Académique Documents
Professionnel Documents
Culture Documents
ت واحد .
الرض و أمي حملتنا في وقت واحد ..و وضعتنا في وق ٍ
هل كانت مصادفة يا ترى أن تكون ولدتي هي الفصلُ الذي تثور فيه الرض على
نفسها ,و ترمي فيه الشجار كل أثوابها القديمة ؟ أم كان مكتوباً عليَ أن أكون
كشهر آذار ,شهر التغيير و التحولت ؟.
كلّ الذي أعرفه أنني يوم ولدتُ ,كانت الطبيعة تنفّذ إنقلبها على الشتاء ..و تطلب
من الحقول و الحشائش و الزهار و العصافير أن تؤيدها في إنقلبها ..على روتين
الرض .
هذا ما كان يجري في داخل التراب ,أما في خارجه فقد كانت حركة المقاومة ضدّ
النتداب الفرنسي تمتد من الرياف السورية إلى المدن و الحياء الشعبية .و كان
ل من معاقل المقاومة ,و كان زعماء هذه حي ( الشاغور ) ,حيث كنا نسكن ,معق ً
الحياء الدمشقية من تجار و مهنيين ,و أصحاب حوانيت ,يمولون الحركة الوطنية
,و يقودونها من حوانيتهم و منازلهم .
أبي ,توفيق القباني ,كان واحدًا من هؤلء الرجال ,و بيتنا واحداً من تلك البيوت.
و يا طالما جلست في باحة الدار الشرقية الفسيحة ,أستمع بشغف طفولي غامر ,إلى
الزعماء السياسيين السوريين يقفون في إيوان منزلنا ,و يخطبون في ألوف الناس ,
مطالبين بمقاومة الحتلل الفرنسي ,و محرضين الشعب على الثورة من أجل
الحريّة .
و لم تكن مخيلتي الصغيرة في تلك العوام من الثلثينيات قادرة على وعي الشياء
بوضوح ،و لكنني حين رأيت عساكر السنغال يدخلون في ساعات الفجر الولى
منزلنا بالبنادق و الحراب و يأخذون أبي معهم في سيارة مصفحة إلى معتقل ( تدمر
) الصحراوي ..عرفت أن أبي كان يمتهن عملً آخر غير صناعة الحلويّات ..كان
يمتهن صناعة الحريّة .
كان أبي إذن يصنع الحلوى و يصنع الثورة .و كنت أعجب بهذه الزدواجية فيه ,
و أدهش كيف يستطيع أن يجمع بين الحلوة و بين الضراوة..
أسرتي و طفولتي :
في التشكيل العائلي ,كنت الولد الثاني بين أربعة صبيان و بنت ,هم المعتز و رشيد
و صباح و هيفاء.
أسرتنا من السر الدمشقية المتوسطة الحال .لم يكن أبي غنياً و لم يجمع ثروة ,كل
مدخول معمل الحلويات الذي كان يملكه ,كان ينفق على إعاشتنا ,و تعليمنا ,و تمويل
حركة المقاومة الشعبية ضدّ الفرنسيين .
و إذا أردت تصنيف أبي أصنفه دون تردد بين الكادحين ,لنه أنفق خمسين عامًا
من عمره ,يستنشق روائح الفحم الحجري ,و يتوسد أكياس السكّر ,و ألواح خشب
السحاحير ..
و كان يعود إلينا من معمله في زقاق (معاوية) كلّ مساء ,تحت المزاريب الشتائية
كأنه سفينة مثقوبة..
و إني لتذّكر وجه أبي المطلي بهباب الفحم ,و ثيابه الملطخة بالبقع و الحروق ,
كلّما قرأت كل َم من يتّهمونني بالبرجوازية و النتماء إلى الطبقة المرفهة ,و
السللت ذات الدم الزرق ..
إن دمي ليس ملكيًا ,و ل شاهانيًا ,و إنما هو دم عادي كدم آلف السر الدمشقية
الطيبة التي كانت تكسب رزقها بالشرف و الستقامة و الخوف من الّ..
وراثياً ,في حديقة السرة شجرة كبيرة ..كبيرة ..إسمها أبو خليل القباني .إنه عمّ
والدتي و شقيق جدّ والدي ..
قليلون من يعرفون أنه ه ّز مملكة ,و هزّ باب ( الباب العالي ) و هزّ مفاصل الدولة
العثمانيّة ,في أواخر القرن التاسع عشر.
أعجوبةٌ كان هذا الرجل .تصوّروا إنساناً أراد أن يحول خانات دمشق التي كانت
تزرب فيها الدواب إلى مسارح ..و يجعل من دمشق المحافظة ,التقيّة ,الورعة ..
(برودواي) ثانية..
خطيرة كانت أفكار أبي خليل ،و أخطر ما فيها أنه نفّذها ..و صُلب من أجلها..
أبو خليل القبّاني كان إنسكلوبيديا بمئة مجلد و مجلد ..يؤلف الروايات ,و يخرجها
,و يكتب السيناريو ,و يضع الحوار ,و يصمم الزياء ,و يغني و يمثل ,و يرقص
,و يلحّن كلم المسرحيات ,و يكتب الشعر بالعربية و الفارسيّة.
و حين كانت دمشق ل تعرف من الفن المسرحيّ غير خيمة ( قره كوز ) و ل
تعرف من البطال ,غير أبي زيد الهللي ,و عنترة ,و الزير ..كان أبو خليل
يترجم لها راسّين عن الفرنسية ..
و في غياب العنصر النسائي ,اضطر الشيخ إلى إلباس الصبية ملبس النساء ,و
إسناد الدوار النسائية إليهم ,تمامًا مثلما فعل شكسبير في العصر الفيكتوري.
و طار صواب دمشق ,و أصيب مشايخها ,و رجال الدين فيها بإنهيار عصبيّ,
فقاموا بكل ما يملكون من وسائل ,و سلّطوا الرعاع عليه ليشتموه في غدوه و
رواحه ,و هجوه بأقذر الشعر ,و لكنه ظل صامداً ,و ظلّت مسرحياته تعرض في
خانات دمشق ,و يقبل عليها الجمهور الباحث عن الفن النظيف.
و حين يئس رجال الدين الدمشقيون من تحطيم أبي خليل ,ألفوا وفداً ذهب إلى
الستانة و قابل الباب العالي ,و أخبره أنّ أبا خليل القباني يشكل خطرًا على مكارم
الخلق ,و الدين ,و الدولة العليّة ,و أنه إذا لم ُي ْغلَق مسرحه ,فسوف تطير دمشق
من يد آل عثمان ..و تسقط الخلفة.
طبعاً خافت الخلفة على نفسها ,و صدر فرمان سلطاني بإغلق أول مسرح طليعي
عرفه الشرق و غادر أبو خليل منزله الدمشقي إلى مصر ,و ودّعته دمشق كما
ل المدن المتجرة موهوبيها ,أي بالحجارة ,و البندورة ,و البيض الفاسد..
تودّع ك ّ
و في مصر ,التي كانت أكثر إنفتاحًا على الفن ,و أكثر فهمًا لطبيعة العمل الفني,
أمضى أبو خليل بقيّة أيام حياته ,و وضع الحجر الول في بناء المسرح الغنائي
المصري.
ي في تاريخ
إن انقضاض الرجعيّة على أبي خليل ,هو أول حادث استشهاد فن ّ
أسرتنا ..و حين أفكر في جراح أبي خليل ,و في الصليب الذي حمله على كتفيه ,و
في ألوف المسامير المغروزة في لحمه ,تبدو جراحي تافهة ..و صليبي صغيراً
صغيراً .
فأنا أيضاً ضربتني دمشق بالحجارة ,و البندورة ,و البيض الفاسد ..حين نشرتُ
عام 1954قصيدتي (خبز و حشيش و قمر) ..
العمائم نفسها التي طالبت بشتق أبي خليل طالبت بشنقي ..و الذقون المحشوّة بغبار
التاريخ التي طلبت رأسه طلبت رأسي ..
( خبز و حشيش و قمر ) كانت أول مواجهة بالسلح البيض بيني و بين
الخرافة..و بين التاريخين..
ل ب ّد من العودة مرةً أخرى إلى الحديث عن دار ( مئذنة الشحم ) لنها المفتاح إلى
شعري ,و المدخل الصحيح إليه.
و بغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة ,و منتزعة من إطارها.
هل تعرفون معنى أن يسكن النسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.
إنني ل أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ ,و لكن ثقوا أنني بهذا التشبيه ل أظلم قارورة
العطر ..و إنما أظلم دارنا .
و الذين سكنوا دمشق ,و تغلغلوا في حاراتها و زواريبها الضيقة ,يعرفون كيف
تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث ل ينتظرون ...
بوّابة صغيرة من الخشب تنفتح ،و يبدأ السراء على الخضر ,و الحمر ,و
الليلكيّ ,و تبدأ سمفونية الضوء و الظّل و الرخام .
شجرة النارنج تحتضن ثمارها ,و الدالية حامل ,و الياسمينة ولدت ألف قمر أبيض
و علقتهم على قضبان النوافذ ..و أسراب السنونو ل تصطاف إل عندنا ..
أسود الرخام حول البركة الوسطى تمل فمها بالماء ..و تنفخه ..و تستمر اللعبة
المائية ليلً و نهاراً ..ل النوافير تتعب ..و ل ماء دمشق ينتهي ..
الورد البلديّ سجّاد أحمر ممدود تحت أقدامك ..و اللّيلكَة تمشط شعرها البنفسجي ,
و الشِمشير ,و الخبّيزة ,و الشاب الظريف ,و المنثور ,و الريحان ,و الضاليا ..و
ألوف النباتات الدمشقية التي أتذكّر ألوانها و ل أتذكر أسمائها ..ل تزال تتسلق على
أصابعي كلّما أرت أن أكتب ..
القطط الشامّية النظيفة الممتلئة صحةً و نضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس
غزلها و رومانتيكيتها بحريّة مطلقة ,و حين تعود بعد هجر الحبيب و معها قطيع
من صغارها ستجد من يستقبلها و يُطعمها و يكفكف دموعها ..
الدراج الرخاميّة تصعد ..و تصعد ..على كيفها ..و الحمائم تهاجر و ترجع على
كيفها ..ل أحد يسألها ماذا تفعل ؟ و السمكُ الحمر يسبح على كيفه ..و ل أحد
يسأله إلى أين؟
كلّ زّر فّل عندها يساوي صبيّا من أولدها ..لذاك كلما غافلناها و سرقنا ولداً من
أولدها ..بكتْ ..و شكتنا إلى ال ..
***
ضمن نطاق هذا الحزام الخضر ..ولدتُ ,و حبوتُ ,و نطقتُ كلماتي الولى .
كان إصطدامي بالجمال قدراً يوميًا ،كنتُ إذا تعثّرت أتعثّر بجناح حمامة ..و إذا
سقطتُ أسقط على حضن وردة ..
هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري و أفقدني شهّية الخروج إلى
الزقاق ..كما يفعل الصبية في كل الحارات ..و من هنا نشأ عندي هذا الحسّ
( البيتوتّي ) الذي رافقني في كلّ مراحل حياتي .
إنني أشعر حتى اليوم بنوع من الكتفاء الذاتي ,يجعل التسّكع على أرصفة الشوارع
ل ترفضه طبيعتي.
,و اصطياد الذباب في المقاهي المكتظة بالرجال ,عم ً
و إذا كان نصف أدباء العالم قد تخرج من أكاديمية المقاهي ,فإنني لم أكن من
متخرّجيها .
لقد كنت أؤمن أن العمل الدبي عمل من أعمال العبادة ,له طقوسه و مراسمه و
طهارته ,و كان من الصعب عليّ أن أفهم كيف يمكن أن يخرج الدب الجادّ من
نرابيش النراجيل ,و طقطقة أحجار النرد ..
***
طفولتي قضيتها تحت (مظلّة الفيْ و الرطوبة) التي هي بيتنا العتيق في ( مئذنة
الشحم ) .
كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي ,كان الصديق ,و الواحة ,و المشتى ,و
المصيف..
أستطيع الن ,أن أغمض عيني و أعد مسامير أبوابه ,و أستعيد آيات القرآن
المحفورة على خشب قاعاته.
أستطيع الن أن أعدّ بلطاته واحد ًة ..واحدة ..و أسماك بركته واحد ًة ..واحدة ..
و سللمه الرخاميّة درج ًة ..درجة ..
أستطيع أن أغمض عيني ,و أستعيد ,بعد ثلثيين سنة مجلسَ أبي في صحن الدار,
و أمامه فنجان قهوته ,و منقله ,و علبة تبغه ,و جريدته ..و على صفحات
الجريدة تتساقط كلّ خمس دقائق زهرة ياسمين بيضاء ..كأنها رسالة حبّ قادمة من
السماء..
على السجادة الفارسيّة الممدودة على بلط الدار ذاكرتُ دروسي ,و كتبتُ فروضي
,و حفظتُ قصائد عمر بن كلثوم ,و زهير ,و النابغة الذبياني ,و طرفة بن العبد ..
هذا البيت -المظّلة ترك بصماته واضحة على شعري .تماماً كما تركت غرناطة و
قرطبة و إشبيليا بصماتها على الشعر الندلسي.
القصيدة العربية عندما وصلت إلى إسبانيا كانت مغطّاة بقشرة كثيفة من الغبار
الصحراوي ..و حين دخلتْ منطقة الماء و البرودة في جبال ( سييرا نيفادا ) و
شواطئ نهر الوادي الكبير ..و تغلغلت في بساتين الزيتون و كروم العنب في سهول
قرطبة ,خلعت ملبسها و ألقت نفسها في الماء ..و من هذا الصطدام التاريخي بين
الظمأ و الريّ ُ ..ولِدَ الشعر الندلسيّ ..
و كما حدث للقصيدة العربية في إسبانيا حدث لي ,امتلت طفولتي رطوبة ,و
امتلت دفاتري رطوبة ,و امتلت أبجديتي رطوبة..
هذه اللغة الشاميّة التي تتغلغل في مفاصل كلماتي ,تعلّمتها في البيت – المظّلة الذي
حدثتكم عنه..
و لقد سافرت كثيراً بعد ذلك ,و ابتعدت عن دمشق موظفاً في السلك الديبلوماسي
نحو عشرين عاماً و تعلمت لغاتً كثيرة أخرى ,إلّ أن أبجديتي الدمشقية ظلت
متمسكة بأصابعي و حنجرتي ,و ثيابي .و ظللتُ ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته
كلّ ما في أحواض دمشق ,من نعناعٍ ,و فلّ ,و ورد بلدي..
إلى كل فنادق العالم التي دخلتُها..حملتُ معي دمشق ,و نمت معها على سريرٍ واحد.
* من موقع نزار قباني نزار قباني ...سيرةٌ ذاتيةٌ
مرّ بالشعر العربي كثيرون ,وكثيرون منهم عباقرة و"فطاحل" في عالم الشعر
غير أنّ واحداً فقط ,أثار من الضجيج والحب والكراهية والعجاب والرفض ,ما لم
يُثره الخرون .
حيث توفي في الثلثين من أبريل ( نيسان ) في عام ، 1998وترك لنا 35ديواناً
وكتاباً ,من أجمل ما كتب في الشعر العربي ,وشجون النسان العربي
عرف نزار قباني في شرق الوطن العربي وفي غربه ,وقرأ له رجال ونساء ,
وأعجب به صغار وكبار ,وصارت دواوينه مثل روايات إحسان عبد القدوس ,مما
يزرع في المخدة أو يهجع في السرير .
**المدلل**
ولد نزار قباني سنة ,1923في" مئذنة الشحم" في دمشق ,ليعيش طفولته مدللً بين
اخوته ,في منزله الدمشقي الصيل ,وهو من البيوت الشامية القديمة ,ويتكون من
طابقين ,أحدهما باحة مكشوفة مصنوعة من الرخام والعمدة الرخامية ,التي يتسلقها
الياسمين البيض والورد الحمر وفيها شجر الليمون ,وفي منتصف الباحة نافورة
مياه .
نشأ نزار في هذا الجو الرومانسي الجميل ,تربطه بأمه علقة حميمة .فقد ظلت
ترضعه من صدرها حتى بلغ السابعة من عمره ,وتطعمه الطعام بيدها حتى بلغ
الثالثة عشرة من عمره ,حتى قالوا عنه انه يعاني من عقدة "اوديب" عاشق أمه,
حتى أن بعض العلماء النفسيين أخذ يطبق علم النفس على شعر نزار ,ويرى أن سر
استعماله كلمة "نهد" هو طول فترة رضاعته ،وعندما كان في الثالثة عشرة من
عمره كان ضيوف أبيه يسألون" :ما هي اهتمامات نزار؟" فيجيبهم والده بكل بساطة
":ابني يريد أن يكون شاعرا" فيتغير لون سائليه ,و يتصبب العرق البارد من
جباههم ويلتفتون إلى بعضهم قائلين" :ل حول ول قوة إل بال..قل لن يصيبنا إل ما
كتب ال لنا " .
