Vous êtes sur la page 1sur 36

‫قصة ‪:‬‬

‫من تأليف ‪:‬شيماء محمدي‪-‬‬


‫تونس‬

‫‪1‬‬
‫‪-١-‬‬
‫‪..../01/10‬‬
‫‪Théâtre de Renaissance-PARIS‬‬
‫*الفصل الثاني‪-‬مسرحية الموناليزا‬
‫ُفتح الستار األحمر على سيمفونية بيتهوفن‬‫ي‬
‫‪..‬يصفق الجمهور ‪..‬انارة الركح مسكونة‬
‫باألشباح و السّكر و السبات‪ ..‬والشخصيات تغط في‬
‫نوم عميق ‪..‬و االستفاقة ستكون بطيئة‪ ،‬مميتة و‬
‫قاسية‪.‬‬
‫يظهر النحاة في ورشته على هيأة المجنون ‪:‬لحية‬
‫كثيفة و شعر متشعث ينهي اللمسات األخيرة من‬
‫منحوتة "الموناليزا"‪..‬‬
‫ّ الطبيعة من خلفك تهتز كأسطورة‬‫‪-‬النحاة ‪":‬إن‬
‫ّ موعده مع النهاية‬
‫‪ ..‬إنسانك األخرق ال يوقن أن‬
‫قد حان ‪..‬و لكني أعلم ذلك ‪..‬أعلم أن جمالك‬
‫ّ هذه الكرة الجليدية تذوب و أنك‬‫كغضبك ‪ ..‬و أن‬
‫ستغمضين جفنيك عما قريب‪ ،‬سترهقين حقيقتك‬
‫‪..‬فانطقي أنت ‪..‬قولي لطبيعتك أن تهدأ‬
‫‪،‬فالثورة لن تجدي نفعا مع حيوان حان موعد‬
‫انقراضه ‪،‬ال يفكر في شيء سوى النوم على قبعة‬
‫ّة ‪..‬في الحقيقة‬
‫فقمة ‪،‬سوى إشباع رغبته المتعي‬
‫‪2‬‬
‫أنا أعرف أن ال‪ Rabbit‬هو األرنب بال ‪English‬‬
‫و أن ال‪ Apple‬هو التفاح و لكني لألسف ال اعرف‬
‫ُهضم التفاح ‪..‬أنا‬ ‫كيف يعيش األرنب و ال كيف ي‬
‫إنسان ‪،‬شكلي كهذا الكائن و لكن لألسف جسدك‬
‫يحرك هرموناتي ‪..‬أخبريها طبيعتك أن ال تغضب‬
‫‪..‬سآتيك بالشال الحريري الذي نسيته في مكان‬
‫آخر من ذات ذاك الحيوان‪"..‬‬
‫يخرج النحاة يغني‪..‬‬
‫يظهر الركح فارغا ‪،‬في الوقت الذي تتحرك فيه‬
‫بعض الصور المعلقة على الجدار ‪..‬و تتشخص‪.‬‬

‫‪-‬موليار‪(":‬مكبل بقيود و سالسل حديدية)انظر‼‬


‫(يشير إلى منحوتة الموناليزا)‪..‬إنها األخرى من‬
‫صنع بني اإلنسان ‪..‬يا ليتها تسلم الجرة‪"..‬‬
‫‪-‬دي فانشي‪(":‬مقيد في هيأة سجين ‪،‬يحمل في يده‬
‫فرشاة رسم و ألوان)‪..‬هذه األلوان كألوان‬
‫الجليد (يشير إلى وجه الموناليزا) جوكندا‬
‫أجمل بكثير ‪..‬ابتسامتها هادئة و في بعض‬
‫األحيان حزينة ‪..‬و الطبيعة من خلفها ماكرة‬
‫جدا‪(..‬يلون وجه المنحوتة)‪..‬كوكب ملغم‬
‫باألوهام‪ ،‬كل ما فيه جليدي و هم واهمون أنهم‬
‫قد استعادوا شيئا من الحقيقة و من الحياة‬
‫‪..‬سحقا لهؤالء الجرذان‪ ،‬فاحت منهم رائحة الجبن‬
‫المنقوع بالرذيلة و قد توسدوا الجليد واهمين‬
‫انه الجمال‪"..‬‬
‫‪-‬موليار‪":‬أتجمدت معبودتك معهم؟؟"‬
‫‪-‬دي فانشي‪":‬ستتحول إلى فتات‪"..‬‬
‫تفتح الموناليزا عينيها‪..‬‬

‫‪3‬‬
‫‪-‬الموناليزا‪" :‬ليونارد ‪..‬إني عاجزة عن‬
‫الحراك‪ ،‬الجبن رائحته عنيفة ‪..‬جد لي مخرجا من‬
‫فقاعة الفوالذ هذه‪"..‬‬
‫‪-‬ليونارد دي فانشي‪":‬ما أبشع وجهك و عينيك و‬
‫أنهارك ‪..‬أأنت حقا صورة مني؟؟"‬
‫‪-‬الموناليزا‪" :‬الطبيعة من خلفي ألوان من‬
‫الجحيم و من النهاية ‪..‬و أنا ألمي من صنع بني‬
‫اإلنسان ‪،‬بصري من صنعه و بشاعتي أيضا‬
‫‪..‬انظر(تكشف عن صدرها المشوه) إنها الجروح من‬
‫صنع بني اإلنسان‪"..‬‬

‫♣♣♣‬
‫وصل البريد الذي انتظر قدومه طيلة شهر و نصف‬
‫‪..‬لم يتمالك نفسه‪ ،‬جرى يلتقط الرسالة من تحت‬
‫الباب الخشبي حافي القدمين؛ نسي نعله و‬
‫جوربه‪...‬لم يشعر ببرد البالط ‪ ..‬يؤلمه شوقه و‬
‫ينسيه كل شيء في اآلونة األخيرة‪..‬‬
‫فتح الظرف و قرأ الرسالة‪:‬‬
‫بسم هللا الرحمان الرحيم‬
‫‪././.‬‬
‫أما بعد ‪..‬‬
‫قد تشعر بالوحدة و الضيق‬
‫قليال ‪،‬و لكن يا أخي هذه حال الدنيا ‪،‬ال تزعل‬
‫‪..‬فما من شيء في الكون يستحق‬
‫منك كل هذا اإلرهاق ‪ ،‬ما من‬
‫شيء يستحق أن تظلم نفسك من اجله ‪..‬اصبر‪..‬‬
‫و لكنه فجأة تذكر نعله ‪،‬شعر بالبرد و األلم و‬
‫بخبث الحياة ‪..‬آه يا حياة‼ ‪..‬تكمشت الورقة‬
‫و الجنون‬ ‫بين أصابعه من فرط الغضب‬
‫‪4‬‬
‫‪..‬ليست الرسالة التي جلس شهرا و نصف الشهر‬
‫خلف الباب ينتظرها صباح عشية لقد تم تزيور‬
‫شفرتها ‪..‬لم يدر ما يفعل‪..‬‬
‫جلس عند مكتبه أين تبعثرت أوراق ‪،‬و تمزقت‬
‫ّة كومة من السجائر أيضا ‪..‬كم‬ ‫أوراق أخرى ‪..‬ثم‬
‫دخن في الفترة األخيرة ‪..‬لقد دخن أعصابه‪...‬وضع‬
‫يده على رأسه ‪،‬شعر بالصداع المصاحب إلى كومة‬
‫من الحزن تنزل على قلبه توصده ‪..‬نزلت الدمعة‬
‫واألخرى ‪..‬إنه يبكي‼ أجل يبكي ‪..‬لم تأت‬
‫الرسالة التي ينتظرها‪..‬‬

