش ْل َ ن كُ ّ
م ْالقرنينَ} :وآت َي َْناه ُ ِ
عباس" :علما" قال قتادة وابن زيد وابن جريج والضحاك" :علما تسبب به
إلى ما يريد" وكذلك قال إسحاق" :علما يوصله إلى حيث يريد" وقال المبرد:
"وكل ما وصل شيئا بشيء فهو سبب" وقال كثير من المفسرين" :آتيناه من
كل ما بالخلق إليه حاجة علما ومعونة له وقد سمى الله سبحانه الطريق
سببا في قوله فأتبع سببا" قال مجاهد" :طريقا" وقيل السبب الثاني هو الول
أي أتبع سببا من تلك السباب التي أوتيها مما يوصله إلى مقصوده وسمى
سبحانه أبواب السماء أسبابا إذ منها يدخل إلى السماء قال تعالى عن
َ َ َ
ت{ أي أبوابها التي أدخل منهاماَوا ِ
س َ
ب ال ّ
سَبا َ
بأ ْ سَبا َفرعون} :ل َعَّلي أب ْل ُغُ ال ْ
إليها وقال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم
) (23/24
231
َ
ن يتسببون بها إلى قضاء حوائجهم بعضهم من بعض قال تعالى} :إ ِذ ْ ت َب َّرأ ال ّ ِ
ذي َ
ب{ يعني الواصلت سَبا ُ َ
م ال ْ ت ب ِهِ ُ قط ّعَ ْ ب وَت َ َ ذا َن ات ّب َُعوا وََرأ َُوا ال ْعَ َ ن ال ّ ِ
ذي َ م َات ّب ُِعوا ِ
التي كانت بينهم في الدنيا وقال ابن عباس وأصحابه" :يعني أسباب المودة
الواصلت التي كانت بينهم في الدنيا" وقال ابن زيد" :هي العمال التي كانوا
يؤملون أن يصلوا بها إلى ثواب الله" وقيل هي الرحام التي كانوا يتعاطفون
بها وبالجملة فسمى الله سبحانه ذلك أسبابا لنها كانت يتوصل بها إلى
مسبباتها وهذا كله عند نفاة السباب ومجاز ل حقيقة له وبالله التوفيق.
فصل :الصل الخامس :أنه سبحانه حكيم ل يفعل شيئا عبثا ول لغير معنى
ومصلحة وحكمه هي الغاية المقصودة بالفعل بل أفعاله سبحانه صادرة عن
حكمة بالغة لجلها فعل كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل وقد دل كلمه
وكلم رسوله على هذا وهذا في مواضع ل تكاد تحصى ول سبيل إلى
استيعاب أفرادها فنذكر بعض أنواعها ،النوع الول :التصريح بلفظ الحكمة وما
بك ال ْك َِتا َ
ه عَل َي ْ َل الل ّ ُة{ وقوله} :وَأ َن َْز َ ة َبال ِغَ ٌ
م ٌحك ْ َ
تصرف منه كقولهِ } :
ً ُ ْ َوال ْ ِ
خْيرا{ والحكمة هي العلم ي َ قد ْ أوت ِ َ ة فَ َ حك ْ َ
م َ ت ال ِ ن ي ُؤْ َ م ْة{ وقوله} :وَ َ م َحك ْ َ
النافع والعمل الصالح وسمي حكمة لن العلم والعمل قد تعلقا بمتعلقهما
وأوصل إلى غايتيهما وكذلك ل يكون الكلم حكمة حتى يكون موصل إلى
الغايات المحمودة والمطالب النافعة فيكون مرشدا إلى العلم النافع والعمل
الصالح فتحصل الغاية
) (23/25
) (23/26
232
ت ب ِهِ م وَي ُث َب ّ َ ط عََلى قُُلوب ِك ُ ْ ن وَل ِي َْرب ِ َ شي ْ َ
طا ِ جَز ال ّ م رِ ْ ب عَن ْك ُ ْ م ب ِهِ وَي ُذ ْهِ َ ماًء ل ِي ُط َهَّرك ُ ْ َ
شَرى ل َك ُْ
م ه إ ِل ّ ب ُ ْ ه الل ُّ جعَل َُما َ و } وقوله: ل{ َ ِ ط باَ ْ لا لَ ِ ط ْ بُ ي و } وقوله: م{ داَ ْ قال َ
َ َ َ َ
تَ ّ بَ ثُ يِ ل ّ ق ح
َ ْ لبا
ِ كَ ّ ب ر
ْ َ ن م
ِ س ُ د ُ ق ْ لا ح
ُ رو ُ ُ هَ لزّ َ ن ل ْ ُ ق } وقوله: ه{ ِ ن قُُلوب ُك ُ ْ
م بِ مئ ِ ّوَل ِت َط ْ َ
ِ َ
م إ ِّل
عد ّت َهُ ْ جعَل َْنا ِ ما َ ة وَ َ ملئ ِك َ ً ب الّنارِ إ ِّل َ حا َ ص َ جعَل َْنا أ ْ ما َ مُنوا{ وقوله} :وَ َ نآ َ ذي َ ال ّ ِ
ُ
بن أوُتوا ال ْك َِتا َ ذي َن ال ّ ِ ق َ ست َي ْ ِ
فُروا ل ِي َ ْ ن كَ َ ذي َ ة ل ِل ّ ِ فِت ْن َ ً
) (23/27
) (23/28
قط َ ُ
ه تكون في حق من هو جاهل أو هو عاجز عن دفعها فالول :كقولهَ} :فال ْت َ َ
حَزنًا{ والثاني :كقول الشاعر: م عَد ُوّا ً وَ َ
ن ل َهُ ْ
كو َ ن ل ِي َ ُ آ ُ
ل فِْرعَوْ َ
لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى ذهاب
وأما من هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فيستحيل في حقه دخول
هذه اللم وإنما اللم الواردة في أفعاله وأحكامه لم الحكمة والغاية
المطلوبة ،الجواب الثاني :إفراد كل موضع من تلك المواضع بالجواب أما
حَزنًا{ فهو تعليل لقضاء الله م عَد ُوّا ً وَ َ
ن ل َهُ ْ ن ل ِي َ ُ
كو َ ل فِْرعَوْ َ هآ ُ قط َ ُ قولهَ} :فال ْت َ َ
سبحانه بالتقاطه وتقديره له فإن التقاطهم له إنما كان بقضائه وقدره فهو
سبحانه قدر ذلك وقضى به ليكون لهم عدوا وحزنا وذكر فعلهم دون قضائه
لنه أبلغ في كونه حزنا لهم وحسرة عليهم فإن من اختار أخذ ما يكون هلكه
على يديه إذا أصيب به كان أعظم لحزنه وغمه وحسرته من أن ل يكون فيه
صنع ول اختيار فإنه سبحانه أراد أن يظهر لفرعون وقومه ولغيرهم من خلقه
كمال قدرته وعلمه وحكمته الباهرة وأن هذا الذي يذبح فرعون إل بناء في
طلبه هو الذي يتولى تربيته في حجره وبيته باختياره وإرادته ويكون في
233
قبضته وتحت تصرفه فذكر فعلهم به في هذا أبلغ وأعجب من أن يذكر
القضاء والقدر وقد أعلمنا سبحانه أن أفعال عباده كلها واقعة بقضائه وقدره
ه عَل َي ْهِ ْ
م ن الل ّ ُ
م ّ
ؤلِء َقوُلوا أ َهَ ُ
ض ل ِي َ ُ
م ب ِب َعْ ٍ
ضهُ ْ وأما قوله تعالى} :وَك َذ َل ِ َ
ك فَت َّنا ب َعْ َ
ن ب َي ْن َِنا{ فل ريب أن هذا تعليل لفعله المذكور وهو امتحان بعض خلقه م ْ
ِ
ببعض كما امتحن السادات والشراف بالعبيد والضعفاء والموالي فإذا نظر
الشريف والسيد إلى العبد والضعيف والمسكين قد أسلم أنف وحمى أن
يسلم معه أو بعده ويقول هذا يسبقني إلى الخير والفلح وأتخلف أنا فلو كان
ذلك خيرا وسعادة ما سبقنا هؤلء إليه فهذا القول منهم هو بعض الحكم
والغاية المطلوبة بهذا المتحان فإن هذا القول دال على إباء
) (23/29
واستكبار وترك النقياد للحق بعد المعرفة التامة به وهذا وإن كان علة فهو
مطلوب لغيره والعلل الغائية تارة تطلب لنفسها وتارة تطلب لغيرها فتكون
وسيلة إلى مطلوب لنفسه وقول هؤلء ما قالوه وما يترتب عليه هذا القول
موجب لثار مطلوبة للفاعل من إظهار عدله وحكمته وعزه وقهره وسلطانه
وعطائه من يستحق
) (23/30
داءُ َ
ش ّ
أصلبها وأرقها وأصفاها" كما قال تعالى في أصحاب هذه القلوب} :أ ِ
م{ فهذا وصف منه للمؤمنين الذين عرفوا اليمانماُء ب َي ْن َهُ ْ
ح َ عََلى ال ْك ُ ّ
فارِ ُر َ
234
بصفاء قلوبهم واشتدوا على الكفار بصلبتها وتراحموا فيما بينهم بلينها وذلك
أن القلب عضو من أعضاء البدن وهو أشرف أعضائه وملكها المطاع وكل
عضو كاليد مثل إما أن تكون جامدة ويابسة ل تلتوي ول تبطش أو تبطش
بضعف فذلك مثل القلب القاسي أو تكون مريضة ضعيفة عاجزة ولضعفها
ومرضها فذلك مثل الذي فيه مرض أو تكون باطشة بقوة ولين فذلك مثل
القلب العليم الرحيم فبالعلم خرج عن المرض الذي ينشأ من الشهوة
والشبهة وبالرحمة خرج عن القسوة ولهذا وصف سبحانه من عدا أصحاب
القلوب المريضة والقاسية بالعلم واليمان والخبات فتأمل ظهور حكمته
سبحانه في أصحاب هذه القلوب وهم كل المة فأخبر أن الذين أوتوا العلم
علموا أنه الحق من ربهم كما أخبر أنهم في المتشابه يقولون آمنا به كل من
عند ربنا وكل الوصفين موضع شبهة فكان حظهم منه اليمان وحظ أرباب
القلوب المنحرفة عن الصحة الفتتان ولهذا جعل سبحانه أحكام آياته في
مقابلة ما يلقي الشيطان بإزاء اليات المحكمات في مقابلة المتشابهات
فالحكام ههنا بمنزلة إنزال المحكمات هناك ونسخ ما يلقي الشيطان ههنا
في مقابلة رد المتشابه إلى المحكم هناك والنسخ ههنا رفع ما ألقاه
الشيطان ل رفع ما شرعه الرب سبحانه وللنسخ معنى آخر هو النسخ من
أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يرده ول دل اللفظ عليه وإن أوهمه كما
فوهُ م َأو ت ُ ْ
خ ُ سك ُ ْ ما ِفي أ َن ْ ُ
ف ِ دوا َ
ن ت ُب ْ ُ
أطلق الصحابة النسخ على قوله} :وَإ ِ ْ
خذ َْنا إ ِ ْ
ن ؤا ِشاُء{ قالوا نسختها قولهَ} :رب َّنا ل ت ُ َ ن يَ َ
م ْ
فُر ل ِ َ م ب ِهِ الل ّ ُ
ه فَي َغْ ِ سب ْك ُ ْ
حا ِ
يُ َ
خطأَنا{ الية فهذا نسخ من الفهم ل نسخ للحكم الثابت فإن ْ َ َ َ
سيَنا أوْ أ ْ نَ ِ
المحاسبة ل تستلزم العقاب في الخرة ول في الدنيا أيضا ولهذا عمهم
بالمحاسبة ثم
) (23/31
235
بغير المنزل وفصل منه ما ليس منه بإبطاله وتارة يكون في إبقاء المنزل
واستمراره فل ينسخ بعد ثبوته وتارة يكون في معنى المنزل وتأويله وهو
تمييز المعنى المقصود من غيره حتى ل يشتبه به والمقصود أن قوله:
ض{مَر ٌ
م َن ِفي قُُلوب ِهِ ْ ة ل ِل ّ ِ
ذي َ ن فِت ْن َ ً شي ْ َ
طا ُ ما ي ُل ْ ِ
قي ال ّ جعَ َ
ل َ }ليجعل ما يلقى ل ِي َ ْ
هي لم التعليل على بابها وهذا الختبار والمتحان مظهر لمختلف القلوب
الثلثة فالقاسية والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر والمخبتة
) (23/32
ظهر خبؤها من اليمان والهدى وزيادة محبته وزيادة بغض الكفر والشرك
والنفرة عنه وهذا من أعظم حكمة هذا اللقاء.
ن ي عَ ْ ح ّ ن َ م ْ حَيى َ ن ب َي ّن َةٍ وَي َ ْ
ك عَ ْن هَل َ َ م ْ فصل :وأما اللم في قوله} :ل ِي َهْل ِ َ
ك َ
ة{ فلم التعليل على بابها فإنها مذكورة في بيان حكمته في جمع أوليائه ب َي ّن َ ٍ
وأعدائه على غير ميعاد ونصرة أوليائه مع قلتهم ورقتهم وضعف عددهم
وعدتهم على أصحاب الشوكة والعدد والحد والحديد الذي ل يتوهم بشر أنهم
ينصرون عليهم فكانت تلك آية من أعظم آيات الرب سبحانه صدق بها
رسوله وكتابه ليهلك بعدها من اختار لنفسه الكفر والعناد عن بينة فل يكون
له على الله حجة ويحيي من حي باليمان بالله ورسوله عن بينة فل يبقى
ن هُوَ إ ِل ّ ذِكٌرْعنده شك ول ريب وهذا من أعظم الحكم ونظير هذا قوله} :إ ِ ْ
ن{. ري َكافِ ِ ل عََلى ال ْ َ حقّ ال ْ َ
قو ْ ُ حي ّا ً وَي َ ِ
ن َ ن َ
كا َ م ْ
ن ل ِي ُن ْذَِر َ
مِبي ٌ وَقُْرآ ٌ
ن ُ
ّ ْ َ َ
ة{خَر ِن ِبال ِ مُنو َ ن ل ي ُؤْ ِ ذي َصَغى إ ِلي ْهِ أفئ ِد َةُ ال ِ فصل :وأما اللم في قوله} :وَل ِت َ ْ
فهي على بابها للتعليل فإنها إن كانت تعليل لفعل العدو وهو إيحاء بعضهم
إلى بعض فظاهر وعلى هذا فيكون عطفا على قوله} :غُُرورًا{ فإنه مفعول
لجله أي ليغروهم بهذا الوحي ولتصغى إليه أفئدة من يلقى إليه فيرضاه
ويعمل بموجبه فيكون سبحانه قد أخبر بمقصودهم من اليحاء المذكور وهو
أربعة أمور غرور من يوحون إليه وإصغاء أفئدتهم إليهم ومحبتهم لذلك
وانفعالهم عنده بالقتراف وإن كان ذلك تعليل لجعله سبحانه لكل نبي عدوا
فيكون هذا الحكم من جملة الغايات والحكم المطلوبة بهذا الجعل وهي غاية
وحكمة مقصودة لغيرها لنها مفضية إلى أمور هي محبوبة مطلوبة للرب
سبحانه وفواتها يستلزم فوات ما هو أحب إليه من حصولها وعلى التقديرين
فاللم لم التعليل والحكمة.
) (23/33
236
المجموع وهو الحسن ثم أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وأنه يسير عليه
وحكمته البالغة التي منها أن ل يحزن عباده على ما فاتهم إذا علموا أن
المصيبة فيه بقدره وكتابته ول بد قد كتبت قبل خلقهم هان عليهم الفائت فلم
يأسوا عليه ولم يفرحوا بالحاصل لعلهم أن المصيبة مقدرة في كل ما على
الرض فكيف يفرح بشيء قد قدرت المصيبة فيه قبل خلقه ولما كانت
المصيبة تتضمن فوات محبوب أو خوف فواته أو حصول مكروه أو خوف
حصوله نبه بالسى على الفائت على مفارقة المحبوب بعد حصوله وعلى
فوته حيث لم يحصل ونبه بعدم الفرح به إذا وجد على توطين النفس
لمفارقته قبل وقوعها وعلى الصبر على مرارتها بعد الوقوع وهذه هي أنواع
المصائب فإذا تيقن العبد أنها مكتوبة مقدرة وأن ما أصابه منها لم يكن
ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه هانت عليه وخف حملها وأنزلها منزلة الحر
والبرد.
فصل :النوع الرابع ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به كقوله} :وَن َّزل َْنا
ة{ ونصب ذلك على المفعول له م ً
ح َ
هدىً وََر ْ
يٍء وَ ُ
ش ْ ب ت ِب َْيانا ً ل ِك ُ ّ
ل َ ك ال ْك َِتا َ
عَل َي ْ َ
أحسن
) (23/34
) (23/35
237
محذوف أي كراهة أن تقولوا أو حذار أن تقولوا فإن قيل كيف يستقيم
ما ال ُ ْ َ
خَرى{ فإنك داهُ َ ما فَت ُذ َك َّر إ ِ ْ
ح َ داهُ َ
ح َ ض ّ
ل إِ ْ ن تَ ِ
الطريقان في قوله تعالى} :أ ْ
إن
238
نفسا واحدة يصلى النار بقتلها كما يصلها من قتل الناس جميعا{ وعلى هذا
فالتشبيه في أصل العذاب ل في وصفه وإن شئت قلت التشبيه في أصل
العقوبة الدنيوية وقدرها فإنه ل يختلف بقلة القتل وكثرته كما لو شرب قطرة
فإن حده حد من شرب راوية ومن زنى بامرأة واحدة حده حد من زنى بألف
وهذا تأويل الحسن وابن زيد قال" :يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي
يجب عليه لو قتل الناس جميعا" ولك أن تجعل التشبيه في الذى والغم
الواصل إلى المؤمنين بقتل الواحد منهم فقد جعلهم كلهم خصماءه وأوصل
إليهم من الذى والغم ما يشبه القتل وهذا تأويل ابن النباري وفي الية
تأويلت أخر.
) (23/37
) (23/38
ت ثُ ّ
م صَنا ِ ح َ م ْن ال ْ ُ
مو َ ن ي َْر ُذي َة{َ} :وال ّ ِ جل ْد َ ٍة َمائ َ َ
ما ِ من ْهُ َ حد ٍ ِ ل َوا ِدوا ك ُ ّجل ِ َُوالّزاِني َفا ْ
ن
قي َ ن ال ْ ُ
مت ّ ِ ة{ والثالث كقوله} :إ ِ ّ جل ْد َ ً
ن َ ماِني َ م ثَ َ
دوهُ ْ جل ِ ُ داَء َفا ْ شهَ َم ي َأ ُْتوا ب ِأ َْرب َعَةِ ُ
لَ ْ
َ
وا
صلة َ َوآت َ ُ موا ال ّ ت وَأَقا ُ حا ِصال ِ َ مُلوا ال ّ مُنوا وَعَ ِ نآ َ ذي َ ن ال ّ ِ ن{} :إ ِ ّ ت وَعُُيو ٍ جّنا ٍِفي َ
م{ وهذا في التنزيل يزيد على عدة آلف موضع َ َ الّز َ
كا َ ُ ْ ْ ُ ُ ْ ِ ْ َ َ ّ ِ ْ
ه ب ر د نع م هر ج أ م ه ل ة
بل القرآن مملوء منه فإن قيل هذا إنما يفيد كون تلك الفعال أسبابا لما رتب
عليها ل يقتضي إثبات التعليل في فعل الرب وأمره فأين هذا من هذا قيل لما
جعل الرب سبحانه هذه الوصاف علل لهذه الحكام وأسبابا لها دل ذلك على
أنه حكم بها شرعا وقدرا لجل تلك الوصاف وأنه لم يحكم بها لغير علة ول
239
حكمة ولهذا كان كل من نفى التعليل والحكم نفى السباب ولم يجعل لحكم
الرب الكوني والديني سببا ول حكمة هي العلة الغائية وهؤلء ينفون السباب
والحكم ومن تأمل شرع الرب وقدره وجزاءه جزم جزما ضروريا ببطلن
قول النفاة والله سبحانه قد رتب الحكام على أسبابها وعللها وبين ذلك خبرا
وحسا وفطرة وعقل ولو ذكرنا ذلك على التفصيل لقام منه عدة أسفار.
فصل :النوع التاسع تعليله سبحانه عدم الحكم القدري والشرعي بوجود
ُ َ
فُرن ي َك ْ ُم ْجعَل َْنا ل ِ َ
حد َة ً ل َ َة َوا ِم ًسأ ّ ن الّنا ُ كو َ ن يَ ُ ول أ ْ المانع منه كقوله} :وَل َ ْ
وا ِفي ه الّرْزقَ ل ِعَِبادِهِ ل َب َغَ ْ ط الل ّ ُ
س َ ة{ }وَل َوْ ب َ َ ض ٍ ن فِ ّ م ْ قفا ً ِ س ُم ُ ن ل ِب ُُيوت ِهِ ْم ِ
ح َ ِبالّر ْ
ن َ ما ي َ َ ُ َ ال َْر
من َعََنا أ ْ ما َ صيٌر{ وقوله} :وَ َ خِبيٌر ب َ ِ ه ب ِعَِبادِهِ َشاُء إ ِن ّ ُ قد َرٍ َ ن ي ُن َّزل ب ِ َض وَلك ِ ْ ِ
َ
ن{ أي آيات القتراح ل اليات الدالة على ب ب َِها ال َوُّلو َ ن ك َذ ّ َ ت إ ِل ّ أ ْ ل ِباليا ِ س َ ن ُْر ِ
مي ّا ً َ
جعَل َْناه ُ قُْرآنا ً أعْ َ
ج ِ صدق الرسل التي يقيمها هو سبحانه ابتداء وقوله} :وَل َوْ َ
) (23/39
مل َ ٌ
ك ل عَل َي ْهِ َول أ ُن ْزِ َ ي{ وقوله} :وََقاُلوا ل َ ْ ي وَعََرب ِ ّ م ّ ج ِ
قاُلوا ل َول فُصل َت آيات َ َ
ه أأعْ َ ّ ْ َ ُ ُ ْ لَ َ
َ َ
جل ً جعَل َْناه ُ َر ُ
مَلكا ً ل َ َ
جعَل َْناه ُ َ
ن وَل َوْ َ
م ل ي ُن ْظ َُرو َمُر ث ُ ّ
ي ال ْ ض َ ق ِ مَلكا ً ل َ ُ وَل َوْ أن َْزل َْنا َ
ن{ فأخبر سبحانه عن المانع الذي منع من إنزال سو َ ما ي َل ْب ِ ُم َ سَنا عَل َي ْهِ ْوَل َل َب َ ْ
الملك عيانا بحيث يشاهدونه وأن حكمته وعنايته بخلقه منعت من ذلك فإنه
لو أنزل الملك ثم عاينوه ولم يؤمنوا لعوجلوا
) (23/40
240
ة ول َك َ َ
ن{ م ل ي َعْل َ ُ
مو َ ن أك ْث ََرهُ ْ ه َقادٌِر عََلى أ ْ
ن ي ُن َّز َ
ل آي َ ً َ ِ ّ ن الل ّ َ ن َرب ّهِ قُ ْ
ل إِ ّ م ْ عَل َي ْهِ آي َ ٌ
ة ِ
أي ل يعلمون حكمته تعالى ومصلحة عباده
) (23/41
في المتناع من إنزال اليات التي يقترحها الناس على النبياء وليس المراد
أن أكثر الناس ل يعلمون أن الله قادر فإنه لم ينازع في قدرة الله أحد من
المقرين بوجوده سبحانه ولكن حكمته في ذلك ل يعلمها أكثر الناس.
فصل :النوع العاشر إخباره عن الحكم والغايات التي جعلها في خلقه وأمره
ماًء ماِء َ س َ ن ال ّ م َ ل ِ ماَء ب َِناًء وَأ َن َْز َ س َ ض فَِراشا ً َوال ّ م الْر َ
َ
ل ل َك ُ ُ جعَ َ ذي َ كقوله} :ال ّ ِ
َ َ َ
ل جَبا َ مَهادا ً َوال ْ ِ ض ِ ل الْر َ جعَ ِ م نَ ْ م{ وقوله} :أل َ ْ ت رِْزقا ً ل َك ُ ْ مَرا ِ ن الث ّ َ م َ ج ب ِهِ ِ خَر َ فَأ ْ
جعَل َْنا الن َّهاَر قناك ُ َ أ َوَْتادا ً وَ َ
ل ل َِباسا ً وَ َ جعَل َْنا الل ّي ْ َ سَباتا ً وَ َ م ُ مك ُ ْ جعَل َْنا ن َوْ َ م أْزَواجا ً وَ َ خل َ ْ َ ْ
حب ّا ً وَن ََباتا ً جاجا ً ل ِن ُ ْ َ
ج ب ِهِ َ خرِ َ ماًء ث َ ّ ت َ صَرا ِ معْ ِ ن ال ْ ُ م َ مَعاشًا{ إلى قوله} :وَأن َْزل َْنا ِ َ
جعَل َْنا ِفيَها و ً ا وات م فاتا ً أ َحياًء وأ َ َ ك ض رَ ل ا ل ع ج ن م َ ل فافًا{ وقوله} :أ َ َ ْ ل وجنات أ َ
َ َ ْ َ َ ْ َ ِ ْ َ ْ ْ َ ِ َ ٍ ّ َ َ
من ب ُُيوت ِك ُْ م م ُ ك َ ل َ
ل ع ج ه ّ ل وال } وقوله: ا{ ً رات ُ ف ً ء ما م ُ ك نا ي َ ق س خات وأ َ م شا َ ي س وا
ْ ِ ْ َ َ َ ُ َ ْ َ َ ْ َ ْ ٍ َ ِ َ ِ َر َ
َ ً َ ُ َ ً
مت ِك ُ ْ
م م إ َِقا َ م وَي َوْ َ م ظعْن ِك ُ ْ فون ََها ي َوْ َ خ ّ ست َ ِ جلودِ الن َْعام ِ ب ُُيوتا ت َ ْ ن ُ م ْ م ِ ل لك ُ ْ جعَ َ كنا وَ َ س َ َ
ما م م ُ ك َ ل َ
ل ع ج ه ّ ل وال ن حي لى َ إ ً ا تاع م و ً ا ثاث َ َ أ ها ر عا ش ْ َ أ و ها َ َ
ْ ّ ِ َ َ ٍ َ ُ ِ ِ َ َ َ
َ
َ ِ َ َ َ وَ ْ ْ َ َ َ ْ ِ
ر با
َ و أو ها ِ ف وا ص أ ن م
ِ
حّر م ال َ ْ قيك ُ ُ ل تَ ِ سَراِبي َ م َ ُ
ل لك َْ جعَ َ ً
ل أكَنانا وَ َ ْ جَبا ِ ن ال ِ ْ م َ م ِ ل ل َك ْ
ُ جعَ َ ظلل ً وَ َ خل َقَ ِ َ
َ ُ ْ ُ ْ ُ
ن إ ِلى سا ُ م{ وقوله} :فلينظر النسان فَلي َن ْظرِ ال ِن ْ َ سك ْ م ب َأ َ قيك ْ ل تَ ِ سَراِبي َ وَ َ
َ َ َ َ َ ً
م ُ
خل ق َ ل ك ْ ن َ ن آَيات ِهِ أ ْ م ْ م{ وقوله} :وَ ِ مك ْ ُ م وَلن َْعا ِ ُ
مَتاعا لك ْ ه{ إلى قولهَ } : م ِ ط ََعا ِ
َ ن أ َن ْ ُ
ت ماَوا ِ س َ خل َقَ ال ّ ذي َ ه ال ّ ِ سك ُُنوا إ ِل َي َْها{ وقوله} :الل ّ ُ م أْزَواجا ً ل ِت َ ْ سك ُ ْ ف ِ م ْ ِ
ه َ َ َ َ َ
ج بِ ِ خَر َ ماًء فأ ْ ماِء َ س َ ن ال ّ م َ ض وَأن َْزل ِ َوالْر َ
) (23/42
َ
خَر ل َك ُ ُ
م س ّ مرِهِ وَ َ حرِ ب ِأ ْجرِيَ ِفي ال ْب َ ْ فل ْ َ
ك ل ِت َ ْ م ال ْ ُخَر ل َك ُ ُس ّ م وَ َ ت رِْزقا ً ل َك ُ ْ مَرا ِ ن الث ّ َم َ ِ
حَر بْ ل ا مُ كَ ل ر خ س ذي ّ لا ه ّ ل ال لتجري البحر سخر الذي }الله وقوله: ر{ َ
ُ َ ْ َ َّ ُ ِ
َ ا َْ َ
ها ن ل
ن{ إلى أضعاف شك ُُرو َ م تَ ْ ّ َ
ضل ِهِ وَلعَلك ُ ْ ن فَ ْ م ْ
مرِهِ وَل ِت َب ْت َُغوا ِ ك ِفيهِ ب ِأ ْ ْ
فل ُ ْ
جرِيَ ال ُ ل ِت َ ْ
أضعاف ذلك في القرآن مما يفيد من له أدنى تأمل القطع بأنه سبحانه فعل
حى َرب ّ َ
ك َ
ذلك للحكم والمصالح التي ذكرها وغيرها مما لم يذكره وقوله} :وَأوْ َ
إَلى النح َ
ل
جَبا ِن ال ْ ِ م َذي ِ خ ِن ات ّ ِ
لأ ِ ّ ْ ِ ِ
) (23/43
ت
مَرا ِل الث ّ َ ن كُ ّ م ْ م ك ُِلي ِ ن ثُ ّ شو َ ما ي َعْرِ ُ م ّ جرِ وَ ِ ش َ ن ال ّ م َ ص -198-ب ُُيوتا ً وَ ِ
َ
فاٌءش َ ه ِفيهِ ِ وان ُ ُف أل ْ َ خت َل ِ ٌ م ْ ب ُ شَرا ٌ طون َِها َ ن بُ ُ م ْ ج ِ خُر ُ ك ذ ُل ُل ً ي َ ْ ل َرب ّ ِ سب ُ َ كي ُ سل ُ ِ َفا ْ
َ
م ِفي الن َْعام ِ ل َعِب َْرةً ن ل َك ُ ْ ن{ وقوله} :وَإ ِ ّ فك ُّرو َ قوْم ٍ ي َت َ َ ة لِ َ ك لي َ ً ن ِفي ذ َل ِ َ س إِ ّ ِللّنا ِ
ن{ وقوله: ُ ُ ْ َ ُ َ ُ ُ
من َْها ت َأكلو َ مَنافِعُ كِثيَرة ٌ وَ ِ م ِفيها َ ما ِفي ب ُطون ِها ولك ْ م ّ م ِقيك ْ س ِ نُ ْ
ن حي لٌ ما ج ها في م ُ ك َ ل و ن لوُ ُ كقها ل َك ُم في َها َدفٌء و َمنافع ومنها تأ ْ َ َ
ِ َ َ َ ْ ِ َ َ َ ْ ِ َ ِ ْ َ َ َ ِ ُ َ ِ َْ َ } َ َْ َ َ َ
َ ل خ م عا ن ل وا
َ
ق
ش ّ كوُنوا َبال ِِغيهِ إ ِّل ب ِ ِ م تَ ُ م إ َِلى ب َل َد ٍ ل َ ْ قال َك ُ ْ
ل أث ْ َ م ُ ح ِ ن وَت َ ْ حو َ سَر ُ ن تَ ْ حي َ ن وَ ِحو َ ري ُ تُ ِ
َ
خل ُ ُ
ق ة وَي َ ْ ها وَِزين َ ً ميَر ل ِت َْرك َُبو َ ح ِل َوال ْ َ ل َوال ْب َِغا َ م َوال ْ َ
خي ْ َ حي ٌ ف َر ِ ؤو ٌ م ل ََر ُ ن َرب ّك ُ ْ س إِ ّف ِ الن ْ ُ
241
ن{ فهل يستقيم ذلك ويصح فيمن ل يفعل لحكمة ول لمصلحة ول مو َ ما ل ت َعْل َ ُ
َ
لغاية هي مقصودة بالفعل ومعلوم بالضرورة أن هذا الثبات وهذا النفي
متقابلن أعظم التقابل.
فصل :النوع الحادي عشر إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق
َ لغاية ول لحكمة كقوله} :أ َفَحسبت َ
بس ُ ح َ م عََبثًا{ وقوله} :أي َ ْ خل َ ْ
قَناك ُ ْ ما َ م أن ّ َ
َ ِ ُْ ْ
ما َ َ ن ي ُت َْر َ النسا َ
ما ب َي ْن َهُ َض وَ َت َوالْر َ
ماَوا ِ
س َ
قَنا ال ّ خل ْ ما َ ى{ وقوله} :وَ َ سد ًك ُ نأ ْ ِْ َ ُ
ق{ والحق هو الحكم والغايات المحمودة التي ح ّ ْ ّ
ما إ ِل ِبال َ
قَناهُ َ
خل ْ َ ما َ ن َ عِبي َ
ل ِ
لجلها خلق ذلك كله وهو أنواع كثيرة منها أن يعرف الله تعالى بأسمائه
وصفاته وأفعاله وآياته ومنها أن يحب ويعبد ويشكر ويذكر ويطاع ومنها أن
يأمر وينهى ويشرع الشرائع ومنها أن يدبر المر ويبرم القضاء ويتصرف في
المملكة بأنواع التصرفات ومنها أن يثيب ويعاقب فيجازي المحسن بإحسانه
والمسيء بإساءته فيوجد أثر عدله وفضله موجودا مشهودا فيحمد على ذلك
ويشكر ومنها أن
) (23/44
يعلم خلقه أنه ل إله غيره ول رب سواه ومنها أن يصدق الصادق فيكرمه
ويكذب الكاذب فيهينه ومنها ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها
في الوجود الذهني والخارجي فيعلم عباده ذلك علما مطابقا لما في الواقع
ومنها شهادة مخلوقاته كلها بأنه وحده ربها وفاطرها ومليكها وأنه وحده إلهها
ومعبودها ومنها ظهور أثر كماله المقدس فإن الخلق والصنع لزم كماله فإنه
حي قدير ومن كان ذلك كذلك لم يكن إل فاعل مختارا ومنها أن يظهر أثر
حكمته في المخلوقات بوضع كل منها في موضعه الذي يليق به ومحبته على
الوجه الذي تشهد العقول والفطر بحسنه فتشهد حكمته الباهرة ومنها أنه
سبحانه يحب أن يجود وينعم ويعفو ويغفر ويسامح ول بد من لوازم ذلك خلقا
وشرعا ومنها أنه يحب أن يثنى عليه ويمدح ويمجد ويسبح ويعظم ومنها كثرة
شواهد ربوبيته ووحدانيته وإلهيته إلى غير ذلك من الحكم التي تضمنها الخلق
فخلق مخلوقاته بسبب الحق ولجل الحق وخلقها ملتبس بالحق وهو في
نفسه حق فمصدره حق وغايته حق وهو يتضمن للحق وقد أثنى على عباده
المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق ل لشيء ول لغاية فقال تعالى:
َ
حان َك{ ذا َباط ِل ً ُ
سب ْ َ ت هَ َ ق َخل َ ْما َ
ض َرب َّنا َ
ِ ت َوال َْرماَوا ِ س َ
ق ال ِّ
خل ْ
ن ِفي َ فك ُّرو َ }وَي َت َ َ
ض َ َ
ماَء َوالْر َ س َقَنا ال ّ
خل ْ ما َ وأخبر أن هذا ظن أعدائه ل ظن أوليائه فقال} :وَ َ
فُروا{ وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول أنه ن كَ َ ن ال ّ ِ
ذي َ ك ظَ ّ ما َباط ِل ً ذ َل ِ َما ب َي ْن َهُ َ وَ َ
لم يخلق لحكمة مطلوبة له ول أمر لحكمة ول نهى لحكمة وإنما يصدر الخلق
والمر عن مشيئة وقدرة محضة ل لحكمة ول لغاية مقصودة وهل هذا إل
إنكار لحقيقة حمده بل الخلق والمر إنما قام بالحكم والغايات فهما مظهران
بحمده وحكمته فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره فإن الذي أثبته
المنكرون من ذلك ينزه عنه الرب ويتعالى عن نسبته إليه فإنهم أثبتوا خلقا
وأمرا ل رحمة فيه ول مصلحة ول حكمة بل
) (23/45
242
يجوز عندهم أو يقع أن يأمر بما ل مصلحة للمكلف فيه البتة وينهى عما فيه
مصلحة والجميع بالنسبة إليه سواء ويجوز
) (23/46
فجعل سبحانه ذلك حكما سيئا يتعالى ويتقدس عن أن يجوز عليه فضل عن
أن ينسب إليه بل أبلغ من هذا أنه أنكر على من حسب أن يدخل الجنة بغير
امتحان له وتكليف يبين به صبره وشكره وأن حكمته تأبى ذلك كما قال
َ تعالى} :أ َم حسبت َ
مم وَي َعْل َ من ْك ُ ْ دوا ِ جاهَ ُ ن َ ذي َ ه ال ّ ِ ما ي َعْل َم ِ الل ّ ُ ة وَل َ ّ جن ّ َ خُلوا ال ْ َ ن ت َد ْ ُ مأ ْ ْ َ ِ ُْ ْ
وا َ ّ مث َ ُ ُ ْ َ ْ ُ َ َ
خل ْ ن َ ذي َ ل ال ِ م َ ما ي َأت ِك ْ ة وَل ّ جن ّ َ خلوا ال َ ن ت َد ْ ُ مأ ْ سب ْت ُ ْ ح ِ م َ
ْ
ن{ وقال} :أ ْ ري َ صاب ِ ِ ال ّ
ُ َ َ ُ ْ ْ ُ
ن ت ُت َْركوا مأ ْ سب ْت ُ ْ ح ِ م َ ضّراُء وَُزلزِلوا{ وقال} :أ ْ ساُء َوال ّ م الب َأ َ ست ْهُ ُ م ّ م َ ن قَب ْل ِك ْ م ْ ِ
سول ِهِ َول ن اللهِ َول َر ُ ّ ن ُدو ِ م ْ ذوا ِ خ ُم ي َت ّ ِ َ
م وَل ْ ُ
من ْك ْ دوا ِ جاهَ ُ ن َ ذي َ ّ
ه ال ِ ّ
ما ي َعْلم ِ الل ُ َ وَل ّ َ
ة{ فأنكر عليهم هذا الظن والحسبان لمخالفته بحكمته وأما ج ً ن وَِلي َ مِني َ مؤ ْ ِ ال ْ ُ
سو َ
ل ه َوالّر ُ ن ي ُط ِِع الل ّ َ م ْ الثاني وهو أن ل يفرق بين المتماثلين فكقوله} :وَ َ
ك مع ال ّذي َ ُ
ن
حي َ صال ِ ِ داِء َوال ّ ن َوالشهَ َ ّ قي َ دي ِص ّ ن َوال ّ ن الن ّب ِّيي َ م َ م ِ ه عَل َي ْهِ ْ م الل ّ ُ ن أن ْعَ َ فَأول َئ ِ َ َ َ ِ َ
ك رفيقًا{ وقوله} :وال ْمؤْمنون وال ْمؤْمنات بعضه َ وحس ُ
ض{ م أوْل َِياُء ب َعْ ٍ َ ُ ِ ُ َ َ ُ ِ َ ُ َْ ُ ُ ْ ن أول َئ ِ َ َ ِ َ َ ُ َ
م ه َ
ْ َ َ َ ُ ْ ل ب جا ت س فاَ } وقوله: ض{ ع ب ن م م ه ض ع ب ت قاَ ف نا مْ ل وا ن قو ُ ف نا مْ ل}ا وقوله:
ُ َ ْ ُ ُ ْ ِ ْ ََْ ُ ٍ َ َ ُ َ ِ ُ َ ِ
ُ ربه َ
ض{ ن ب َعْ ٍ م ْ م ِ ضك ُ ْ ن ذ َك َرٍ أوْ أن َْثى ب َعْ ُ م ْ م ِ من ْك ُ ْ ل ِ م ٍ عا ِ ل َ م َ ضيعُ عَ َ م أّني ل أ ِ َ ُّ ْ
ن{ وقوله: ني
ِ س ح م ْ ل ا زي ج ن كَ ِ ل َ ذ َ ك و ً ا لم ْ ع
ِ و ً ا كم ْ ح ه نا ي ت آ ه د ش ُ وقوله} :ول َما بل َغَ أ َ
َ ِ ُ ْ ْ ِ َ َ َ ّ ُ ْ ُ ُ َ َ َ ّ َ
مَثال َُها{ كافرين أ َ َ ْ َ ّ ُ َ خير من ُ }أ َك ُ ّ
ِ َ ْ ِ ل ِ ل و
ِ ْ َ م ه ْ ي لَ ع ه
ُ ل ال ر
ّ َ م َ د } وقوله: م{ ْ ك ِ ئ لأو ْ ِ م َ ٌْ فاُرك ُ ْ
243
وي ً سل َْنا قَب ْل َ َ َ
ل{ وقوله: ح ِ
سن ّت َِنا ت َ ْ
جد ُ ل ِ ُ
سل َِنا َول ت َ ِن ُر ُ م ْ ك ِ ن قَد ْ أْر َ م ْ
ة َ
سن ّ َ
وقولهُ } :
جد َ
ن تَ ِ َ
ل وَل ْ ن قَب ْ ُم ْ ت ِ خل َْ ة الل ّهِ الِتي قَد ْ َ
ّ سن ّ َ
} ُ
) (23/47
) (23/48
) (23/49
244
م{ فذكره العزة كي ِ ح ِزيزِ ال ْ َن الل ّهِ ال ْعَ ِ م َ
ب ِل ال ْك َِتا ِ
زي ُم{ وقوله} :ت َن ْ ِ عَِلي ٍ
المتضمنة لكمال القدرة والتصرف والحكمة المتضمنة لكمال الحمد والعلم
َ
ن الل ّ ِ
ه م َ كال ً ِسَبا ن َ َما ك َ َ جَزاًء ب ِ َما َ ة َفاقْط َُعوا أي ْدِي َهُ َ سارِقَ ُ سارِقُ َوال ّ وقولهَ} :وال ّ
م{ وسمع بعض العراب قارئا يقرأها والله غفور رحيم فقال كي ٌ
ح ِ
زيٌز َ
ه عَ ِ َوالل ّ ُ
ليس هذا كلم الله فقال أتكذب بالقرآن فقال ل ولكن ل يحسن هذا فرجع
القارئ إلى خطئه فقال عزيز حكيم فقال صدقت وإذا تأملت ختم اليات
بالسماء والصفات وجدت كلمه مختتما بذكر الصفة التي يقتضيها ذلك
م َ
م فإ ِن ّهُ ْ ن ت ُعَذ ّب ْهُ ْالمقام حتى كأنها ذكرت دليل عليه وموجبة له وهذا كقوله} :إ ِ ْ
ك وإن تغْفر ل َهم فَإن َ َ
م{ أي فإن مغفرتك لهم مصدر كي ُح ِ زيُز ال ْ َت ال ْعَ ِ
ك أن ْ َ عَباد ُ َ َ ِ ْ َ ِ ْ ُ ْ ِ ّ ِ
ز زي ع ْ
ِ َ ِ ُ َ ِ ِ لا ر دي ْ قت َ
ك ل َ ذ} وقوله: وجهل عجز عن ل القدرة كمال هي عزة عن
م{ في عدة مواضع من القرآن يذكر ذلك عقيب ذكره الجرام العلوية ْ
العَِلي ِ
وما تضمنه من فلق الصباح وجعل الليل مسكنا وإجراء الشمس والقمر
بحساب ل يعدوانه وتزيين السماء الدنيا بالنجوم وحراستها وأخبر أن هذا
التقدير المحكم المتقن صادر عن عزته وعلمه ليس أمرا اتفاقيا ل يمدح به
فاعله ول يثنى عليه به كسائر المور التفاقية ومن هذا ختمه سبحانه قصص
زيُزه ل َهُوَ ال ْعَ ِ ن الل ّ َ النبياء وأممهم في سورة الشعراء عقيب كل قصة} :وَإ ِ ّ
م{ فإن ما حكم به لرسله وأتباعهم ولعدائهم صادر عن عزة ورحمة كي ُ ح ِ ال ْ َ
فوضع الرحمة في محلها وانتقم من أعدائه بعزته ونجى رسله وأتباعهم
برحمته والحكمة
) (23/50
ص -201-الحاصلة من ذلك أمر مطلوب مقصود وهي غاية الفعل ل أنها أمر
اتفاقي.
فصل :النوع الخامس عشر إخباره بأن حكمه أحسن الحكام وتقديره أحسن
التقادير ولول مطابقته للحكمة والمصلحة المقصودة المرادة لما كان كذلك
إذ لو كان حسنه لكونه مقدورا معلوما كما يقوله النفاة لكان هو وضده سواء
فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فكان كل معلوم مقدور أحسن
الحكام وأحسن التقادير وهذا ممتنع قال تعالى} :وم َ
ة ن الل ّهِ ِ
صب ْغَ ً م َ ن ِ س ُ ح َ نأ ْ َ َ ْ
عابدون{ وقال} :ومن أ َحسن دينا ً مم َ
ه{ فجعل هذا ه ل ِل ّ ِسل َ َ َ َ ُ
ه ج
ْ و م نأ ْ ِ ّ ْ َ َ ْ ْ َ ُ ِ ه َ ِ ُ َ ن لَ ُ ح ُ وَن َ ْ
أن يختار لهم دينا سواه ويرتضي دينا غيره كما يمتنع عليه العيب والظلم
صاِلحًا{ وقال: وقال تعالى} :م َ
ل َ م َعا إ َِلى الل ّهِ وَعَ ِ ن دَ َ م ْ م ّن قَوْل ً ِ
س ُ ح َ نأ ْ َ ْ
ن{ وقال} :فَت ََباَركَ قادُِرو َ ْ
م ال َقد َْرَنا فَن ِعْ َ ن{ وقال} :فَ َ مي َسل ِ ِ
م ْ ْ
ن ال ُ م َ ل إ ِن ِّني ِ }وََقا َ
ن{ فل أحسن من تقديره وخلقه لوقوعه على الوجه الذي ْ الل ّ َ
قي َ خال ِ ِ ن ال َ س ُ ح َ هأ ْ ُ
نم ْن ِ ْ
م ِ ح َق الّر ْ خل ِ ما ت ََرى ِفي َ اقتضته حكمته ورحمته وعلمه وقال تعالىَ } :
ت{ ولول مجيئه على أكمل الوجوه وأحسنها ومطابقتها للغايات فاوُ ٍ تَ َ
المحمودة والحكم المطلوبة لكان كله متفاوتا أو كان عدم تفاوته أمرا اتفاقيا
ل يحمد فاعله لنه لم يرده ولم يقصده وإنما اتفق أن صار كذلك.
فصل :النوع السادس عشر إخباره سبحانه أنه على صراط مستقيم في
ت عََلى الل ّ ِ
ه موضعين من كتابه أحدهما قوله حاكيا عن نبيه هود} :إ ِّني ت َوَك ّل ْ ُ
م{قي ٍست َ ِ
م ْ ط ُ صَرا ٍ ن َرّبي عََلى ِ صي َت َِها إ ِ ّخذ ٌ ب َِنا ِن َداب ّةٍ إ ِّل هُوَ آ ِ م ْ ما ِ َرّبي وََرب ّك ُ ْ
م َ
245
قدُِر عََلى َ َ َ مث َل ً َر ُ َ
و
يٍء وَهُ َ
ش ْ م ل يَ ْما أب ْك َ ُ حد ُهُ َأ َ ن
جلي ْ ِ ب الل ّ ُ
ه َ ضَر َ والثاني قوله} :وَ َ
ْ ْ َ
مُر
ن ي َأ ُ
م ْ
وي هُوَ وَ َ ست َ ِ
ل يَ ْ هَ ْ خي ْرٍ
ت بِ َ ه ل ي َأ ِ جهْ ُما ي ُوَ ّوله ُ أي ْن َ َ ل عََلى َ
م ْ كَ ّ
) (23/51
م{ قال أبو إسحاق" :أخبر أنه وإن كانت قي ٍ ست َ ِ م ْط ُ صَرا ٍل وَهُوَ عََلى ِ ِبال ْعَد ْ ِ
قدرته تنالهم بما شاء فهو ل يشاء إل العدل" قال ابن النباري" :لما قال إل
هو آخذ بناصيتها كان في معنى ل تخرج عن قبضته" قاهر بعظيم سلطانه كل
م{ أي أنه على الحق قال قي ٍ ست َ ِم ْ ط ُ صَرا ٍ ن َرّبي عََلى ِ دابة فأتبع ذلك قوله} :إ ِ ّ
وهذا نحو كلم العرب إذا وصفوا رجل حين السيرة والعدل والنصاف قالوا
فلن طريقه حسنة وليس ثم طريق وذكر في معنى الية أقوال أخر هي من
لوازم هذا المعنى وآثاره كقول بعضهم إن ربي يدل على صراط مستقيم
فدللته على الصراط من موجبات كونه في نفسه على صراط مستقيم فإن
تلك الدللة والتعريف من تمام رحمته وإحسانه وعدله وحكمته وقال بعضهم
معناه ل يخفى عليه شيء ول يعدل عنه هارب وقال بعضهم المعنى ل مسلك
صاِد{ وهذا المعنى حق مْر َ ك ل َِبال ْ ِ
ن َرب ّ َ لحد ول طريق له إل عليه كقوله} :إ ِ ّ
ولكن كونه هو المراد بالية ليس بالبين فإن الناس كلهم ل يسلكون الصراط
المستقيم حتى يقال أنهم يصلون سلوكه إليه ولما أراد سبحانه هذا المعنى
ن إ َِلى َ
صاِد{} :وَأ ّ ك ل َِبال ْ ِ
مْر َ ن َرب ّ َ م{} :إ ِ ّ ن إ ِل َي َْنا إ َِياب َهُ ْ
م{} :إ ِ ّ جعُهُ ْ قال} :إ ِل َي َْنا َ
مْر ِ
من ْت ََهى{ وأما وصفه سبحانه بأنه على صراط مستقيم فهو كونه يقول ك ال ْ ُ َرب ّ َ
الحق ويفعل الصواب فكلماته صدق وعدل كله صواب وخير والله يقول الحق
وهو يهدي السبيل فل يقول إل ما يحمد عليه لكونه حقا وعدل وصدقا وحكمة
في نفسه وهذا معروف في كلم للعرب قال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
وإذا عرف هذا فمن ضرورة كونه على صراط مستقيم أنه ل يفعل شيئا إل
بحكمة يحمد عليها وغاية هي
) (23/52
246
الوجه إل من عائب والله منزه من العيب فحمده سبحانه من أعظم الدلة
على كمال حكمته وقصده بما فعل يقع خلفه والحسان إليهم ورحمتهم
وإتمام نعمته عليهم وغير ذلك من الحكم والغايات التي تعطيلها تعطيل
لحقيقة حمده.
فصل :النوع الثامن عشر إخباره بإنعامه على خلقه وإحسانه إليهم وأنه خلق
لهم ما في السماوات وما في الرض وأعطاهم السماع والبصار والفئدة
ليتم نعمته عليهم ومعلوم أن المنعم المحسن ل يكون كذلك ول يستحق هذا
السم حتى يقصد النعام على غيره والحسان إليه فلو لم يفعل سبحانه
لغرض النعام والحسان لم يكن منعما في الحقيقة ول محسنا إذ يستحيل أن
يكون كذلك من لم يقصد النعام والحسان وهذا غني عن التقرير يوضحه أنه
سبحانه حيث ذكر إنعامه وإحسانه فإنما يذكره مقرونا بالحكم والمصالح
والمنافع التي خلق الخلق وشرع الشرائع لجلها كقوله في آخر سورة النحل:
خل َقَ ِ
ظلل ً ما َ
م ّ ل ل َك ُ ْ
م ِ جعَ َ }َوالل ّ ُ
ه َ
) (23/53
ل ل َك ُم من ال ْجبا َ
قيك ُ ْ
م ل تَ ِ سَراِبي َ حّر وَ َ م ال ْ َ قيك ُ ُ ل تَ ِ سَراِبي َ م َ ل ل َك ُ ْ جعَ َ ل أك َْنانا ً وَ َ ِ َ ِ ْ ِ َ جعَ َ وَ َ
ُ ّ َ ُ َ َ َ ُ ْ
ن{ فهذا في الخلق وقال في مو َ سل ِ ُم تُ ْ م لعَلك ْ ه عَلي ْك ْ مت َ ُم ن ِعْ َ م كذ َل ِك ي ُت ِ ّ سك ْ ب َأ َ
شط َْر ك َ جهَ َ ل وَ ْ ت فَوَ ّ ج َ خَر ْ ث َ حي ْ ُ ن َ م ْ الشرع في أمره باستقبال الكعبة} :وَ ِ
م ُ َ
س عَلي ْك ْ ُ ّ
شطَره ُ ل ِئ َل ي َكو َ ْ م َ ُ م فَوَّلوا وُ ُ ما ك ُن ْت ُ ْ جدِ ال ْ َ ال ْ َ
ن ِللّنا ِ ُ
جوهَك ْ ث َ حي ْ ُحَرام ِ وَ َ س ِ م ْ
مِتي عَل َي ْك ُ ْ
م م ن ِعْ َ شوِْني وَِلت ِ ّ خ َ م َوا ْ شوْهُ ْ خ َ م َفل ت َ ْ من ْهُ ْموا ِ ن ظ َل َ ُ ذي َ ة إ ِّل ال ّ ِ ج ٌ ح ّ ُ
جعَلَ ه ل ِي َ ْ ّ
ريد ُ الل ُ ما ي ُ ِ ن{ وقال في أمره بالوضوء والتيممَ } : دو َ م ت َهْت َ ُ ُ
وَلعَلك ْ ّ َ
ن{ شكُرو َ ُ م تَ ْ ُ ّ
م لعَلك ْ َ ُ
ه عَلي ْك َْ مت َ ُ
م ن ِعْ َ م وَل ِي ُت ِ ّ ُ َ
ريد ُ ل ِي ُطهَّرك ْ ن يُ ِ َ
حَرٍج وَلك ِ ْ ن َ م ْ م ِ عَل َي ْك ُ ْ
فجعل تمام نعمته في أن خلق ما خلق للحسان وأمر بما أمر لذلك.
فصل :النوع التاسع عشر اتصافه بالرحمة وأنه أرحم الراحمين وأن رحمته
وسعت كل شيء وذلك ل يتحقق إل بأن تقصد رحمة خلقه بما خلقه لهم وبما
أمرهم به فلو لم تكن أوامره لجل الرحمة والحكمة والمصلحة وإرادة
الحسان إليهم لما كان رحمة ولو حصلت بها الرحمة لكانت اتفاقية ل
مقصودة وذلك ل يوجب أن يكون المر سبحانه أرحم الراحمين فتعطيل
حكمته والغاية المقصودة التي لجلها يفعل إنكار لرحمته في الحقيقة
وتعطيل لها وكان شيخ هذا المذهب جهم بن صفوان يقف على الجذامى
ويشاهد ما هم فيه من البليا ويقول أرحم الراحمين يفعل مثل هذا يعني أنه
ليس ثم رحمة في الحقيقة وأن المر راجع إلى محض المشيئة الخالية عن
الحكمة والرحمة ول حكمة
) (23/54
247
ة{ فقالوا: ف ً خِلي َ ض َ َْ ع ٌ
ل ِفي الْر ِ جا ِ
كما أجاب الملئكة لما قال لهم} :إ ِّني َ
ك{ َ
سل َ قد ّ ُ ك وَن ُ َمد ِ َ ح ْ ح بِ َ سب ّ ُن نُ َ ح ُماَء وَن َ ْ ك الد ّ َ ف ُس ِ
سد ُ ِفيَها وَي َ ْ ف ِ ن يُ ْم ْ ل ِفيَها َ جعَ ُ}ت َ ْ
ن{ ولو كان فعله مجردا عن الحكم َ َ َ
مو َ
ما ل ت َعْل ُ م َ فأجابهم بقوله} :إ ِّني أعْل ُ
والغايات والمصالح لكان الملئكة أعلم به أن سألوا هذا السؤال ولم يصح
جوابهم بتفرده بعلم مال يعلمونه من الحكم والمصلحة التي في خلق هذه
الخليفة ولهذا كان سؤالهم إنما وقع عن وجه الحكمة لم يكن اعتراضا على
الرب تعالى ولو قدر أنه على وجه العتراض فهو دليل على علمهم أنه ل
يفعل شيئا إل لحكمة فلما رأوا أن خلق هذا الخليفة مناف للحكمة في
ة َقاُلوا ل ْ
ن َ م آي َ ٌ جاَءت ْهُ ْ الظاهر سألوه عن ذلك ومن هذا قوله تعالى} :وَإ َِذا َ
َ ل الل ّه الل ّ َ ُ
ه{ ت ل
ِ َ َ ُسا ر لُ حي ْ ُ َ ْ َ
ع ج ي ث م َ ه أعْل َ ُ ُ ِ س ُي ُر ُ ما أوت ِ َ ل َمث ْ َحّتى ن ُؤَْتى ِ ن َ م َن ُؤْ ِ
فأجابهم بأن حكمته وعلمه يأبى أن يضع رسالته في غير محلها وعند غير
أهلها ولو كان المر راجعا إلى محض المشيئة لم يكن في هذا جوابا بل كان
الجواب أن أفعاله ل تعلل وهو يرجح مثل على مثل بغير مرجح والمر عائد
م ضهُ ْ ك فَت َّنا ب َعْ َ إلى مجرد القدرة كما يقوله المنكرون وكذلك قوله} :وَك َذ َل ِ َ
ؤلِء من الل ّه عل َيهم من بيننا أ َل َيس الل ّ َ قوُلوا أ َهَ ُ
ن{ ري َ شاك ِ ِ م ِبال ّ ه ب ِأعْل َ َ ُ ْ َ ُ َ ِْ ْ ِ ْ ََِْ َ ّ ض ل ِي َ ُب ِب َعْ ٍ
فلما سألوا عن التخصيص بمشيئة الله وأنكروا ذلك أجيبوا بأن الله أعلم بمن
يصلح لمشيئته وهو أهل لها وهم الشاكرون الذين يعرفون
) (23/55
قدر النعمة ويشكرون عليها المنعم فهؤلء يصلحون بمشيئته ولو كان المر
عائدا إلى محض المشيئة لم يحسن هذا الجواب ولهذا يذكر سبحانه صفة
العلم حيث يذكر التخصيص والتفصيل بينهما على أنه إنما حصل بعلمه
سبحانه بما في التخصيص المفصل مما يقتضي تخصيصه وتفصيله وهو الذي
مرِهِ إ َِلى َ
ري ب ِأ ْ ج ِ ة تَ ْ ف ً ص َ عا ِ ح َ ن الّري َ ما َ سل َي ْ َجعله أهل لذلك كما قال تعالى} :وَل ِ ُ
ن{ فذكر علمه عقيب تخصيصه ل َ ض ال ِّتي َباَرك َْنا ِفيَها وَك ُّنا ب ِك ُ ّ َْ
مي َ عال ِ ِيٍء َ ش ْ الْر ِ
سليمان بتسخير الريح له وتخصيصه الرض المذكورة بالبركة ومنه قوله:
قلئ ِد َ م َوال ْهَد ْيَ َوال ْ َ حَرا َ شهَْر ال ْ َ س َوال ّ ِ م قَِياما ً ِللّنا حَرا َ ت ال ْ َ ة ال ْب َي ْ َ ه ال ْك َعْب َ َ ل الل ّ ُ جعَ َ } َ
ه ب ِك ُ ّ
ل ّ َ َ ْ َ ّ َ َ ذ َل ِ َ
ن الل َ ض وَأ ّ ما ِفي الْر ِ ت وَ َ ماَوا ِ س َما ِفي ال ّ م َ ه ي َعْل ُ ن الل َ موا أ ّ ك ل ِت َعْل ُ
م{ فذكر صفة العلم التي اقتضت تخصيص هذا المكان وهذا الزمان يٍء عَِلي ٌ ش ْ َ
هّ َ
بأمر اختصا به دون سائر المكنة والزمنة ومن ذلك قوله سبحانه} :أن َْز َ
ل الل ُ
َ َ
حقّ ب َِها كاُنوا أ َ وى وَ َ ق َ ة الت ّ ْ م َم ك َل ِ َ مهُ ْ ن وَأل َْز َ مِني َمؤ ْ ِسول ِهِ وَعََلى ال ْ ُ ه عََلى َر ُ كين َت َ ُ س ِ َ
يٍء عَِليما{ فأخبر أنه وضع هذه الكلمة عند أهلها ً ل َ ه ب ِك ُّ ّ َ َ َ
ش ْ ن الل ُ وَأهْلَها وَكا َ
ومن هم أحق بها وأنه أعلم بمن يستحقها من غيرهم فهل هذا وصف من
يخص بمحض المشيئة ل بسبب وغاية.