لكن نزار لم يبدأ حياته شاعرا بل بدأ بأشياء فنية أخرى مثل الرسم ,وكان مولعاً
باللوان ويصبغ الجدران بها .وأدرك أن لن يكون رساماً عبقرياً ,فقرر أن يجرب
الموسيقى والتلحين ,فأحضر عوداً وطلب من أمه أن تأتي له بأستاذ يعلمه العود
والموسيقى وبدأ يتلقى دروسه الموسيقية لكن الستاذ بدأ معه بطريقة غير موفقة ,
فقد بدأ يعلمه النوتة الموسيقية ,وهي علم مثل الرياضيات ,حسب قوله ,وهو يكره
الرياضيات
**ميلده الشعري**
كان عمره 16عامًا ,عندما سافر سنة 1939في رحلة بحرية إلى روما مع المدرسة.
وأثناء وقوفه على سطح السفينة ,شاهد المواج والدرافيل ,وهي تقفز حول الباخرة
فجأة أول بيت شعري ثم الثاني والثالث و الرابع ,وهكذا
فنزل سريعًا وكتب البيات كي ل ينساها ول تضيع ,واضعا إياها طيّ الكتمان حتى
ليسخر أصحابه ونام تلك الليلة ,ولول مرة في حياته ,يوم 15أغسطس شاعراً
للمرة الولى واستيقظ وهو شاعر أيضًا .
التحق نزار بكلية الحقوق لدراسة القانون ولم يمارس قضية الدفاع في حياته إل عن
قضية واحدة ,وهي قضية المرأة .
عندما كبر نزار قباني وصار شاباً ,لم ينفصل عنه الطفل ,بل كبر معه بكل
سلوكياته الصاخبة وأنانيته .وعندما فشل في أن يكون رسامًا أو موسيقيًا ,قرر أن
يكون شاعراً ,وهو يعرف تمامًا أن التفرد لن يكون إل بالختلف ,وهي موهبة ل
يجيدها كثيرون ،ومنذ ديوانه الول "قالت لي السمراء" الذي أصدره نزار قباني,
الطالب في كلية الحقوق ,وعلى نفقته الخاصة ,أثار هذا الصوت المختلف جدلً عنيفاً
,وصفه نزار في ما بعد فقال "لقد هاجموني بشراسة وحش مطعون ,وكان لحمي
يومئذ طرياً "
ويسهل أن نتصور رد الناس على شاعر لم يبلغ العشرين من عمره يتوجه لهم
بقصيدة عنوانها "خبز وحشيش وقمر" ,ينتقد بها سلوكياتهم .فقد هلل أناس
للقصيدة ,بينما طالب آخرون برأس من قالها ,ويبدو أن الضجة أثارت شهية الطفل
الشاب نزار ووجدها أول سطر في كتابه السطوري .
**العمل الدبلوماسي**
تخرج نزار سنة 1945من كلية الحقوق في جامعة دمشق ,ثم التحق بوزارة
الخارجية السورية ,وانتقل في العام ذاته إلى القاهرة موظفاً دبلوماسيًا في السفارة
السورية .وكان عمره آنذاك 22عاماً ,وكانت القاهرة في ذروة نضجها الثقافي
والصحافي و الذاعي ,وكان نزار يحمل في جعبته ديوان شعر جديد اسمه خارج
عن المألوف في عالم الكتاب وهو " طفولة نهد " وكانت صياغته الشعرية غير
مألوفة أيضا في ذلك الزمان .
قدم نزار الديوان لثلثة من نجوم الفكر والصحافة والنقد ,هم :توفيق الحكيم ,وكامل
الشناوي ,وأنور المعداوي ,الذي تحمس للشاعر الشاب ,فكتب مقالً نقدياً عن
الديوان وحمله إلى أحمد حسن الزيات ,صاحب مجلة "الرسالة" المصرية .ولما
كانت "الرسالة" مجلة محافظة ,نشر الزيات نقد المعداوي ,لكن بعد أن غير عنوان
الديوان من "طفولة نهد" الى "طفولة نهر" ,فقال نزار تعليقاً على هذا " :وبذلك
أرضى ( حسن الزيات ) صديقه الناقد أنور المعداوي وأرضى قراء الرسالة
المحافظين ,الذين تخيفهم كلمة النهد وتزلزل وقارهم ,ولكنه ذبح اسم كتابي الجميل
من الوريد إلى الوريد " .
وهكذا شهدت القاهرة ميلد شاعر انطلق في بيئة تحفل بطه حسين ,وعباس محمود
العقاد ,وعبد القادر المازني ,وعبد العزيز البشري ,وأحمد أمين ,وبشر فارس,
ودريني خشبة ,وأحمد حسن الزيات ,ومصطفى صادق الرافعي ,ومحمود حسن
اسماعيل ,وبيرم التونسي ,وابراهيم ناجي ,ونجيب محفوظ ,ويحيى حقي ,وعزيز
أباظة .
وهكذا تعود على مصر وتعودت مصر عليه وصارت تعتبره واحداً من شعرائها أو
من أولدها .لكن حياة الدبلوماسيين ل تستقر بهم ,فانتقل نزار إلى العمل في عدة
عواصم بعد القاهرة ,منها :أنقرة ولندن ومدريد وبكين وبيروت .
وظل نزار يعمل في الخارجية السورية أكثر من 20عامًا ,حتى استقال منها عام
,1966وأسس دارا للنشر باسمه في بيروت ,متفرغا بذلك لقراره الوحيد ,وهو
الشعر .
**زواج وطلق**
تزوج نزار بعد سنوات من انتسابه الى السلك الدبلوماسي السوري ,بقريبة له هي
"زهراء أقبيق" ,أم ابنه توفيق وابنته هدباء .وقد جاء زواجه بها في مرحلة البدء
في إقلعه نحو عالم الكفاح الصعب بسيف الشعر ونحو آفاق الشهرة .وكانت زهراء
"سيدة بيت" ,نمت وترعرعت في بيئة اجتماعية محافظة شامية تقليدية ,وكانت
اتصالت ورسائل "المعجبات" قد بدأت تنهمر على نزار انهمار المطر ,من شتى
أرجاء الوطن العربي ,وكان نزار وسميًا أنيقاً رشيقاً قوياً رقيقاً في آن ,ولم تكن لدى
زهراء قدرة تعينها على تحمل أن يكون زوجها لها ولغيرها ,فكانت تسارع إلى
تمزيق رسائل المعجبات به وبشعره ,ولم يكن ثمة مفر من تصادم الماضي
بالمستقبل التي الكثر تطوراً وجمالً ,فطلقها نزار بالحسنى و في عقد الخمسينات
ارتبط نزار بعلقة ,بحفيدة رئيس الوزراء السوري السبق "فارس الخوري",
كوليت خوري ,ابنه سهيل خوري ,النائب السبق في المجلس النيابي السوري .وبعد
زواجها بشاب اسباني فارع الطول ووسيم الملمح ,أنجبت منه طفلتها الوحيدة,
سجلت كوليت تفاصيل علقة الحب العاصف التي جمعتها بنزار .وفي روايتها
الولى الشهيرة "أيام معه" ,وهي الرواية التي اشتراها المنتج السينمائي السوري
صبحي فرحات لنتاجها للسينما ,كان نزار هو بطل الرواية .
التقى نزار "بلقيس" للمرة الولى ,ولم يكن يعلم أن عقله وقلبه سيتعلقان بها إلى هذا
الحد المجنون ,الذي دفعه رغم الرفض المتواصل ,إلى الستمرار في التقدم لخطبتها
حتى نال ما كان يحلم به ,التقاها في حفل استقبال بسيط في إحدى السفارات العربية
في بيروت ,وكان خارجًا لتوه من أزمة وفاة زوجته الولى"زهراء" الدمشقية,
وولده " توفيق " الذي توفي اثر عملية جراحية للقلب في لندن ,وهو ل يزال في
الثانية والعشرين من عمره .وكانت ابنته الوحيدة "هدباء" قد تزوجت وانتقلت لتعيش
مع زوجها في إحدى دول الخليج العربي .كان نزار وحيداً تماما وكانت بلقيس قبيلة
من النساء ,هيفاء فرعاء يكاد شعرها يلمس الرض في استرسال لم تر عين نزار
مثله .هكذا رآها ,عفية وهدارة بشكل جعله يعود إلى كتابة الشعر مرة أخرى بعد
توقف دام ثلث سنوات ,لم يكن يعرف له نزار مبرراً .ويقول " :لكنها بلقيس,
أعادت الحبر للقلم مثلما أعادت الدماء للعروق " .
تقدم نزار لخطبة بلقيس لول مرة عام ,1962لكن عائلتها رفضت لما كانت تسمع
عن نزار من أنه شاعر النساء والغزل والحب ,ولم تأمن على ابنتها أن تعيش مع
رجل كل كلمه عن النساء .وظل نزار يلحقها بإصرار شديد مدة سبع سنين,
رفضت خللها أشخاصاً عديدين لنها تحب نزار على الرغم من أنه يكبرها كثيرا,
فهي لم تتجاوز 23عاما ,وهو في سن الربعين وعاود الكرة عام ,1969وكانت
الموافقة وتزوجا ليعيشا معاً في بيروت ,ورزقا بطفلين :زينب وعمر .ونعم نزار
ب عميق ل تشوبه شائبة ول تعكر صفوه اليام ,حتى جاء اليوم المشؤوم معها بح ٍ
الذي فقد فيه نزار كل شيء ،فقد قتلت بلقيس عام 1981في حادث انفجار دمّر
السفارة العراقية في بيروت ,وصمت نزار ليصيح وقد جن جنونه" :سأقول في
التحقيق ..أني قد عرفت القاتلين..
بلقيس..يافرسي الجميلة..إنني من كل تاريخي خجول
هذي بلد يقتلون بها الخيول..
سأقول في التحقيق:
كيف أميرتي اغتصبت..
وكيف تقاسموا الشعر الذي يجري كأنهار الذهب
سأقول كيف استنزفوا دمها..
وكيف استملكوا فمها..فما تركوا به ورداً
ول تركوا به عنبا..
هل موت بلقيس..هو النصر الوحيد في تاريخ كل العرب ؟"
وبكى نزار بمرارة زوجة سقته من حنانها 12عاما ,نعم فيها بالراحة والسكينة,
وصار يجمع ولديه ,زينب وعمر ,ويغلق بابه منذ الغروب ,بعيدا عن الناس ,عله
يسبح بخياله فيقابل طيف بلقيس .
**الموت والولدة**
لماذا هو الشاعر الوحيد الذي عندما تقرأ كلماته أي امرأة تشعر بأنها هي التي
تتكلم؟ ولماذا يحمل نزار لقب"نصير المرأة"؟ لماذا عاش ومات يدافع عن النساء؟
هو نفسه ل يدري ,ويتساءل ":هل كان موت أختي في سبيل الحب ,أهم العوامل
النفسية التي جعلتني أتجه إلى الكتابة عنها وعن مشاعرها واحساسها؟ هل كان ذلك
تعويضا لما حرمت منه أختي؟ "
وعلى جسد المرأة ,صعد نزار قباني رقيقاً ,مثل الفراشة الهامسة:
**نحو الوطن**
حدثت منذ سنة 1967انعطافة جذرية في شعر نزار ,وتحول من شاعر المشاعر
النسائية والجسد النثوي إلى شاعر سياسي ,فقال في نكسة يونيو (حزيران) 1967
,قصيدة ذائعة الصيت "هوامش على دفتر النكسة" ,لكن الشاعر الكبير صالح
جودت ,شن عليه هجوماً بالغ العنف .لم يقتصر على الوقوف ضد قصيدة نزار ,بل
طالب بمنع بث أعماله في مصر .ويقال أن سبب تلك الحملة هو نجاح نزار المتميز
في مصر ,في مجال الغناء بعد ظهور أغانيه المشهورة مثل "أيظن" و"ماذا أقول له
" ونجحت الحملة وصدر قرار بمنع أغاني نزار وأشعاره من خلل التلفزيون
المصري ,بل ومنع اسمه نهائيًا ,وصدر في الكتمان قرار بمنعه من دخول مصر .
وكانت تلك القرارت بالنسبة إليه أشبه بإصدار حكم العدام
لكن نزار بادر وأرسل إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر رسالة ,هذا جزء منها
:
" سيادة الرئيس ,في هذه اليام التي أصبحت أعصابنا فيها رماداً وطوقتنا الحزان
من كل مكان ,يكتب اليك شاعر عربي ,يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية
في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم ل مثيل له في تاريخ الظلم .وتفاصيل
القصة أنني نشرت في أعقاب النكسة قصيدة عنوانها "هوامش على دفتر النكسة",
أودعتها خلصة ألمي وتمزقي ,وكشفتً فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي
العربية ,لقتناعي بأن ما انتهينا إليه ل يعالج بالتواري والهروب ,وإنما بالمواجهة
الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا .وإذا كانت صرختي حادة وجارحة ,وأنا أعترف سلفاً بأنها
كذلك ,فلن الصرخة تكون في حجم الطعنة ,ولن النزيف بمساحة الجرح .ومن منا
يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5حزيران؟ من منا لم يخدش السماء بأظافره؟ من
منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الرض؟ إن قصيدتي كانت محاولة لتقييم أنفسنا
كما نحن " ..
وختم رسالته بقوله" :يا سيادة الرئيس ,ل أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف
على نزيفه ,والمجروح على جراحه ويسمح باضطهاد شاعر عربي يريد أن يكون
شريفاً وشجاعاً ,في ظل مواجهة نفسه وأمته ,فدفع ثمن صدقه وشجاعته
ياسيادة الرئيس ,ل أصدق أن يحدث هذا في عصرك! "
وكان تاريخ الرسالة 30تشرين الول (اكتوبر) سنة ,1967ونجحت هذه الرسالة في
إنقاذ نزار قباني من "العلم" بعد أن أوصلها الكاتب أحمد بهاء الدين إلى الرئيس
عبد الناصر .وعادت أغانيه تردد في الذاعة والتلفزيون ,وعن هذا يقول نزار":
كسرت الحاجز بين السلطة والدب " .
وهكذا طاف نزار بأشرعة الشعر بحار الحب وعوالم الحرية ,وخاض بقلمه غمار
السياسة ,يدافع عن عروبته ,واضعا أمته أمام نفسها بل تزييف أو تضليل ,ل لنه
يكرههم فينتقص منهم ويقلل من قدرهم ,بل لنه يحب العروبة والعرب ول يريد لهم
النغماس في بحر عدو لدود شمر عن ذراعيه وجمع عتاده وسلحه وتربص به
ريب المنون .
ولم يبتعد نزار عن قضايا وطنه ,حتى عندما استقر به المقام بعيداً في مدينة
الضباب ,لندن ,حيث كان قلبه في اتجاه عروبته دائماً.
وقبل الرحيل بعشر سنوات ,عاود نزار الحنين إلى المنزل الذي ولد فيه ,وإلى
شجرة الياسمين التي علمته حب الجمال .وشد الرحال الى دمشق ,حيث زار المنزل
العائلي ,الذي نشأ فيه ,وكأنه أراد أن يودع ملعب الطفولة .
وآن للغريب أن يعود الى حضن الرض التي أنجبته .بعد أن أسلم نزار الروح في
30ابريل عام ,1998عاد الى دمشق جثماناً محمولً بالطائرة ,إلى رحم التي علمته
الشعر والبداع وأهدته أبجدية الياسمين .فقد أوصى نزار قائل " :أدفن في دمشق,
الرحم التي عملتني الشعر والبداع ,وأهدتني أبجدية الياسمين " .
لملمت من كل بساتين العالم ورداً وقرنفلً وأشياء غريبة وجميلة وطوقتها بالياسمين
الدمشقي وحملتها بين أضلعي وقصدت نزار قباني أدق أبواب العشاق أسأل عنه ..
أدق نوافذ المحبين اسأل عنه أدق جفون الساهرين أسأل عنه...
أتسلق أحلمي وأصعد إلى النجوم اسأل عنه ...وكان دائمًا معي عند كل باب طرقته
ونافذة سألتها ...كان معي كلما نظرت إلى السماء فقلت :
.........
....
**مدرستي الولى هي الكلية العلمية الوطنية في دمشق دخلت إليها في السابعة من
عمري وخرجت في الثامنة عشر أحمل شهادة البكالوريا الدبي (القسم الدبي)
ومنها انتقلت إلى مدرسة التجهيز حيث حصلت على شهادة البكالوريا الثانية (قسم
الفلسفة) وحصلت عام 1945من الجامعة السورية في دمشق على الليسانس في
الحقوق لم أقبل على دراسة القانون مختاراً وإنما درسته لنه مفتاح عملي إلى
المستقبل وأتقن اللغة الفرنسية التي تعلمتها أثناء دراستي في الكلية العلمية الوطنية
واللغة النكليزية أثناء عملي في السفارة السورية في لندن ( )1955-1952واللغة
السبانية أثناء عملي الدبلوماسي في مدريد (.)1966-1962
ولم أمارس المحاماة ولم أترافع في قضية قانونية واحدة القضية الوحيدة التي
ترافعت عنها ولتزال هي قضية الجمال ...والبريء الوحيد الذي دافعت عنه هو
الشعر...
................
**في عام 1969جئت إلى بغداد للقي قصيدة ,وبعد قراءة قصيدتي التقيت بقصيدة
ثانية اسمها بلقيس ..وتزوجتها ..وأقمنا .أول مؤسسة وحدوية بين قلبين وبين
وطنين ..مؤسستنا الصغيرة كانت رائدة وطليعية وشجاعة 0
وكنا – بلقيس وأنا -نطمح إلى إن نكون مثالً ونموذجًا لوحدات أخرى قادمة تجعل
سماء الوطن أكثر اتساعاً ونجومه أكثر عدداً وبحاره أكثر زرقة وأطفاله يتكاثرون
بالمليين كما تتكاثر شقائق النعمان في أول الربيع بين الرطبة وأبي الشامات.