‫آه منك يا حياة‼ لم جعلتني افرح بقدوم البريد‬


‫إذن؟؟‬
‫و لكنه فجأة تماسك ‪..‬حياة تكره دموعه ‪..‬تقول‬
‫أنه كسور بغداد ال يجب أن ينكسر ‪..‬هذا قبيل‬
‫سقوط بغداد ‪..‬و لكن بغداد سقطت ‪..‬‬

‫آه منك يا حياة‼ تقصدين إزعاجي و ابكائي دوما‬


‫و أنت تعلمين أني أكره ضعفي‪ ،‬أمقته كما أمقت‬
‫نفسي اآلن‪ ،‬أمقت كل شيء‪..‬‬
‫شعر بنار تشتعل بداخله‪ ، .‬لهيب من الالمعقول‪..‬‬
‫قام من مكانه كثور هائج داخل حلبة صراع ‪,‬‬
‫ّه مع الذات قبل كل شيء ‪،‬مع الهو ‪ ،‬مع‬
‫ولكن‬
‫الحياة ‪..‬يكسر قناني البيرة والكؤوس و‬
‫المرايا و نفسه المصنوعة من الكريستال الثمين‬
‫‪،‬كسر كل شيء‪..‬‬

‫‪"-‬بلى‼ أنت يا أختي ال تعلمين شيئا ‪..‬ال تشعرين‬


‫ّة الكثير ‪..‬الكثير الذي يتطلب‬ ‫بما أشعر ‪..‬ثم‬
‫إرهاقي كله و ظلمي كله و كبت أنفاسي حتى‬
‫اللحظة األخيرة التي ادخل فيها القبر‪"..‬‬

‫‪5‬‬
‫معها‬
‫صرخ حتى خار صوته ‪،‬و خارت قواه التي يجّ‬
‫منذ سنين ‪،‬و خار ثوره الهائج و لكن الشيء‬
‫الوحيد الذي لم يتزحزح هو ضعفه‪..‬‬
‫جلس على ركبتيه‪ .‬لم يشعر أنهما داميتان‪،‬‬
‫تدميهما شظايا الزجاج المكسور ‪ ..‬ال يجرحه‬
‫نه منهار و مهزوم تماما‪..‬‬‫الكريستال ‪ ..‬إّ‬

‫شهر و نصف و هو على هذه الحالة ‪،‬ال يخرج مطلقا‬


‫‪..‬حتىأرسل مدير عمله من يبحث عنه أكثر من مرة‬
‫‪،‬و مدير حزبه أيضا‪ .‬و لكنه لم يفتح الباب كما‬
‫لم يقدم اعتذاراته عن الغياب المفاجئ ‪..‬قد‬
‫يتم طرده قريبا ‪ ..‬و لكن ذلك ال يعنيه كما لم‬
‫يفكر فيه بقدر ما فكر في الرسالة التي توضع‬
‫تحت الباب ‪..‬ال يعنيه أن تتغير الشوارع في‬
‫تزاح كراسي الحديقة العمومية‬‫غيابه أو أن ُ‬
‫‪..‬لم يكن راضيا على طبيعة عمله منذ البداية‬
‫ألن راتبه قليل و ال يكفيه لمعالجة جروحه ‪..‬هذا‬
‫العمل ال يضنيه و هو يبحث عن شيء يكسّر عظامه و‬
‫ُشعر األلم المرء‬
‫يجعله يلطم وجهه‪ ..‬أحيانا ي‬
‫باللذة و برغبة شديدة في االنتقام من نفسه‬
‫الرعناء ‪..‬يبحث عن شيء يفعل به هذا الذي‬
‫تفعله الحياة‪ ،‬و يبقى يحبه كما يحبها‪،‬‬
‫يعشقها‪ ،‬يتمنى لو يطولها للحظة ‪..‬شهر و نصف‬
‫الشهر و هو على حاله ال يتغير ‪..‬شقته الصغيرة‬
‫تتعفن من القاذورات ‪..‬يكره النظافة ‪....‬قناني‬
‫البيرة هنا و هناك ‪..‬زجاج متناثر و أوراق‬
‫مبعثرة وسجائر و فوضى ال تنتهي مطلقا‪..‬و مع كل‬
‫ذلك تبقى شقته المطلة على الشارع أكثر نظاما‬
‫من ذهنه‪..‬‬
‫في الخارج ‪,‬تضطرب صفائح العالم األرضية ‪ ،‬و ال‬
‫تصمت مواويله ‪ ..‬ال يكف العالم الغبي عن‬
‫مضايقة الجميع ‪..‬و "مراد" يسكن بالداخل‪ ،‬داخل‬
‫نفسه ‪ ،‬حذو الفوضى المؤلمة و الهستيريا‪..‬‬
‫‪6‬‬
‫دفع نفسه إلى األمام ‪..‬جلس على المقعد الجلدي‬
‫ُدخل إليه ثقب الباب قليال من النور ومن‬
‫ي‬
‫ده بمنديل وجده على‬‫الهواء ‪..‬أسرع مراد و سّ‬
‫األرض ‪ ..‬أثارته جلسته التي يواجه فيها نفسه‬
‫‪.‬فأدار المقعد ناحية الجدار الخلفي ‪.‬حمل علبة‬
‫ّ‬
‫"المارلوبورو" وجلس ينقع األسى من كبده ‪..‬إن‬
‫الحقيقة تشبهه في أحيان كثيرة‪..‬‬
‫كانت قضيته أن يشغل نفسه بنقاط االستفهام و‬
‫لت في عقيدته معاني‬‫آالم الناس‪ ،‬و اآلن اختّ‬
‫نفسه‪..‬‬
‫ُلقت نفوس البشر من رحم واحد و تكو‬
‫ّمت‪..‬‬ ‫خ‬
‫سيجارة تلو األخرى ‪..‬حماسة الشباب تضاءلت إلى‬
‫حد كبير ‪..‬فإذا يراه أحدهم في لحظة الهزيمة‬
‫هذه ما يعود يفكر في ابن حزب البعث ‪،‬ما يعود‬
‫يفكر في مراد الذي يمقت ضعف العروبة و انهزام‬
‫نفسه أمام نفسه‪..‬‬
‫ما يعود يذكر شيئا عن مراد الذي ال يتصدع أمام‬
‫سيرة النفي تحت قمامة الحكومة؛ مراد الذي ال‬
‫يتصدع من صدمات الكهرباء و العذاب المميت في‬
‫زنزانة ما‪..‬هذا الذي يدير وجهه اآلن إلى‬
‫الجدار كي ال يرى شيئا من نفسه ‪..‬مهما كان‬
‫بداخل شخصيته الكاريزمية من مصادر قوة سيدرك‬
‫يوما أن للضعف داخله أهوال من الشرود ومن‬
‫ُليته هكذا ما‬ ‫السهو العميق ‪..‬من يراه يدخن ك‬
‫يعود يفكر للحظة أن هذا هو نفسه مراد الذي‬
‫كان يسهر الليالي يحضر المنشورات التي يوزعها‬
‫ّة ‪،‬مراد الذي دخن أعصاب األحزاب‬‫على طلبة الكلي‬
‫المنافسة و قلب الشارع بشعاراته السياسية‬
‫‪،‬مراد الذي حطم حاجز الصمت الذي حال بينه و‬
‫بين عروبته ‪ ..‬لقد ّ‬
‫ولت حماسة الشباب اآلن و‬
‫لت‪ ...‬أسند رأسه على مؤخرة المقعد كي‬‫اضمحّ‬