فصل :النوع الحادي والعشرون إخباره سبحانه عن تركه بعض مقدوره لما
يستلزمه من المفسدة وأن المصلحة في تركه ولو كان المر راجعا إلى
ب ِ ْ َ
د ن ع شّر الد َّوا ّ ن َ محض المشيئة لم يكن ذلك علة للحكم كقوله تعالى} :إ ِ ّ
م وَل َ ْ
و معَهُ ْس َ خْيرا ً َل ْ م َه ِفيهِ ْ م الل ّ ُ ن وَل َوْ عَل ِ َ قُلو َ ن ل ي َعْ ِ ذي َ م ال ّ ِ م ال ْب ُك ْ ُ ص ّ الل ّهِ ال ّ
َ
ن{ فعلل سبحانه عدم إسماعهم السماع الذي ضو َ معْرِ ُ م ُ وا وَهُ ْ م ل َت َوَل ّ ْ معَهُ ْ س َ أ ْ
ينتفعون بهو وهو سماع الفهم
248
) (23/56
بأنهم ل خير فيهم يحسن معه أن يسمعهم وبأن فيهم مانعا آخر يمنع من
النتفاع بالمسموع لو سمعوه وهو الكبر
) (23/57
الراحمين ومن إحسانه من لوازم ذاته فل يكون إل محسنا منعما منانا وإما
لمانع يمنع من إرادتها وقصدها وهذا مستحيل في حق من ل يمنعه مانع عن
فعل ما يريد وإما لستلزامها نقصا ومنافاتها كمال وهذا باطل بل هو قلب
للحقائق وعكس للفطر ومناقضة لقضايا العقول فإن من يفعل لحكمة وغاية
مطلوبة يحمد عليها أكمل ممن يفعل ل لشيء البتة كما أن من يخلق أكمل
ممن ل يخلق ومن يعلم أكمل ممن ل يعلم ومن يتكلم أكمل ممن ل يتكلم
ومن يقدر ويريد أكمل ممن ل يتصف بذلك وهذا مركوز في الفطر مستقر
في العقول فنفي حكمته بمنزلة نفي هذه الوصاف عنه وذلك يستلزم وصفه
بأضدادها وهي أنقص النقائص ولهذا صرح كثير من النفاة كالجويني والرازي
بأنه لم يقم على نفي النقائض عن الله دليل عقلي إل مستند النفي السمع
والجماع وحينئذ فيقال لهؤلء إن لم يكن في إثبات الحكمة نقص لم يجز
نفيها وإن كانت نقصا فأين في السمع أو في الجماع نفي هذا النقص
وجمهور المة يثبت حكمته سبحانه والغايات المحمودة في أفعاله فليس مع
النفاة سمع ول عقل ول إجماع بل السمع والعقل والجماع والفطرة تشهد
249
ببطلن قولهم والله الموفق للصواب وجماع ذلك أن كمال الرب تعالى
وجلله وحكمته وعدله ورحمته وقدرته وإحسانه وحمده ومجده وحقائق
أسمائه الحسنى تمنع كون أفعاله صادرة منه ل لحكمة ول لغاية مطلوبة
وجميع أسمائه الحسنى تنفي ذلك وتشهد ببطلنه وإنما نبهنا على بعض طرق
القرآن وإل فالدلة التي تضمنها إثبات ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وبالله
التوفيق.
فصل :وكيف يتوهم ذو الفطرة صحيحة خلف ذلك وهذا الوجود شاهد
بحكمته وعنايته بخلقه أتم عناية وما في مخلوقاته من الحكم والمصالح
والمنافع والغايات المطلوبة والعواقب الحميدة أعظم من أن يحيط به وصف
أو يحصره عقل ويكفي النسان فكره وخلقه وأعضائه ومنافعها وقواه
وصفاته وهيأته فإنه لو استنفد عمره لم يحط علما بجميع ما تضمنه خلقه من
الحكم والمنافع
) (23/58
على التفصيل والعالم كله علويه وسفليه بهذه المثابة ولكن لشدة ظهور
الحكمة ووضوحها وجد الجاحد
250
) (23/59
ول حكمة ول غاية وهل هذا إل من أسوء الظن بالرب تعالى وكيف يستجيز
أن يظن بربه أنه أمر ونهى وأباح وحرم وأحب وكره وشرع الشرائع وأمر
بالحدود ل لحكمة ول لمصلحة يقصدها بل ما ثم إل مشيئة محضة رجحت مثل
على مثل بغير مرجح وأي رحمة تكون في هذه الشريعة وكيف يكون
المبعوث بها رحمة مهداة للعالمين لو كان المر كما يقول النفاة وهل يكون
المر والنهي إل عقوبة وكلفة وعبثا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولو ذهبنا
نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله في خلقه وأمره لزاد ذلك على
عشرة آلف موضع مع قصور أذهاننا ونقص عقولنا ومعارفنا وتلشيها وتلشي
علوم الخلئق جميعهم في علم الله كتلشي ضوء السراج في عين الشمس
وهذا تقريب وإل فالمر فوق ذلك وهل إبطاله الحكم والمناسبات والوصاف
التي شرعت الحكام لجلها إل إبطال للشرع جملة وهل يمكن فقيها على
وجه الرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلن الحكمة والمناسبة
والتعليل وقصد الشارع بالحكام مصالح العباد وجناية هذا القول على الشرائع
من أعظم الجنايات فإن العقلء ل يمكنهم إنكار السباب والحكم والمصالح
والعلل الغائية فإذا رأوا أن هذا ل يمكن القول به مع موافقة الشرائع ول
يمكنهم رفعه عن نفوسهم خلوا الشرائع وراء ظهورهم وأساؤا بها الظن
وقالوا ل يمكننا الجمع بينها وبين عقولنا ول سبيل لنا إلى الخروج عن عقولنا
ورأوا أن القول بالفاعل المختار ل يمكن إل مع نفي السباب والحكم والقوى
والطبائع ول سبيل إلى نفيها فنفوا الفاعل وأولئك لم يمكنهم القول بنفي
الفاعل المختار ورأوا أنه ل يمكنهم إثباته مع إثبات السباب والحكم والقوى
) (23/60
251
في الشريعة إل بالتزام أصول هؤلء ولم يهتد الطائفتان للحق الذي ل يجوز
غيره وهو انه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته ويفعل ما يفعله بأسباب
وحكم وغايات محمودة وقد أودع العالم من القوى والطبائع والغرائز
والسباب والمسببات ما به قام الخلق والمر وهذا قول جمهور أهل السلم
وأكثر طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة إل من خلى الفقه ناحية وتكلم
بأصول النفاة فعادى فقهه أصول دينه.
) (23/61
شفاء العليل
الباب الثاني والعشرون :في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره
واثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لجلها
الباب الثاني والعشرون :في استيفاء شبه النافعين للحكمة والتعليل وذكر
الجوبة عنها
قالت النفاة قد أجلبتم علينا بما استطعتم من خيل الدلة ورجلها فاسمعوا
الن ما يبطله ثم أجيبوا عنه إن أمكنكم الجواب فنقول ما قاله أفضل
متأخريهم محمد بن عمر الرازي" :كل من فعل فعل لجل تحصيل مصلحة أو
لدفع مفسدة فإن كان تحصيل تلك المصلحة أولى من عدم تحصيلها كان ذلك
الفاعل قد استفاد بذلك الفعل تحصيل ذلك" ومن كان كذلك كان ناقصا بذاته
مستكمل بغيره وهو في حق الله محال وإن كان تحصيلها وعدمه بالنسبة إليه
سواء فمع ذلك ل يحصل الرجحان فامتنع تحصيلها ثم أورد سؤال وهو ل يقال
حصولها واللحصولها بالنسبة إليه وإن كان على التساوي إل أن حصولها للعبد
أولى من عدم حصولها له فلجل هذه الولوية العائدة إلى العبد يرجح الله
سبحانه الوجود على العدم ثم أجاب بأنا نقول تحصيل تلك المصلحة وعدم
تحصيلها له إما أن يكونا متساويين بالنسبة إلى الله أو ل يستويان وحينئذ
يعود التقسيم المذكور قال المثبتون الجواب عن هذه الشبهة من وجوه
أحدها أن قولك أن كل من فعل لغرض يكون ناقصا بذاته مستكمل بغيره ما
تعني بقولك أنه يكون ناقصا بذاته أتعني به أنه يكون عادما لشيء من الكمال
الذي ل يجب أن يكون له قبل حدوث ذلك المراد أم تعني به أن يكون عادما
لما ليس كمال قبل وجوده أم تعني به معنى ثالثا
) (24/1
252
الكمال وعدمها حينئذ نقص وعدمها وقت عدمها كمال ووجودها حينئذ نقص
وعلى هذا فالنافي هو الذي نسب النقص إلى الله ل المثبت وإن عنيت به
أمرا ثالثا فل بد من بيانه حتى ننظر فيه الجواب الثاني إن قولك يلزم أن
يكون ناقصا بذاته مستكمل بغيره أتعني به أن الحكمة التي يجب وجودها إنما
حصلت له من شيء خارج عنه أم تعني أن تلك الحكمة نفسها غير له وهو
مستكمل بها فإن عنيت الول فهو باطل فإنه ل رب غيره ول خالق سواه ولم
يستفد سبحانه من غيره كمال بوجه من الوجوه بل العالم كله إنما استفاد
الكمال الذي فيه منه سبحانه وهو لم يستفد كماله من غيره كما لم يستفد
وجوده من غيره وإن عنيت الثاني فتلك الحكمة صفته سبحانه وصفاته ليست
غيرا له فإن حكمته قائمة به وهو الحكيم الذي له الحكمة كما أنه العليم الذي
له العلم والسميع الذي له السمع والبصير الذي له البصر فثبوت حكمته ل
يستلزم استكماله بغير منفصل عنه كما أن كماله سبحانه بصفاته وهو لم
يستفدها من غيره الجواب الثالث أنه سبحانه إذا كان إنما يفعل لجل أمر هو
أحب إليه من عدمه كان اللزم من ذلك حصول مراده الذي يحبه وفعل لجله
وهذا غاية الكمال وعدمه هو النقص فإن من كان قادرا على تحصيل ما يحبه
وفعله في الوقت الذي يحب على الوجه الذي يحب فهو الكامل حقا ل من ل
) (24/2
محبوب له أو له محبوب ل يقدر على فعله الجواب الرابع أن يقال أنت ذكرت
في كتبك أنه لم يقم على نفي النقص عن الله دليل عقلي واّتبعت في ذلك
الجويني وغيره وقلتم إنما ينفى النقص عنه عز وجل بالسمع وهو الجماع
فلم تنفوه عن الله عز وجل بالعقول ول بنص منقول عن الرسول بل بما
ذكرتموه من الجماع وحينئذ فإنما ينفى بالجماع ما انعقد الجماع على نفيه
والفعل بحكمه لم ينعقد الجماع على نفيه فلم تجمع المة على انتفاء التعليل
لفعال الله فإذا سميت أنت ذلك نقصا لم تكن هذه التسمية موجبة لنعقاد
الجماع على نفيها فإن قلت أهل الجماع أجمعوا على نفي النقص وهذا
نقص قيل نعم المة مجمعة على ذلك ولكن الشأن في هذا الوصف المعني
أهو نقص فيكون قد أجمعت على نفيه فهذا أول المسألة والقائلون بإثباته
ليس هو عندهم نقصا بل هو عين الكمال ونفيه عين النقص وحينئذ فنقول
في الجواب الخامس أن إثبات الحكمة كمال كما تقدم تقريره ونفيه نقص
والمة مجمعة على انتفاء النقص عن الله بل العلم بانتفائه عن الله تعالى
من أعلى العلوم الضرورية المستقرة في فطر الخلق فلو كانت أفعاله
معطلة عن الحكم والغايات المحمودة لزم النقص وهو محال ولزوم النقص
من انتفاء الحكم أظهر في العقول والفطر والعلوم الضرورية والنظرية من
لزوم النقص من إثبات ذلك وحينئذ فتقول في الجواب السادس النقص إما
أن يكون جائزا أو ممتنعا فإن كان جائزا بطل دليلك وإن كان ممتنعا بطل
دليلك أيضا فبطل الدليل على التقديرين الجواب السابع أن النقص منتف عن
الله عز
) (24/3
253
ص -208-وجل عقل كما هو منتف عنه سمعا والعقل والنقل يوجب اتصافه
بصفات الكمال والنقص هو ما يضاد صفات الكمال فالعلم والقدرة والرادة
والسمع والبصر والكلم والحياة صفات كمال وأضدادها نقص فوجب تنزيهه
عنها لمنافاتها لكماله وأما حصول ما يحبه الرب تعالى في الوقت الذي يحبه
فإنما يكون كمال إذا حصل على الوجه الذي يحبه فعدمه قبل ذلك ليس نقصا
إذ كان ل يحب وجوده قبل ذلك الجواب الثامن أن يقال الكمال الذي يستحقه
سبحانه وتعالى هو الكمال الممكن أو الممتنع فالول مسلم والثاني باطل
قطعا فلم قلت أن وجود الحادث في غير وقته الذي وجد فيه ممكن بل وجود
الحادث في الزل ممتنع فعدمه ل يكون نقصا الجواب التاسع أن عدم الممتنع
ل يكون كمال فإن الممتنع ليس بشيء في الخارج وما ليس بشيء ل يكون
عدمه نقصا فإنه إن كان في المقدور ما ل يحدث إل شيئا بعد شيء كان
وجوده في الزل ممتنعا فل يكون عدمه نقصا وإنما يكون الكمال وجوده حين
يمكن وجوده ،الجواب العاشر أن يقال أنه تعالى أحدث أشياء بعد أن لم يكن
محدثا لها كالحوادث المشهودة حتى أن القائلين بكون الفلك قديما عن عله
موجبة يقرون بذلك ويقولون أنه يحدث الحوادث بواسطته وحينئذ فنقول هذا
الحداث إما أن يكون صفة كمال وإما أن ل يكون فإن كان صفة كمال فقد
كان فاقدا لها قبل ذلك وإن لم يكن صفة كمال فقد اتصف بالنقص فإن قلت
نحن نقول بأنه ليس صفة كمال ول نقص قيل فهل قلتم ذلك في التعليل
وأيضا فهذا محال في حق الرب تعالى فإن كل ما يفعله يستحق عليه الحمد
وكل ما يقوم من صفاته فهو صفة كمال وضده نقص وقد ينازع النظار في
الفاعلية هل هي صفة كمال أم ل وجمهور المسلمين من جميع الفرق
يقولون هي صفة كمال وقالت طائفة ليست صفة كمال ول نقص وهو قول
أكثر الشعرية فإذا التزم له هذا القول قيل له الجواب من وجهين أحدهما أن
من المعلوم تصريح العقل أن من يخلق أكمل ممن ل يخلق كما قال تعالى:
) (24/4
َ َ
ن{ وهذا استفهام إنكار يتضمن النكار خل ُقُ أَفل ت َذ َك ُّرو َ ن ل يَ ْ م ْ خل ُقُ ك َ َ ن يَ ْ م ْ }أفَ َ
على من سوى بين المرين يعلم أن أحدهما أكمل من الخر قطعا ول ريب
أن تفضيل من يخلق على من ل يخلق في الفطر والعقول كتفضيل من يعلم
على من ل يعلم ومن يقدر على من ل يقدر ومن يسمع ويبصر على من ل
يسمع ول يبصر ولما كان هذا مستقرا في فطر بني آدم جعله الله تعالى من
مُلوكا ً ل م ْ مث َل ً عَْبدا ً َ ه َ ب الل ّ ُ ضَر َ آلة توحيده وحججه على عباده قال تعالىَ } :
ل جْهرا هَ ًْ سّرا وَ َ ً ه ِ من ْ ُفق ُ ِ سنا ً فَهُوَ ي ُن ْ ِ ح َ مّنا رِْزقا ً َ ن َرَزقَْناه ُ ِ م ْ يٍء وَ َ ش ْ قدُِر عََلى َ يَ ْ
َ َ َ َ ً ّ َ ْ َ ّ ْ
م
ما أب ْك ُ حد ُهُ َ نأ َ جلي ْ ِ مث َل َر ُ ه َ ب الل ُ ضَر َ ن وَ َ مو َ م ل ي َعْل ُ ل أكث َُرهُ ْ مد ُ ل ِلهِ ب َ ْ ح ْ ن ال َ وو َ ست َ ُ يَ ْ
وي ْ ْ َ َ ّ َ قدُِر عَلى َ َ
ست َ ِ
خي ْرٍ هَل ي َ ْ ت بِ َ ه ل ي َأ ِ جهْ ُ ما ي ُوَ ّ وله ُ أي ْن َ َ م ْ
يٍء وَهُوَ كل عَلى َ ش ْ ْ
ل يَ ْ
ل هَلْ م{ وقال تعالى} :قُ ْ قيست َ ِ م ْ ط ُ صَرا ٍ ل وَهُوَ عَلى َِ ْ
مُر ِبالعَد ْ ِ ن ي َأ ُ م ْ هُوَ وَ َ
مى ذين ل ي َعْل َمون{ وقال ٍ تعالى} :وما ي َست َوي اْل َْ
ع ّ لوا ن مو َ ل عي ن ذي ّ لا وي
َ ْ ِ َ َ ُ ِ َ َْ ُ َ َ ِ َ ست َ ِ يَ ْ
َ
وي اْل ْ ل َول ال ْ َ ت َول الّنوُر َول الظ ّ ّ
حَياُء َول ست َ ِ ما ي َ ْ حُروُر وَ َ ما ُ صيُر َول الظ ّل ُ َ َوال ْب َ ِ
م َوال ْب َ ِ َ َ َ
ميِع س ِ صيرِ َوال ّ ص ّ مى َواْل َ كاْلعْ َ ن َ قي ْ ِ ري َ ف ِل ال ْ َ مث َ ُ ت{ وقال تعالىَ } : وا ُ م َاْل ْ
َ
ن{ فمن سوى بين صفة الخالقية وعدمها فلم مث َل ً أَفل ت َذ َك ُّرو َ ن َ ست َوَِيا ِ ل يَ ْ هَ ْ
يجعل وجودها كمال ول عدمها نقصا فقد أبطل حجج الله وأدلة توحيده وسوى
254
بين ما جعل بينهما أعظم التفاوت وحينئذ فنقول في الجواب الحادي عشر إذا
كان المر كما ذكرتم فلم ل يجوز أن يفعل لحكمة يكون وجودها وعدمها
بالنسبة إليه سواء كما أنه عندكم لم يحدث ما يحدثه مع كون الحداث
والخلق وعدمه بالنسبة إليه سواء مع أن هذه إرادة ل تعقل في
) (24/5
) (24/6
القدرة لم يكن قبيحا ول مستلزما نقصا عندهم وجماع ذلك بالجواب الخامس
عشر أنه ما من محذور يلزم من تجويز فعله لحكمة إل والمحاذير التي يلزم
من كونه يفعل ل لحكمة أعظم امتناعا فإن كانت تلك المحاذير غير ممتنعة
كانت محاذير إثبات الحكمة أولى بعدم المتناع وإن كانت محاذير إثبات
الحكمة ممتنعة فمحاذير نفيها أولى بالمتناع ،الجواب السادس عشر أن فعل
الحي العالم الختياري ل لغاية ول لغرض يدعوه إلى فعله ل يعقل بل هو من
الممتنعات لهذا ل يصدر إل من مجنون أو نائم أو زائل العقل فإن الحكمة
255
والعلة الغائية هي التي تجعل المريد مريدا فإنه إذا علم بمصلحة الفعل ونفعه
وغايته انبعثت إرادته إليه فإذا لم يعلم في الفعل مصلحة ول كان له فيه
غرض صحيح ول داع يدعوه إليه فل يقع منه إل على سبيل العبث هذا الذي ل
يعقل العقلء سواه وحينئذ فنفي الحكمة والعلة والغاية عن فعل أحكم
الحاكمين نفي لفعله الختياري في الحقيقة وذلك أنقص النقص وقد تقدم
تقرير ذلك وبالله التوفيق.
فصل :قال نفاة الحكمة هب أن الحجة بطلت فل يلزم من بطلن دليل بطلن
الحكم فنحن نذكر حجة غيرها فنقول لو كان فعله تعالى معلل بعلة فتلك
العلة إن كانت قديمة لزم من قدمها قدم الفعل وهو محال وإن كانت محدثة
افتقر كونه موجودا لتلك العلة إلى علة أخرى وهو محال وهذا معنى قول
القائل علة كل شيء صنعه ول علة لصنعه قالوا ونحن نقرر هذه الحجة
تقريرا
) (24/7
ص -210-أبسط من هذا فنقول لو كان فعله تعالى لحكمة فتلك الحكمة إما
قديمة أو محدثة فإن كانت قديمة فإما أن يلزم من قدمها الفعل قدم الفعل
أو ل يلزم فإن لزم فهو محال وإن لم يلزم القدم والفعل موجود بدونها
فالحكمة غير حاصلة من ذلك الفعل لحصوله دونها وما ل يكون الحكمة
متوقفة على حصوله ل يكون متوقفا عليها وهو المطلوب وإن كانت الحكمة
حادثة بحدوث الفعل فإما أن تفتقر إلى فاعل أو ل تفتقر إلى فاعل فإن لم
تفتقر لزم حدوث من غير فاعل وهو محال وإن افتقرت إلى فاعل فذلك
الفاعل إما أن يكون هو الله أو غيره ل يجوز أن يكون غيره لنه ل خالق إل
الله وإن كان هو الله فإما أن يكون له في فعله غرض أو ل غرض له فيه فإن
كان الول فالكلم فيه كالكلم في الول ويلزم التسلسل وإن كان الثاني فقد
خل فعله عن الغرض وهو المطلوب فإن قلت فعله لذلك الغرض لغرض هو
نفسه فما خل عن غرض ولم يلزم التسلسل قلنا فيلزم مثله في كل مفعول
مخلوق وهو أن يكون الغرض منه هو نفسه من غير حاجة إلى غرض آخر وهو
المطلوب فهذه حجة باهرة وافية بالغرض قال أهل الحكمة بل هي حجة
داحضة باطلة من وجوه والجواب عنها من وجوه الجواب الول أن نقول ل
يخلو إما أن يمكن أن يكون الفعل قديم العين أو قديم النوع أو ل يمكن واحد
منهما فإن أمكن أن يكون قديم العين أو النوع أمكن في الحكمة التي يكون
الفعل لجلها أن تكون كذلك وإن لم يمكن أن يكون الفعل قديم العين ول
النوع فيقال إذا كان فعله حادث العين أو النوع كانت الحكمة كذلك فالحكمة
يحذى بها حذو الفعل فما جاز عليه جاز عليها وما امتنع عليه امتنع عليها
الجواب الثاني أن من قال أنه خالق مكون في الزل لما لم يكن بعد قال
قولي هذا كقول من قال هو مريد في الزل لما لم يكن بعد فقولي بقدم
كونه فاعل كقول هؤلء بقدم كونه مريدا وعلى هذا فيمكنني أن أقول بقدم
الحكمة التي يخلق ويريد لجلها ول يلزم من قدم الحكمة قدم
) (24/8
256
الفعل كما لم يلزم من قدم الرادة قدم المراد وكما يلزم من قدم صفة
التكوين قدم المكون فقولي في قدم الحكمة مع حدوث الفعل التي فعل
لجلها كقولكم في قدم الرادة والتكوين سواء وما لزمني لزمكم مثله
وجوابكم هو جوابي بعينه ول يمتنع ذلك على أصول طائفة من الطوائف فإن
من قال من الفلسفة أن فعله قديم للمفعول المعني يقول أن الحكمة
قديمة ومن قال بحدوث أعيان الفعل ودوام نوعه يقول ذلك في الحكمة
سواء ومن قال بحدوث نوع الفعل وقيامه بالرب قال ذلك في الحكمة أيضا
كما يقوله كثير من النظار فل يمتنع على أصل طائفة من الطوائف إثبات
الحكمة في فعله سبحانه الجواب الثالث قولك يفتقر كونه محدثا لتلك العلة
إلى علة أخرى ممنوع فإن هذا إنما يلزم أن لو قيل كل حادث فل بد له من
علة ونحن ل نقول هذا بل نقول يفعله لحكمة ومعلوم أن المفعول لجله مراد
للفاعل محبوب له والمراد المحبوب تارة يكون مرادا لنفسه وتارة يكون
مرادا لغيره والمراد لغيره ل بد أن ينتهي إلى المراد لنفسه قطعا للتسلسل
وهذا كما نقوله في خلقه بالسباب أنه يخلق كذا بسبب كذا وكذا بسبب كذا
حتى ينتهي المر إلى أسباب ل سبب لها سوى مشيئة الرب فكذلك يخلق
لحكمة وتلك الحكمة لحكمة حتى ينتهي المر إلى حكمة ل حكمة فوقها
الجواب الرابع أن النفاة يقولون كل مخلوق فهو مراد لنفسه ل لغيره وحينئذ
فل يمتنع أن يكون بعض المخلوقات مرادا لغيره وينتهي المر إلى مراد
لنفسه بل هذا أولى بالجواز من جعل كل مخلوق مرادا لنفسه وكذلك في
المر يكون مرادا لغيره حتى
) (24/9
ص -211-ينتهي إلى أمر مراد لنفسه الجواب الخامس أن يقال غاية ما
ذكرتم أنه يستلزم التسلسل ولكن أي نوعي التسلسل هو اللزم التسلسل
الممتنع أو الجائز فإن عنيتم الول منع اللزوم وإن عنيتم الثاني منع انتفاء
اللزم فإن التسلسل في الثار المستقبلة ممكن بل واجب وفي الثار
الماضية فيه قولن للناس والتسلسل في العلل والفاعلين محال باتفاق
العقلء بأن يكون لهذا الفاعل فاعل قبله وكذلك ما قبله إلى غير نهاية وأما
أن يكون الفاعل الواحد القديم البدي لم يزل يفعل ول يزال فهذا غير ممتنع
إذا عرف هذا فالحكمة التي لجلها يفعل الفعل تكون حاصلة بعده فإذا كان
بعدها حكمة أخرى فغاية ذلك أن يلزم حوادث ل نهاية لها وهذا جائز بل
واجب باتفاق المسلمين ولم ينازع إل بعض أهل البدع من الجهمية والمعتزلة
فإن قيل فيلزم من هذا أن ل تحصل الغاية المطلوبة أبدا قيل بل اللزم أن ل
تزال الغاية المطلوبة حاصلة دائما وهذا أمر معقول في الشاهد فإن الواحد
من الناس يفعل الشيء لحكمة يحصل بها محبوبه ثم يلزم من حصول
محبوبه محبوب آخر يفعل لجله وهلم جرا حتى لو تصور دوامه أبدا لكانت
هذه حاله وكماله فلم تزل محبوباته تحصل شيئا بعد شيء وهذا هو الكمال
الذي يريده مع غناه التام الكامل عن كل ما سواه وفقر ما سواه إليه من
جميع الوجوه وهل الكمال إل ذلك وفواته هو النقص وهو سبحانه كتب على
نفسه الرحمة والحسان فرحمته وإحسانه من لوازم ذاته فل يكون إل رحيما
محسنا وهو سبحانه إنما أمر العباد بما يحبه ويرضاه وأراد لهم من إحسانه
257
ورحمته ما يحبه ويرضاه لكن فرق بين ما يريد هو سبحانه أن يخلقه ويفعله
لما يحصل به من الحكمة التي يحبها فهذا يفعله سبحانه ول بد من وجوده
وبين ما يريد من العباد أن يفعلوه ويأمرهم بفعله ويحب أن يقع منهم ول
يشاء خلقه وتكوينه ففرق بين ما يريد خلقه وما يأمر به ول يريد خلقه فإن
الفرق بين ما يريد الفاعل أن يفعله وما يريد
) (24/10
من المأمور أن يفعله فرق واضح والله سبحانه له الخلق والمر فالخلق فعله
والمر قوله ومتعلقه أفعال عباده وهو سبحانه قد يأمر عبده ويريد من نفسه
أن يعين عبده على فعل ما أمره لتحصل حكمته ومحبته من ذلك المأمور به
وقد يأمره ول يريد من نفسه إعانته على فعل المأمور لما له من الحكمة
الثابتة في هذا المر وهذا الترك يأمره لئل يكون له عليه حجة ولئل يقول ما
جاءني من نذير ولو أمرتني لبادرت إلى طاعتك ولم يرد من نفسه إعانته لن
محله غير قابل لهذه النعمة والحكمة التامة تقتضي أن ل توضع النعم عند غير
َ َ
حقّ ب َِها كاُنوا أ َ وى وَ َ ق َة الت ّ ْ م ك َل ِ َ
م َ مهُ ْأهلها وأن تمنع من أهلها قال تعالى} :وَأل َْز َ
خْيرا ً وأ َهل َها{ وقال} :ل َيس الل ّ َ
م َ ه ِفيهِ ْ م الل ّ ُن{ وقال} :ل َوْ عَل ِ َ ري َ شاك ِ ِم ِبال ّ ه ب ِأعْل َ َ ُ ْ َ َ ْ َ
م{ ول يقال فهل سوى بين خلقه في جعلهم كلهم أهل لذلك فإن هذا معَهُ ْس َ َل ْ
ممكن له ول أن يقال فهل سوى بين صورهم وأشكالهم وأعمارهم وأرزاقهم
ومعاشهم وهذا وإن كان ممكنا فالذي وقع من التفاوت بينهم هو مقتضى
حكمته البالغة وملكه التام وربوبيته فاقتضت حكمته أن سوى بينهم في المر
وفاوت بينهم في العانة عليه كما فاوت بينهم في العلوم والقدر والغنى
والحسن والفصاحة وغير ذلك والتخصيصات الواقعة في ملكه ل تناقض
حكمته بل هي من أدل شيء على كمال حكمته ولولها لم يظهر فضله ومنه
م وَك َّره َ إ ِل َي ْك ُ ُ
م ه ِفي قُُلوب ِك ُ ْ ن وََزي ّن َ ُ ما َ ماِْ
لي َ ب إ ِل َي ْك ُ ُ حب ّ َ ه َ ن الل ّ َقال تعالى} :وَل َك ِ ّ
ن أول َئ ِ َ ُ
ن{ فضل من الله ونعمة والله دو َ ش ُم الّرا ِ ك هُ ُ صَيا َ سوقَ َوال ْعِ ْ فَر َوال ْ ُ
ف ُ ال ْك ُ ْ
عليم بمن يصلح لهذه النعمة حكيم في وضعها عند أهلها ومنعها غير أهلها
َ
مُنوا نآ َ ذي َ وقال تعالىَ} :يا أي َّها ال ّ ِ
) (24/11
م ُنورا ً ل ل َك ُ ْ جعَ ْ مت ِهِ وَي َ ْ ح َ ن َر ْ م ْ ن ِ م كِ ْ َ سول ِهِ ي ُؤْت ِك ُ ْ قوا الل ّ َ
َ َ فلي ْ ِ مُنوا ب َِر ُ ه َوآ ِ ص -212-ات ّ ُ
َ
ن عَلى قدُِرو َ ب أل ي َ ْ ّ ل الك َِتا ِ ْ م أهْ ُ َ
م ل ِئ َل ي َعْل َ ّ حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ ّ
م َوالل ُ ُ
فْر لك ْ َ ن ب ِهِ وَي َغْ ِ شو َ م ُ تَ ْ
ْ ّ ّ ْ َ ّ
ل
ض ِ ف ْ ه ُذو ال َ شاُء َوالل ُ ن يَ َ م ْ ل ب ِي َدِ اللهِ ي ُؤِْتيهِ َ ض َ ف ْ ن ال َ ل اللهِ وَأ ّ ض ِ ن فَ ْ م ْ يٍء ِ ش ْ َ
م َ ُ ً ُ ْ ّ ال ْعَ ِ
م ي َت ْلو عَلي ْهِ ْ من ْهُ ْ سول ِ ن َر ُ مّيي َ ث ِفي ال ّ ذي ب َعَ َ م{ وقال تعالى} :هُوَ ال ِ ظي ِ
نمِبي ٍ ل ُ ضل ٍ في َ ل لَ ِ ن قَب ْ ُ م ْ كاُنوا ِ ن َ ة وَإ ِ ْ م َحك ْ َ ب َوال ْ ِ م ال ْك َِتا َ مهُ ُ م وَي ُعَل ّ ُ كيهِ ْ آَيات ِهِ وَي َُز ّ
نم ْ ل الل ّهِ ي ُؤِْتيهِ َ ض ُ ك فَ ْ م ذ َل ِ َ كي ُ ح ِ زيُز ال ْ َ م وَهُوَ ال ْعَ ِ قوا ب ِهِ ْ ح ُ ما ي َل ْ َ م لَ ّ من ْهُ ْ ن ِ ري َ خ ِ َوآ َ
د ت ر ي ن م نوا م آ ن ذي ّ لا ها يَ أ يا } تعالى: وقال م{ ظي ع ْ ل ا ل ض َ ف ْ ل ا ذو ُ ه ّ لوال ُ ء شايَ َ
َ ْ َْ َ ّ ِ َ َ ُ َ َّ ْ ِ َْ ِ ِ َ ُ
َ
ن
مِني َ مؤ ْ ِ ه أذِل ّةٍ عََلى ال ْ ُ حّبون َ ُ م وَي ُ ِ حب ّهُ ْ قوْم ٍ ي ُ ِ ه بِ َ ف ي َأِتي الل ّ ُ سو ْ َ ن ِدين ِهِ فَ َ م عَ ْ من ْك ُ ْ ِ
ض ُ
ل َ ف َ
ك لَ ذ م ئ ل ة م و َ ل ن فو ُ خا ي ول ه ّ ل ال ل بي س في ن دو ه جا ي ن ري ف كا َ ْ لا لى َ ع َ
ْ ِ ٍ ِ َ َ ْ َ َ ِ َ َ َ ِ ِ ِ ِ َ ُ َ ِ ُ َ ِ َ أ ّ ٍ
ة ز عِ
ن إ ِّل ح ُ ن نَ ْ م{ وقالت الرسل لقومهمْ } : سعٌ عَِلي ٌ ه َوا ِ شاُء َوالل ّ ُ ن يَ َ م ْ الل ّهِ ي ُؤِْتيهِ َ
ُ
ه{ وقال تعالى} :وََقالوا عَبادِ ِ ن ِ م ْ شاُء ِ ن يَ َ م ْ ن عَلى َ َ م ّ ه يَ ُ ّ
ن الل َ َ
م وَلك ِ ّ مث ْل ُك ُ ْ شٌر ِ بَ َ
258
َ ن ال ْ َ
ت َرب ّ َ
ك م َح َ
ن َر ْ
مو َس ُ
ق ِ م يَ ْظيم ٍ أهُ ْ ن عَ ِ قْري َت َي ْ ِ م َ ل ِج ٍن عََلى َر ُ قْرآ ُذا ال ْ ُ ل هَ َول ن ُّز َ لَ ْ
م فَوْقَ ب َعْ ٍ
ض ضهُ ْ حَياةِ الد ّن َْيا وََرفَعَْنا ب َعْ َ م ِفي ال ْ َ شت َهُ ْمِعي َم َمَنا ب َي ْن َهُ ْ ن قَ َ
س ْ ح ُ نَ ْ
ت{ الية وفي حديث مثل المؤمنين واليهود والنصارى قال تعالى لهل جا ٍ د ََر َ
الكتاب هل ظلمتكم من حقكم من شيء قالوا ل قال فهو فضلي أوتيه من
سو َ
ل ه َوالّر ُ ن ي ُط ِِع الل ّ َ م ْأشاء وقال تعالى} :وَ َ
) (24/12
ك مع ال ّذي َ ُ
ن
حي َصال ِ ِ
داِء َوال ّ ن َوال ّ
شهَ َ قي َ
دي ِ
ص ّ
ن َوال ّ ن الن ّب ِّيي َ
م َم ِه عَل َي ْهِ ْ م الل ّ ُ ن أن ْعَ َفَأول َئ ِ َ َ َ ِ َ
فى ِبالل ّهِ عَِليمًا{ أي يعلم أين ن الل ّهِ وَك َ َ م َ
ل ِ ض ُ ف ْ ك ال ْ َ ن ُأول َئ ِ َ
ك َرِفيقا ً ذ َل ِ َ س َ
ح ُ
وَ َ
يضع فضله ومن يصلح له ممن ل يصلح بل يمنعه غير أهله ول يضعه عند غير
أهله وهذا كثير في القرآن يذكر أن تخصيصه هو فضله ورحمته فلو ساوى
بين الخلئق لم يعرف قدر فضله ونعمته ورحمته فهذا بعض ما في تخصيصه
من الحكمة وفي كتاب الزهد للمام أحمد" :أن موسى قال يا رب هل سويت
بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر" فمواضع التحصل ومواقع الفصل التي
يقدح بها نفاة الحكمة هي من أدل شيء على كمال حكمته سبحانه ووضعه
للفضل مواضعه وجعله عند أهله الذين هم أحق به وأولى من غيرهم وهو
الذي جعلهم كذلك بحكمته وعلمه وعزته وملكه فتبارك الله رب العالمين
وأحكم الحاكمين ول يجب بل ل يمكن المشاركة في حكمته بل ما حصل
للخلئق كلهم من العلم بها كنقرة عصفور في البحر المحيط وأي نقص في
دوام حكمته شيئا بعد شيء كما تدوم إرادته وكلمه وأفعاله وإحسانه وجوده
وإنعامه وهل الكمال إل في هذا التسلسل فماذا نفر النفاة منه أنفرهم أن
يقال لم يزل ول يزال حيا عليما قديرا حكيما متكلما محسنا جوادا ملكا
موصوفا بكل كمال غنيا عن كل ما سواه ل تنفد كلماته ول تتناهى حكمته ول
تعجز قدرته ول يبيد ملكه ول تنقطع إرادته ومشيئته بل لم يزل ول يزال له
الخلق والمر والحكمة والحكم وهل النقص إل سلب ذلك عنه والله الموفق
بفضله وإعانته الجواب السادس إن الرب تبارك وتعالى إذا خلق شيئا فل بد
من وجود لوازمه ول بد من عدم أضداده فوجود الملزوم بدون لزمه محال
ووجود الضد مع ضده ممتنع والمحال ليس بشيء ول يتصور العقل وجوده
في الخارج وإذا كان هذا التسلسل الجائز من لوازم خلقه وحكمته لم يكن
في القول محذور بل كان المحذور في نفيه توضيحه الجواب
) (24/13
السابع أنه لم يقم دليل عقلي ول سمعي على امتناع دوام أفعال الرب في
الماضي والمستقبل أصل وكل أدلة النفاة من أولها إلى آخرها باطلة وقد
كفى مؤنة إبطالها الرازي والمدي في أكثر كتبهما وغيرها وأما إثبات الحكمة
فقد قام على صحته العقل والسمع والفطرة وسائر أنواع الدلة مما تقدمت
الشارة إلى بعض
ص -213-ذلك فكيف يقدح في هذا المعلوم الصحيح بذلك النفي الذي لم
يقم على صحته دليل البتة الجواب الثامن أن التسلسل إما أن يكون ممكنا أو
259
ممتعنا فإن كان ممكنا بطل استدللكم وإن كان ممتنعا أمكن أن يقال في
دفعه تنتهي المرادات إلى مراد لنفسه ل لغيره وينقطع التسلسل الجواب
التاسع أن يقال ما المانع أن تكون الفاعلية معللة بعلة قديمة قولكم يلزم من
قدمها قدم المعلول ينتقص عليكم بالرادة فإنها قديمة ولم يلزم من قدمها
قدم المراد فإن قلتم الرادة القديمة تعلقت بالمراد الحادث في وقت حدوثه
واقتضت وجوده حينئذ فهل قلتم أن الحكمة القديمة تعلقت بالمراد وقت
حدوثه كما قلتم في الرادة فإن قلتم شأن الدارة التخصيص قيل لكم وكذلك
الحكمة شأنها تخصيص الشيء بزمانه ومكانه وصفته فالتخصيص مصدره
الحكمة والرادة والعلم والقدرة فإن لزم من قدم الحكمة قدم الفعل لزم
من قدم الرادة قدمه وإن لم يلزم ذلك لم يلزم هذا الجواب العاشر أن يقال
لو لم يكن فعله لحكمة وغاية مطلوبة لم يكن مريدا فان المريد ل يعقل كونه
مريدا إل إذا كان يريد لغرض وحكمة فإذا انتفت الحكمة والغرض انتفت
الرادة ويلزم من انتفاء الرادة أن يكون موجبا بالذات وهو علة تامة في
الزل لمعلوله فيلزم أن يقارنه جميع معلوله ول يتأخر فيلزم من ذلك قدم
الحوادث المشهودة وإنما لزم ذلك من انتفاء الحكمة والغرض المستلزمة
لنفي الرادة المستلزمة لليمان الذاتي المستلزم لقدم الحوادث وتقرير هذا
وبسطه في غير هذا الموضع.
