Académique Documents
Professionnel Documents
Culture Documents
الصغير الزكراوي*
تمر تونس منذ ما يفوق سبع سنوات بفترة فارقة من تاريخها .فاألزمة
االقتصادية تزداد حدة ،وفق ما تؤكده مختلف المؤشرات االقتصادية،
حيث تأكد االنكماش االقتصادي مرفوقا بتفاقمالتضخم المالي وارتفاع
التداين الخارجي الذي بلغ مستويات تنذر بالخطر .وزادت السياسة المرنة
لسعر صرف الدينار التي انتهجها البنك المركزي في تسريع وتيرة
التراجع في قيمة العملة المحلية مما هيأ األرضية المالئمة لالرتفاع
الجنوني لألسعار والنيل من تنافسية المؤسسات من حيث ارتفاع كلفة
التجهيزات والمواد األولية المستوردة،وعقد وضعية المالية العمومية.
ولمواجهة هذه األزمة المتعددة األبعادوالتي قد تعصف بالبالد ،لم تجد
الحكومات المتعاقبة من حل سوى إعمال الضريبة إلى حد اإلفراط مما
أفضى في نهاية المطاف إلى بروز مالمح سياسة جبائية على عالقة
وطيدة بإدارةاألزمات ،وال تندرج ضمن منوال تنموي واضح المعالم
بقدر ماهي تدبير عشوائي للشأن العام.
وتعتبر السياسة الجبائية مرآة تعكس اختيارات السلط العمومية وتفاعل
األوضاع السياسية واالقتصادية واالجتماعية داخل المجتمع .1وتعني
السياسة الجبائية في مفهومها الواسع جملة االختيارات التي تساهم في
تحديد خصائص نظام جبائي ما .2ووفق هذا التعريف ،تندرج ضمن
السياسة الجبائية ،اإلجراءات التي لها تأثيرا على نسبة الضغط الجبائي،
أو على توزيع العبئ الضريبي الجملي لمختلف أصناف الضرائب ،أو
القرارات المتعلقة بقاعدة أو تعريفات مختلف الضرائب.
*أستاذ القانون العام بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونسzakraouisg@gmail.com
1أنظر ،الصغير الزكراوي ،السياسة الجبائية في تونس :المالمح والمطامح ،المجلة القانونية التونسية ،2005 ،ص.153.
2
Castagnède (B.), -Les politiques fiscales et la crise en Union Européenne, http://lectures.revues.org/748.
-La politique fiscale française et la crise,Revue De Droit Fiscal,n 9, 1 Mars 2012.
1
أما في مفهومها الضيق ،فيقصد بها استعمال التشريع الضريبي لغايات
اقتصادية واجتماعية أو بيئية ،بمعنى أن الضريبة تستعمل كوسيلة من
وسائل السياسة االقتصادية لتحقيق أهداف ظرفية أو هيكلية .غير أنه في
اآلونة األخيرة ،بدأ يحل محل السياسة الجبائية مفهوم جذاب عرف
رواجا ،يتمثل في الحوكمة الجبائية La gouvernance fiscaleالذي
يندرج ضمن مقاربة تعتمد باألساس على تقييم نجاعة النظام الجبائي
وتأثيره على الفاعلين االقتصاديين .3ونميز عادة على المستوى الماكرو-
اقتصادي بين السياسة الجبائية الظرفية التي تهدف إلى إدارة النشاط
االقتصادي بواسط السياسة المالية والنقدية ،والسياسة الجبائية الهيكلية
التي تصبو إلى تغيير سلوك الفاعلين االقتصاديين لتجسيد أهداف
السياسات العمومية.
وتقوم السياسة الجبائية الهيكلية على إحداث أنظمة جبائية استثنائية
للقاعدة الجبائية العامة ،كإقرار حوافز جبائية سخية للمؤسسات التي
تستثمر في مجال التنمية الجهوية أو في مجال حماية البيئة ومقاومة
التلوث ،أو التهيئة الترابية ،أو في مجال تكنولوجيات االتصال.
وفي ظل احتدام األزمة االقتصادية ومحدودية البدائل المطروحة ،وبإيعاز
من المؤسسات المالية المانحة ،عملت الحكومات المتعاقبة على التسريع
بإجراء جملة من اإلصالحات المؤلمة من أهمها إصالح قطاعالبنوك
العموميةوإصالح المنظومة الجبائية قصد تحسين مردوديتها لتحصيل
مزيد من اإليرادات الضريبية ،والتلويح بخوصصة بعض المؤسسات
العمومية المتعثرة عسى أن تساهم مبالغ التفويت فيها في المحافظة على
توازنات المالية العمومية والتقليص من االلتجاء اآللي إلى التداين.