‫‪7‬‬
‫يتأمل السقف المتآكل بسبب الرطوبة و سيجارته‬
‫تنطفئ كآخر لحظة أمل‪.‬‬
‫كادوا يحرقون العاصمة بأهلها خالل تلك‬
‫المظاهرة ‪"..‬يا بوش‪ ،‬يا جبان ‪..‬الشعب العربي‬
‫ُهان‪ .."..‬و لكن مراد لم يكن يجيد لعبة‬ ‫ال ي‬
‫الشطرنج ‪..‬لم يكن يعرف أن البيادق أوال ‪،‬ثم‬
‫"الكش مات" ‪..‬و لم يكن يعرف انه بيدق من ضمن‬
‫ترمى في النار كي تحمي‬ ‫تلك البيادق الخسيسة ُ‬
‫ما خلفها ‪..‬لو كان يرى ما يوجد خلفه حقا من‬
‫النجاسة ما ألهب الدنيا بشعاراته ‪..‬حماسه‬
‫منعه من االلتفات و جعله يفكر أنه لو وقف‬
‫وجها لوجه أمام الجدار الفوالذي لقدر على‬
‫ّد بيدق ال غير‬
‫اقتحامه ‪..‬و لكنه في النهاية مجر‬
‫‪..‬كان عاجزا عن رفع أحالمه إلى الحقيقة كما لم‬
‫يكن قادرا على حمل الفأس و تكسير الصداع‪ ،‬لم‬
‫يكن قادرا على قطع أرجل الكراسي ‪..‬كان يضحك‬
‫نه منه ‪..‬كان يضحك‬ ‫على سخف الواقع الذي نسي أّ‬
‫عندما يطبل كل من حوله و يزمرون ألجل قضية لم‬
‫و لن توجد‪ ،‬أوألجل كلمات تسمع و ال تطبق ‪..‬و‬
‫لكنه اآلن يبكي ألنه صار يعرف شديد المعرفة أنه‬
‫كان بدوره يصفق ويطبل ويزمر من الخلف لما‬
‫يقول السيد‪" :‬السالم عليكم ‪،‬إني قد امتطيت هذا‬
‫الوطن دابة دون حالس"‪..‬‬
‫قام من مقعده ‪..‬دخل المطبخ يعد لنفسه كأسا من‬
‫الشاي ‪..‬و لكنه لم يجد غير الفراغ كما بنفسه‬
‫ال يوجد غير الفراغ ‪..‬لم يجد سكرا و ال شايا و‬
‫ال بنا و ال حتى جرعة نبيذ أو خل ‪..‬ال شيء‬
‫‪..‬أشعل سيجارة و اتكأ على حافة المقعد ‪..‬خطر‬
‫بباله "سمير الكساب" صديق عمره و هو كاتب‪ .‬و‬
‫لكن يحلو في فم مراد أن يسميه "لسان الحقيقة‬
‫و المرارة" ‪ ..‬ال يعرف سمير غير الحقيقة‬
‫‪..‬أدار مراد كرة أرضية موضوعة على الطاولة‬

‫‪8‬‬
‫بجانبه ‪..‬هكذا كان يدير سمير الحقيقة ‪..‬يقول‬
‫ّ ما فيه‬‫أن هذا العالم عالم متخلف بأسره‪ ،‬كل‬
‫يعيد ديباجة الصراع من اجل البقاء بطريقته‬
‫‪..‬قلم حبره يناهز الوجع و الغرابة ‪،‬و يسترسل‬
‫في األحداث ‪..‬ينقل حكايا اآلخرين جميعها‪..‬و كان‬
‫يشتكي كثيرا من أمه التي تؤلمه بكالمها ولم‬
‫يكن يعجبها أن يهدر وقته و صحته في الكتابة‬
‫‪..‬أمه امرأة أمية ال تعلم أن الذرة الواحدة‬
‫وسط عالم من الجنون‪ ،‬تتعرض إلى تفاعالت‬
‫كيميائية و تصبح قادرة على االنفجار‪..‬‬
‫كان عاجزا عن نقل حكاياته هو فقط وعن استيعاب‬
‫نفسه أمام استيعاب اآلخرين ‪..‬سرعان ما ينفعل‬
‫ّ بداخله إحساس عميق باالنتماء إلى‬
‫للموجود ويظل‬
‫مكان ال يدركه ‪،‬إلى مدينة آلمها الظالم‪..‬‬
‫ال يعلم أحد مكانه و ال مصيره اآلن‪ُ ..‬‬
‫نفي أم مات‬
‫أم سجن؟ ال يدري أحد ‪..‬فقط ألنه لم يكن بيدقا‬
‫‪..‬لم يصفق ‪..‬نظر إلى الكرة الجليدية من‬
‫الخارج ‪،‬ولم يقل هذا أنا وسط المعمعة و‬
‫الفتور و االستفزاز‪..‬‬
‫فتح مراد باب الشرفة و جلس على كرسي مبلل‪،‬‬
‫تبلله المطر ‪..‬و راح يتأمل في الرائح و‬
‫الغادي ‪ ..‬يشعره كل شيء بالهلع‪ .‬لحيته تتدلى‬
‫و لم تحفظ عيناه لونهما القرمزي ‪،‬لم يعد لهما‬
‫لون لهما في تلك اللحظة ‪..‬فقد وزنه و أصبح‬
‫كهيكل عظمي تحركه الريح‪ ..‬شعر كثيف ‪..‬رائحة‬
‫نتنة كرائحة الحياة ‪..‬لم يغتسل ولم ينزع عنه‬
‫البيجاما القطنية ذات اللون الرمادي و ال‬
‫األفكار البالستيكية ذات اللون األسود القاتم‬
‫منذ مّ‬
‫دة طويلة ‪..‬ال ينام‪ ،‬ال يأكل‪ ،‬ال يشرب‪ ،‬ال‬
‫يتنفس ‪..‬الحياة تتوقف عنده و لكنها تبقى‬
‫مستمرة ال منقطعة في الخارج ‪ ،‬ال تنتظر الرد‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫"آه منك يا حياة‼ كم أنت قوية يا غزالي‼ قوية‬
‫جدا‪ ،‬فوق تصوري‼ ال تتأثرين بزوابع و ال‬
‫بأعاصير‪ ،‬يكفيك انك تتفسحين بثوبك المفتوح في‬
‫شوارع لندن أو باريس و ال يهمك ما أفعل أنا‬
‫بحالي‪"..‬‬
‫وضع مراد يده على خده دون أن يشعر بالبرد‪.‬‬
‫الشوارع متأنقة بكسوة جديدة لم يعهدها من‬
‫قبل‪..‬‬
‫"عام سعيد" لم تكن هذه الالفتة موجودة آخر مرة‬
‫نزل فيها الشارع‪ ..‬خارج دوامة الزمان‪..‬تساءل‬
‫كثيرا "كم مضى على سجني هذا؟؟"‪..‬تالمذة‬
‫المدارس يضحكون و يتحدثون عن االمتحانات ‪..‬و‬
‫لكنهم على كل حال يضحكون من الصميم ‪،‬ال يرثون‬
‫لحال الدنيا و مشاويرها‪..‬‬
‫لفتت انتباهه فتاة بحلة وردية ‪ ،‬ذكرته بأخته‬
‫كوثر ‪..‬كم اشتاق إليها‼ ال بل كم يشعر بحاجة‬
‫ماسّة إليها ‪..‬محتاج إلى أي كان يزيل عنه‬
‫العبء و إلى أنيس يتحدث معه‪ ..‬آه‼ إنها أمل‬
‫زميلته في العمل و شقيقة صاحبه سمير كما أّ‬
‫نها‬
‫جارته القديمة في الحي الشعبي‪..‬‬
‫أفقدته حياة التركيز ‪..‬أفقدته صوابه و جعلت‬
‫منه دمية مسيخة يهزأ بها القدر ‪،‬بل تهزأ‬
‫بنفسها ‪،‬تنسى الجميع أحياء و أموات‪..‬‬