فصل :قال نفاة الحكمة جميع الغراض يرجع حاصلها إلى شيئين
) (24/14
تحصيل اللذة والسرور ودفع اللم والحزن والغم والله سبحانه قادر على
تحصيل هذين المطلوبين ابتداء من غير شئ من الوسائط ومن كان قادرا
على تحصيل المطلوب ابتداء بغير واسطة كان توسله إلى تحصيله بالوسائط
عبثا وهو على الله محال قال أصحاب الحكمة عن هذه الشبهة أجوبة الجواب
الول أن يقال ل ريب إن الله على كل شئ قدير لكن ل يلزم إذا كان الشيء
مقدورا ممكنا أن تكون الحكمة المطلوبة لوجوده يمكن تحصيلها مع عدمه
فإن الموقوف على الشيء يمتنع حصوله بدونه كما يمتنع حصول البن بكونه
ابنا بدون الب فإن وجود الملزوم بدون لزمه محال والجمع بين الضدين
محال ول يقال فيلزم العجز لن المحال ليس بشيء فل تتعلق به القدرة
والله على كل شئ قدير فل يخرج ممكن عن قدرته البتة ،الجواب الثاني أن
دعوى كون توسط أحد المرين إذا كان شرطا أو سببا له عبث دعوى كاذبة
باطلة فإن العبث هو الذي ل فائدة فيه وأما توسط الشرط أو السبب أو
المادة التي يحدث فيها ما يحدثه فليس بعبث توضيحه ،الجواب الثالث أن
حصول العراض والصفات التي يحدثها الله سبحانه في موادها شروط
لحصول تلك المواد ول يتصور وجودها بدونها فتوسطها أمر ضروري ل بد منه
فينقلب عليكم دليلكم ونقول هل يقدر سبحانه على إيجاد تلك الحوادث بدون
توسط موادها الحاملة لها أول يمكن فإن قلتم يمكن ذلك كان توسطها عبثا
وإن قلتم ل يقدر كان تعجيزا فإن قلتم هذا فرض مستحيل والمحال ليس
بشيء قيل صدقتم وهذا جوابنا بعينه ،الجواب الرابع أن يقال إذا كان في
خلق تلك الوسائط حكم أخرى تحصل بخلقها للفاعل وفي خلقها مصالح
ومنافع لتلك الوسائط لم يكن توسطها عبثا ولم تكن الحكمة حاصلة بعدمها
260
كما أنه سبحانه إذا جعل رزق بعض خلقه في البخارات مثل فاقتضى ذلك أن
تخليق الصانع إلى من يحتاج فينتفع هؤلء بالصانع وهؤلء باليمن
) (24/15
ص -214-كان في ذلك مصلحة هؤلء وهؤلء وإذا تأملت الوجود رأيته قائما
بذلك شاهدا على منكري الحكمة فكم لله سبحانه في إحداث تلك الوسائط
من حكم ومصالح ومنافع للعباد لو بطلت تلك الوسائط لفاتت تلك الحكم
والمصالح ،الجواب الخامس قولك يلزم العبث وهو على الله محال فيقال إن
كان العبث عليه محال لزم أن ل يفعل ول يأمر إل لمصلحة وحكمة فبطل
قولك بقولك وإن لم يكن العبث عليه محال بطلت هذه الحجة فيتحقق
بطلنها على التقديرين ،الجواب السادس أن يقال ما المانع أن يفعل سبحانه
أشياء معللة وأشياء غير معللة بل مرادة لذاتها وإذا جاز هذا جاز أن يقال أن
هذه الوسائط غير معللة ول يمكنك نفي هذا القسم إل بأن تقول أن شيئا من
أفعاله غير معلل البتة وأنت إنما نفيت هذا بلزوم العبث في توسط تلك
المور ول يلزم من انتفاء التعليل في بعض الفعال انتفاؤه في الجميع فإنه ل
يجب أن يكون كل شيء لعلة فأنت نفيت جواز التعليل وغاية هذه الحجة لو
صحت أن تدل على أنه ل يجب في كل شيء أن يكون لعلة فلم يثبت الحكم
والدليل وهذا كما يقول الفقهاء مع قولهم بالتعليل أن من الحكام ما يفيد غير
معلل فهل قلت في الخلق كقولهم في المر وهذا إنما هو بطريق اللزام وإل
فالحق أن جميع أفعاله وشرعه لها حكم وغايات لجلها شرع وفعل وأن لم
يعلمها الخلق على التفصيل فل يلزم من عدم علمهم بها انتفاؤها في نفسها،
الجواب السابع أن غاية هذه الشبهة أن يكون سبحانه قادرا على تحصيل تلك
الحكم بدون تلك الوسائط كما هو قادر على تحصيلها بها وإذا كان المران
مقدوران له لم يكن العدول عن أحد المقدورين إلى الخر عبثا إل إذا كان
المقدور الخر مساويا لهذا من كل وجه ول يمكن عاقل أن يقول أن تعطيل
تلك الوسائط وعدمها مساو من كل وجه لوجودها وهذا من أعظم البهت
وأبطل الباطل وهو يتضمن القدح في الحس والعقل والشرع كما هو قدح
في الحكمة فإن من جعل وجود الرسل وعدمهم سواء
) (24/16
261
للنتقام والله يتعالى عن ذلك وكذلك سائر صفاته فكما أنه ليس كمثله شيء
في إرادته ورضاه وغضبه ورحمته وسائر صفاته فهكذا حكمته سبحانه ل
تماثل حكمة المخلوقين بل هي أجل وأعلى من أن يقال أنها تحصيل لذة أو
دفع حزن فالمخلوق لنقصه يحتاج أن يفعل ذلك لن مصالحه ل تتم إل به
والله سبحانه غني بذاته عن كل ما سواه ل يستفيد من خلقه كمال بل خلقهم
يستفيدون كمالهم منه ،الجواب التاسع أن يقال قد دل الوحي مع العقل على
أنه سبحانه يحب ويبغض أما الوحي فالقرآن مملوء من ذلك وأما العقل فما
نشاهد في العالم من إكرام أوليائه وأهل طاعته وإهانة أعدائه وأهل معصيته
شاهد لمحبته لهؤلء ورضاه
) (24/17
) (24/18
ذلك الوقت حاصل قبل أن أوجده فيلزم أن يقال أنه كان موجدا له قبل أن
لم يكن موجدا له وذلك محال وإن قلنا أن ذلك الغرض والمصلحة لم يكن
262
حاصل قبل ذلك الوقت وإنما حدث في ذلك الوقت فنقول حصول ذلك
الغرض في ذلك الوقت إما أن يكون مفتقرا إلى المحدث أو ل يفتقر فإن لم
يفتقر فقد حدث الشيء ل عن موجد ومحدث وهو محال وأن افتقر إلى
محدث فإن افتقر تخصص إحداث ذلك الغرض بذلك الوقت إلى غرض آخر
عاد التقسيم الول فيه ولزم التسلسل وإن لم يفتقر إلى رعاية غرض آخر
فحينئذ تكون موجدية الله سبحانه وخالقيته غنية عن الغراض والمصالح وهذا
هو المطلوب قالوا وهذه الحجة كما أنها قائمة في اختصاص العالم بذلك
الوقت المعين فهي قائمة في اختصاص كل حادث من الحوادث بوقته المعين
وملخصها أن إحداث الحادث في وقته إن كان لغرض فإن كان ذلك الغرض
حاصل قبله لزم حدوثه قبل حدوثه وإل افتقر إلى الحداث فإحداثه إن كان
لغرض تسلسل وإل ثبت المطلوب قال أهل الحكمة هذه الحجة بعينها
مذكورة في ضمن الحجة الثانية التي تقدمت وكأنكم يعجبكم التشييع بكره
الباطل وجميع ما أجبناكم به هناك فهو الجواب ههنا بعينه فغاية هذا أنه
تسلسل في الثار ل في المؤثرات وتسلسل في الحوادث المستقبلة وذلك
جائز بل واجب باتفاق المسلمين سوى قول حبهم والعلف وغاية المر أن
يكون في الحوادث
) (24/19
263
نعلم علما ضروريا إن خلود أهل النار فيها فعل الله ونعلم ضرورة أنه ل فائدة
في ذلك تعود إليه ول إلى المعذبين ول إلى غيرهم قالوا ويكفينا في ذلك
) (24/20
مناظرة الشعري لبي هاشم الجبائي حين سأله عن ثلثة إخوة مات أحدهم
مسلما قبل البلوغ وبلغ الخران فمات أحدهما مسلما والخر كافرا فاجتمعوا
عند رب العالمين فبلغ المسلم البالغ المرتبة العليا بعمله وإسلمه فقال أخوه
يا رب هل رفعتني إلى منزلة أخي المسلم فقال إنه عمل أعمال لم تعملها
فقال يا رب فهل أحييتني حتى أعمل مثل عمله قال علمت أن موتك صغيرا
خير لك إذ لو بلغت لكفرت فصاح الخ الثالث من أطباق الجحيم وقال يا رب
فهل أمتني صغيرا قبل البلوغ كما فعلت بأخي فما جوابه قال فانقطع الشيخ
ولم يذكر جوابا قال نفاة الحكمة وهذا قاطع في المسألة ل غبار عليه وقال
ما
ت وَ َ ماَوا ِ س َ ما ِفي ال ّ شاُء{ وقال} :ل ِل ّهِ َ ن يَ َ م ْم َح ُ شاُء وَي َْر َن يَ َم ْ ب َ تعالى} :ي ُعَذ ّ ُ
ّ َ َ َْ
ن
م ْ ه فَي َغْ ِ
فُر ل ِ َ م ب ِهِ الل ُسب ْك ُ ْ
حا ِفوه ُ ي ُ َ
خ ُ
م أو ت ُ ْ سك ُ ْف ِما ِفي أن ْ ُ دوا َ ن ت ُب ْ ُض وَإ ِ ْ
ِفي الْر ِ
َ ه عََلى ك ُ ّ
ل{ فرد فعَ ُ ما ي َ ْ
ل عَ ّسأ ُ{ }ل ي ُ ْ دير ٌ يٍء قَ ِش ْ ل َ شاُء َوالل ّ ُن يَ َ م ْب َ شاُء وَي ُعَذ ّ ُ
يَ َ
المر إلى محض مشيئته وأخبر أن صدور الشياء كلها عنها وقالوا وأصل
ضلل الخلق هو طلب تعليل أفعال الرب كما قال شيخ السلم في تائيته:
وأصل ضلل الخلق من كل فرقة هو الخوض في فعل الله بعلة
فإنهم لما طلبوا علة أفعاله فأعجزهم العلم بها افترقوا بعد ذلك فطائفة ردت
المر إلى الطبيعة والفلك التزمت مكابرة الحس والعقل وقالوا أن أهل
خلود النار في النار أنفع لهم وأصلح
) (24/21
ص -217-من كونهم في الجنة وأن إبقاء إبليس يغوي الخلق ويضلهم أنفع
لهم من إماتته وإن إماتة النبياء أصلح للمم من إبقائهم بينهم وأن تعذيب
الطفال خير لهم من رحمتهم إلى غير ذلك من المحالت التي قادهم إليها
الخوض في تعليل أفعال من ل يسأل عما يفعل فلذلك قلنا أن الصواب
القول بعدم التعليل وتخلصنا من الحبائل والشراك التي وقعتم فيها قال أهل
الحكمة ليست هذه السئلة والعتراضات التي قد جئتم بها في حكمة أحكم
الحاكمين بأقوى من السئلة والعتراضات التي قدح بها أهل اللحاد في
وجوده سبحانه وقد أقاموا أربعين شبهة تنفي وجوده وكذلك اعتراضات
المكذبين لرسله وقد حكيتم أنتم عنهم ثمانين اعتراضا وكذلك العتراضات
التي قدح بها المعطلة في إثبات صفات كماله قد علمتم شأنها وكبرها وكذلك
العتراضات التي نفي بها الجهمية علوه على خلقه واستواءه على عرشه
وتكلمه بكتبه وتكليمه لعباده وقد علمتم العتراضات التي اعترض بها أهل
الفلسفة على كونه خالقا للعالم في ستة أيام وعلى كونه يقيم الناس من
قبورهم ويبعثهم إلى دار السعادة أو الشقاء ويبدل هذا العالم ويأتي بغيره
واعتراضات هؤلء وأسئلتهم أضعاف اعتراضات نفاة الحكمة وغايات أفعاله
المقصودة وكذلك اعتراضات نفاة القدر وأسئلتهم إلى غير ذلك وقد اقتضت
حكمة أحكم الحاكمين أن أقام في هذا العالم لكل حق جاحدا ولكل صواب
264
معاندا كما أقام لكل نعمة حاسدا ولكل شر رائدا وهذا من تمام حكمته
الباهرة وقدرته القاهرة ليتم عليهم كلمته وينفذ فيهم مشيئته ويظهر فيهم
حكمته ويقضي بينهم بحكمه ويفاضل بينهم بعلمه ويظهر فيهم آثار صفاته
العليا وأسمائه الحسنى ويتبين لوليائه وأعدائه يوم القيامة أنه لم يخل
لحكمة ولم يخلق خلقه عبثا ول يتركهم سدا وأنه لم يخلق السماوات والرض
وما بينهما باطل وأن له الحمد التام الكامل على جميع ما خلقه وقدره وقضاه
وعلى ما أمر به ونهى عنه وعلى ثوابه وعقابه وأنه لم يضع من
) (24/22
َ
موا ِبالل ّهِ َ
جهْد َ س ُ ذلك شيئا إل في محله الذي ل يليق به سواه قال تعالى} :وَأقْ َ
قا ً ول َك َ َ
سل ن أ َك ْث ََر الّنا ِ ح ّ َ ِ ّ عدا ً عَل َي ْهِ َ ت ب ََلى وَ ْ
مو ُ ن يَ ُ م ْ
ه َ ث الل ّ ُ م ل ي َب ْعَ ُ مان ِهِ ْ أي ْ َ
ن{ كاُنوا َ
كاذِِبي َ م َ فُروا أن ّهُ ْ ن كَ َ
ذي َم ال ّ ِن ِفيهِ وَل ِي َعْل َ َ فو َ
خت َل ِ ُذي ي َ ْم ال ّ ِ ن ل َهُ ُ
ن ل ِي ُب َي ّ َمو َ ي َعْل َ ُ
وإذا تبين لهل الموقف ونفذ فيهم قضاؤه الفصل وحكمه العدل نطق الكون
مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ
ب ح ْل ال ْ َحقّ وَِقي َ م ِبال ْ َي ب َي ْن َهُ ْض َأجمعه بحمده كما قال تعالى} :قُ ِ
ن{ وجواب هذه السئلة من وجوه أحدها أن الحكمة إنما تتعلق مي َ ال َْعال َ ِ
بالحدوث والوجود والكفر والشرور وأنواع المعاصي راجعة إلى مخالفة نهي
الله ورسوله وترك ما أمر به وليس ذلك من متعلق اليجاد في شيء ونحن
إنما التزمنا أن ما فعله الله وأوجده فله فيه حكمة وغاية مطلوبة وأما ما
تركه سبحانه ولم يفعله فإنه وإن كان إنما تركه لحكمة في ذلك فلم يدخل
في كلمنا فل يرد علينا وقد قيل أن الشر ليس إليه بوجه فإنه عدم الخير
وأسبابه والعدم ليس بشيء كاسمه فإذا قلنا أن أفعال الرب تعالى واقعة
وغاية محمودة لم يرد علينا تركه يوضحه الجواب الثاني وهو أنه سبحانه قد
يترك ما لو خلقه لكان في خلقه له حكمة فيتركه لعدم محبته لوجوده أو
لكون وجوده يضاد ما هو أحب أو لستلزام وجوده فوات محبوب له آخر
وعلى هذا فتكون حكمته في عدم خلقه أرجح من حكمته في خلقه والجمع
بين الضدين مستحيل فرجح سبحانه أعلى الحكمتين بتفويت أدناهما وهذا
غاية الحكمة فخلقه وأمره مبني على تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة
بتفويت المرجوحة التي ل يمكن الجمع بينها وبين تلك الراجحة وعلى دفع
المفاسد
) (24/23
265
الله بعلمها كما قال للملئكة وقد سألوه عن ذلك أني أعلم ما ل تعلمون فمن
يقول بلزوم الحكمة لفعاله وأحكامه مطلقا ل يوجب مشاركة خلقه له في
العلم بها ،الجواب الخامس أن الله سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته ول في
صفاته ول في أفعاله وله في جميع ما ذكرتم وغيره حكمة ليست من جنس
الحكمة التي للمخلوقين كما أن فعله ليس مماثل فعلهم ول قدرته وإرادته
ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه مماثل لصفات المخلوقين ،الجواب السادس
أن الحكمة تابعة للعلم والقدرة فمن كان أعلم وأقدر كانت أفعاله أحكم
وأكمل والرب منفرد بكمال العلم والقدرة فحكمته بحسب علمه وقدرته كما
تقدم تقريره فحكمته متعلقة بكل ما تعلق به علمه وقدرته ،الجواب السابع
أن الدلة القاطعة قد قامت على أنه حكيم في أفعاله وأحكامه فيجب القول
بموجبها وعدم العلم بحكمته في الصور المذكورة ل يكون مسوغا لمخالفة
تلك الدلة القاطعة ل سيما وعدم العلم بالشيء ل يستلزم العلم بعدمه،
الجواب الثامن أن كماله المقدس يمنع خلو هذه الصور التي تقصيتم عن
الحكمة وكماله أيضا يأبى إطلع خلقه على جميع حكمته فحكمته تمنع إطلع
خلقه على جميع حكمته بل الواحد منا لو أطلع غيره على جميع
) (24/24
شأنه وأمره عد سفيها جاهل وشأن الرب أعظم من أن يطلع كل واحد من
خلقه على تفاصيل حكمته ،الجواب التاسع أنكم إما أن تعترفوا بأن له حكمة
في شيء من خلقه وأمره أو تنكروا أن يكون له في شيء من خلقه وأمره
حكمة فإن أنكرتم ذلك وما هو من الظالمين ببعيد كذبتم جميع كتب الله
ورسوله والعقل والفطرة والحسن وكذبتم عقولكم قبل تكذيب العقلء فإن
جحد حكمة الله الباهرة في خلقه وأمره بمنزلة جحد الشمس والقمر والليل
والنهار وغير مستنكر لكثير من الطوائف أهل الكلم المكابرة في جحد
الضروريات وإن أقررتم بحكمة في بعض خلقه وأمره قيل لكم فأي المرين
أولى به وجود تلك الحكمة أم عدمها فإن قلتم عدمها أولى من وجودها كان
هذا غاية الكذب والبهت والمحال وإن قلتم وجودها أكمل قيل فهل هو قادر
على تحصيلها في جميع خلقه وأحكامه أم غير قادر فإن قلتم غير قادر جئتم
بالعظيمة في العقل والدين وانسلختم من عقولكم وأذهانكم وإن قلتم بل هو
قادر على ذلك قيل فإذا كان قادرا على شيء وهو كمال في نفسه ووجوده
خير من عدمه وهو أولى به فكيف يجوز نفيه عنه فإن قلتم إنما نفياه لنا لم
نطلع على حقيقته قيل صدقتم والله سائلكم في جميع ما تنفونه عن الله إنما
طلع على حقيقته ولم تكتفوا بقبول قول الرسل مستندكم في نفيه عدم ال ّ
فصرتم إلى النفي ،الجواب العاشر أن العقلء قاطبة متفقون على أن الفاعل
إذا فعل أفعال ظهرت فيها حكمته ووقعت على أتم الوجوه وأوفقها للمصالح
المقصودة بها ثم إذا رأوا أفعاله قد تكررت كذلك ثم جاءهم من أفعاله ما ل
يعلمون وجه حكمته فيه لم يسعهم غير التسليم
) (24/25
266
ص -219-لما عرفوا من حكمته واستقر في عقولهم منها وردوا منها ما
جهلوه إلى محكم ما علموه هكذا نجد أرباب كل صناعة مع أستاذهم حتى أن
النفاة يسلكون هذا المسلك بعينه مع أئمتهم وشيوخهم فإذا جاءهم إشكال
على قواعد أئمتهم ومذاهبهم قالوا هم أعلم منا وهم فوقنا في كل علم
ومعرفة وحكمة ونحن معهم كالصبي مع معلمه وأستاذه فهل سلكوا هذا
السبيل مع ربهم وخالقهم الذي بهرت حكمته العقول وكان نسبتها إلى حكمته
أولى من نسبة عين الخفاش إلى جرم الشمس ولو أن العالم الفاضل المبرز
في علوم كثيرة أعرض على من ل يشاركه في صنعته ول هو من أهلها وقدح
في أوضاعها لخرج عن موجب العقل والعلم وعد ذلك نقصا وسفها فكيف
بأحكم الحاكمين وأعلم العالمين وأقدر القادرين ،الجواب الحادي عشر أن
الحكمة إنما تتم بخلق المتضادات والمتقابلت كالليل والنهار والعلو والسفل
والطيب والخبيث والخفيف والثقيل والحلو والمر والبرد واللم واللذة والحياة
والموت والداء والدواء فخلق هذه المتقابلت هو محل ظهور الحكمة الباهرة
ومحل ظهور القدرة القاهرة والمشيئة النافذة والملك الكامل التام فتوهم
تعطيل خلق هذه المتضادات تعطيل لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها
وذلك عين المحال فإن لكل صفة من الصفات العليا حكما ومقتضيات وأثرا
هو مظهر كمالها وإن كانت كاملة في نفسها لكن ظهور آثارها وأحكامها من
كمالها فل يجوز تعطيله فإن صفة القادر تستدعي مقدورا وصفة الخالق
تستدعي مخلوقا وصفة الوهاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدم
المؤخر المعز المذل العفو الرءوف تستدعي آثارها وأحكامها فلو عطلت تلك
الصفات عن المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه لم يظهر
كمالها وكانت معطلة عن مقتضياتها وموجباتها فلو كان الخلق كلهم مطيعون
عابدون حامدون لتعطل أثر كثير من الصفات العلى والسماء الحسنى وكيف
كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والنتقام والعز
) (24/26
والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الشياء منازلها وتضعها مواضعها فلو كان
الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحكم واليات والعبر والغايات المحمودة في
خلقهم على هذا الوجه وفات كمال الملك والتصرف فإن الملك إذا اقتصر
تصرفه على مقدور واحد من مقدوراته فإما أن يكون عاجزا عن غيره فيتركه
عجزا أو جاهل بما في تصرفه في غيره من المصلحة فيتركه جهل وأما أقدر
القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين فتصرفه في مملكته ل يقف على
مقدور واحد لن ذلك نقص في ملكه فالكمال كل الكمال في العطاء والمنع
والخفض والرفع والثواب والعقاب والكرام والهانة والعزاز والذلل
والتقديم والتأخير والضر والنفع وتخصيص هذا على هذا وإيثار هذا على هذا
ولو فعل هذا كله بنوع واحد متماثل الفراد لكان ذلك منافيا لحكمته وحكمته
تأباه كل الباء فإنه ل يفرق بين متماثلين ول يسوى بين مختلفين وقد عاب
على من يفعل ذلك وأنكر على من نسبه إليه والقرآن مملوء من عيبه على
من يفعل ذلك فكيف يجعل له العبيد ما يكرهون ويضربون له مثل السوء وقد
فطر الله عباده على إنكار ذلك من بعضهم على بعض وطعنهم على من
يفعله وكيف يعيب الرب سبحانه من عباده شيئا ويتصف به وهو سبحانه إنما
267
عابه لنه نقص فهو أولى أن يتنزه عنه وإذا كان ل بد من ظهور آثار السماء
والصفات ول يمكن ظهور آثارها إل في المتقابلت والمتضادات لم يكن في
الحكمة بد من إيجادها إذ لو فقدت لتعطلت الحكام بتلك الصفات وهو محال
يوضحه الوجه الثاني عشر أن من أسمائه السماء المزدوجة
) (24/27
) (24/28
نفاة الحكمة والتعليل القائلين بأنه يجوز عليه كل ممكن ول ينزه عن فعل
قبيح بل كل ممكن فإنه ل يقبح منه وإنما القبيح المستحيل لذاته كالجمع بين
النقيضين فيجوز عليه تعذيب ملئكته وأنبيائه ورسله وأهل طاعته وإكرام
إبليس وجنوده وجعلهم فوق أوليائه في النعيم المقيم أبدا ول سبيل لنا إلى
العلم باستحالة ذلك إل من نفى الخلف في خبره فقط فيجوز أن يأمر
بمشيئته ومشيئة أنبيائه والسجود للصنام وبالكذب والفجور وسفك ونهب
الموال وينهى عن البر والصدق والحسان والعفاف ول فرق في نفس المر
بين ما أمر به ونهى عنه إل التحكم بمحض المشيئة وأنه أمر بهذا ونهى عن
268
هذا من غير أن يكون فيما أمر به صفة حسن تقتضي محبته والمر به ول
فيما نهى عنه صفة قبح تقتضي كراهته والنهي عنه فهؤلء عطلوا حمده في
الحقيقة وأثبتوا له ملكا بل حمد مع أنهم في الحقيقة لم يثبتوا له ملكا فإنهم
جعلوه معطل في الزل والبد ل يقوم به فعل البتة وكثير منهم عطله عن
صفات الكمال التي ل يتحقق كونه ملكا وربا وإلها إل بها فل ملكا أثبتوا ول
حمدا الفرقة الثالثة أثبتوا له نوعا من الحمد وعطلوا كمال ملكه وهم القدرية
الذين أثبتوا نوعا من الحكمة ونفوا لجلها كمال قدرته فحافظوا على نوع من
الحمد عطلوا له كمال الملك وفي الحقيقة لم يثبتوا ل هذا ول هذا فإن
الحكمة التي أثبتوها جعلوها راجعة إلى المخلوق ل يعود إليه سبحانه حكمها
والملك الذي أثبتوه فإنهم في الحقيقة إنما قرروا نفيه لنفي قيام الصفات
التي ل يكون ملكا حقا إل بها ونفي قيام الفعال
) (24/29
) (24/30
269
خِبيُر{ فحمد مل الزمان والمكان م ال ْ َ كي ُ خَرةِ وَهُوَ ال ْ َ
ح ِ مد ُ ِفي اْل ِح ْ ه ال ْ َوَل َ ُ
ن وَل َ ُ
ه حو َ
صب ِ ُ
ن تُ ْ
حي َ
ن وَ ِ
سو َ
م ُن تُ ْ ن الل ّهِ ِ
حي َ حا َ سب ْ َوالعيان وعم القوال كلها} :فَ ُ
ن{ وكيف ل يحمد على ْ
ن ت ُظهُِرو َ ً َْ ال ْ َ
حي َ شي ّا وَ ِ ض وَعَ ِ ت َوالْر ِ ماَوا ِس َ
مد ُ ِفي ال ّ ح ْ
صن ْعَ الل ّ ِ
ه خلقه كله وهو الذي أحسن كل شيء خلقه وعلى صنعه وقد أتقنهُ } :
يٍء{ وعلى أمره وكله حكمة ورحمة وعدل ومصلحة وعلى ش ْ ل َ ن كُ ّ
ق َذي أ َت ْ َ ال ّ ِ
نهيه وكل ما نهى عنه شر وفساد وعلى ثوابه وكله رحمة وإحسان وعلى
عقابه وكله عدل وحق فلله الحمد كله وله الملك كله وبيده الخير كله وإليه
يرجع المر كله والمقصود أنه كلما كان الفاعل أعظم حكمة كان أعظم حمدا
وإذا عدم الحكمة ولم يقصدها بفعله وأمره عدم الحمد الوجه السادس عشر
أنه سبحانه يجب أن يشكر ويحب أن يشكر عقل وشرعا وفطرة فوجوب
شكره أظهر من وجوب شكره أظهر من وجوب كل واجب وكيف ل يجب
على العباد حمده وتوحيده ومحبته وذكر آلئه وإحسانه وتعظيمه وتكبيره
والخضوع له والتحدث بنعمته والقرار بها بجميع طرق الوجوب فالشكر أحب
شيء إليه وأعظم ثوابا وأنه خلق الخلق وأنزل الكتب وشرع الشرائع وذلك
يستلزم خلق السباب التي يكون الشكر بها أكمل ومن جملتها أن فاوت بين
عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة في خلقهم وأخلقهم وأديانهم وأرزاقهم
ومعايشهم وآجالهم فإذا رأى المعافى المبتلى والغني الفقير والمؤمن الكافر
عظم شكره لله وعرف قدر نعمته عليه وما خصه به وفضله به على غيره
فازداد شكرا وخضوعا واعترافا بالنعمة ،وفي أثر ذكره المام أحمد في
الزهد" :أن موسى قال يا رب هل سويت بين عبادك قال إني أحببت أن
أشكر" فإن قيل فقد كان
) (24/31
270
الجمال وكذلك لو كانوا كلهم مؤمنين لما عرف قدر اليمان والنعمة به
فتبارك من له في خلقه وأمره الحكم البوالغ والنعم السوابغ يوضحه الوجه
السابع عشر أنه سبحانه يجب أن يعبد بأنواع العبودية ومن أعلها وأجلها
عبودية الموالة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه والجهاد في سبيله
وبذل مهج النفوس في مرضاته ومعارضة أعدائه وهذا النوع هو ذروة سنام
العبودية وأعلى مراتبها وهو أحب أنواعها إليه وهو موقوف على ما ل يحصل
بدونه من خلق
) (24/32
الرواح التي تواليه وتشكره وتؤمن به والرواح التي تعاديه وتكفر به ويسلط
بعضها على بعض لتحصل بذلك محابه على أتم الوجوه وتقرب أوليائه إليه
لجهاد أعدائه ومعارضتهم فيه وإذللهم وكبتهم ومخالفة سبيلهم فتعلو كلمته
ودعوته على كلمة الباطل ودعوته ويتبين بذلك شرف علوها وظهورها ولو لم
يكن للباطل والكفر والشرك وجود فعلي أي شيء كانت كلمته ودعوته تعلو
فإن العلو أمر لشيء يستلزم غالبا ما يعلى عليه وعلو الشيء على نفسه
محال والوقوف على الشيء ل يحصل بدونه يوضحه الوجه الثامن عشر أن
من عبوديته العتق والصدقة واليثار والمواساة والعفو والصفح والصبر وكظم
الغيظ واحتمال المكاره ونحو ذلك مما ل يتم إل بوجود متعلقه وأسبابه فلول
لم تحصل عبودية العتق فالرق من أثر الكفر ولول الظلم والساءة والعدوان
لم تحصل عبودية الصبر والمغفرة وكظم الغيظ ولول الفقر والحاجة لم
تحصل عبودية الصدقة واليثار والمواساة فلو سوى بين خلقه جميعهم
لتعطلت هذه العبوديات التي هي أحب شيء إليه ولجلها خلق الجن والنس
ولجلها شرع الشرائع وأنزل الكتب وأرسل الرسل وخلق الدنيا والخرة وكما
أن ذلك من صفات كماله فلو لم يقدر السباب التي يحصل بها ذلك لغاب هذا
الكمال وتعطلت أحكام تلك الصفات كما مر توضيحه الوجه التاسع عشر أنه
سبحانه يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح يقدر أو يخطر ببال أو يدور
في خلد وحصول هذا الفرح موقوف على التوبة الموقوفة على وجود ما يتاب
منه
) (24/33
ص -223-وما يتوقف عليه الشيء ل يوجد بدونه فإن وجود الملزوم بدون
لزمه محال ول ريب أن وجود الفرح أكمل من عدمه فمن تمام الحكمة
تقدير أسبابه ولوازمه وقد نبه أعلم الخلق بالله على هذا المعنى بعينه حيث
يقول في الحديث الصحيح" :لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون
ثم يستغفرون فيغفر لهم" فلو لم يقدر الذنوب والمعاصي فلمن يغفر وعلى
من يتوب وعمن يعفو ويسقط حقه ويظهر فضله وجوده وحلمه وكرمه وهو
واسع المغفرة فكيف يعطل هذه الصفة أم كيف يتحقق بدون ما يغفر ومن
يغفر له ومن يتوب وما يتاب عنه فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي
والمخالفات إل هذا وحده لكفى به حكمة وغاية محمودة فكيف والحكم
والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر
271
بالبال وكان بعض العباد يدعو في طوافه اللهم اعصمني من المعاصي ويكرر
ذلك فقيل له في المنام أنت سألتني العصمة وعبادي يسألوني العصمة فإذا
عصمتكم من الذنوب فلمن أغفر وعلى من أتوب وعمن أعفو ولو لم تكن
التوبة أحب الشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه يوضحه الوجه
العشرون أنه قد يترتب على خلق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم
الباهرة واليات الظاهرة ما لم يكن يحصل بدون ذلك فلول كفر قوم نوح لما
ظهرت آية الطوفان وبقيت يتحدث بها الناس على ممر الزمان ولول كفر عاد
لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت ما مرت عليه ولول كفر قوم صالح
لما ظهرت آية إهلكهم بالصيحة ول كفر فرعون لما ظهرت تلك اليات
والعجائب يتحدث بها المم أمة بعد أمة واهتدى من شاء الله فهلك بها من
هلك عن بينه وحي بها من حي عن بينة وظهر بها فضل الله وعدله وحكمته
وآيات رسله وصدقهم فمعارضة الرسل وكسر حججهم ودحضها والجواب
عنها وإهلك الله لهم من أعظم أدلة صدقهم وبراهينه ولول مجيء المشركين
بالحد والحديد والعدد والشوكة يوم بدر لما حصلت تلك الية العظيمة التي
يترتب عليها من
) (24/34
اليمان والهدى والخير ما لم يكن حاصل مع عدمها وقد بينا أن الموقوف على
الشيء ل يوجد بدونه ووجود الملزوم بدون لزمه ممتنع فلله كم عمرت قصة
بدر من ربع أصبح آهل باليمان وقد فتحت لولي النهى من باب وصلوا منه
إلى الهدى واليقان وكم حصل بها من محبوب للرحمن وغيظ للشيطان وتلك
المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جدا بالنسبة إلى مصالحها
وحكمها وهي كمفسدة المطر إذا قطع المسافر وبل الثياب وخرب بعض
البيوت بالنسبة إلى مصلحة العامة وتأمل ما حصل بالطوفان وغرق آل
فرعون للمم من الهدى واليمان الذي غمر مفسدة من هلك به حتى تلشت
في جنب مصلحته وحكمته فكم لله من حكمة في آياته التي ابتلى بها أعداءه
وأكرم فيها أولياءه وكم له فيها من آية وحجة وتبصرة وتذكرة ولهذا أمر
َ سبحانه رسوله أن يذكر بها أمته فقال تعالى} :ول َ َ َ
ن
سى ِبآيات َِنا أ ْ مو َ سل َْنا ُ قد ْ أْر َ َ َ
ت ك َليا ٍ ن ِفي ذ َل ِ َ م ب ِأّيام ِ الل ّهِ إ ِ ّ ت إ َِلى الّنورِ وَذ َك ّْرهُ ْ ما ِ ن الظ ّل ُ َم َ ك ِم َج قَوْ َ خرِ ْ أَ ْ
َ
مجاك ُ ْم إ ِذ ْ أن ْ َ ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ م َ مهِ اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ قو ْ ِسى ل ِ َ مو َ ل ُ كورٍ وَإ ِذ ْ َقا َ ش ُصّبارٍ َ ل َ ل ِك ُ ّ
َ سوَء ال ْعَ َ
ساَءك ُ ْ
م ن نِ َ حُيو َ ست َ ْم وَي َ ْ ن أب َْناَءك ُ ْ حو َب وَي ُذ َب ّ ُ
ذا ِ م ُ مون َك ُ ْ سو ُ ن يَ ُ
ل فِْرعَوْ َ نآ ِ م ْ ِ
م{ فذكرهم بأيامه وإنعامه ونجاتهم من عدوهم ظي ٌ
م عَ ِ ُ
ن َرب ّك ْ م ْم َبلٌء ِ ُ
وَِفي ذ َل ِك ْ
وإهلكهم وهم ينظرون فحصل بذلك من ذكره وشكره ومحبته وتعظيمه
وإجلله ما تلشت فيه مفسدة إهلك البناء وذبحهم واضمحلت فإنهم صاروا
إلى النعيم وخلصوا من مفسدة العبودية لفرعون إذ كبروا وسومهم له سوء
العذاب وكان اللم الذي
) (24/35
272
أن يرى عباده ما هو من أعظم آياته وهو أن يربي هذا المولود الذي ذبح
فرعون ما شاء الله من الولد في طلبه في حجر فرعون وفي بيته وعلى
فراشه فكم في ضمن هذه الية من حكمة ومصلحة ورحمة وهداية وتبصرة
وهي موقوفة على لوازمها وأسبابها ولم تكن لتوجد بدونها فإنه ممتنع
فمصلحة تلك الية وحكمتها غمرت مفسدة ذبح البناء وجعلتها كأن لم تكن
وكذلك اليات التي أظهرها سبحانه على يد الكريم ابن الكريم ابن الكريم
ابن الكريم والعجائب والحكم والمصالح والفوائد التي في تلك القصة التي
تزيد على اللف لم تكن لتحصل بدون ذلك السبب الذي كان فيه مفسدة
حزونة يعقوب ويوسف ثم انقلبت تلك المفسدة مصالح اضمحلت في جنبها
تلك المفسدة بالكلية وصارت سببا لعظم المصالح في حقه وحق يوسف
وحق الخوة وحق امرأة العزيز وحق أهل مصر وحق المؤمنين إلى يوم
القيامة فكم جنى أهل المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ورسله من هذه القصة
من ثمرة وكم استفادوا بها من علم وحكمة وتبصرة وكذلك المفسدة التي
حصلت ليوب من مس الشيطان به بنصب وعذاب اضمحلت وتلشت في
جنب المصلحة والمنفعة التي حصلت له ولغيره عند مفارقة البلء وتبدله
بالنعماء بل كان ذلك السبب المكروه هو الطريق الموصل إليها والشجرة
التي جنيت ثمار تلك النعم منها وكذلك السباب التي أوصلت خليل الرحمن
إلى أن صارت النار عليه بردا وسلما من كفر قومه وشركهم وتكسيره
أصنامهم وغضبهم لها وإيقاد النيران العظيمة له وإلقائه فيها بالمنجنيق حتى
وقع في روضة خضراء في وسط النار وصارت آية وحجة وعبرة ودللة للمم
قرنا بعد قرن فكم لله سبحانه في ضمن هذه الية من حكمة بالغة ونعمة
سابغة ورحمة وحجة وبينة لو تعطلت تلك السباب لتعطلت هذه الحكم
والمصالح واليات وحكمته وكماله المقدس يأبى
) (24/36
ذلك وحصول الشيء بدون لزمه ممتنع وكم بين ما وقع من المفاسد الجزئية
في هذه القصة وبين جعل صاحبها إماما للحنفاء إلى يوم القيامة وهل تلك
المفاسد الجزئية إل دون مفسدة الحر والبرد والمطر والثلج بالنسبة إلى
ل{ ظلوم مصالحها بكثير ولكن النسان كما قال الله تعالى} :ظ َُلوما ً َ
جُهو ً
لنفسه جهول بربه وعظمته وجلله وحكمته وإتقان صنعه وكم بين إخراج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة على تلك الحال ودخوله إليها ذلك
الدخول الذي لم يفرح به بشر حبورا لله وقد اكتنفه من بين يديه ومن خلفه
وعن يمينه وعن شماله والمهاجرون والنصار قد أحدقوا به والملئكة من
فوقهم والوحي من الله ينزل عليه وقد أدخله حرمه ذلك الدخول فأين
مفسدة ذلك الخراج الذي كان كأن لم يكن ولول معارضة السحرة لموسى
بإلقاء العصي والحبال حتى أخذوا أعين الناس واسترهبوهم لما ظهرت آية
عصا موسى حتى ابتلعت عصيهم وحبالهم ولهذا أمرهم موسى أن يلقوا أول
ثم يلقي هو بعدهم ومن تمام ظهور آيات الرب تعالى وكمال اقتداره وحكمته
أن يخلق مثل جبريل صلوات الله وسلمه عليه الذي هو أطيب الرواح
العلوية وأزكاها وأطهرها وأشرفها وهو السفير في كل خير وهدى وإيمان
وصلح ويخلق مقابله مثل روح اللعين إبليس الذي هو أخبث الرواح وأنجسها
273
وشرها وهو الداعي إلى كل شر وأصله ومادته وكذلك من تمام قدرته
وحكمته أن خلق الضياء والظلم والرض والسماء والجنة والنار
) (24/37
) (24/38
َ َ
حّبوا
ن تُ ِ
سى أ ْ خي ٌْر ل َك ُ ْ
م وَعَ َ شْيئا ً وَهُوَ َهوا َ ن ت َك َْر ُ سى أ ْ م وَعَ َ ل وَهُوَ ك ُْرهٌ ل َك ُ ْ
قَتا ُال ْ ِ
َ
ن{. مو َ م ل ت َعْل َ ُ م وَأن ْت ُ ْ ه ي َعْل َ ُ
م َوالل ّ ُ شّر ل َك ُ ْ
شْيئا ً وَهُوَ ََ
وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب
يوضحه الوجه الثاني والعشرون أن العقلء قاطبة متفقون على استحسان
أتعاب النفوس في تحصيل كمالتها من العلم والعمل الصالح والخلق
الفاضلة وطلب محمدة من ينفعهم حمده وكل من كان أتعب في تحصيل
ذلك كان أحسن حال وأرفع قدرا وكذلك يستحسنون أتعاب النفوس في
تحصيل الغنى والعز والشرف ويذمون القاعد عن ذلك وينسبونه إلى دناءة
الهمة وخسة النفس وضعة القدر:
دع المكارم ل تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
274
وهذا التعب والكد يستلزم آلما وحصول مكاره ومشاق هي الطريق إلى تلك
الكمالت ولم يقدحوا بتحمل تلك في حكمة من يحملها ول يعدونه عائبا بل
هو العقل الوافر ومن أمر غيره به فهو حكيم في أمره ومن نهاه عن ذلك
فهو سفيه عدو له هذا في مصالح المعاش فكيف بمصالح الحياة البدية
الدائمة والنعيم المقيم كيف ل يكون المر بالتعب القليل في الزمن اليسير
الموصل إلى الخير الدائم حكيما رحيما محسنا ناصحا لمن يأمره وينهاه عن
ضده من الراحة واللذة التي تقطعه عن كماله ولذته ومسرته الدائمة هذا
إلى ما في أمره ونهيه من المصالح العاجلة التي بها سعادته وفلحه وصلحه
ونهيه عما فيه
) (24/39
) (24/40
من أمره ونهيه وتحليله وتحريمه أمره قوت وغذاء وشفاء ونهيه حمية وصيانة
فلم يأمر عباده بما أمرهم به حاجة منه إليهم ول عبثا بل رحمة وإحسانا
275
ومصلحة ول نهاهم عما نهاهم عنه بخل منه بخل عليهم بل حماية وصيانة عما
يؤذيهم ويعود عليهم بالضرر إن تناولوه فكيف يتوهم من له مسكة من عقل
خلوها من الحكم والغايات المحمودة المطلوبة لجلها ولهذا استدل كثير من
العقلء على النبوة بنفس الشريعة واستغنوا بها عن طلب المعجزة وهذا من
أحسن الستدلل فإن دعوة الرسل من أكبر شواهد صدقهم وكل من له
خبرة بنوع من أنواع العلوم إذا رأى حاذقا قد صنف فيه كتابا جليل عرف أنه
من أهل ذلك العلم بنظره في كتابه وهكذا كل من له عقل وفطرة سليمة
وخبرة بأقوال الرسل ودعوتهم إذا نظر في هذه الشريعة قطع قطعا نظير
القطع بالمحسوسات أن الذي جاء بهذه الشريعة رسول صادق وأن الذي
شرعها أحكم الحاكمين ولقد شهد لها عقلء الفلسفة بالكمال والتمام وأنه
لم يطرق العالم ناموس أكمل ول أحكم هذه شهادة العداء وشهد لها من
زعم أنه من الولياء بأنها لم تشرع لحكمة ول لمصلحة وقالوا أي حكمة في
اللزام بهذه التكاليف الشاقة المتعبة وأي مصلحة للمكلف في ذلك وأي
غرض للمكلف وما هي إل محض المشيئة المجردة من قصد غاية أو حكمة
ولو استحي هؤلء من العقلء لمنعهم الحياء من تسويد القلوب والوراق بمثل
ذلك وهل تركت الشريعة خيرا ومصلحة إل جاءت به وأمرت به وندبت إليه
وهل تركت شرا ومفسدة إل نهت عنه وهل تركت لمفرح أفراحا
) (24/41
ص -227-أو لمتعنت تعنتا أو لسائل مطلبا فمن أحسن من الله حكما لقوم
يوقنون وعند نفاة الحكم أنه يجوز عليه ضد ذلك الحكم من كل وجه وأنه ل
فرق بينه وبين ضده في نفس المر إل لمجرد التحكم والمشيئة فلوا اجتمعت
حكمة جميع الحكماء من أول الدهر إلى آخره ثم قيست إلى حكمة هذه
الشريعة الكاملة الحكيمة الفاضلة لكانت كقطرة من بحر وإنما نعني بذلك
الشريعة التي أنزلها الله على رسوله وشرعها للمة ودعاهم إليها ل الشريعة
المبدلة ول المؤولة ول ما غلط فيه الغالطون وتأوله المتأولون فإن هذين
النوعين قد يشتملن على فساد وشر بل الشر والفساد الواقع بين المة من
هاتين الشريعتين اللتين نسبتا إلى الشريعة المنزلة من عند الله عمدا أو خطأ
وإل فالشريعة على وجهها خير محض ومصلحة من كل وجه ورحمة وحكمة
ولطف بالمكلفين وقيام مصالحهم بها فوق قيام مصالح أبدانهم بالطعام
والشراب فهي مكملة للفطر والعقول مرشدة إلى ما يحبه الله ويرضاه ناهية
عما يبغضه ويسخطه مستعملة لكل قوة وعضو حركة في كماله الذي ل
كمال له سواه آمرة بمكارم الخلق ومعاليها ناهية عن دنيئها وسفسافها
واختصار ذلك أنه شرع استعمال كل قوة وكل عضو وكل حركة في كمالها
ول سبيل إلى معرفة كمالها على الحقيقة إل بالوحي فكانت الشرائع ضرورية
في مصالح الخلق وضرورتها له فوق كل ضرورة تقدر فهي أسباب موصلة
إلى سعادة الدارين ورأس السباب الموصلة إلى حفظ صحة البدن وقوته
واستفراغ أخلطه ومن لم يتصور الشريعة على هذه الصورة فهو من أبعد
الناس عنها وقد جعل الحكيم العليم لكل قوة من القوى ولكل حاسة من
الحواس ولكل عضو من العضاء كمال حسيا وكمال معنويا وفقد كماله
المعنوي شر من فقد كماله الحسي فكماله المعنوي بمنزلة الروح والحسي
276
بمنزلة الجسم فأعطاه كماله الحسي خلقا وقدرا وأعطاه كماله المعنوي
شرعا وأمرا فبلغ بذلك غاية السعادة والنتفاع بنفسه فلم يدع للحسان إليه
والعتناء
) (24/42
بمصالحه وإرشاده إليها وإعانته على تحصيلها إفراحا يفرحه ول شفاء يطلبه
بل أعطاه من ذلك ما لم يصل إليه إفراحه ول تدرك معرفته ويكفي العاقل
البصير الحي القلب فكرة في فرع واحد من فروع المر والنهي وهو الصلة
وما اشتملت عليه من الحكم الباهرة والمصالح الباطنة والظاهرة والمنافع
المتصلة بالقلب والروح والبدن والقوى التي لو اجتمع حكماء العالم قاطبة
واستفرغوا قواهم وأذهانهم لما أحاطوا بتفاصيل حكمها وأسرارها وغاياتها
المحمودة بل انقطعوا كلهم دون أسرار الفاتحة وما فيها من المعارف اللهية
والحكم الربانية والعلوم النافعة والتوحيد التام والثناء على الله بأصول
أسمائه وصفاته وذكر أقسام الخلقة باعتبار غاياتهم ووسائلهم وما في
مقدماتها وشروطها من الحكم العجيبة من تطهير العضاء والثياب والمكان
وأخذ الزينة واستقبال بيته الذي جعله إماما للناس وتفريغ القلب وإخلص
النية وافتتاحها بكلمة جامعة لمعاني العبودية دالة على أصول الثناء وفروعه
مخرجة من القلب اللتفات إلى ما سواه والقبال على غيره فيقدم بقلبه
الوقوف بين يدي عظيم جليل أكبر من كل شيء وأجل من كل شيء وأعظم
من كل شيء بل سبب في كبريائه السماوات وما أظلت والرض وما أقلت
والعوالم كلها عنت له الوجوه وخضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة قاهر
عباده ناظر إليهم عالم بما تكن صدورهم يسمع كلمهم ويرى مكانهم ل
يخفى عليه خافية من أمرهم ثم أخذ في تسبيحه وحمده وذكر تبارك اسمه
وتعالى جده وتفرده باللهية ثم أخذ في الثناء عليه بأفضل ما يثنى عليه به
من حمده وذكر ربوبيته للعالم وإحسانه إليهم
) (24/43
277
على من يستحق الغضب بربوبيته وحكمته وينعم ويرحم ويجود ويعفو ويغفر
ويهدي ويتوب برحمته فلله كم في هذه السورة من أنواع المعارف والعلوم
والتوحيد وحقائق اليمان ثم يأخذ بعد ذلك في تلوة ربيع القلوب وشفاء
الصدور ونور البصائر وحياة الرواح وهو كلم رب العالمين فيحل به في ما
شاء من روضات مونقات وحدائق معجبات زاهية أزهارها مونقة ثمارها قد
ذللت قطوفها تذليل وسهلت لمتناولها تسهيل فهو يجتني من تلك الثمار خيرا
يؤمر به وشرا ينهى عنه وحكمة وموعظة وتبصرة وتذكرة وعبرة وتقريرا
لحق ودحضا لباطل وإزالة لشبهة وجوابا عن مسألة وإيضاحا لمشكل وترغيبا
في أسباب فلح وسعادة وتحذيرا من أسباب خسران وشقاوة ودعوة إلى
هدى ورد عن ردي فتنزل على القلوب نزول الغيث على الرض التي ل حياة
لها بدونه ويحل منها محل الرواح من أبدانها فأي نعيم وقرة عين ولذة قلب
) (24/44
) (24/45
ص -229-دام كذلك من حين خلق إلى أن يموت لما أدى حق ربه عليه ثم
أمر أن يسبح ربه العلى فيذكر علوه سبحانه في حال سفوله وهو وينزهه
عن مثل هذه الحال وأن من هو فوق كل شيء وعال على كل شيء ينزه
عن السفول بكل معنى بل هو العلى بكل معنى من معاني العلو ولما كان
هذا غاية ذل العبد وخضوعه وانكساره كان أقرب ما يكون الرب منه في هذه
الحال فأمر أن يجتهد في الدعاء لقربه من القريب المجيب وقد قال تعالى:
278
ب{ وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود والتوطئة له جد ْ َواقْت َرِ ْ
س ُ
}َوا ْ
فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه وأرفع شأنا وفصل بينهما بركن
مقصود في نفسه يجتهد فيه بالحمد والثناء والتمجيد وجعل بين خضوع
خضوع قبله وخضوع بعده وجعل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والمجد
كما جعل خضوع الركوع بعد ذلك فتأمل هذا الترتيب العجيب وهذا التنقل في
مراتب العبودية كيف ينتقل من مقام الثناء على الرب بأحسن أوصافه
وأسمائه وأكمل محامده إلى من له خضوعه وتذلله أن له هذا الثناء
ويستصحب في مقامه خضوعه بما يناسب ذلك المقام ويليق به فتذكر
عظمة الرب في حال خضوعه وعلوه في حال سفوله ولما كان أشرف أذكار
الصلة القرآن شرع في أشرف أحوال النسان وهي هيئة القيام التي قد
انتصب فيها قائما على أحسن هيئة ولما كان أفضل أركانها الفعلية السجود
شرع فيها بوصف التكرار وجعل خاتمة الركعة وغايتها التي انتهت إليها
مطابق افتتاح الركعة بالقرآن واختتامها بالسجود أول سورة افتتح بها الوحي
فإنها بدئت بالقراءة وختمت بالسجود وشرع له بين هذين الخضوعين أن
يجلس جلسة العبيد ويسأل ربه أن يغفر له ويرحمه ويرزقه ويهديه ويعافيه
وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه وآخرته ثم شرع له تكرار هذه الركعة مرة
بعد مرة كما شرع تكرار الذكار والدعوات مرة بعد مرة ليستعد بالول
لتكميل ما بعده ويجبر بما بعده ما قبله وليشبع القلب من هذا الغذاء وليأخذ
رواه ونصيبه وافرا من الدواء
) (24/46
ليقاومه فإن منزلة الصلة من القلب منزلة الغذاء والدواء فإذا تناول الجائع
الشديد الجوع من اللقمة أو اللقمتين كان غناؤها عنه وسدها من جوعه
يسيرا جدا وكذلك المرض الذي يحتاج إلى قدر يغني من الدواء إذا أخذ منه
المريض قيراطا من ذلك لم يزل مرضه بالكلية وأزال بحسبه فما حصل
الغذاء أو الشفاء للقلب بمثل الصلة وهي لصحته ودوائه بمنزلة غذاء البدن
ودوائه ثم لما أكمل صلته شرع له أن يقعد قعدة العبد الذليل المسكين
لسيده ويثني عليه بأفضل التحيات ويسلم على من جاء بهذا الحظ الجزيل
ومن نالته المة على يديه ثم يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله
المشاركين له في هذه العبودية ثم يتشهد شهادة الحق ثم يعود فيصلي على
من علم المة هذا الخير ودلهم عليه ثم شرع له أن يسأل حوائجه ويدعو بما
أحب ما دام بين يدي ربه مقبل عليه فإذا قضى ذلك أذن له في الخروج منها
بالتسليم على المشاركين له في الصلة هذا إلى ما تضمنته الحوال
والمعارف من أول المقامات إلى آخرها فل تجد منزلة من منازل السير إلى
الله ول مقاما من مقامات العارفين إل وهو في ضمن الصلة وهذا الذي
ذكرناه من شأنها كقطرة من بحر فكيف يقال أنها تكليف محض لم يشرع
لحكمة ول لغاية قصدها الشارع بل هي محض وكلفة ومشقة مستندة إلى
محض المشيئة ل لغرض ول لفائدة البتة بل مجرد قهر وتكليف وليست سببا
لشيء من مصالح الدنيا والخرة ثم تأمل أبواب الشريعة ووسائلها وغاياتها
كيف
279
) (24/47
) (24/48
ومناجاته والوقوف بين يديه طاهر البدن والثوب والقلب فأي حكمة ورحمة
ومصلحة فوق هذا ولما كانت الشهوة تجري في جميع البدن حتى أن تحت
كل شعرة شهوة سرى غسل الجنابة إلى حيث سرت الشهوة كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم" :إن تحت كل شعرة جنابة" فأمر أن يوصل الماء إلى
أصل كل شعرة فيبرد حرارة الشهوة فتسكن النفس وتطمئن إلى ذكر الله
وتلوة كلمه والوقوف بين يديه فوالله لو أن أبقراط ودونه أوصوا بمثل هذا
لخضع أتباعهم لهم فيه وعظموهم عليه غاية التعظيم وأبدوا له من الحكم
والفوائد ما قدروا عليه ثم لما كان العبد خارج الصلة مهمل جوارحه قد
أسامها في مراتع الشهوات والحظوظ أمر العبودية بجميع جوارحه كلها على
ربه بحظها من عبوديته فيسلم قلبه وبدنه وجوارحه وحواسه وقواه لربه عز
وجل واقفا بين مقبل بكله عليه معرضا عمن سواه متنصل من إعراضه عنه
280
وجنايته على حقه ولما كان هذا طبعه وذاته أمران يجدد هذا الركوع إليه
والقبال عليه وقتا بعد وقت لئل يطول عليه المد فينسى ربه وينقطع عنه
بالكلية وكانت الصلة من أعظم نعم الله عليه وأفضل هداياه التي ساقها إليه
فأبى نفاة الحكمة إل جعلها كلفة وعناء وتعبا ل لحكمة ول لمصلحة البتة إل
مجرد القهر والمشيئة وقد فتح ذلك الباب فساق الشريعة كلها من أولها إلى
آخرها هذا المساق واستدل بما ظهر لك على ما خفي عنك ولعل الحكمة
فيما لم تعلمه أعظم منها فيما علمته فإن الذي علمته على قدر عقلك
وفهمك وما خفي عنك فهو فوق
) (24/49
ص -231-عقلك وفهمك ولو تتبعنا تفصيل ذلك لجاء عدة أسفار فيكتفي منه
بأدنى بينة والله المستعان ،الوجه الثالث والعشرون أن هذه الجمادات
والحيوانات المختلفة الشكال والمقادير والصفات والمنافع والقوى والغذية
والنباتات التي هي كذلك فيها من الحكم والمنافع ما قد أكثرت المم في
وصفه وتجربته على ممر الدهور ومع ذلك فلم يصلوا منه إل إلى أيسر شيء
وأقله بل لو اتفق جميع المم لم يحيطوا علما بجميع ما أودع واحد من ذلك
النوع من الحكم والمصالح هذا إلى ما في ضمن ذلك من العتبار والدللة
الظاهرة على وجود الخالق ومشيئته واختياره وعلمه وقدرته وحكمته فإن
المادة الواحدة ل تحتمل بنفسها هذه الصورة الغريبة والشكال المتنوعة
والمنافع والصفات ولو تركبت مع غيرها فليس حدوث هذه النواع والصور
بنفس التركيب أيضا ول هو مفيض له فحصول هذا التنوع والتفاوت والختلف
في الحيوان والنبات من أعظم آيات الرب تعالى ودلئل ربوبيته وقدرته
وحكمته وعلمه وأنه فعال لما يريد اختيارا ومشيئة فتنويع مخلوقاته وحدوثها
شيئا بعد شئ من أظهر الدللت وتأمل كيف أرشد القرآن إلى ذلك في غير
ب وََزْرعٌ موضع كقوله تعالى} :وفي اْل َرض قط َع متجاورات وجنات م َ
ن أعَْنا ٍ ْ ِ ِ ٌ ُ َ َ َِ ٌ َ َ ّ ٌ ِ ْ َ ِ
ض ِفي ع ب لىَ َ ع ها ض ع ب
َ ٍ َُ ّ َْ َ َ لُ ض َ ف ن و د ح
ِ وا ٍ ءما ب قى َ سصن ْ َ ٍ ُ ْ
ي ن وا ن وَغَي ُْر ِ وا ٌ صن ْ َ
ل ِ خي ٌ وَن َ ِ
َْ ٍ ِ َ
ُ
ق ْ ُ َ ن ِفي ذ َل ِ َ اْلك ُ ِ
خل ِ ن ِفي َ ن{ وقوله تعالى} :إ ِ ّ قلو َ قوْم ٍ ي َعْ ِ ت لِ َ ك ليا ٍ ل إِ ّ
ماحرِ ب ِ َ ري ِفي ال ْب َ ْ ج ِ ك ال ِّتي ت َ ْ فل ْ ِ ل َوالن َّهارِ َوال ْ ُ ف الل ّي ْ ِ خِتل ِ ض َوا ْ ِ ت َواْل َْر ماَوا ِ س َ ال ّ
َ ْ َ ّ َ
ثموْت َِها وَب َ ّ ض ب َعْد َ َ حَيا ب ِهِ الْر َ ماٍء فَأ ْ ن َ م ْماِء ِ س َن ال ّ م َ ه ِ ل الل ُ ما أن َْز َ س وَ َ فعُ الّنا َ ي َن ْ َ
ض َ ْ ْ نك ُّ
ماِء َوالْر ِ س َ ن ال ّ خرِ ب َي ْ َس ّم َ ب ال ُ حا ِس َ ف الّرَياِح َوال ّ ري ِ ص ِل َداب ّةٍ وَت َ ْ م ْ ِفيَها ِ
ن{ وقوله: قلو َ ُ قوْم ٍ ي َعْ ِ ت لِ َ َليا ٍ
) (24/50
281
المادة على الختلف فيما وراء ذلك من أعضائها وأشكالها وقواها وأفعالها
وأغذيتها ومساكنها فنبه على الشتراك والختلف فيشير إلى يسير منه
فالطير كلها تشترك في الريش والجناح وتتفاوت فيما وراء ذلك أعظم
تفاوت واشتراك ذوات الحوافر في الحافر كالفرس والحمار والبغل وتفاوتها
في ما وراء ذلك واشتراك ذوات الظلف في الظلف وتفاوتها في غير ذلك
واشتراك ذوات القرون فيها وتفاوتها في الخلق والمنافع والشكال واشتراك
حيوانات الماء في كونها سابحة تأوي فيها وتتكون فيها وتفاوتها أعظم تفاوت
عجز البشر إلى الن عن حصره واشتراك الوحوش في البعد عن الناس
والتفاوت عنهم وعن مساكنهم وتفاوتها في صفاتها وأشكالها وطبائعها
وأفعالها أعظم تفاوت يعجز البشر عن حصره واشتراك الماشي منها على
بطنه في ذلك وتفاوت نوعه واشتراك الماشي على رجلين في ذلك وتفاوت
نوعه أعظم تفاوت وكل من هذه النواع له علم وإدراك وتحيل على جلب
مصالحه ودفع مضاره يعجز كثير منها نوع النسان فمن أعظم الحكم الدللة
الظاهرة على معرفة الخالق الواحد المستولي بقوته
) (24/51
وقدرته وحكمته على ذلك كله بحيث جاءت كلها مطيعة منقادة منساقة إلى
ما خلقها له على وفق مشيئته وحكمته وذلك أدل شيء على قوته
282
) (24/52
إله لها غيره ول معبود لها سواه فتأمل كيف دل اختلف الموجودات وثباتها
واجتماعها فيما اجتمعت فيه وافتراقها فيما افترقت على إله واحد ورب واحد
ودلت على صفات كماله ونعوت جلله فالموجودات بأسرها كعسكر واحد له
ملك واحد وسلطان واحد يحفظ بعضه ببعض وينظم مصالح بعضه ببعض
ويسد خلل بعضه ببعض فيمد هذا بهذا ويقوي هذا بهذا وينقص من هذا فيزيده
في الخر يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت
ويخرج الميت من الحي ويبيد هذا فينشي مكانه من جنسه ما يقوم مقامه
ويسد مسده فيشهد حدوث الثاني أن الذي أحدثه وأوجده هو الذي أحدث
الول ل غيره وأن حكمته لم تتغير وعلمه لم ينقص وقدرته لم تضعف وأنه ل
يتغير بتغيير ما يغير منها ول يضمحل باضمحلله ول يتلشى بتلشيه بل هو
الحي القيوم العزيز الحكيم هذا إلى ما في لوازم مكبرها وانتظام بعضها
ببعض وما يصدر عنها من الفعال والثار من حكم وأفعال أخرى وغايات أخر
حكمها حكم موادها وحواملها كما نشاهده في أشخاصها وأعيانها مثال ذلك
في أحدوثة واحدة إنك ترى المعدة تشاق الغذاء وتجتذبه إليها فانظر لوازم
ذلك قبل تناوله ولوازمه بعد تناوله وما يترتب على تلك اللوازم من عمارة
الدنيا فإذا جذبته إليها أنضجته وطبخته كما تنضج القدر ما فيها فتنضجه
النضاج الذي تعده لتغذي أجزاء البدن وقواه وأرواحه به وهي إذا أنضجته
لجل نصيبها الذي ينالها منه فهو قليل من كثير بالنسبة إلى انتفاع غيرها به
فيدفع ما فضل عن غذائها عنها إلى من هو شديد الحاجة إليه على قدر حاجته
من غير أن يقصد ذلك أو يشعر به ولكن قد قصده وأحكمه من هو بكل شيء
عليم وعلى كل شيء قدير يدبره بحكمته ولطفه وساقه في المجاري التي ل
ينفذ
) (24/53
ص -233-فيها البر لدقة مسالكها حتى أوصله إلى المحتاج إليه الذي ل
صلح له إل بوصوله إليه وكانت طبيعة الكبد ومزاجها في ذلك تلي طبيعة
المعدة وفعلها يلي فعلها وكذلك المعاء وباقي العضاء كالكبد للقلب في
أعداد الغذاء والقلب للرئة والرئة للقلب في أعداد الهواء وإصلحه فالعضاء
الموجودة في الشخص إذا تأملتها وتأملت أفعالها ومنافعها وما تضمنه كل
واحد منها من حكمة اختصت به كشكله ووصفه ومزاجه ووضعه من الشخص
بذلك الموضع المعين علمت علما يقينا أن ذلك صادر عن خالق واحد ومدبر
واحد وحكيم واحد فانتقل من هذا إلى أشخاص العالم شخصا شخصا من
النوع النساني تجد الحكمة الواحدة الظاهرة في تلك الفراد الكثيرة قد
نفعت بعضهم بعض وأعانت بعضهم ببعض حراثا لزارع وزراعا لحاصد وحائكا
لخياط وخياطا لنجار ونجارا لبناء فهذا يعين هذا بيده وهذا برجله وهذا يعينه
بعينه وهذا بإذنه وهذا بلسانه وهذا بماله وإذ ل يقدر أحدهم على جميع
مصالحه ول يقوم بحاجاته ول توجد في كل واحد منهم جميع خواص نوعه
فهم بأشخاصهم الكثير كإنسان واحد يقوم بعضه بمصالح بعض قد كمل
283
خواص النسانية في صفاته وأفعاله وصنائعه وما يراد منه فإن الواحد منهم ل
يفي بأن يجمع جميع الفضائل العلمية والعملية والقوة والبقاء فجعل ذلك في
النوع النساني بجملته والله سبحانه وقد فرق كمالت النوع في أشخاصه
وجعل لكل شخص منها ما هو مستعد قابل له بحيث لو قيل أكثر من ذلك
لعطاه فإنه جواد لذاته قد فاض جوده وخيره على العالم كله وفضل عنه
أضعاف ما فاض عليه فهو يفيضه على تعاقب النات أبدا وكذلك يفضل في
الجنة فضل عن أهلها فينشئ لها خلقا يسكنهم فضلها وإنما يتخصص فضله
بحسب استعداد العوامل والمعدات وذلك بمشيئته وحكمته فهو الذي أوجدها
وهو الذي أعدها
) (24/54
وهو الذي أمدها ولما كان جوده وفضله أوسع من حاجة الخلق لم يكن بد من
بقاء كثير منه مبذول في الوجود مهمل وهذا كضوء الشمس مثل فإن مصالح
الحيوان ل تتم إل به وهي تشرق على مواضع فضلت عن حوائج بني آدم
والحيوان وكذلك المطر والنبات وسائر النعم ومع ذلك فلم يعطل وجودها
عن حكم ومصالح وعبر ودللت وعطاء الرب ونعمه أوسع من حوائج خلقه
فل بد أن يبقى في المياه والقوات والنبات وغير ذلك أجزاء مهملة ول يقال
ما الحكمة في خلقها فإن هذا سؤال جاهل ظالم فإن الحكمة في خلق
الرض وما عليها ظاهرة لكل بصير والمعمور بعضها ل كلها والرب تعالى
واسع الجود دائمه فجوده وخيره عام دائم فل يكون إل كذلك فإن ذلك من
لوازم علمه وقدرته وحكمته ولعلمه وقدرته وحكمته العموم والشمول
والكمال المطلق بكل اعتبار فيعلم من استقراء العالم وأحواله انتهاؤه إلى
عالم واحد وقادر واحد وحكيم واحد أتقن نظامه أحسن التقان وأوجده على
أتم الوجود وهو سبحانه ناظم أفعال الفاعلين مع كثرتها ورابط بعضها ببعض
ومعين بعضها ببعض وجاعل بعضها سببا لبعض وغاية لبعض وهذا من أدل