** في العاشر من شهر آب /1973/مات ابني توفيق في لندن توقف قلبه عن العمل
كما يتوقف قلب طائر النورس عن الضرب ,عمره اثنتان وعشرون سنة ..وشعره
كلون حقول القمح في تموز ,كان توفيق أميراً دمشقيًا جميلً...
كان طويلً كزرافة ,وشفافًا كالدمعة ,وعالي الرأس كصواري المراكب.
قبل أن يموت توفيق بأيام قال لخته هدباء التي سافرت معنا إلى لندن :أتعرفين
ياهدباء ماذا يخطر ببالي أن افعل ؟ إنني سآتي بسيارتي من القاهرة وأبيعها في لندن
وأعيش الحياة طولً وعرضاً.
وعندما قالت له هدباء :وإذا انتهت فلوس السيارة فماذا ستفعل ؟ أجابها على الفور :
ل تخافي سأموت أنا والسيارة معاً...
وذات يوم كنت أتمشى مع توفيق في اكسفورد ستريت ورأينا في إحدى الواجهات
قميصاً أزرق من النوع الذي يعجبه فقلت له :ما رأيك أن نشتريه ؟ قال ولماذا
الستعجال ؟ أن القميص سيبقى ...ولكن هل سأبقى أنا؟
إن رحيل توفيق المفاجئ ,أكد لي حقيقة لم أكن أعرفها وهي أن الصغار أشجع منا
وأكثر منا قدرة على فهم طبيعة هذه الرحلة التي يسمونها الموت ...
أما أمي فكانت ينبوع عاطفة يعطي بغير حساب كانت تعتبرني ولدها المفضل
وتخصني دون سائر اخوتي بالطيبات وتلبى مطالبي الطفولية بل شكوى ولتزمر .
بيت أمي كان معقلً للحركة الوطنية عام 1935وفي باحة دارنا الفسيحة كان يلتقي
قادة الحركة السياسية السورية بالجماهير ومنها كانت تنطلق المسيرات والتظاهرات
ضد النتداب الفرنسي .
يعرفونها في دمشق باسم ( أم المعتز ) اسمها فائزة ..جاءني هاتف من دمشق يقول
لي :أمك ماتت ..لم استوعب الكلمات في البداية ..لم استوعب كيف يموت السمك
كله ...في وقت واحد ...
..منذ أيام النبي العربي ..والشام تتكلم عربي ومنذ أيام معاوية ،وهشام ومروان ..
حتى أيام حافظ السد ومنذ موقعة بدر ..حتى موقعة جبل الشيخ ..والشام مواظبة
على تكلم اللغة العربية وعلى تعليمها ،إن صناعة دمشق الساسية هي العروبة .
وحين نسأل نزار قباني عن سورية ومواقفها القومية يختصر كل تاريخ سورية قائل
ً:
ترى هل تجول شاعرنا في شوارع دمشق أثناء حرب تشرين وشاهد القصف
السرائيلي لشوارع دمشق وخاصة شارع ( ابو رمانة ) :
.وبعد تشرين التحرير تحاول آلة العدوان والدمار الستمرار في العتداء على
ارض سورية فيقف الجندي السوري شامخا مدافعا عن بوابة العروبة عن دمشق
الشام وتروي دماء جنودنا البواسل ارض الوطن فيقول نزار :
ولملمت أوراقي ثانية ..وجمعت الورد والقرنفل والياسمين ونثرتها في الفق البعيد
بين النجوم وكلمات نزار ..فكانت الوردة تنبت وردة ,والقرنفل ينبت قرنفل,
والياسمين الدمشقي يملئ السماء ,والغيوم تمطر كلمات نزار قباني على تراب
الوطن.
* هذا اللقاء لم يحدث مع الشاعر الكبير نزار قباني وإنما الذي حدث أنني غصت
في أعماق ما كتب نزار قباني لجد السؤال والجواب فكان هذا اللقاء الذي حدث ...
كانت جدتي تدلـله باسم " نزوري " حين كان طفل ضائعا بين أحواض الورد
والخبيزة وبين عريشة الياسمين وأشجار الليمون والسفرجل ونافورة المياه الزرقاء
في بيت أبويه بدمشق القديمة ،وهائما مع أسراب الحمام والسنونو وقطط البيت.
وعندما بلغ سن العاشرة ،لم يترك " نزار " صنعة فن لم يجربها :من الرسم
إلى الخط العربي ،إلى الموسيقى ،إلى أن رسا قاربه -وهو في السادسة عشرة -
على شاطئ الشعر.
قبل أن يكون أبي كان صديقي ،ومنه تعلمت أن أحكي بينما هو يستمع ،رغم ندرة
استماع الرجل إلى المرأة في مجتمعنا .زان أبي مراهقتي وشبابي بشعره ،لكنه -في
المقابل وبصفاء نية -أفسد حياتي بشعره وبتعامله معي؛ فقد جعلني أقارن بينه وبين
الرجال الذين ألقاهم ،وأتت المقارنة دائما لصالح أبي ،ورأيت أغلب الرجال طغاة.
كان جاري في لندن ،لكنه لم يزرني قط دون موعد مسبق .وفي نادرة ،دق بابي
دون موعد ،وعندما وجد لدي صديقات اعتذر ،واستدار عائدا مؤجل زيارته لمرة
أخرى ،ولم يسبقه سوى صراخ الصديقات بأن يبقى.
قد يكون أهم ما أذكره عن أبي ،هو ذلك التشابه المذهل بينه وبين شعره ؛ فهو ل
يلعب دورا على ورق الكتابة ،ودورا آخر على مسرح الحياة .ول يضع ملبس
العاشق حين يكتب قصائده ،ثم يخلعها عند عودته إلى البيت.
أنقل عن " أدونيس " فقرة مما قاله عن نزار قباني :
" كان منذ بداياته الكثر براعة بين معاصريه من الشعراء العرب ،في المساك
باللحظة -التي تمسك بهموم الناس وشواغلهم الضاغطة :من أكثرها بساطة،
وبخاصة تلك المكبوتة والمهمشة ،إلى أكثرها إيغالً في الحلم وفي الحق بحياة
أفضل .وفي هذا تأسست نواة العجاب به ،ذلك العجاب التلقائي الذي تجمع عليه
الطراف كلها" .
ابتكر نزار قباني تقنية لغوية وكتابية خاصة ،تحتضن مفردات الحياة اليومية
بتنوعها ،ونضارتها ،وتشيع فيها النسم الشعري ،صانعا منها قاموسا يتصالح فيه
الفصيح والدارج ،القديم والحديث ،الشفوي والكتابي "
وبعد ،كم أشعر بالفخر لن أبي هو نزار قباني ،الشاعر الذي نقل الحب من القبية
السرية إلى الهواء الطلق.
عرف القرن العشرون ظهور عدة تيارات شعرية ،حيث كان فاتحة زمان مختلف
عن القرون التي سبقته للقصيدة العربية ،وديوانا إبداعيا مغايرا للسائد والمألوف
بحيث وجد شعراء من كل صنف ولون ومن كل موضوع شيق يتفق وروح المتلقي
والقاريء الذي ما فتيء يجعل الشعر الجيد في صفحة حياته وتواصله مع الخرين .
رغم أن العصر الذي كان يعيش فيه الشاعر " نزار قباني " هو عصر النهيارات
والتدهور والصراعات المتتالية على الصعيد العالمي ،كان ل بد منه أن يحيد عن
ذاك الجانب وأن يميل قدر ما يستطيع عن ما يعانيه الناس جراء المعاناة اليومية .
فأتاح لموهبته الثقافية والشعرية خاصة ،تجليات ظهورها وتفوقها في العديد من
قصائد الحب والغزل ،ورسم المثل العلى للعاشق الموهوب خلقيا بهذه الصفة .
إن تجربة " نزار قباني " الشعرية المتخمة بقصائد السقوط والصعود ،بقصائد
انهيار الحلم الطبيعي ،وبناء الذات العاشقة بقصائد الفشل على سرير المرض
والعجز والشيخوخة ،ونجاح التجربة العاطفية الكبرى والتغني بها ،كل هذا جعل
الشاعر المهموم بواجباته ومسؤولياته وهموم وطنه ورغبات عشاقه وقرائه في
صف الصاعدين إلى القمم الشعرية في عصور ازدهار الشعر العربي .بل رأى
الكثير ممن عاصروه أنه الباب الواسع الوحيد الذي ولج منه العديد من الشعراء
والعديد من التجارب الشعرية التي سارت على النهج الذي رسمه وقننه .حيث كان
وبقي إلى الن التجاه الوجداني والرومانسي الوحيد في الشعر العربي الحديث .
شعر " نزار قباني " هو شعر المواجهة مع الذات الخرى التي يخاطبها ،يحاول
النفاذ إلى قاع وقعر الشياء المخاطبة .يرصد كل التغيرات والتحولت الطارئة
عليها .يدين كل ما هو سلبي ويبارك كل ما هو إيجابي ويتفق مع روحه الثائرة .
فاللغة التي يتوسلها في قصائده لغة تقطر نصحا وتوهجا وعمقا شديدا ،لغة تقف
على حدود الخطر ،وتغترف منه ما يؤيدها على إلقاء آخر عزيمة وقوة يحتويها .
الكلم عن التجربة الشعرية أو لنقل -ولنكون عادلين -التفوق الشعري عند " نزار
قباني " يعني الولوج معه إلى قائمة غير محدودة من الحتمالت والتغيرات .حيث
أنه يرحل بنا في دواوينه إلى عالم آخر يختلف عن عالم الخرين ،عالم يتجلى على
غيمة الفرح والسرور والرتياح .عالم ساحر منمق يخلو إلى ذاته فيفجر نفسه على
أجساد رقيقة وممشوقة .
المشروع الفكري الذي أنجزه " نزار قباني " في شعره والذي توجه به إلى كل
امرأة توجد في هذا الكون ،مشروع لم يختبر بعد في الواقع العربي المزمن .حيث
تناول بكثير من الناة والعمق ما يراه عصبا حقيقيا للمجتمع العربي .حاول كشف
الزيف الذي يعرفه المجتمع من منبره الخاص ،بلغة سلسة يبللها ماء الحياة بلغة
تحرك نهر النوثة في كل اتجاه .لغة تؤسس كوكبا للعشق والحب والشمس
مهووسة بالنثر والشعر والحب واللون والغزل الجميل .
لقد كان شعر نزار مختلف سعى به إلى اقتحام عالم الفكر ،وصياغة ثقافته الشعرية
المتأثرة بالعاطفية والرومانسية ،المتجذرة في شعر الجاهلية وتقنيات شاعر
مخضرم مثل " عمر بن أبي ربيعة " .ومن يدرك سر غوصه وإبحاره في فضاء
الفكر مؤسساً لنوع جديد من الفكر الشعري بمثابة قناع ثقافي حاول الحفاظ فيه على
الدللة اللغوية والشعرية التي تشكلها ومن هذا المنظور الخير تكتسب دللة العاطفة
والرومانسية بعدا حقيقيا في دواوين الشاعر .بعداً يثير معنى سياسياً واجتماعياً
داخل مجتمع الشاعر بما يشبه التقديم الدرامي للبطل في مسرحية أسطورية ،إن
هذه الكتابة النابعة من أغواره وأعماقه تستدعي قراءة عاشقة وعاطفية لروح النص
الشعري المتعدد المواضيع والجوانب الفكرية .وتستدعي معرفة نتيجة اختيار
الشاعر لهذا اللون الفكري الحساس في هذا العصر لحظة التوتر والتردد العصيب .
كان الشاعر مثقل بالحزن والكآبة ولكنه لم يقم بتأكيد هذا المنطق في قصائده ،ولم
يكن عالمه الفكري مليئا بالكذب والقسوة والتفاهة والخداع .بل تجلت الحقيقة مع
الفجر ،مع ولدة أول قصيدة في العهد التي تولدت فيه الحكمة والقداسة .فكانت
فلسفته في شرح نظرياته محط سخرية الكثير من السوفسائيين والجهلة من القوم
الذين ما فتئوا يبددون حقيقة الكون على نحو مغاير .هذه الحقيقة التي تجلت في فعل
الختيار الصائب الذي تولد لديه ،ولم يتردد في النطواء عليه طيلة مشواره
الفكري ،ضمن منظومة ثقافية عادلة .فأدرك بعد ذلك أن النسان حيثما وجد توجد
إنسانيته .وأن النسان الحق هو من يطلق المور التافهة ويرث بساط الرض على
جنة أنثوية من الحريم والحوريات ،محبا للوجود كله ببساطة وتلقائية وليس بعنف
ينبض بصوفية مقدسة .
فإذا ما انتقلنا إلى الوجه الخر للشعار " نزار قباني " ،وجه المنفى والبكائيات ،
وجه العروبة الخبيث والنكسارات المتتالية والهزائم المتتابعة ،وتوالي الفواجع
والمصائب على الوطن العربي من كل صوب .نجد شعره كذلك في هذا الصدد
قويا وعنيفا في لغته وأسلوبه .ل يفارقه في امتداده اليأس والحزن والخنوع للطرف
الخر ،ل يفارقه الغضب والثورة المعلنة على كل ما هو مقدس ،وعلى جسامة
المصيبة وشماتة العداء .يقول في حوار له مع الجرائد " :صعب علي أن أرسم
حدود غضبي ،فطالما أن هناك سنتمترا واحدا من أرضي تحتله إسرائيل وتذله ،
وتقيم عليه مستعمراتها ،فإن غضبي بحر ل ساحل له . "...
لم يستقبل شعر " نزار قباني " بالحفاوة والترحيب والتحفيز كما استقبل العديد
من الشعراء في عصر كان يعرف عدة توترات وانكسارات وهزائم وانقلبات
عسكرية في العالم كله .وبدا واضحا وجليا النقد الصارخ الذي واجهه طول حياته
وفكره فقد اتُهم بأنه هو السبب في الهزائم التي عرفتها المة العربية بشعره الفاحش
والغير الناضج والمتطور فكريا .ولكن " نزار قباني " لم يمض مع هذا المنظور
إلى النهاية ،إذ سرعان ما غير من فكره الشعري ،مؤكدا أنه ل يقل عروبة وقومية
وإنسانية عن الخرين ،والدليل على ذلك عدة قصائد موجودة بديوان " ل " وكذا
قصيدته الرائعة التي جلبت عليه الكثير من الويلت والتهامات " هوامش على دفتر
النكسة " ،فهي خير ما في شعر "نزار قباني " الذي يقطر ندما وصراخا وأنينا .
قد أخذ " نزار قباني " على عاتقه مسؤولية كبيرة وأقسم على تحملها إلى آخر رمق
في حياته ،لكن الجهلة من قومه لم يتمكنوا من تصديقه لرضاء غرورهم الفكري .
إنه واحد من شعراء القرن العشرين العظام بنفس شاعرية تنسج الشعر كما تنسج
الحشرات أنسجتها ،يبني خليته الشعرية كما يبني النحل خليته العسلية .فل تجد في
شعره قصيدة تخرج على عمود الشعر والفكر المعبرين القويين .حيث كان يفشي
أسراره المتعددة في حياته دون مبالة لحد ودون تردد ،ملتزما بشاعريته المرهفة
الحس التي عاشت بل أمجاد وبل ظل وماتت في غياهب النسيان دون رحمة ورأفة
.
معرفتي بـ "نزار قباني " لم تكن عبر اللقاء المباشر بل بمصادفة قوية التفاعل
والوجودية ،عرفته من خلل كتاباته وفكره المنتظم ،حيث ارتفع صوته وشعره
في أدراج مخيلتي ناشر الحكمة واللفة ذات اليمين وذات الشمال .فالحياة عند أي
إنسان وكما أعتقد ويعتقد معي الكثير ،كبيرة بالفن والتجارب والمشاعر القوية .
لذلك كانت هذه المعرفة قوية التفاعل ومرهفة الحس والذوق الشعريين .كانت ثقافة
نزار وكتاباته بالنسبة إلى مدرسة في الشعر الحديث ،ارتبطت بها وتجاوزت
بطموحي إلى الحكمة فيها ،والفلسفة حسب إيقاع رتيب ،متأثرا بالنقد البناء
والقريب الفكرة إلى تصحيح المسار الشعري عند الشاعر .وكانت قراءاتي لدواوين
نزار في أفق المعنى والمضمون والمحتوى هي بالضرورة قراءة متمعنة وناجحة
الجوانب التفاعلية مع القصيدة ،وليست ترزح تحت وطأة ثقافة سلطوية ،سلطة
الروح والحوار والغزل .فكل قصيدة كنت أقرأها كانت تسكنني حرارة متعمقة
داخليا بصحبة الجرح والنزيف والثورة والحلم المجهضة والفكار المنتحرة بماء
القلق والموت .
........
إذا كنت تعني بالمشاركة أنّ هذا الجمهور يجلس على أصابعي عندما أكتب، -
فهذا
غير صحيح .أمّا إذا كنت تعني بالمشاركة أنّني أستقطب هموم هذا الجمهور
وانفعالته وأتحسّس بها كما تش ّم الخيول رائحة المطر قبل سقوطه ...فهذا صحيح.
بهذا المعنى ،أنا أقف على أرض التوقّع والنبوءة.