3
Sghaier Zakraoui, la gouvernance fiscale en Tunisie, les deuxièmes journées maghrébines de droit, colloque
sur,les mutations de l’action publique au Maghreb, faculté de droit et des sciences politiques de Tunis, les 15 et
16 Mars 2007.
2
تحت وطأة مختلف هذه اإلكراهات ،اكتسحت الجباية النسيج االقتصادي
واالجتماعي،وأحدثت ضرائب ومعاليم وأتاوات جديدة ومساهمات
ظرفية ،ووسعت قاعدة أخرى ،وتم الترفيع في نسب أغلبها .وغني عن
البيان القول ،بأن هذه االختيارات المثيرة للجدل ،تفضي باألساس إلى
إرهاق كاهل األشخاص الطبيعيين الذين تآكلت قدراتهم الشرائية ،وإثقال
كاهل المؤسسات بأعباء جديدة تزيد في الكلفة وتفقدها تنافسيتها مما قد
تعيقها على الرفع من مستوى النمو وفي طاقتها التشغيلية.
وعلى ضوء ما تقدم ،يثور التساؤل عن مالمح السياسة الضريبية التي
اعتمدها الحكومات المتعاقبة لمجابهة األزمة االقتصادية التي تعيشها
البالد؟
لإلجابة عن هذا التساؤل ،سنحاول في مرحلة أولى بيان ،أن السياسة
الضريبية المعتمدة للتصدي لألزمة ،هي سياسة ظرفية مرتهنة ،قائمة
باألساس عل هاجس المردودية( ،الجزء األول) ،آثارها وخيمة (الجزء
الثاني) ،في الوقت الذي تبدو فيه البدائل ممكنة (الجزء الثالث).
3
وفي محاولة للحد من اإللتجاء المفرط للتداين ،اختارت السلط العمومية
التعويل على المواراد الذاتية وخاصة الجبائية منها .وبتفحص قوانين
المالية المتتالية يتضح أن الهدف المالي وهو الهدف التقليدي للضريبة
يطغى على التوجهات العامة للسياسة الجبائية(أ) ،يقابله تهميش للهدف
االقتصادي(ب) ،وتغييب للهدف االجتماعي(ج).
ولتجسيد هذا الهدف المالي الذي أصبح هاجسا مزعجا ،سعت السلط
العمومية إلى توسيع قاعدة األداء ،والترفيع في النسب ،وهو ما ترتب عنة
خلل على مستوى توزيع العبئ الضريبي.
4
على مستوى توسيع قاعدة الضريبة ،تم بمقتضى الفصل 29من قانون
المالية لسنة 2018توسيع مجال تطبيق نسبة الضريبة على الشركات
المحددة ب %35ليشمل:
-2الترفيع في النسب
5
-نسبة التسبقة المستوجبة على واردات مواد االستهالك بصفة ظرفية من
%10إلى .%15
وإن الخصم من المورد آلية استخالص ناجعة توفر سيولة للخزينة العامة
على مدار السنة فإنه يضفي على النظام الجبائي طابعا تسلطيا.
-3تشديد الرقابة
6
وإحداث بموجب الفصل 33من قانون المالية لسنة 2017سلك خاص
يسمى" فرقة األبحاث ومكافحة التهرب الجبائي" أصبح يعرف
ب"الشرطة الجبائية" ،باشر العمل في مفتتح سنة ،2018ويمارس
وظائفه تحت إشراف الوكالء العامين لدى محكمة االستئناف .ويتولى
أعوان هذا السلك الكشف عن المخالفات الجبائية الجزائية وجميع أدلتها
بكامل تراب الجمهورية.
لم تفلح الحكومات المتعاقبة في صياغة سياسة متناسقة توفق بين مختلف
أهداف الضريبة مما أفضى إلى تهميش الهدف االقتصادي وتغييب البعد
االجتماعي.
8
إن السياسة الجبائية المتبعة خالهذه الحقبة ال تخلو من آثار بادية للعيان
ولمن يتابع الشأن العام.
ساهمت السياسة الجبائية التي تهدف باألساس إلى تعبئة الموارد لتغذية
ميزانية الدول إلى إحداث تغييرات على مستوى هيكلة النظام الجبائي
(ب) ،وفي إحداث إنخرام عل مستوى توزيع العبئ الضريبي (ج).