الدليل على انه خالق واحد ورب واحد وقادر واحد دل على قدرته كثرة
أفعاله وتنوعها في الوقت الواحد وتعاقبها على تتالي النات وتعين تصرفاته
في مخلوقاته على كثرتها ودل على علمه وحكمته كون كل شيء كبير
وصغير ودقيق وجليل داخل في النظام الحكمي ليس منها شيء حتى مسام
الشعر في الجلد ومراشح اللعاب في الفم ومجاري الشعب الدقيقة من
العروق في أصغر الحيوانات التي تعجز عنها أبصارنا ول تنالها قدرتنا وهذا
فيما دق لصغره وفيما جل لعظمه كالرياح الحاملة للسحب إلى الرض
) (24/55
ص -234-الجرز التي ل نبات بها فيمطرها عليها فيخرج بها نباتا ويحيي بها
حيوانا ويجعل فيها جزأين من الطعام والشراب والقوات والدوية دع ما فوق
ذلك من تسخير الشمس والقمر والنجوم واختلف مطالعها ومغاربها لقامة
دولة الليل والنهار وفصول العام التي بها نظام مصالح من عليها فإذا تأملت
العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع عباده فالسماء سقفه والرض
بساطه والنجوم زينته والشمس سراجه ومصالح سكانه والليل سكنهم
284
والنهار معاشهم والمطر سقياهم والنبات غذاؤهم ودواهم وفاكهتهم والحيوان
خدمهم ومنه قوتهم ولباسهم والجواهر كنوزهم وذخائرهم كل شيء منها لما
يصلح له فضروب النبات لجميع حاجاتهم وصنوف الحيوانات معدة لجميع
مصالحهم وذلك أدل دليل على وحدانية خالقه وقدرته فلم يكن لون السماء
أزرق اتفاقا بل لحكمة باهرة فإن هذا اللون أشد اللوان موافقة للبصر حتى
أن في وصف الطباء لمن أصابه ما أضر ببصره أو كلم بصره إدمان النظر
إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد فجعل أحكم الحاكمين أديم السماء
بهذا اللون ليمسك البصار الراجعة فل ينكأ فيها فهذا الذي أدركه الناس بعد
الفكر والتجربة قد وجد مفروغا منه في الخلقة ولم يكن طلوع الشمس
وغروبها على هذا النظام لغير علة ول حكمة مطلوبة فكم من حكمة ومصلحة
في ذلك من إقامة الليل والسكن فيه والنهار والمعاش فيه فلو جعل الله
عليهم الليل سرمدا لتعطلت مصالحهم وأكثر معايشهم والحكمة في طلوعها
أظهر من أن تنكر ولكن تأمل الحكمة في غروبها إذ لول ذلك لم يكن للناس
هدوء ول قرار ول راحة وكان الكد الدائم بتكافؤ أبدانهم وتسرع فسادها وكان
ما على الرض يحرق بدوام شروق الشمس من حيوان ونبات فصار النور
والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلح العالم
) (24/56
) (24/57
285
ص -235-إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل فإنه مع الحاجة إلى الليل
وظلمته لهدوء الحيوان وبرد الهواء عليه وعلى النبات لم يجعل ظلما محضا
ل ضياء فيه فل يمكن فيه سفر ول عمل وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل
لضيق الوقت عليهم في النهار ولشدة الحر فيتمكنون في ضوء القمر من
أعمال كثيرة وجعل نوره باردا ليقاوم حرارة نور الشمس فبرد سمومه
فيعتدل المر ويكسر كيفية كل منهما كيفية الخر ويزيل ضررها وكذلك
الحكمة في خلق النجوم فإن فيها من الهداية في البر والبحر والستدلل
على الوقات وزينة السماء وغير ذلك ما لم يكن حاصل بمجرد التفاق كما
يقوله نفاة الحكمة واقتضت هذه الحكمة أن جعلت نوعين نوعا منها يظهر
وقتا ويحتجب آخر ونوعا آخر ل يزال ظاهرا غير محتجب بل جعل ظاهرا
بمنزلة العلم التي يهتدي بها الناس في الطرقات المجهولة وهم ينظرون
إليها متى أرادوا ويهتدون بها إلى حيث شاؤا وجعلت الحكمة في النوع الول
الستدلل بظهوره على أمور تعاديه متى طلع في وقت يعني دل على تلك
المور فقامت المصلحة والحكمة بالنوعين مع ما في خلقها من حكم أخرى
ومصالح ل يهتدي إليها العباد فما خلق الله شيئا سدى وقد نظم الله سبحانه
الحوادث الرضية بالزواج والجرام العلوية أكمل نظام يعجز عقول البشر
عن الحاطة ببعضه وقد استفرغت المم السابقة قوى أذهانها في إدراك ذلك
فلم يصل منه إل إلى مال نسبة له إلى ما خفي عليها بوجه ما وقد جعل
الخلق العليم سبحانه النجوم فرقتين فرقة منها لزمة مراكزها من الفلك ول
تسير إل بسيره وفرقة أخرى مطلقة تنتقل في البروج وتسير بأنفسها غير
سير فلكها فلكل منها مسيران مختلفان أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب
والخر خاص لنفسه نحو المشرق وقد شبه هذا النوع بنملة تدب على رحا
) (24/58
والرحا تدور ذات اليمين والنملة تدور ذات الشمال فللنملة في تلك الحال
حركتان مختلفتان أحداهما حركة بنفسها تتوجه أمامها والخرى بغيرها هي
مقهورة عليها تبعا للرحى تجذبها إلى خلفها فلهذا النوع من النجوم حركتان
مختلفتان على وزن وتقدير ل يعدوه فزعم نفاة الحكمة أن ذلك أمر اتفاقي
ل لحكمة ول لغرض مقصود فإن قلت فما الغرض المقصود بذلك وأي حكمة
فيه قيل استدل بما عرفت من الحكمة على ما خفي عنك منها ول تجعل ما
خفي عليك دليل على بطلنها مع أن من بعض الحكم في ذلك أنها لو كانت
كلها راتبة لبطلت الدللت التي تكون من تنقل المتنقل منها ومسيرها في
كل واحد من البروج كما يستدل على أمور كثيرة وحوادث جمة بتنقل
الشمس والقمر والسيارات في منازلها ولو كانت كلها متنقلة لم يكن
لمسيرها منازل تعرف ول رسم يقاس عليه فإنه إنما يقاس مسير المنتقلة
منها بتنقلها في البروج الراتبة كما يقاس سير السائر على الرض بالمنازل
التي يقطعها وبالجملة فلو كانت كلها بحال واحدة لبطل النظام الذي اقتضته
الحكمة التي جعلها هكذا فذلك تقدير العزيز العليم وصنع الرب الحكيم وكيف
يرتاب ذو بصيرة أن ذلك كله تقدير مقدر حكيم أتقن ما صنعه وأحكم ما دبره
ويعرف بما فيه من الحكم والمصالح والمنافع إلى خلقه فشدت العقول
286
والفطر بأنه ذو الحكمة الباهرة والقدرة القاهرة والعلم التام المحيط وأنه لم
يخلق ذلك باطل ول من الحكمة عاطل وكذلك الحكمة في تعاقب الحر والبرد
على التدريج على أبدان الحيوان والنبات فإن قيامهما وكمالهما لما كان بذلك
اقتضت الحكمة اللهية أن ل يدخل أحدهما على الخر وهلة فل يتحمله بل
بالتدريج قليل قليل إلى أن ينتهي منتهاه ويحصل المقصود به من غير ضرر
يعم وهذا كله بأسباب هي
) (24/59
) (24/60
المصالح والعبر فإنه حياة هذه البدان وقوامها من خارج ومن داخل وفيه
طرد هذه الصوات فيؤديها إلى السامع وهو الحامل لهذه الراييح يؤديها إلى
المسام وينقلها من موضع إلى موضع وهو الذي يزجي السحاب ويسوقه من
مكان إلى مكان على ظهره كالروايا على ظهور البل وهو الذي يسير
السحاب أول فيكون كسفا متفرقة فيؤلف بينه ثانيا فيصير طبقا واحدا ثم
يلقحه ثالثا كما يلقح الفحل النثى فيحمل الماء كما تحمل النثى من لقاح
الفحل ثم يسوقه رابعا إلى أحوج الماكن والحيوان إليه ثم يعصره خامسا
حتى ل يخرج ماؤه ثم يذروا ماءه بعد عصره سادسا حتى ل يسقط جملة
فيهلك ما يقع عليه ثم يربي النبات سابعا فيكون له بمنزلة الماء والغذاء
287
يجففه بحرارته ثامنا لئل يعفن ول يمكن بقاؤه ولهذا اقتضت الحكمة الباهرة
أن تكون الرياح مختلفة المهاب والصفات والطبائع فزعم نفاة الحكمة أن
هذا كله أمر اتفاقي ل سبب ول غاية وهذا لو تتبعناه لجاء عدة أسفار بل لو
تتبعنا خلقة النسان وحده وما فيها من الحكم والغايات لعجزنا نحن وأهل
الرض عن الحاطة بتفصيل ذلك فلنرجع إلى جواب نفاة الحكمة والتعليل
فنقول ،في الوجه الرابع والعشرين قولهم أي حكمة في خلق إبليس وجنوده
ففي ذلك من الحكم مال يحيط بتفصيله إل الله فمنها أن يكمل لنبيائه
وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ومخالفته ومراغمته في
الله وإغاظته وإغاظة أوليائه والستعاذة به منه واللجاء إليه أن يعيذهم من
شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والخروية ما لم
يحصل بدونه وقدمنا أن الموقوف على الشيء ل يحصل بدونه ومنها خوف
الملئكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه
وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة البليسية يكون أقوى وأتم ول ريب
أن الملئكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم
) (24/61
ص -237-عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر وخوف آخر كما هو
المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الهانة التي بلغت منه
كل مبلغ وهم يشاهدونه فل ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد ومنها أنه
سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته
كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصى أمره ثم تاب وندم
ورجع إلى ربه فابتلى أبوي الجن والنس بالذنب وجعل هذا الب عبرة لمن
أصر وأقام على ذنبه وهذا الب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله كم في
ضمن ذلك من الحكم الباهرة واليات الظاهرة ومنها أنه محك امتحن الله به
خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم فإنه سبحانه خلق النوع النساني من
الرض وفيها السهل والحزن والطيب والخبيث فل بد أن يظهر فيهم ما كان
في مادتهم كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعا أن الله خلق آدم من
قبضة قبضها من جميع الرض فجاء بنو آدم على مثل ذلك منهم الطيب
والخبيث والسهل والحزن وغير ذلك فما كان في المادة الصلية فهو كائن
في المخلوق منها فاقتضت الحكمة اللهية إخراجه وظهوره فل بد إذا من
سبب يظهر ذلك وكان إبليس محكا يميز به الطيب من الخبيث كما جعل
ن
مِني َ ه ل ِي َذ ََر ال ْ ُ
مؤ ْ ِ ن الل ّ ُ ما َ
كا َ أنبيائه ورسله محكا لذلك التمييز قال تعالىَ } :
َ
ب{ فأرسله إلى المكلفين ن الط ّي ّ ِ
م َ
ث ِ ميَز ال ْ َ
خِبي َ م عَل َي ْهِ َ
حّتى ي َ ِ عََلى َ
ما أن ْت ُ ْ
وفيهم الطيب والخبيث فانضاف الطيب إلى الطيب والخبيث إلى الخبيث
واقتضت حكمته البالغة ان خلطهم في دار المتحان فإذا صاروا إلى دار
القرار يميز بينهم وجعل لهؤلء دارا على حدة ولهؤلء دارا على حدة حكمة
بالغة وقدرة قاهرة ومنها أن يظهر كمال قدرته في خلق مثل جبريل
والملئكة وإبليس والشياطين وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه
فإنه خالق الضداد كالسماء والرض والضياء والظلم والجنة والنار والماء
والنار والحر والبرد والطيب والخبيث ومنها أن خلق
288
) (24/62
أحد الضدين من كمال حسن ضده فإن الضد إنما يظهر حسنه بضده فلول
القبيح لم تعرف فضيلة الجميل ولول الفقر لم يعرف قدر الغنا كما تقدم بيانه
ريبا ومنها أنه سبحانه يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه ول ريب أن
أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما
لم يكن ليحصل لهم بدونه فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج
منها وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله ومنها أن
المحبة والنابة والتوكل والصبر والرضاء ونحوها أحب العبودية إلى الله
سبحانه وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله وتقديم محبته
على كل ما سواه فالجهاد ذروة سنام العبودية وأحبها إلى الرب سبحانه
فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي ل يحصى
حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إل فالله ومنها أن في خلق من يضاد
رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته ولطائف صنعه
ما وجوده أحب إليه وأنفع لوليائه من عدمه كما تقدم من ظهور آية الطوفان
والعصا واليد وفلق البحر وإلقاء الخليل في النار وأضعاف أضعاف ذلك من
آياته وبراهين قدرته وعلمه وحكمته فلم يكن بد من وجود السباب التي
يترتب عليها ذلك كما تقدم ومنها أن المادة النارية فيها الحراق والعلو
والفساد وفيها الشراق والضاءة والنور فأخرج منها سبحانه هذا وهذا كما أن
المادة الترابية الرضية فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والحمر
والسود والبيض فأخرج منها ذلك كله حكمة باهرة وقدرة قاهرة وآية دالة
على أنه
) (24/63
289
حمده كما ل يجوز تعطيل حكمته ومنها أنه سبحانه يحب أن يظهر لعباده
حلمه وصبره وأناته وسعة رحمته وجوده فاقتضى ذلك خلق من يشرك به
ويضاده في حكمه ويجتهد في مخالفته ويسعى في مساخطه بل يشبهه
سبحانه وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات ويرزقه ويعاقبه ويمكن له من
أسباب ما يلتذ به من أصناف النعم ويجيب دعاءه ويكشف عنه السوء
ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته
فلله كم في ذلك من حكمة وحمد ويتحبب إلى أوليائه ويتعرف بأنواع كمالته
كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال" :ل أحد أصبر على أذى
يسمعه من الله يجعلون له
) (24/64
الولد وهو يرزقهم ويعاقبهم" وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فيما
يروي عن ربه" :شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي
له ذلك أما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الحد الصمد الذي له ألد ولم
أولد ولم يكن لي كفؤا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني
وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته" وهو سبحانه مع هذا الشتم له
والتكذيب يرزق الشاتم المكذب ويعاقبه ويدفع عنه ويدعوه إلى جنته ويقبل
توبته إذا تاب إليه ويبدله بسيئاته حسنات ويلطف به في جميع أحواله ويؤهله
لرسال رسله ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به قال الفضيل بن
عياض" :ما من ليلة يختلط ظلمها إل نادى الجليل جل جلله من أعظم مني
جودا الخلئق لي عاصون وأنا أكلهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني وأتولى
حفظهم كأنهم لم يذنبوا أجود بالفضل على العاصي وأتفضل على المسيء
من ذا الذي دعاني فلم ألبه ومن ذا الذي سألني فلم أعطه أنا الجواد ومني
الجود أنا الكريم ومني الكرم ومن كرمي أني أعطي العبد ما سألني وأعطيه
ما لم يسألني ومن كرمي أني أعطي التائب كأنه لم يعصني فأين عني يهرب
الخلق وأين عن بابي يتنحى العاصون" وفي أثر إلهي" :أني والنس والجن
في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي" وفي أثر حسن" :ابن
آدم ما أنصفتني خيري إليك نازل وشرك إلى صاعد كم أتحبب إليك بالنعم
وأنا غني عنك وكم تتبغض إلى بالمعاصي وأنت فقير إلي ول يزال الملك
الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح" وفي الحديث الصحيح" :لو لم تذنبوا لذهب
الله بكم ولجاء بقوم
) (24/65
290
والمخالفات لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها فتبارك
الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة الذي
وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وله في كل شيء حكمة باهرة كما أن
له فيه قدرة قاهرة وهدايات إنما ذكرنا منه قطرة من بحر وإل فعقول البشر
أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه فكم
حصل بسبب هذا المخلوق البغيض للرب المسخوط له من محبوب له تبارك
وتعالى يتصل في حبه ما حصل به من مكروهه والحكيم الباهر الحكمة هو
الذي يحصل أحب المرين إليه باحتمال المكروه الذي يبغضه ويسخطه إذا
كان طريقا إلى حصول ذلك المحبوب ووجود الملزوم بدون لزمه محال فإن
يكن قد حصل بعدو الله إبليس من السرور والمعاصي ما حصل فكم حصل
بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله وأرضى له من جهاد
في سبيله ومخالفة هوى النفس وشهوتها له ويحتمل المشاق والمكاره في
محبته ومرضاته وأحب شيء للحبيب أن يرى محبه يتحمل لجله من الذى
والوصب ما يصدق محبته:
من أجلك قد جعلت خدي أرضا للشامت والحسود حتى ترضا
) (24/66
وفي أثر إلهي" :بغيتي ما يتحمل المتحملون من أجلي" فلله ما أحب إليه
احتمال محبيه إذا أعدائه لهم فيه وفي مرضاته وما أنفع ذلك الذى لهم وما
أحمدهم لعاقبته وماذا ينالون به من كرامة حبيبهم وقربه قرة عيونهم به
ولكن حرام على منكري محبة الرب تعالى أن يشموا لذلك رائحة أو يدخلوا
من هذا الباب أو يذوقوا من هذا الشراب:
فقل للعيون العمى للشمس أعين سواك يراها في مغيب ومطلع
وسامح يؤسا لم يؤهل لحبهم فما يحسن التخصيص في كل موضع
فإن أغضب هذا المخلوق ربه فقد أرضاه فيه أنبيائه ورسله وأوليائه وذلك
الرضاء أعظم من ذلك الغضب وإن أسخطه ما يجري على يديه من المعاصي
والمخالفات فإنه سبحانه أشد فرحا بتوبة عبده من الفاقد لراحلته التي عليها
طعامه وشرابه إذا وجدها في المفاوز المهلكات وإن أغضبه ما جرى على
أنبيائه ورسله من هذا العدو فقد سره وأرضاه ما جرى على أيديهم من حربه
ومعصيته ومراغمته وكبته وغيظه وهذا الرضاء أعظم عنده وأبر لديه من
فوات ذلك المكروه المستلزم لفوات هذا المرضي المحبوب وإن أسخطه
أكل آدم من الشجرة فقد أرضاه توبته وإنابته وخضوعه وتذلله بين يديه
وانكساره له وإن أغضبه إخراج أعدائه لرسوله من حرمه وبلدته ذلك لخروج
فقط أرضاه أعظم الرضاء دخوله إليها ذلك الدخول وإن أسخطه قتلهم
أوليائه وأحبائه وتمزيق لحومهم وإراقة دمائهم فقد أرضاه نيلهم الحياة التي
ل أطيب منها ول أنعم ول ألذ في قربه وجواره وإن أسخطه معاصي عباده
فقد أرضاه شهود ملئكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة
) (24/67
291
ص -240-مغفرته وعفوه وبره وكرمه وجوده والثناء عليه بذلك وحمده
وتمجديه بهذه الوصاف التي حمده بها وأثنى عليه بها أحب إليه وأرضى له
من فوات تلك المعاصي وفوات هذه المحبوبات واعلم أن الحمد هو الصل
الجامع لذلك كله فهو عقد نظام الخلق والمر والرب تعالى له الحمد كله
بجميع وجوهه واعتباراته وتصاريفه فما خلق شيئا ول حكم بشيء إل وله فيه
الحمد فوصل حمده إلى حيث وصل خلقه وأمره حمدا حقيقا يتضمن محبته
والرضا به وعنه والثناء عليه والقرار بحكمته البالغة في كل ما خلقه وأمر به
فتعطيل حكمته غير تعطيل حمده كما تقدم بيانه فكما أنه ل يكون إل حميدا
فل يكون إل حكيما فحمده وحكمته كعلمه وقدرته وحياته من لوازم ذاته ول
يجوز تعطيل شيء من صفاته وأسمائه عن مقتضياتها وآثارها فإن ذلك
يستلزم النقص الذي يناقض كماله وكبريائه وعظمته يوضحه ،الوجه الخامس
والعشرون إنه كما أن من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء أنه يجود
ويعطي ويمنح فمنها أن يعيذ وينصر ويغيث فكما يحب أن يلوذ به اللئذون
يحب أن يعوذ به العائذون وكمال الملوك أن يلوذ بهم أولياؤهم ويعوذوا بهم
كما قال أحمد بن حسين الكندي في ممدوحه:
يأمن ألوذ به فيما أومله ومن أعوذ به مما أحاذره
ل يجبر الناس عظما أنت كاسره ول يهيضون عظما أنتن جابره
ولو قال ذلك في ربه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله والمقصود أن
ملك الملوك يحب أن يلوذ به مماليكه وأن يعوذوا به كما أمر رسوله أن
يستعيذ به من الشيطان الرجيم في غير موضع من كتابه وبذلك يظهر تمام
نعمته على عدوه إذا أعاذه وأجاره من عدوه فلم يكن إعاذته وإجارته منه
بأدنى النعمتين والله تعالى يحب أن يكمل نعمته على عباده المؤمنين ويريهم
نصره لهم على عدوهم وحمايتهم منه وظفرهم بهم فيا لها من نعمة كمل بها
سرورهم ونعيمهم وعدل أظهره في أعدائه وخصمائه:
) (24/68
292
غلظ ذنبه بالصرار على المعصية ومخاصمة من ينبغي التسليم لحكمه
والقدح في حكمته والخلف على اقتطاع عباده وصدهم عن عبوديته كانت
عقوبة الذنب أعظم عقوبة بحسب تغلظه فأبقى في الدنيا
) (24/69
ص -241-وأملى له ليزداد هذا إثما على أثم ذلك الذنب فيستوجب العقوبة
التي ل تصلح لغيره فيكون رأس أهل الشر في العقوبة كما كان رأسهم في
الشر والكفر ولما كان مادة كل شر فعنه ينشأ جوزي في النار مثل فعله
فكل عذاب ينزل بأهل النار يبدأ به فيه ثم يسري منه إلى أتباعه عدل ظاهرا
أو حكمة بالغة ومنها أنه قال في مخاصمته لربه أرأيتك هذا الذي كرمت علي
لئن أخرتني إلى يوم القيامة لحتنكن ذريته إل قليل وعلم سبحانه أن في
الذرية من ل يصلح لمساكنته في داره ول يصلح إل لما يصلح له الشوك
والروث أبقاه له وقال له بلسان القدر هؤلء أصحابك وأوليائك فاجلس في
انتظارهم وكلما مر بك واحد منهم فشأنك به فلو صلح لي لما ملكتك منه
فإني أتولى الصالحين وهم الذي يصلحون لي وأنت ولي المجرمين الذين
ن عََلىطا ٌسل ْ َ ه ُ س لَ ُ ه ل َي ْ َ
غنوا عن موالتي وابتغاء مرضاتي قال تعالى} :إ ِن ّ ُ
م ب ِهِ
ن هُ ْ
ذي َ ّ
ه َوال ِ ّ
ن ي َت َوَلوْن َ ُ ه عََلى ال ِ
ذي َ ّ سل ْ َ
طان ُ ُ ما ُ م ي َت َوَك ُّلو َ
ن نّ َ مُنوا وَعََلى َرب ّهِ ْنآ َ ال ّ ِ
ذي َ
ن{ فأما إماتة النبياء والمرسلين فلم يكن ذلك لهوانهم عليه ولكن كو َشرِ ُ
م ْ ُ
ليصلوا إلى محل كرامته ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها ومقاساة أعدائهم
وأتباعهم وليحي الرسل بعدهم يرى رسول بعد رسول فإماتتهم أصلح لهم
وللمة أما هم فلراحتهم من الدنيا ولحوقهم بالرفيق العلى في أكمل لذة
وسرور ول سيما وقد خيرهم ربهم بين البقاء في الدنيا واللحاق به وأما المم
فيعلم أنهم لم يطيعوهم في حياتهم خاصة بل أطاعوهم بعد مماتهم كما
أطاعوهم في حياتهم وأن أتباعهم لم يكونوا يعبدونهم بل يعبدون الله بأمرهم
ونهيهم والله هو الحي الذي ل يموت فكم في إماتتهم من حكمة ومصلحة
لهم وللمم هذا وهم بشر ولم يخلق الله البشر في الدنيا على خلقة قابلة
للدوام بل جعلهم خلئف في الرض يخلف بعضهم بعضا فلو أبقاهم لفاتت
المصلحة والحكمة في جعلهم خلئف ولضاقت بهم
) (24/70
الرض فالموت كمال لكل مؤمن ولول الموت لما طاب العيش في الدنيا ول
هناء لهلها بها فالحكمة في الموت كالحكمة في الحياة ،الوجه السابع
والعشرون قوله أي حكمة ومصلحة في إخراج آدم من الجنة إلى دار البتلء
والمتحان فالجواب أن يقال كم لله سبحانه في ذلك من حكمة وكل فيه من
نعمة ومصلحة تعجز العقول عن معرفتها على التفصيل ولو استفرغت قواها
كلها في معرفة ذلك وإهباط آدم وإخراجه من الجنة كان يعسر كماله ليعود
إليها على أحسن أحواله وهو سبحانه إنما خلقه ليستعمره وذريته في الرض
ويجعلهم خلفاء يخلف بعضهم بعضا فخلفهم سبحانه ليأمرهم وينهاهم ويبتليهم
وليست الجنة دار ابتلء وتكليف فأخرج البوين إلى الدار التي خلقوا منها
وفيها ليتزودوا منها إلى الدار التي خلقوا لها فإذا وفوا تعب دار التكليف
293
ونصبها عرفوا قدر تلك الدار وشرفها وفضلها ولو نشأوا في تلك الدار لما
عرفوا قدر نعمته عليهم بها فأسكنهم دار المتحان وعرضهم فيها لمره ونهيه
لينالوا بالطاعة أفضل ثوابه وكرامته وكان من الممكن أن يحصل لهم النعيم
المقيم هناك لكن الحاصل عقيب البتلء والمتحان ومعانات الموت وما بعده
وأهوال القيامة والعبور على الصراط نوع آخر من النعيم ل يدرك قدره وهو
أكمل من نعيم من خلق في الجنة من الولدان والحور العين بما ل يشبه
بينهما بوجه من الوجوه ومن الحكم في ذلك أنه سبحانه أراد أن يتخذ من
ذرية آدم رسل وأنبيائه وشهداء يحبهم ويحبونه وينزل عليهم كتبه ويعهد إليهم
عهده ويستعبدهم له في السراء والضراء ويؤثرون محابه ومراضيه على
شهواتهم وما يحبونه ويهوونه فاقتضت حكمته أن أنزلهم إلى دار ابتلهم فيها
بما ابتلهم ليكملوا بذلك البتلء مراتب
) (24/71
) (24/72
294
التقدير بأسباب وحكم فمن أسبابه النهي عن تلك الشجرة وتخليته بينه وبين
عدوه حتى وسوس إليه بالكل وتخليته بينه وبين نفسه حتى وقع في
المعصية وكانت تلك السباب موصلة إلى غايات محمودة مطلوبة يترتب على
خروجه من الجنة ثم يترتب على خروجه أسباب أخر جعلت غايات لحكم أخر
ومن تلك الغايات عوده إليها على أكمل الوجوه فذلك التقدير وتلك السباب
وغاياتها صادرة عن محض الحكمة البالغة التي يحمده عليها أهل السماوات
والرض والدنيا والخرة فما قدر أحكم الحاكمين ذلك باطل ول دبره عبثا ول
أخله من حكمته البالغة وحمده التام وأيضا فإنه سبحانه قال للملئكةّ} :ني
َ ل ِفي اْل َْر
ن
ح ُ
ماَء وَن َ ْ ف ُ
ك الد ّ َ س ِ
سد ُ ِفيَها وَي َ ْ
ف ِ ن يُ ْ
م ْ
ل ِفيَها َ ة َقاُلوا أت َ ْ
جعَ ُ ف ً خِلي َ
ض َ ِ ع ٌ
جا َِ
ن{ ثم أظهر سبحانه من مو َ ل ع ت ل ما م َ لعَ أ ني إ َ
ل َ
قا َ
ك َ ل س د َ ق ن و كَ
َْ ُ َ ْ ُ َ ِّ َُ ّ ُ نُ َ ّ ُ ِ َ ْ ِ
د مح ب ح ب س
علمه وحكمته الذي خفي على الملئكة من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا
يعرفونه بأن جعل من نسله من أوليائه وأحبائه ورسله وأنبيائه من يتقرب
إليه بأنواع التقرب ويبذل نفسه في محبته ومرضاته يسبح بحمده أناء الليل
وأطراف النهار ويذكره قائما وقاعدا وعلى جنبه ويعبده ويذكره ويشكره في
السراء والضراء والعافية والبلء والشدة والرخاء فل يثنيه عن ذكره وشكره
وعبادته شدة ول بلء ول فقر ول مرض ويعبده مع معارضة الشهوة وغلبات
الهوى وتعاضد الطباع لحكامها ومعاداة بني جنسه وغيرهم له فل يصده ذلك
عن عبادته وشكره وذكره والتقرب إليه فإن كانت عبادتكم لي بل معارض ول
ممانع فعبادة هؤلء لي مع هذه المعارضات والموانع والشواغل وأيضا فإنه
سبحانه أراد أن يظهر لهم
) (24/73
295
إجابة الدعوات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات ومغفرة الزلت وتكفير
السيئات ودفع البليات وإعزاز من يستحق العز وإذلل من يستحق الذل
ونصر المظلوم وجبر الكسير ورفع بعض خلقة على بعض وجعلهم درجات
ليعرف قدر فضله وتخصيصه فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل
) (24/74
أن يخرجهم إلى دار يحصل فيها محبوباته سبحانه وإن كان لكثير منها طرق
وأسباب يكرهها فالوقوف على الشيء ل بدونه وإيجاد لوازم الحكمة من
الحكمة كما أن إيجاد لوازم العدل من العدل كما ستقف عليه في فصل إيلم
الطفال إن شاء الله ،الوجه الثامن والعشرون أنه سبحانه أبرز خلقه من
العدم إلى الوجود ليجري عليه أحكام أسمائه وصفاته فيظهر كماله المقدس
وإن كان لم يزل كامل فمن كماله ظهور آثار كماله في خلقه وأمره وقضائه
وقدره ووعده ووعيده ومنعه وإعطائه وإكرامه وإهانته وعدله وفضله وعفوه
وإنعامه وسعة حلمه وشدة بطشه وقد اقتضى كماله المقدس سبحانه أنه
كل يوم هو في شأن فمن جملة شؤونه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويشفي
مريضا ويفك عانيا وينصر مظلوما ويغيث ملهوفا ويحبر كسيرا ويغني فقيرا
ويجيب دعوة ويقيل عثرة ويعز ذليل ويذل متكبرا ويقصم جبارا و يميت
ويحيي ويضحك ويبكي ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع ويرسل رسله من
الملئكة ومن البشر في تنفيذ أوامره وسوق مقاديره التي قدرها إلى
مواقيتها التي وقتها لها وهذا كله لم يكن ليحصل في ذات البقاء وإنما اقتضت
حكمته البالغة حصوله في دار المتحان والبتلء يوضحه ،الوجه التاسع
والعشرون أن كمال ملكه التام اقتضى كمال تصرفه فيه بأنواع التصرف
ولهذا جعل الله سبحانه الدور ثلثة دارا أخلصها للنعيم واللذة والبهجة
والسرور ودارا أخلصها لللم والنصب وأنواع البلء والشرور ودارا خلط خيرها
بشرها ومزج نعيمها بشقائها ومزج لذتها بألمها يلتقيان ويطالبان وجعل
عمارة تينك الدارين من هذه الدار وأجرى أحكامه على خلقه في الدور الثلثة
بمقتضى ربوبيته
) (24/75
ص -244-وإلهيته وعزته وحكمته وعدله ورحمته فلو أسكنهم كلهم دار البقاء
من حين أوجدهم لتعطلت أحكام هذه الصفات ولم يترتب عليها آثارها
يوضحه ،الوجه الثلثون أن يوم المعاد الكبر يوم مظهر السماء والصفات
قّهاِر{ وقال: حدِ ال ْ َ م ل ِل ّهِ ال ْ َ
وا ِ ك ال ْي َوْ َ
مل ْ ُن ال ْ ُ
م ِ
وأحكامها ولهذا يقول سبحانه} :ل ِ َ
َ ْ ً مئ ِذ ٍ ال ْ َ مل ْ ُ
مُر س َ
شْيئا َوال ْ ف ٍ س ل ِن َ ْ
ف ٌ ُ
مل ِك ن َ ْ م ل تَ ْ ن{ وقال} :ي َوْ َ م ِ
ح َ
حقّ ِللّر ْ ك ي َوْ َ }ال ْ ُ
ه{ حتى أن الله سبحانه ليتعرف إلى عباده ذلك اليوم بأسماء مئ ِذ ٍ ل ِل ّ ِ
ي َوْ َ
وصفات لم يعرفوها في هذه الدار فهو يوم ظهور المملكة العظمى والسماء
الحسنى والصفات العلى فتأمل ما أخبر به والله ورسوله من شأن ذلك اليوم
وأحكامه وظهور عزته تعالى وعظمته وعدله وفضله ورحمته وآثار صفاته
المقدسة التي لو خلقوا دار البقاء لتعطلت وكماله سبحانه ينفي ذلك وهذا
دليل مستقل لمن عرف الله تعالى وأسمائه وصفاته على وقوع المعاد
296
وصدق الرسل فيما أخبروا به عن الله عنه فيطابق دليل العقل ودليل السمع
على وقوعه ،الوجه الحادي والثلثون أن الله سبحانه يحب أن يعبد بأنواع
التعبدات كلها ول يليق ذلك إل بعظمته وجلله ول يحسن ول ينبغي إل الله
وحده ومن المعلوم أن أنواع التعبد الحاصلة في دار البتلء والمتحان ل
يكون في دار المجازاة وإن كان في هذه الدار بعض المجازاة وكمالها
وتمامها إنما هو في تلك الدار وليست دار عمل وإنما هي دار جزاء وثواب
أوجب كماله المقدس أن يجزي فيها الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين
أحسنوا بالحسنى فلم يكن بد من دار تقع فيها الساءة والحسان ويجري
على أهلها أحكام السماء والصفات ثم يعقبها دارا يجازي فيها المحسن
والمسيء ويجري على أهلها فيها أحكام السماء والصفات فتعطيل أسمائه
وصفاته ممتنع ومستحيل وهو تعطيل لربوبيته وإلهيته وملكه وعزه وحكمته
فمن فتح له باب من الفقه في أحكام السماء والصفات وعلم
) (24/76
اختصاصها لثارها ومتعلقاتها واستحالة تعطيلها علم أن المر كما أخبرت به
الرسل وأنه ل يجوز عليه سبحانه ول ينبغي له غيره وأنه ينزه عن خلف ذلك
كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص وهذا باب عزيز من أبواب اليمان
فيفتحه الله على من يشاء من عباده ويحرمه من يشاء ،الوجه الثاني
والثلثون أنه كم لله سبحانه من حكمة وحمد وأمر ونهي وقضاء وقدر في
ض{م ب ِب َعْ ٍ
ضهُ ْ جعل بعض عباده فتنة لبعض كما قال تعالى} :وَك َذ َل ِ َ
ك فَت َّنا ب َعْ َ
ن{ فهو سبحانه جعل أوليائه وقال تعالى} :وجعل ْنا بعضك ُم ل ِبعض فتن ً َ
صب ُِرو َ
ة أت َ ْ َ َ َ َ َْ َ ْ َْ ٍ َِْ
فتنة لعدائه وأعداءه فتنته لوليائه والملوك فتنة للرعية والرعية فتنة لهم
والرجال فتنة للنساء وهن فتنة لهم والغنياء فتنة للفقراء والفقراء فتنة لهم
وابتلى كل أحد بضد جعله متقابل فما استقرت أقدام البوين على الرض إل
وضدهما مقابلهما واستمر المر في الذرية كذلك إلى أن يطوي الله الدنيا
ومن عليها وكم له سبحانه في مثل هذا البتلء والمتحان من حكمة بالغة
ونعمة سابغة وحكم نافذ وأمر ونهي وتصريف دال على ربوبيته وإلهيته وملكه
وحمده وكذلك ابتلء عباده بالخير والشر في هذه الدار هو من كمال حكمته
ومقتضى حمده التام ،الوجه الثالث والثلثون أنه لول هذا البتلء والمتحان
لما ظهر فضل الصبر والرضا والتوكل والجهاد والعفة والشجاعة والحلم
والعفو والصفح والله سبحانه يحب أن يكرم أوليائه بهذه الكمالت ويحب
ظهورها عليهم ليثني بها عليهم هو وملئكته وينالوا باتصافهم بها غاية الكرامة
واللذة والسرور وإن كانت مرة المبادئ فل أحلى من عواقبها ووجود الملزم
بدون لزمه ممتنع وقد أجرى الله سبحانه حكمته بأن كمال الغايات تابعة
لقوة أسبابها وكمالها ونقصانها لنقصانها فمن كمل
) (24/77
297
فيهما وله الحمد في الولى والخرة وله الحكم وإليه ترجعون يوضحه ،الوجه
الرابع والثلثون وهو أن أفضل العطاء وأجله على الطلق اليمان وجزاؤه
ن َ َ
سأ ْ ب الّنا ُ س َ ح ِ وهو ل يتحقق إل بالمتحان والختبار قال تعالى} :ألم أ َ
يتر ُ َ
ن الل ّ ُ
ه م ّ م فَل َي َعْل َ َن قَب ْل ِهِ ْ م ْ ن ِ ذي َ قد ْ فَت َّنا ال ّ ِ ن وَل َ َ
فت َُنو َ م ل يُ ْ مّنا وَهُ ْ قوُلوا آ َ ن يَ ُ كوا أ ْ َُْ
َ ُ ّ َ ْ َ َ
قوَنا سب ِ ُ
ن يَ ْ تأ ْ سي َّئا ِن ال ّ ملو َ ن ي َعْ َ ذي َ ب ال ِ س َ ح ِ م َ نأ ْ َ
ن الكاذِِبي َ م ّ صد َُقوا وَلي َعْل َ ن َ ذي َال ّ ِ
َ
ع
مي ُ س ِ ت وَهُوَ ال ّ ل الل ّهِ َل ٍ ج َ نأ َ قاَء الل ّهِ فَإ ِ ّ جو ل ِ َ ن ي َْر ُ ن َ
كا َ م ْ ن َ
مو َحك ُ ُما ي َ ْ
ساَء َ َ
ن{ فذكر مي َ َ ْ
ن الَعال ِ َ ّ َ ال ْعَِلي ُ
ي عَ ِ ه لغَن ِ ّ ن الل َ سهِ إ ِ ّ ف ِ جاهِد ُ ل ِن َ ْ ما ي ُ َ
جاهَد َ فإ ِن ّ َ ن َ م ْ م وَ َ
سبحانه في هذه السورة أنه ل بد أن يمتحن خلقه ويفتنهم ليتبين الصادق من
الكاذب والمؤمن من الكافر ومن يشكره ويعبده ممن يكفره ويعرض عنه
ويعبد غيره وذكر أحوال الممتحنين في العاجل والجل وذكر أئمة الممتحنين
في الدنيا وهم الرسل وأتباعهم وعاقبة أمرهم وما صاروا إليه وافتتح بالنكار
على من يحسب أنه يتخلص من المتحان والفتنة في هذه الدار إذا دعى
اليمان وأن حكمته سبحانه وشأنه في خلقه يأبى ذلك وأخبر عن سر هذه
الفتنة والمحنة وهو تبيين الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر وهو
سبحانه كان يعلم ذلك قبل وقوعه ولكن اقتضى عدله وحمده أنه ل يجزي
العباد بمجرد علمه فيهم بل بمعلومه إذا وجد وتحقق والفتنة هي التي أظهرته
وأخرجته
) (24/78
إلى الوجود فحينئذ حسن وقوع الجزاء عليه ثم أنكر سبحانه على من لم
يلتزم اليمان به ومتابعة رسله خوف الفتنة والمحنة التي يمتحن بها رسله
وأتباعهم ظنه وحسبانه أنه بإعراضه عن اليمان وتصديق رسله يتخلص من
الفتنة والمحنة فإن بين يديه من الفتنة والمحنة والعذاب أعظم وأشق مما
فر عنه فإن المكلفين بعد إرسال الرسل إليهم بين أمرين إما أن يقول
أحدهم آمنت وإما أن ل يقول بل يستمر على السيئات فمن قال آمنا امتحنه
الرب تعالى وابتله لتتحقق باليمان حجة إيمانه وثباته عليه وأنه ليس بإيمان
عافية ورخاء فقط بل إيمان ثابت في حالتي النعماء والبلء ومن لم يؤمن فل
يحسب أنه يعجز ربه تعالى ويفوته بل هو في قبضته وناصيته بيده فله من
البلء أعظم مما ابتلى به من قال آمنت فمن آمن به وبرسله فل بد أن يبتلي
من أعدائه و أعداء رسله بما يؤلمه ويشق عليه ومن لم يؤمن به وبرسله فل
بد أن يعاقبه فيحصل له من اللم والمشقة أضعاف ألم المؤمنين فل بد من
حصول اللم لكل نفس مؤمنة أو كافرة لكن المؤمن يحصل له اللم في
الدنيا أشد ثم ينقطع ويعقبه أعظم اللذة والكافر يحصل له اللذة والسرور
ابتداء ثم ينقطع ويعقبه أعظم اللم والمشقة وهكذا حال الذين يتبعون
الشهوات فيلتذون بها ابتداء ثم تعقبها اللم لم بحسب ما نالوه منها والذين
يصبرون عنها ينالون بفقدها ابتداء ثم يعقب ذلك اللم من اللذة والسرور
بحسب ما صبروا عنه وتركوه منها فاللم واللذة أمر ضروري لكل إنسان
لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير والجل الدائم العظيم بون ولهذا كان
خاصة العقل النظر في العواقب والغايات فمن ظن أنه يتخلص من اللم
بحيث ل يصيبه البتة فظنه أكذب الحديث فإن النسان خلق عرضة للذة
واللم والسرور والحزن والفرح والغم وذلك من جهتين من جهة تركبه
298
وطبيعته وهيئته فإنه مركب من أخلط متفاوتة متضادة يمتنع أو يعز اعتدالها
من كل وجه بل ل بد أن يبغي بعضها على بعض فيخرج عن حد
) (24/79
العتدال
ص -246-فيحصل اللم ومن جهة بني جنسه فإنه مدني بالطبع ل يمكنه أن
يعيش وحده بل ل يعيش إل معهم وله ولهم لذاذات ومطالب متضادة
ومتعارضة ل يمكن الجمع بينها بل إذا حصل منها شيء فات منها أشياء فهو
يريد منهم أن يوافقوه على مطالبه وإرادته وهم يريدون منه ذلك فإن وافقهم
حصل له من اللم والمشقة بحسب ما فاته من إرادته وإن لم يوافقهم آذوه
وعذبوه وسعوا في تعطيل مراداته كما لم يوافقهم على مراداتهم فيحصل له
من اللم والتعذيب بحسب ذلك فهو في ألم ومشقة وعناء وافقهم أو خالفهم
ول سيما إذا كانت موافقتهم على أمور يعلم أنها عقائد باطلة وإرادات فاسدة
وأعمال تضره في عواقبها ففي موافقتهم أعظم اللم وفي مخالفتهم حصول
اللم فالعقل والدين والمروءة والعلم تأمره باحتمال أخف اللمين تخلصا من
أشدهما وبإيثار المنقطع منهما لينجو من الدائم المستمر فمن كان ظهيرا
للمجرمين من الظلمة على ظلمهم ومن أهل الهواء والبدع على أهوائهم
وبدعهم ومن أهل الفجور والشهوات على فجورهم وشهواتهم ليتخلص
بمظاهرتهم من ألم أذاهم أصابه من ألم الموافقة لهم عاجل وآجل أضعاف
أضعاف ما فر منه وسنة الله في خلقه أن يعذبهم بإنذار من إيمانهم
وظاهرهم وإن صبر على ألم مخالفتهم ومجانبتهم أعقبه ذلك لذة عاجلة
وآجلة تزيد على لذة الموافقة بأضعاف مضاعفة وسنة الله في خلقه أن
يرفعه عليهم ويذلهم به بحسب صبره وتقواه وتوكله وإخلصه وإذا كان ل من
اللم والعذاب فذلك في الله وفي مرضاته ومتابعة رسله أولى وأنفع منه في
الناس ورضائهم وتحصيل مراداتهم ولما كان زمن التألم والعذاب فصبره
طويل فأنفاسه ساعات وساعاته أيام وأيامه شهور وأعوام بل سبحانه
الممتحنين فيه بأن ذلك البتلء آجل ثم ينقطع وضرب لهله أجل للقائه
قاَء
جو ل ِ َ
ن ي َْر ُ ن َ
كا َ م ْ
يسليهم به ويشكر نفوسهم ويهون عليهم أثقاله فقالَ } :
الل ّه فَإ َ
ع
مي ُ
س ِ ل الل ّهِ َل ٍ
ت وَهُوَ ال ّ ج َ
نأ َِ ِ ّ
) (24/80
م{ فإذا تصور العبد أجل ذلك البلء وانقطاعه وأجل لقاء المبتلى سبحانه ال ْعَِلي ُ
وإثباته هان عليه ما هو فيه وخف عليه حمله ثم لما كان ذلك ل يحصل إل
بمجاهدة للنفس وللشيطان ولبني جنسه وكان العامل إذا علم أن ثمرة علمه
وتعبه يعود عليه وحده ل يشكره فيه غيره كأن أتم اجتهادا وأوفر سعيا فقال
ن{ وأيضا فل ن ال َْعال َ ِ
مي َ ه ل َغَن ِ ّ
ي عَ ِ ن الل ّ َ
سهِ إ ِ ّ
ف ِ
جاهِد ُ ل ِن َ ْ جاهَد َ فَإ ِن ّ َ
ما ي ُ َ ن َ
م ْ
تعالى} :وَ َ
يتوهم متوهم أن منفعة هذه المجاهدة والصبر والحتمال يعود على الله
سبحانه فإنه غني عن العالمين لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم ول
نهاهم عما نهاهم عنه بخل منه عليهم بل أمرهم بما يعود نفعه ومصلحته
عليهم في معاشهم ومعادهم ونهاهم عما يعود مضرته وعتيه عليهم في
299
معاشهم ومعادهم فكانت ثمرة هذا البتلء والمتحان مختصة بهم واقتضت
حكمته أن نصب ذلك سببا مقضيا إلى يميز الخبيث من الطيب والشقي من
ن
مِني َ ه ل ِي َذ ََر ال ْ ُ
مؤْ ِ ن الل ّ ُ ما َ
كا َ الغوي ومن يصلح له ممن ل يصلح قال تعالىَ } :
َ
ب{ فابتلهم سبحانه بإرسال ن الط ّي ّ ِ
م َ
ث ِ ميَز ال ْ َ
خِبي َ م عَل َي ْهِ َ
حّتى ي َ ِ عََلى َ
ما أن ْت ُ ْ
الرسل إليهم بأوامره ونواهيه واختياره فامتاز برسله طيبهم من خبيثهم
وجيدهم من رديئهم فوقع الثواب والعقاب على معلوم أظهره ذلك البتلء
والمتحان ثم لما كان الممتحن ل بد أن ينحرف عن طريق الصبر والمجاهدة
لدواعي طبيعته وهواه وضعفه عن مقاومة ما ابتلي به وعده سبحانه أن
يتجاوز له عن ذلك ويكفره عنه لنه لما أمر به والتزم طاعته اقتضت رحمته
أن كفر عنه سيئاته وجازاه بأحسن أعماله ثم ذكر سبحانه ابتلء العبد بأبويه
وما أمر به من طاعتهما وصبره على مجاهدتهما له على أن ل يشرك به
فيصبر على هذه المحنة والفتنة ول يطيعهما بل يصاحبهما على هذه الحال
معروفا ويعرض عنهما إلى متابعة سبيل رسله
) (24/81
) (24/82
300
فيعبدونه فيها ثم نبههم بالنقلة الكبرى من دار الدنيا إلى دار الخرة على
نقلتهم الصغرى من أرض إلى أرض وأخبرهم أن مرجعهم إليه فل قرار لهم
في هذه الدار دون لقائه ثم بين لهم حال الصابرين على البتلء فيه بأنه
يبوؤهم جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها فسلهم عن أرضهم
ودارهم التي تركوها لجله وكانت مباء لهم بأن بوأهم دارا أحسن منها وأجمع
لكل خير ولذة ونعيم مع خلود البد وأن ذلك بصبرهم على البتلء وتوكلهم
على ربهم ثم أخبرهم بأنه ضامن لرزقهم في غير أرضهم كما كان يرزقهم
في أرضهم فل يهتموا بحمل الرزق فكم من دابة سافرت من مكان إلى
مكان ل تحمل رزقها ثم أخبرهم أن مدة البتلء والمتحان في هذه الدار
قصيرة جدا بالنسبة إلى دار الحيوان والبقاء ثم ذكر سبحانه عاقبة أهل
البتلء ممن لم يؤمن به وأن مقامهم في هذه الدار تمتع وسوف يعلمون عند
النقلة منها ما فاتهم من النعيم المقيم وما حصلوا عليه من العذاب الليم
وذكر عاقبة أهل البتلء ممن آمن به وأطاع رسله وجاهد نفسه وعدوه في
دار البتلء ما به هاديه وناصره فأخبر سبحانه أن أجل عطاه وأفضله في
الدنيا والخرة هو لهل البتلء الذين صبروا على ابتلئه وتوكلوا عليه وأخبر أن
أعظم عذابه وأشقه هو للذين لم يصبروا على ابتلئه وفروا منه وآثروا النعيم
العاجل عليه فمضمون هذه السورة هو سر الخلق والمر فإنها سورة البتلء
والمتحان وبيان حال أهل البلوى في الدنيا والخرة ومن تأمل فاتحتها
ووسطها وخاتمها وجد في ضمنها أن أول المر ابتلء وامتحان ووسطه صبر
وتوكل وآخره هداية ونصر والله المستعان يوضحه ،الوجه الخامس والثلثون
وهو أنه سبحانه أخبر أنه خلق السماوات والرض العالم العلوي والسفلي
) (24/83
ص -248-ليبلونا أينا أحسن عمل وأخبر أنه زين الرض بما عليها من حيوان
ونبات ومعادن وغيرها لهذا البتلء وأنه خلق الموت والحياة لهذا البتلء فكان
هذا البتلء غاية الخلق والمر فلم يكن من بد من دار يقع فيها هذا البتلء
وهي دار التكليف ولما سبق في حكمته أن الجنة دار نعيم ل دار ابتلء
وامتحان جعل قبلها دار البتلء جسرا يعبر عليه إليها ومزرعة يبذر فيها وميناء
يزود منها وهذا هو الحق الذي خلق الخلق به ولجله وهو أن يعبد وحده بما
أمر به على ألسنة رسله فأمر ونهى على السنة ووعدنا بالثواب والعقاب ولم
يخلق خلقه سدى ل يأمرهم ول ينهاهم ول يتركهم همل ل يثيبهم ول يعاقبهم
بل خلقوا للمر والنهي والثواب والعقاب ول يليق بحكمته وحمده غير ذلك.
فصل :وقد عرف من هذا الجواب عن قولهم أي حكمة في خلق النفس
مريدة للخير والشر وهل خلقت مريدة للخير وحده وكيف اقتضت الحكمة
تمكينها من الشر مع القدرة على منعها منه وأي حكمة في إعطائها قوة
وأسبابا يعلم المعطي أنها ل يفعل بها إل الشر وحده وأي حكمة في إقرار
هذه النفوس على غيها وظلمها وعدوانها ومعلوم أن يفعل لحكمة ل يفعل
ذلك وأن من يفعل لحكمة إذا رأى عبيده يقتل بعضهم بعضا ويفسد بعضهم
بعضا ويظلم بعضهم بعضا وهو قادر على منعهم فل بدعة حكمته وهما لهم
بحيث يتركهم كذلك فإما أن يكون عالما يما يأتون أو ل يكون قادرا على
منعهم أو ل يكون ممن يفعل لغرض وحكمة والولن مستحيلن في حق
301
الرب تعالى فتعين الثالث ومبنى هذه الشبهة على أصل فاسد وهو قياس
الرب على خلقه وتشبيههم في أفعاله بحيث يحسن منه ما يحصن منهم
ويقبح منه ما يقبح منهم ولهذا كانت القدرية مشبهة الفعال ومتأخروهم
جمعوا بين هذا التشبيه وبين تعطيل الصفات فصاروا معطلين للصفات
مشبهين في الفعال وهذا الصل الفاسد مما رده عليهم سائر العقلء وقالوا
قياس أفعال الرب على أفعال العباد من أفسد القياس وكذلك
) (24/84
قياس حكمته على حكمتهم وصفاته على صفاتهم ومن المعلوم أن الرب
تعالى علم أن عباده يقع منهم الكفر والظلم والفسوق وكان قادرا على أن ل
يوجدهم وأن يوجدهم كلهم أمة واحدة على ما يحب ويرضى وأن يحول بينهم
وبين بغي بعضهم ولكن حكمته البالغة أبت ذلك واقتضت إيجادهم على الوجه
الذي هم عليه وهو سبحانه خلق النفوس أصنافا فصنف مريدا للخير وحده
وهي نفوس الملئكة وصنف مريدا للشر وحده وهي نفوس الشياطين وصنف
فيه إرادة النوعين وهي النفوس البشرية فالولى الخير لهم طباع وهي
محمودة عليه والشر للنفوس الثانية طباع وهي مذمومة عليه والصنف الثالث
بحسب الغالب عليه من الوصفين فمن غلب عليه وصف الخير التحق
بالصنف الول ومن غلب عليه وصف الشر التحق بالصنف الثالث فإذا
اقتضت الحكمة وجود هذا الصنف الثالث فإن يقتضي وجود الثاني أولى
وأحرى والرب تعالى اقتضت قدرته وعزته وحكمته إيجاد المتقابلت في
الذوات والصفات والفعال كما تقدم وقد نوع خلقه تنويعا دال على كمال
قدرته وربوبيته فمن أعظم الجهل والضلل أن يقول القائل هل كان خلقه
كلهم نوعا واحدا فيكون العالم علوا كله أو نورا كله أو الحيوان ملكا كله وقد
يقع في الوهام الفاسدة أن هذا كان أولى وأكمل ويعرض الوهم الفاسد ما
ليس ممكنا كمال ،الوجه السادس والثلثون قوله وأي حكمة في إيلم
الحيوانات غير المكلفة فهذه مسألة تكلم الناس
) (24/85
302
التي ل تثاب ول تعاقب وأما المثبتون لحقائق أسماء الرب وصفاته وحكمته
التي هي وصفه ولجلها تسمى بالحكيم وعنها صدر خلقه وأمره فهم أعلم
الفرق بهذا الشأن ومسلكهم فيه أصح المسالك وأسلم من التناقض
والضطراب فإنهم جمعوا بين إثبات القدرة والمشيئة العامة والحكمة
الشاملة التي هي غاية الفعل وربطوا ذلك بالسماء والصفات فتصادق عندهم
السمع والعقل والشرع والفطرة وعلموا أن ذلك مقتضى الحكمة البالغة وأنه
من لوازمها وأن لزم الحق حق ولزم العدل عدل ولوازم الحكمة من
الحكمة فاعلم أن هاهنا أمرين نفسا متحركة بالرادة والختيار وطبيعة
متحركة بغير الختيار والرادة وأن الشر منشأه من هذين المتحركين وعن
هاتين الحركتين وخلقت هذه النفس وهذه الطبيعة على هذا الوجه فهذه
تتحرك لكمالها
) (24/86
وهذه تتحرك لكمالها وينشأ عن الحركتين خير وشر كما ينشأ عن حركة
الفلك والشمس والقمر وحركة الرياح والماء والنار خير وشر فالخيرات
الناشئة عن هذه الحركات مقصودة بالقصد الول إما لذاتها وإما لكونها
وسيلة إلى خيرات أتم منها والشرور الناشئة عنها غير مقصودة بالذات وإن
قصدت قصد الوسائل واللوازم التي ل بد مها فما جبلت عليه النفس من
الحركة هو من لوازم ذاتها فل تكون النفس البشرية نفسا إل بهذا اللزم فإذا
قيل لم خلقت متحركة على الدوام فهو بمنزلة أن يقال لم كانت النفس
نفسا ولم كانت النار نارا والريح ريحا فلو لم يخلق هذا ما كانت نفسا ولو لم
تخلق الطبيعة هكذا ما كانت طبيعة ولو لم يخلق النسان على هذه الصفة
والخلقة ما كان إنسانا فإن قيل فلم خلقت النفس على هذه الصفة قيل من
كمال الوجود خلقها على هذه الصفة كما تقدم وكذلك كمال فاطرها ومبدعها
اقتضى خلقها على هذه الصفة لما في ذلك من الحكم التي ل يحصيها إل
مبدعها سبحانه وإن كان في إيجاد هذه النفس شرا فهو شر جزئي بالنسبة
إلى الخير الكلي الذي هو سبب إيجادها فوجودها خير من أن ل توجد فلو لم
يخلق مثل هذه النفس لكان في الوجود نقص وفوات حكم ومصالح عظيمة
موقوفة على خلق مثل هذه النفس ولهذا لما اعترضت الملئكة على خلق
ماء{ أجابهم سبحانه ف ُ جعَ ُ َ
ك الد ّ َ س ِ
سد ُ ِفيَها وَي َ ْ
ف ِ
ن يُ ْ
م ْ
ل ِفيَها َ النسان وقالوا} :أت َ ْ
بأن في خلقه من الحكم والمصالح ما ل تعلمه الملئكة والخالق سبحانه
يعلمه وإذا كانت الملئكة ل تعلم ما في خلق هذا النسان الذي يفسد في
الرض ويسفك الدماء من الحكم والمصالح فغيرهم أولى أن ل يحيط به علما
فخلق هذا النسان من تمام الحكمة والرحمة والمصلحة وإن كان وجوده
مستلزما لشر فهو شر
) (24/87
303
خيره ومصلحته راجح وإن كان فيه شر فهو مغمور جدا بالنسبة إلى خيره وما
نهى عنه من العمال والقوال القبيحة فشره ومفسدته راجح والخير الذي
فيه مغمور جدا بالنسبة إلى شره فسنته سبحانه في خلقه وأمره فعل الخير
الخالص والراجح والمر بالخير الخالص والراجح فإذا تناقضت أسباب الخير
والشر والجمع بين النقيضين محال قدم أسباب الخير الراجحة على
المرجوحة ولم يكن تفويت المرجوحة شرا ودفع أسباب الشر الراجحة
بالسباب المرجوحة ولم يكن حصول المرجوحة شرا بالنسبة إلى ما اندفع
بها من الشر الراجح وكذلك سنته في شرعه وأمره فهو يقدم الخير الراجح
وإن كان في ضمنه شر مرجوح ويعطل الشر الراجح وإن فات بتعطيله خير
مرجوح هذه سنته فيما يحدثه ويبدعه في سماواته وأرضه وما يأمر به وينهى
عنه وكذلك سنته في الخرة وهو سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه وقد أتقن
كل ما صنع وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة ويتفاوتون في العلم
بتفاصيله وإذا عرف ذلك فاللم والمشاق إما إحسان ورحمة وإما عدل
وحكمة وإما إصلح وتهيئة لخير يحصل بعدها وإما لدفع ألم هو أصعب منها
وإما لتولدها عن لذات ونعم يولدها عنها أمر لزم لتلك اللذات وإما أن يكون
من لوازم العدل أو لوازم الفضل والحسان فيكون من لوازم الخير التي إن
عطلت ملزوماتها فات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك اللم والشرع
والقدر أعدل شاهد بذلك فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر
من ب ِك ُ ْ ن َ
كا َ وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى كما سماه الله بقوله} :إ ِ ْ
َ
ر{ وكم في هذا الحر والبرد والرياح من أذى موجب لنواع من مط َ ٍ
ن َ
م ْ
أذىً ِ
اللم لصنوف من الحيوانات وأعظم لذات الدنيا لذة الكل والشرب والنكاح
واللباس
) (24/88
والرياسة ومعظم آلم أهل الرض أو كلها ناشئة عنها ومتولدة منها بل
الكمالت النسانية ل تنال إل باللم والمشاق كالعلم والشجاعة والزهد
والعفة والحلم والمروءة والصبر والحسان كما قال:
لول المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والقدام قتال
وإذا كانت اللم أسبابا للذات أعظم منها وأدوم منها كان العقل يقضي
باحتمالها وكثيرا ما تكون اللم أسبابا لصحة لول تلك اللم لفاتت وهذا شأن
أكبر أمراض البدان فهذه الحمى فيها من المنافع للبدان مال يعلمه إل الله
وفيها من إذابة الفضلت وإنضاج المواد الفجة وإخراجها ما ل يصل إليه دواء
غيرها وكثير من المراض إذا عرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب وأما
انتفاع القلب والروح باللم والمراض فأمر ل يحس به إل من فيه حياة
فصحة القلوب والرواح موقوفة على آلم البدان ومشاقها وقد أحصيت
فوائد المراض فزادت على مائة فائدة وقد حجب الله سبحانه أعظم اللذات
بأنواع المكاره وجعلها جسرا موصل إليها كما حجب أعظم اللم بالشهوات
واللذات وجعلها جسرا موصل إليها ولهذا قالت العقلء قاطبة على أن النعيم
ل يدرك بالنعيم وأن الراحة ل تنال بالراحة وأن من آثر اللذات فاتته اللذات
فهذه اللم والمراض والمشاق من أعظم النعم إذ هي أسباب النعم وما
304
تنال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمور جدا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها
كما ينالها من حر
) (24/89
) (24/90
305
والنقص ولوازم ذلك ولوازم تلك اللوازم ولكن أكثر النفوس جاهلة بالله
وحكمته وعلمه وكماله فيفرض أمورا ممتنعة ويقدرها تقديرا ذهنيا ويحسب
أنها أكمل من الممكن الواقع ومع هذا فربها يرحمها لجهلها وعجزها ونقصها
فإن اعترفت بذلك واعترفت له بكماله وحمده وقامت بمقتضى هذين
العترافين كان نصيبها من الرحمة أوفر والله سبحانه افتتح الخلق بالحمد
ت
ماَوا ِ س َخل َقَ ال ّذي َ مد ُ ل ِل ّهِ ال ّ ِ وختم أمر هذا العالم بالحمد فقال} :ال ْ َ
ح ْ
ب ال َْعال َ ِ
مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ ل ال ْ َ م ِبال ْ َ َ
ن{ وأنزلمي َ ح ْ حقّ وَِقي َ ي ب َي ْن َهُ ْ
ض َ َواْلْر َ
ض{ وقال} :وَقُ ِ
كتابه بالحمد وشرع دينه بالحمد وأوجب ثوابه وعقابه بالحمد فحمده من
لوازم ذاته إذ يستحيل أن يكون إل محمودا فالحمد سبب الخلق وغايته الحمد
أوجبه وللحمد وجد فحمده واسع
) (24/91
ص -252-لما وسعه علمه ورحمته وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما فلم
يوجد شيئا ولم يقدره ولم يشرعه إل بحمده ولحمده وكل ما خلقه وشرعه
فهو متضمن للغايات الحميدة ول بد من لوازمها ولوازم لوازمها ولهذا مل
حمده سماواته وأرضه وما بينهما وما شاء من شيء بعد مما خلقه ويخلقه
بعد هذا الخلق فحمده مل ذلك كله وحمده تعالى أنواع حمد على ربوبيته
وحمد على تفرده بها وحمد على ألوهيته وتفرده وحمد على نعمته وحمد على
منته وحمد على حكمته وحمد على عدله في خلقه وحمد على غناه عن إيجاد
الولد والشريك والولي من الذل وحمده على كماله الذي ل يليق بغيره فهو
محمود على كل حال وفي كل آن ونفس وعلى كل ما فعل وكل ما شرع
وعلى كل ما هو متصف به وعلى كل ما هو منزه عنه وعلى كل ما في
الوجود من خير وشر ولذة وألم وعافية وبلء فكما أن الملك كله له والقدرة
كلها له والعزة كلها له والعلم كله له والجمال كله له والحمد كله له كما في
الدعاء المأثور "اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله واليك
يرجع المر كله وأنت أهل لن تحمد" وما عمرت الدنيا إل بحمده ول الجنة إل
بحمده ول النار إل بحمده حتى أن أهلها ليحمدونه كما قال الحسن" :لقد
دخل أهل النار النار وإن قلوبهم لتحمده ما وجدوا عليه من حجة ول سبيل".