‫‪"-‬ما بالك يا رجل؟‼"‬


‫اشمأز من ضحكتها و لكنه على كل حال لم يجب‬
‫كما لم يستوعب‪..‬‬
‫‪"-‬تشبه المجنون في فيلم 'كاثرينا' أو علك‬
‫تذكرني بشخصية المعتوه في مسرحية 'وداعا يا‬
‫حب' التي قدمتها "حياة" في المسرح البلدي‬
‫‪10‬‬
‫‪..‬لم تتفطن إلى أن حبيبها هو أحد المعتوهين و‬
‫إال الختارته ليقوم بدور البطولة‼ هيا‼ قم‼ قم‼‬
‫انتظرك في األسفل‪"..‬‬
‫ما بالها هذه البلهاء؟ جاءت تضايقني؟ إنها‬
‫تضع يدها مكان الجرح‪..‬آي‼ إنه هنا‪ ،‬في قلبي‬
‫‪..‬فيلم 'كاثرينا' آخر فيلم شاهده هنا في هذه‬
‫الشقة مع األميرة‪ ،‬و 'وداعا يا حب' شيء آخر لم‬
‫يتقبله عقله البليد‪..‬‬
‫لم يدر كيف خطرت بباله هواجس كثيرة لحظتها‪..‬‬
‫"ال تكن شيطانا وسط عالم من المالئكة‪ ،‬و ال مالكا‬
‫وسط رقعة شطرنج يحركها شيطان ‪..‬و الدنيا غابة‬
‫ما فيها من المالئكة جنس ‪..‬العب لعبتك المفضلة‬
‫مع الكبار دون شوشرة‪ "..‬كان يسمع الحاج عبد‬
‫المعطي‪ -‬والده‪ -‬يقول كهذا لزميله في الحزب‬
‫‪..‬والده كان من المواالة ‪..‬يهوى التصفيق ‪..‬و‬
‫ككل أب يتمنى أن يكون ولده مثله و يشبهه‬
‫كنسخة مطابقة لألصل ‪..‬و لكن مراد ال يشبه أحدا‬
‫سوى نفسه ‪ ..‬كان والده يقف في الصف األيمن و‬
‫هو هناك يقابله في الضفة األخرى ‪..‬هذا يحمل‬
‫شعارات حزبه و ذاك يحمل شعارات حزبه ‪..‬و كان‬
‫الحاج عبد المعطي يضحك أحيانا لما ترتسم له‬
‫ّا ‪..‬هو في المواالة وابنه في‬ ‫الصورة كاريكاتوري‬
‫المعارضة ‪..‬هذا يجذب و اآلخر يجذب ثم ينقعان‬
‫الخبز في صحن الجالبان ذاته‪..‬‬
‫لقد فاقت طموحات مراد المنطق ‪..‬انه يكره‬
‫اللعب و يحب الشوشرة على عكس أبيه‪ ..‬وكان‬
‫ّل األمر‬
‫الحاج عبد المعطي في أوقات معينة يتقب‬
‫بروح رياضية فيسأل ابنه عن أحوال حزبه و ما‬
‫يالقيه من متاعب‪ .‬و في أوقات حرجة يستخدمه‬
‫للتجسس على األعداء‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫حاول أن يكون أبا مثاليا ‪،‬يحترم قرارات ولده‬
‫و يحاول كبت غيضه في البداية ظنا منه أن‬
‫وليده قد ينسحب من صفوف المعارضة عما قريب‪ ،‬و‬
‫أن كل ما يقوم به هو فقط اثبات لذاته في سن‬
‫المراهقة‪..‬و لكن تصوراته مخطئة‪..‬وما كان مراد‬
‫يبغي إثبات ذاته بل إثبات الحقيقة‪..‬‬
‫طرده الحاج عبد المعطي من الدار و هو في سن‬
‫التاسعة عشر‪ ،‬بعد أن كاد يفقد منصبه بسببه‪.‬‬
‫يوزع مراد المناشير و يرفع الشعارات و سمير‬
‫يكتب و ينشر ‪..‬كذلك كان مراد يختار عن الحياة‬
‫أحذيتها العالية ‪..‬كلها كانت على ذوقه ‪..‬و‬
‫لكن‪....‬‬
‫قطعت عليه تلك الغبية أمل دوامة أفكاره عندما‬
‫قذفته بحجر صغير ‪..‬و من أين جاء األمل؟ انه‬
‫مفقود تماما كالحليب‪..‬‬

‫‪"-‬ألم أقل لك قم؟ هيا‼ أنا في األسفل‪"..‬‬


‫فعلت ما تفعله حياة‪ ..‬هي أيضا تكره االنتظار‪..‬‬
‫ابتسم‪ ..‬و لكنه لم يبتسم ألمل كما حسبت ‪..‬انه‬
‫يدرك أن األمل غير موجود إال على شهادة‬
‫ميالدها‪..‬‬
‫هجر كرسيه الهزاز و دخل الحمام ‪..‬ارتدى معطفه‬
‫و نعله و خرج إليها‪..‬‬
‫‪"-‬أفكر أن اخرج فلما عنوانه "المتسول" يا‬
‫مراد ‪..‬و لن أتراجع أن تكون البطل هاهاها‪"..‬‬
‫لم يرد عليها و لو بكلمة‪ ،‬و لو بهمسة تقول‬
‫أنه يسمعها ‪..‬ضحكت وحدها حتى شعرت بالخجل‪..‬‬
‫عله وقتئذ يفكر في مسرحية "الضحك دون سبب"‬
‫‪..‬لكن ثمة سبب يضحكها في الواقع ‪،‬ألف سبب‬

‫‪12‬‬
‫‪..‬فهو حقا كالمتسول‼ الحياة تفعل أكثر من‬
‫هذا‪..‬‬
‫و لكن هذه الصديقة لم تقدر على إخفاء شعورها‬
‫بالشفقة ‪..‬وضعت إصبعها على أحد جروحه و قالت‪:‬‬
‫‪"-‬يؤلمك؟"‬

‫‪"-‬ال أحب شفقتك يا أمل‼"‬

‫ّ‼"‬
‫‪"-‬ما دمت ال تشفق على حالك يا أخي‬
‫كانت تنهداته كافية للرد عليها‪..‬‬
‫‪"-‬والدتك جد مستاءة منك ألنك لم تقض العيد‬
‫عندها‪"..‬‬
‫‪"-‬العيد؟؟"‬
‫شرد به ذهنه‪ ،‬و سلم إليها نفسه دون وعي بوجهة‬
‫مسيره ‪..‬رفع يده إلى عنقه ‪..‬الطوق الفضي الذي‬
‫أهدته له حياة في عيد الميالد الماضي ‪..‬عليه‬
‫اسمها‪" ..‬كم اشتاق إليك يا عمري‼"‬
‫أخذت معها عمره الحلو و رحلت ‪..‬ال يدري إلى‬
‫أين و إال لحقها ليعيد تلك السنوات ‪..‬انه يجهل‬
‫دة يومين فسأل‬‫سبب رحيلها المفاجئ ‪..‬لم يرها مّ‬
‫عنها زميلتها التي قالت له بكل بساطة‬
‫‪":‬سافرت" إلى أين؟ متى؟ كيف؟ لماذا؟ ‪..‬ال أحد‬
‫يعلم ‪"..‬سافرت والسالم"‪ ..‬و هو آخر من يعلم‬
‫ّخه‪ ،‬قلبه على عقبيه‪..‬‬‫‪..‬رحيلها آلمه كثيرا ‪،‬دو‬