تعني أنّ هموم الجماهير استغرقتك كلّية ،وأنّه ليس هناك انفصال بينها وبين -
تجاربك الصغيرة ؟
ليس عندي تجربة صغيرة وتجربة كبيرة .كلّ تجاربي هي في الوقت ذاته -
تجربة العالم كلّه .فأنا ،حين أتحدّث عن حبّي ،إنّما أتحدّث عن حبّ العالم كلّه،
وحين أتحدّث عن حزني ،إنّما أتحدّث عن حزن الدنيا بأجمعها .تخطئ حين تظنّ أنّ
تجربة الشاعر الجزئية تجيء من برزخ آخر .فالشاعر جزء من أرض ،ومجتمع،
وتاريخ ،وموروثات ثقافية ونفسية وعضوية .وكلّ كلمة يضعها الشاعر على
الورقة ،تحمل في ثناياها النسانية كلّها .والتجربة الذاتية التي تظنّها صغيرة ،تأخذ
في بعض الحيان حجم الكون .لذلك فإنّ خصوصيات الشاعر ،بمجرّد اصطدامها
ن الدب الذاتي بالورق ،تتعدّى ذاتها ،لتصبح فضيحة ،فضيحة يقرؤها العالم .إ ّ
خرافة ...وافتراض .فالذات ليست إلكترونا منفصل ولكنّها جزء من حركة الكون.
ن الواحدة التي أحبّها ...هي كلّ النساء. حتّى في حالت عشقى الشخصي ،أشعر أ ّ
....
أتصوّر أنّ المرأة في شعرك لم تكن قضية ،بقدر ما كانت بطاقة إلى -
الجماهير .أعني أنّ المرأة في شعرك "مَضافة" تزوّقها كلّ مرّة بما يرضي أذواق
الضيوف ويخدّرهم.
المرأة ،كانت ذات يوم وردة في عُروة ثوبي ،خاتما في أصبعي ،همّا جميل -
ينام على وسادتي ،ثمّ تحوّلت إلى سيف يذبحني .المرأة عندي الن ليست ليرة ذهبية
ملفوفة بالقطن ،ول جارية تنتظرني في مقاصير الحريم ،ول فندقا أحمل إليه
حقائبي ،ث ّم أرحل .المرأة هي الن عندي أرض ثورية ،ووسيلة من وسائل التحرير.
إنّني أربط قضيّتها بحرب التحرير الجتماعية التي يخوضها العالم العربي اليوم.
إنّني أكتب اليوم لنقذها من أضراس الخليفة ،وأظافر رجال القبيلة .إنّني أريد أن
أنهي حالة المرأة -الوليمة ،أو المرأة – «المَنسف» وأحرّرها من سيف عنترة
وأبي زيد الهللي.
ما لم نكفّ عن اعتبار جسد المرأة «مَنسفا» تغوص فيه أصابعنا وشهواتنا ،وما لم
نكفّ عن اعتبار جسدها جدارا نجرّب عليه شهامتنا ،ورصاص مسدّساتنا ،فل
ن الجنس هو صداعنا الكبير في هذه المنطقة ،وهو المقياس البدائي تحرير إطلقا .إ ّ
لكلّ أخلقيّاتنا التي حملناها معنا من الصحراء .يجب أن يعود للجنس حجمه
الطبيعي ،وأن ل نضخّمه بشكل يحوّله إلى عول أو عنقاء .الكائنات كلّها تلعب لعبة
الجنس بمنتهى الطهارة .السماك ...الرانب ...والزاهير ...والعصافير...
وشرانق الحرير ...والمواج ....والغيوم ...كلّها تمارس طقوس الجنس بعفوية
وشفافية ،إلّ نحن فقد اعتبرناه طفل غير شرعي ،وطردناه من مدننا وجرّدناه من
حقوقه المدنية.
إن القباني عمل منذ البداية على إثارة الشك في الكثير من الرواسب القديمة،
وزعزع مصداقيتها ،وأعاد اختبار مجموعة المسلمات والبديهيات القائمة حول
النوثة ،وذلك لنجاز مستوى آخر لفهمها من جديد.
لقد فتح القباني الباب على مصراعيه أمام عمليات تحليل جذري لكل البنى الرمزية
المترسبة من الماضي ،والمنتقلة باستاتيكية عجيبة إلى عصرنا هذا .فأظهر سلبياتها
إلى السطح ،من خلل عبوره إلى داخلها ،وتحليلها تحليلً حاذقًا يفضي إلى السخرية
والتهكم حيناً وإلى اللتفات إلى النفس والنظر في العماق المعرّاة بشيء من الخجل
حينًا آخر.
وقد استخدم القباني النقد المرتد أو العكسي هو ما يمكن تسميته بالميتا تكست ،
ونعني هنا النقد الموجه من داخل نص القباني إلى خطابات المجتمع بأكملها ،عبر
التفاعل النصي لنصه مع نصوص أخرى سابقة أو معاصرة ،يسائل من خلل هذا
التفاعل نظمًا واعتقادات مبنية على أسس مفككة أصلً ،تم تركيبها تعسفياً ،وأحكم
النطاق حولها ،لترتقي إلى مصافي المقدسات ،وتكتسب بذلك شرعية التحريم.
ولعل العمل الكثر وضوحاً لنص القباني هو تعرية مرتكزات الفكر الرجعي
والكشف عن هشاشة هذا الفكر عبر توجيه ضربات من الداخل إلى المراكز التي
اعتمدها النظام المتحكم عبر أزمانه ،فنتج عن مركزية الخطاب الحادي السلطوي
الذكوري تهميش الخطاب النثوي ،المر الذي ح ّد من الفعل الخلق للعقل ،وأغلق
باب الجتهاد ،وعمل على تأكيد ثوابت طالها العطب ،وتأويلت تشهّت الوصول
إلى ح ّد النص.
إن عمل القباني المبكر هذا كان له دور هام في تنويع مسارات حركية الشعر أولً،
وفي تغيير حركية الحياة وتجديدها وتنشيطها ثانياً ،فعبر إعادة تعريفه للحقائق
المتغيرة ،أبطل القباني المقولت المتعالية لهذه الحقائق ،وسعى جاهداً إلى الغاء
التحيزات الهرمية عن طريق استبعاد وجودها ،فاحتفل باليومي والتفصيلي بل
وبالعادي والمبتذل والعرضي ،وبكل الشياء المهمشة والمتناهية في الصغر .وبذكاء
حاد حول كل هذه الشياء إلى عناصر شعرية بفضل السياق الجديد لقصيدته التي
تقوم على لغة قريبة ومفاجئة ،أليفة ومباغتة تطلق طاقتها لتخلق فجوات توتر عديدة
في مسافة يتحرر فيها الدال من قيد المدلول فيجتمع لنا دال يعوم ومدلول ينزلق على
ح ّد تعبير ( جاك لكان )فل نقبض على مدلول واحد للدال ،بل تتوزع المدلولت في
جسد النص القباني ،مما يوسع دائرة المعجم فتدخل ملفوظاته في تجريبية دائمة،
عبر حشرها في علقات جديدة وسياقات جديدة تفسح المجال للمتلقي بقراءات عديدة
تغذي مخيلته وتدرب حواسه على التذوق وترفع من منسوب الجمال في نظرته إلى
الشياء .وفي هذا المقام نستطيع القول إن القباني كان رائداً لـ (قصيدة التفاصيل
الصغيرة) أو ما أطلق عليها (قصيدة التفاصيل اليومية) ،أو حسب مصطلح بيلنسكي
(قصيدة نثريات الحياة) وهي ظاهرة شعرية بدأت بالتكون في سماء شعرنا العربي،
وتكاد أن تشكل عنواناً لمرحلة جديدة .ونجح القباني في خلق ملحم صغيرة كبيرة
بأن معًا صغيرة لنها تعرض لحياة النسان العادي البسيط ولهمومه ولحلمه
المنكسرة ،وكبيرة لنها استطاعت أن ترقى إلى صفة الملحمي .ولعل نزاراً قد سبق
بأسطورياته التفات النقاد إلى هذا الصنيع ،فهم لم ينتبهوا إل في زمن لحق لنقد
الخمسينيات الفرنسي وخاصة بعد (أسطوريات) رولن بارت الذي التفت إلى
أسطرة اليومي والجزئي والتافه والني .فنزار جير كل ما صار اليه وشحنه بكل
العطاءات الشعرية الممكنة وأعاد النبض إلى كل الملفوظات وأخرجها من حيز
المعمارية .فكل المفردات سبائك يمكن أن تكون شعرية حيث يبطل أو يفسد الحكم
على السبائك.
وإن اجتمعت للقباني كل هذه الريادات فهي ل توازي ريادته للحركة النسوية
العربية ،والمر ل يخلو من طرافة أن يقود حركة تحرير المرأة رجل ،ولكن القباني
أفرد المساحة الكبر من شعره إن لم نقل كله للمرأة يخاطبها أو يتكلم على لسانها.
فنزار ومنذ البداية سلط الضوء على المرأة وبقوة ومشى بخطى حثيثة تنويرية راح
يفكك البنى التي ارتكز اليها الفكر العربي والتي رسخها متجاوزاً بذلك يقظة
الوجدان الرومانسي الرخو راسماً أمامه الكثير من الهداف ساعيًا لمستقبل تكون
فيه النوثة بخير.
اجتهد القباني منذ باكورة أعماله في هذا التجاه فحاول تنقية مفهوم النوثة من
رواسب العلقات الجتماعية ،وأراد له أل يخضع لمنظومة الفكر التقليدي وسلطة
الب وتجليات التهميش بل أن يتحرر من التراتبية في نظام التصنيف وفي نظام
العلقات الرمزي ،الذي أحكمت حلقته سلطة الذكر ،الذي تمدد بدوره على مساحة
واسعة من العقد المكبوتة وانتهى أمره إلى وضع المرأة على الهامش بحيث ل
يراعى أي عامل آخر في التصنيف حتى ولو كان هذا العامل بيولوجياً أو نفسياً أو
طبيعياً.
ونزار يكشف عبر خطابه الشعري عن كل التحيزات التي همشت فيها المرأة لصالح
الرجل ،فقصائده تعري التحيزات اللغوية ضد المرأة ،حيث كانت توضع في
المفردات في موضع يكرّس التصور السائد بتفوق الذكر على النثى وتكشف لنا
قصائده أن التحيزات ليست كامنة في اللغة ذاتها بل في سياقات إنتاجها واستخدامها،
فإن تحصل المرأة على هوية إنسانية أساسية في مجتمع ذكوري فكرة بحاجة إلى
الكثير من اللغة المراوغة وإلى الكثير من التفكيك.
ولم يكتف القباني برد العتبار إلى اللغة النثوية ،بل عمل على توظيف الجانب
اللغوي -وبردة فعل عنيفة -ضد الخطاب اللغوي الذكوري ،فاستخدم اللغة ذاتها في
مواجهة المحرمات المتراكمة فدعا إلى اظهار ما تم السكوت عنه ،وإلى اظهار
الجسد المغيب إلى السطح والحتفاء به .وهنا يجب التنبيه إلى أن قصيدة القباني
كانت تصدر عن منابع بريئة تنطوي على أنماط من النشوة الجامحة ،وتنقض على
الجمال الكلسيكي المتوازن المتناغم والمنقطع عن الحياة ،وتهتك المنظومة السلفية
المغلقة الصادرة عن عقول رتيبة حافظت على السلفي القاضي بضرورة عدم
الفاعلية والصادرة أيضًا عن نظرة أحادية إلى الجسد ،هذا الجسد الذي رماه العسف
الجتماعي بالعاقة ،وكبله بالقيد ،رامياً من وراء ذلك وبمخاتلة خبيثة تكبيل عقل
النثى ووصمه بالقصور ليبعدها عن موطن المشاركة ،فارضاً عليها البتعاد
القسري منفرداً بساحة الرأي.
ومن كل ما سبق نرى أن قصيدة القباني ل تحيل على جسد المرأة مباشرةالضوء،
فتتحدث القصيدة عن جسد مغيب مهمّش ،قبل حديثها عن جمال أنثوي.
فتطلق قصائده صيحة هي صرخة الجسد النثوي في وجه من قمع المرأة ،وكبلها
وطوقها ،وأدخل في تلفيف عقلها أسطورة القصور ،فنزار ومنذ البداية دعا إلى
اظهار النثى جسداً وروحاً من مقام المكبوت والمسكوت عنه مصدر العار والخجل
إلى موضوع مستقطب للتجربة الشعرية.
وعمل نزار هذا يوازي عمل الحركة النسوية العالمية في الستينيات والسبعينيات في
الفعل ويتجاوزها بالسبقية في الزمن أولً وفي الستمرارية ثانياً .فنزار قباني قاد
المرأة لكتشاف مخابئ هذه الروح وأسرار هذا الجسد فجعلها منذ دواوينه الولى
تتحسس جمالها وذلك من خلل أشيائها ،لتدرك فيما بعد ذاتها .تطالعنا قصائد تدلل
عتباتها عليها مثل (مذعورة الفستان ،غرفتها) من ديوان (قالت لي السمراء )1944 -
و(غرفتها إلى ساق إلى رداء أصفر همجية الشفتين) من ديوان (طفولة نهر )1948 -
و(الفم الصياد ،والمايو الزرق ،وثوب النوم الوردي ،وأحمر الشفاه) من ديوان
(أنت لي )1949 -و(عودة التنورة المزركشة ،والجورب المقطوع والقميص
البيض ،والجورب المقطوع ،،وإلى ساذجة) من ديوان (قصائد ،)1956 -و(لوليتا)
من ديوان (حبيبتي )1961 -ولننتبه إلى زمن كتابة القصيدة وهو العام 1941م ،لما
لهذا الزمن من إضفاء الجرأة والريادة لنزار قباني فلم تكن المرأة تحوز على شيء
من حريتها بعد وكان ذكر أشيائها الخاصة ومستلزمات جمالها أو ثيابها أو ردائها أو
تسمية أعضائها شيء من العار والعيب ،وموطن للخجل الشد حساسية عند الرجل
فهو من المور السرية بالنسبة للرجل ،ومحظور عليه ذكرها على العلن بل محظور
عليها ذلك أيضاً .أما القصيدة الديوان فهي قصيدة (يوميات امرأة ل مبالية) الديوان
الذي تمّ انجازه في العام 1958م ولم ينشر إل في العام 1968م هذا الديوان يعد بحق
مانفيستو المرأة العربية فهو ثورة على وضع المرأة وطرح حقيقي لقضاياها.
ونزار منذ ديوان (قصائد) وقصيدتاه (أوعية الصديد ،و رسالة من امرأة حاقدة)
وهو يموضع المرأة كقضية ،ويبحث في مشاكلها فيتصاعد الخط البياني لهذه الثورة
فمن وصف لشياء المرأة الصغيرة جدًا إلى وصف لقضاياها الكبيرة حيث نقرأ
(حبلى ،وأوعية الصديد) ومن وصف زينتها (المانيكور وأحمر الشفاه والثوب
الوردي وكم الدانتيل وكريستيان ديور والمايو الزرق) إلى وصف أحزانها
ومشكلتها في قصائد من مثل( :أنا محرومة ،البغي ،وامرأة من دخان ،ومع جريدة،
ورسالة من سيدة حاقدة ،وشؤون صغيرة ،وكلمات ،والرسائل المحترقة ،والرجل
الثاني ،والحب والبترول ،وصوت من الخليج) وهذه القصائد تدعو المرأة بقدر ما
تشهد ذلك إلى خروج صوت المرأة المقموع في سراديب الكبت والحرمان إلى
الهواء الطلق وخروج المرأة من قصور السلطين وبيوت الحرملك إلى بيوت أكثر
نوراً وأكثر حرية .والملحظ هنا على الخط البياني لشعر القباني والخاص
بمشروعه النثوي النهضوي يشاهد انه في تصاعد ،حيث يدفع القباني تصاعده هذا
إلى الذروة حيث تطمئن النثى إلى انسانيتها وإلى تسلمها عرشها وامتلك جسدها.
إذ يحيد القباني في هذه المرحلة عن لغته التأنيبية ،وتهدأ نبرته شيئاً فشيئًا ويرضى
عن علقة جديدة بين الرجل والمرأة ،يغلب عليها الحوار في جانبها العظم،
ويتراجع فيها مفهوم (الرجل) يعبر عنها القباني في حنينه الدائم إلى امرأة تحتضنه
وتحرره وتجعله إنساناً حضارياً ،ولعل (كتاب الحب) خير مثال على هذه المرحلة
في أوليتها.
وتتالى دواوين القباني في السبعينيات ،وتتسع مع تتاليها لغة الحوار بين نزار وأنثاه:
محبوبته نصفه ،فل حياة إن لم تكن معه ،تسير إلى جانبه .فيمطرنا نزار في هذه
المرحلة ب (أشعار خارجة على القانون) فهذا الديوان نقرأ لحياة حقيقية وعواطف
معاشة .وصور حية يرصد من خللها نزار هنيهات العلقة وتشابكاتها وما يصدر
عن هذه العلقات من حرارة أو برودة وتمثل ذلك قصائد من مثل (بيروت والحب
والمطر) ،وقصيدة التحديات ،والستحالة ،ومحاولة لغتيال امرأة ،وحبوب منومة
امرأة من خشب).
وتتصاعد حركة العمل لبلورة مفهوم النوثة في قصائد القباني التي تلي ذلك ،ففي
ديوان (أحبك أحبك والبقية تأتي) يتطور نوع العلقة بين الرجل والنثى ،ففي هذه
القصيدة تصل العلقة بينهما إلى علقة حب ل تقتله الرغبات النية بل يقويه الدم
المتدفق في الزمن.