فصل :فإن قيل فأي لذة وأي خير ينشأ من العذاب الشديد الدائم الذي ل
ينقطع ول يفتر عن أهله بل أهله فيه أبد الباد كلما نضجت جلودهم بدلوا
جلودا غيرها ل يقضي عليهم فيموتوا ول يخفف عنهم طرفة عين قيل لعمر
الله هذا سؤال يقلقل الجبال فضل عن قلوب الرجال وعن هذا السؤال أنكر
من أنكر حكمة العزيز الحكيم ورد المر إلى مشيئة محضة ل سبب لها ول
غاية وجوز على الله أن يعذب أهل طاعته وأولياءه وينزلهم إلى أسفل
) (24/92
الجحيم وينعم أعداءه المشركين به ويرفعهم إلى أعلى جنات النعيم أبد الباد
وأن يدخل النار من شاء بغير سبب ول عمل أصل وأن يفاوت بين أهلها مع
مساويهم في العمال ويسوي بينهم في العذاب مع تفاوتهم في العمال وأن
يعذب الرجل بذنب غيره وأن يبطل حسناته كلها فل يثيبه بها أو يثيب بها غيره
306
وكل ذلك جائز عليه ل يعلم أنه ل يفعله إل بخبر صادق إذ نسبه ذلك وضده
إليه على حد سواء وقالوا ول مخلص عن هذا السؤال إل بهذا الصل وربما
تمسكوا بظاهر من القول لم يضعوه على مواضعه ولم يجمعوا بينه وبين أدلة
العدل والحكمة وتعليق المور بأسبابها وترتيبها عليها وآثار الموازنة والمقابلة
وأخطأوا في فهم القرآن كما أخطأوا في وصف الرب بما ل يليق به وفي
التجويز عليه ما ل يجوز عليه وقابلهم مثبتو السباب والحكم من القدرية
وزعموا أنهم يتخلصون من قبيح القول بما أثبتوه من الحكمة والتعليل ولكن
وقعوا في نظيره أو ما هو شر منه حيث أوجبوا على الله سبحانه تخليد من
أفنى عمره في طاعته ثم ارتكب كبيرة واحدة ومات مصرا عليها في النار
مع أعدائه الكفار أبد الباد ولم يرقبوا له طاعة ولم يرعوا له إسلما وهم في
هذا المذهب شر قول من إخوانهم الجبرية فإن أولئك لم يوجبوا على الله
ذلك الحكم وإنما جوزوه عليه وجوزوا أن ل يفعله وهؤلء أوجبوا عليه تخليد
أهل الكبائر مع الكفار ولم يجوزوا عليه إخراجهم منها وأصابهم في غلطهم
على القرآن والسنة وما يجوز على الرب وما ل يجوز عليه ما أصاب إخوانهم
من الجبرية ولما ظن غيرهم من أهل النظر والبحث أن هذا هو الفساد الذي
أخبرت به الرسل وعلموا أن هذا مناف للحكمة والرحمة والعدل والمصلحة
قالوا أن ذلك
) (24/93
307
) (24/94
ول يجازي إل بحق فالباطل ل يضاف إليه بل الباطل ما لم يضف إليه كالحكم
الباطل والدين الباطل الذي لم يأذن فيه ولم يشرعه على ألسنة رسله
والمعبود الباطل الذي ل يستحق العبادة وليس أهل لها فعبادته باطلة ودعوته
باطلة والقول الباطل هو الكذب والزور والمحال من القول الذي ل يتعلق
بحق موجود بل متعلقه باطل ل حقيقة له وهو سبحانه إنما خلق الخلق
لعبادته ومعرفته وأصل عبادته محبته على آلئه ونعمه وعلى كماله وجلله
وذلك أمر فطري ابتدأ الله عليه خلقه وهي فطرته التي فطر الناس عليها
ك َفاط ِ ِ
ر كما فطرهم على القرار به كما قالت الرسل لممهم} :أ َِفي الل ّهِ َ
ش ّ
ض{ فالخلق مفطورون على معرفته وتوحيده فلو خلوا وهذه َْ
ت َوالْر ِ
ماَوا ِ
س َ
ال ّ
الفطرة لنشأوا على معرفته وعبادته وحده وهذه الفطرة أمر خلقي خلقوا
عليه ول تبديل لخلقه فمضى الناس على هذه الفطرة قرونا عديدة ثم عرض
لها موجب فسادها وخروجها عن الصحة والستقامة بمنزلة ما يعرض للبدن
الصحيح والطبيعة الصحيحة مما يوجب خروجهما عن الصحة إلى النحراف
فأرسل رسله ترد الناس إلى فطرتهم الولى التي فطروا عليها فانقسم
الناس معهم ثلثة أقسام ،منهم من استجاب لهم كل الستجابة وانقاد إليهم
كل النقياد فرجعت فطرته إلى ما كانت عليه مع ما حصل لها من الكمال
والتمام في قوتي العلم النافع والعمل الصالح فازدادت فطرتهم كمال إلى
كمالها فهؤلء ل يحتاجون في المعاد إلى تهذيب وتأديب ونار تذيب فضلتهم
الخبيثة وتطهرهم من الردن والوساخ فإن انقيادهم للرسل أزال عنهم ذلك
كله ،وقسم استجابوا لهم من وجه دون وجه فبقيت عليهم بقية من الدران
والوساخ التي تنافي الحق الذي خلقوا له فهيأ لهم العليم الحكيم من الدوية
البتلء والمتحان بحسب تلك الدواء
) (24/95
ص -254-التي قامت بهم فإن وفت بالخلص منها في هذه الدار وإل ففي
البرزخ فإن وفي بالخلص وإل ففي موقف القيامة وأهوالها ما يخلصهم من
تلك البقية فإن وفي بها وإل فل بد من المداواة بالدواء العظم وآخر الطب
الكي فيدخلون كير التمحيص والتخليص حتى إذا هذبوا ولم يبق للدواء فائدة
أخرجوا من مارستان المرضى إلى دار أهل العافية كما دل على ذلك السنة
المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصرح به في قوله" :حتى إذا
ها ُ
خلو َ م َفاد ْ ُ
هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة" وكذلك قوله تعالى} :ط ِب ْت ُ ْ
ن{ فلم يأذن لهم في دخولها إل بعد طيبهم فإنها دار الطيبين فليس دي َ
خال ِ ِ
َ
فيها شيء من الخبث أصل ولهذا يلبث هؤلء في النار على قدر حاجتهم إلى
التطهر وزوال الخبث ،القسم الثالث قوم لم يستجيبوا للرسل ول انقادوا لهم
بل استمروا على الخروج عن الفطرة ولم يرجعوا إليها واستحكم فسادها
فيهم أتم استحكام ل يرجى لهم صلح فهؤلء ل يفي مجيء الدنيا ومصائب
الموت وما بعده وأهوال القيامة بزوال أوساخهم وأدرانهم ول يليق بحكمة
العليم الحكيم أن يجاور بهم الطيبين في دارهم ولم يخلقوا للفناء فهؤلء أهل
308
دار البتلء والمتحان باقون فيها ببقاء ما معهم من درن الكفر والشرك والنار
إنما أوقدت عليهم بأعمالهم الخبيثة فعذابهم بنفس أعمالهم السيئة لهم منها
صور من العذاب يناسبها ويشاكلها فالعذاب باق عليهم ما بقيت حقائق تلك
العمال وما تولد منها فما دامت موجبات العذاب باقية فالعذاب باق ،يبقى
أن يقال فهل ذهب أثر الفطرة الولى بالكلية بحيث صارت كأن لم تكن
وبطلت بالكلية وانتقل المر إلى العارض المفسد لها وعلى هذا فل سبيل إلى
خلصهم من العذاب إذ هو أثر ذلك الفساد الذي أزال الفطرة أو يقال
الفطرة لم تذهب بالكلية وإنما استحكم مرضها وفسادها وأصلها باق كما
يستحكم مرض البدن وفساده والحياة قائمة به لكنها حياة ل تنفع فإذا قدر
دواء كريه صعب
) (24/96
التناول ل سبيل إلى الصحة إل بتكرير تناوله مرارا كثيرة العدد جدا يزيل ذلك
المرض العارض فيظهر أثر الفطرة الولى فل يحتاج بعده إلى الدواء هذا سر
المسألة ومن يذهب إلى هذا التقدير الثاني فإنه يقول العقل ل يدل على
امتناع ذلك إذ ليس فيه ما يحيله ونقول بل قد دل العقل والنقل والفطرة
على أن الرب تعالى حكيم رحيم والحكمة والرحمة تأبى بقاء هذه النفوس
في العذاب سرمدا أبد الباد بحيث يدوم عذابها بدوام الله فهذا ليس من
الحكمة والرحمة قالوا وقد دلت الدلئل الكثيرة من النصوص والعتبار على
أن ما شرعه الله في هذه الدار وقدره من العذاب والعقوبات فإنما هو
لتهذيب النفوس وتصفيتها من الشر الذي فيها ولحصول مصلحة الزجر
والتعاظ وفطما للنفوس عن المعاودة وغير ذلك من الحكم التي إذا حصلت
خل التعذيب عن الحكمة والمصلحة فيبطل فإنه تعذيب عليم حكيم رحيم ل
يعذب سدى ول لنفع يعود إليه بالتعذيب بل كل المرين محال وإذا ل يقع
التعذيب إل لمصلحة المعذب أو مصلحة غيره ومعلوم أنه ل مصلحة له ول
لغيره في بقائه في العذاب سرمدا أبد الباد قالوا فمما دل عليه القرآن
م والسنة أن جنس اللم لمصلحة بني آدم قوله تعالى} :ذ َل َ َ
صيب ُهُ ْ
م ل يُ ِ ك ب ِأن ّهُ ْ ِ
ْ ُ ً ُ ظَ ٌ
فاَر َول طئا ي ُِغيظ الك ُ ّ مو ْ ِ ن َ ل الل ّهِ َول ي َط َأو َ سِبي ِ ة ِفي َ ص ٌ م َ خ َ م ْ ب َول َ ص ٌ مأ َول ن َ َ َ
جَر َ ن الل َّ ٌ َ ُ ّ ً ي ََنا ُ
ضيعُ أ ْ ه ل يُ ِ ح إِ ّصال ِ ٌ
َ ل م
َ َ ع ِ ه ب م
ُ ْ ِ ه ل بَ ِ ت ك ل ِ إ لْ يَ ن ّ وُ دَ ع نْ م
ِ ن
َ لو
ن{ فأخبر أن ري َ
كافِ ِ حقَ ال ْ َ م َمُنوا وَي َ ْ نآ َ ذي َ ه ال ّ ِ ص الل ّ ُ ح َ م ّ ن{ وقوله} :وَل ِي ُ َ سِني َ
ح ِ م ْ ال ْ ُ
ألم القتل والجراح في سبيله تمحيص أي تطهير وتصفية للمؤمنين وبشر
الصابرين على ألم الجوع والخوف والفقر وفقد الحباب وغيرهم بصلته
ه{ جَز ب ِ ِ سوءا ً ي ُ ْ ل ُ م ْن ي َعْ َم ْ عليهم ورحمته وهدايته وقال تعالىَ } :
) (24/97
ص -255-قال أبو بكر الصديق" :يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر وإننا لم
نعمل سوأ فقال :يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن أليس يصبك الذى
َ
ة
صيب َ ٍ
م ِن ُ
م ْ صاب َك ُ ْ
م ِ ما أ َ
قال :بلى قال :فذلك مما تجزون به" وقال تعالى} :وَ َ
َ
م{ وفي هذا تبشير وتحذير إذ أعلمنا أن مصائب الدنيا ديك ُ ْ
ت أي ْ ِ ما ك َ َ
سب َ ْ فَب ِ َ
عقوبات لذنوبنا وهو أرحم أن يثني العقوبة على عبده بذنب قد عاقبه به في
309
الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم" :من بلي بشيء من هذه القاذورات
فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ومن عوقب به
في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده" وفي الحديث" :الحدود
كفارات لهلها" وفي الصحيحين من حديث عبادة" :ومن أصاب من ذلك شيئا
فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له" وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:
"ما يصيب المؤمن من وصب ول نصب ول هم ول حزن ول أذى حتى الشوكة
يشاكها إل كفر الله بها من خطاياه" وقال" :ل يزال البلء بالمؤمن في أهله
وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة" وفي حديث آخر" :إن
المؤمن إذا مرض خرج مثل البردة في صفائها ولونها" وفي الحديث الخر:
"إن الحمى تنفي الذنوب كما ينفي الكير الخبيث الحديد" وفي حديث آخر:
"ل تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم" ومن أسماء الحمى مكفرة
الذنوب وفي الحديث الصحيح" :يقول الله عز وجل يوم القيامة عبدي
مرضت فلم تعدني قال كيف أعودك وأنت رب العالمين قال مرض عبدي
فلن فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده" وهذا أبلغ من قوله في الطعام
والسقاء لوجدت ذلك عندي فهو سبحانه عند المبتلى بالمرض رحمة منه له
وخيرا وقربا منه لكسر قلبه بالمرض فإنه عند المنكسرة قلوبهم وهذا أكبر
من أن يذكر ورب الدنيا والخرة واحد وحكمته ورحمته موجودة في الدنيا
والخرة بل ظهور رحمته في الخرة أعظم فعذاب المؤمنين بالنار في الخرة
هو من هذا الباب كعذابهم في الدنيا بالمصائب والحدود
) (24/98
وكذلك حبسهم بين الجنة والنار حتى يهذبوا وينقوا وقد علم بالنصوص
الصحيحة الصريحة أن عذابهم في النار متفاوت قدرا ووقتا بحسب ذنوبهم
وأنهم ل يخرجون منها جملة واحدة بل شيئا بعد شيء حتى يبقى رجل هو
آخرهم خروجا وكذلك عذاب الكفار فيها متفاوت تفاوتا عظيما فالمنافقون
في دركها السفل وأبو طالب أخف أهلها عذابا في ضحضاح من بئر يغلي منه
دماغه وآل فرعون في أشد العذاب قالوا فإذا كان العذاب في الدار التي فيها
رحمة واحدة من مائة رحمة هو رحمة بأهله ومصلحة لهم ولطف بهم فكيف
في الدار التي يظهر فيها مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء
َ ب اْل َد َْنى ُدو َ
ب اْلك ْب َ ِ
ر ن ال ْعَ َ
ذا ِ ذا ِ ن ال ْعَ َم َ م ِقن ّهُ ْ والرض وقد قال تعالى} :وَل َن ُ ِ
ذي َ
ن{ فأخبر أنه يعذبهم رحمة بهم ليردهم العذاب إليه كما يعذب جُعو َ ل َعَل ّهُ ْ
م ي َْر ِ
الب الشفيق ولده إذا فر منه إلى عدوه ليرجع إلى بره وكرامته وقال الله
كرا ً عَِليمًا{ شا ِ ه َ ن الل ّ ُ م وَ َ
كا َ من ْت ُ ْ
م َوآ َ شك َْرت ُ ْن َ م إِ ْذاب ِك ُ ْ ل الل ّ ُ
ه ب ِعَ َ فعَ ُما ي َ ْ
تعالىَ } :
وأنت تجد تحت هذه الكلمات أن تعذيبه لكم ل يزيد في ملكه ول ينتفع به ول
هو سدى خال من حكمة ومصلحة وأنكم إذا بدلتم الشكر واليمان بالكفر
كان عذابكم منكم وكان كفركم هو الذي عذبتم به وإل فأي شيء يلحقه من
عذابكم وأي نفع يصل إليه منه قالوا وحينئذ فالحكمة تقتضي أن النفوس
الشريرة ل بد لها من عذاب يهذبها بحسب وقوعها كما دل على ذلك السمع
والعقل وذلك يوجب النتهاء ل الدوام قالوا والله تعالى لم يخلق النسان عبثا
وإنما خلقه ليرحمه ل ليعذبه وإنما اكتسب موجب العذاب بعد خلقه له
310
فرحمته له سبقت غضبه وموجب الرحمة فيما سابق على موجب الغضب
وغالب له وتعذيبه ليس
) (24/99
شفاء العليل
الباب الثالث والعشرون :في استيفاء شبه نفاة الحكمة وذكر الجوبة
المفصلة عنها
ص -256-هو الغاية لخلقه وإنما تعذيبه لحكمة ورحمة والحكمة والرحمة
تأبى أن يتصل عذابه سرمدا إلى غير نهاية أما الرحمة فظاهر وأما الحكمة
فلنه إنما عذب على أمر طرأ على الفطرة وغيرها ولم يخلق عليه من أصل
الخلقة ول خلق له فهو لم يخلق للشراك ول للعذاب وإنما خلق للعبادة
والرحمة ولكن طرأ عليه موجب العذاب فاستحق عليه العذاب وذلك
الموجب ل دوام له فإنه باطل بخلف الحق الذي هو موجب الرحمة فإنه دائم
بدوام الحق سبحانه وهو الغاية وليس موجب العذاب غاية كما أن العذاب
ليس بغاية بخلف الرحمة فإنها غاية وموجبها غاية فتأمله حق التأمل فإنه سر
المسألة ،قالوا والرب تعالى تسمى بالغفور الرحيم ولم يتسمى بالمعذب ول
عَباِدي ئ ِ بالمعاقب بل جعل العذاب والعقاب في أفعاله كما قال تعالى} :ن َب ّ ْ
َ َ أ َّني أ ََنا ال ْغَ ُ
ن َرب ّكَ م{ وقال تعالىّ } : ب اْلِلي ُ ذا ُ ذاِبي هُوَ ال ْعَ َ ن عَ َ م وَأ ّ حي ُ فوُر الّر ِ
ه هُوَ ي ُب ْدِ ُ
ئ ديد ٌ إ ِن ّ ُ
ش ِ ك لَ َش َرب ّ َن ب َط ْ َ م{ وقال} :إ ِ ّ حي ٌ فوٌر َر ِ ه ل َغَ ُب وَإ ِن ّ ُ قا ِ ريعُ ال ْعِ َ س ِ
َ
ْ ْ ّ ْ ُ ْ ْ
زيزِ العَِليم ِ ن اللهِ العَ ِ م َب ِ زيل الك َِتا ِ فوُر الوَُدوُد{ وقال} :حم ت َن ْ ِ وَي ُِعيد ُ وَهُوَ الغَ ُ
ب{ وهذا كثير في القرآن فإنه سبحانه قا ِ ْ
ديدِ العِ َش ِ ب َ ل الت ّوْ ِ َ
ب وَقاب ِ ِ غافِرِ الذ ّن ْ ِ َ
يتمدح بالعفو والمغفرة والرحمة والكرم والحلم ويتسمى ولم يتمدح بأنه
المعاقب ول الغضبان ول المعذب ول المسقم إل في الحديث الذي فيه تعديد
السماء الحسنى ولم يثبت وقد كتب على نفسه كتابا أن رحمته سبقت غضبه
وكذلك هو في أهل النار فإن رحمته فيهم سبقت غضبه فإنه رحمهم أنواعا
من الرحمة قبل أن
) (25/1
311
حصلت وإن كانت تكميل لذته وبهجته وسروره بأن يرى عدوه في تلك الحال
وهو في غاية النعيم فهذا لو كان أقسى الخلق لرق لعدوه من طول عذابه
ودوام ما يقاسيه فلم يبق إل كسر تلك النفوس الجبارة العتيدة ومداواتها
كيما تصل إلى مادة أدوائها وأمراضها فتحسمها وتلك المادة شر طارئ على
خير خلقت عليه في ابتداء فطرتها قالوا والقسام الممكنة في الخلق خمسة
ل مزيد عليها خير محض ومقابله وخير راجح ومقابله وخير وشر متساويان
والحكمة تقتضي إيجاد قسمين منها وهما الخير الخالص والراجح وأما الشر
الخالص أو الراجح فإن الحكمة ل تقتضي وجوده بل تأبى ذلك فإن كل ما
خلقه الله سبحانه فإنما خلقه لحكمة وجودها أولى من عدمها وخلق الدواب
الشريرة والفعال التي هي شر لما يترتب على خلقها من الخير المحبوب
فلم يخلق لمجرد الشر الذي ل يستلزم خيرا بوجه ما هذا غاية المحال فالخير
هو المقصود بالذات بالقصد الول والشر إنما قصد قصد الوسائل والمبادئ ل
قصد الغايات والنهايات وحينئذ فإذا حصلت الغاية المقصودة بخلقه بطل
وزال كما
) (25/2
تبطل الوسائل عند النتهاء إلى غاياتها كما هو معلوم بالحس والعقل وعلى
هذا فالعذاب شر وله غاية تطلب به
ص -257-وهو وسيلة إليها فإذا حصلت غايته كان بمنزلة الطريق الموصلة
إلى القصد فإذا وصل بها السائر إلى مقصده لم يبق لسلوكها فائدة وسر
المسألة أن الرحمة غاية الخلق والمر ل العذاب فالعذاب من مخلوقاته وذلك
مقتضى أنه خلقه لغاية محمودة ول بد من ظهور أسمائه وأثر صفاته عموما
وإطلقا فإن هذا هو الكمال والرب جل جلله موصوف بالكمال منزه عن
َ
م ِفيَها َزِفيٌر في الّنارِ ل َهُ ْ قوا فَ ِ ش ُ ن َ ذي َ ما ال ّ ِ النقص قالوا وقد قال تعالى} :فَأ ّ
َ
كن َرب ّ َك إِ ّ شاَء َرب ّ َ ما َ ض إ ِّل َ ت َواْلْر ُ ماَوا ُ س َت ال ّ م ِ ما َدا َ ن ِفيَها َ دي َ خال ِ ِشِهيقٌ َ وَ َ
ه{ قال أبو شاَء الل ّ ُ ما َ ن ِفيَها إ ِّل َ دي َ خال ِ ِ م َ واك ُ ْ مث ْ َ
د{ وقال} :الّناُر َ ري ُ ما ي ُ ِ ل لِ َ فَّعا ٌ
سعيد الخدري" :هذه تقضي على كل آية في القرآن" ذكره البيهقي وحرب
وغيرهما وقال عبد الله بن مسعود" :ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد
وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا" وعن عمر بن الخطاب وأبي هريرة مثله
ذكره جماعة من المصنفين في السنة وهذا يقتضي أن الدار التي ل يبقى
فيها أحد هي التي يلبث فيها أهلها أحقابا وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:
ذوٍذ{ ولم ج ُ طاًء غَي َْر َ
م ْ "أخبرنا الله بالذي يشاء لهل الجنة فقال تعالى} :عَ َ
يخبرنا بالذي يشاء لهل النار" قالوا ويكفينا ما في سورة النعام من قوله:
شر ال ْجن قَد استك ْث َرتم من اْلنس وَقا َ َ
ل أوْل َِياؤُهُ ْ
م ِ ّ ِ ْ َ ْ ُ ْ ِ َ ِْ ِ َ معْ َ َ ميعا ً َيا َ ج ِ م َ شُرهُ ْ ح ُ م يَ ْ}وَي َوْ َ
َ َ
ت لَنا قال الّناُر َ ْ َ ّ َ َ َ م َ ْ
جل َ ذي أ ّ جلَنا ال ِ ض وَب َلغَْنا أ َ ضَنا ب ِب َعْ ٍ مت َعَ ب َعْ ُ ست َ ْس َرب َّنا ا ْ ن ال ِن ْ ِ ِ
َ
معْشَر م{ إلى قوله} :ا َ م عَِلي ٌ كي ٌ
ح ِ َ
ن َرب ّك َ ه إِ ّ ّ
ما شاَء الل ُ َ ّ
ن ِفيَها إ ِل َ دي َ خال ِ ِ م َ ُ
واك ْ ْ
مث َ َ
م ي َأ ْت ِك ُْ
م ْ َ لال ْجن واْلنس أ َ
ِ ّ َ ِْ ِ
) (25/3
312
شهِد َْنا عََلى ذا َقاُلوا َ م هَ َ مك ُ ْ قاَء ي َوْ ِ م لِ َ م آَياِتي وَي ُن ْذُِرون َك ُ ْ ن عَل َي ْك ُ ْ صو َ ق ّ م يَ ُ من ْك ُ ْ ل ِ س ٌ ُر ُ
كاُنوا َ م َ َ َ َ ْ أ َن ْ ُ
ن{ وهذا ري َ كافِ ِ م أن ّهُ ْ سهِ ْ ف ِ دوا عَلى أن ْ ُ شهِ ُ حَياةُ الد ّن َْيا وَ َ م ال َ سَنا وَغَّرت ْهُ ُ ف ِ
خطاب للكفار من الجن والنس من وجوه ،أحدها استكبارهم منهم أي من
إغوائهم وإضللهم وإنما استكبروا من الكفار ،الثاني قوله} :وَقا َ َ
ل أوْل َِياؤُهُ ْ
م َ
س{ وأولياؤهم هم الكفار كما قال تعالى} :إنا جعلنا الشياطين أولياء م َ ْ
ن ال ِن ْ ِ ِ
ْ
جعَلَنا للذين ل يؤمنون{ فحزب الشيطان هم أولياؤه والثالث قوله} :إ ِّنا َ
شياطي َ
ن ِفيَها دي َ خال ِ ِ م َ واك ُ ْ مث ْ َ
ن{ ومع هذا فقال} :لّناُر َ مُنو َ ن ل ي ُؤْ ِ ذي َ ن أوْل َِياَء ل ِل ّ ِ ال ّ َ ِ َ
م{ فتعذيبهم متعلق م عَِلي ٌ كي ٌ ح ِ َ
ن َرب ّك َ ه{ ثم ختم الية بقوله} :إ ِ ّ ّ
شاَء الل ُ ما َ إ ِّل َ
بعلمه وحكمته وكذلك الستثناء صادر عن علم وحكمة فهو عليم بما يفعل
بهم حكيم في ذلك قالوا وقد ورد في القرآن أنه سبحانه إذا ذكر جزاء أهل
رحمته وأهل غضبه معا أّبد جزاء أهل الرحمة وأطلق جزاء أهل الغضب
َ
ما
ن ِفيَها َ دي َ خال ِ ِ شِهيقٌ َ م ِفيَها َزِفيٌر وَ َ في الّنارِ ل َهُ ْ قوا فَ ِ ش ُ ن َ ذي َ ما ال ّ ِ كقوله} :فَأ ّ
َ َ
ن
ذي َ ما ال ّ ِ ريد ُ أ ّ ما ي ُ ِ ل لِ َ ك فَّعا ٌ ن َرب ّ َ ك إِ ّ شاَء َرب ّ َ ما َ ض إ ِّل َ ت َواْلْر ُ ماَوا ُ س َ ت ال ّ م ِ َدا َ
كشاَء َرب ّ َ ما َ ّ َ ْ ْ دوا فَ ِ
ض إ ِل َ ت َوالْر ُ ماَوا ُ س َ ت ال ّ م ِ ما َدا َ ن ِفيَها َ دي َ خال ِ ِ جن ّةِ َ في ال َ سعِ ُ ُ
ن ِفي كي ر شْ م ْ لوا ب تا ك ْ ل ا ل ْ ه َ أ ن م روا َ ف َ ك ن ذي ّ ل ا ن } وقوله: ذ{ ُ
ذو ج م ر يَ غ ً ء َ
طا عَ
ِ َ ُ ِ َِ َ ِ ِ ْ ِ ُ َ ِ ّ ٍ ْ َ َ ْ
ت ُ ّ ْ م َ َ ُ
ن ِفيَها أولئ ِ َ
حا ِ صال ِ َ ملوا ال ّ مُنوا وَعَ ِ نآ َ ذي َ ن ال ِ شّر الب َرِي ّةِ إ ِ ّ ك هُ ْ دي َ خال ِ ِ م َ جهَن ّ َ َنارِ َ
َ ْ ْ ُ
حت َِها الن َْهاُر ن تَ ْ م ْ ري ِ ج ِ ن تَ ْ ت عَد ْ ٍ جّنا ُ م َ عن ْد َ َرب ّهِ ْ م ِ جَزاؤُهُ ْ خي ُْر الب َرِي ّةِ َ م َ أول َئ ِك هُ َْ
َ
ن ِفيَها أَبدا ً دي َ خال ِ ِ َ
) (25/4
جوهٌض وُ ُ م ت َب ْي َ ّ ه{ وقوله} :ي َوْ َ ي َرب ّ ُ ش َ خ ِ ن َم ْ ك لِ َ ه ذ َل ِ َ ضوا عَن ْ ُ م وََر ُ ه عَن ْهُ ْ ي الل ّ ُ ض َ َر ِ
ب ْ
ذوقوا العَ َ ُ َ
مف ُ ُ َ َ ّ َ َ
ذا َ مان ِك ْ م ب َعْد َ ِإي َ فْرت ُ ْ م أك َ جوهُهُ ْ ت وُ ُ سوَد ّ ْ نا ْ ذي َ
ما ال ِ جوه ٌ فأ ّ سوَد ّ وُ ُ وَت َ ْ
م ِفيَها ه ه ّ ل ال ةم ح ر في َ ف م ه ه جو و ت ض يب ا ن ذي ّ لا ما َ ْ ُ
ِ ُ ْ َ ْ َ ِ ِ َ َْ ّ ْ ُ ُ ُ ُ ْ ِ ما ْ ُ ْ َ ُ َ َ ّ
أو ن رو ُ ف ك ت م ت ن ك بِ َ
ص
ن ي َعْ ِ م ْ
ن{ وقد يقرن بينهما في الذكر ويقضي لهم بالخلود كقوله} :وَ َ دو َ خال ِ ُ َ
َ
ص الل ّ َ
ه ن ي َعْ ِ م ْ ن ِفيَها أَبدًا{ وقوله} :وَ َ دي َ خال ِ ِم َ جهَن ّ َ ه َناَر َ ن لَ ُ ه فَإ ِ ّ سول َ ُ ه وََر ُ الل ّ َ
ن{ ولكن مجرد مِهي ٌ ب ُ ذا ٌ ه عَ َ خاِلدا ً ِفيَها وَل َ ُ ه َنارا ً َ خل ْ ُ دود َهُ ي ُد ْ ِ ح ُ ه وَي َت َعَد ّ ُ سول َ ُ وََر ُ
ذكر الخلود والتأبيد ل يقتضي عدم النهاية بل الخلود هو المكث الطويل
كقولهم قيد مخلد وتأبيد كل شيء بحسبه فقد يكون التأبيد لمدة الحياة وقد
من ّوْهُ
ن ي َت َ َ يكون لمدة الدنيا قال تعالى عن اليهود} :وَل َ ْ
) (25/5
) (25/6
واقِعٌك لَ َ ب َرب ّ َذا َ ن عَ َ ول يقلع العذاب عنه ول يدفعه عنه أحد كما قال تعالى} :إ ِ ّ
ن غََراما{ أي ً كا َذاب ََها َ
ن عَ َ ن َدافٍِع{ وهو لزم ل يفارق قال تعالى} :إ ِ ّ م ْ ه ِ ما ل َ ُ َ
لزما ومنه سمى الغريم غريما لملزمة غريمه.
فصل :وأما الثار في هذه المسألة فقال الطبراني حدثنا عبد الرحمن بن
سلم حدثنا سهل بن عثمان حدثنا عبد الله بن مسعر بن كدام عن جعفر بن
الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم" :ليأتين
على جهنم يوم كأنها ورق هاج واحمر تخفق أبوابها" وقال حرب في مسائله:
تماَوا ُ س َ ت ال ّ م ِ ما َدا َن ِفيَها َ دي َ
خال ِ ِ"سألت إسحاق قلت قول الله عز وجلَ } :
َ
ك{ قال :أتت هذه الية على كل وعيد في القرآن" شاَء َرب ّ َ ما َ ض إ ِّل َ َواْلْر ُ
حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال قال أبي حدثنا أبو نصرة
عن جابر أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال :هذه
الية تأتي على القرآن كله إل ما شاء ربك إنه فعال لما يريد قال المعتمر:
"قال أي كل وعيد في القرآن" ثم تأول حرب ذلك فقال" :معناه عندي والله
أعلم أنها تأتي على كل وعيد في القرآن لهل التوحيد وكذلك قوله إل ما شاء
ربك استثنى من أهل القبلة الذين يخرجون من النار" وهذا التأويل ل يصح
ْ
مت ل ت َك َل ّ ُ م ي َأ ِلن الستثناء إنما هو في وعيد الكفار فإنه سبحانه قال} :ي َوْ َ
َ
في الّناِر{ الية ثم قال: قوا فَ ِ ش ُن َ ذي َما ال ّ ِ
سِعيد ٌ فَأ ّ
ي وَ َ ق ّ م َ
ش ِ س إ ِّل ب ِإ ِذ ْن ِهِ فَ ِ
من ْهُ ْ ف ٌ نَ ْ
ْ ّ َ
ة{ فأهل التوحيد من الذين سعدوا شقوا وآية جن ّ ِ
في ال َ دوا فَ ِ سعِ ُن ُ ذي َ ما ال ِ }وَأ ّ
النعام صريحة في حق الكفار كما تقدم بيانه قال حرب وحدثنا عبيد الله بن
معاذ حدثنا أبي ثنا شعبة عن أبي حدثنا مليح سمع عمر بن ميمون يحدث عن
عبد الله بن عمرو قال" :ليأتين على جهنم يوم تصطفق فيه أبوابها ليس فيها
أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا" حدثنا عبيد الله ثنا
) (25/7
أبي ثنا شعبة عن يحيى بن أيوب عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال" :أما
الذي أقول أنه سيأتي على جهنم يوم ل يبقى فيها أحد وقرأ فأما الذين شقوا
ففي النار" الية قال عبيد الله" :كان أصحابنا يقولون يعني بها
314
ص -259-الموحدين" وقد تقدم أن هذا التأويل ل يصح وقال عبد بن حميد
في تفسيره أخبرنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن
الحسن قال قال عمر" :لو لبث أهل النار في النار بقدر رمل عالج لكان لهم
على ذلك يوم يخرجون فيه" وقال أخبرنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة
عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال" :لو لبث أهل النار في النار
عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه" ورواة هذا الثر أئمة ثقات كلهم
والحسن سمعه من بعض التابعين ورواه غير منكر له فدل هذا الحديث أنه
كان متداول بين هؤلء الئمة ل ينكرونه وقد كانوا ينكرونه على من خرج عن
السنة أدنى شيء ويروون الحاديث المبطلة لفعله وكان المام أحمد يقول
أحاديث حماد بن سلمة هي الشجا في حلوق المبدعة فلو كان هذا القول
عندهم من البدع المخالفة للسنة والجماع لسارعوا إلى رده وإنكاره وفي
واك ُ ْ
م مث ْ َ تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قولهَ} :قا َ
ل الّناُر َ
م{ قال" :ل ينبغي لحد أن م عَِلي ٌ
كي ٌ
ح ِ ن َرب ّ َ
ك َ شاَء الل ّ ُ
ه إِ ّ ن ِفيَها إ ِّل َ
ما َ دي َ
خال ِ ِ
َ
يحكم على الله في خلقه ول ينزلهم جنة ول نارا" قال الطبري" :وروي عن
ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الستثناء أن الله جعل أمر هؤلء في مبلغ
عذابه إياهم إلى مشيئته" وهذا التفسير من ابن عباس يبطل قول من تأول
الية على أن معناها سوى ما شاء الله من أنواع العذاب أو قال المعنى إل
مدة مقامهم قبل الدخول من حين بعثوا إلى أن دخلوا أو أنها في أهل القبلة
وما يعني من أو أنها يعني الواو
) (25/8
أي وما شاء الله وهذه كلها تأويلت باردة ركيكة ل تليق بالية ومن تأملها
قابًا{ قال ح َ َ
ن ِفيَها أ ْ
جزم ببطلنها وقال السدي في قوله تعالى} :لب ِِثي َ
سبعمائة حقب كل حقب سبعون سنة كل سنة ثلثمائة وستون يوما كل يوم
كألف سنة مما تعدون وتقييد لبثهم فيها بالحقاب يدل على مدة مقدرة
يحصرها العدد هذا قول الكثرين ولهذا تأول الزجاج الية على أن الحقاب
تقييد لقوله ل يذوقون فيها بردا ول شرابا وأما مدة مكثهم فيها فل يتقدر
بالحقاب وهذا تأويل فاسد فإنه يقتضي أن يكونوا بعد الحقاب ذائقين للبرد
ن{جي َ خَر ِ
م ْ
من َْها ب ِ ُ
م ِ ما هُ ْوالشراب وقالت طائفة أخرى الية منسوخة بقولهَ } :
ن{ وهذا فاسد أيضا إن أرادوا بالنسخ الرفع فإنه ل دو َ
خال ِ ُ
م ِفيَها َ
وقوله} :هُ ْ
يدخل في الخبر إل إذا كان بمعنى الطلب وإن أرادوا بالنسخ البيان فهو
صحيح وهو إنما يدل على أن عذابهم دائم مستمر ما دامت باقية فهم فيها
خالدون وما هم بمخرجين وهذا حق معلوم دللة القرآن والسنة عليه لكن
الشأن في أمر آخر وهو أن النار أبدية دائمة بدوام الرب فأين الدليل على
هذا من القرآن أو السنة بوجه من الوجوه وقالت طائفة هي في أهل التوحيد
وهذا أقبح مما قبله وسياق اليات يرده ردا صريحا ولما رأى غيرهم بطلن
هذه التأويلت قال ل يدل ذكر الحقاب على النهاية فإنها غير مقدرة بالعدد
فإنه لم يقل عشرة ول مائة ولو قدرت بالعدد لم يدل على النهاية إل
بالمفهوم فكيف إذا لم يقدر قالوا ومعنى الية أنه كلما مضى حقب تبعه
حقب ل إلى نهاية وهذا الذي قالوه ل تدل الية عليه بوجه وقولهم أن
الحقاب فيها غير مقدرة فيقال لو أريد بالية بيان عدم انتهاء مدة العذاب لم
315
يقيد بالحقاب فإن ما ل نهاية له ل يقال هو باق أحقابا ودهورا وأعصارا أو
نحو ذلك ولهذا ل يقال ذلك في نعيم أهل الجنة ول يقال للبدي الذي ل يزول
هو باق أحقابا أو آلفا من السنين فالصحابة أفهم الية لمعاني القرآن
) (25/9
وقد فهم منها عمر بن الخطاب خلف فهم هؤلء كما فهم ابن عباس من آية
الستثناء خلف فهم أولئك وفهم الصحابة في
ص -260-القرآن هو الغاية التي عليها المعول وقد قال ابن مسعود" :ليأتين
على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا"
وقال ابن جرير حديث عن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس خالدين فيها ما
دامت السماوات والرض إل ما شاء ربك قال" :أمر الله النار أن تأكلهم" قال
وقال ابن مسعود فذكره وقال حدثنا محمد بن حميد ثنا جرير عن بيان عن
الشعبي قال" :جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا" قلت ل يدل
ب َ
حا ُص َ
قوله أسرعهما خرابا على خراب الدار الخرى كما في قوله تعالى} :أ ْ
َ َ
ن{كو َ شرِ ُ
ما ي ُ ْ
خي ٌْر أ ّ ل{ وقوله} :آلل ّ ُ
ه َ قي ً
م ِ
ن َ
س ُ قّرا ً وَأ ْ
ح َ ست َ َ
م ْ
خي ٌْر ُ
مئ ِذ ٍ َ ال ْ َ
جن ّةِ ي َوْ َ
وقوله في الحديث" :الله أعل وأجل" وقوله" :أسرعهما عمرانا" يحتمل
معنيين أحدهما مسارعة الناس إلى العمال التي يدخلون بها جهنم وإبطاؤهم
عن أعمال الدار الخرى والثاني أن أهلها يدخلونها قبل دخول أهل الجنة إليها
فإن أهل الجنة إنما يدخلونها بعد عبورهم على الصراط وبعد حبسهم على
القنطرة التي وراءه وأهل النار قد تبوءوا منازلهم منها فإنهم ل يجوزون على
الصراط ول يحبسون على تلك القنطرة وأيضا ففي الحديث الصحيح" :أنه
لما ينادي المنادى لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فتتبع المشركون أوثانهم
وآلهتهم فتتساقط بهم في النار وتبقى هذه المة في الموقف حتى يأتيها ربها
عز وجل ويقول أل تنطلقون حيت انطلق الناس" وقد ذكر الخطيب في
تاريخه في ترجمة سهل بن عبيد الله بن داود ابن سليمان أبو نصر البخاري
حدثنا محمد بن نوح الجند سابوري حدثنا جعفر بن محمد بن عيسى الناقد
حدثنا سهل بن عثمان ثنا عبد الله بن
) (25/10
316
والتابعين ما يدل على أن المر بخلف ما قالوا حتى لقد ادعى إجماع
الصحابة من هذا الجانب استنادا إلى تلك النقول التي ل يعلم عنهم خلفها،
الطريق الثالث أنه كالمعلوم بالضرورة من دين السلم أن الجنة والنار ل
تفنيان بل هما باقيتان ولهذا أنكر أهل السنة كلهم على أبي الهذيل وجهم
وبشيعتهما ممن قال بفنائها وعدوا أقوالهم من أقوال أهل البدع المخالفة لما
جاء به الرسول ول ريب أن هذا من أقوال أهل البدع التي خرجوا بها عن
السنة ولكن من أين تصح دعوى العلم النظري أن النار باقية ببقاء الله دائمة
بدوامه فضل عن العلم الضروري فأين في الدلة الشرعية أو العقلية دليل
واحد يقتضي ذلك ،الطريق الرابع أن السنة المستفيضة أو المتواترة أخبرت
بخروج أهل التوحيد من النار دون الكفار وهذا معلوم من السنة قطعا وهذا
الذي قالوه حق ل ريب فيه ولكن أهل التوحيد خرجوا منها وهي باقية لم تفن
ولم تعدم والكفار ل يحصل لهم ذلك بل هم باقون فيها ما بقيت ،الطريق
الخامس أن العقل يدل على
) (25/11
ص -261-خلود الكفار فيها وعدم خروجهم منها فإن نفوسهم غير قابلة
للخير فإنهم لو خرجوا منها لعادوا كفارا كما كانوا وقد أشار تعالى إلى ذلك
ه{ وهذا يدل على غاية عتوهم وإصرارهم بقوله} :وَل َوْ ُرّدوا ل ََعاُدوا ل ِ َ
ما ن ُُهوا عَن ْ ُ
وعدم قبول الخير فيهم بوجه من الوجوه فل تصلح نفوسهم الشريرة الخبيثة
إل للعذاب ولو صلحت لصلحت على طول العذاب فحيث لم يؤثر عذابهم تلك
الحقاب الطويلة في نفوسهم ولم يطيبها علم أنه ل قابلية فيهم للخير أصل
وأن أسباب العذاب لم يطف من نفوسهم فل يطفى العذاب المترتب عليها
وهذه الطريق وإن أنكرت ببادئ الرأي فهي طريق قوية وهي ترجع إلى
طريق الحكمة وأن الحكمة التي اقتضت دخولهم هي التي اقتضت خلودهم
ولكن هذه الطريق محرم سلوكها على نفاة الحكمة وعلى مثبتيها من
المعتزلة والقدرية أما النفاة فظاهر وأما المثبتة فالحكمة عندهم أن عذابهم
لمصلحتهم وهذا إنما يصح إذا كان لهم حالتان حالة يعذبون فيها لجل
مصلحتهم وحالة يزول عنهم العذاب لتحصل لهم تلك المصلحة وإل فكيف
تكون مصلحتهم في عذاب ل انقطاع له أبدا وأما من يثبت حكمة راجعة إلى
الرب تعالى فيمكنهم سلوك هذه الطريق لكن يقال الحكمة ل تقتضي دوام
عذابهم بدوام بقائه سبحانه وهو لم يخبر أنه خلقهم لذلك وإنما يعذبون لغاية
محمودة إذا حصلت حصل المقصود من عذابهم وهو سبحانه ل يعذب خلقه
سدى وهو قادر على أن ينشئهم بعد العذاب الطويل نشأة أخرى مجردة عن
تلك الشرور والخبائث التي كانت في نفوسهم وقد أزالها طول العذاب فإنهم
خلقوا قابلين للخير على الفطرة وهذا القبول لزم لخلقتهم وبه أقروا
بصانعهم وفاطرهم وإنما طرأ عليه ما أبطل مقتضاه فإذا زال ذلك الطارئ
بالعذاب الطويل بقي أصل القبول بل معارض وأما قوله تعالى} :وَل َوْ ُرّدوا
ما ن ُُهوا عَْنه{ فهذا قبل مثابرتهم للعذاب قال تعالى} :وَل َوْ ت ََرى إ ِذ ْ ل ََعاُدوا ل ِ َ
قاُلوافوا عََلى الّنارِ فَ َ وُقِ ُ
) (25/12
317
ما َ
كاُنوا دا ل َهُ ْ
م َ ن بَ ْ
ل بَ َ مِني َمؤْ ِ ن ال ْ ُ م َ
ن ِكو َ ت َرب َّنا وَن َ ُب ِبآَيا َِيا ل َي ْت ََنا ن َُرد ّ َول ن ُك َذ ّ َ
ن{ فتلك الخبائث كاذُِبو َم لَ َه وَإ ِن ّهُ ْ ما ن ُُهوا عَن ْ ُل وَل َوْ ُرّدوا ل ََعاُدوا ل ِ َ ن قَب ْ ُ
م ْن ِ فو َ خ ُيُ ْ
والشرور قائمة بنفوسهم لم تزلها النار فلو ردوا لعادوا لقيام المقتضى للعود
ولكن أين أخبر سبحانه أنه لو ردهم بعد العذاب الطويل السرمدي لعادوا لما
نهوا عنه وسر المسألة أن الفطرة الصلية ل بد أن تعمل عملها كما عمل
الطارئ عليها عمله وهذه الفطرة عامة لجميع بني آدم كما في الصحيحين
من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" :ما من مولود إل يولد
على الفطرة" وفي لفظ "على هذه الملة" وفي صحيح مسلم من حديث
عياض بن حماد المجاشعي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن
ربه" :قال إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاحتالتهم عن
دينهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" فأخبر أن الصل فيهم
الحنيفية وأنهم خلقوا عليها وأن صدها عارض فيهم باقتطاع الشياطين لهم
عنها فمن الممتنع أن يعمل أثر اقتطاع الشياطين ول يعمل أثر خلق الرحمن
جل جلله عمله والكل خلقه سبحانه فل خالق سواه ولكن ذاك خلق يحبه
ويرضاه ويضاف أثره إليه وهذا خلق يبغضه ويسخطه ول يضاف أثره إليه فإن
الشر ليس إليه والخير كله في يديه فإن قيل فقد قال سبحانه} :وَل َوْ عَل ِ َ
م
م{ وهذا يقتضي أنه ل قابلية فيهم ول خير عندهم البتة معَهُ ْس َخْيرا ً ل ْ م َه ِفيهِ ْ الل ّ ُ
ولو كان عندهم لخرجوا به من النار مع الموحدين فإنه سبحانه يخرج من
النار من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من خير فعلم أن هؤلء ليس معهم
هذا القدر اليسير من الخير قيل الخير في هذا الحديث هو اليمان
) (25/13
ص -262-بالله ورسله كما في اللفظ الخر أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من
إيمان وهو تصديق رسله والنقياد لهم بالقلب والجوارح وأما الخير في الية
فالمراد به القبول والزكاة ومعرفة قدر النعمة وشكر المنعم عليها فلو علم
الله سبحانه ذلك فيهم لسمعهم إسماعا ينتفعون به فإنهم قد سمعوا سماعا
تقوم به عليهم الحجة فتلك القابلية ذهب أثرها وتعطلت بالكفر والجحود
وعادت كالشيء المعدوم الذي ل ينتفع به وإنما ظهر أثرها في قيام الحجة
عليهم ولم يظهر أثرها في انتفاعهم بما عملوه وتيقنوه فإن قيل فالغلم الذي
قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا وقال نوح عن قومه ول يلدوا إل فاجرا كفارا
وفي الحديث الذي رواه المام أحمد والترمذي مرفوعا" :إن بني آدم خلقوا
على طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ويحيي مؤمنا ويموت مؤمنا ومنهم
من يولد كافرا ويحي كافرا ويموت كافرا" الحديث قيل هذا ل يناقض كونه
مولودا على الفطرة فإنه طبع وولد مقدرا كفره إذا عقل وإل ففي حال
ولدته ل يعرف كفرا ول إيمانا فهي حال مقدرة ل مقارنة للعامل فهو مولود
على الفطرة ومولود كافرا باعتبارين صحيحين ثابتين له هذا بالقبول وإيثار
السلم لو خلى وهذا بالفعل والرادة إذا عقل فإذا جمعت بين الفطرة
السابقة والرحمة السابقة العالية والحكمة البالغة والغنى التام وقرنت بين
فطرته ورحمته وحكمته وغناه تبين لك المر ،الطريق السادس قياس دار
العدل على دار الفضل وأن هذه كما أنها أبدية فالخرى كذلك لن هذه توجب
318
عدله وعدله ورحمته من لوازم ذاته وهذه الطريق غير نافذة فإن العدل حقه
سبحانه ل يجب عليه أن يستوفيه ول يلحقه بتركه نقص ول ذم بوجه من
الوجوه والفضل وعده الذي وعد به عباده وأحقه على نفسه والفرق بين
الدارين من وجوه عديدة شرعا وعقل ،أحدها أن الله سبحانه أخبر بأن نعيم
الجنة ماله من نفاد وأن عطاء أهلها غير مجذوذ وأنه غير ممنون ولم يجيء
ذلك في عذاب أهل النار ،الثاني أنه
) (25/14
أخبر بما يدل على انتهاء عذاب أهل النار في عدة آيات كما تقدم ولم يخبر
بما يدل على انتهاء نعيم أهل الجنة ولهذا احتاج القائلون بالتأبيد الذي ل
انقطاع له إلى تأويل تلك اليات ولم يجئ في نعيم أهل الجنة ما يحتاجونه
إلى تخصيصه بالتأويل ،الثالث أن الحاديث التي جاءت في انتهاء عذاب النار
لم يجيء شيء منها في انتهاء نعيم الجنة ،الرابع أن الصحابة والتابعين إنما
ذكروا انقطاع العذاب ولم يذكر أحد منهم انقطاع النعيم ،الخامس أنه قد ثبت
أن الله سبحانه يدخل الجنة بل عمل أصل بخلف النار ،السادس أنه سبحانه
ينشئ في الجنة خلقا ينعمهم فيها ول ينشئ في النار خلقا يعذبهم بها ،السابع
أن الجنة من مقتضى رحمته والنار من مقتضى غضبه وأن الذين يدخلون
النار أضعاف أضعاف الذين يدخلون الجنة فلو دام عذاب هؤلء كدوام نعيم
هؤلء لغلب غضبه رحمته فكان الغضب هو الغالب السابق وهذا ممتنع،
الثامن أن الجنة دار فضله والنار دار عدله وفضله يغلب عدله ،التاسع أن النار
دار استيفاء حقه الذي له والجنة دار وفاء حقه الذي أحقه هو على نفسه وهو
سبحانه يترك حقه ول يترك الحق الذي أحقه على نفسه ،العاشر أن الجنة
هي الغاية التي خلقوا لها في الخرة وأعمالها هي الغاية التي خلقوا لها في
الدنيا بخلف النار فإنه سبحانه لم يخلق خلقه للكفر به والشراك وإنما
خلقهم لعبادته وليرحمهم ،الحادي عشر أن النعيم من موجب أسمائه وصفاته
م
حي ُفوُر الّر ِ عَباِدي أ َّني أ ََنا ال ْغَ ُ
ئ ِوالعذاب إنما هو من أفعاله قال تعالى} :ن َب ّ ْ
فوٌر َ
ه لغَ ُ ْ َ ن َرب ّ َ َ ذاِبي هُوَ ال ْعَ َ
ن عَ َ َ
ب وَإ ِن ّ ُ قا ِريعُ العِ َ س ِ
كل َ م{ وقال} :إ ِ ّ ب الِلي ُ ذا ُ وَأ ّ
ديد ُ ال ْعِ َ َ
بقا ِ ش ِ ن الل ّ َ
ه َ موا أ ّم{ وقال} :اعْل َ ُ حي ٌَر ِ
) (25/15
َ
م{ وما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه حي ٌ
فوٌر َر ِ ن الل ّ َ
ه غَ ُ ص -263-وَأ ّ
يدوم بدوامه فإن قيل فإن العذاب صادر عن عزته وحكمته وعدله وهذه
أسماء حسنى وصفات كمال فيدوم ما صدر عنها بدوامها قيل لعمر الله أن
العذاب صدر عن عزة وحكمة وعدل وانتهاؤه عند حصول المقصود منه يصدر
عن عزة وحكمة وعدل فلم يخرج العذاب ول انقطاعه عن عزته وحكمته
وعدله ولكن عند انتهائه يكون عزة مقرونة برحمة وحكمة مقرونة بجود
وإحسان وعفو وصفح فالعزة والحكمة لم يزال ولم ينقص بل صدر جميع ما
خلقه ويخلقه وأمر به ويأمر به عن عزته وحكمته ،الثاني عشر أن العذاب
مقصود لغيره ل لنفسه وأما الرحمة والحسان والنعيم فمقصود لنفسه
فالحسان والنعيم غاية والعذاب واللم وسيلة فكيف يقاس أحدهما بالخر،
319
الثالث عشر أنه سبحانه أخبر أن رحمته وسعت كل شيء وأن رحمته سبقت
غضبه وأنه كتب على نفسه الرحمة فل بد أن تسع رحمته هؤلء المعذبين فلو
بقوا في العذاب ل إلى غاية لم تسعهم رحمته وهذا ظاهر جدا فإن قيل فقد
قال سبحانه عقيبها} :فَ َ
ن{ إلى آخر الية يخرج غيرهم قو َ ن ي َت ّ ُذي َ سأك ْت ُب َُها ل ِل ّ َِ
منها لخروجهم من الوصف الذي يستحق به قيل الرحمة المكتوبة لهؤلء هي
غير الرحمة الواسعة لجميع الخلق بل هي رحمة خاصة خصهم بها دون
غيرهم وكتبها لهم دون من سواهم وهم أهل الفلح الذين ل يعذبون بل هم
أهل الرحمة والفوز والنعيم وذكر الخاص بعد العام استطرادا وهو كثير في
ن
م ْ
م ِ خل َ َ
قك ُ ْ ذي َ القرآن بل قد يستطرد من الخاص إلى العام كقوله} :هُوَ ال ّ ِ
فيفا ً مل ً َ
خ ِ ح ْت َمل َ ْح َها َ شا َ ن إ ِل َي َْها فَل َ ّ
ما ت َغَ ّ سك ُ َ جَها ل ِي َ ْ من َْها َزوْ َ
ل ِ جعَ َ حد َةٍ وَ َ س َوا ِ
َ ف ٍ نَ ْ
ما ل َئ ِ ْ
ن آت َي ْت ََنا ه َرب ّهُ َ وا الل ّ َ ت د َعَ َقل َ ْ
ما أث ْ َ ت ب ِهِ فَل َ ّ فَ َ
مّر ْ
) (25/16
ن{ فهذا استطراد من ذكر البوين إلى ذكر الذرية ري َ شاك ِ ِ ن ال ّ
م َ
ن ِ صاِلحا ً ل َن َ ُ
كون َ ّ َ
جوما ًها ُر ُ جعَل َْنا َ ب وَ َ
ِ ِ كوا
َ َ كْ لا ٍ ةَ ن زي
ِ ِ ب يا
َ ْ نّ د ال َ ء ما
ّ َس ال نا
ّ ّ ي ز
َ نا
ّ ِ إ} قوله: استطراد ومن
ن{ فالتي جعلت رجوما ليست هي التي زينت بها السماء ولكن طي ِ شَيا ِ ِلل ّ
استطرد من ذكر النوع إلى نوع آخر وأعاد ضمير الثاني على الول لدخولهما
شيٍء فَ َ
ن
ذي َسأك ْت ُب َُها ل ِل ّ َِ ل َ ْ ت كُ ّ سعَ ْ مِتي وَ ِ ح َتحت جنس واحد فهكذا قولهَ} :ر ْ
ن{ فالمكتوب للذين يتقون نوع خاص من الرحمة الواسعة والمقصود أن قو َي َت ّ ُ
الرحمة ل بد أن تسع أهل النار ول بد أن تنتهي حيث ينتهي العلم كما قالت
الملئكة ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ،الرابع عشر أنه قد صح عنه
صلى الله عليه وسلم حديث الشفاعة "قول أولي العزم إن ربي قد غضب
اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله" وهذا صريح في أن
ذلك الغضب العظيم ل يدوم ومعلوم أن أهل النار إنما دخلوها بذلك الغضب
فلو دام ذلك الغضب لدام عذابهم إذ هو موجب ذلك الغضب فإذا رضي الرب
تبارك وتعالى وزال ذلك الغضب زال موجبه وهذا كما أن عقوبات الدنيا
العامة وبلؤها آثار غضبه فإذا استمر غضبه استمر ذلك البلء فإذا رضي وزال
غضبه زال البلء وخلفته الرحمة ،الخامس عشر أن رضاه أحب إليه من
غضبه وعفوه أحب إليه من عقوبته ورحمته أحب إليه من عذابه وعطاؤه
أحب إليه من منعه وإنما يقع الغضب والعقوبة والمنع بأسباب تناقص موجب
تلك الصفات والسماء وهو سبحانه كما يحب أسماءه وصفاته ويحب آثارها
وموجبها كما في الحديث" :أنه وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال نظيف
يحب النظافة عفو يحب العفو" وهو شكور يحب الشاكرين عليم يحب
العالمين جواد يحب أهل الجود حي ستير يحب أهل الحياء والستر صبور يحب
الصابرين رحيم يحب الرحماء فهو
) (25/17
320
المقصودة لغيرها إذ هي معصية إلى ما يحب فإذا حصل بها ما يحبه وأدت
إلى الغاية المقصودة له سبحانه لم تبق مقصودة ل لنفسها ول لغيرها فتزول
ويخلفها أضدادها التي هي أحب إليه سبحانه منها وهي موجب أسمائه
وصفاته فإن فهمت سر هذا الوجه وإل فجاوزه إلى ما قبله ول تعجل بإنكاره
هذا وسر المسألة أنه سبحانه حكيم رحيم إنما يخلق بحكمة ورحمة فإذا
عذب من يعذب لحكمة كان هذا جاريا على مقتضاها كما يوجد في الدنيا من
العقوبات الشرعية والقدرية من التهذيب والتأديب والزجر والرحمة واللطف
ما يزكي النفوس ويطيبها ويمحصها ويخلصها من شرها وخبثها والنفوس
الشريرة الظالمة التي لو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهت عنه ل
يصلح أن تسكن دار السلم التي تنافي الكذب والشر والظلم فإذا عذبت هذه
النفوس بالنار عذابا يخلصها من ذلك الشر ويخرج خبثها كان هذا معقول في
الحكمة كما يوجد في عذاب الدنيا وخلق من فيه شر يزول بالتعذيب من
تمام الحكمة أما خلق نفوس شريرة ل يزول شرها البتة وإنما خلقت للشر
المحض وللعذاب السرمد الدائم بدوام خالقها سبحانه فهذا ل يظهر موافقته
للحكمة والرحمة وإن دخل تحت القدرة فدخوله تحت الحكمة والرحمة
ليست بالبين فهذا ما وصل إليه النظر في هذه المسألة التي تكع فيها عقول
العقلء وكنت سألت عنها شيخ السلم قدس الله روحه فقال لي هذه
المسألة عظيمة كبيرة ولم يجب فيها بشيء فمضى على ذلك زمن حتى
رأيت في تفسير عبد بن حميد الكثي بعض تلك الثار التي ذكرت فأرسلت
إليه الكتاب وهو في مجلسه
) (25/18
الخير وعلمت على ذلك الموضع وقلت للرسول قل له هذا الموضع يشكل
عليه ول يدري ما هو فكتب فيها مصنفه المشهور رحمة الله عليه فمن كان
عنده فضل علم فليحدثه فإن فوق كل ذي علم عليم وأنا في هذه المسألة
على قول أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه ذكر دخول
أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ووصف ذلك أحسن صفة ثم قال "ويفعل
الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء" وعلى مذهب عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما حيث يقول" :ل ينبغي لحد أن يحكم على الله في خلقه ول ينزلهم جنة
ن ِفيَها إ ِّل َ
ما دي َ
خال ِ ِ واك ُ ْ
م َ مث ْ َ ول نارا" وذكر ذلك في تفسير قولهَ} :قا َ
ل الّناُر َ
ه{ وعلى مذهب أبي سعيد الخدري حيث يقول" :انتهى القرآن كله شاَء الل ّ ُ
َ
د{ " وعلى مذهب قتادة حيث يقول: ري ُ
ما ي ُ ِ
ل لِ َ َ
ن َرب ّك فَّعا ٌإلى هذه الية} :إ ِ ّ
شاَء َرب ّك{ الله أعلم بتبينه على ما وقعت" وعلى مذهب َ ما َ "في قوله} :إ ِّل َ
ابن زيد حيث يقول" :أخبرنا الله بالذي يشاء لهل الجنة" فقال عطاء" :غير
مجذوذ ولم يخبرنا بالذي يشاء لهل النار" والقول بأن النار وعذابها دائم
بدوام الله خبر عن الله بما يفعله فإن لم يكن مطابقا لخبره عن نفسه بذلك
وإل كان قول عليه بغير علم والنصوص ل تفهم ذلك والله أعلم.