‫يا أمل‪ .‬ارفعي يدك‬ ‫‪"-‬آي‼ هذه البقعة تؤلمني‬


‫عنها‪"..‬‬
‫نسي أن يشير إلى قلبه ‪..‬تداخلت عليه األمور‬
‫‪،‬فما عاد يجيد تحديد وجعه‪ .‬إنه في مكان مليء‬
‫بالنظافة‪ ،‬مكتظ باألدوية و العقاقير‪ ..‬وهو ال‬
‫‪13‬‬
‫يبحث عن شيء يشفيه‪ ،‬بل يبحث عنها ‪..‬مصدر‬
‫السقم و العدم‪..‬‬
‫أجال بصره في المكان ‪..‬على يمينه تطل واجهة‬
‫البلور على الشارع ‪..‬و المطر غزير بالخارج‪..‬‬
‫منذ متى؟‪..‬‬
‫منذ شهر و نصف قدم الجليد من الشمال‪..‬‬
‫و أين أنا من كل هذا؟ هل هو الشتاء؟‬
‫الناس كالفئران الفارة من النقاء يختبئون تحت‬
‫مظالت الشوارع و في الكافيتريات و الدكاكين و‬
‫في كل الفضاءات المغلقة ‪..‬طبعا يبحثون عن‬
‫القذارة و الرائحة الكريهة‪..‬‬
‫أحس مراد أخيرا بشيء من الحياة يسري فيه‬
‫‪..‬لقد احرقته الكحول التي تم وضعها على جروحه‬
‫بعد أن كان في غيبوبة أخرى فلم يشعر‬
‫بالممرضة تدوس على مواقع النتوءات‪ ،‬لم يسمع‬
‫صوتها و هي تسأله " هل أنت بخير؟" ‪..‬هز رأسه‬
‫باإليجاب و بالسلب في نفس الوقت‪ .‬و لكنه لم‬
‫يدر ما يقصده ‪..‬عله ال يقصد شيئا سوى إبعادها‬
‫عنه‪..‬‬
‫تفحص وجه أمل المبتسم بكل طاقته ‪..‬عيناها‬
‫عسليتان كعيني كوثر ‪،‬دافئتان‪ ،‬مليئتان‬
‫بالحنان‪..‬‬
‫و أين كوثر؟‬
‫في بلغاريا‪..‬‬

‫بعيدة جدا‼‬
‫لكنه يبقى محتاجا إليها ‪..‬إنها الوحيدة التي‬
‫تفهمه‪ ،‬تحس به بعد حياة طبعا‪..‬‬

‫‪14‬‬
‫و لكن الحياة ال لون لعينيها حين تغضب‬
‫‪..‬جميلتان‪..‬‬
‫ابتسم ابتسامة عليلة‪ ،‬سقيمة عندما مدت له‬
‫يدها تسنده كي يقف و تجره خلفها كالعادة‪ ،‬و‬
‫لكنه سقط ‪..‬سقط دونما مقدمات كسفر حياة الذي‬
‫حدث بسرعة و دون مقدمات ‪..‬أغمي عليه ‪..‬و لم‬
‫يستفق إال على صوت الدكتور عماد‪ ":‬نوبة عصبية‼‬
‫سوء تغذية‼ إرهاق‼ ليس بخير ‪..‬اعتني به يا‬
‫آنسة أمل ‪...‬يجب أن يتغذى ‪..‬يجب أن يبتعد عن‬
‫االنفعال‪"..‬‬
‫بعيد عن االنفعال؟ كيف ذلك و الكون من حوله‬
‫حقل ألغام‪ ،‬مليء بالسوء و بالعصبية ‪..‬و حياة‬
‫ليست معه ‼ كيف ال ينفعل؟ كيف ال يحترق؟ كيف ال‬
‫يمأل الحنجرة بالصرخات و بالطعنات؟؟‬
‫ثم استفاق ثانية على صوت أم كلثوم "فات‬
‫الميعاد" في غرفة صغيرة‪..‬السقف و مكتبة‬
‫متواضعة‪ .‬لفتت انتباهه كما لو انه ألول مرة‬
‫يراها ‪ ..‬منضدة عليها كتب الثانوية ‪..‬نسي انه‬
‫ُلقت على الجدار صور عديدة و‬‫جلس هنا طويال ‪ ..‬ع‬
‫لم تثره سوى صورة واحدة‪ ..‬الحاج عبد المعطي‬
‫‪،‬الشامبانزي العالقة في فكره ‪..‬قامته القصيرة‬
‫و شكله الدائري يجعالنه مثل البرميل تماما‬
‫‪.‬رأس أصلع لرجل تكومت عنده ملفات مفتوحة‪ ،‬و‬
‫سالت من تحت ضرسه حتى أسفل ذقنه رائحة لحم‬
‫الخروف و التونة و الرشوة‪ ..‬و من حوله يقف‬
‫مراد ابن السادسة و أخته كوثر و سمير و أمل‬
‫في عيد من األعياد‪..‬‬
‫يغضب عبد المعطي لما يرى ابنه يحمل في يده‬
‫بالونا أحمر ‪..‬وجهه يمتقع كما لو أنه يريد شد‬
‫بارود يصوبه نحو رأسه‪ ..‬أكان يقلقه أن أكون‬
‫طفال؟؟‬
‫‪15‬‬
‫كان يريد منه رجال ‪..‬منذ يوم نزوله من رحم‬
‫أمه المحموم كان يريد منه رجال حقيرا مثله‪.‬‬
‫انه يوقن في قرارة نفسه بشاعة الموقف و‬
‫بشاعة نفسه و سنه و شعوره بالقسوة على أبيه‬
‫بل احتقاره له‪..‬‬
‫أبإمكانه تغيير الحقائق و قلبها رأسا على‬
‫عقب؟ أله أن يمزق هويته و وطنه و ينسى انه‬
‫حيوان كالش؟ أله أن ينسى اجتماعات والده‬
‫السرية في غرفة المكتب على ضوء هادئ و أنه‬
‫كان ينقع الخبز بمال الحرام ألفي سنة؟ أله أن‬
‫ينسى أن والده أصلع و بطنه كبيرة و انه كان‬
‫يشعل األخضر قبل اليابس ألجل كرسي بالعجل؟ هل‬
‫له أن يغير طبيعة هذا المخلوق؟ و أن يمحي‬
‫انتماءه إلى عصر الغزو و الملل؟؟‬
‫كان مستعدا لفعل ذلك كله‪ ،‬لنسيان هشاشة عظامه‬
‫لو ظل األمل ‪..‬لو ظل اإلحساس بالحياة موجودا‬
‫‪..‬و لكن حياة ذهبت ‪..‬و هو يبحث عن شريط الصق‬
‫يضعه على فمه و انفه و قلبه‪..‬‬
‫و نزلت تلك الدمعة التي يكرهها من عينه‪..‬‬
‫"لماذا يا حياة؟؟فقط قولي لماذا؟و لن أسألك‬
‫مرة أخرى‼"‬
‫اسند يده على طرف السرير الخشبي و لكنه لم‬
‫يقدر على الوقوف ‪..‬لم يجد بداخله قوة تحمله‪..‬‬
‫حياة‪...‬إنها تشل حركته و تعطل حواسه و تلغي‬
‫فيه كل المعاني الممكنة‪..‬‬
‫يحسها أحيانا طفلته المتصابية ‪..‬ترسم‬
‫"ألكاريه" و تحمل الحجر و تلعب ‪..‬تلعب‬
‫"ألكاريه" و هي ابنة الست و العشرين وأحيانا‬
‫أخرى كانت تصاب بحالة من الشرود فتسحب نفسها‬

‫‪16‬‬
‫من هذا العالم إلى عالم آخر ‪..‬إنها حبيبته‬
‫غريبة األطوار‪..‬‬
‫"أتدري أنه خلف كل فنان شيء عظيم من األلم و‬
‫الوجع؟؟"‬
‫"و هل أنت تتألمين إذن؟؟"‬