ب للنثى النموذج ،وسعي للكمال في العلقة ففي هاتين القصيدتين وفي غيرهما ح ّ
معها فنقرأ (كل عام وأنت حبيبتي ،)1978و(حب استثنائي ،وأقرأ جسدك وأتثقف،
وأشهد أن ل امرأة إل أنت )1979بكل ما في هذه الشهادة من حب وحضارة ،حيث
تنتقل النثى لتصبح عضواً فعالً في كتابة القصيدة ،ونزار هنا يصر على تجذير
حركة النوثة ويصر على انطلقها بالن ذاته ،فل يغادر السبعينيات إل والمرأة
تحقق اختلفها عن الرجل ،وتصبح موازية له ،فتصبغ باختلفها هذا اللغة والحدث
وتنقذ الثقافة من مطب النقياد إلى ثقافة أحادية تتسع لضمير الرجل فقط وتضيق
عن ضمير النسانية ومن القصائد الممثلة لهذه الفترة (قولي أحبك ،والوردة
والفنجان).
ويصل نزار إلى قمة التفكيك في مشروعه النثوي فيقرر أن النثى كتابة ،وأن
الكتابة هي الصل وهو محور عمل التفكيكيين ،علماً أن لجاك دريدا رائد الفكر
التفكيكي الفلسفة والنقد وصاحب مقولة الختلف كتاباً بعنوان الكتابة والختلف فيه
طبعاً يثبت أن الكتابة هي الصل لنها ثابتة والشفاهية ليست أصلً وهو عكس ما
يقول به فلسفة اللغة والمنطق وعلماء اللغة حيث يعود الهامشي ليحتل المركز
مكانه الصل الذي سلب منه لسنوات إن لم يكن لقرون فنزار يعود بالمرأة إلى
ل فيكتب (هكذا أكتب تاريخ النساء )1981 - مكانها الصل والطبيعي فتعود عنده أص ً
يطلب فيه من المرأة أن تبقى أنثى تحافظ على أنوثتها وتجلوها لنها عنصر مختلف
أصلً ،ولن كل الحضارة أنثى ،والحرية أنثى والقصيدة أنثى ،بل كل الشياء
الجميلة في حياتنا هي أشياء أنثوية.
ويصل نزار إلى الذروة عندما يقرر أن النوثة منتشرة في كل شيء من حولنا ،ف
(فاطمة) النثى متمثلة في كل الموجودات في كل الشياء هي البدء وهي الختام ففي
قصيدة نظرة جديدة لتكوين العالم يقول نزار:
وبعد ديوانه (ل غالب إل الحب )1990الذي يعرض لتكافؤ العلقة بين الذكر
والنثى يطلع علينا نزار بديوانه (هل تسمعين صهيل أحزاني )1991 ،وفي هذا
الديوان يطمئن القباني إلى ما وصلت اليه المرأة بل إن الديوان يعرض حاجة الرجل
الشديدة لها ويصور ضعفه ويناشدها خلصه من جروحه وعذاباته وأحزانه ويصور
نظرة الرجل الناضج للمرأة.
أما ديوان (خمسون عاماً في مديح النساء )1993 -فعنوانه يدلّ على مضمونه ،فهو
يعرض لمشروعه النثوي وانجازاته الكثيرة ،التي أخذت من عمره نصف قرن،
وكيف كانت المرأة قبله ،وفي أثناء حياته ،وكيف أصبحت بعد كل قصيدة .وكذلك
الحال في ديوان (تنويعات نزارية على مقام العشق .)1996
وأخيراً منتخبات من قصائده شكلت نقاط ضوء في مسيرته وكان لها بالغ الثر في
الشعر العربي وفي الواقع وفي مشروعه النثوي فجاء ديوانه الخير المطبوع بعد
موته (إضاءات .)1999 -
وفي الدواوين الخيرة تبلغ النثى حدّا عاليًا من التكثيف والقوة والعمق ،حتى تكاد
تتجلى في مظاهر الوجود كلها ،وهكذا يتجاوز القباني النثى المحدودة بالزمان
والمكان إلى النثى ذات الحضور المطلق ،مزاوجاً بين اللغوي والنثوي في قصائد
ملحمية ،بيد أن ملحميتها تختلف عمّا ألفناه في الملحم الكلسيكية ،إنها ملحمة
الشياء الصغيرة النثرية البسيطة ،ملحمة النسان في انشغاله وهشاشته في أحلمه
المنكسرة وأشواقه حيث ل مكان في ملحمه للجليل المجرد ول موقع للرائع
المصقول في عمل نزار هذا.
وهكذا نجد أن النوثة قد شغلت الحيز الكبر من حياة القباني وشعره ،فلم يغب نزار
جسديًا إل وقد اطمأن لهذا الصنيع ،حيث ترك ارثاً عظيماً ،سينتقل ليصبح من قبيل
المدونات الكبرى في التاريخ كالغاني وألف ليلة وليلة والسير الشعبية ،وستبقى
نصوصه تستنفر الذاكرة لتقاوم النسيان والخوف والموت ،وتعقد مصالحة بين
النسان والفرح ،ودائماً ستبقى أشعاره تحتكم إلى أفق جماهيري أوسع لنها شعر
ارتقى إلى الجميل وحقق من خلله شعرية أضفت على النصوص المتعة والمعرفة،
وأسهمت في الكشف ،وقامت بنزع المقدس عن الرجل والمرأة والحاسة ،وهتك
ب من حيث هو فعل حياة وإعلن وجود. الحجب عن فعل الح ّ
محاولة قراءة جديدة في شعر نزار قباني
ليس كثيراً على نزار قباني أن نجد في شعره ما يدفعنا إلى تتويجه شاعراً من
شعراء الحرية ..وذلك إذا ما تشربنا رحيق مفهوم الحرية بعيداً عن كونها حاجةً
قوميةً جماعيةً ،أو مطلبًا للشعوب المقهورة ،فهي تتضمن جميع هذه الحريات..
ولكن ثمة ما هو أبعد وأعمق بالنسبة لخلصة فضاء الحرية الشمل ،الذي يمتد في
داخل النسان أكثر مما يمتد خارجه.
وبعيدًا عن التأويلت الساذجة لدى بعض قراء شعره ،والتي تفيد بأنه يستعبد المرأة،
ويهينها ،و ...الخ ،فإننا نعتقد بأن تعلق الشاعر بطاقة الحب ،والجنس ،والجسد ،هذا
التعلق كله كان من أجل الوصول إلى هذا الفضاء الداخلي من الحرية ..لسيما وأنه
تعاطى مع هذه المفاهيم في ثقافة عربية تحتكر خطاب الجسد وتغلق عالمه ،وتشلّ
إلى ح ّد بعيد صوتَ الحب ،أو تتهم بالجنون والمروق والنحراف من يرفع نشيد
الحب في هذا الظلم العالي.
الحب والجنس ،ليسا من المعطياتِ المكتسبة ،حتى يتعلمها الجسد فيما بعد .هما تدفّق
إنساني نابع من جغرافيا الرّوح البشري منذ الزل ليشكّل غريزةً كبرى من الغرائز
الناظمة لشخصيته الحقيقية .وهذه الغريزة لم تتشكّل فيما بعد ،بل هي تتشكل الن،
وتحيا في اللحظة الراهنة أبداً عميقًا يعيد النسان من أعماقه إلى بدئه الول .المسبع
بالحرية الولى حيث لباب تتكلم من خلفه النثى وفي فمها خرق ٌة حتى إذا سمعها
الرجل فل يسمع صوتها الحقيقي ،فصوتها عورةٌ .الحب يعود بالكائن الراهن إلى
عدم زواله .إلى الزمن الذي فيه نوع من التحاد الشامل بين الطاقات والمكانيات
البشرية المبدعة .وقد اكتشف حدس نزار ،وثقافته الروحية المنتزعة من الحياة ل
من الكتب ،أن العلقة مع الحبّ تفضي إلى علقة مع الحرية… فالحب اسم من
أسمائها كما هي معنى من معانيه .واكتشف منذ حادثة انتحار شقيقته وهو في مرحلة
الطفولة بسبب فشلها في تحقيق معادلة الحب والحرية ،أنّ الشاعر الذي سيكونهُ
مستقبلً أتى في زمنٍ هو من الزمنة الجاهلية في صلته مع النسان وروحه
وفاعليات وجدانه .وكأن ذلك إرادةٌ قدريّة .ولبد للقصيدة من أن تواجه بنود الجاهلية
ومنطقها الذي يحتكر قلب وروح النسان في عصرٍ من المفترض أن يحرر النسان
هذا ،ل أن يعتقله في صميمه..
أي لبد أن تتوتّر القصيدة ،وعليها أن تتزيّا بلغة القلق والصهيل والثورة والتمرد،
على داخلها المتسرّب من خطاب شعري موروث ومعاصر تقليدي ،وعلى خارجها
الذي تحكمهُ شروط الستغلل والبشاعة الروحية ،وقد تمكن نزار قباني من أن يفتح
قصيدته البسيطة على هذين المحورين .فبالنسبة لداخل القصيدة تحرّر الشاعر من
أدوات غيره من آبائه الشعريين .لسيما الباء الذين يشكلون ذاكرةً مفاهيمي ًة من
شأنها تأخير النشاط النفسي والبداعي والثقافي للنسان الراهن والقادم عبر
المستقبل .فليس هناك شاع ٌر في تراثنا الشعري القديم من يمكن أن نرد إليه نزار
قباني ،بل هو سينفر كقطب سلبيّ لمغناطيس إبداعي من أي قطب مماثل له .إنه ل
يلتقي مع العذريين أو الحسيين ول مع الصوفيين العشاق ول مع الندلسيين في
تناوله لمشكلة الحب والجسد ،ول يلتقي معهم ومع سواهم في الخطاب الشعري
والجمالي ،وما فيه من عناصر فنية تقنية وأسلوبية .بمعنى آخر إنه قطع علقته
معهم تحرر منهم .طرد إرادتهم من داخل قصيدته .وقطعه معهم لم يأت بقرارٍ طبعاً
إنّ أتى إلى البداع من تلقاء خصوصيةٍ اجتماعية آمنت أنه الكتابة كما كان يكتب
هؤلء نوع من العبودية لهم .فهو إذاً جاء الشعر متخففاً من إرث هؤلء الباء.
يقول نزار قباني*:
((ليس عندي عقدة الشكل ،فأنا أكتب بالشكل الذي يعجبني… وألبسُ اللغة التي
تريحني .أنا سيد أشكالي وليست هي سيدتي ..أنا غيرُ مصرّ على ارتداء عباءة
الفرزدق أو العشى أو الشنفرى ول على السفر في بحور الخليل بن أحمد
الفراهيدي .فأنا أسافر في البحر ..وعندي بطاقة سفر دائمة ..هي بطاقة الحرية))
هذا العتراف وهو واحد من عديد العترافات الخرى يقول لنا إن الشاعر غير
((معقّد)) من أي شكل فني ،وبالفعل فهو كتبَ قصيدة البيت الواحد ،وقصيدة
التفعيلة ،وقصيدة (النثر) معياره في ذلك :هل يعجبه هذا الشكل أم ل؟ هل تريحه
هذه اللغة أم ستشكل عبئًا على حركات جسده البداعي؟ أي هل تعتني لغته بحريته،
أم ستقيدها؟ ولنقرأ مرةً ثانية هذه العبارة(( :أنا سيد أشكالي وليست هي سيدتي)).
كم من المعنى النقدي العميق يمكن في هذا الكلم البسيط والعفوي /الدال على أن
نزار سيد على شكل الشعر الذي يبدعه ،ل عبدٌ له ،ومع كل كلمه في أماكن أخرى
عن مفاجأة القصيدة للشاعر ،والحرائق التي تشعلها على الورقة البيضاء ،والزلزل
التي تحدثها في قشرة الرض ،مع كل ذلك ،وعند التقييم الجاد ،إن الشاعر هو من
يفعل ذلك .هو الذي يفاجئ ويحرق ويزلزل .بقدر ما يكون مالكًا لصولجان شعره.
وإذا كانت بساطة الشعر معروفة لدى نزار .ولغته الخاصة المنسابة والمائية ،كذلك،
فإن الشاعر هو من جعلها كذلك وهو يتحكم بها ،ويمارس إرادته الصارمة عليها.
إنه سيد الشعر ل عب ٌد له .بل هو سيدٌ عندما يغني الوقت والروح في إبداع الشعر،
ويمنح هذا الملك الجميل قلبه وأعصابه وسلمه الروحي ،بل حياته في النهاية،
ليثبت أنه سيد عاشق لما يكتبهُ .والعاشق يتبع موضوع عشقه حتى ولو اضطره
للخضوع والنحناء .لكنه خضوع نابع من فوق وانحناء الكبير للكبير .سجود الند
على أرض الندّ..
إنّ نزارا ل يرتدي عباءة العشى ،ول الفرزدق ،وليس بالضرورة أن يمسك بيد
الفراهيدي .إن ما يقرر ذلك ليس الفرزدق ول الفراهيدي .بل نزار قباني نفسه .إذا
رغب في تنويع أشكاله الفنية قام بذلك ،فكتب على الوزن الخليلي إذا قرر (السيد)
ذلك .وإل فليكتب على شكل آخر ،هو التفعيلة أو الشكل النثري فهو الشاعر الحائز
على شرعية السفر في البحر .والذي يختار سفر البحر ل ينتظر أن يملي عليه
(البرّ) لغته .ففي اللحظة التي يضع الشاعر كيانه في سحر البحر سيتحوّل هو إلى
ربّان لحواله وأهوال البحر ،حيث يقود هو بكل سيادة رحلة البداع .لماذا؟ ذلك هو
سر البداع الكبير :الحرية ،بطاقة السفر الدائمة.
لقد اكتسب نزار فضيلة البحر في كتابته عن العشق والذات والمرأة .وذلك بما يعنيه
ذلك من مفاجآت على صعيد الكتابة واليقاع والصورة الشعرية واللغة والغناء..
الخ .كما يفاجئ البحر يفاجئ الشعر .بل ان نزارا اتخذ البحر ماد ًة شعريةً كثيراً ما
صاغ منها مواقف جميلة مدهشة في علقته مع المرأة حيث تتردد مفردات البحر
في أنحاء شعره بصورة واضحة .وهذا البحر القباني هو من معاني الحرية تماماً
فالمشهد الشعري الذي يدخل البحر في صياغته هو دائماً مشه ٌد متعلق بحرية اللحظة
النسانية ،وحرية الكلم ،وحرية الجسد .وحرية الختيار ،وحرية ال َغرَق كذلك.
والبحر عند نزار يعني العمق ،يعني الدخول في المواجهة بما تعني من دوار
وصراع مع الطبيعة والطغيان والموت .وهو الحب بل شروط ،فالحب هنا يصبح
البحار دون سفينة ،وعلى النثى أن تغوص في البحر أو تبتعد بعيداً فل بحر من
غير دوار .حيث الحب مواجهة ،إبحار ضد التيار .وليس هناك وقت للسؤال عن
النهاية في تجربة الحب الوجودية ،إنه إبحار لغاية البحار ،كما أن الحب هو غاية
ي غير مشروط. الحب وحده .إنها حرية مكلِفةٌ وباهظ ُة الثّمن ،لكنها خيارٌ إنسان ّ
لقد جمعنا في الكلم السابق بين سفر الشاعر في البحر كحالة وجدانية إنسانية تعادل
الحرية الحقيقية ،وبين سفره في الشعر بطريقة جديدة غير مسبقة الوجود.
وكان لبد أن تترافق هذه الحرية كمحرك فني ،مع حرية أبعد وأشمل هي حرية
التعبير عما يؤرخ انهيار الذات النثوية ،وعما يشرخ العلقة بينها وبين الرجل
كذلك .حرية قول ما يجب قوله في لحظة الصدق مع الذات والخر ،في لحظة رثاء
المة والرض ،في لحظة معاناة العقدة النفسية داخل أعماق النسان العربي كنتاج
اجتماعي في شروط القهر والتخلف.
كان لبد أن يحرّر نزار طريق َة القول ،والقول نفسه ،داخل القصيدة وخارجها كما
أشرنا ،أي كانت خيارات العوالمُ الشعرية التي تعامل معها نزار خياراتٍ من وجهة
نظر بحريةٍ كذبك .ليس عليها رقيبٌ داخليّ مسبقٌ ،ول شرط على المدى الممكن أن
تصل إليها .لهذا قال الشاعر ما قاله .وصدم أذهان الناس بما فيه الكفاية ليسرق من
سواه ضوء النجومية عشرات السنوات.
نزار قباني عبر عن هذه الحرية ،كحالة مرافقة للشعر من داخله وخارجه ،عبر
عنها بحيث ل تكون همّا نخبويًا محصوراً في شرائح اجتماعية ثقافية محدودة .ومع
إدراكنا لخصوصية المرجعية الجتماعية المحافظة التي يستند إليها شخص الشاعر،
فإننا رأينا في هذه المرجعية محرضا آخر على التحرر .ولسيما وان هذه المرجعية
حاربت شاعرها الذي من المنتظر أن يكون صوتاً خاصًا بها وبمتطلباتها ،لكنه خذل
هذه المرجعية لنها ستقف عائقاً أمام رؤيته للشياء .فخيار (الشاعر) غير خيار هذه
المرجعية بخطابها الثقافي المستقر ،المحدد سلفاً .وليس سهلً على شاعرٍ أن يدير
ظهره لرضى مجتمعه المحدود ،ويمضي نحو الشمس بكل ما يعني ذلك من اختيار
للمجابهة والصدام ،كما تمت الشارة إلى ذلك فير غير مكان.