فصل :وها هنا مذاهب أخرى باطله منها قول من قال أنهم يعذبون في النار
مدة لبثهم في الدنيا وقول من قال تنقلب عليهم طبيعة نارية يلتذون بها كما
يلتذ صاحب الجرب بالحك وقول من يقول أنها تفنى هي والجنة جميعا
321
ويعودان عدما وقول من يقول تفنى حركاتها وتبقى أهلها في سكون دائم
ولم يوفق للصواب في هذا الباب غير الصحابة ومن سلك سبيلهم
) (25/19
ص -265-وبالله التوفيق.
فصل :فإن قيل فما الحكمة في كون الكفار أكثر من المؤمنين وأهل النار
َ
ت
ص َ حَر ْس وَل َوْ َما أك ْث َُر الّنا ِ أضعاف أضعاف أهل الجنة كما قال تعالى} :وَ َ
ُ
ملوا مُنوا وَعَ ِ نآ َ
ذي َ ّ
كوُر{ وقالِ} :إل ال ِ ش ُ
عَبادِيَ ال ّ ن ِ
م ْ ن{ وقال} :وَقَِلي ٌ
ل ِ مِني َ مؤ ْ ِ
بِ ُ
ن َ ّ َ ْ َ ْ َ ٌ َ
ضلوك عَ ْ ض يُ ِن ِفي الْر ِ م ْ ن ت ُط ِعْ أكثَر َ
م{ وقال} :وَإ ِ ْ ما هُ ْت وَقِليل َ
حا ِ صال ِ َال ّ
ه{ وبعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وواحد إلى ل الل ِّ س ِ ِ
بي َ
الجنة وكيف نشأ هذا عن الرحمة الغالبة وعن الحكمة البالغة وهل كان المر
بالضد من ذلك ،قيل هذا السؤال من أظهر الدلة على قول الصحابة
والتابعين في هذه المسألة وأن المر يعود إلى الرحمة التي وسعت كل شيء
وسبقت الغضب وغلبته وعلى هذا فاندفع السؤال بالكلية ثم نقول المادة
الرضية اقتضت حصول التفاوت في النوع النساني كما في المسند
والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم" :إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من
جميع الرض فكان منهم الخبيث والطيب والسهل والحزن وغير ذلك"
فاقتضت مادة النوع النساني تفاوتهم في أخلقهم وإراداتهم وأعمالهم ثم
اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة
والغضب والحب والبغض ولوازمها وابتله بعدوه الذي ل يألوه خبال ول يغفل
عنه ثم ابتله مع ذلك بزينة الدنيا وبالهوى الذي أمر بمخالفته هذا على ضعفه
وحاجته وزين له حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من
الذهب والفضة والخيل المسومة والنعام والحرث وأمره بترك قضاء أوطاره
وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة المشاهدة إلى دار أخرى غايته إنما
تحصل فيها بعد طي الدنيا والذهاب بها وكان مقتضى الطبيعة النسانية أن ل
يثبت على هذا البتلء أحد وأن
) (25/20
يذهب كلهم مع ميل الطبع ودواعي الغضب والشهوة فلم يحل بينهم وبين
ذلك خالقهم وفاطرهم بل أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وبين لهم
مواقع رضاه وغضبه ووعدهم على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في
دار النعيم فلم تقو عقول الكثرين على إيثار الجل المنتظر بعد زوال الدنيا
على هذا العاجل الحاضر المشاهد وقالوا كيف يباع نقد حاضر وهو قبض باليد
بنسيئة مؤخرة وعدنا بحصولها بعد طي الدنيا وخراب العالم ولسان حال
أكثرهم يقول "خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به" فساعد التوفيق اللهي من
علم أنه يصلح لمواقع فضله فأمده بقوة إيمان وبصيرة رأى في ضوءها
حقيقة الخرة ودوامها وما أعد الله فيها لهل طاعته وأهل معصيته ورأى
حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وقله وفائها وظلم شركائها وأنها كما وصفها
الله سبحانه لعب ولهو وتفاخر بين أهلها وتكاثر في الموال والولد وأنها
كغيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما فنشأنا في
322
هذه الدار ونحن منها وبنوها ل نألف غيرها وحكمت العادات وقهر السلطان
الهوى وساعده داعي النفوس وتقاضاه موجب الطباع وغلب الحس على
العقل وكانت الدولة له والناس على دين الملك ول ريب أن الذي يخرق هذه
الحجب ويقطع هذه العلئق ويخالف العوائد ول يستجيب لدواعي الطبع
ويعصي سلطان الهوى ل يكون إل القل ولهذا كانت المادة النارية أقل
اقتضاء لهذا الصنف من المادة الترابية لخفة النار وطيشها وكثرة نقلتها
وسرعة حركتها وعدم ثباتها والماء المادة الملكية فتر به من ذلك فلذلك كان
المخلوق خيرا كله فالعقلء المخاطبون مخلوقون من هذه المواد الثلث
واقتضت الحكمة أن يكونوا على هذه الصفة والخلقة
) (25/21
ص -266-ولو كانوا على غير ذلك لم يحصل مقصود المتحان والبتلء وتنوع
العبودية وظهور آثار السماء والصفات فلو كان أهل اليمان والخير هم
الكثرين الغالبين لفاتت مصلحة الجهاد وتوابعه التي هي من أجل أنواع
العبودية وفات الكمال المترتب على ذلك فل أحسن مما اقتضاه حكمة أحكم
الحاكمين في المخلوق من هذه المواد ثم أنه سبحانه يخلص ما في المخلوق
من تينك المادتين من الخبث والشر ويمحصه ويستخرج طيبه إلى دار
الطيبين ويلقي خبثه حيث تلقى الخبائث والوساخ وهذا غاية الحكمة كما هو
الواقع في جواهر المعادن المنتفع بها من الذهب والفضة والحديد والصفر
فخلصة هذه المواد وطيبها أقل من وسخها وخبثها والناس زرع الرض
والخير الصافي من الزرع بعد زوانه وقصله وعصفه وتبنه أقل من بقية
الجزاء وتلك الجزاء كالصور له والوقاية كالحطب والشوك للثمر والتراب
والحجارة للمعادن النفيسة.
فصل :الوجه السابع والثلثون قوله وأي حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه
يسومونهم سوء العذاب فكم لله في ذلك من حكم باهرة منها حصول
محبوبة من عبودية الصبر والجهاد وتحمل الذى فيه والرضى عنه في السراء
والضراء والثبات على عبوديته وطاعته مع قوة المعارض وغلبته وشوكته
وتمحيص أوليائه من أحكام البشرية ودواعي الطباع ببذل نفوسهم له وأذى
أعدائه لهم وتميز الصادق من الكاذب ومن يريده ويعبده على جميع الحالت
ممن يعبده على حرف وليحصل له مرتبة الشهادة التي هي من أعلى
المراتب ول شيء أبر عند الحبيب من بذل محبة نفسه في مرضاته ومجاهدة
عدوه فكم لله في هذا التسليط من نعمة ورحمة وحكمة وإذا شئت أن تعلم
ن قَب ْل ِك ُ ْ
م م ْ خل َ ْ
ت ِ ذلك فتأمل اليات من أواخر آل عمران من قوله} :قَد ْ َ
ف
خو ّ ُ
ن يُ َ شي ْ َ
طا ُ ما ذ َل ِك ُ ُ
م ال ّ ن{ إلى قوله} :ن ّ َ
سن َ ٌ
ُ
) (25/22
ن الل ّ ُ
ه ل ِي َذ ََر ما َ
كا َ ن{ إلى قولهَ } : مِني َمؤ ْ ِم ُن ك ُن ْت ُ ْ
ن إِ ْخاُفو ِ م وَ َ أ َوْل َِياَءه ُ َفل ت َ َ
خاُفوهُ ْ
َ
ب{ فكان هذا التمييز ن الط ّي ّ ِ
م َ
ث ِخِبي َميَز ال ْ َ حّتى ي َ ِ م عَل َي ْهِ َ ن عََلى َ
ما أن ْت ُ ْ مِني َمؤ ْ ِال ْ ُ
من بعض حكم ذلك التسليط ولول ذلك التسليط لم تظهر فضيلة الصبر
والعفو والحكم وكظم الغيظ ول حلوة النصر والظفر والقهر فإن الشياء
323
يظهر حسنها بأضدادها ولول ذلك التسليط لم تستوجب العداء المحق
والهانة والكبت فاستخرج ذلك التسليط من القوة إلى الفعل ما عند أوليائه
فاستحقوا كرامتهم عليه وما عند أعدائه فاستحقوا عقوبتهم عليه فكان هذا
التسليط مما أظهر حكمته وعزته ورحمته ونعمته في الفريقين وهو العزيز
الحكيم ،الوجه الثامن والثلثون قوله وأي حكمة في تكليف الثقلين
وتعريضهم بذلك العقوبة وأنواع المشاق ،فاعلم أنه لول التكليف لكان خلق
النسان عبثا وسدى والله يتعالى عن ذلك وقد نزه نفسه عنه كما نزه نفسه
م إ ِل َي َْنا ل َ عن العيوب والنقائص قال تعالى} :أ َفَحسبت َ
م عََبثا ً وَأن ّك ُ ْ خل َ ْ
قَناك ُ ْ ما َ م أن ّ َ َ ِ ُْ ْ
ى{ قال الشافي ل يؤمر ول ن ي ُت َْر َ ترجعون{ وقال} :أ َيحسب اْلنسا َ
سد ً ك ُ نأ ْ ِْ َ ُ َ ْ َ ُ ُْ َ ُ َ
ينهى ومعلوم أن ترك النسان كالبهائم مهمل معطل مضاد للحكمة فإنه خلق
لغاية كماله وكماله أن يكون عارفا بربه محبا له قائما بعبوديته قال تعالى:
ه عََلى ك ُ ّ َ
ل ن الل ّ َ موا أ ّ ن{ وقال} :ل ِت َعْل َ ُ دو ِ س إ ِّل ل ِي َعْب ُ ُ ن َواْل ِن ْ َ ج ّ ت ال ْ ِ خل َ ْ
ق ُ ما َ }وَ َ
َ َ َ
ن الل ّ َ
ه موا أ ّ ك ل ِت َعْل َ ُ
عْلمًا{ وقال} :ذ َل ِ َ يٍء ِ ش ْ ل َ ط ب ِك ُ ّحا َ َ ه قَد ْ أ َ ن الل ّ َ ديٌر وَأ ّيٍء قَ ِ ش ْ َ
م{ فهذه ل َ ه ب ِك ُ ّ ّ َ َ ْ َ
يٍء عَِلي ٌ ش ْ ن الل َ ض وَأ ّ ما ِفي الْر ِ ت وَ َ ماَوا ِ س َ
ما ِفي ال ّ م َي َعْل ُ
المعرفة وهذه العبودية هما غاية الخلق والمر وهما أعظم كمال النسان
والله تعالى من عنايته به ورحمته له عرضه لهذا الكمال وهيأ له أسبابه
الظاهرة والباطنة
) (25/23
ومكنه منها
ص -267-ومدار التكليف على السلم واليمان والحسان وهي ترجع إلى
شكر المنعم كلها دقيقها وجليلها منه وتعظيمه وإجلله ومعاملته بما يليق أن
يعامل به فتذكر آلؤه وتشكر فل يكفر ويطاع فل يعصى ويذكر فل ينسى هذا
مع تضمن التكليف ليصاف العبد بكل خلق جميل وإثباته بكل فعل جميل
وقول سديد واجتنابه لكل خلق سيئ وترك كل فعل قبيح وقول زور فتكليفه
متضمن لمكارم الخلق ومحاسن الفعال وصدق القول والحسان إلى
الخليقة وتكميل نفسه بأنواع الكمالت وهجر أضداد ذلك والتنزه عنها مع
تعريضه بذلك التكليف للثواب الجزيل الدائم ومجاورة ربه في دار البقاء فأي
المرين أليق بالحكمة هذا أو إرساله همل كالخيل والبغال والحمير يأكل
ويشرب وينكح كالبهائم أيقتضي كماله المقدس ذلك فتعالى الله الملك الحق
ل إله إل هو رب العرش الكريم وكيف يليق بذلك الكمال طي بساط المر
والنهي والثواب والعقاب وترك إرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع
وتقرير الحكام وهل عرف الله من جوز عليه خلف ذلك وهل ذلك إل من
ل الل ّ ُ
ه ما أ َن َْز َ
حقّ قَد ْرِهِ إ ِذ ْ َقاُلوا َ ما قَد َُروا الل ّ َ
ه َ سوء الظن به قال تعالى} :وَ َ
يٍء{ فحسن التكليف في العقول كحسن الحسان والنعام ن َ
ش ْ م ْ
شرٍ ِ عََلى ب َ َ
والتفضل والطول بل هو من أبلغ أنواع الحسان والنعام ولهذا سمى سبحانه
ذلك نعمة ومنة وفضل ورحمة وأخبر أن الفرح به خير من الفرح بالنعم
َ
ت الل ّ ِ
ه م َن ب َد ُّلوا ن ِعْ َ م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ
ذي َ المشتركة بين البرار والفجار قال تعالى} :أل َ ْ
فرًا{ فنعمة الله هاهنا نعمته بمحمد صلى الله عليه وسلم وما بعثه به من كُ ْ
ن
م ْ سول ً ِ م َر ُ ث ِفيهِ ْ ن إ ِذ ْ ب َعَ َ مؤ ْ ِ
مِني َ ْ
ه عَلى ال ُ َ ّ
ن الل ُ الهدى ودين الحق وقال} :قَد ْ َ
م ّ
م ي َت ُْلوسهِ ْ أ َن ْ ُ
ف ِ
324
) (25/24
ل ضل ٍ في َ ل لَ ِ ن قَب ْ ُ م ْ كاُنوا ِ ن َ ة وَإ ِ ْ م َحك ْ َ ب َوال ْ ِ م ال ْك َِتا َ مهُ ُ م وَي ُعَل ّ ُ كيهِ ْ م آَيات ِهِ وَي َُز ّ عَل َي ْهِ ْ
ُ
ه
م آَيات ِ ِ م ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ من ْهُ ْ سول ً ِ ن َر ُ مّيي َ ث ِفي اْل ّ ذي ب َعَ َ ن{ وقال تعالى} :هُوَ ال ّ ِ مِبي ٍ ُ
ن بي م ل ضل في ِ َ ل لُ ب
ِ ْ َْ ق ن م نوا ُ َ
كا ن إ و
َِ َ َ ِ َ َ َِ ْ ةم ْ ك ح ْ ل وا ب تا ك ْ لا م ّ
وَ ُ َ ِ ْ َ ُ َ ُ ُ ُ
ه م ل ع يو م ه كي ّ ز ي
َ ٍ ُ ِ ٍ
نم ْ ل الل ّهِ ي ُؤِْتيهِ َ ض ُ ك فَ ْ م ذ َل ِ َ كي ُ ح ِ زيُز ال ْ َ م وَهُوَ ال ْعَ ِ قوا ب ِهِ ْ ح ُ ما ي َل ْ َ م لَ ّ من ْهُ ْ ن ِ ري َ خ ِ َوآ َ
ن{ َ ْ ّ سلَنا َ ْ َ ْ ْ
ه ُذو ال َ ّ يَ َ
مي َ ة ل ِلَعال ِ م ًح َ ك إ ِل َر ْ ما أْر َ م{ و قال} :وَ َ ظي ِ ل العَ ِ ض ِ ف ْ شاُء َوالل ُ
ن{ مُعو َ ج َ ما ي َ ْ م ّ خي ٌْر ِ حوا هُوَ َ فَر ُ ْ
ك فَلي َ ْ مت ِهِ فَب ِذ َل ِ َ ح َ ل اللهِ وَب َِر ْ ّ ض ِ ف ْ ل بِ َ وقال} :قُ ْ
َ َ َ َ ْ َ
م
سل َ م ال ِ ْ ُ
ت لك ُ ضي ُ مِتي وََر ِ م ن ِعْ َ ُ
ت عَلي ْك ْ م ُ م ْ م وَأت ْ َ ُ
م ِدين َك ْ ُ
ت لك ْ مل ُ ْ
م أك َ وقال} :ال ْي َوْ َ
مةِ حك ْ َ ب َوال ْ ِ ن ال ْك َِتا ِ م َ م ِ ل عَل َي ْك ُ ْ ما أ َن َْز َ م وَ َ ت الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ م َ ِدينًا{ وقالَ} :واذ ْك ُُروا ن ِعْ َ
َ َ
ر
م ِ ن اْل ْ م َ م ِفي ك َِثيرٍ ِ طيعُك ُ ْ ل الل ّهِ ل َوْ ي ُ ِ سو َ م َر ُ ن ِفيك ُ ْ موا أ ّ م{ وقالَ} :واعْل َ ُ ي َعِظ ُك ُ ْ
فَر م ال ْك ُ ْ م وَك َّره َ إ ِل َي ْك ُ ُ ه ِفي قُُلوب ِك ُ ْ ن وََزي ّن َ ُ ما َ لي َ ماِْ ب إ ِل َي ْك ُ ُ حب ّ َ ه َ ن الل ّ َ م وَل َك ِ ّ ل َعَن ِت ّ ْ
ُ
م ه عَِلي ٌ ة َوالل ّ ُ م ً ن الل ّهِ وَن ِعْ َ م َ ضل ً ِ ن فَ ْ دو َ ش ُم الّرا ِ ك هُ ُ ن أول َئ ِ َ صَيا َ سوقَ َوال ْعِ ْ ف ُ َوال ْ ُ
َ
نم ت َك ُ ْ ما ل َ ْ ك َ م َ ة وَعَل ّ َ م َ حك ْ َ ب َوال ْ ِ ك ال ْك َِتا َ ه عَل َي ْ َ ل الل ّ ُ م{ وقال لرسوله} :وَأن َْز َ كي ٌ ح ِ َ
ظيما{ وهل النعمة والفضل في الحقيقة إل ذلك ً ضل اللهِ عَلي ْك عَ َِ َ ّ ُ نف ْ َ َ
م وَكا َ َ
ت َعْل ُ
وتوابعه وثمرته في القلوب والبدان في الدنيا والخرة وهل في العقول
السليمة والفطرة المستقيمة أحسن من ذلك وأليق بكمال الرب وأسمائه
وصفاته ،الوجه التاسع والثلثون قوله في مناظرة الشعري للجبائي في
الخوة الثلثة
) (25/25
الذين مات أحدهم صغيرا وبلغ الخر كافرا والثالث مسلما أنها مناظرة كافية
في إبطال الحكمة والتعليل ورعاية الصلح ،فلعمر الله أنها مبطلة لطريقة
أهل البدع من المعتزلة والقدرية الذين يوجبون على ربهم مراعاة الصلح
لكل عبد وهو الصلح عندهم فيشرعون له شريعة بعقولهم ويحجرون عليه
ويحرمون عليه أن يخرج عنها ويوجبون عليه القيام بها وكذلك كانوا من
أحمق الناس وأعظمهم تشبيها للخالق بالمخلوق في أفعاله وأعظمهم تعطيل
عن صفات كماله فنزهوه عن صفات الكمال وشبهوه بخلقه في الفعال
وأدخلوه تحت الشريعة الموضوعة
) (25/26
325
كقطرة من بحار الدنيا فكم لله سبحانه من حكمة في ذلك الذي أخرمه
صغيرا وحكمة في الذي مد له في العمر حتى بلغ وأسلم وحكمة في الذي
أبقاه حتى بلغ وكفر ولو كان كل من علم أنه إذا بلغ يكفر يخترمه صغيرا
لتعطل الجهاد والعبودية التي يحبها الله ويرضاها ولم يكن هناك معارض وكان
الناس أمة واحدة ولم تظهر آياته وعجائبه في المم ووقائعه وأيامه في
أعدائه وإقامة الحجج وجدال أهل الباطل بما يدحض شبهتهم وينصر الحق
ويظهره على الباطل إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحكم التي ل يحصيها إل
الله والله سبحانه يحب ظهور أسمائه وصفاته في الخليقة فلو اخترم كل من
علم أنه يكفر إذا بلغ لفات ذلك وفواته مناف لكمال تلك السماء والصفات
واقتضائها لثارها وقد تقدم بسط ذلك أتم من هذا ،الوجه الربعون قوله أنه
شاءُن يَ َ
م ْ
م َ
ح ُ ن يَ َ
شاُء وَي َْر َ م ْب َ سبحانه رد المر إلى محض مشيئة بقوله } :ي ُعَذ ّ ُ
شاُء { وقوله } :فإن الله يضل من ن يَ َم ْب َ شاُء وَي ُعَذ ّ ُ
ن يَ َ
م ْ { وقوله } :فَي َغْ ِ
فُر ل ِ َ
ل { فهذا كله حق ولكن فعَ ُ
ما ي َ ْ َ
سأ ُ
ل عَ ّ يشاء ويهدي من يشاء { وقوله } :ل ي ُ ْ
أين فيه إبطال حكمته وحمده والغايات المحمودة المطلوبة بفعله وأنه ل
يفعل شيئا لشيء ول يأمر بشيء لجل شيء ول سبب لفعله ول غاية أفترى
) (25/27
أصحاب الحكمة والتعليل يقولون أنه ل يفعل بمشيئته أو أنه يسئل عما يفعل
بل يقولون أنه يفعل بمشيئته مقارنا للحكمة والمصلحة ووضع الشياء
مواضعها وأنه يفعل ما يشاء بأسباب وحكم ولغايات مطلوبة وعواقب حميدة
فهم مثبتون لملكه وحده وغيرهم يثبت ملكا بل حمد أو نوعا من الحمد ومع
هضم الملك إذ الرب تعالى له كمال وكمال الحمد فكونه يفعل ما يشاء يمنع
من أن يشاء بأسباب وحكم وغايات وأنه ل يشاء إل ذلك وأما قوله } :ل
ل وهم ي َ سأ َ ُ
ن { فهذا لكمال علمه وحكمته ل لعدم ذلك سأُلو َ
فعَ ُ َ ُ ْ ُ ْ ما ي َ ْل عَ ّ يُ ْ
وأيضا فسياق الية في معنى آخر وهو إبطال إلهية من سواه وإثبات اللوهية
ن ن ل َوْ َ
كا َ شُرو َم ي ُن ْ ِ
ض هُ ِْ ن اْل َْر
َ م
ة ِذوا آل ِهَ ً له وحده فإنه سبحانه قال } :أ َم ِ ات ّ َ
خ ُ
ما
ل عَ ّسأ َ ُ
ن ل يُ ْفو َ ص ُما ي َ ِ ش عَ ّ ن الل ّهِ َر ّ ْ
ب العَْر ِ حا َ سد ََتا فَ ُ
سب ْ َ ه لَ َ
ف َ ة إ ِّل الل ّ ُ ما آل ِهَ ٌِفيهِ َ
ن { فأين في هذا ما يدل على إبطال التعليل بوجه من ُ َ فعَ ُ
سألو َ م يُ ْ ل وَهُ ْ يَ ْ
الوجوه ولكن أهل الباطل يتعلقون بألفاظ نزلوها على باطلهم ل تنزل عليه
وبمعان متشابهة يشتبه فيها الحق بالباطل فعمدتهم المتشابه من اللفاظ
والمعاني فإذا فصلت وبينت يتبين أنها ل دللة فيها وأنها مع ذلك قد تدل على
نقيض مطلوبهم وبالله التوفيق.
) (25/28
شفاء العليل
الباب الرابع والعشرون :في معنى قول السلف في اليمان بالقدر خيره
وشره وحلوه ومره
الباب الرابع والعشرون :في قول السلف من أصول اليمان اليمان بالقدر
خيره وشره حلوه ومره.
326
قد تقدم أن القدر ل شر فيه بوجه من الوجوه فإنه علم الله وقدرته وكتابه
ومشيئته وذلك خير محض
) (26/1
) (26/2
شفاء العليل
الباب الخامس والعشرون :في بيان بطلن قول من قال إن الرب تعالى
مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلق ذلك نفيا وإثباتا
الباب الخامس والعشرون :في امتناع إطلق القول نفيا وإثباتا أن الرب
تعالى مريد للشر وفاعل له.
هذا موضع خلف اختلف فيه مثبتو القدر ونفاته فقال النفاة ل يجوز أن يقال
أن الله سبحانه مريد للشر أو فاعل له قالوا ل يريد الشر وفاعله شرير هذا
327
هو المعروف لغة وعقل وشرعا كما أن الظالم فاعل الظلم والفاجر فاعل
الفجور ومريده والرب يتعالى ويتنزه عن ثبوت معاني أسماء السوء له فإن
أسماءه كلها حسنى وأفعاله كلها خير فيستحيل أن يريد الشر فالشر ليس
بإرادته ول بفعله قالوا وقد قام الدليل على أن فعله سبحانه غير مفعوله
والشر ليس بفعل له فل يكون مفعول له وقابلهم الجبرية فقالوا بل الرب
سبحانه يريد الشر ويفعله قالوا لن الشر موجود فل بد له من خالق ول خالق
إل الله وهو سبحانه إنما يخلق بإرادته فكل مخلوق فهو مراد له وهو فعله
ووافقوا إخوانهم على أن الفعل عين المفعول والخلق نفس المخلوق ثم
قالوا والشر مخلوق له ومفعول فهو فعله وخلقه وواقع بإرادته قالوا وإنما لم
يطلق القول أنه يريد الشر ويفعل الشر أدبا لفظيا فقط كما ل يطلق القول
بأنه رب الكلب والخنازير ويطلق القول بأنه رب كل شيء وخالقه قالوا وأما
قولكم أن الشرير مريد الشر وفاعله فجوابه من وجهين ،أحدهما إنما يمنع
ذلك بأن الشرير من قام به الشر وفعل الشر لم يقم بذات الرب فإن أفعاله
) (27/1
) (27/2
وصرف موانعه عنه كما أراد من إبليس أن يسجد لدم ولم يرد من نفسه أن
يعينه على السجود ويوفقه له ويثبت قلبه عليه ويصرفه إليه ولو أراد ذلك منه
328
د{ إخباره عن إرادته لفعله ل لفعال ري ُ ما ي ُ ِ
ل لِ َلسجد له ل محالة وقوله} :فَّعا ٌ
عبيده وهذا الفعل والرادة ل ينقسم إلى خير وشر كما تقدم وعلى هذا فإذا
قيل هو مريد للشر أوهم أنه محب له راض به وإذا قيل أنه لم يرده أوهم أنه
لم يخلقه ول كونه وكلهما باطل ولذلك إذا قيل أن الشر فعله أو أنه يفعل
الشر أوهم أن الشر فعله القائم به وهذا محال وإذا قيل لم يفعله أو ليس
بفعل له أوهم أنه لم يخلقه ولم يكونه وهذا محال فانظر ما في إطلق هذه
اللفاظ في النفي والثبات من الحق والباطل الذي يتبين بالستفصال
والتفصيل وأن الصواب في هذا الباب ما دل عليه القرآن والسنة من أن
الشر ل يضاف إلى الرب تعالى ل وصفا ول فعل ول يتسمى باسمه بوجه من
عوذ ُ ل أَ ُ
الوجوه وإنما يدخل في مفعولته بطريق العموم كقوله تعالى} :قُ ْ
ق{ فما هاهنا موصولة أو مصدرية والمصدر بمعنى خل َ َ
ما َ
شّر َ ن َ م ْق ِ ب ال ْ َ َ
فل ِ ب َِر ّ
المفعول أي من شر الذي خلقه أو من شر مخلوقه وقد يحذف فاعله كقوله
شر أ ُريد بمن في اْل َرض أ َ َ َ َ
مم أَراد َ ب ِهِ ْ ْ ِ ْ حكاية عن مؤمني الجن} :وَأّنا ل ن َد ِْري أ َ ّ ِ َ ِ َ ْ ِ
شدًا{ وقد يسند إلى محله القائم به كقول إبراهيم الخليل الذي م َر َ َرب ّهُ ْ
خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين وقول
الخضر أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها
وقال في بلوغ الغلمين فأراد ربك أن يبلغا أشدهما وقد جمع النواع الثلثة
ط ال ّذي َ
ت عَل َي ْهِ ْ
م م َ ن أن ْعَ ْ
ِ َ صَرا َ
م ِ قي َست َ ِم ْ ط ال ْ ُ صَرا َفي الفاتحة في قوله} :اهْدَِنا ال ّ
ن{ والله تعالى إنما نسب إلى نفسه الخير ضاّلي َ م َول ال ّ ب عَل َي ْهِ ْضو ِمغْ ُ غَي ْرِ ال ْ َ
ك ت ُؤِْتيمل ْ ِ ك ال ْ ُ مال ِ َ م َل الل ّهُ ّ دون الشر فقال تعالى} :قُ ِ
) (27/3
شاُء ب ِي َدِ َ
ك ن تَ َ
م ْ شاُء وَت ُذِ ّ
ل َ ن تَ َ
م ْ ن تَ َ
شاُء وَت ُعِّز َ م ْ
م ّ مل ْ َ
ك ِ شاءُ وَت َن ْزِعُ ال ْ ُن تَ َ
م ْك َ مل ْ َ ال ْ ُ
ك عََلى ال ْ َ
خي ُْر إ ِن ّ َ
دير{ وأخطأ من قال المعنى بيدك الخير و الشر لثلثة يٍء قَ ِش ْ ل َص -271-ك ُ ّ
أوجه ،أحدها أنه ليس في اللفظ ما يدل على إرادة هذا المحذوف بل ترك
ذكره قصدا أو بيانا أنه ليس بمراد ،الثاني أن الذي بيد الله تعالى نوعان فضل
وعدل كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم" :يمين الله
ملى ل يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه
لم يغض ما في يمينه وبيده الخرى القسط يخفض ويرفع" فالفضل لحدى
اليدين والعدل للخرى وكلهما خير ل شر فيه بوجه ،الثالث أن قول النبي
صلى الله عليه وسلم لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك
كالتفسير للية ففرق بين الخير والشر وجعل أحدهما في يدي الرب سبحانه
وقطع إضافة الخر إليه مع إثبات عموم خلقه لكل شيء.
فصل :والرب تعالى يشتق له من أوصافه وأفعاله أسماء ول يشتق له من
مخلوقاته وكل اسم من أسمائه فهو مشتق من صفة من صفاته أو فعل قائم
به فلو كان يشتق له اسم باعتبار المخلوق المنفصل يسمى متكونا ومتحركا
وساكنا وطويل وأبيض وغير ذلك لنه خالق هذه الصفات فلما لم يطلق عليه
اسم من ذلك مع أنه خالقه علم إنما يشتق أسماءه من أفعاله وأوصافه
القائمة به وهو سبحانه ل يتصف بما هو مخلوق منفصل عنه ول يتسمى
باسمه ولهذا كان قول من قال أنه يسمى متكلما بكلم منفصل عنه وخلقه
329
في غيره ومريد بإرادة منفصلة عنه وعادل بعدل مخلوق منفصل عنه وخالقا
بخلق منفصل عنه هو المخلوق قول باطل مخالفا للعقل والنقل واللغة مع
تناقضه في نفسه فإن اشتق له اسم باعتبار مخلوقاته لزم طرد ذلك في كل
صفة أو فعل
) (27/4
خلقه وإن خص ذلك ببعض الفعال والصفات دون بعض كان تحكما ل معنى
له وحقيقة قول هؤلء أنه لم يقم به عدل ول إحسان ول كلم ول إرادة ول
فعل البتة ومن تجهم منهم نفى حقائق الصفات وقال لم تقم به صفة ثبوتية
فنفوا صفاته وردوها إلى السلوب والضافات ونفوا أفعاله وردوها إلى
المصنوعات المخلوقات وحقيقة هذا أن أسماءه تعالى ألفاظ فارغة عن
المعاني ل حقائق لها وهذا من اللحاد فيها وإنكار أن يكون حسنا وقد قال
َ ن ي ُل ْ ِ َ
ه
مائ ِ ِس َ
ن ِفي أ ْ دو َ ح ُ ذي َ عوه ُ ب َِها وَذ َُروا ال ّ ِ
سَنى َفاد ْ ُ ح ْ ماُء ال ْ ُ تعالى} :وَل ِل ّهِ اْل ْ
س َ
ن{ وقد دل القرآن والسنة على إثبات مصادر هذه مُلو َ ما َ
كاُنوا ي َعْ َ ن َ جَزوْ َ
سي ُ َْ
ن ً ّ ْ َ
ميعا{ وقوله} :إ ِ ّ ج ِ قوّة َ ل ِلهِ َ ن ال ُ السماء له سبحانه وصفا كقوله تعالى} :أ ّ
ه{ل ب ِعِل ْم ِ الل ّ ِ ما أ ُن ْزِ َ َ
موا أن ّ َ ن{ وقولهَ} :فاعْل َ ُ قوّةِ ال ْ َ
مِتي ُ ه هُوَ الّرّزاقُ ُذو ال ْ ُ الل ّ َ
وقوله صلى الله عليه وسلم" :لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من
خلقه" وقول عائشة" :الحمد لله الذي وسع سمعه الصوات" وقوله صلى
الله عليه وسلم" :أعوذ برضاك من سخطك" وقوله" :أسألك الغيب وقدرتك
على الخلق" وقوله" :أعوذ بعزتك أن تضلني" ولول هذه المصادر لنتفت
حقائق السماء والصفات والفعال فإن أفعاله غير صفاته وأسماءه غير أفعاله
وصفاته فإذا لم يقم به فعل ول صفة فل معنى للسم المجرد وهو بمنزلة
صوت ل يفيد شيئا وهذا غاية اللحاد
) (27/5
شفاء العليل
الباب السادس والعشرون :فيما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم" :أعوذ
برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق
القدر وإثباته وأسرار هذا الدعاء
ص -272-الباب السادس والعشرون :فيما دل عليه قوله صلى الله عليه
وسلم اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ
بك منك ل أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك من تحقيق القدر
وإثباته وما تضمنه الحديث من السرار العظيمة.
قد دل هذا الحديث العظيم القدر على أمور ،منها أنه يستعاذ بصفات الرب
كما يستغاث بذاته وكذلك يستعاذ بصفاته كما يستغاث بذاته كما في الحديث:
"يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والرض يا ذا الجلل والكرام ل إله إل أنت
برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ول تكلني إلى نفسي طرفة عين ول
إلى أحد من خلقك" وكذلك قوله في الحديث الخر" :أعوذ بعزتك أن تضلني"
وكذلك استعاذته بكلمات الله التامات وبوجهه الكريم وتعظيمه وفي هذا ما
330
يدل على أن هذه صفات ثابتة وجودية إذ ل يستعاذ بالعدم وأنها قائمة به غير
مخلوقة إذ ل يستعاذ بالمخلوق وهو احتجاج صحيح فإن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ل يستعيذ بمخلوق ول يستغيث به ول يدل أمته على ذلك ،ومنها
أن العفو من صفات الفعل القائمة به وفيه رد على من زعم أن فعله عين
مفعوله فإن المفعول مخلوق ول يستعاذ به ،ومنها أن بعض صفاته وأفعاله
سبحانه أفضل من بعض فإن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه وهذا كما
أن صفة الرحمة أفضل من صفة الغضب ولذلك كان لها الغلبة والسبق
ولذلك كلمه سبحانه هو صفته ومعلوم أن كلمه الذي يثني على نفسه به
ويذكر فيه أوصافه وتوحيده أفضل من كلمه الذي يذم به أعداءه ويذكر
أوصافهم ولهذا كانت سورة الخلص أفضل من سورة تبت وكانت تعدل ثلث
القرآن دونها وكانت آية الكرسي أفضل آية في القرآن ول تصغ إلى قول من
غلظ حجابه أن الصفات قديمة والقديم ل
) (28/1
يتفاضل فإن الدلة السمعية والعقلية تبطل قوله وقد جعل سبحانه ما كان
من الفضل والعطاء والخير وأهل السعادة بيده اليمنى وما كان من العدل
والقبض بيده الخرى ولهذا جعل أهل السعادة في قبضة اليمنى وأهل
الشقاوة في القبضة الخرى والمقسطون على منابر من نور عن يمينه
والسماوات مطويات بيمينه والرض بالرض ومنها أن الغضب والرضاء
والعفو والعقوبة لما كانت متقابلة استعاذ بأحدهما من الخر فلما جاء إلى
الذات المقدسة التي ل ضد لها ول مقابل قال وأعوذ بك منك فاستعاذ بصفة
الرضى من صفة الغضب وبفعل العفو من فعل العقوبة وبالموصوف بهذه
الصفات والفعال منه وهذا يتضمن كمال الثبات للقدر والتوحيد بأوجز لفظ
وأخصره فإن الذي يستعاذ منه من الشر وأسبابه هو واقع بقضاء الرب تعالى
وقدره وهو المنفرد بخلقه وتقديره وتكوينه فما شاء كان وما لم يشاء لم
يكن فالمستعاذ منه إما وصفه وإما فعله وإما مفعوله الذي هو أثر فعله
والمفعول ليس إليه نفع ول ضر ول يضر إل بإذن خالقه كما قال تعالى في
أعظم ما يتضرر به العبد وهو السحر} :وما هُم بضارين به م َ
حد ٍ إ ِّل ب ِإ ِذ ْ ِ
ن نأ َْ ِ َ ّ َ ِ ِ ِ ْ َ َ
ه{ فالذي يستعاذ منه هو بمشيئته وقضائه وقدرته وإعاذته منه وصرفه عن الل ّ ِ
المستعيذ إنما هو بمشيئته أيضا وقضائه وقدره فهو المعيذ من قدره بقدره
ومن ما يصدره عن مشيئة وإرادته بما يصدره عن
) (28/2
ص -273-مشيئته وإرادته والجميع واقع بإرادته الكونية القدرية فهو يعيذ من
إرادته بإرادته إذ الجميع خلقه وقدره وقضاء فليس هناك خلق لغيره فيعيذ
منه هو بل المستعاذ منه خلق له فهو الذي يعيذ عبده من نفسه بنفسه
فيعيذه مما يريده به بما يريده به فليس هناك أسباب مخلوقة لغيره يستعيذ
منها المستعيذ به كما يستعيذ من رجل ظلمه وقهره برجل أقوى أو نظيره
فالمستعاذ منه هو الذنوب وعقوباتها واللم وأسبابها والسبب من قضائه
والمسبب من قضائه والعاذة بقضائه فهو الذي يعيذ من قضائه بقضائه فلم
331
يعذ إل بما قدره وشاءه وذلك الستعاذة منه وشاءها وقدر العاذة وشاءها
فالجميع قضاؤه وقدره وموجب مشيئته فنتجت هذه الكلمة التي لو قالها غير
الرسول لبادر المتكلم الجاهل إلى إنكارها وردها أنه ل يملك الضر والنفع
والخلق والمر والعاذة غيرك وأن المستعاذ منه هو بيدك وتحت تصرفك
ومخلوق من خلقك فما استعذت إل بك ول استعذت إل منك وهذا نظير قوله
في الحديث الخر" :ل ملجأ ول منجا منك إل إليك" فهو الذي ينجي من نفسه
بنفسه ويعيذ من نفسه بنفسه وكذلك الفرار يفر عبده منه إليه وهذا كله
تحقيق للتوحيد والقدر وأنه ل رب غيره ول خالق سواه ول يملك المخلوق
لنفسه ول لغيره ضرا ول نفعا ول موتا ول حياة ول نشورا بل المر كله لله
ليس لحد سواه منه شيء كما قال تعالى لكرم خلقه عليه وأحسنهم إليه:
َ
يٌء{ وقال جوابا لمن قال هل لنا من المر شيء: ش ْ مرِ َ ن اْل ْ م َ ك ِس لَ َ}ل َي ْ َ
ه ل ِل ّ ِ َ
ه{ فالملك كله له والمر كله له والحمد كله له مَر ك ُل ّ ُن اْل ْ }ق ُ ْ
ل إِ ّ
والشفاعة كلها له والخير كله في يديه وهذا تحقيق تفرده بالربوبية واللوهية
عون من دون الل ّه إ َ فل إله غيره ول رب سواه} :قُ ْ َ َ
ي
ن أَراد َن ِ َِ ِ ْ ما ت َد ْ ُ َ ِ ْ ُ ِ ل أفََرأي ْت ُ ْ
م َ
َ َ
ه
مت ِ ِ
ح َ
ت َر ْ س َ
كا ُ م ِ
م ْن ُ مةٍ هَ ْ
ل هُ ّ ح َ
ضّرهِ أوْ أَراد َِني ب َِر ْ
ت ُ
فا ُ
ش َ كا ِ ن َ ل هُ ّ ضّر هَ ْ ه بِ ُالل ّ ُ
لقُ ْ
) (28/3
ف لَ ُ
ه ش َ كا ِضّر َفل َ ه بِ ُ ك الل ّ ُس َس ْ م َ ن يَ ْن{} :وَإ ِ ْ مت َوَك ُّلو َ ل ال ْ ُ ه عَل َي ْهِ ي َت َوَك ّ ُ ي الل ّ ُ سب ِ َ
ح ْ َ
س ّ َ ل َ ُ َ َ
خي ْرٍ فهُوَ عَلى ك ّ َ ّ
ه ِللّنا ِ فت َِح الل ُما ي َ ْديٌر{َ } : يٍء ق ِ ش ْ سك ب ِ َ س ْ م َ ن يَ ْ إ ِل هُوَ وَإ ِ ْ
زيُز ْ
ن ب َعْدِهِ وَهُوَ العَ ِ م ْ
ه ِ َ
سل ل َُ مْر ِ َ
سك فل ُ ْ م ِما ي ُ ْ َ
سك لَها وَ َ َ م ِ م ْمةٍ فل ُ َ ح َ ن َر ْ م ْ ِ
م{ فاستعذ به منه وفر منه إليه واجعل لجاك منه إليه فالمر كله له ل كي ُ ح ِ ال َْ
يملك أحد معه منه شيئا فل يأتي بالحسنات إل هو ول يذهب بالسيئات إل هو
ول تتحرك ذرة فما فوقها إل بإذنه ول يضر سم ول سحر ول شيطان ول
حيوان ول غيره إل بإذنه ومشيئته يصيب بذلك من يشاء ويصرفه عمن يشاء
فأعرف الخلق به وأقواهم بتوحيده من قال في دعائه وأعوذ بك منك فليس
للخلق معاذ سواه ول مستعاذ منه إل وهو ربه وخالقه ومليكه وتحت قهره
وسلطانه ثم ختم الدعاء بقوله ل أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على
نفسك اعترافا بأن شأنه وعظمته ونعوت كماله وصفاته أعظم وأجل من أن
يحصيها أحد من الخلق أو بلغ أحد حقيقة الثناء عليه غيره سبحانه فهو توحيد
في السماء والصفات والنعوت وذاك توحيد في العبودية والتأله وإفراده
تعالى بالخوف والرجاء والستعاذة وهذا مضاد الشرك وذاك مضاد التعطيل
وبالله التوفيق.
) (28/4
شفاء العليل
الباب السابع والعشرون :في دخول اليمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد
تحت قوله" :ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من
قواعد الدين
332
ص -274-الباب السابع والعشرون :في دخول اليمان بالقضاء والقدر
والعدل والتوحيد والحكمة تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم ماض في
حكمك عدل في قضاؤك وبيان ما في هذا الحديث من القواعد.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" :ما أصاب عبدا قط هم ول غم
ول حزن فقال :اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في
حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته
في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن
تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلء حزني وذهاب همي وغمي إل
أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا :يا رسول الله أفل نتعلمهن
قال :بلى ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن" فقد دل هذا الحديث الصحيح منها
أنه استوعب أقسام المكروه الواردة على القلب فالهم يكون على مكروه
يتوقع في المستقبل يهتم به القلب والحزن على مكروه ماض من فوات
محبوب أو حصول مكروه إذا تذكره أحدث له حزنا والغم يكون على مكروه
حاصل في الحال يوجب لصاحبه الغم فهذه المكروهات هي من أعظم
أمراض القلب وأدوائه وقد تنوع الناس في طرق أدويتها والخلص منها
وتباينت طرقهم في ذلك تباينا ل يحصيه إل الله بل كل أحد يسعى في
التخلص منها بما يظن أو يتوهم أنه يخلصه منها وأكثر الطرق والدوية التي
يستعملها الناس في الخلص منها ل يزيدها إل شدة لمن يتداوى منها
بالمعاصي على اختلفها من أكبر كبائرها إلى أصغرها وكمن يتداوى منها
باللهو واللعب والغناء وسماع الصوات المطربة وغير ذلك فأكثر سعي بني
آدم أو كله إنما هو لدفع هذه المور والتخلص منها وكلهم قد أخطأ الطريق إل
من سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله لزالتها وهو دواء مركب من
مجموع أمور
) (29/1
متى نقص منها جزء نقص من الشفاء بقدره وأعظم أجزاء هذا الدواء هو
التوحيد والستغفار قال تعالى} :اعْل َ َ
كفْر ل ِذ َن ْب ِ َ
ست َغْ ِ ه إ ِّل الل ّ ُ
ه َوا ْ ه ل إ ِل َ َ
م أن ّ ُ
ْ
ت{ وفي الحديث" :فإن الشيطان يقول أهلك بني آدم مَنا ِ ن َوال ْ ُ
مؤ ْ ِ وَل ِل ْ ُ
مؤ ْ ِ
مِني َ
بالذنوب وأهلكوني بالستغفار وبل إله إل الله فلما رأيت ذلك بثثت فيهم
الهواء فهم يذنبون ول يتوبون لنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" ولذلك
كان الدعاء المفرج للكرب محض التوحيد وهو ل إله إل الله العظيم الحليم ل
إله إل هو رب العرش العظيم ل إله إل هو رب السماوات ورب الرض رب
العرش الكريم وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم" :دعوة
أخي ذي النون ما دعاها مكروب إل فرج الله كربه ل إله إل أنت سبحانك إني
كنت من الظالمين" فالتوحيد يدخل العبد على الله على والستغفار والتوبة
يرفع المانع ويزيل الحجاب الذي يحجب القلب عن الوصول إليه فإذا وصل
القلب إليه زال عنه همه وغمه وحزنه وإذا انقطع عنه حصرته الهموم
والغموم والحزان وأتته من كل طريق ودخلت عليه من كل باب فلذلك صدر
هذا الدعاء المذهب للهم والغم والحزن بالعتراف له بالعبودية حقا منه ومن
آياته ثم أتبع ذلك باعترافه بأنه في قبضته وملكه وتحت تصرفه بكون ناصيته
في يده يصرفه كيف يشاء كما يقاد من أمسك بناصيته شديد القوى
333
) (29/2
) (29/3
ظلما حتى يقال ترك الظلم وفعل العدل فعلى قولهم ل فائدة في قوله عدل
في قضاؤك بل هو بمنزلة أن يقال نافذ في قضاؤك ول بد وهو معنى قوله
ماض في حكمك فيكون تكريرا ل فائدة فيه وعلى قولهم فل يكون ممدوحا
بترك الظلم إذ ل يمدح بترك المستحيل لذاته ول فائدة في قوله أني حرمت
الظلم على نفسي أو يظن معناه أني حرمت على نفسي ما ل يدخل تحت
ضمًا{ف ظ ُْلما ً َول هَ ْ خا ُ قدرتي وهو المستحيلت ول فائدة في قولهَ} :فل ي َ َ
ما
فإن كل أحد ل يخاف من المستحيل لذاته أن يقع ول فائدة في قوله} :وَ َ
َ
د{ فنفوذ حكمه في ما أَنا ب ِظ َّلم ٍ ل ِل ْعَِبي ِ
ريد ُ ظ ُْلما ً ل ِل ْعَِباِد{ ول في قوله} :وَ َ ه يُ ِ الل ّ ُ
عباده بملكه وعدله فيهم بحمده وهو سبحانه له الملك وله الحمد وهو على
كل شيء قدير ونظير هذا قوله سبحانه حكاية عن نبيه هود أنه قال} :إ ِّني
ن َرّبي عََلى ن َداب ّةٍ إ ِّل هُوَ آ ِ
خذ ٌ ب َِنا ِ
صي َت َِها إ ِ ّ م ْ
ما ِ م َت عََلى الل ّهِ َرّبي وََرب ّك ُ ْ ت َوَك ّل ْ ُ
صي َت َِها{ مثل قوله ناصيتي ن َداب ّةٍ إ ِّل هُوَ آ ِ
خذ ٌ ب َِنا ِ م ْ
ما ِم{ فقولهَ } : قي ٍ ست َ ِ
م ْ
ط ُصَرا ٍ ِ
334
م{ مثل قولهقي ٍ
ست َ ِ
م ْ
ط ُ ن َرّبي عََلى ِ
صَرا ٍ بيدك ماض في حكمك وقوله} :إ ِ ّ
عدل في قضاؤك أي ل يتصرف في تلك النواصي إل بالعدل والحكمة
والمصلحة والرحمة ل يظلم أصحابها ول يعاقبهم بما لم يعلموه ول يهضمهم
حسنات ما عملوه فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله يقول
الحق ويفعل الخير والرشد وقد أخبر سبحانه أنه على الصراط المستقيم في
سورة هود وفي سورة النحل فأخبر في هود أنه على صراط مستقيم في
تصرفه في النواصي التي هي في قبضته وتحت يده وأخبر في النحل أنه يأمر
بالعدل ويفعله وقد زعمت الجبرية أن العدل هو المقدور وزعمت القدرية
) (29/4
) (29/5
335
خلقه أم استأثر به في علم الغيب عنده قسيما لما سمى به نفسه ومعلوم
أن هذا تقسيم وتفصيل لما سمى به نفسه فوجه الكلم أن يقال سميت به
نفسك فأنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم
الغيب عندك فإن هذه القسام الثلثة تفصيل لما سمى به نفسه وجواب هذا
الشكال أن أو حرف عطف والمعطوف بها أخص مما قبله فيكون من باب
عطف الخاص على العام فإن ما سمى به نفسه يتناول جميع النواع
المذكورة بعده فيكون عطف كل جملة منها من باب عطف الخاص على
العام فإن قيل المعهود من عطف الخاص على العام أن يكون بالواو دون
سائر حروف العطف قيل المسوغ لذلك في الواو وهو تخصيص المعطوف
بالذكر لمرتبته من بين الجنس واختصاصه بخاصة غيره منه حتى كأنه غيره أو
إرادتين لذكره مرتين باسمه الخاص وباللفظ العام وهذا ل فرق فيه بين
العطف بالواو أو بأو مع أن في العطف بأو على العام فائدة أخرى وهي بناء
الكلم على التقسيم والتنويع كما بنى عليه تاما فيقال سميت به نفسك فإما
أنزلته في كتابك وإما علمته أحدا من خلقك وقد دل الحديث على أن أسماء
الله غير مخلوقة بل
) (29/6
ص -277-هو الذي تكلم بها وسمى بها نفسه ولهذا لم يقل بكل اسم خلقته
لنفسك ولو كانت مخلوقة لم يسأله بها فإن الله يقسم عليه بشيء من خلقه
فالحديث صريح في أن أسماءه ليست من فعل الدميين وتسمياتهم وأيضا
فإن أسماءه مشتقة من صفاته وصفاته قديمة به فأسماؤها غير مخلوقة فإن
قيل فالسم عندكم هو المسمى أو غيره قيل طالما غلط الناس في ذلك
وجهلوا الصواب فيه فالسم يراد به المسمى تارة ويراد به اللفظ الدال عليه
أخرى فإذا قلت قال الله كذا واستوى الله على عرشه وسمع الله ورأى
وخلق فهذا المراد به المسمى نفسه وإذا قلت الله اسم عربي والرحمن
اسم عربي والرحمان من أسماء الله والرحمان وزنه فعلن والرحمن مشتق
من الرحمة ونحو ذلك فالسم ههنا للمسمى ول يقال غيره لما في لفظ الغير
من الجمال فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق وإن أريد أن الله
سبحانه كان ول اسم له حتى خلق لنفسه اسما أو حتى سماه خلقه بأسماء
من صنعهم فهذا من أعظم الضلل واللحاد فقوله في الحديث" :سميت به
نفسك" ولم يقل خلقته لنفسك ول قال سماك به خلقك دليل على أنه
سبحانه تكلم بذلك السم وسمى به نفسه كما سمى نفسه في كتبه التي
تكلم بها حقيقة بأسمائه وقوله أو استأثرت به في علم الغيب عندك دليل
على أن أسماءه أكثر من تسعة وتسعين وأن له أسماء وصفات استأثر بها
في علم الغيب عنده ل يعلمها غيره وعلى هذا فقوله أن لله تسعة وتسعين
اسما من أحصاها دخل الجنة ل ينفي أن يكون له غيرها والكلم جملة واحدة
أي له أسماء موصوفة بهذه الصفة كما يقال لفلن مائة عبدا أعدهم للتجارة
وله مائة فرس أعدها للجهاد وهذا قول الجمهور وخالفهم ابن حزم فزعم أن
أسماءه تنحصر في هذا العدد وقد دل الحديث على أن التوسل إليه سبحانه
بأسمائه وصفاته أحب إليه
336
) (29/7
وأنفع للعبد من التوسل إليه بمخلوقاته وكذلك سائر الحاديث كما في حديث
السم العظم" :اللهم أني أسألك بأن لك الحمد ل إله إل أنت المنان بديع
السماوات والرض يا ذا الجلل والكرام يا حي يا قيوم" وفي الحديث الخر:
"أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي ل إله إل أنت الحد الصمد الذي لم يلد
ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" وفي الحديث الخر" :اللهم إني أسألك
بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق" وكلها أحاديث صحاح رواها ابن حبان
ماُء ال ْ ُ َ
سَنى ح ْ والمام أحمد والحاكم وهذا تحقيق لقوله تعالى} :وَل ِل ّهِ اْل ْ
س َ
عوه ُ ب َِها{ وقوله أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري يجمع أصلين َفاد ْ ُ
الحياة والنور فإن الربيع هو المطر الذي يحيي الرض فينبت الربيع فيسأل
الله بعبوديته وتوحيده وأسمائه وصفاته أن يجعل كتابه الذي جعله روحا
للعالمين ونورا وحياة لقلبه بمنزلة الماء الذي يحيي به الرض ونورا له بمنزلة
الشمس التي تستنير بها الرض والحياة والنور جماع الخير كله قال تعالى:
َ َ
ه ِفيمث َل ُ ُ
ن َ م ْ س كَ َ الّنا ِ شي ب ِهِ ِفي م ِ ه ُنورا ً ي َ ْ جعَل َْنا ل َ ُ حي َي َْناه ُ وَ َ مْيتا ً فَأ ْن َ ن َ
كا َ م ْ}أوَ َ
ك روحا ً م َ الظ ّل ُمات{ وقال تعالى} :وك َذ َل ِ َ َ
ما
ت ت َد ِْري َ ما ك ُن ْ َ مرَِنا َنأ ْ ِ ْ حي َْنا إ ِل َي ْ َ ُك أوْ َ َ َ ِ
عَبادَِنا{ فأخبر أنه ن
ِ ْ ِ م ُ ء شاَ ن ن م هب دي
َْ ِ ِ ِ َ ْ َ ه ن ً انور ه نا ْ ل ع ج ن
ِ َ ُ َ ِ ْ َ َ َ ُ ُ ك َ ل و ن ما ليْ ا ولب َ ال ْك َِتا ُ
روح تحصل به الحياة ونور تحصل به الهداية فأتباعه لهم الحياة والهداية
ومخالفوه لهم الموت والضلل وقد ضرب سبحانه المثل لوليائه وأعدائه
بهذين الصلين في أول سورة البقرة وفي وسط سورة النور وفي سورة
الرعد وهما المثل المائي والمثل الناري وقوله وجلء حزني وذهاب همي
وغمي إن جلء هذا يتضمن إزالة المؤذي الضار وذلك يتضمن تحصيل النافع
السار فتضمن
ص -278-الحديث طلب أصول الخير كله ودفع الشر وبالله التوفيق.