‫"أحيانا‼"‬
‫و لكنه لم يجد فرصة كي يسألها عن مكان األلم‬
‫‪..‬ال تبكي‪ ..‬وجهها الخجول مبتسم دوما‪ ..‬و‬
‫الطفلة التي تسكنها ال تنام‪ ..‬كانت تحلم دوما‬
‫أن تنام نومتها األبدية على ركح ‪ Olympia‬أو‬
‫دار األوبرا‪..‬‬

‫"هناك ال مجال للخديعة أو النميمة و الزيف‼"‬


‫ُتح الباب ‪..‬إنها أمه ‪..‬امرأة صالحة تقية و‬ ‫ف‬
‫تخاف هللا‪ ..‬وجهها كبدر مدور‪ ،‬يكشف عن بشرة‬
‫بيضاء‪ ،‬يافعة رغم الشيخوخة‪..‬‬

‫‪"-‬هللا يهديك يا وليدي‼ لم تفعل كل هذا بحالك؟‬


‫إن هللا ينهانا عن هلك النفس‼ قم يا ولد‼ قم و‬
‫تناول قليال من الشوربة ‪..‬الطبيب أوصى بغذائك‬
‫‪..‬قم‼ الزلت كما أنت لم تتغير ‪..‬شقي و‬
‫انفعالي‼"‬
‫و لكن صمته أحرقها و كاد يكفرها‪ ،‬ينسيها‬
‫الهداية و التقوى‪..‬‬
‫هو ال يسمع‪. .‬ال يتكلم ‪..‬ال يتحرك‪..‬‬
‫"ليتك كنت أمي أيتها الحياة‪ ،‬ألشفقت قليال و‬
‫تناسيت شوارع لندن و باريس‪ ..‬و لكنك أيتها‬
‫الدنيا ال تقدرين على تشخيص وجعي‪"..‬‬

‫‪17‬‬
‫أثقله األلم المصحوب بعدم الرغبة في مواصلة‬
‫الحياة‪..‬‬
‫امرأة تفعل كل هذا؟؟‬
‫ما أقسى أن يدير الرجل وجهه للجدار الندي‪ ،‬و‬
‫يتمعن في أسفل الكوكب األرضي‪ ،‬أين تدوس كل‬
‫المآقي و األحزان على نفسه‪..‬‬
‫يشعر مراد بوحدة قاتلة ‪..‬سمير ثم كوثر ثم‬
‫حبيبته‪ ..‬كل شيء يتالشى من حوله‪..‬‬
‫الحياة الغبية تقتله ببطء‪..‬تقطر له الموت في‬
‫كأسه قطرة تلو القطرة‪ ..‬ما كانت تخسر لو‬
‫دفعته بسرعة و أنهت األمر؟؟ ما كانت تخسر لو‬
‫قتلته‪ ،‬لو هضمته دفعة واحدة؟؟ ما أقسى كل شيء‬
‫‪..‬أتختبر الحياة صبره؟ و لكن كيف غاب عن‬
‫ذهنها أني ال اعرف صبرا؟ أني مصاب بهشاشة‬
‫العظام و سرعان ما أتحطم؟‬
‫امرأة كانت مصدر قوته و صبره ‪..‬حبها كان كل‬
‫شيء‪..‬‬
‫سيفجر رأسه في ضربة واحدة على الحائط الخلفي‬
‫‪..‬لم رحلت؟ أتنتقم منه؟ أين رحلت؟‬

‫يا للحمق‼‬
‫رأسه سينفجر دونما مقدمات ‪ ..‬قدمت األفكار‬
‫السوداء كلها و ساور الشك نخاعه الشوكي‪..‬‬
‫أخانته مع ‪ Monsieur‬عبد الوهاب؟؟ أمجنون أنا؟‬
‫كيف تخطر هذه األفكار ببالي؟ انه رجل متزوج‪ ،‬ال‬
‫يقل سنه على الستين ‪..‬انتحرت إذن؟ ‪..‬بلعتها‬
‫األرض و أرجعتها إلى صلبها؟؟‬
‫لقد انتظر الرسالة و لم تأت ‪..‬حياة ال تؤمن‬
‫بقلب الدماغ و االتصاالت الحديثة‪ ..‬مخها أنتيكة‬
‫نادرة أعاده إلى زمن الدهشة الجميلة‪ .‬أسهرته‬
‫‪18‬‬
‫على ضوء الشموع و غنت في أذنه اليمنى طويال‬
‫حتى نام ‪..‬أخرجته من قوقعة المعقول إلى أخرى‬
‫كسرت فيها الئحة المعقول إلى الالمعقول‪ ..‬ليست‬
‫المرة األولى التي تدوس فيها الحياة على‬
‫أصابعه بحذائها العالي ‪..‬‬
‫و هو مدرك رغم كل شيء أن وضعه هذا ال يجب أن‬
‫يطول ‪..‬ال بد له من أن يسأل نفسه إلى متى كل‬
‫هذا الخمول؟؟‬
‫ال بد له من مباشرة عمله في الجريدة من جديد‪..‬‬
‫دخل غرفته و أغلق الباب خلفه ‪..‬سيضحك على‬
‫نفسه قليال ويوهمها بالعافية و بالنسيان‪..‬لن‬
‫تمأل رائحة التبغ المكان مجددا‪. .‬ولهذا الشعور‬
‫حالوته و مرارته و أحياناتصدر حالوته عن‬
‫المرارة‪..‬‬
‫ارتدى معطف الكشمير و خرج‪..‬‬
‫شارع مرسيليا لم يتغير‪..‬‬
‫البرد شديد و المطر شديد و األلم شديد‪ ..‬لقد‬
‫اخذ عن حياة تصابيها ‪..‬جرته خلفها إلى عالمها‬
‫الخلفي ‪..‬عودته على السير جنبا لجنب مع نفسه‬
‫وهو يشعل سيجارة خالية من النيكوتين وسط شارع‬
‫مرسيليا و المطر يتدفق على أمعائه و يبكيه في‬
‫صمت‪..‬‬
‫عودته على السير في بطء و على الغناء و‬
‫التألم في بطء ‪..‬و هو يفعل كل هذا ‪..‬يالحقها‪..‬‬
‫الصمت و السيجارة‪...‬‬
‫رمى جسده على مقعد الحديقة العمومية ‪..‬انه‬
‫بمفرده ‪..‬ال احد هناك غيره ‪..‬الجو قارس و‬
‫المطر غزير و هو ما عاد يأبه ‪..‬قد يظن المارة‬

‫‪19‬‬
‫انه مجنون‪ ،‬انه معتوه ‪..‬و لكن ال يهم ‪..‬فقط أن‬
‫يجلس قرب نفسه مع بعض الصمت‪..‬‬
‫منتصف الليل إال ربع ‪..‬الشارع الرئيسي خالي‬
‫الذهن ‪.‬‬
‫يدخل الجريدة حامال ملفاته و أوراقه غير آبه‬
‫بالكرة الجليدية التي تحطمه‪،‬يقدم اعتذاراته‬
‫لرئيس التحرير ‪..‬يحمل الكاميرا و ينزل تحت‬
‫األنفاق ينقب عن الحياة من جديد ‪..‬الحياة التي‬
‫ال تجوز إال في حرمات األنفاق المظلمة و القذرة‬
‫‪..‬أو يقدم استقالته األبدية من الجريدة و من‬
‫الدنيا و من كل شيء لونه بدأ يمتقع ‪..‬أو‬
‫يشتري كمية مهولة من الهيروين و يدمن على‬
‫الهرب ‪..‬أو يشد ربطة عنقه في أعلى الشجرة هنا‬
‫و يلفها حول جيده و يجد الخالص‪..‬‬
‫هذا كله ليس كاف‪.‬‬
‫‪-٢-‬‬
‫شهر ديسمبر يودع كل شيء رتيب ‪..‬يودع الشمس‬
‫الرتيبة و األمل المسكون بالبشاعة‪..‬‬
‫"مصحة الفي)‪-")La Vie‬الساعة ‪ 07:39‬صباحا‬
‫‪"-‬الدكتور آدم موجود؟ قولي له حياة(‪ )....‬من‬
‫فضلك‼"‬
‫‪"-‬الدكتور موجود ماداموازيل ‪..‬انه في‬
‫انتظارك‼ يمكنك مالقاته‪"..‬‬
‫هناك في آخر الرواق‪ ،‬الغرفة التي أشارت عليها‬
‫السكرتيرة‪..‬‬
‫كل ما كان عليها فعله هو أن تفتح الباب و‬
‫تدخل ‪..‬و لكن قلبها لم يتعود على المراوغة‬