هل كان نزار قباني يتعاطى مع حرية الفرد ،أم حرية الجماعة..؟ إن ذلك أمر
ملتبس كثيراً .وإذا حاولنا الفصل بين الفرد والجماعية كنا كمن يكسر عنق الزجاجة
ليتأمل جمالها بمعزل عن العنق ،مع أنها ل قيمة لها إل بذلك الجزء الصغير.
ت شخصية ،أو ومن مهمة الشاعر العربي أن يختار حازماً بين أن يكون شاعرَ ذا ٍ
شاعرَ جماعةٍ ،بما يقتضي ذلك من رضوخ لمطالب الجماعة وشؤونها وملحقتها
في إيقاعها اليومي.
والتزام الشاعر العربي بلحظة الجماعة لم يكُنْ ظاهرةً معاصرةً ،بل لقد تبلور الشعر
العربي عبر عصوره الولى بصفته قبلياً ،مهموماً لهموم قبيلةٍ ،أو عشيرةٍ ،أو
حزبٍ….الخ.
ولكن النظرة الفاحصةَ للنتاج الشعري العربي الغارق في محيط ((الجماعة))،
تكشف عن تبعيّة مح ّقتْ ذات الشاعر ،وانتصرت لـ ((غزيّة)) التي كانت تُملي على
شاعرها رُشده ،وغوايته ،وبالتالي شعره .بينما الدور الهمّ المنتظر من الشاعر أن
يملي هو حكمته وغوايته وصوته الرائي .ولم يقدم الشعر العربي (( الجماعي/
ل للشعر كفنّ ل تمارسه القبلي)) ملمحَ فني ًة ظاهرةً وخاصّةً تخدم تطوراً محتم ً
القبيلة ،بل (الفرد /الشاعر) .مع الشادة الدائمة بأن هذا الشعر كان يتجلى بصورة
أسمى وأقدر إقناعًا من وجهة النظر الجمالية الفنية عندما كان صوت الذات
المبدعة ،صوتَ الشاعر وحده .هذا ل يلغي طبعاً انتماءً جدلياً هنا ،يعطي للجماعة
مالها ،ويستقل عنها عندما تريد أن تطغى على أفق الشعر وتمله بحاجاتها ،من
حروب ونزاعات ودعوات أيديولوجية.
وهنا تجدر الشارة إلى شعر الحب ،والعشق الصوفي على سبيل المثال وشعر
الخمرة وشعر الطبيعة ،وشعر رثاء الذات ورثاء المدن ،وشعر الذات المتعالية..
الخ.
وعندما برزت بوادر عصير الحياء المعاصر ،مع شعراء النهضة ،استُعيد وبُعث
من التراث الوجه القل إبداعيّة في معظمه ،فكان مرّة ثانية تابعًا لشؤون الحياة
والجماعة القومية أو الدينية أو السياسية وقد استمر ذلك حتى بعد انتشار شعر
ت على هذا الشعر فرصةً للبداع والبقاء الهم. الحداثة بعامة مما ف ّو َ
وقد تولى هذا الدور شعرُ الذات والشخصية الشعر الرومانسي الذي كانت (الذات)
من أهم محاوره وسبله ،بل كانت المحور الول والخير وليس هذا مكان البحث في
فرضيات القصيدة الرومانسية وما قدمت من إبداعات بشرت فيما بعد ببروز صوت
الحداثة شيئاً فشيئًا فليس الشعر الحديث شعراً جماعياً بأي شكل من الشكال ..ولبد
أن نظرةً قارئ ًة بعمق لبعض معاني الحداثة ،سترى أنها مفهوم يشمل مستويات
الحياة جميعها .من علقة مع العصر والثقافة والدين والعادات والكتابة والمؤسسات
الجتماعية المشكلة للنظام الجتماعي والخلقي المكرّس في المجتمع.
وهي -الحداثة ُ -موقفٌ كليّ من العناصرِ المذكورة جميعها وبنيانٌ ل انفصام فيه بين
جزء وآخر.
من هنا قد نشرع في الكلم عن ولدة شعر نزار من قلب هذا الموقف الشمولي
للحداثة.
لقد حررت قصيدة نزار موضوعها من هويته القبلية الجماعية واحتفلت بالذات
وركزت عليها وعلى أهمية أن تشعر باستقلليتها عن شروط التبعية والهيمنة.
وسلّطت القصيدة النوارَ الكاشفة على هموم هذه الذات كما تبدو في اللحظة
التاريخية المعيشة الن .مطلقةً العنان لكلم الذات بصوتٍ عال ليرتسم لها خطابٌ
حرّ تبني من خلله ومع تنميته وتطويره ،عالماً جديداً على حجم أهوائها ورغباتها
المقموعة.
وكان الشاعر أمينًا على الذّات التي نذر شعره لخطابها فلم يتخيل لها وجوداً خارج
معاناتها ،لم يزيّن لها فردوساً مستحيلً بمعنى لم يبالغ في الكلم على سعادة هذه
الذات ومثاليتها بل انطلق من أسرها التاريخي ،كما هو معطى ثقافياً واجتماعياً
وأخلقياً .جاء إلى أرضية موجودة في الساس ولم يقم بإنشائها عبر طرق البلغة
واللغة .فما قام بتزييف أمور الذات ،ول وصفها بما ليس متضمناً فيها .إنه كان
القدر في جملة الشعراء العرب على إشعال ليل الذات من كل جوانبه ،بحيث لم يبق
ورقة توت لتغطي أي شيء.
وهذا الفعل ليس خارج مغزى الحداثة ،وليس بعيداً عن درسها وأنموذجها فالحداثة
من شؤونها إعادة الذات إلى ذاتها ،والبوح بما تخفيه ،ومجابهة كل عناصر العاقة
الخلقية والجتماعية التي تقف في طريق الذات ،عندما تشعر بقيمتها بصورة
حادة.
والمهم أن نزار لم يفعل هذا بصورة مسبقة مصممة من ذي قبل ،لكنه وجد نفسه
ف الذات العربية ،وأزمات تعصف بنظام الشخصية كشاعر أمام كمّ من الظّلم يل ّ
ورأى أن الشعر العربي بمجمله كان يلعب دوراً تزييفياً في هذه المسألة ،لسيما
الحلم الذي كان ينشئه الشعر على أرض تحرّض على الهويّ في الضياع أكثر كان
الشعر مصابيح تخدر الساهرين ،وتحرر لهم جنة العسل من حراسها .وعندما يمد
النسان يده ليقطف ،كانت أصابعه تفقد الطريق إلى أي شجرة ممكنة .فالمر كله
كان تعويضيّا زخرفيّا ،بلغيّا .من هنا يلعب الشعر ذلك الدور التنويمي عندما يخون
رؤياه الثاقبة ،فل يعود يميز بين الممكن والوهم ،أو بين الحلم الممكن والحلم
الكاذب.
وإذا كان من حق الذات على القصيدة أن تجعلها أكثر قدرةً على بناء الحلم ،فإن من
حق الذات أيضًا أن تطالب هذه القصيدة بأل يتم تزويرُ واقعها ـ واقع الذات ـ.
وإذا تذكرنا ما فعله شعراء الحداثة الولى في أوروبا( ،بودلير على سبيل المثال)
بموضوع تحرير الذات من مرض الحلم الرومانسي المنفصل عن واقع الحال ،لقلنا
إن شعر (بودلير) قام بمهمّة عظيمة عندما كشفَ تناقضات الذات وقبحها وشذوذها
وجمالها المضمَر ،جمالها كقيمة تتشكل الن من خلل علقات الذات بما حولها،
وبنفسها وليس الجمال كقيمةٍ مطلقةٍ مقدّمة سلفاً عبر النظريات.
إن التفكير الحديث أوّل ما يتوجه ،إلى الذات ليصنع من العلقة معها مشروع حرية
صادقة ،غيرَ خجول من كل ما في هذه الذات من ملمح سوداء وأمراض فالخطاب
حول هذه العناصر ،الخطاب المتواصل والذي يحقق وجوداً مؤثراً لبد أن يخرج
هذه الذات من علقاتها المشوهة ،وطبيعتها السوداء إلى فضاء من البوح الصريح،
والقول بصوتٍ حقيقيّ أبيّ ،حتى تدرك هذه الذات أولى خطوات حريتها.
ن بعيداً في عدد من مهامه عن تحقيق هذه الحرية للذات. وليس الف ّ
من هنا تناول نزار كفنّان حقيقيّ ،الذات العربية في أشد طبقاتها سواداً وتناقضاً
وقمعاً مزمناً .وقام شيئاً فشيئاً بتحريرها فنياً .وكان يحقّق نتائجه على المدى البعيد
ي يرى ديمومته المشروعة ،وهيمنته في إبقاء الذات غير آبه بمعارضة جهاز ثقاف ّ
مغمضة العيون ،مشلولة الرغبات ،فاقدة قدرة البوح والحياة..
هذه هي علقته مع ذات الفرد .وأثر ولدته (حديثاً) على هذه العلقة.
لكن هذه الذات لم تكن ذاتاً من كوكب آخر كما هو واضح ،بل هي ذات موجودة في
مجتمع متشكل من عدد هائل من الذوات التي تشترك فيما بينها في انتمائها لمرحلة
من التخلف والصمت والظلم والل إرادة .فنزار لم يتحدث عن ذات مقموعة قرأ
عنها ،بل ذات مقموعة موجودة حوله ،وداخله ،وداخل أسرته ومحيطه الثقافي.
واختياره للذات لتحريرها لم يكن ليختزل في ذات عابرة متنقلة من جماعتها .إنها
الذات النموذج .وذلك من أهم ما قد يكون من طموحات الفنان المبدع ،أن ينمذج
الواقع ،ويكثف العداد في عدد واحد له مواصفات المجموع كلها ،ويغني الكلم
عليه عن الكلم على آلف العداد غيره.
الذاتُ المقموعةُ ،المكبوتةُ ،المتوترةُ ،المتأزّمة ،التي أبدع نزار في الجدل معها ،هي
ذاتنا جميعاً.
ل من نفسه قد يختار الديب أن يتحدث بصيغة (أنا) عن ظاهرة الطغيان ،جاع ً
نموذجاً لطاغية ما .هل يحق لنا هنا أن نقيم تطابقاً بين مفهوم الطاغية ،وشخصية
هذا الديب؟ بحيث يخرج الديبُ طاغيةً؟
نزار فعل ذلك مرات ومرات ،وفي كل مرة كان يحاكم من قبل جمهورٍ عابرٍ ،أو
نقدٍ جاهل ،على أساس أن ما يقوله نزار عن ذاته هو معلومات شخصية عنه
تستدعي محاكمته ورجمه..
ذلك إسقاط لوظيفة الدب ،ومهمة الشعر هنا ،في أن يقوم بقراءة جميع التفاصيل
المبثوثة عبر ثنيات الحياة ،ثم يستخلص من مجموع قراءته نموذجاً يخاطبه،
ويتحدث بلسانه ويفجر أعماقه ويستدرج أزماته إلى حلبة الصراع لتخوضه بحرية
لم يحققها لها شاعر كما حققها نزار .الذي استطاع رفع الغطاء الجتماعي
والخلقي والنفسي والعاطفي ..عن وجوه الذات العربية ،بالطريقة التي تحوّل هذا
الغطاءَ من مشكلة يتداولها المثقفون وأهل الختصاص ،إلى مشكلة ذات طابع
جماهيري يكتشفها القراء ،ويتلمسون خطورتها ،وتتسرب في وجدانهم بحيث تغدو
هماً مجلواً مفضوحاً يومياً.
إن الدور الذي قامت به قصيدة نزار قباني في هذه النقطة ،هو دور يجب التركيز
عليه و الحاطة بأهميته .إنه لمرٌ معقّد أن يستطيع الشاعر القبض على وجدان
الذات الجماعية وأخذ هذا الوجدان إلى البؤر الملتهبة من المعاناة ،التي استأثر
بالحديث عنها المثقف ،والمفكر ،والباحث الختصاصيّ ،وربط هذا الوجدان بطريقة
خفية بهذه المعاناة ،لن من حقه أن هو أن يعيها ويعمل على دراستها ورصدها،
للوصول إلى لحظة اكتشافها بشمولية مقنعة ،من أجل التغلب على أسبابها ،وحلها
كأزمةٍ حتى لو على صعيد الدراك والمفهوم ،لن إدراك أزمة الذات ،فردي ًة كانت
أم جماعيةًَ ،وامتلك تصور كلي عن هذه الزمة ،سيفضي ،على الصعيد السّلوكي،
والجتماعيّ والسياسيّ ..إلى تغيير في المواقف وتطوير في العلقات.
ول نغالي إذا ادعينا أن قصيدة نزار قباني فعلت في القاع الجماهيري ،ذواتاً
وجماعات ،فعلً خلقاً في تنمية قدرات هذا القاع على بلورة موقف شعوري ،أو
لشعوري ،،من مجمل المشكلت التي يصطدم بها القاع ،على مختلف انتماءات هذا
القاع ،فكرًا ووعياً واجتماعاً…
من الصعوبة بمكان اجتزاءُ مقط ٍع من المشهد الشموليّ الذي تتصاعد فيه قصائد
نزار قباني ،لتقديم هذا المقطع /الجزء على أنه الشاعر كله .فالشاعر (كلّه) غير
حصْر والتعيين ،بل هو مبثوثٌ على أكثر موجود بهذه الطريقة وحدها على وجه ال َ
من صعيد مشتّت كما لم يتشتت إل قلّ ٌة من الشعراء غيره ،متناقض فيما بين واحدة
النّار والماء ،ويضع عينًا على النهار ،وأخرى في الغسق .وهو بنفسه ل يعترف
بجدوى تجزئته واقتطاع عناصر جزئيّة من عالمه ،أو اختزاله إلى وجه ما ،لنه
حقّا ل يُختزَلُ.
وقد كتب قصيدةً يحتفي فيها بتناقضاته ((تناقضات ن.ق الرائعة)) وله قصيدة
بعنوان ((شيزوفرينيا)) وقصيدة بعنوان ((اعترافات رجل نرجسي)).
وهي قصائد يفصح فيها الشاعر عن لحظات من الصّدق الجارح والكشف لسرار
الشخصية وتقلباتها .لنه يحمل في طيات هذا الشعر إنساناً هو نتاج تاريخ طويل من
التناقض وعدم الستقرار .ونزار قباني تجرّأ فقدّم هذا النسان بصبغة أنا المتكلّم.
بينما في الحقيقة يمكن أن يكون هذا النسان قارىء القصيدة نفسه ،بل هو أسلوب
فنيّ مخاتلٌ يوقِ ُع القارىء في بقعة من العتراف بأعماقه بصوت واضح .لهذا
لتميل إلى اعتبار ما يكتبه نزار مذكرات شخصية تخصه وحده ،بل إنه يتخذ صفة
الراوي ليتحدث بلسان الرجل ،أو المرأة كذلك بصدق ل نبالغ عندما نصفه بأنه
جارح ،بل فاضح ،إلى درجة أننا نهرب ممن العتراف به ،ونختزله إلى مشكلة
تخص الشاعر وحده ،والحقيقة كما أشرنا أن نزار (يُنمذِج) هذا النسان المأزوم،
ويتكلم بلسانه.
إن الشعر والفن عموماً ليس تأريخاً للمسيرة اليومية التي يمر بها الفنان بل هو
خطاب جمالي ذو أساليب مختلفة ،وليس بالضرورة بل ليس ممكنًا أن ندين شخص
الفنان إدانةً مسلكيّة لتجرّئه على العتراف بصفات الذات النسانية وتقلباتها وكذبها
وخيانتها لنفسها ولحقيقتها .وإل لتحوّل الدب إلى ملفات نحاكم من خلل حيثياتها
الفنانين والمبدعين ،فإذا كتب الفقير عن الحلم النبيل والقمر الفضي والجنة الذهبية
والمخمل ،اتهمناه بالكذب ،وإذا كتب الرستقراطي عن مشاعر الطبقة الدنيا ،اتهمناه
كذلك بخيانة منطق طبقته والدعاء بما ليس فيه .إن الدب ليس نقل الحياة من ثقب
ل للدانة الشخصية.إبرة ضيق ..وليس مجا ً
من هنا ،قام نزار بتقديم ذات هي منتشرة فنيا ،متشكّلة بأثرِ التّاريخ والمجتمع ،ولم
يقدم شخصَ ُه هو في الشعر.