) (29/8
شفاء العليل
الباب الثامن والعشرون :في أحكام الرضا بالقضاء واختلف الناس في ذلك
وتحقيق القول فيه
الباب الثامن والعشرون :في أحكام الرضا بالقضاء واختلف الناس في ذلك
وتحقيق القول فيه
هذا الباب من تمام اليمان بالقضاء والقدر وقد تنازع الناس فيه هل هو
واجب أو مستحب على قولين وهما وجهان لصحاب أحمد فمنهم من أوجبه
واحتج على وجوبه بأنه من لوازم الرضا بالله ربا وذلك واجب واحتج بأثر
إسرائيلي من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلئي فليتخذ له ربا سواي
ومنهم من قال هو مستحب غير واجب فإن اليجاب يستلزم دليل شرعيا ول
دليل يدل على الوجوب وهذا القول أرجح فإن الرضا من مقامات الحسان
التي هي من أعلى المندوبات وقد غلط في هذا الصل طائفتان أقبح غلط
فقالت القدرية النفاة الرضا بالقضاء طاعة وقربة والرضا بالمعاصي ل يجوز
337
فليست بقضائه وقدره وقالت غلة الجبرية الذين طووا بساط المر والنهي
المعاصي بقضاء الله وقدره والرضاء بالقضاء قربة وطاعة فنحن نرضى بها
ول نسخطها واختلفت طرق أهل الثبات في جواب الطائفتين فأجابهم طائفة
بأن لها وجهين وجها يرضى بها منه وهو إضافتها إلى الله سبحانه خلقا
ومشيئة ووجه يسخط منه وهو إضافتها إلى العبد فعل واكتسابا وهذا جواب
جيد لو وفوا به فإن الكسب الذي أثبته كثير منهم ل حقيقة له إذ هو عندهم
مقارنة الفعل للرادة والقدرة إيجاد به من غير أن يكون لهما تأثير بوجه ما
وقد تقدم الكلم في ذلك بما فيه كفاية وأجابهم طائفة أخرى بأنا نرضى
بالقضاء الذي هو فعل الرب ونسخط المقضي الذي هو فعل العبد وهذا
جواب جيد لو لم يعودوا عليه بالنقض وبالبطال فإنهم قالوا الفعل غير
المفعول فالقضاء عندهم نفس المقضي فلو قال الولون بأن للكسب تأثير
في إيجاد الفعل وأنه سبب لوجوده وقال الخرون بأن الفعل غير المفعول
لصابوا في الجواب وأجابتهم طائفة أخرى بأن من القضاء ما يؤمر بالرضا به
ومنه ما ينهى
) (30/1
عن الرضا به فالقضاء الذي يحبه الله ويرضاه نرضى به والذي يبغضه
ويسخطه ل نرضى به وهذا كما أن من المخلوقات ما يبغضه ويسخطه وهو
خالقه كالعيان المسخوطة له فهكذا الكلم في الفعال والقوال سواء وهذا
جواب جيد غير أنه يحتاج إلى تمام فنقول الحكم والقضاء نوعان ديني وكوني
فالديني يجب الرضا به وهو من لوازم السلم والكوني منه ما يجب الرضا به
كالنعم التي يجب شكرها ومن تمام شكرها الرضا بها ومنه ما ل يجوز الرضا
به كالمعايب والذنوب التي يسخطها الله وإن كانت بقضائه وقدره ومنه ما
يستحب الرضا به كالمصائب وفي وجوبه قولن هذا كله في الرضا بالقضاء
الذي هو المقضي وأما القضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله كعلمه وكتابه
وتقديره ومشيئته فالرضا به من تمام الرضا بالله ربا وإلها ومالكا ومدبرا
فبهذا التفصيل يتبين الصواب ويزول اللبس في هذه المسألة العظيمة التي
هي مفرق طرق بين الناس فإن قيل فكيف يجتمع الرضا بالقضاء بالمصائب
مع شدة الكراهة والنفرة منها وكيف يكلف العبد أن يرضى بما هو مؤلم له
وهو كاره له وإل لم يقتض الكراهة والبغض المضاد للرضا
) (30/2
338
وجه ل ينافي محبته وإرادته والرضا به من وجه آخر فإن قيل فهذا في حكم
رضا العبد بقضاء الرب فهل يرضى سبحانه ما قضى به من الكفر والفسوق
والعصيان بوجه من الوجوه قيل هذا الموضع أشكل من الذي قبله قال كثير
من الشعرية بل جمهورهم ومن اّتبعهم أن الرضا والمحبة والرادة في حق
الرب تعالى بمعنى واحد وأن كل ما شاءه وأراده فقد أحبه ورضيه ثم أوردوا
على أنفسهم هذا السؤال وأجابوا بأنه ل يمتنع أن يقال أنه يرضى بها ولكن ل
على وجه التخصيص بل يقال يرضى بكل ما خلقه وقضاه وقدره ول نفرد من
ذلك المور المذمومة كما يقال هو رب كل شيء ول يقال رب كذا وكذا
للشياء الحقيرة الخسيسة وهذا تصريح منهم بأنه راض بها في نفس المر
ضىوإنما امتنع الطلق أدبا واحتراما فقط فلما أورد عليهم قولهَ} :ول ي َْر َ
فَر{ أجابوا عنه بجوابين أحدهما ممن لم يقع منه وأما من وقع منه ل ِعَِبادِهِ ال ْك ُ ْ
فهو يرضاه إذ هو بمشيئته وإرادته والثاني ل يرضاه لهم دينا أي ل يشرعه لهم
ول يأمرهم به ويرضاه منهم كونا وعلى قولهم فيكون معنى الية ول يرضى
لعباده الكفر حيث لم يوجد منهم فلو وجد منهم أحبه ورضيه وهذا في
البطلن والفساد كما تراه وقد أخبر سبحانه أنه ل يرضى ما وجد من ذلك
وإن وقع
) (30/3
ل{ فهذا قو ْ ِن ال ْ َ م َ ضى ِ ما ل ي َْر َ ن َم إ ِذ ْ ي ُب َي ُّتو َمعَهُ ْ بمشيئته كما قال تعالى} :وَهُوَ َ
قول واقع بمشيئته وتقديره وقد أخبر سبحانه أنه ل يرضاه وكذلك قوله
ساَد{ فهو سبحانه ل يحبه كونا ول دينا وإن وقع ف َ ب ال ْ َ ح ّ ه ل يُ ِ سبحانهَ} :والل ّ ُ
بتقديره كما ل يحب إبليس وجنوده وفرعون وحزبه وهو ربهم وخالقهم فمن
جعل المحبة والرضا بمعنى الرادة والمشيئة لزمه أن يكون الله سبحانه محبا
لبليس وجنوده وفرعون وهامان وقارون وجميع الكفار وكفرهم والظلمة
وفعلهم وهذا كما أنه خلف القرآن والسنة والجماع المعلوم بالضرورة فهو
خلف ما عليه فطر العالمين التي لم تغير بالتواطي والتواصي بالقوال
الباطلة وقد أخبر سبحانه أنه يمقت أفعال كثيرة ويكرهها ويبغضها ويسخطها
ة ح َ
ش ً ن َفا ِ كا َ ه َ ف إ ِن ّ ُ سل َ َما قَد ْ َ ساِء إ ِّل َ ن الن ّ َ م َ م ِ ح آَباؤُك ُ ْ ما ن َك َ َ حوا َ فقالَ} :ول ت َن ْك ِ ُ
ّ َ َ َ
َ
ه{ وقال} :كب َُر خط الل َ س َما أ ْ م ات ّب َُعوا َ ك ب ِأن ّهُ ُ ل{ وقال} :ذ َل ِ َ سِبي ً ساَء َ قتا ً وَ َ م ْوَ َ
ّ َ َ ُ ُ َ ّ ً
ه ان ْب َِعاث َهُ ْ
م ن كرِهَ الل ُ ن{ وقال} :وَلك ِ ْ فعَلو َ ما ل ت َ ْ قولوا َ ن تَ ُ
عن ْد َ اللهِ أ ْ قتا ِ م َْ
م{ ومحال حمل هذه الكراهة على غير الكراهة الدينية المرية لنه َ
فَث َب ّطهُ ْ
مك ُْروهًا{ فأخبر أنه يكره ك َ عن ْد َ َرب ّ َ
ه ِ سي ّئ ُ ُ
ن َ كا َ ك َ ل ذ َل ِ َأمرهم بالجهاد وقال} :ك ُ ّ
ويبغض ويمقت ويسخط ويعادي ويذم ويلعن ومحال أنه يحب ذلك ويرضى به
وهو سبحانه يكره ويتقدس عن محبة ذلك وعن الرضا به بل ل يليق ذلك
بعبده فإنه نقص وعيب في المخلوق أن يحب الفساد والشر والظلم والبغي
والكفر ويرضاه فكيف يجوز نسبة ذلك إلى الله تبارك وتعالى وهذا الصل من
أعظم ما غلط فيه كثير من مثبتي القدر وغلطهم فيه يوازن غلط النفاة في
إنكار القدر أو هو أقبح منه وبه وتسلط عليهم النفاة وتمادوا على قبح قولهم
وأعظموا الشناعة
) (30/4
339
ص -280-عليهم به فهؤلء قالوا يحب الكفر والفسوق والعصيان والظلم
والبغي والفساد وأولئك قالوا ل يدخل تحت مشيئته وقدرته وخلقه وأولئك
قالوا ل يكون في ملكه إل ما يحبه ويرضاه وهؤلء قالوا يكون في ملكه ما ل
يشاء ويشاء ما ل يكون فسبحان الله وتعالى عما يقول الفريقان علوا كبيرا
والحمد لله الذي هدانا لما أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وفطر عليه عباده
وبرأنا من بدع هؤلء وهؤلء فله الحمد والمنة والفضل والنعمة والثناء الحسن
ونسأله التوفيق لما يحبه يرضاه وان يجنبنا مضلت البدع والفتن.
) (30/5
شفاء العليل
الباب التاسع والعشرون :في انقسام القضاء والقدر والرادة والكتابة والحكم
والمر والذن والجعل والكلمات والبعث والرسال والتحريم والعطاء والمنع
إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره
الباب التاسع والعشرون :في انقسام القضاء والحكم والرادة والكتابة والمر
والذن والجعل والكلمات والبعث والرسال والتحريم والنتباه إلى كوني
متعلق بخلقه وإلى ديني متعلق بأمره وما يحقق ذلك من إزالة اللبس
والشكال.
هذا الباب متصل بالباب الذي قبله وكل منهما يقرر لصاحبه فما كان من
كوني فهو متعلق بربوبيته وخلقه وما كان من الديني فهو متعلق بإلهيته
وشرعه وهو كما أخبر عن نفسه سبحانه له الخلق والمر فالخلق قضاؤه
وقدره وفعله والمر شرعه ودينه فهو الذي خلق وشرع وأمر وأحكامه جارية
على خلقه قدرا وشرعا ول خروج لحد عن حكمه الكوني القدري وأما حكمه
الديني الشرعي فيعصيه الفجار والفساق والمران غير متلزمين فقد يقضي
ويقدر ما ل يأمر به ول شرعه وقد يشرع ويأمر بما ل يقضيه ول يقدره
ويجتمع المران فيما وقع من طاعات عبادة وإيمانهم وينتفي المران عما لم
يقع من المعاصي والفسق والكفر وينفرد القضاء الديني والحكم الشرعي
في ما أمر به وشرعه ولم يفعله المأمور وينفرد الحكم الكوني فيما وقع من
المعاصي إذا عرف ذلك فالقضاء في كتاب الله نوعان كوني قدري كقوله:
ق{ وشرعي ديني ح ّم ِبال ْ َي ب َي ْن َهُ ْ
ض َ ت{ وقوله} :وَقُ ِ مو ْ َضي َْنا عَل َي ْهِ ال ْ َ ما قَ َ }فَل َ ّ
َ
ه{ أي أمر وشرع ولو كان قضاء كونيا دوا إ ِّل إ ِّيا ُ
ك أّل ت َعْب ُ ُ ضى َرب ّ َ كقوله} :وَقَ َ
م ُ
حك ْبا ْ
ل َر ّ َ
لما عبد غير الله والحكم أيضا نوعان فالكوني كقوله} :قا َ
ُ
ق{ أي افعل ما تنصر به عبادك وتخذل به أعداءك والديني كقوله} :ذ َل ِك ْ
م ح ّ ِبال ْ َ
د{ وقد يرد بالمعنيين ري ُ ما ي ُ ِ
م َ حك ُ ُ ه يَ ْن الل ّ َ م{ وقوله} :إ ِ ّ م ب َي ْن َك ُ ْ
حك ُ ُم الل ّهِ ي َ ْ
حك ْ ُ ُ
شرِ ُ
ك معا كقولهَ} :ول ي ُ ْ
) (31/1
حدًا{ فهذا يتناول حكمه الكوني وحكمه الشرعي والرادة أيضا َ
حك ْ ِ
مهِ أ َ ِفي ُ
ن ن ُهْل ِ َ َ َ نوعان فالكونية كقوله تعالى} :فَّعا ٌ
ك د{ وقوله} :وَإ َِذا أَرد َْنا أ ْ
ري ُ
ما ي ُ ِ
ل لِ َ
340
ن عََلى َ َ
م ّ
ن نَ ُريد ُ أ ْ م{ وقوله} :وَن ُ ِ ن ي ُغْوِي َك ُ ْ
ريد ُ أ ْ ن الل ّ ُ
ه يُ ِ ن َ
كا َ ة{ وقوله} :إ ِ ْ قَْري َ ً
ْ ّ َ ْ ال ّ ِ
ريد ُ
سَر َول ي ُ ِم الي ُ ْ ه ب ِك ُ ُريد ُ الل ُ
والدينية كقوله} :ي ُ ِ ض{ ِ فوا ِفي الْر ضعِ ُ
ست ُ ْنا ْ ذي َ
َ
م{ فلو كانت هذه الرادة ب عَل َي ْك ُ ْ ن ي َُتو َ ريد ُ أ ْ
ه يُ ِ سَر{ وقولهَ} :والل ّ ُ م ال ْعُ ْب ِك ُ ُ
كونية لما حصل العسر لحد منا ولو وقعت التوبة من جميع المكلفين وبهذا
التفصيل يزول الشتباه في مسألة المر والرادة هل هما متلزمان أم ل
فقالت القدرية المر يستلزم الرادة واحتجوا بحجج ل تندفع وقالت المثبتة
المر ل يستلزم الرادة واحتجوا بحجج ل تندفع والصواب أن المر يستلزم
الرادة الدينية ول يستلزم الرادة الكونية فإنه ل يأمر إل بما يريده شرعا ودينا
وقد يأمر بما ل يريده كونا وقدرا كإيمان
) (31/2
ص -281-من أمره ولم يوفقه لليمان مراد له دينا ل كونا وكذلك أمر خليله
بذبح ابنه ولم يرده كونا وقدرا وأمر رسوله بخمسين صلة ولم يرد ذلك كونا
وقدرا وبين هذين المرين وأمر من لم يؤمن باليمان فرق فإنه سبحانه لم
يحب من إبراهيم ذبح ولده وإنما أحب منه عزمه على المتثال وأن يوطن
نفسه عليه وكذلك أمره محمد صلى الله عليه وسلم ليلة السراء بخمسين
صلة وأما أمر من علم أنه ل يؤمن باليمان فإنه سبحانه يحب من عباده أن
يؤمنوا به وبرسله ولكن اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره
ووفقه له وخذل بعضهم فلم يعنه ولم يوفقه فلم تحصل مصلحة المر منهم
وحصلت من المر بالذبح.
سِلي{ وقوله: َ ْ َ َ ّ َ
ن أَنا وَُر ُ ه لغل ِب َ ّ ب الل ُ فصل :وأما الكتابة فالكونية كقوله} :كت َ َ
َ ْ َ }وَل َ َ
ن{ حو َ صال ِ ُعَبادِيَ ال ّ ُ
ض ي َرِثَها ِ ن الْر َ ن ب َعْدِ الذ ّك ْرِ أ ّ م ْ قد ْ ك َت َب َْنا ِفي الّزُبورِ ِ
ديهِ إ َِلى عَ َ َ َ
ر{ سِعي ِ ب ال ّ ذا ِ ه وَي َهْ ِ ضل ّ ُ ه يُ ِ ن ت َوَّله ُ فَأن ّ ُ م ْ ه َ ب عَل َي ْهِ أن ّ ُ وقوله} :ك ُت ِ َ
ت عَل َي ْك ُ ْ
م م ْ حّر َ م{ وقولهُ } : صَيا ُ م ال ّ ب عَل َي ْك ُ ُ والشرعية المرية كقوله} :ك ُت ِ َ
َ ُ
ن
م ِفيَها أ ّ م{ وقوله} :وَك َت َب َْنا عَل َي ْهِ ْ ب الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ م{ إلى قوله} :ك َِتا َ مَهات ُك ُ ْ أ ّ
س{ فالولى كتابة بمعنى القدر والثانية كتابة بمعنى المر. ف ِ س ِبالن ّ ْ ف َ الن ّ ْ
فصل :والمر الكوني كقوله} :إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن
هّ كا َ َ
مُر الل ِ نأ ْ ر{ وقوله} :وَ َ َ ِ مٍح ِبال ْب َ َ
ص حد َة ٌ ك َل َ ْ مُرَنا إ ِّل َوا ِ ما أ ْ فيكون{ وقوله} :وَ َ
َ ك قَْري َ ً ن ن ُهْل ِ َ َ َ ً ً َ َ فُعو ً
مْرَناةأ َ ضي ّا{ وقوله} :وَإ َِذا أَرد َْنا أ ْ ق ِ م ْ
مرا َ نأ ْ ل{ وقوله} :وَكا َ م ْ َ
قوا ِفيَها{ فهذا أمر تقدير كوني ل أمر ديني شرعي فإن الله ل س ُف َ مت َْرِفيَها فَ َ ُ
يأمر بالفحشاء والمعنى قضينا ذلك وقدرناه وقالت طائفة بل هو أمر ديني
والمعنى أمرناهم بالطاعة فخالفونا وفسقوا والقول
) (31/3
الول أرجح لوجوده ،أحدها أن الضمار على خلف الصل فل يصار إليه إل إذا
لم يكن تصحيح الكلم بدونه ،الثاني أن ذلك يستلزم إضمارين أحدهما
أمرناهم بطاعتنا الثاني فخالفونا أو عصونا ونحو ذلك ،الثالث أن ما بعد الفاء
في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه كقولك أمرته ففعل وأمرته فقام
وأمرته فركب ل يفهم المخاطب غير هذا ،الرابع أنه سبحانه جعل سبب هلك
القرية أمره المذكور ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد ل يصلح أن
341
يكون سبب الهلك بل هو سبب للنجاة والفوز فإن قيل أمره بالطاعة مع
الفسق هو سبب الهلك قيل هذا يبطل بالوجه الخامس وهو أن هذا المر ل
يختص بالمترفين بل هو سبحانه يأمر بطاعته واّتباع رسله المترفين وغيرهم
فل يصح تخصيص المر بالطاعة بالمترفين يوضحه ،الوجه السادس أن المر
لو كان بالطاعة لكان هو نفس إرسال رسله إليهم ومعلوم أنه ل يحسن أن
يقال أرسلنا رسلنا إلى مترفيها ففسقوا فيها فإن الرسال لو كان إلى
المترفين لقال من عداهم نحن لم يرسل إلينا ،السابع أن إرادة الله سبحانه
لهلك القرية إنما يكون بعد إرسال الرسل إليهم وتكذيبهم وإل فقبل ذلك هو
ل يريد إهلكهم لنهم معذورون بغفلتهم وعدم بلوغ الرسالة إليهم قال تعالى:
ن{ فإذا أرسل الرسل قَرى ب ِظ ُل ْم ٍ وَأ َهْل َُها َ
غافُِلو َ ك ال ْ ُ
مهْل ِ َ ن َرب ّ َ
ك ُ ن لَ ْ
م ي َك ُ ْ
}ذ َل ِ َ َ
كأ ْ
فكذبوهم أراد إهلكها فأمر رؤسائها ومترفيها أمرا كونيا قدريا ل شرعيا دينيا
بالفسق في القرية فاجتمع أهلها على تكذيبهم وفسق رؤسائهم فحينئذ جاءها
أمر الله وحق عليها قوله بالهلك والمقصود ذكر المر الكوني والديني ومن
ن الديني قوله} :إن الل ّه يأ ْمر بال ْعدل واْلحسان{ وقوله} :ن الل ّه يأ ْمرك ُ َ
مأ َْ َ ُ ُ ْ ّ َ َ ُ ُ ِ َ ْ ِ َ ِ ْ َ ِ ِ ّ
ت إ َِلى أ َهْل َِها{ وهو كثير ماَنا ِ َ
ت ُؤَّدوا اْل َ
) (31/4
ن
م ْ ن ب ِهِ ِ ضاّري َ م بِ َ ما هُ ْ ص -282-فصل :وأما الذن الكوني فكقوله تعالى} :وَ َ
َ َ
نم ْ م ِ ما قَطعْت ُ ْ ه{ أي بمشيئته وقدره وأما الديني فكقولهَ } : ن الل ّ ِ حد ٍ إ ِّل ب ِإ ِذ ْ ِ أ َ
خزِيَ ال ْ َ ن الل ّهِ وَل ِي ُ ْ ُ َ
ن{ أي بأمره قي َ س ِ فا ِ صول َِها فَب ِإ ِذ ْ ِ ة عََلى أ ُ م ًها َقائ ِ َ مو َ ِلين َةٍ أوْ ت ََرك ْت ُ ُ
حَراما ً ه َ من ْ ُ م ِ جعَل ْت ُ ْ ق فَ َ ٍ ن رِْز م ْ م ِ ه ل َك ُ ْ ل الل ّ ُ ما أ َن َْز َم َ
ورضاه وقوله} :قُ ْ َ َ
ل أَرأي ْت ُ ْ
َ ل آلل ّه أ َذن ل َك ُ َ
عواشَر ُ كاُء َ شَر َ م ُ م ل َهُ ْ ن{ وقوله} :أ ْ فت َُرو َ م عََلى الل ّهِ ت َ ْ مأ ْ ْ ُ ِ َ حلل ً قُ ْ وَ َ
ن ب ِهِ الل ُّ ْ َ
ه{. ْ َ َْ ذ أ ي م ل ماّ ِ َ ن دي ال ل َهُ ْ ِ َ
ن م م
ي إ َِلى َ َ
غلل ً فَهِ َ مأ ْ جعَل َْنا ِفي أعَْناقِهِ ْ فصل :وأما الجعل الكوني فكقوله} :إ ِّنا َ
سد ًّا{ وقوله: قمحون وجعل ْنا من بي َ َ
م َ فهِ ْ خل ْ ِ ن َ م ْ سد ّا ً وَ ِ م َ ديهِ ْ ن أي ْ ِ م ْ َ ُ َ َ َ َ َ ِ ْ َْ ِ م ُ ن فَهُ ْ اْلذ َْقا ِ
ن م ْ م ِ ل ل َك ُ ْ جعَ َ ه َ ن{ وقولهَ} :والل ّ ُ قُلو َ ن ل ي َعْ ِ ذي َ س عََلى ال ّ ِ ج َ ل الّر ْ جعَ ُ }وَي َ ْ
ّ ً َ أ َن ْ ُ
نم ْ ه ِ ل الل ُ جعَ َ ما َ م أْزَواجا{ وهو كثير وأما الجعل الديني فكقولهَ } : سك ُ ْ ف ِ
م{ أي ما شرع ذلك ول أمر به وإل فهو حا ٍ صيل َةٍ َول َ سائ ِب َةٍ َول وَ ِ حيَرةٍ َول َ بَ ِ
م
حَرا َ ت ال َْ ة الب َي ْ َْ َ
ه الكعْب َ َ ْ ّ
ل الل ُ جعَ َ مخلوق له واقع بقدره ومشيئته وأما قولهَ } :
س{ فهذا يتناول الجعلين فإنها جعلها كذلك بقدره وشرعه وليس ً
قَِياما ِللّنا ِ
هذا استعمال للمشترك في معنييه بل إطلق اللفظ وإرادة القدر المشترك
بين معنييه فتأمله.
ن
ذي َ ّ
ت َرب ّك عَلى ال ِ َ َ م ُ َ
ت كل ِ َ ق ْ ح ّ َ َ
فصل :وأما الكلمات الكونية فكقوله} :كذ َل ِك َ
ْ َ َ َ َ َ
ة
جن ّ ِ ن ال ِ م َ م ِ جهَن ّ َ ن َ مل ّ ة َرب ّك ل ْ َ م ُ ت ك َل ِ َ م ْ ن{ وقوله} :وَت َ ّ مُنو َ م ل ي ُؤْ ِ قوا أن ّهُ ْ فَ َ
س ُ
ن{ وقوله صلى الله عليه وسلم" :أعوذ بكلمات ا لله التامات َ
مِعي َ ج َ سأ ْ َوالّنا ِ
التي ل يجاوزهن بر ول فاجر من شر ما خلق" فهذه كلماته الكونية التي
يخلق
) (31/5
342
بها ويكون ولو كانت الكلمات الدينية هي التي يأمر بها وينهى لكانت مما
يجاوزهن الفجار والكفار وأما الديني فكقوله} :وإ َ
ن
كي َ شرِ ِ م ْ ن ال ْ ُ م َ حد ٌ ِ نأ َ َِ ْ
استجار َ َ
ه{ والمراد به القرآن وقوله صلى الله م الل ّ ِ كل َمع َ َ س َ حّتى ي َ ْ جْرهُ َ ك فَأ ِ ْ َ َ َ
عليه وسلم في النساء واستحللتم فروجهن بكلمة الله أي بإباحته ودينه
ساِء{ وقد اجتمع النوعان في قوله: ن الن ّ َ م َ م ِ ب ل َك ُ ْ طا َ ما َ حوا َ وقولهَ} :فان ْك ِ ُ
ه{ فكتبه كلماته التي يأمر بها وينهى ويحل ُ
ت َرب َّها وَكت ُب ِ ِ ما ِ ت ب ِك َل ِ َ صد ّقَ ْ }وَ َ
ويحرم وكلماته التي يخلق بها ويكون فأخبر أنها ليست جهمية تنكر كلمات
دينه وكلمات تكوينه وتجعلها خلقا من جملة مخلوقاته.
عَبادا ً ُ َ ُ
م ِ ما ب َعَثَنا عَلي ْك ْ ْ جاَء وَعْد ُ أولهُ َ فصل :وأما البعث الكوني فكقوله} :فَإ َِذا َ
َ ْ ل َنا ُأولي بأ ْ
ض{ وأما ث ِفي الْر ِ ح ُ ه غَُرابا ً ي َب ْ َ ث الل ّ ُ د{ وقوله} :فَب َعَ َ دي ٍ ش ِ س َ ٍ ِ َ َ
م{ وقوله: ه ن م ً ل سو ر ن يي مُ لْ ا في ث ع
ُ َ ِ ََ َ ِ ب ذي ّ لا و ه } فكقوله: الديني البعث
ِ ُْ ْ ّ ّ َ َ ُ
ُ
ن{. ه الن ّب ِّيي َ ُ َ ِ َ َ ُ ْ ِ ِ َ
ري ذ ن م و ن ري ّ
ش ب م ن ث الل ّ ُ حد َة ً فَب َعَ َ ة َوا ِ م ً سأ ّ ن الّنا ُ } َ
كا َ
ن عََلى سل َْنا ال ّ َ َ َ
طي َ شَيا ِ م ت ََر أّنا أْر َ فصل :وأما الرسال الكوني فكقوله} :أل َ ْ
َ كافرين تؤُزهُ َ
ح{ وأما الديني فكقوله: ل الّرَيا َ س َ ذي أْر َ م أّزًا{ وقوله} :وَهُوَ ال ّ ِ ال ْ َ ِ ِ َ َ ّ ْ
َ َ
سول ً م َر ُ سل َْنا إ ِل َي ْك ُ ْ ق{ وقوله} :إ ِّنا أْر َ ح ّ ن ال ْ َ دى وَِدي ِ ه ِبال ْهُ َ سول َ ُ ل َر ُ س َ ذي أْر َ }هُوَ ال ّ ِ
شاهدا ً عَل َيك ُم ك َ َ
ل{. سو ً ن َر ُ سل َْنا إ َِلى فِْرعَوْ َ ما أْر َ ْ ْ َ َ ِ
ل{ ن قَب ْ ُ م ْ ضع َ ِ مَرا ِ ْ َ
مَنا عَلي ْهِ ال َ حّر ْ فصل :وأما التحريم الكوني فكقوله} :وَ َ
َ ة عَل َيه َ
م عَلى قَْري َ ٍ
ة حَرا ٌ ة{ وقوله} :وَ َ سن َ ً ن َ م أْرب َِعي َ ِْ ْ م ٌ حّر َ م َ ل فَإ ِن َّها ُ وقولهَ} :قا َ
م ُ َ أ َهْل َك ْنا َ َ
ت عَلي ْك ْ م ْ حّر َ ن{ وأما التحريم الديني فكقولهُ } : جُعو َ م ل ي َْر ِ ها أن ّهُ ْ َ
م{ ُ ُ
مَهات ُك ْ أ ّ
) (31/6
َ
حُرمًا{} :وَأ َ
ح ّ
ل م ُ مت ُ ْما د ُ ْصي ْد ُ ال ْب َّر َ
م َ م عَل َي ْك ُ ْحّر َ ة{} :وَ ُ م ال ْ َ
مي ْت َ ُ ت عَل َي ْك ُ ُ م ْ حّر َ و} ُ
م الّربا{. حّر َ ه ال ْب َي ْعَ وَ َ
الل ّ ُ
شاُء{ وقوله} :قُ ِ
ل ن يَ َ م ْ ه َمل ْك َ ُ
ه ي ُؤِْتي ُ فصل :وأما اليتاء الكوني فكقولهَ} :والل ّ ُ
ظيمًا{
مْلكا ً عَ ِ
م ُ شاُء{ وقولهَ} :وآت َي َْناهُ ْ ن تَ َم ْ ك َ مل ْ َ
ك ت ُؤِْتي ال ْ ُ مل ْ ِك ال ْ ُ مال ِ َ
م َ الل ّهُ ّ
مما آَتاك ُ ُ وأما اليتاء الديني فكقوله} :وَ َ
) (31/7
343
شفاء العليل
الباب الموفي ثلثين :في الفطرة الولى التي فطر الله عباده عليها وبيان
أنها ل تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه
الباب الموفي ثلثين :في ذكر الفطرة الولى ومعناها واختلف الناس في
المراد بها وأنها ل تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلل.
َ َ
س عَلي َْها ل ت الل ّهِ ال ِّتي فَطَر الّنا َ
َ حِنيفا ً فِط َْر َ ن َِ دي
ك ِلل ّجهَ َم وَ ْ قال تعالى} :فَأقِ ْ
قيم ول َك َ
ن إ ِل َي ْ ِ
ه مِنيِبي َ ن ُمو َ س ل ي َعْل َ ُ ن أك ْث ََر الّنا ِ ن ال ْ َ ّ ُ َ ِ ّ دي ُ ك ال ّق الل ّهِ ذ َل ِ َ ل لِ َ ْ
خل َ ِ دي َ ت َب ْ ِ
ن{ وفي الصحيحين من حديث كي
ُ ِ ِ َرش ْ م ْ لا ن
ِ َم نوا كوُ ت
ّ َ َ َ ُ ول ة صل ال مواَوات ّ ُ َ ِ ُ
قي أ و ه قو
ُ
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" :كل مولود يولد على
الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما ينتج البهيمة جمعاء هل
تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها" ثم قرأ أبو هريرة:
ه{ وفي لفظ آخر" :ما ق الل ّ ِ ل لِ َ ْ
خل ِ دي َس عَل َي َْها ل ت َب ْ ِ ت الل ّهِ ال ِّتي فَط ََر الّنا َ }فِط َْر َ
من مولود إل يولد على هذه الملة" وقد اختلف في معنى هذه الفطرة
والمراد بها فقال القاضي أبو يعلي في معنى الفطرة" :ها هنا روايتان عن
أحمد أحدهما القرار بمعرفة الله تعالى وهو العهد الذي أخذه الله عليهم في
أصلب آبائهم حتى مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال
الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فليس أحد إل وهو يقر
َ
نم ْ م َ سأل ْت َهُ ْن َبأن له صانعا ومدبرا وإن سماه بغير اسمه قال تعالى} :وَل َئ ِ ْ
ه{ فكل مولود يولد على ذلك القرار الول" قال وليس ن الل ّ ُ قول ُ ّم ل َي َ ُ
قهُ ْ خل َ ََ
الفطرة هنا السلم لوجهين أحدهما أن معنى الفطرة ابتداء الخلقة ومنه
َْ
ض{ أي مبتدئها وإذ كانت الفطرة هي ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َقوله تعالىَ} :فاط ِرِ ال ّ
البتداء وجب أن تكون تلك هي التي وقعت لول الخليقة وجرت في فطرة
المعقول وهو استخراجهم
) (32/1
ذرية لن تلك حالة ابتدائهم ولنها لو كانت الفطرة هنا السلم لوجب إذا ولد
بين أبوين كافرين أن ل يرثهما ول يرثانه ما دام طفل لنه مسلم واختلف
الدين يمنع الرث ولوجب أن ل يصح استرقاقه ول يحكم بإسلمه بإسلم أبيه
لنه مسلم" قال وهذا تأويل ابن قتيبة وذكره ابن بطة في البانة قال وليس
كل من تثبت له المعرفة حكم بإسلمه كالبالغين من الكفار فإن المعرفة
حاصلة وليسوا بمسلمين قال وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل وفي رواية
الميموني
) (32/2
344
السلم لن القرار بالمعرفة إقرار باليمان والمؤمن مسلم ولو كانت
الفطرة السلم لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين أن ل يرثانه ول يرثهما قال
ولن ذلك يمنع أن يكون الكفر خلقا لله وأصول أهل السنة بخلفه قال وقد
أومأ أحمد إلى هذا في رواية على بن سعيد وقد سأله عن قوله كل مولود
يولد على الفطرة فقال على الشقاوة والسعادة ولذلك نقل محمد بن يحيى
الكحال أنه سأله فقال هي التي فطر الناس عليها شقي أو سعيد وكذلك نقل
جبيل عنه قال الفطرة التي فطر الله عليها العباد من الشقاوة والسعادة قال
وهذا كله يدل من كلمه على أن المراد بالفطرة ها هنا ابتداء خلقه في بطن
أمه" قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية أحمد" :لم يذكر العهد الول وإنما قال
الفطرة الولى التي فطر الناس عليها وهي الدين وقال في غير موضع أن
الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلمه واستدل بهذا الحديث فدل على
أنه فسر الحديث بأنه يولد على فطرة السلم كما جاء ذلك مصرحا به في
الحديث ولو لم تكن الفطرة عنده السلم لما صح استدلله بالحديث" وقوله
في موضع آخر" :يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة ل ينافي ذلك
فإن الله سبحانه قدر السعادة والشقاوة وكتبهما وقدر أنها تكون بالسباب
التي تحصل بها كفعل البوين فتهويد البوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما
قدره الله أنه يفعل بالمولود والمولود ولد على الفطرة سليما وولد على أن
هذه الفطرة السليمة يغيرها البوان كما قدر سبحانه ذلك وكتبه كما مثل
النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون
فيها من جدعاء فبين أن البهيمة تولد
) (32/3
سليمة ثم يجدعها النسان وذلك بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على
الفطرة سليما ثم يفسده أبواه وذلك أيضا بقضاء الله وقدره وإنما قال أحمد
وغيره من الئمة على ما فطر عليه من شقاوة أو سعادة لن القدرية
يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقضاء الله وقدره بل
مما ابتدأ الناس إحداثه ولهذا قالوا لمالك بن أنس أن القدرية يحتجون علينا
بأول الحديث فقال احتجوا عليهم بآخره وهو قول الله أعلم بما كانوا عاملين
فبين المام أحمد وغيره أنه ل حجة فيه للقدرية فإنهم ل يقولون أن نفس
البوين خلقا تهويده وتنصيره بل هو تهود وتنصر باختياره ولكن كانا سببا في
حصول ذلك بالتعليم والتلقين فإذا أضيف إليهما هذا العتبار فلن يضاف إلى
الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الولى لنه سبحانه وإن كان خلقه
مولودا على الفطرة سليما فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره
وعلم ذلك كما في الحديث الصحيح "أن الغلم الذي قتله الخضر طبع يوم
طبع كافرا ولو بلغ لرهق أبويه طغيانا وكفرا" فقوله طبع يوم طبع أي قدر
وقضى في الكتاب أنه يكفر ل أن كفره كان موجودا قبل أن يولد ول في حال
ولدته فإنه مولود على الفطرة السليمة وعلى أنه بعد ذلك يتغير ويكفر من
ظن أن الطبع على قلبه وهو الطبع المذكور على قلب الكفار فهو غالط فإن
ذلك ل يقال فيه طبع يوم طبع إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه
وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال" :خلقت عبادي حنفاء كلهم
345
فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما
لم أنزل به سلطانا" وهذا
) (32/4
) (32/5
أفرأيت من يموت صغيرا قال الله أعلم بما كانوا عاملين" وفي الصحيح قال
الزهري" :نصلي على مولود يتوفى وإن كان من أجل أنه ولد على فطرة
السلم إذا استهل صارخا ول نصلي على من لم يستهل من أجل أنه سقط"
فإن أبا هريرة كان يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" :ما من مولود
إل ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة
ت الل ّهِ ال ِّتي
جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة} :فِط َْر َ
س عَل َي َْها{" وفي الصحيحين من رواية العمش" :ما من مولود إل فَط ََر الّنا َ
وهو على الملة" وفي رواية ابن معاوية عنه" :إل على هذه الملة" حتى يعرب
عنه لسانه فهذا صريح بأنه يولد على ملة السلم كما فسره ابن شهاب راوي
الحديث واستشهاد أبي هريرة بالية يدل على ذلك قال ابن عبد البر وقد
346
سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزي أن يعتقه وهو رضيع قال
نعم لنه ولد على الفطرة وقال أبو عمر وقد ذكر النزاع في تفسير الحديث
وقال آخرون الفطرة ها هنا السلم قالوا وهو المعروف عند عامة السلف
ت الل ّهِ ال ِّتي فَطَرَ
أهل التأويل قد أجمعوا في تأويل قول الله عز وجل} :فِط َْر َ
س عَل َي َْها{ قالوا فطرة الله دين الله السلم واحتجوا بقول أبي هريرة في الّنا َ
هذا الحديث اقرؤا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها وذكروا عن
عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قوله عز وجل:
س عَل َي َْها{ قالوا" :فطرة الله دين الله السلم ل ت الل ّهِ ال ِّتي فَط ََر الّنا َ
}فِط َْر َ
تبديل لخلق الله قالوا لدين الله" واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق عن ثور
بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عابد الزدي عن عياض بن
حماد المجاشعي أن رسول الله
) (32/6
ص -286-صلى الله عليه وسلم قال" :للناس يوما أل أحدثكم بما حدثني
الله في الكتاب أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلل
ل حرام فيها فجعلوا ما أعطاهم الله حراما وحلل" الحديث قال وكذلك روى
بكر بن مهاجر عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا الحديث حنفاء مسلمين
قال أبو عمر روى هذا الحديث قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عياض ولم
يسمعه قتادة من مطرف ولكن قال حدثني ثلثة عقبة بن عبد الغافر ويزيد
بن عبد الله بن الشخير والعلء بن زياد كلهم يقول حدثني مطرف عن عياض
عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه" :وأنى خلقت عبادي حنفاء كلهم"
لم يقل مسلمين وكذلك رواه الحسن عن مطرف ورواه ابن إسحاق عمن ل
يتهم عن قتادة بإسناده قال فيه" :وأنى خلقت عبادي حنفاء كلهم" ولم يقل
مسلمين قال فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه لنه ذكر
مسلمين في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث وأسقطه من رواية قتادة
وقصر فيه عن قوله مسلمين وزاده ثور بإسناده فالله أعلم قال والحنيف في
كلم العرب المستقيم المخلص ول استقامة أكثر من السلم قال وقد روي
عن الحسن الحنيفية" :حج البيت" وهذا يدل أنه أراد السلم وكذلك روى عن
الضحاك والسدي قال" :حنفاء حجاجا" وعن مجاهد" :حنفاء متبعين" قال
وهذا كله يدل على أن الحنيفية السلم قال وقال أكثر العلماء الحنيف
ن َ
ن كا َ صَران ِي ّا ً وَل َك ِ ْ م ي َُهودِي ّا ً َول ن َ ْ
هي ُ
ن إ ِب َْرا ِكا َما َ المخلص وقال الله عز وجلَ } :
َ ّ ً مل ّ َ
م
هي َ
م إ ِب َْرا ِ ُ
ة أِبيك ْ مل َ حِنيفا{ وقالِ } : م َهي َ ة إ ِب َْرا ِ سِلمًا{ وقال تعالىِ } : م ْحِنيفا ً ُ
َ
ل{ وقال الشاعر وهو الراعي: ن قَب ْ ُ
م ْ
ن ِ
مي َ
سل ِ ِ
م ْ ْ
م ال ُ ُ
ماك ُ س ّ
هُوَ َ
أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيل
عرب نرى لله في أموالنا حق الزكاة منزل تنزيل
) (32/7
قال فهذا وصف الحنيفية بالسلم وهو أمر واضح ل خفاء به قال ومما احتج
به من ذهب في هذا الحديث إلى أن الفطرة في هذا الحديث السلم قوله
صلى الله عليه وسلم" :خمس من الفطرة" ويروى "عشر من الفطرة" قال
347
شيخنا" :والدلئل على ذلك كثيرة ولو لم يكن المراد بالفطرة السلم لما
سألوا عقيب ذلك أرأيت من يموت من أطفال المشركين لنه لم يكن هناك
ما يغير تلك الفطرة لما سألوه والعلم القديم وما يجرى مجراه ل يتغير"
وقوله فأبواه يهودانه بين فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر عليها وأيضا
فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق ل نقص فيها ثم تجدع بعد
ذلك فعلم أن التغير وأرد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها وأيضا
س عَل َي َْها{
ت الل ّهِ ال ِّتي فَط ََر الّنا َ
فان الحديث مطابق للقرآن كقوله} :فِط َْر َ
وهذا يعم جميع الناس فعلم أن الله سبحانه فطر الناس كلهم على فطرته
المذكورة وأيضا فإنه أضاف الفطرة إليه إضافة مدح ل إضافة ذم فعلم أنها
فطرة محمودة ل مذمومة كدين الله وبيته وناقته وأيضا فإنه قال فأقم وجهك
للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها وأيضا فإن هذا تفسير السلف
قال ابن جرير" :يقول فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك الله يا محمد
بطاعته وهي الدين حنيفا" يقول مستقيما لدينه وطاعته فطرة الله يقول
صنعة الله خلق الناس عليها ونصب فطرة على المصدر معنى قوله فأقم
وجهك للدين حنيفا لن المعنى فطر الله الناس على ذلك فطرة قال وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ثم روى عن ابن زيد قال" :فطرة الله
التي فطر الناس عليها قال السلم منذ خلقهم الله من آدم جميعا يقرون
بذلك" وعن مجاهد" :فطرة الله قال
) (32/8
ص -287-الدين السلم" ثم روى عن يزيد بن أبي مريم قال عمر لمعاذ بن
جبل فقال ما قوام هذه المة قال معاذ ثلث وهن المنجيات الخلص وهو
الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها والصلة وهي الملة والطاعة وهي
العصمة فقال عمر صدقت وقوله ل تبديل لخلق الله يقول ل تغيير لدين الله
أي ل يصلح ذلك ول ينبغي أن يفعل قال ابن أبي نجيح عن مجاهد" :ل تبديل
لخلق الله أي لدين الله" ثم ذكر أن مجاهدا أرسل إلى عكرمة يسأله عن
قوله ل تبديل لخلق الله قال" :هو الخصا" فقال مجاهد" :أخطأ ل تبديل لخلق
الله إنما هو الدين" ثم قال" :ل تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم" وروى عن
عكرمة" :ل تبديل الخلق الله قال لدين الله" هو قول سعيد بن جبير
والضحاك وإبراهيم النخعي وابن زيد وعن ابن عباس وعكرمة ومجاهد" :هو
م فَل َي ُب َت ّك ُ ّ
ن آَذا َ
ن الخصا" ول منافاة بين القولين كما قال تعالى} :وََل ُ
مَرن ّهُ ْ
خل ْقَ الل ّ ِ م فَل َي ُغَي ُّر ّ َ
ه{ فتغيير ما فطر الله عباده من الدين ن َ اْلن َْعام ِ وََل ُ
مَرن ّهُ ْ
تغيير لخلقه والخصا وقطع آذان النعام تغيير لخلقه أيضا ولهذا شبه النبي
صلى الله عليه وسلم أحدهما بالخر فأولئك يغيرون الشريعة وهؤلء يغيرون
الخلقة فذلك يغير ما خلقت عليه نفسه وروحه وهذا يغير ما خلق عليه بدنه.
فصل :ولما صار القدرية يحتجون بهذا الحديث على قولهم صار الناس
يتأولونه على تأويلت يخرجونه بها عن مقتضاه فقالت القدرية كل مولود يولد
على السلم والله سبحانه ل يضل أحدا وإنما أبواه يضلنه قال لهم أهل
السنة أنتم ل تقولون بأول الحديث ول بآخره أما أوله فإنه لم يولد أحد عندكم
على السلم أصل ول جعل الله أحدا مسلما ول كافرا عندكم وهذا أحدث
لنفسه الكفر وهذا أحدث لنفسه السلم والله لم يخلق واحدا منهما ولكن
348
دعاهما إلى السلم وأزاح عللهما وأعطاهما قدرة مماثلة فهما يصلح للضدين
ولم يخص المؤمن بسبب يقتضي حصول اليمان فإن
) (32/9
ذلك عندكم غير مقدور له ولو كان مقدورا لكان منع الكافر منه ظلما هذا
قول عامة القدرية وإن كان أبو الحسين يقول أنه خص المؤمن بداعي
اليمان ويقول عند الداعي والقدرة يجب وجود اليمان وهذا في الحقيقة
موافق لقول أهل السنة قالوا فأنتم قلتم إن معرفة الله ل تحصل إل بالنظر
المشروط بالعقل ويستحيل أن تكون المعرفة عندكم ضرورة أو تكون من
فعل الله وأما كونكم ل تقولون بآخره فهو أنه ينسب فيه التهويد والتنصير
إلى البوين وعندكم أن المولود هو الذي أحدث لنفسه التهويد والتنصير دون
البوين والبوان ل قدرة لهما على ذلك البتة وأيضا فقوله الله أعلم بما كانوا
عاملين دليل على أن الله يعلم ما يصيرون إليه بعد ولدتهم على الفطرة هل
يبقون عليها فيكونون مؤمنين أو يغيرون فيصيرون كفارا فهو دليل على تقدم
العلم الذي ينكره غلة القدرية واتفق السلف على تكفيرهم بإنكاره فالذي
استدللتم به من الحديث على قولكم الباطل وهو قوله فأبواه يهودانه
وينصرانه ل حجة لكم بل هو حجة عليكم فغير الله ل يقدر على جعل الهدى
أو الضلل في قلب أحد بل المراد بالحديث دعوة البوين إلى ذلك وتربيتهما
له وتربيتهما على ذلك مما يفعله المعلم والمربي وخص البوين بالذكر على
الغالب أنه جعل أبوان وإل فقد يقع من أحدهما أو من غيرهما.
فصل :قال أبو عمر بن عبد البر اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا
الحديث اختلفا كثيرا وكذلك اختلفوا في الطفال وحكمهم في الدنيا والخرة
فسئل عنه ابن المبارك فقال" :تفسيره آخر
) (32/10
ص -288-الحديث وهو قوله الله أعلم بما كانوا عاملين" هكذا ذكر أبو عبيد
عن ابن المبارك لم يزد شيئا وذكر أنه سأل محمد بن الحسن عن تأويل هذا
الحديث فقال" :كان هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر
الناس بالجهاد" هذا ما ذكره أبو عبيده قال أبو عمر أما ما ذكره عن ابن
المبارك فقد روي عن مالك نحو ذلك وليس فيه مقنع من التأويل ول شرح
موعب في أمر الطفال ولكنها تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر
وإيمان أو جنة ونار ما لم يبلغوا العمل قال وأما ما ذكره عن محمد بن
الحسن فأظن محمدا حاد عن الجواب فيه إما لشكاله وإما لجهله به أو لما
شاء الله وأما قوله أن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر
الناس بالجهاد فل أدري ما هذا فإن كان أراد أن ذلك منسوخ فغير جائز عند
العلماء دخول النسخ في أخبار الله ورسوله إذ المخبر بشيء كان أو يكون إذا
رجع عن ذلك لم يخل رجوعه من تكذيبه لنفسه أو غلطه فيما أخبر به أو
نسيانه وقد جل الله عن ذلك وعصم رسوله منه وهذا ل يجهله ول يخالف فيه
أحد وقول محمد بن الحسن أن هذا كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ليس
كما قال أن في حديث السود الدؤلي بن سريع ما يتبين أن ذلك كان منه بعد
349
المر بالجهاد ثم روى بإسناده عن الحسن عن السود بن سريع قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم" :ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا
الولدان فقال رجل أو ليس إنما هم أولد المشركين فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم أو ليس خياركم أولد المشركين إنه ليس من مولود يولد إل
على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه ويهوده أبواه أو ينصرانه" قال وروى هذا
الحديث عن الحسن جماعة منهم أبو بكر المزني والعلء بن زياد والمسري
بن يحيى وقد روى عن الحنف عن السود بن سريع قال وهو حديث بصري
صحيح قال وروى عوف العرابي عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال" :كل مولود يولد على الفطرة فناداه الناس يا
) (32/11
رسول الله وأولد المشركين قال وأولد المشركين" قال شيخنا" :أما ما
ذكره أبو عمر عن مالك وابن المبارك فيمكن أن يقال أن المقصود أن آخر
الحديث يبين أن الول قد سبق في علم الله يعملون إذا بلغوا أو أن منهم من
يؤمن فيدخل الجنة ومنهم من يكفر فيدخل النار" فل يحتج بقوله كل مولود
يولد على الفطرة على نفي القدر كما احتجت القدرية به وعلى أن أطفال
الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة فيكون مقصود مالك وابن
المبارك أن حكم الطفال على ما في آخر الحديث وأما قول محمد فإنه رأى
الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبويه في الدين
في أحكام الدنيا فيحكم له بحكم الكفر في أنه ل يصلى عليه ول يدفن في
مقابر المسلمين ول يرثه المسلمون ويجوز استرقاقهم فلم يجز لحد أن
يحتج بهذا الحديث على أن حكم الطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب
عنهم ألسنتهم وهذا حق ولكن ظن أن الحديث اقتضى الحكم لهم في الدنيا
بأحكام المؤمنين فقال هذا منسوخ كان قبل الجهاد لنه بالجهاد أبيح استرقاق
النساء والطفال والمؤمن ل يسترق ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين
في الحكام الدنيوية أمر ما زال مشروعا وما زال الطفال تبعا لبويهم في
المور الدنيوية والحديث لم يقصد بيان هذه الحكام وإنما قصد بيان ما ولد
عليه الطفال من الفطرة.
فصل :ومما ينبغي أن يعلم أنه إذا قيل أنه ولد على الفطرة أو على السلم
أو على هذه
) (32/12
ص -289-الملة أو خلق حنيفا فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه
طو ُ ه أَ ْ
ملمَهات ِك ُ ْ
نأ ّن بُ ُ ِ
م ْ جك ُ ْ
م ِ خَر َ يعلم هذا الدين ويريده فإنه الله يقولَ} :والل ّ ُ
شْيئًا{ ولكن فطرته موجبة مقتضية لدين السلم لقروبه ومحبته ن َ ت َعْل َ ُ
مو َ
فنفس الفطرة تستلزم القرار بخالقه ومحبته وإخلص الدين له وموجبات
الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت
من المعارض وليس المراد أيضا مجرد قبول الفطرة لذلك فإن هذا القبول
تغير بتهويد البوين وتنصيرهما بحيث يخرجان الفطرة عن قبولها وإن سعيا
بين بنيهما ودعائهما في امتناع حصول المقبول أيضا ليس هو السلم وليس
350
هو هذه الملة وليس هو الحنيفية وأيضا فإنه شبه تغيير الفطرة بجدع البهيمة
الجمعاء ومعلوم أنهم لم يغيروا قبوله ولو تغير القبول وزال لم تقم عليه
الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب بل المراد أن كل مولود فإنه يولد على
محبته لفاطره وإقراره له بربوبيته وادعائه له بالعبودية فلو خلي وعدم
المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلئم بدنه
من الغذية والشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه وهذا من قوله
ق َ
خل َذي َ دى{ وقوله} :ال ّ ِ ه ثُ ّ
م هَ َ خل ْ َ
ق ُ يٍء َ ل َ
ش ْ ذي أ َعْ َ
طى ك ُ ّ ل َرب َّنا ال ّ ِ
تعالىَ} :قا َ
دى{ فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى جلب ما ذي قَد َّر فَهَ َ وى َوال ّ ِ فَ َ
س ّ
ينفعه ودفع ما يضره ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا فشيئا بحسب
حاجته ثم قد يعرض لكثير من البدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة
السليمة والعادة الصحيحة فهكذا ما ولد عليه من الفطرة ولهذا شبهت
الفطرة باللبن بل كانت إياه في التأويل للرؤيا ولما عرض على النبي صلى
الله عليه وسلم ليلة السراء اللبن والخمر أخذ اللبن فقيل له أخذت الفطرة
) (32/13
ولو أخذت الخمر لغوت أمتك فمناسبة اللبن لبدنه وصلحه عليه دون غيره
لمناسبة الفطرة لقلبه وصلحه بها دون غيرها.
فصل :قال ابن عبد البر وقالت طائفة المراد بالفطرة في هذا الحديث
الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال كل مولود يولد
على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة يريد أنه خلق خلقة مخالفة
لخلقة البهائم التي ل تصل بخلقها إلى معرفة ربها قالوا والفاطر هو الخالق
وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر قال شيخنا" :صاحب هذا
القول أن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها فهذا ضعيف فإن
مجرد القدرة على ذلك ل يقتضي أن يكون حنيفا ول أن يكون على الملة ول
يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته" حين يسأل عمن مات صغيرا ولن القدرة
في الكبير أكمل منها في الصغير وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا أنهم
أولد المشركين قال أو ليس خياركم أولد المشركين ما من مولود إل ويولد
على الفطرة ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك مع كونهم مشركين
مستوجبين للقتل وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها فالقدرة
الكاملة مع الرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور فدل على أنهم فطروا
على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم لليمان.