‫‪20‬‬
‫‪..‬ال تدري إن كان كل شيء على ما يرام أم ال‪..‬‬
‫ليت قلبها يخطئ هذه المرة‪..‬‬
‫دوخة و آالم عديدة قلبت ذهن الدكتور و خلته‬
‫يطلب بعض التحاليل‪..‬‬
‫الغرفة مميتة‪،‬باردة‪..‬تغير ديكورها عن األسبوع‬
‫الماضي ‪..‬السرير األبيض الذي كان في الزاوية‬
‫المواجهة للباب تغير موقعه إلى الزاوية األخرى‬
‫‪..‬المكتب في لون الكستناء و الدكتور جاهز ‪،‬في‬
‫يده القلم و أوراق التحاليل‪..‬‬
‫وجهه متجهم و عروقه من تحت جلده تكاد تكون‬
‫واضحة‪ .‬لوى شفتيه و خبأ عينيه البنيتين خلف‬
‫نظاراته و قد قرن حاجبين كثيفين‪ ..‬عالقتها به‬
‫ليست جديدة العهد ‪..‬آدم كان زميلها في‬
‫الثانوية ‪..‬كانت تسميه ‪ X, Y‬ألنه خريج شعبة‬
‫العلوم‪ ،‬و هي ألنها ال تفهم الرياضيات اختارت‬
‫اآلداب‪..‬‬
‫صافحها و جلس قبالتها محترما ذكاءها‪:‬‬
‫‪"-‬حياة‪،‬ال ادري إن كان هذا الوقت المناسب‬
‫لحديثي ‪..‬و لكنك عزيزة جدا على قلبي و تدرين‬
‫أن ما يجمعنا صداقة عمرها طويل‪"..‬‬
‫لغة تبدو غريبة ‪..‬أأظهرت تحاليلها مرضا‬
‫قاتال؟ كوليرا مثال؟‬
‫‪"-‬ماذا هناك ادم؟ لم تحدثني بهذا األسلوب‬
‫الجاف؟"‬
‫‪-‬حياة أتقيمين عالقة مع مراد؟"‬

‫‪"-‬أنت تعرف جيدا ما طبيعة عالقتي به يا ادم‼‬


‫مراد حبيبي و ليس هذا جديدا عليك؟"‬

‫‪21‬‬
‫‪-‬ال اقصد هذا‼ أعني عالقة من نوع آخر ‪..‬عالقة‬
‫ّة ؟"‬
‫جسدي‬
‫كيف تتمالك نفسها و أعصابها؟‬

‫‪"-‬أنا ذاهبة‼ تحاليلي سأعطيها لدكتور آخر ‪..‬ال‬


‫أظن أن صداقتنا تسمح بهذا الحد من التطفل ‪،‬ال‬
‫أظنها تسمح بمثل هذه األسئلة‪"..‬‬

‫‪ "-‬أرجوك يا حياة اجلسي للحظة واحدة‼ ال داعي‬


‫لمثل هذا التصرف ‪..‬دكتور غيري سيسألك نفس‬
‫السؤال‪ .‬طبيعة مهنتي تحتم علي ذلك‪"..‬‬
‫ديناصور ما عّ‬
‫لق هالوسه الجبارة بصدرها ‪..‬إنها‬
‫ال تطمئن لعينة الدم التي قدمتها إلى‬
‫مخبرالتحاليل ‪..‬فيم تفكر لحظتها؟‬
‫‪"-‬أتريد حرق صبري و هدوئي؟ ماذا هناك؟"‬

‫‪‼A.I.D.S"-‬أنت مصابة بااليدز يا حياة‪".‬‬


‫ال يتطلب منها االستيعاب الفعلي سوى قليل من‬
‫الصمت ال غير‪..‬‬
‫ستة و عشرون سنة و هذه الدنيا تكويها‬
‫بسجائرها ‪..‬و ها هي اآلن تغرز في فخذها وفي‬
‫بطنها وتحت إبطها آخر سيجارة وألعن سيجارة‪..‬‬

‫‪"-‬أنت تدركين صعوبة الموقف‼ حياة أرجوك‪،‬‬


‫أجيبيني ‪..‬هل تقيمين عالقة جنسية مع مراد؟‬
‫الموقف جد حساس ‪..‬ماذا لو هو أيضا مصاب؟؟"‬

‫‪"-‬ال ‪ ...‬ليس مصابا‼ أنا فقط فقدت مناعتي‬


‫‪..‬والدي توفي بااليدز‼"‬

‫‪"-‬والدتك أيضا؟ فهمت‼ انتقلت لك العدوى و أنت‬


‫جنين؟"‬

‫‪22‬‬
‫‪"-‬والدتي توفيت سليمة ‪..‬ليس بها شيء‼"‬
‫‪"-‬أتريدين بي جنونا؟ كيف ذلك؟ نزلت من بطن‬
‫والدك؟ أنت تتالعبين بأعصابي‪"..‬‬
‫‪"-‬الحكاية أصعب بكثير من أن يتقبلها ذهن‬
‫ّة‪" ..‬‬
‫دكتور مثلك‪ ..‬لقد اغتصبني أكثر من مر‬
‫قلبها صدق هذه اللعنة ‪..‬ال بأس من كاس لوعة‬
‫آخر‪..‬‬
‫لم تكن صدمتها قوية بما فيه الكفاية لترتمي‬
‫مغمى عليها ‪ ..‬فقد استيقظت حاستها السابعة‬
‫قبل لحظات واشتمت رائحة مثيرة للعطس و‬
‫السعال‪..‬‬

‫"لقد توقعت منك كل شيء أيتها الدنيا‪ ،‬كل شيء‼‬


‫فكيف ال أتوقع سيجارة بال نيكوتين‪ ،‬بال رائحة‪،‬‬
‫بال حتى سابق إنذار؟ ‪..‬و أتوقع منك األسوأ و‬
‫األدهى‪"..‬‬
‫لقد اشتمت من عينة الدم تلك رائحة غريبة‪..‬‬
‫‪"-‬متى أموت يا ادم؟"‬
‫‪"-‬أنا آسف‪ ..‬ال أصدقك‪ ..‬ال يمكنني تصديقك‪".‬‬
‫شيء من الحزن العميق و من الغضب المفقدين‬
‫للصواب اجتمعا في جهاز عصبي واحد‪ ،‬افقداه‬
‫الحركة‪..‬‬
‫الحياة تتعثر‪ ،‬ال تجد ردة فعل معينة! أتصفع‬
‫الكرة األرضية و تبصق بوحشية في وجهها؟ ‪.‬أم‬
‫تتوقف عند الرصيف في شارع الحبيب بورقيبة و‬
‫كفى؟‬