إن مثل هذا الرأي يساعدنا كثيراً في فهم نزار وقراءة شعره عبر وضع تناقضاته
موقعها السليم .فمن خلل كون نزار هو الفراز التاريخي الطبيعي لثقافتنا وذهنيتنا،
نتفهم مجمل التقلبات في الرؤى النزارية حول نفسه هو ،وحول المرأة والحياة
وأشيائهما ،فنزار لم يأت ممن خارج الذات التاريخية لشخصية عربية ثقافية تتمتع
ضعًت عبر تاريخ ليس هادئًا ول منسجماً ،خلق بمجموع مواصفات تبلورَت ،أو تمو َ
نموذجَ روحٍ قلق ٍة على مصيرها ،مقهورة في قاعها العميق ،مشوشة في نظرتها إلى
كل شيء ،وهو قلق هائل ،موجود رغم كل مظاهر التسليم المعلن عنها عبر
ل هذا التاريخ من التوتر والنفصام والنقسام والتشظي والتناقض، التاريخ .فلفم يخْ ُ
إيجابًا وسلباً .تاريخ ارتسمت كائناته على الصورة التي اختصرها شخص الشاعر
نزار .مضافًا إليها الوضعية الخاصة للمبدع والشاعر الذي هو أصلً غير منسجم
مع محيطه ول متصالح مع العالم .إن التصالح في هذه الحالة شكل من أشكال
الخيانة ،لذلك :لبد من التصالح مع التناقض ..من قبيل القرار بتناقض جوّاني
وعدم أمان…
إذاً ،لينسى نزار أنه ولد ورث ثقافة هذا التاريخ التي أشرنا إلى ما فعله في
شخصيتنا .مما سمح له أن يراوح بين عدد من المفاهيم المتناقضة المبثوثة عير
قصائده..
ولنأخذ مثالً ،علقته بالمفهومين المتضادين ظاهريًا على القل( :الحضاري) و
(البدوي) .وما بعنب ذلك من تضاد بين عددٍ ممن السمات المنضوية تحت كل
مفهوم.
(الشفافية /القسوة) (النظام /الفوضى) على سبيل التمثيل.
وتكاد هذه اللحظة الجامعة بين الحضاري والبدوي ،كمفهومين كبيرين ،تشكل أهم
لحظات تجربة نزار الوربية .عندما اختار بشيء من الرادة وكثير من القهر
النفسي أوربا مكاناً للقامة فدخل هذا المكان كمفهوم ثقافي واجتماعي وحضاري
شامل في مكوّنات خطاب هذا المكان على لغة الشاعر القادم من خطاب آخر ،إن لم
يكن متناقضًا بالضرورة مع الخطاب الول ،فإنه حتماً مختلف أشد الختلف،
متباين أوضح التباين ،لصالح الخطاب الثقافي الوروبي طبعاً .وهذه ظاهرة تدخل
في إطار العلقة بين العربي والخر الوروبي التي غالباً ما ينظر إليها من موقع
الصدمة الحضارية ،والنبهار بالخر
ومستوياتِه على الصعدةِ جميعها ،بما يشمل ذلك من طبيعة العلقة بين النسان
والنسان ،وبينه وبين الطبيعة ،بين الذكر والنثى.
فكان أن عبّر الخطابان عن علقة الخلل بينهما .وقد عبّر المثقف العربي كثيراً عن
هذه العلقة ،عبر الدراسة ،والبحث ،والدب الروائي والقصصي .ولكن في الشعر
كان الشاعر نزار أهم من جعل من شعره حاملً فنياً جمالياً لهذه الظاهرة الحضارية
المعقدة.
وقد أشرنا في مكان آخر ،إلى الفضيلة الكبرى التي يمتاز بها نزار ،شاعراً .وهي
قدرته الل متناهية على تحويل اله ّم والهاجس الفكري المعقد إلى هم ذي طابع
جماهيري يتغلغل عبر أحاسيسهم ويتشبعون به ويتمثلونه .أي أن نزار بعفوية يحسد
عليها ،ودون تعقيدات الطبقة المثقفة والطليعية ،أعطى الجماهير حقها في أن تعرف
مشكلتها النفسية والجتماعية ،خاصة مسألة الكبت النفسي والخلقي بوساطة
الشعر.
وفي هذا السياق يأتي تعبير نزار عن العلقة مع خطاب الثقافة الوروبية ،وتناقض
الذات مع ذاتها ،تعبيرًا ذا وزن شفّاف يناسب طبيعة الشعر الذي يمارسه هو من
موقعه شاعرًا للجميع..
ولن نزارا جاء أوربا وفي مشروعه الكبير تكمن المرأة العربية بإشكالتها
التاريخية والعاطفية ،ووضَعَ هذه الشكالية (عبر القصيدة طبعًا كما أشرنا) في قلب
الصراع مع مفهوم أوربي مختلف أشد الختلف ،على صعيد المرأة ومكانتها
ودورها وفاعليتها وحريتها .برزت المرأة مرة أخرى كاختيار يتعرض له الشاعر
لثبات مدى صلته بالجمال والحرية والنفتاح على الفضاء.
جاء نزار ،ووراءه ثقافة تخاطب المرأة بكثير من التهميش والتبعية والمتلك على
أنها بضاعة ،سلعة تخضع لقوانين السوق والشارع التجاري بمنطقه المادي
والنتهازي.
ل كثيرٍ من مشكلت النسان، جاء إذاً ووراءه تلك الثقافة وأمامه ثقافة تمكنت من ح ّ
بما في ذلك المرأة ,و نقلتها إلى المعنى الحضاري الكريم ,أي ثقافة نفضت فيها
المرأة رماد تخلفها و كسرت الحاجز بينها وبين جنة الرض وجدوى العمل
والحرية..
على أنه من المفترض أن يجد الشاعر في أوروبا ضالته المتمثلة في امرأة حرة،
أنثى حضارية ،منفتحة ،،تبتكر حاضرها وتطالب بحقوقها وترحل إلى مستقبلها بثقة
وطموح وأمان.
أليست هذه المرأة التي يدعو إليها شعر نزار ؟ تاريخها هي كذلك ،تنتمي لمشاكلها
وتعانيها ،وتتبصر الطريق إلى خلصها من داخل هذه اللحظة التاريخية ل من
خارجها .فأنثى نزار أساساً بنت ألف ليلة وليلة ،وبنت نصوص العشق ،والطغيان،
والفقه ،والتقاليد السوداء والخضوع والعبودية .أنثاه التي انتمى إلى فضائها ،هذه
هي ،وهي نفسها التي اجتهد عبر عمره على تحريضها وصياغة أزماتها ،مقترحاً
لها بدائل جمالية سعى إلى تعميقها وتكريسها كعادات شعرية يمكن عبر تراكمها في
وجدان القراء ،واستمرارها وإذاعتها عبر قنوات العلقات النسانية ومفاهيم
البسطاء من الناس ،أن تمتلك القدرة على إنتاج حالة حضارية مقبولة تسم المرأة
النثى وتساعد على تفريغ أعماقها من عقدها وأزماتها.
فماذا تشكل أوربا على هذا الصعيد لدى الشاعر؟ أوربا المجتمع المدني ،فردوس
للمرأة ،ولمجمل حرياتها العاطفية والقتصادية والجنسية.
لكن أوروبا ستحرض الشاعر على الحساس أكثر فأكثر بالفجوة الحضارية بين
المرأة العربية ،كجزء من مشكلته الثقافية ،والحداثة الوربية.
وسوف يقف الشاعر أمام منعطفات عديدة فتارة سيجد النثى الحضارية التي يبحث
عنها ،وسوف يكتب عنها كما لم يكتتب عن المرأة الدمشقية مثلً .فهنا يجد نفسه أمام
امرأة تستمع إلى ((شوبان)) وتشاهد متحفاً ،أو معرض رسم ،وتحضر حفلة شاي
الساعة الخامسة ،وتلعب ((البريدج)) أي أمام امرأة تعيش نبض العصر بشغف،
متخففة نوعًا ما من الزمات الحادة و الفصامات و العصابات التي تعصف بنفس
المرأة العربية في ظل شروطها التاريخية المتراكمة.
ولكنه في مرة ثانية لن يجد هذه المرأة العصرية ملئمة لحقيقته كعربي ذي ذهنية
حادة عصبية مزاجية متقلبة صحراوية بدوية (وكلها صفات ترد في شعره على أنها
صفاته ،ل كنزار قباني الشخص ،بل نزار كنموذج في مواجهة حياة في لندن أو
باريس).
وهنا سيرى نفسه هذا النموذج مشدوداً بحبل سرّي إلى أعماقه الولى المتشكّلة
هناك ،في مناخ ((جميل بثينة)) و غزليات ((امرىء القيس)) والقهوة المرة
وإيقاعات البحر الطويل ،وهو عندما يستدعي هذه الرموز التاريخية ،ل لكي يتناولها
بصورة متعمّدة مسيئةٍ ،حتى وإن كان سياقُها التّعبيري يوحي من الظاهر بذلك
المعنى التهكمي ،لكنه يستدعيها لتكون دالّةً على جملة مواصفات طبعت جزءاً كبيراً
من رؤية العربي لشؤون الحب والجسد والمحرمات فهو يوظف هذه الرموز من
جهة ما توحي به فقط .فكيف إذاً تنسجم هذه الشخصية مع حب امرأة مغزولة
بأصابع ((بيير غاردان)) أو ((فالنتينو))؟
ليست المسألة ذات لونين ،أسود/أبيض ،أبداً ،فالشعر ل بعمل في هذه المنطقة
المقسمة بمنطق ثنائي فجّ .بل علينا ،نعود هنا إلى ما أشرنا إليه من أن نزار شاعر
خلق في قلب المشكلة وتمثلها وقد تسللت تمظهراتها عبر كتابته أحياناً ،مع رفضه
لها .بمعنى ،أن نزار عندما يترك لحظة البدوي تعبر عن نفسها في (بار) انكليزي،
فليس من أجل التباهي ببداوته ،بل كان القهر والحباط هما غالبًا ما يظهران ،أو
يختفيان وراء هذه اللحظة المفارقة ،إنه يحارب هذه اللحظة عبر تبيانها وشرحها
وعرضها على الضوء الكاشف بسطوع يترك أسرار المتلقي تهتز وتنتهك ،مذكرة
هذا المتلقي أن البدوي الكامن فيه ،يمد رأسه من حين إلى آخر في أشد لحظات
علقته مع العصر .إذاً ل يمكن أن نصدق أن البدوي كمفهوم اجتماعي متأخر ل
يمثل حاجة حديثة سيكون حاضرًا في خطاب الشاعر حول امرأة انكليزية ،أو مع
امرأة تشربت حضارة العصر وتشبعت بالمدينة والحريات على أشكالها.
إن هذا البدوي جزء من معاناة الشاعر ،والشاعر هنا هو ليس شخصاً يتعلق بإنسان
اسمه نزار قباني ،بل هو نموذج للعلقة بين العربي والثقافة الوروبية وليس غريباً
على وعينا ذلك المفهوم الملتبس في هذه العلقة عندما يزدوج الموقف أمام هذه
الثقافة الوروبية .فنحن نتعاطى معها ولكننا لنوفر فرصة النقضاض عليها
ونهشها بالظافر و تفتيل الشوارب أمامها.
مع هذا ،فإن هذا البدوي قد يمثل رمزاً لحالت إنسانية عفوية صادقة شهمة كريمة
نبيلة ،تؤسس جانبًا من ضمير النسان العربي في علقته مع مادية الحضارة
الوروبية .وذلك البدوي هو بالضبط ما يستدعيه نزار قباني كذلك في لحظة الحوار
مع جسد وثقافة المرأة ،في المكان الوروبي.
فمن جهة هو جز ٌء من العاقة ،ومن جهة هو الصورة العاطفية المتوترة والصادقة
أمام حالة البرودة والثلج والجمود والفراط في ( التيكيت) المحاصر للحرية
الروحية الجوهرية التي تحتاج أحيانًا إلى فضاء وحشي طبيعي.
هذه هي الزمة وقد تشخصت بالضبط :الصراع الحاد الداخلي الذي ارتفعت
وتيرته في الشاعر ،بين حضارة وطبيعة .بين بداوة ومدنية بين حرارة وبرود ..الخ.
بين جسد يخضع للبرمجة عبر دقائقه و ثوانيه ،وجسد هو الذي يبدع ،ببروق
أعماقه ،أزمنته على هواه.
وعلى ما يبدو كان لبد من وجود هذا الصراع ،بل كان يجب أل يجد طريقه إلى
الحل ،لنه يمثل أس الشخصية المركبة التي نتحدث عنها .فمن المحال النحياز إلى
أحد هذين الجانبين .فل يمكن أن يكون الشاعر ((طبيعياً)) بالمطلق ،ول ((مدنياً))
بالمطلق ،وهو في صدد العلقة مع المرأة في هذا المكان .فهي علقة ل تخضع
للبرنامج الثابت .ولينظمها قانون مستقر بعناصره ومبادئه .وهي العلقة الطبيعية
التي تنتاب الذهنية المقهورة للنسان العربي المتمزق المتشظي بين سلطة الماضي
الثقيل ،وطموح المستقبل الغامض .ولبد أن تعكس هذه الذهنية أداءها على جميع
مستويات الحياة التي يتمثلها النسان .إذاً نؤكد مرة أخرى أننا ل نستقرىء هذه
الظاهرة ،والتناقضات الناتجة عنها ،بل إننا نحاول استنباط ما اتخذ منه نزار نموذجاً
للنسان العربي أمام المرأة المعاصرة.
لشك أن الحضارة ل تتجزأ ،وأن الحداثة عملية شموليةٌ تصيب حتى النظرة العابرة
إلى أدق الوقائع والشياء .ولكن هناك في النسان لحظة سرية يفلت فيها وحش
(الطبيعة) داخله ،منسحبًا من جميع (الثقافات) ساعيًا إلى الحرية الولى المفقودة
والتي أصبحت مع مرور الزمن تشكل مادة لحلم جميع المبدعين والفنانين.
ولنها حلم إنساني ،إبداعي ،يمارسه فنان ،فسوف يكون حلمًا من قلب المخيلة
البداعية التي تبني كوناً جميلً ،وتقيم معماراً جمالياً أساسياً .لهذا لن تكون هذه
اللحظة الوحشية الولى ،الطبيعية عند الشاعر ،حاضرة بمعناها الحقيقي أو
المسلكي ،لكنه سيدخلها إلى مختبره الجمالي ،،مسبغًا عليها الروح والناقة .وهنا
يكمن جزء مهم ممن مسؤولية المبدع ،عندما يزاوج بين اللحظتين الساسيتين اللتين
تبنى عليهما روح النسان الطبيعي .وهما لحظتا المدنية ،والوحشية .ولشك أن
البداع يعطي هذين المتناقضين فرصة اللقاء السليم ،حتى ل يتحول النسان إلى
طاقة مهدورة..
وقد زاوج نزار قباني بين هاتين اللحظتين بمهارة نادرة ولسيّما عندما كان المكان
ينتقل عنده من هوية عربية إلى هوية أوربية متخذًا من ((الحب)) هذا المطلب
ل لهذه المزاوجة.
النساني الذي ينتقل على تخوم الغريزة والثقافة معاً مجا ً
وكانت نبرة نزار تمثل الصورة الصادقة والعفوية ،لهذه الحالة
فيه المتناقضات .وقد استطاع نزار كونه شاعراً للجماهير المقهورة أن يستنطق
بأدواته الشعريةـ بما في ذلك إحساسه العميق والناقد إلى المشاعر طبيعة العلقة
المعقدة التي يعيشها النسان مع أنثاه في ظروف اجتماعية ونفسية مأزومة.
فكان ليترك اللحظة البدائية ،تقود السلوك النساني مع الخر ،ول يتباهى بأن
يغرق في نور الحضارة كلياً بالصورة المزيفة .لن في المرين ،كل على حدة،
تشويهاً للحقيقة ،هذه الحقيقة التي فحواها أن المشاعر الدقيقة مؤسسة بأسلوب
متداخل يسمح لمجمل العناصر المتنافرة أن تتصالح.
-ل أحد منا يستطيع أن يدخل أبواب الشعر العربي الحديث دون أن يجلس على
طاولة شاعر كبير مثل نزار قباني شغل القراء أكثر من نصف قرن فهو الشاعر
المتمكن الذي طرح مواضيع مختلفة في شعره أدهش كل من قرأ له حتى أنه كون
قاعدة جماهيرية كبيرة ولم يكن جمهوره فقط من النساء كما يعتقد الكثيرون ولكن
شغل البال الرجال والشعراء الذين قرؤوا شعره وأنصفوه فقد كتب نزار قباني
الشعر صغيراً وقد كانت بداياته بمواضيع جريئة قوية تخص الدخول في الكثير من
الجزيئات التي تتعلق بالمرأة وربما كان له أسبابه في هذا لكن بعد نكسة حزيران
1967أخذ نزار قباني يتجه في شعره إلى منحى ثان فخرج إلينا يلبس حلة جديدة
التزم فيها قضايا أمته العربية وهمومها التي أثرت فيه أيما تأثير فاستطاع بإبداعه
الكبير أن يطرح مشكلت المواطن العربي وهمومه وطموحه إلى الخلص من
الستعمار وقلما نجد مدينة عربية لم يكتب فيها شعراً جميلً سحرنا نحن القراء
فنزار قباني يهاجم القراء الذين أنكروا شعره الغزلي وهاجموه وتقولوا عليه فهو
يحاول أن يثبت لهم براءته يقول:
..ويقول عني الغبياء / :إني دخلت الى مقاصير النساء ..وماخرجت /ويطالبون
بنصب مشنقتي /لنني عن شؤون حبيبتي ..شعراً كتبت /أنا لم أتاجر -مثل غيري
-بالحشيش ..ولسرقت /.ول قتلت /إذاً فهو يدافع عن شعره بقوة لنه يكتب الشعر
العربي فهو لم يقترف ذنبًا خطيراً مثل غيره من المجرمين الذين لرقيب عليهم
.وربما كتب باكراً عن اليهود الذي زرعوا حنجراً في خاصرة المة العربية فكتب
قصيدة بعنوان (قصة راشيل شوا رزنبرغ) عام 1955يقول فيها :
جاؤوا الى موطننا المسالم الصغير /فلطخوا ترابنا /وأعدموا نساءنا /ويتموا
أطفالنا /ولتزال المم المتحدة /ولم يزل ميثاقها الخطير /يبحث في حرية الشعوب
/وحق تقرير المصير /
فهو يعترف أن المصائب التي حلت بالوطن العربي حولته من شاعر عربي الى
شاعر ثائر يكتب بدمه .