وقد أفضت سياسة الترفيع في النسب ،وهي سياسة الحلول السهلة ،إلى
ارتفاع نسبة الضغط الجبائي التي بلغت .%22وتعتبر هذه النسبة األعلى
من بينالدول اإلفريقية .وتزامن ارتفاع الضغط الجبائي مع تردي الخدمات
في جل المرافق العمومية.
يقوم النظام الجبائي التونسي على األداءات المباشرة ،التي تتكون باألساس
من الضريبة على الدخل والضريبة على الشركات ،واألداءات غير
9
المباشرة ،والتي تتشكل من األداء على القيمة المضافة والمعلوم على
االستهالك والمعاليم الديوانية.
وليس بخاف على أحد أنه ،لمعرفة مدى عدالة نظام ضريبي معين ،يجب
تفحص هيكلته ومقارنة مساهمة مختلف أصناف الضرائب في موارد
ففي البلدان التي تعرف تفاوتا طبقيا ،تكون نسب ميزانية الدولة.
الضرائب غير المباشرة في تمويل خزينة الدولة أرفع من نسب الضرائب
المباشرة .وتعتبر تونس من ضمن هذه البلدان.
10
ج-انخرام على مستوى توزيع العبئ الضريبي
اعتمدت السلط العمومية على الحلول السهلة لتعبئة الموارد الجبائية ،تتمثل
باألساس في إثقال كاهل المنخرطين في المنظومة الجبائية من أشخاص
ومؤسسات بمساهمات استثنائية تضامنية.
وإذا كان بإمكان المؤسسات أن تتحمل هذا العبئ االستثنائي ،فإن شرائح
بذاتها من الطبقة الوسطى لم تعد قادرة على تحمل مزيدا من األعباء
اإلضافية.
7تعتبر الضريبة أحد محركات التاريخ .فكل الثورات تجد بواعثها ومحفزاتها في الجباية .فانتفاضة علي بن غذاهم اندلعت سنة 1864بسبب
الترفيع في الضرائب وخاصة ضريبة اإلعانة التي تم الترفيع فيها من 36إلى 72لاير.
11
الجزء الثالث :من أجل سياسة جبائية مغايرة
12
بكل الوسائل الممكنة.فانخراط هذا القطاع في المنظومة الجبائية قادر على
تعبئة موارد تساعد على مواجهة األزمة .لكن القرار يحتاج فقط إلى
إرادة سياسية.
ويمكن كبح جماح هذه الشرائح المارقة وإرجاعها إلى رشدها بواسطة
ضريبة على الثروة .فمن بين وظائف الضريبة إعادة توزيع الثروة
بينشرائح المجتمع وفق مبدأ كل حسب طاقته الضريبية.
إن مردود مثل هذه الضريبة لن يحل معضلة شحة الموارد ولكن يكتسي
بعدا رمزيا تذكر الدولة عبر ه وجودها.
يعتبر هذا النظام معضلة النظام الجبائي التونسي .ففي ظله ،تخضع
المؤسسات الفردية التي تحقق مداخيل في صنف األرباح الصناعية
والتجارية في إطار منشأة واحدة للضريبة على الدخل حسب نظام تقديري
ضبط المشرع تعريفته .10وقد تحول هذا النظام على مر السنين إلى ملجأ
10يراجع الفصل 44مكرر وما يليه من مجلة الضريبة على دخل األشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات.
13
لكل من يرغب في التهرب من الضريبة .فيكفي لمن يريد االنضواء تحت
لوائه ،إلى التطفيف من رقم المعامالت أو التحايل على بعض شروطه
ليدفع مبلغا زهيدا ،والحال أن األداءات تكلف الموظف حوالي ثلث مرتبه.
إنها سياسة ضريبية ظرفية ،ومرتهنة ،قائمة على هاجس المردودية جعلت
من الضريبة األداة األساسية لمجابهة أزمة استفحل أمرها ،وتكون بذلك قد
عبدت الطريق إلرساء "دولة المجبى".
11تشكلت لوبيات داخل مجلس نواب الشعب وتصدت لفصول في مشروع قانون المالية تتعلق بإعادة هيكلة النظام التقديري.
14
إن تحميل الطبقة الوسطى التي تقلص حجمها الجزء األكبر من
التضحيات وإثقال كاهلها بالضرائب يهدد السلم االجتماعي ويقوض
االستقرار السياسي الهش.
المفارقة الكبري ،أن يتزامن إعالن "حالة الطوارئ الجبائة" ،غير المعلنة
رسميا ،مع تردي الخدمات في جميع المرافق العامة.
15
16