فصل :قال أبو عمر وقال آخرون معنى قوله يولد على الفطرة يعني البداءة
التي ابتدأهم عليها يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقته من أنه
ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء إلى ما يصيرون إليه عند البلوغ
من قبولهم غير إيمانهم واعتقادهم قالوا والفطرة في كلم العرب البداءة
وألفاظ المبتدئ وكأنه قال يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاء والسعادة
وغير ذلك مما يصير إليه
) (32/14
351
ريقا ً َ
ن فَ ِ ما ب َد َأك ُ ْ
م ت َُعوُدو َ ص -290-وقد فطر عليه واحتجوا بقوله تعالى} :ك َ َ
ة{ وروى بإسناده إلى ابن عباس قال" :لم أدر ضلل َ ُ حقّ عَل َي ْهِ ُ
م ال ّ ريقا ً َ
دى وَفَ ِ
هَ َ
ما فاطر السماوات والرض حتى أتانا أعرابيان يختصمان في بئر فقال
أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها وذكر دعاء على اللهم جبار القلوب على
فطرتها شقيها وسعيدها" قال شيخنا" :حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه
يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه" ومعلوم أن جميع المخلوقات
بهذه المثابة فجميع البهائم مولودة على ما سبق في علم الله لها والشجار
مخلوقة على ما سبق في علم الله وحينئذ فيكون كل مخلوق قد خلق على
الفطرة وأيضا فلو كان المراد ذلك لم يكن لقوله فأبواه يهودانه معنى فإنهما
فعل به ما هو الفطرة التي ولد عليها وعلى هذا القول فل فرق بين التهويد
والتنصير وبين تلقي السلم وتعليمه وبين تعلم سائر الحرف والصنائع فإن
ذلك كله واحد فيما سبق به العلم وأيضا فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت
جمعاء ثم جدعت تبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه وأيضا فقوله على هذه الملة
وقوله أني خلقت عبادي حنفاء مخالف لهذا وأيضا فل فرق بين حال الولدة
وسائر أحوال النسان فإنه من حين كان جنينا إلى ما ل نهاية له من أحواله
على ما سبق في علم الله فتخصيص الولدة بكونها على مقتضى القدر
تخصيص بل مخصص وقد ثبت في الصحيح" :أنه قيل حين نفخ الروح فيه
يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد" فلو قيل كل مولود ينفخ فيه الروح
على الفطرة لكان أشبه بهذا المعنى مع أن النفخ هو بعد الكتابة.
فصل :قال أبو عمر قال محمد بن نصر المروزي" :وهذا المذهب شبيه بما
حكاه أبو عبيد عن ابن المبارك أنه سئل عن هذا الحديث فقال يفسره قوله
الله أعلم بما كانوا عاملين قال
) (32/15
المروزي وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هنا القول ثم تركه" قال أبو عمر
وما رسمه مالك في موطأه وذكر في أبواب القدر فيه من الثار ما يدل على
أن مذهبه في ذلك نحو هذا قال شيخنا أئمة ألسنة مقصودهم أن الخلق
صائرون إلى ما سبق في علم الله فيهم من إيمان وكفر كما في الحديث
الخر أن الغلم الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا و الطبع الكتاب أي
كتب كافرا كما في الحديث الصحيح فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو
سعيد وليس إذا كان الله كتبه كافرا يقتضي أنه حين الولدة كافر بل يقتضي
انه ل بد ان يكفر وذلك الكفر هو التغيير كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء
وقد سبق في علمه أنها تجدع كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولدة
ول يجب أن تكون عند الولدة مجدوعة.
فصل :وكلم أحمد في أجوبة له أخرى يدل على أن الفطرة عنده السلم
كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه فإنه كان يقول" :أن صبيان أهل
الحرب إذا سبوا بدون البوين كانوا مسلمين وإن كانوا معهما فهم على
دينهما فإن سبوا مع أحدهما ففيه عنه روايتان" وكان يحتج بالحديث قال
الخلل في الجامع أنبأنا أبو بكر المروزي أنبأنا عبد الله قال سبي أهل الحرب
أنهم مسلمون إذا كانوا صغارا وإن كانوا مع أحد البوين وكان يحتج بقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم" :فأبواه يهودانه وينصرانه" قال وأما أهل
352
الثغر فيقولون إذا كان مع أبويه أنهم يخيرونه على السلم قال ونحن ل
نذهب إلى هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم" :فأبواه يهودانه وينصرانه"
قال الخلل أنبأنا عبد الملك الميموني قال سألت أبا عبد الله قبل الحبس عن
الصغير يخرج من أرض الروم وليس معه أبواه فقال" :إن مات صلى عليه
المسلمون قلت يكره على السلم قال إذا كانوا صغارا يصلون عليهم أكره
عليه قلت فإن كان
) (32/16
ص -291-معه أبواه قال إذا كان معه أبواه أو أحدهما لم يكره ودينه على
دين أبويه" قلت إلى أي شيء يذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
"كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه" قال نعم وعمر بن عبد العزيز
فأدى به فلم يرده إلى بلد الروم إل وحكمه حكمهم قلت في الحديث كان
معه أبواه قال ل وليس ينبغي إل أن يكون معه أبواه قال الخلل ما رواه
الميموني قول أول لبي عبد الله ولذلك نقل إسحاق بن منصور أن أبا عبد
الله قال إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم قلت ل يجبرونه على السلم إذا
كان معه أبواه أو أحدهما قال نعم قال الخلل وقد روى هذه المسألة عن أبي
عبد الله خلق كلهم قال" :إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم" وهؤلء النفر
سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس وبعضهم قبل وبعد والذي أذهب إليه ما
رواه الجماعة قال الخلل وحدثنا أبو بكر المروزي قال قلت لبي عبد الله:
"أني كنت بواسط فسألوني عن الذي يموت هو وامرأته ويدعا طفلين ولهما
عم ما تقول فيهما فإنهم قد كتبوا إلى البصرة فيها فقال أكره أن أقول فيها
برأي دع حتى أنظر لعل فيهما عمن تقدم فلما كان بعد شهر عاودته قال
نظرت فيها فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قال فأبواه يهودانه وينصرانه
وهذا ليس له أبوان قلت يجبر على السلم قال نعم هؤلء مسلمون لقول
النبي صلى الله عليه وسلم" وكذلك نقل يعقوب بن سحبان قال قال أبو عبد
الله" :إذا مات الذمي أبواه وهو صغير أجبر على السلم" وذكر الحديث
"فأبواه يهودانه وينصرانه" ونقل عنه عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في
المجوسيين" :يولد لهما ولد فيقولن هذا مسلم فيمكث خمس سنين ثم
يتوفى قال ذاك يدفنه المسلمون قال النبي صلى الله عليه وسلم" :فأبواه
يهودانه وينصرانه" وقال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن قوم
) (32/17
يزوجون بناتهم من قوم علي أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم وما كان
من أنثى فهي مشركة يهودية أو مجوسية أو نصرانية فقال يجبر هؤلء من أبا
منهم على السلم لن أباهم مسلما لحديث النبي صلى الله عليه وسلم
فأبواه يهودانه وينصرانه يردون كلهم إلى السلم ومثل هذا كثير في أجوبته
يحتج بالحديث على إنما يصير كافرا بأبويه فإذا لم يكن مع أبوين كافرين فهو
مسلم فلو لم تكن الفطرة السلم لم يكن بعدم أبويه يصير مسلما فإن
الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة ونقل عنه الميموني أن الفطرة
هي الدين وهي الفطرة الولى قال الخلل" :أخبرني الميموني أنه قال لبي
353
عبد الله كل مولود يولد على الفطرة يدخل عليه إذا كان أبواه يعني أن يكون
حكمه حكم ما كانوا صغارا فقال لي نعم ولكن يدخل عليك في هذا فتناظرنا
بما يدخل علي من هذا القول وبما يكون" فقوله قلت لبي عبد الله فما
تقول أنت فيها وإلى أي شيء تذهب قال أقول أنا ما أدري أخبرك هي
مسلمة كما ترى ثم قال لي والذي يقول كل مولود يولد على الفطرة ينظر
أيضا إلى الفطرة الولى التي فطر الناس عليها قلت له فما الفطرة الولى
أهي الدين قال نعم فمن الناس من يحتج بالفطرة الولى مع قول النبي
صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة" قلت لبي عبد الله فما
تقول لعرف قولك قال أقول أنه على الفطرة الولى قال شيخنا" :فجواب
أحمد أنه على الفطرة الولى وقوله أنها الدين يوافق القول بأنه على دين
السلم".
فصل :وأما جواب أحمد أنه على ما فطر من شقاوة وسعادة الذي ذكر محمد
بن نصر أنه كان يقول به ثم تركه فقال الخلل أخبرني محمد بن يحيى
الكحال أنه قال لبي عبد الله كل
) (32/18
) (32/19
354
عليه من الضللة" فقال" :وكان من الكافرين وابتدأ خلق السحرة على
الهدى وعملوا بعمل أهل الضللة ثم هداهم الله إلى الهدى والسعادة
وتوفاهم عليها مسلمين" فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبين أن الذي
ابتدأهم عليه هو ما كتب أنهم صائرون إليه وأنهم قد يعملون قبل ذلك غيره
وأن من ابتدئ على الضللة أي كتب أن يموت ضال فقد يكون قبل ذلك عامل
بعمل أهل الهدى وحينئذ فمن ولد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى ل
يمنع أن يعرض لها ما يغيرها فيصير إلى ما سبق به القدر كما في الحديث
الصحيح" :أن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع
فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وأن أحدكم ليعمل
بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إل ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل
بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة" وقال سعيد بن جبير في قوله" :كما بدأ كم
تعودون قال كما كتب عليكم تكونون" وقال مجاهد" :كما بدأكم تعودون
شقي وسعيد" وقال أيضا" :يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا" وقال أبو
العالية" :عادوا إلى علمه فيهم فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضللة" قلت
هذا المعنى صحيح في نفسه دل عليه القرآن والسنة والثار السلفية وإجماع
أهل السنة وأما كونه هو المراد بالية ففيه ما فيه والذي يظهر من الية أن
معناها معنى نظرائها وأمثالها من اليات التي يحتج الله سبحانه فيها على
النشأة الثانية بالولى وعلى المعاد بالمبدأ فجاء باحتجاج في غاية الختصار
َ
ن
م َ ب ِ م ِفي َري ْ ٍ ن ك ُن ْت ُ ْ س إِ ْوالبيان فقال كما بدأكم تعودون كقولهَ} :يا أي َّها الّنا ُ
ه{ الية خل ْ َ
ق ُ ي َ س َ مث َل ً وَن َ ِ ب ل ََنا َضَر َ ب{ وقوله} :وَ َ ن ت َُرا ٍ
م ْم ِ خل َ ْ
قَناك ُ ْ ث فَإ ِّنا َال ْب َعْ ِ
ك ن ُط ْ َ َ َ َ
ن
كا َم َ مَنى ث ُ ّ ي يُ ْ
من ِ ّ ن َ م ْ ة ِ
ف ً م يَ ُ سدىً أل َ ْ ك ُ ن ي ُت َْر َنأ ْسا ُ ب اْل ِن ْ َ س ُح َ وقوله} :أي َ ْ
َ َ َ َ
نْ أ لى ع ر د قا
َ ب
ْ َ ِ ِ ِ ٍ َ كَ لَ ذ س ي ل أ} قوله: إلى وى{ َ ّس َ ف خل َقَة فَ َ عَل َ َ
ق ً
) (32/20
موَْتى{ وقوله ي ال ْ َ
حي ِ َ
يُ ْ
ن ْ ُ ْ
ص } : -293-فَلي َن ْظرِ ال ِن ْ َ
ن ب َي ْ ِ
م ْ
ج ِ
خُر ُ
ق يَ ْ
ماٍء َدافِ ٍ
ن َ
م ْ
خل ِقَ ِ
خل ِقَ ُ
م ُم ّن ِسا ُ
قادٌِر{ أي على رجع النسان حيا بعد موته َ
جعِهِ ل َه عََلى َر ْ ب إ ِن ّ ُ ب َوالت َّرائ ِ ِ صل ْ ِ
ال ّ
هذا هو الصواب في معنى الية يبقى أن يقال فكيف يرتبط هذا بقوله فريقا
هدى وفريقا حق عليهم الضلل فيقال هذا الذي أوجب لصحاب ذلك القول
ما تأولوا به الية ومن تأمل الية علم أن القول أولى بها ووجه الرتباط أن
الية تضمنت قواعد الدين علما وعمل واعتقادا فأمر سبحانه فيها بالقسط هو
الذي هو حقيقة شرعه ودينه وهو يتضمن التوحيد فإنه أعدل العدل والعدل
في معاملة الخلق والعدل في العبادة وهو القتصاد في السنة ويتضمن المر
بالقبال على الله وإقامة عبوديته في ثبوته ويتضمن الخلص له وهو عبوديته
وحده ل شريك له فهذا ما فيها من العمل ثم أخبر بمبدأهم ومعادهم فتضمن
ذلك حدوث الخلق وإعادته فذلك اليمان بالمبدأ والمعاد ثم أخبر عن القدر
الذي هو نظام التوحيد فقال فريقا هدى وفريفا حق عليهم الضللة فتضمنت
الية اليمان بالقدر والشرع والمبدأ والمعاد والمر بالعدل والخلص ثم ختم
الية بذكر حال من لم يصدق هذا الخبر ولم يطع هنا المر بأنه قدوا للشيطان
دون ربه وأنه على ضلل وهو يحسب أنه على هدى والله أعلم.
355
فصل :وقال آخرون يعني قوله كل مولود يولد على الفطرة أن الله فطرهم
على النكار والمعرفة وعلى الكفر واليمان فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين
خلقهم فقال ألست بربكم قالوا جميعا بلى فأما أهل السعادة فقالوا بلى
على معرفة له طوعا من قلوبهم وأما أهل الشقاء فقالوا بلى كرها غير طوع
وعا ً َْ قالوا ويصدق ذلك قوله تعالى} :ول َ َ
ض طَ ْ
ت َوالْر ِ
ماَوا ِ
س َ
ن ِفي ال ّ
م ْ سل َ َ
م َ هأ َْ ُ
) (32/21
َ
حقّ عَل َي ْهِ ُ
م ريقا ً َدى وَفَ ِ ريقا ً هَ َن فَ ِ
م ت َُعوُدو َما ب َد َأك ُ ْوَك َْرهًا{ قالوا وكذلك قوله} :ك َ َ
ة{ قال محمد بن نصر المروزي سمعت إسحاق بن راهويه يذهب إلى ضلل َ ُ
ال ّ
ت الل ّهِ ال ِّتي ر
ِ َ َ ْ ط ف } شئتم: إن "اقرؤوا هريرة: أبي بقول واحتج المعنى هذا
ه{" قال الحق نقول ل تبديل للخلقة التي ق الل ّ ِ ل لِ َ ْ
خل ِ دي َ س عَل َي َْها ل ت َب ْ ِفَط ََر الّنا َ
جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر واليمان والمعرفة والنكار واحتج
م{ الية قال م ذ ُّري ّت َهُ ْن ظ ُُهورِهِ ْم ْ
م ِ ن ب َِني آد َ َ م ْ ك ِخذ َ َرب ّ َ بقوله تعالى} :وَإ ِذ ْ أ َ َ
إسحاق أجمع أهل العلم أنها الرواح قبل الجساد واستنطقهم وأشهدهم على
أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى قال انظروا أن ل تقولوا أنا كنا عن هذا
غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وذكر حديث أبي بن كعب في
قصة الغلم الذي قتله الخضر قال وكان الظاهر ما قال موسى أقتلت نفسا
زكية بغير نفس فأعلم الله الخضر ما كان الغلم عليه من الفطرة التي
فطره عليها وأنه ل تبديل لخلق الله فأمر بقتله لنه كان قد طبع كافرا وفي
صحيح البخاري أن ابن عباس كان يقرأها وأما الغلم فكان كافرا وكان أبواه
مؤمنين قال إسحاق" :فلو ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولم يبين
لهم حكم الطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين" لنهم ل يدرون ما
جبل كل واحد عليه حتى أخرج من ظهر آدم فبين النبي صلى الله عليه وسلم
حكم الطفال في الدنيا بأن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه يقول أنتم ل
تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الولى لكن حكم الطفل في الدنيا حكم
أبويه فاعرفوا ذلك بالبوين فمن كان صغيرا بين أبوين مسلمين ألحق بحكم
السلم وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله وبعلم ذلك
فضل الله الخضر في علمه هذا على موسى إذ أطلعه الله عليه في ذلك
الغلم وخصه بذلك قال ولقد سئل ابن عباس عن ولدان
) (32/22
356
قال شيخنا" :أصل مقصود الئمة صحيح وهو منع احتجاج القدرية بهذا
الحديث على نفي القدر لكن ل يحتاج مع ذلك أن يفسر القرآن والحديث إل
بما هو مراد الله ورسوله ويجب أن يتبع في ذلك ما دل عليه الدليل" وما
ذكروه أن الله فطرهم على الكفر واليمان والمعرفة والنكرة إن أرادوا به أن
الله سبق في علمه وقدره بأنهم سيؤمنون ويكفرون ويعرفون وينكرون وإن
ذلك كان بمشيئة الله وقدره وخلقه فهذا حق ترده القدرية فغلتهم ينكرون
العلم وجميعهم ينكرون عموم خلقه ومشيئته وقدرته وإن أرادوا أن هذه
المعرفة والنكرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق كما في ظاهر المنقول عن
إسحاق فهذا يتضمن شيئين أحدهما أنهم حينئذ كانت المعرفة واليمان
موجودا فيهم كما قال ذلك طوائف من السلف وهو الذي حكى إسحاق
الجماع عليه وفي تفسير الية نزاع بين الئمة وكذلك في خلق الرواح قبل
الجساد قولن معروفان لكن المقصود هنا أن هذا إن كان حقا فهو توكيد
لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والقرار فهذا ل يخالف ما دلت عليه
الحاديث من أنه يولد على الملة وأن الله خلق خلقه حنفاء بل هو مؤيد لذلك
وأما قول القائل أنهم في ذلك القرار انقسموا إلى مطيع وكافر فهذا لم
ينقل عن أحد
) (32/23
من السلف فيما أعلم إل عن السدي في تفسيره قال لما أخرج الله آدم من
الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية
بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم أدخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة
ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال أدخلوا النار ول أبالي
ذلك قوله وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال
الست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه
التقية فقال هو والملئكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين
فليس أحد من ولد آدم إل وهو يعرف الله بأنه ربه وذلك قوله عز وجل} :وَل َ ُ
ه
َْ َ
ل فَل ِل ّ ِ
ه وعا ً وَك َْرهًا{ وكذلك قوله} :قُ ْ ض طَ ْت َوالْر َ ِ ماَوا ِ س َن ِفي ال ّ م ْ م َ سل َ َأ ْ
ن{ يعني يوم أخذ الميثاق قال شيخنا: مِعي َ ج َمأ ْ شاَء ل َهَ َ
داك ُ ْ ة فَل َوْ َة ال َْبال ِغَ ُ
ج ُ ح ّال ْ ُ
"وقيل هذا الثر ل يوثق به" فإن في تفسير السدي أشياء قد عرف بطلن
بعضها وهو ثقة في نفسه وأحسن أحوال هذا وأمثاله أن يكون كالمراسيل إن
كان مأخوذا عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف إذا كان مأخوذا عن أهل
الكتاب ولو لم يكن في هذا إل معارضة لسائر الثار التي تتضمن التسوية بين
جميع الناس في القرار لكفى وأما قوله تعالى} :ول َ َ
ن ِفيم ْ سل َ َ
م َ هأ َْ ُ
وعا ً وَك َْرهًا{ فإنما هو في السلم الموجود منهم بعد َْ
ض طَ ْ ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َال ّ
خلقهم لم يقل أنهم حين العهد الول أسلموا طوعا وكرها يدل على ذلك أن
ذلك القرار الول جعله الله عليهم حجة على من ينسه ولو كان فيهم كاره
لقال لم أقر طوعا بل كرها فل يقوم به عليه حجة وأما احتجاج أحمد بقول
ت الل ّهِ ال ِّتيأبي هريرة "اقرؤوا إن شئتم} :فِط َْر َ
) (32/24
357
ه{" فهذه الية فيها قولن ق الل ّ ِ خل ِ
ل لِ َ ْ دي َس عَل َي َْها ل ت َب ْ ِ
ص -295-فَط ََر الّنا َ
أحدهما أن معناها النهي كما تقدم عن أبن جرير أنه فسرها فقال أي ل تبدلوا
دين الله الذي فطر عليه عباده وهذا قول غير واحد من المفسرين لم يذكروا
غيره والثاني ما قاله إسحاق وهو أنها خبر على ظاهرها وأن خلق الله ل
يبدله أحد وظاهر اللفظ خبر فل يجعل نهيا بغير حجة وهذا أصح وحينئذ فيكون
المراد أن ما جبلهم عليه من الفطرة ل يبدل فل يجبلون على غير الفطرة ل
يقع هذا أصل والمعنى أن الخلق ل يتبدل فيخلقون على غير الفطرة ولم يرد
بذلك أن الفطرة ل تتغير بعد الخلق بل نفس الحديث يبين أنها تتغير ولهذا
شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع ول تولد بهيمة مخصية ول مجدوعة
ه{ أقدر الخلق على خل ْقَ الل ّ ِ م فَل َي ُغَي ُّر ّ
ن َ وقد قال تعالى عن الشيطانَ} :ل ُ
مَرن ّهُ ْ
أن يغيروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته وإنما تبديل الخلق بأن يخلقوا على
غير تلك الفطرة فهذا ل يقدر عليه إل الله والله ل يفعله كما قال ل تبديل
لخلق الله ولم يقل ل تغيير فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله
ولكن إذا غير بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولدة وأما قول القائل
ل تبديل للخلقة التي جبل عليها بنو آدم كلهم من كفر وإيمان فإن عني به ما
سبق به القدر من الكفر واليمان ل يقع خلفه فهذا حق ولكن ذلك ل يقتضي
أن تبديل الكفر باليمان وبالعكس ممتنع ول أنه غير مقدور بل العبد قادر
على ما أمره الله به من اليمان وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر وعلى أن
يبدل حسناته بالسيئات وسيئاته بالحسنات كما قال الله إل من ظلم ثم بدل
حسنا بعد سوء وهذا التبديل كله بقضاء الله وقدره وهذا بخلف ما فطروا
عليه حين الولدة فإن ذلك خلق الله الذي ل يقدر على تبديله غيره وهو
سبحانه ل يبدله بخلف تبديل الكفر باليمان وبالعكس فأنه يبدله كثيرا والعبد
قادر على
) (32/25
جهَ َ َ
ك تبديله بإقدار الرب له على ذلك ومما يوضح ذلك قوله تعالى} :فَأقِ ْ
م وَ ْ
ه{ فهذه ق الل ّ ِ ل لِ َ ْ
خل ِ س عَل َي َْها ل ت َب ْ ِ
دي َ ت الل ّهِ ال ِّتي فَط ََر الّنا َ
حِنيفا ً فِط َْر َ
ن َ
دي ِ
ِلل ّ
فطرة محمودة أمر الله بها نبيه فكيف تنقسم إلى كفر وإيمان مع أمر الله
تعالى بها وقد تقدم تفسير السلف ل تبديل لخلق الله أي لدين الله أو النهي
عن الخصا ونحوه ولم يقل أحد منهم أن المعني ل تبديل لحوال العباد من
كفر إلى إيمان وعكسه فإن تبديل ذلك موجود ومهما وقع كان هو الذي سبق
به القدر والرب تعالى عالم بما سيكون ل يقع خلف معلومه فإذا وقع التبديل
كان هو الذي علمه وأما قوله عن الغلم أنه طبع يوم طبع كافرا فالمراد به
أنه كتب كذلك وقدر وختم فهو من طبع الكتاب ولفظ الطبع لما صار
يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الخلقة والجبلة ظن
الظان أن هذا مراد الحديث وهذا الغلم الذي قتله الخضر ليس في القرآن ما
يبين أنه كان غير بالغ ول مكلف بل قراءة ابن عباس تدل على أنه كافر كان
في الحال وتسميته غلما ل يمنع أن يكون مكلفا قريب العهد بالصغر ويدل
عليه أن موسى لم ينكر قتله لصغره بل لكونه زاكيا ولم يقتل نفسا لكن
يقال في الحديث الصحيح ما يدل على أنه كان غير بالغ من وجهين أحدهما
أنه قال فمر بصبي يلعب مع الصبيان الثاني أنه قال ولو أدرك لرهق أبويه
358
طغيانا وكفرا وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد فيقال الكلم على الية على
التقديرين فإن كان بالغا وقد كفر فقد قتل على كفره الواقع بعد البلوغ ول
إشكال وإن كان غير بالغ فلعل تلك الشريعة كان فيها التكليف قبل الحتلم
عند قوة عقل الصبي وكمال تميزه وإن لم يكن التكليف قبل البلوغ بالشرائع
واقعا فل يمتنع وقوعه بالتوحيد ومعرفة الله كما قاله طوائف من
) (32/26
) (32/27
وقراءة ابن عباس وأما الغلم فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ظاهرة أنه كان
حينئذ كافرا فإن قيل فهذا الغلم كان أبواه مؤمنين فلو كان مولودا على
فطرة السلم وهو بين أبوين مسلمين لكان مسلما تبعا لهما وبحكم الفطرة
فكيف يقتل والحالة هذه قيل إن كان بالغا فل إشكال وإن كان مميزا وقد
كفر فيصح كفره وردته عند كثير من العلماء وأن ل يقتل حتى يبلغ عندهم
فلعل في تلك الشريعة يجوز قتل المميز الكافر وإن كان صغيرا غير مميز
فيكون قتله خاصا به لن الله أطلع الخضر عل أنه لو بلغ لختار غير دين
البوين وعلى هذا يدل قول ابن عباس لنجدة وقد سأله عن قتل صبيان
359
الكفار فقال" :لئن علمت فيهم ما علمه الخضر من الغلم فاقتلهم" فإن قيل
إذا كان مولودا على الفطرة وأبواه مؤمنين فمن أين جاء الكفر قيل إنما قال
النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على الغالب وإل فالكفر قد يأتيه من قبل
غير أبويه فهذا الغلم إن كان كافرا في الحال فقد جاء الكفر من غير جهة
أبويه وإن كان المراد أنه إذا بلغ سيكفر باختياره فل إشكال.
فصل :وأما تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم" :فأبواه يهودانه
وينصرانه ويمجسانه" أنه أراد به مجرد اللحاق في أحكام الدنيا دون أن يكون
أراد أنهما يغيران الفطرة فهذا خلف ما يدل عليه الحديث فإنه شبه تكفير
الطفال بجدع البهائم تشبيها للتغيير بالتغيير وأيضا فإنه ذكر هذا الحديث لما
قتل أولد المشركين فنهاهم عن قتلهم وقال أليس خياركم أولد المشركين
كل مولود يولد على الفطرة فلو أراد أنه تابع لبويه في الدنيا لكان هذا حجة
لهم يقولون هم كفار كآبائهم وكون الصغير يتبع أبواه في أحكام الدنيا هو
لضرورة بقائه في الدنيا فإنه ل بد له من مرب يربيه وإنما يربيه أبواه فكان
) (32/28
ص -297-تابعا لهما ضرورة ولهذا من سبي منفردا عنهما صار تابعا لسابيه
عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد والوزاعي وغيرهم لكونه
هو الذي يربيه وإذا سبي منفردا عن أحدهما أو معهما ففيه نزاع بين العلماء
واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيره بهذا الحديث على أنه متى سبي منفردا عن
أبويه يصير مسلما إذ يستلزم أن يكون المراد بتكفير البوين لهما مجرد
لحاقه لهما في الدين ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد ولد على الملة فإنما ينقله
عنه البوان اللذان يغيرانه عن الفطرة فمتى سباه المسلمين منفردا عنهما
لم يكن هناك من يغير دينه وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلما
بالمقتضى السالم عن المعارض ولو كان البوان يجعلنه كافرا في نفس
المر بدون تعليم لكان الصبي المسبي بمنزلة البالغ الكافر ومعلوم أن البالغ
الكافر إذا سباه المسلمون لم يصر مسلما لنه صار كافرا حقيقة فلو كان
الصبي التابع لبويه كافرا حقيقة لم ينتقل عن الكفر بالسباء فعلم أنه كان
يجري عليه حكم الكفر في الدنيا تبعا لبويه لنه صار كافرا في نفس المر
تبين ذلك أنه لو سباه كفار ولم يكن معه أبواه لم يصر مسلما فهو هنا كافر
في حكم الدنيا وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه فعلم أن المراد بالحديث أن
البوين يلقناه الكفر ويعلمانه إياه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم البوين
لنهما الصل العام الغالب في تربية الطفال فإن كل طفل فل بد له من
أبوين وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما ومما يبين ذلك قوله في
الحديث الخر "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإما
شاكرا وإما كفورا" فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز فحينئذ يتبين له
أحد المرين ولو كان كافرا في الباطن بكفر البوين لكان ذلك من حين يولد
قبل أن يعرب عنه لسانه وكذلك
) (32/29
360
قوله في الحديث الصحيح" :أني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين
وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم
الحلل وأمرتهم بالشرك" فلو الطفل كان يصير كافرا في نفس المر من
حين يولد لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه إياه لم
تكن الشياطين هم الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك.
فصل :ومنشأ الشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام
الكفر في الخرة فإن أولد الكفار لما كان تجري عليهم أحكام الكفر في
الدنيا مثل ثبوت الولية عليهم لبائهم وحضانتهم لهم وتمكنهم من تعليمهم
وتأديبهم والموازنة بينهم وبين نبيهم واسترقاقهم وغير ذلك صار يظن من
يظن أنهم كفار في نفس المر كالذي تكلم بالكفر وعمل به ومن ها هنا قال
محمد بن الحسن" :أن هذا الحديث وهو قوله كل مولود يولد على الفطرة
كان قبل أن تنزل الحكام" فإذا عرف أن كونهم ولدوا على الفطرة ل ينافي
أن يكونوا تبعا لبائهم في أحكام الدنيا وقد زالت الشبهة وقد يكون في بلد
الكفر من هو مؤمن يكتم إيمانه ول يعلم المسلمون حاله فل يغسل ول يصلى
عليه ويدفن مع المشركين وهو في الخرة من أهل الجنة كما أن المنافقين
في الدنيا تجري عليهم أحكام المسلمين وهم في الدرك السفل من النار
فحكم الدار الخرة غير حكم الدار الدنيا وقوله "كل مولود يولد على
الفطرة" إنما أراد به الخبار
) (32/30
361
الحمل من غيره كما إذا مات وخلف امرأة ابنه أو أخيه حامل فأسلمت أمه
قبل وضعه لم يرثه لنا حكمنا بإسلمه من حين أسلمت
) (32/31
أمه وكذلك هناك حكمنا بإسلمه من حين مات أبوه وقد وافق المام أحمد
الجمهور على أن الطفل إذا مات أبواه في دار الحرب ل يحكم بإسلمه ولو
كان موت البوين يجعله مسلما بحكم الفطرة الولى لم يفترق الحال بين دار
الحرب ودار السلم لوجود المقتضى للسلم وهو الفطرة وعدم المانع وهو
البوان وقد التزم بعض أصحابه الحكم بإسلمه وهو باطل قطعا إذ من
المعلوم بالضرورة أن أهل الحرب فيهم من بلغ يتيما لغيره وأحكام الكفار
المحاربين جارية عليهم والرواية الثالثة إن كفله أهل دينه فهو باق على دين
أبويه وإن كلفه المسلمون فهو مسلم نص عليه في رواية يعقوب بن بحنان
كما ذكره الخلل في جامعه عنه قال سئل أبو عبد الله عن جارية نصرانية
لقوم فولدت عندهم ثم ماتت ما يكون الولد قال إذا كفله المسلمون ولم
يكن له من يكفله إل هم فهم مسلمون قيل له فإن مات بعد الم بقليل قال
يدفنه المسلمون وقال في رواية أبي الحارث في جارية نصرانية لرجل
مسلم لها زوج نصراني فولدت عنده وماتت عند المسلم وبقي ولدها عنده
ما يكون حكم هذا الصبي قال إذا كفله المسلمون فهو مسلم وهذه الرواية
إن لم يذكرها عامة الصحاب وهي من جامع الخلل فهي أصح القوال في
هذه المسألة دليل وهي التي نختارها وبها تجتمع الدلة فإن الطفل يتبع مالكه
وسابيه فكذلك يتبع كافله وحاضنه فإنه ل يستقل بنفسه بل ل بد له ممن
يتبعه ويكون معه فتبعيته لحاضنه وكافله أولى من جعله كافرا بكون أبويه
كافرين وقد انقطعت تبعيته لهما بخلف
) (32/32
ص -299-ما إذا كفله أهل دين البوين فإنهم يقومون مقامهما ول أثر لفقد
البوين إذا كفله جده أو جدته أو غيرهما من أقاربه فهذا القول أرجح في
النظر والله أعلم وليس المقصود ذكر هذه المسائل وما يصير به الطفل
مسلما فإنا قد استوفيناها في كتابنا في أحكام أهل الملل بأدلتها واختلف
العلماء من السلف والخلف فيها وذكر مأخذهم وإنما المقصود ذكر الفطرة
وأنها هي الحنيفية وأنها ل تنافي القدر السابق بالشقاوة والله أعلم.
فصل :قال أبو عمر وقال آخرون في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم
كل مولود يولد على الفطرة لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر
الفطرة ها هنا كفرا ول إيمانا ول معرفة ول إنكارا وإنما أراد أن كل مولود
يولد على السلمة خلقة وطبعا وبنية ليس معها كفر ول إيمان ول معرفة ول
إنكار ثم يعتقد الكفر أو اليمان بعد البلوغ إذا ميز واحتجوا بقوله في الحديث
كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء يعني سالمة هل تحسون فيها من جدعاء يعني
مقطوعة الذن فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لنها تولد كاملة الخلق ل يتبين
فيها نقصان ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها فيقال هذه السوائب وهذه البحائر
يقول كذلك قلوب الطفال في حين ولدتهم ليس لهم حينئذ كفر ول إيمان
362
ول معرفة ول إنكار كالبهائم السالمة فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر
أكثرهم وعصم الله أقلهم قالوا ولو كان الطفال قد فطروا على شيء من
الكفر واليمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبدا فقد تجدهم يؤمنون ثم
يكفرون ثم يؤمنون قالوا ويستحيل في العقول أن يكون الطفل في حال
ولدته يفعل كفرا أو إيمانا لن الله أخرجهم من بطون أمهاتهم ل يعلمون
شيئا فمن لم يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار قال أبو
عمر هذا القول أصح ما قيل في
) (32/33
معنى الفطرة التي تولد الولدان عليها وذلك أن الفطرة السلمة والستقامة
بدليل قوله تعالى في حديث عياض بن حماد أني خلقت عبادي حنفاء يعني
على استقامة وسلمة وكأنه والله أعلم أراد الذين خلصوا من الفات كلها
والمعاصي والطاعات فل طاعة منهم ول معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما
لن كُ ّمُلو َ ما ك ُن ْت ُ ْ
م ت َعْ َ ن َ
جَزوْ َ
ما ت ُ ْ
ومن الحجة أيضا في هذا قول الله تعالى} :إ ِن ّ َ
ة{ ومن لم يبلغ وقت العمل يبرهن بشيء قال تعالى: هين َ ٌ
ت َر ِسب َ ْما ك َ َ
س بِ َ
ف ٍ نَ ْ
ل{ قال شيخنا" :هذا القائل أن أراد بهذا سو ًث َر ُ
حّتى ن َب ْعَ َ ن َمعَذ ِّبي َ ُ
ما كّنا ُ}وَ َ
القول أنهم خلقوا خاليين من المعرفة والنكار من غير أن تكون الفطرة
تقتضي واحدا منهما بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابه اليمان والكفر
وليس هو لحدهما أقبل منه للخر وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلم فهذا
قول فاسد لنه حينئذ ل فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والنكار
والتهويد والتنصير والسلم وإنما ذلك بحسب السباب فكان ينبغي أن يقال
فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه ويمجسانه فلما ذكر أن أبويه يكفرانه وذكر
الملل الفاسدة دون السلم علم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل
عن حكم الكفر وأيضا فإنه على هذا التقدير ل يكون في القلب سلمة ول
عطب ول استقامة ول زيغ إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة وليس هو
بأحدهما بأولى منه بالخر كما أن اللوح قبل الكتابة ل يثبت له حكم مدح ول
ذم فما كان قابل للمدح والذم على السواء لم يستحق مدحا ول ذما والله
تعالى
) (32/34
َ
ت الل ّهِ ال ِّتي فَط ََر الّنا َ
س حِنيفا ً فِط َْر َ
ن َ
دي ِ جهَ َ
ك ِلل ّ ص -300-يقول} :فَأقِ ْ
م وَ ْ
عَل َي َْها{ فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها فكيف ل تكون ممدوحة
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق وشبه
ما طرأ عليها من الكفر بجدع النف والذن ومعلوم أن كمالهما محمود
ونقصهما مذموم فكيف تكون قبل النقص ل محمودة ول مذمومة".
فصل :وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفة من العلماء أن المراد أنهم
ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت مع صحتها لختارت المعرفة على
النكار واليمان على الكفر ولكن بما عرض لها من الفساد خرجت عن هذه
الفطرة فهذا القول قد يقال ل يرد عليه ما يرد على القول الذي قبله فإن
صاحبه يقول في الفطرة قوة تميل بها إلى المعرفة واليمان كما في البدن
363
السليم قوة يحب بها الغذية النافعة وبهذا كانت محمودة وذم من أفسدها
لكن يقال فهذه الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والستعداد والصلحية
هل هي كافية في حصول المعرفة أو تقف المعرفة على أدلة من خارج فإن
كانت المعرفة تقف على أدلة من خارج أمكن أن يوجد تارة ويعدم أخرى ثم
ذلك السبب يمتنع أن يكون موجبا للمعرفة بنفسه بل غايته أن يكون معرفا
ومذكرا فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة كانت واجبة الحصول عند وجود
ذلك السباب وإل فل وحينئذ فل يكون فيها إل قبول المعرفة واليمان وحينئذ
فل فرق فيها بين اليمان والكفر والمعرفة والنكار إنما فيها قوة قابلة لكل
منهما واستعداد له لكن يتوقف على المؤثر الفاعل من خارج وهذا هو القسم
الول الذي أبطلناه وبينا أنه ليس في ذلك مدح للفطرة وأما إن كان فيها قوة
تقتضي المعرفة بنفسها وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة فيها بدون ما
يسمعه من الدلة
) (32/35
سواء قيل أن المعرفة ضرورية فيها أو قيل أنها تحصل بأسباب تنتظم في
النفس وإن لم يسمع كلم مستدل فإن النفس قد يقوم بها من النظر
والستدلل ما يحتاج معه إلى كلم الناس فإن كان كل مولود يولد على هذه
الفطرة لزم ان يكون المقتضى للمعرفة حاصل لكل مولود وهو المطلوب
والمقتضى التام مستلزم مقتضاه فتبين أن أحد المرين لزم إما كون
الفطرة مستلزمة للمعرفة وإما استواء المرين بالنسبة إليها وذلك ينفي
مدحها وتلخيص ذلك أن يقال المعرفة واليمان بالنسبة إليها ممكن بل ريب
فإما أن تكون هي موجبة مستلزمة لذلك وإما أن ل تكون مستلزمة له فل
يكون واجبا لها فإن كان الثاني لم يكن فرق بين الكفر واليمان بالنسبة إليها
أو كلهما ممكن لها فثبت أن المعرفة لزمة لها إل أن يعارضها معارض فإن
قيل ليست موجبة مستلزمة للمعرفة ولكن هيئ إليها الميل مع قبولها للنكرة
قيل فحينئذ إذا لم تستلزم المعرفة وجدت تارة وعدمت تارة وهي وحدها ل
يحصلها فل تحصل إل بشخص آخر كالبوين فيكون السلم والتهويد والتنصير
والتمجيس ومعلوم أن هذه أنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض كالتمجس
فإن لم تكن الفطرة مقتضية للسلم صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد
والتنصير إلى التمجيس فوجب أن يذكر كما ذكر ذلك ويكون هذا كمكمون
الفطرة ل يقضي الرضاع إل بسبب منفصل وليس كذلك بل الطفل يختار
مص اللبن بنفسه فإذا مكن من الثدي وجدت الرضاعة ل محالة فارتضاعه
ضروري إذا لم يوجد معارض وهو مولود
) (32/36
364
ودعائها إلى اليمان ويكون تمجيسها كتحنيفها وقد عرف بطلن هذا وإن كان
فيها مقتض لهذا فإما أن يكون المقتضى مستلزما لمقتضاه عند عدم
المعارض وإما أن يكون متوقفا على شخص خارج عنها فإن كان الول ثبت
ذلك من لوازمها وأنها مفطورة عليه ل يفقد إل إذا فسدت الفطرة وإن قدر
أنه متوقف على شخص فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها
مجوسية وحينئذ فل فرق بين هذا وهذا وإذا قيل هي إلى الحنيفية أميل كان
كما يقال هي إلى غيرها أميل فتبين أن فيها قوة موجبة لحب لله والذل له
وإخلص الدين له وأنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض كما أن فيها
قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه مما يبين هذا أن كل
حركة إرادية فإن الموجب لها قوة في المريد فإذا أمكن في النسان أن يحب
الله ويعبده ويخلص له الدين كان فيه قوة تقتضي ذلك إذ الفعال الرادية ل
يكون سببها إل من نفس الحي المريد الفاعل ول يشترط في إرادته إل مجرد
الشعور بالمراد فما في النفوس من قوة المحبة له إذا شعرت به تقتضي
حبه إذا لم يحصل معارض وهذا موجود في محبة الطعمة والشربة والنكاح
والعلم وغيرها وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والخلص والذل له
والخضوع وأن فيها قوة الشعور به فيلزم قطعا وجود المحبة له والتعظيم
والخضوع بالفعل لوجود المقتضي إذا سلم عن المعارض وتبين أن المعرفة
) (32/37
والمحبة ل يشترط فيهما وجود شخص منفصل وإن كان وجوده قد يذكر
ويحرك كما لو خوطب الجائع أو الظمآن بوصف طعام أو خوطب المغتلم
بوصف النساء فإن هذا مما يذكره ويحركه ويثير شهوته الكامنة بالقوة في
نفسه ل أنه يحدث له نفس تلك الرادة والشهوة بعد أن لم تكن فيه فيجعلها
موجودة بعد أن كانت عدما فكذلك السباب الخارجة عن الفطرة ل يتوقف
عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق ومحبته وتعظيمه والخضوع له
وإن كان ذلك مذكرا ومحركا ومنبها ومزيل للعارض المانع ولذلك سمى الله
سبحانه ما كمل به موجبات الفطرة بذكر أوذكرى وجعل رسوله مذكرا فقال:
ما ي َت َذ َك ُّر َ
ت الذ ّك َْرى{ وقال} :وَ َ فعَ ِ
ن نَ َ مذ َك ٌّر{ وقال} :فَذ َك ّْر إ ِ ْ ت ُ ما أن ْ َ }فَذ َك ّْر إ ِن ّ َ
َ ْ َ ْ ُ ُ ّ
ْ
ك لذِكَرى ن ِفي ذ َل ِ َ ب{ وقال} :إ ِ ّ ما ي َذ ّكُر إ ِل أولو اللَبا ِ ّ ب{ وقال} :وَ َ ن ي ُِني ُ م ْ إ ِّل َ
ر{ وقال: مد ّك ِ ٍ
ن ُم ْ
ل ِ ن ِللذ ّك ْرِ فَهَ ْقْرآ َ سْرَنا ال ْ ُ ب{ وقال} :وَل َ َ
قد ْ ي َ ّ ه قَل ْ ٌ ن لَ ُ كا َ ن َ م ْ لِ َ
ن{ وهذا كثير في القرآن يخبر أن كتابه ّ
م ي َت َذ َكُرو َ ّ َ َ
سان ِك لعَلهُ ْ
سْرَناهُ ب ِل ِ َ ما ي َ ّ }فَإ ِن ّ َ
ورسوله مذكر لهم بما هو مركوز في فطرهم من معرفته ومحبته وتعظيمه
وإجلله والخضوع له والخلص له ومحبة شرعه الذي هو العدل المحض
وإيثاره على ما سواه فالفطر مركوز فيها معرفته ومحبته والخلص له
والقرار بشرعه وإيثاره على غيره فهي تعرف ذلك وتشعر به مجمل ومفصل
بعض التفصيل فجاءت الرسل تذكرها بذلك وتنبهها عليه وتفصله لها وتبينه
وتعرفها السباب المعارضة لموجب الفطرة
) (32/38
365
ص -302-المانعة من اقتفائها أثرها وهكذا شأن الشرائع التي جاءت بها
الرسل فإنها أمر بمعروف ونهي عن منكر وإباحة طيب وتحريم خبيث وأمر
بعدل ونهي عن ظلم وهذا كله مركوز في الفطرة وكمال تفصيله وتبيينه
موقوف على الرسل وهكذا باب التوحيد وإثبات الصفات فإن في الفطرة
القرار بالكمال المطلق الذي ل نقص فيه للخالق سبحانه ولكن معرفة هذا
الكمال على التفصيل مما يتوقف على الرسل وكذلك تنزيهه عن النقائص
والعيوب هو أمر مستقر في فطر الخلئق خلفا لمن قال من المتكلمين أنه
لم يقم دليل عقلي على تنزيهه عن النقائص وإنما علم بالجماع:
قبحا لهاتيك العقول فإنها عقال على أصحابها ووبال
فليس في العقول أبين ول أجلى من معرفتها بكمال خالق هذا العالم وتنزيهه
عن العيوب والنقائص وجاءت الرسل بالتذكرة بهذه المعرفة وتفصيلها وكذلك
في الفطر القرار بسعادة النفوس البشرية وشقاوتها وجزائها بكسبها في
غير هذه الدار وأما تفصيل ذلك الجزاء والسعادة والشقاوة فل تعلم إل
بالرسل وكذلك فيها معرفة العدل ومحبته وإيثاره وأما تفاصيل العدل الذي
هو شرع الرب تعالى فل يعلم إل بالرسل فالرسل تذكر بما في الفطر
وتفصله وتبينه ولهذا كان العقل الصريح موافقا للنقل الصحيح والشرعة
مطابقة للفطرة يتصادقان ول يتعارضان خلفا لمن قال إذا تعارض العقل
والوحي قدمنا العقل على الوحي:
فقبحا لعقل ينقض الوحي حكمه ويشهد حقا أنه هو كاذب
) (32/39
والمقصود أن الله فطر عباده على فطرة فيها القرار به ومحبته والخلص
له والنابة إليه وإجلله وتعظيمه وأن الشخص الخارج عنها ل يحدث فيها ذلك
ويجعلها فيها بعد أن لم يكن وإنما يذكرها بما فيها وينبهها عليه ويحركها له
ويفصله لها ويبينه ويعرفها السباب المقوية والسباب المعارضة له والمانعة
من كماله كما أن الشخص الخارج ل يجعل في الفطرة شهوة اللبن عند
الرضاع والكل والشرب والنكاح وإنما تذكر النفس وتحركها لما هو مركوز
فيها بالقوة.
فصل :ومما يبين ذلك أن القرار بالصانع مع خلو القلب عن محبته والخضوع
له وإخلص الدين له ل يكون نافعا بل القرار به مع العراض عنه وعن محبته
وتعظيمه والخضوع له أعظم استحقاقا للعذاب فل بد أن يكون للفطرة
مقتض للعلم ومقتض للمحبة والمحبة مشروطة بالعلم فإن ما ل يشعر به
النسان ل يحبه والحب للمحبوبات ل يكون بسبب من خارج بل هو جبلي
فطري فإذا كانت المحبة جبلية فطرية فشرطها وهو المعرفة أيضا جبلي
فطري فل بد أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع القرار به وهذا أصل
الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها وفطرته فطرهم عليها فعلم أن الحنفية
من موجبات الفطرة ومقتضياتها والحب لله والخضوع له والخلص هو أصل
أعمال الحنيفية وذلك مستلزم للقرار والمعرفة ولزم اللزم لزم وملزوم
الملزوم ملزوم فالفطرة ملزومة لهذه الحوال وهذه الحوال لزمة لها.
فصل :فقد تبين دللة الكتاب والسنة والثار واتفاق السلف على أن الخلق
مفطورون
366
) (32/40
) (32/41
367
الفطرة الحنيفية هو الذي تقوم الدلة العقلية على صحته وأنه كما أخبر به
الصادق المصدوق ومن خالف ذلك فقد غلط وبيان ذلك من وجوه ،أحدها أن
النسان قد يحصل له من العتقادات والرادات ما يكون حقا وقد يحصل له
منها ما يكون باطل إذ اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقدها وهي الحق
) (32/42
ص -304-والخبر عنها يسمى صدقا وقد تكون غير مطابقة وهي الباطل
والخبر عنها يسمى كذبا والرادات تنقسم إلى ما تكون نافعة له متضمنة
لمصلحته ومرادها هو الخير والحسن وإلى ما هو ضارة له مخالفة لمصلحته
ومرادها هو الشر والقبح وإذا كان النسان تارة يكون معتقدا للحق مريدا
للخير وتارة يكون معتقدا للباطل مريدا للشر فل يخلو إما أن تكون نسبة
نفسه الباطنة إلى النوعين نسبة واحدة بحيث ل يكون فيها مرجحا لحدهما
على الخر أو تكون نفسه مرجحة لحد المرين على الخر فإن كان الول
لزم أن ل يوجد أحد النوعين إل بمرجح منفصل عنه فإذا قدر رجحان أحدهما
ترجح هذا والخر ترجح هذا فإما أن يتكافأ المرجحان أو يترجح أحدهما فإن
تكافأ لزم أن ل يحصل واحد منهما وهو خلف المعلوم بالضرورة فإنا نعلم أنه
إذا عرض على كل أحد أن يعتقد الحق ويصدق وأن يريد ما ينفعه وعرض
عليه أن يعتقد الباطل ويكذب ويريد ما يضره مال بفطرته إلى الولى ونفر
عن الثاني فعلم أن فطرة النسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة الخير
وحينئذ القرار بوجود فاطره وخالقه ومعرفته ومحبته واليمان به وتعظيمه
والخلص له إما أن يكون من النوع الول أو الثاني وكونه من الثاني معلوم
الفساد بالضرورة فتعين أن يكون من الول وحينئذ فيجب أن يكون في
الفطرة ما يقتضي محبته ومعرفته واليمان به والتوسل إليه بمحابه ،الوجه
الثاني أن عبادته وحده بما يحبه إما أن يكون أكمل للناس علما وقصدا أو
الشراك به أكمل والثاني معلوم الفساد بالضرورة فتعين الول وهو أن يكون
في الفطرة مقتضى يقتضي توحيده وتألهه وتعظيمه ،الوجه الثالث أن
الحنيفية التي هي دين الله ول دين له غيرها إما أن تكون مع غيرها من
الديان متماثلين أو الحنيفية أرجح أو تكون مرجوحة والول والثالث باطلن
قطعا فوجب أن يكون في الفطرة مرجح يرجح الحنيفية وامتنع أن يكون
نسبتها ونسبة غيرها من الديان إلى الفطرة سواء ،الوجه
) (32/43
الرابع أنه إذا ثبت أن في الفطرة قوة تقتضي طلب معرفة الحق وإيثاره
على ما سواه وأن ذلك حاصل مركوز فيها من غير تعلم البوين ول غيرهما
بل لو فرض أن النسان تربى وحده ثم عقل وميز لوجد نفسه مائلة إلى ذلك
نافرة عن ضده كما يجد الصبي عند أول تمييزه يعلم أن الحادث ل بد له من
محدث فهو يلتفت إذا ضرب من خلفه لعلمه أن تلك الضربة ل بد لها من
ضارب فإذا شعر به بكى حتى يقتص له منه فيسكن فقد ركز في فطرته
القرار بالصانع وهو التوحيد ومحبة القصاص وهو العدل وإذا ثبت ذلك ثبت أن
نفس الفطرة مقتضية لمعرفته سبحانه ومحبته وإجلله وتعظيمه والخضوع له
368
من غير تعليم ول دعاء إلى ذلك وإن لم يكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل
ذلك بل يحتاج كثير منهم إلى سبب معين للفطرة مقولها وقد بينا أن هذا
السبب ل يحدث في الفطرة ما لم يكن فيها بل يعينها ويذكرها ويقويها فبعث
الله النبيين مبشرين ومنذرين يدعون العباد إلى موجب هذه الفطرة فإذا لم
يحصل مانع يمنع الفطرة عن مقتضاها استجابت لدعوة الرسل ول بد بما
فيها من المقتضى لذلك كمن دعا جائعا أو ظمآن إلى شراب وطعام لذيذ
نافع ل تبعة فيه عليه ول يكلفه ثمنه فإنه ما لم يحصل هناك مانع فإنه يجيبه
ول بد ،الوجه الخامس إنا نعلم بالضرورة أن الطفل حين ولدته ليس له
معرفة بهذا المر ول عنده إرادة له ويعلم أنه كلما حصل فيه قوة العلم
والرادة
) (32/44
) (32/45
369
حصول هذه المعرفة والرادة في العدم المحض محال فل بد من وجود
المحل وحصوله في موجود غير قابل محال بل ل بد من قبول المحل
وحصوله من غير مدد من الفاعل إلى القابل فلو قطع الفاعل إمداده لذلك
المحل القابل لم يوجد ذلك المقبول فل بد من اليجاد والعداد والمداد فإذا
استحال وجود القبول من غير إيجاد المحل استحال وجوده من غير إعداده
وإمداده والخلق العليم سبحانه هو الموجد المعد الممد ،الوجه العاشر أنه
من المعلوم أن النفس ل توجب بنفسها لنفسها حصول العلم والرادة بل ل
بد فيها من قوة يقبل بها ذلك ل تكون هي المعطية لتلك القوة وتلك القوة ل
تتوقف على أخرى واللزام التسلسل الممتنع والدور الممتنع وكلهما ممتنع
فها هنا ثلثة أمور أحدها وجود قوة قابلة الثاني أن تلك القوة ليست هي
المعطية لها الثالث أن تلك القوة ل تتوقف على قوة أخرى فحينئذ لزم أن
يكون فاطرها وبارئها قد فطرها على تلك القوة وأعدها بها لقبول ما خلقت
له وقد علم بالضرورة أن نسبة ذلك إليها وضده ليسا على السواء ،الوجه
الحادي عشر إنا لو فرضنا توقف هذه المعرفة والمحبة على سبب خارج
أليس عند حصول ذلك السبب يوجد في الفطرة ترجيح ذلك ومحبته على
ضده فهذا الترجيح والمحبة والمر مركوز في الفطرة ،الوجه الثاني عشر إنا
لو فرضنا أنه لم يحصل المفسد الخارج ول المصلح الخارج لكانت الفطرة
مقتضية لرادة المصلح وإيثاره على ما سواه وإذا كان المقتضى موجودا
والمانع مفقودا وجب حصول الثر فإنه ل يتخلف إل لعدم مقتضيه أو لوجود
مانعه
) (32/46
370
سواه يوضحه ،الوجه الخامس عشر أنه يستحيل أن تكون الفطرة خالية عن
التأله والمحبة ويستحيل أن يكون فيها تأله غير الله لوجوه منها أن ذلك
خلف الواقع ومنها أن ذلك المخلوق ليس أولى أن يكون إلها لكل الخلق من
المخلوق الخر ومنها أن المشركين لم يتفقوا على إله واحد بل كل طائفة
تعبد ما تستحسنه ومنها أن
) (32/47
ذلك المخلوق إن كان ميتا فالحي أكمل منه فيمتنع أن يكون الناس مفطورين
على عبادة الميت وإن كان حيا فهو أيضا مريد فله إله تألهه وحينئذ فلزم
الدور الممتنع أو التسلسل الممتنع فل بد للخلق كلهم من إله يألهوه ول يأله
هو غيره وهذا برهان قطعي ضروري فإن قلت هذا يستلزم أنه ل بد لكل حي
مخلوق من إله ولكن لم ل يجوز أن يكون مطلوب النفس هو مطلق التأله
والمألوه ل إلها معينا كما تقوله طوائف التحادية ،قلت هذا يتبين بالوجه
السادس عشر وهو أن المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه فالول كإرادة
العطشان والجائع والعاري لنوع الشراب والطعام واللباس فإنه إنما يريد
النوع وحيث أراد المعين فهو القدر المشترك بين أفراده وذلك القدر
المشترك كلي ل وجود له في الخارج فيستحيل أن يراد لذاته إذ المراد لذاته
ل يكون إل معينا ويستحيل أن يوجد في اثنين فإن إرادة كل واحد منهما لذاته
تنافي إرادته لذاته إذ المعنى بإرادته لذاته أنه وحده هو المراد لذاته الخاصة
وهذا يمنع أن يراد معه ثان لذاته وإذا عرف ذلك فلو كان القدر المشترك بين
أفراد النوع أو بين الثنين هو المراد لذاته لزم أن يكون ما يختص به أحدهما
ليس مراد لذاته وكذلك ما يختص به الخر والموجود في الخارج إنما هو
الذات المختصة ل الكلي المشترك )هامش( تعلق الثالثة بالقدر المشترك لم
يكن للخلف في الخارج إله ولكان إلههم أمرا ذهنيا وجوده في الذهان ل في
العيان وهذا هو الذي يألهه طوائف أهل الوحدة والجهمية الذين أنكروا أن
يكون الله تعالى ل خارج العالم ول داخله فإن هذا إنما هو إله مفروض
يفرضه الذهن كما يفرض سائر
) (32/48
371
صاعدة إلى عرشه تطلب فوقه إلها عليا عظيما قد استوى على عرشه
واستولى على خلقه يدبر المر من السماء إلى الرض ثم يعرض إليه في يوم
كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم
والمقصود أنه إذا لم يكن في الحسيات الخارجة عن الذهان ما هو مراد لذاته
لم يكن فيها ما يستحق أن يأله أحد فضل أن يكون فيها ما يجب أن يألهه كل
أحد فتبين أنه ل بد من إله معين هو المحبوب المراد لذاته ومن الممتنع أن
يكون هذا غير فاطر السموات والرض وتبين أنه لو كان في السموات
والرض إله غيره لفسدتا وأن كل مولود يولد على محبته ومعرفته وإجلله
وتعظيمه وهذا دليل مستقل كاف فيما نحن فيه وبالله التوفيق ،تم الكتاب
والحمد الله.
) (32/49
372