يقول :ياوطني الحزين /حولتني بلحظة /من شاعر يكتب الحب والحنين /لشاعر
يكتب بالسكين ./
فنزار قباني كان شاهدًا على كثير من الحداث التي حلت بالوطن العربي فهو
يعترف بالهزيمة في نكسة 1967لننا لم نكن جاهزين للحرب ولننا لم نعد العدة
فالحرب تحتاج الى عزيمة واصرار ل أن ندافع عن حقوقنا بالهتافات والصراخ
يقول:
إذا خسرنا الحرب ،لغرابة /لننا ندخلها /بكل مايملكه الشرقيّ من مواهب الخطابة
/بالعنتريات التي ماقتلت دبابة /لننا ندخلها /بمنطق الطبلة والربابة ./
فنزار قباني كان من الناس المحبين للوحدة والمرحبين بها ولكن النفصال أحزنه
وجعله يائساً من تكرار المحاولة التي قامت بها سورية مع مصر فهو يعترف بأنه
لول النفصال لما قدر علينا الحتلل .يقول:
لوأننا لم ندفن الوحدة في التراب /لو لم نمزق جسمها الطري بالحراب /لوبقيت في
داخل العيون والهداب /لما استباحت لحمنا الكلب ..
فالشاعر غاضب جداً من جيله الذي ألف السكوت على الهوان فأراد أن يكون هناك
جيل في المستقبل يستطيع أن يفعل مالم يفعله أبناء جيله فهو يحدد طبيعة هذا الجيل
يقول :نريد جيلً غاضباً /نريد جيلً يفلح الفاق /وينكش التاريخ من جذوره /وينكش
الفكر من العماق /نريد جيلً قادمًا مختلف الملمح /ليغفر الخطاء ليسامح
/..نريد جيلً رائداً ،عملق /..
فنزار شاعر ثوري يرغب أن يفعل العرب شيئاً اتجاه اليهود الذين تسربوا الى بلدنا
كالجراد فأخذوا ينشرون الموت والفساد بعد نكسة حزيران لذلك فهو يتألم لحالنا
المزري يقول:
حرب حزيران انتهت /..فكل حرب بعدها ،ونحن طيبون /..أخبارنا جيدة /وحالنا
-والحمدل -على أحسن مايكون /..وصوت فيروز /من الفردوس يأتي «/نحن
راجعون » تغلغل اليهود في ثيابنا /و« نحن راجعون » /صارا على مترين من
أبوابنا /و«نحن راجعون» /ناموا على فراشنا /..و«نحن راجعون» /وكل مانملك
أن نقوله «/ :إنا الى ال لراجعون » ..
ثم يخاطب نزار شعراء الرض المحتلة وهوليملك ال أن يتحدث لهم عن هزائم
العرب المتوالية وكيف نحن العرب لنملك إل اللهو واللعب يقول:
مازلنا منذ حزيران ..نحن الكتاب /نتمطى فوق وسائدنا /نلهو بالصرف وبالعراب
/يطأ الرهاب جماجمنا /ونقبل أقدام الرهاب /نركب أحصنة من خشب /ونقاتل
أشباحًا /وسراب .ثم يعود نزار فيصف لنا حالة العرب غير المكترثين لما يحصل
ولما يفعله اليهود وكأن المر ليعنهم فهم مشغولون بأمورهم التافهة التي حجبت
عيونهم عن ضوء الحقيقة المرة يقول:
مازال يكتب شعره العذري قيس /واليهود تسربوا الفراش ليلى العامرية /حتى كلب
الحيّ لم تنبح /ولم تطلق على الزاني رصاصة بندقية ..
ثم يعود في نفس القصيدة ويصف لنا حالة العرب وشعور الناس بعد القصف الذي
طال مدنهم ولم يبق على شيخ ولطفل ولامرأة والكل غير مكترث .
الشمس تشرق مرة أخرى /..وعمال النظافة يجمعون أصابع الموتى /..وألعاب
الصغار /الشمس تشرق مرة أخرى /..وذاكرة المدائن مثل ذاكرة البغايا والبحار
/الشمس تشرق مرة أخرى /وتمتلئ المقاهي مرة أخرى /ويحتدم الحوار./
فنزار لم يترك مدينة عربية منكوبة إل وأرسل لها من عذب أشعاره يرثيها ويشجب
كل من تقاعس في الدفاع عنها يقول عن القدس :
ياقدس يا منارة الشرائع /ياطفلة جميلة محروقة الصابع /حزينة عيناك يامدينة
البتول /ياواحة ظليلة مرّ بها الرسول /حزينة مآذن الجوامع /حزينة حجارة الشوارع
/..من يغسل الدماء عن حجارة الجدران ؟ /من ينقذ النجيل ؟ /من ينقذ القرآن ..ثم
يخاطب بيروت بعد الحرب الهلية يقول:
ياست الدنيا يابيروت /قومي من تحت الردم ،كزهرة لوز في نيسان /..قومي من
حزنك ان الثورة تولد من رحم الحزان /..قومي إكراماً للنسان /إنا أخطأنا
يابيروت وجئنا نلتمس الغفران »..
ولكن رغم هذه الشعار الرائعة التي وبخّ فيها العرب الذين تقاعسوا عن رد العدوان
ل:إل أن المل كان حاضراً أيضًا في قصائده يقول قائ ً
ياآل اسرائيل ،ليأخذكم الغرور /عقارب الساعة إن توقفت /لبد أن تدور /إن
اغتصاب الرض ليخفينا /فالريش قد يسقط من أجنحة النسور /والعطش الطويل
ليخيفنا /فالماء يبقى دائمًا في باطن الصخور /هزمتهم الجيوش إل أنكم لم تهزموا
الشعور /قطعتهم الشجار من رؤوسها /وظلّت الجذور..
وأخيراً يتحدى نزار اليهود بالرجال والنساء والطفال الفلسطينيين وبأنهم سوف
يخرجونهم من كل مكان ليقاتلوهم ويطردوهم من الراضي الفلسطينية يقول :
رجالنا يأتون دون موعد /في غضب الرعد وزخات المطر /يأتون في عباءة
الرسول /أو سيف عمر /نساؤنا /..يرسمن أحزان فلسطين على دمع الشجر /يقبرن
أطفال فلسطين بوجدان البشر /نساؤنا /يحملن أحجار فلسطين الى أرض القمر :
أخيراً نقول :لقد استطاع نزار أن يعبّر عن وجدان كل مواطن عربي يبحث عن
الحرية وأن ينقل لنا بشعره وضع المة العربية آنذاك وذلك ردًا على من يقول أن
نزاراً شاعر المرأة فقط ..
عندما رحل نزار قباني عن عالمنا في الربيع مع عودة أسراب السنونو ,عن 75سنة
في منزله وسط العاصمة البريطانية ,ونقل جثمانه المشحون باللم السرية والعلنية
,في طائرة سورية خاصة ,ليوارى الثرى في مقبرة " الباب الصغير " بدمشق,
بجوار قبور الحبة من أفراد أسرته الكريمة...
كان الجسد النائم نوماً مرحلياً ,يتلشى بمرور السنوات ,في عتمة رطوبة التراب
الحزين الذي يتوسد عليه الشاعر ,ليتألق بعد رحيله ويسطع شعره المتميز ,دون
استئذان من الرقابات العربية المتشددة ,في فضاءات العالم العربي ,مع نسائم
الصباح الولى ,وفي ذاكرة من يتذوق شعره من القراء القدامى ,الذين عاصروا
وتابعوا بشغف ومحبة مسيرته البداعية المظفرة ,التي أوصلته دون شفاعة من أحد,
إلى ذروة القمة ,التي ليصل إليها إل أصحاب المقامات الكبيرة أمثال :عمر أبو
ريشة ,وبدوي الجبل ,وسليمان العيسى ,والجواهري ,والخضل الصغير.
وفي الوقت ذاته فإن أجيالً شابة وهرمة ,سيدفعها الفضول المعرفي الثقافي ,إلى
اكتشاف شاعريته النيقة ,التي أسست ما يمكن تسميته»المدرسة النزارية«التي
أخذت من اللغة الكاديمية منطقها وحكمتها ورصانتها ,ومن اللغة المحكية حرارتها
وشجاعتها وفتوحاتها الجريئة .فكان تراثه الشعري صفحة جديدة في ديوان الشعر
العربي.
كانت اللغة الثالثة هذه ,هاجس الكثيرين من الكتّاب والشعراء ,أمثال :يوسف
إدريس ,وحنا مينة ,وفارس زرزور ,وسعيد حورانية وتوفيق الحكيم ,وكان الخير
يسعى إلى تطويعها في كتاباته البداعية .كان الحكيم في( النثر) والقباني في(الشعر)
يجاهدان بقوة لحلل اللغة الثالثة ,أو اللغة الوسطى ,مكان اللغة المتقعرة الجافة.
وفي هذا الشأن يقول نزار قباني عن طبيعة خصوصية شعره:
-المجمع اللغوي ,ل علقة له بشعري ,ول المعاجم .الناس هم قاموسي الكبير .وإذا
أردت أن أتعرف عدد المفردات الجديدة في شعري ,فاسأل تلميذ المدارس
البتدائية .اسأل أولد الحارة.
إنك ستجدني في كل مكان .من نواكشوط ,إلى عدن ,ومن الدار البيضاء ,إلى
السكندرية .ومن قرطاج إلى بيروت .وباختصار أقول:إن كل فتوحاتي كانت
فتوحات لغوية" ..
نزار قباني ل يزال حاضراً بيننا ,بوسامته المعهودة وأناقته المريحة للنفس ,في
كهولتنا وما يتبقى من سنوات العمر الراحل ,كما حضر بقوة في زمن المراهقة
وسنوات النزاقة والغضب...
فالشاعر قد اقترن اسمه بنداء الحرية الواعية ,وبدعوته التي استهلكت عمره,
للتحرر من العقد النفسية التي تتحكم بالجسد والعقل والسلوك ,لذلك خاض معاركه
بشجاعة يحسد عليها ,فانتصر بعد أن أدمت سكاكين النقد جسده ,وكذلك آراء
المتزمتين ,ومعه انتصر الشعر العظيم ...وتبقى ذكرى الراحل الكبير ماثلة في
ذاكرتنا الجمعية دائماً ,في انتصاراتنا الوطنية ,وفي سهراتنا وفرحنا ,وكذلك في
أحزاننا الشخصية ,ولغرابة في ذلك فقد كان صوت عصره ,الذي نطق بصوت
عال عن المسكوت عنه في الحياة العربية .وعودة سريعة إلى قصائد الشاعر تثبت
صحة ما ذهبنا إليه.
1/5/2008 الخميس
جريدة الثورة السورية
ديب علي حسن
عشر سنوات على رحيل نزار قباني ..الشاعر الذي أضرم النار في هشيم اللغة فإذا
بالهشيم يتقد جمراً وينبت زرعاً جديداً كان له قصب السبق فيه ..عشر سنوات
وكأن الشاعر رحل بالمس لم يؤثر غيابه على حضوره ,بل ربما جعله الغياب أكثر
حضوراً وألقاً وبهاءً ,ما من مطبوعة عربية تعنى بالشأن الثقافي إل وتوقفت عند
هذا الرحيل في ذكراه ..بدورنا آثرنا أن نقدم شيئاً مختلفًا من تراثه الثر في اللقاءات
الصحفية كانت لنا هذه الوقفة مع حوار أجري معه قبل ما يقارب النصف قرن وفيه
يكشف الكثير من آرائه الفنية ..مجلة صباح الخير وفي عددها /270/الصادر يوم
9/3/1961م نشرت حواراً مع الشاعر نزار قباني أجراه معه الصحفي المصري
الشهير مفيد فوزي ونظراً لخطورة هذا الحوار وجرأة آراء نزار المطروحة فيه
نعيد نشر الحوار كما هو ,ودون تغيير أو تعديل وجاء تحت عنوان :رسالة دمشق-
مفيد فوزي -نزار قباني أنا مشغول بحبيبتي.
كيف الصحة..
قلت له :كنت أريد أن ألقاك في دمشق..فبحثت عن رقم تيلفونك حتى حصلت عليه
من شقيقك الدكتور صباح وطلبتك..
قال نزار قباني وأصداء ضحكته تصل أذني :ياسيدي ..أنا مشغول..
بحبيبتي!
عاد يقول :نعم حبيبتي ,هكذا بكل بساطة ,كل يوم أطعمها وأسقيها وأحمل لها الورد
والطيب والحلي لتتزين!
قال :حتى ليذهب بك الخيال بعيداً» ..حبيبتي« هذه اسم ديواني الجديد ..وحبيبتي
جميلة ..بعد أسبوعين سترونها ..وأنا أذهب كل يوم إلى المطبعة ..لطعمها
وأسقيها..
وضحكنا!..
قال وهو يتنهد :بيروت حبيبة قديمة لي ,حبيبة جميلة ,رقيقة ,وحساسة ..وبيني
وبينها خيط حريري ول أحلى!
هنا ..كل شيء يقول شعراً ,يتنفس شعراً حتى يتهيأ إلي أن أمشي على أرض
حجارتها شفاه تتكلم..
استطرد نزار يقول :أنا في لبنان أنام في جفون قصيدة ,وأعيش شعري كما لم أعشه
من قبل .إنني أتفاعل هنا مع كل شيء ..مع الموجة والنجمة والغيمة والصداف
الصغيرة التي تصلي كل صباح على أقدام شرفتي البحرية..
جاءني صوته يقول :كنت أكتب ..فأنا أكتب ,وأكتب يختلط دمي بدم أوراقي ,أكتب
في المقهى ,وأكتب في الطريق ,وأكتب في المطبعة ,وأكتب -حين لأجد الورق-
على أية غمامة تعبر سماء لبنان ..على أية قطعة ثلج تكسو جباله البيضاء ,الحروف
تنام معي ,وتصحو معي ,ولول مرة اكتشفت أن الحرف مخدة من الحرير..
سألته :ألم يوح لك جو بيروت بحب جديد? قال بصوته الرخيم :أنا في بيروت أحب
حبًا واحداً ..هو فني ,وهو أروع حب عشته حتى الن..
قلت له :بنات لبنان ,ألم يغيرن وجهة نظرك في المرأة الحديثة? قال بعد تفكير:
وجهة نظري في المرأة »الحديثة« لتتغير أينما ذهبت .إنها فقدت أهم ملمحها
كامرأة ..فقدت ياسيدي أنوثتها.
قال بحسم .إن كبرياء المرأة ليس إل ستارة تخفي وراءها أنوثتها لتزيد من »
شوقك« إليها ..لتلهب ..حنينك ..لها ..لتأسرك!
قال وضحكاته يصل رنينها إلى أذني :أنا لأحتقرها ..أنا أفهمها ..فقط!
قلت له :بالمناسبة ,هل قابلت ليلى بعلبكي قبل سفرها إلى باريس?
قال :عرفت ليلى بعلبكي وأعجبت كثيرًا بوحدة شخصيتها وطبيعتها الطلقة
المنسابة..
قال :أتردد على المقاهي التي تذكرني بأجواء باريس ,أي تلك المقاهي التي تندفع
كراسيها ومظلتها على الرصيف.
وفجأة قلت لنزار :سمعت أنك أرسلت قصيدة جديدة لعبد الوهاب وأريد أن أسمعها.
ضحك نزار ..وسمعته يقول لي :لتسمح لي أن أدخن سيجارة وأنا أحدثك..
-هذا صحيح ..أرسلت لعبد الوهاب حكاية! حكاية الرجل الذي يغفر للحبيبة الهاجرة
أخطاءها ..في قصيدة اسمها »تليفون«
واستجمعت أطراف خيالي الذي كان نزا ر قد سحبه مني ..وقلت له:
ما رأيك في آراء عزيز أباظة التي ذكرها للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عن
الشعر الحديث?.
-ياسيدي ,عزيز أباظة يذكرني بأهل الكهف الذين استيقظوا بعد نوم خمسمائة سنة
ليجدوا أن الدنيا غير الدنيا ,وأن النقود التي بين أيديهم ألغيت من التداول .وإذا كان
عزيز أباظة ليعرف شيئًا عن شاعر اسمه بدر السياب .
وشاعرة اسمها نازك الملئكة .فإنني أنصحه أن يرجع إلى سريره وينام!
وقلت لنزار :أريد أن أسمع منك أجرأ قصيدة كتبتها هذا العام..
قال نزار ..اسمها :الحب والبترول ,إنها تروي قصة فتاة تمردت على الرجل
الشرقي الجشع الذي يشتري النساء بماله ..وبتروله..
كغيري من خليلتك..
ول فتحا نسائيا يضاف إلى فتوحاتك
متى تفهم?
رمادا في سيجارتك
متى تفهم?
بأنك لن تحذرني
بجاهك أو إماراتك
بنفطك وامتيازاتك
متى تفهم