‫‪23‬‬
‫يبدو المقهى و كل من فيه على الجانب اآلخر من‬
‫الشارع كقطع من الكرتون‪ ..‬كل شيء يتحرك‬
‫"بالرالونتي"‪..‬‬
‫متثاقلة‪ ..‬دفعت الكرسي إلى األمام و جلست‬
‫تتصبب عرقا‪ .‬و الدنيا في الخارج تسير سيرها‬
‫المخاتل‪.‬‬
‫‪"-‬مداموازيل! أتطلبين شيئا معينا؟"‬
‫‪"-‬قهوة‪ ..‬قهوة دون سكر‪"..‬‬
‫ألول مرة تشعر أنها تحب هذه المدينة حقا و‬
‫تحب هذا الطريق و تحب الدنيا‪.‬‬
‫كانت تشرب القهوة هنا‪،‬مع مراد في‬
‫الصباح‪...‬رائحة القهوة و االنتحار الجماعي‬
‫‪..‬أصوات الكعب العالي‪..‬‬
‫حياة كانت صغيرة جدا لما كان جدها يصحبها إلى‬
‫هنا‪ ،‬يقتني لها قطعة 'الكيك' و يرسلها مع‬
‫مصطفى البقال إلى الدار‪..‬‬
‫لم تحافظ "مقهى الرياحين" على رائحتها و‬
‫بالطها المشقق و سقفها الملون بأعشاش‬
‫الحمام‪..‬كانت أجمل بكثير من هذه الرطبة‪،‬‬
‫الملونة‪..‬‬
‫‪"-‬أنت بخير مداموازيل؟"‬
‫‪"-‬ألك أن تأتيني بمناديل ورقية؟!"‬
‫المناديل الورقية لم تكن وحدها كافية لتجفيف‬
‫تلك المآقي‪..‬‬
‫لو كان مراد بجانبها الرتمت في حضنه و بكت و‬
‫بكت دون توقف‪..‬و لكن ال يجب أن يعرف شيئا‪..‬‬

‫‪24‬‬
‫ما اعند هذه الحماقة و ما اعصبها‪ ..‬فيم يجب‬
‫أن تفكر؟ تظل هنا حتى تقفل الرياحين أبوابها‪،‬‬
‫بل تبيت فيها‪ ،‬و تبكي فيها حتى يقدم اجلها‬
‫على عجل؟ أم تتصل بمراد‪ ،‬تطلب منه القدوم و‬
‫تتذوق طعم المواجهة المستحيلة؟ أيستوعب ما‬
‫تقول يا ترى؟ انه في كل األحوال سيطلق األحكام‬
‫المسبقة ولن ينتظرها حتى تنهي جملتها األولى‪..‬‬
‫سيتركها و يرحل فتخسره إلى األبد‪ ..‬فهو رجلها‬
‫الشرقي على كل حال‪..‬‬
‫فيم يجب أن تفكر إذن؟ في الموت؟ في الخالص؟ في‬
‫الرحيل؟‬
‫سحبت روحها من بين عظام جسدها الفاقد مناعته‬
‫‪..‬دفعت الحساب و خرجت‪..‬‬

‫‪"-‬تاكسي‼"‬
‫لن تفكر أكثر ‪..‬مراد ال يجب أن يعرف قصة هذه‬
‫التحاليل منذ البداية‪ ..‬سيتألم أللمها و يحزن‪،‬‬
‫و هي ال تطيق حزنه و دموعه!‬
‫تقطن حياة في شقة تابعة لعمارة توجد في حي من‬
‫األحياء الشعبية بمفردها مع قطتها 'جوجو' منذ‬
‫توفيت والدتها‪..‬‬
‫هذا المرض يسري في كامل جسدها‪ ..‬تتذكره مع كل‬
‫جرعة مسكن‪..‬‬
‫إنها اآلن و أكثر من أي وقت أخر محتاجة لذلك‬
‫الحب معها ‪،‬بجانبها‪ ،‬يسحبها من يدها كدمية في‬
‫شارع مرسيليا‪..‬‬
‫دخلت غرفة االستحمام‪ ..‬وضعت جسدها في الحوض‬
‫لساعات‪ ،‬دموعها و حرقتها و الصابون المعطر في‬
‫حوض واحد إلى األبد‪..‬‬

‫‪25‬‬
‫‪"-‬آلو‼"‬

‫‪"-‬آلو‼نزهة؟ أنا حياة‪..‬هل المدير في مكتبه؟‬


‫أريد أن اكلمه!"‬
‫‪"-‬يسأل عنك‪ ..‬لم لم تأت اليوم؟"‬
‫‪"-‬ظروف‪ ..‬أهو في مكتبه؟"‬
‫‪"-‬انتظري حتى أخبره‪"..‬‬
‫هذه الحياة لو دهسها قطار لما تحطمت تحته!‬
‫إنها تتحدى هذه الدنيا و لن تشعرها بأنها‬
‫انهزمت‪..‬‬
‫إنها تشتغل في مركز تنشيط ثقافي أكثر من‬
‫متواضع و كانت طموحاتها و فرصها أعلى بكثير‬
‫من كل ذلك‪ .‬و لكن متى حضر ذلك التجويف من‬
‫الجهة اليسرى من جسدها الفاقد مناعته‬
‫المكتسبة تعطلت كل المترادفات‪..‬‬
‫وجودها في شارع مرسيليا مع رجل يشبه صباها‬
‫كان قمة الروعة‪..‬‬

‫‪"-‬آلو‼"‬
‫‪"-‬باسل هذه أنا حياة!"‬
‫‪"-‬أين كنت اليوم؟ اخبريني!"‬
‫‪"-‬باسل يمكنني رؤيتك؟!"‬
‫‪"-‬أأنت بخير؟ صوتك ال يعجبني!"‬
‫‪"-‬أنا في الشقة! أأنتظرك؟"‬
‫‪"-‬نصف ساعة و أطرق بابك!"‬
‫ماذا تريد هذه الحياة؟ أن تجمع شجاعتها و‬
‫تواجه الدنيا؟ إنها امرأة ليست ككل امرأة‪،‬‬

‫‪26‬‬
‫طموحاتها و أحالمها فاقت حجم أنوثتها‪ ،‬وجعلت‬
‫كل من حولها صديقا لها‪..‬‬
‫إن نظراتها تحفظ زوايا مختلفة‪ ،‬ليست بالحادة‬
‫و ال بالمنفرجة‪ ..‬و لكل ما حولها مقاييس جمال‬
‫و فن ‪،‬حتى االيدز في جسدها فن جديد‪. .‬فن‬
‫التآكل‪ ،‬تآكل الخاليا الدماغية ‪...‬‬
‫جرس الباب‪..‬‬
‫باسل مديرها في الشغل‪ ،‬لكنه أيضا صديقها‬
‫المفضل على اإلطالق‪ ..‬رجل يكمن بريقه في فكره‪..‬‬
‫على األريكة األرجوانية ‪,‬جلس ينتظر حياة حتى‬
‫تحتسي آخر جرعة من فنجان قهوتها ببطء ‪.‬‬
‫‪"-‬أأنت بخير؟!انك ترعبينني؟"‬
‫مدته بأوراق التحاليل‪..‬‬
‫‪"-‬ما هذا؟!أسبق و سمعت إنني دكتور ؟"‬
‫‪"-‬أال يزال عرض االشتراك في مهرجان باريس‬
‫قائما؟"‬
‫‪"-‬غيرت رأيك؟"‬
‫‪"-‬سأقدم 'كتيبة الموناليزا'! "‬
‫‪"-‬صدعت رأسي! ما دخل هذه التحاليل في‬
‫الموناليزا؟"‬
‫‪"-‬أنا‪..‬أنا يا باسل‪ ..‬أريد أن أؤمنك على سر‪..‬‬
‫سأجمع حقيبتي هذه الليلة‪ ..‬غدا سأتوجه نحو‬
‫المطار و منه إلى فرنسا‪ ..‬سوف لن تخبر أحدا‬
‫بمكاني‪ ..‬إنني انتهي‪"..‬‬
‫‪"-‬أنت تثيرين قلقا ماكرا في صدري! ما األمر؟"‬

‫‪27‬‬
‫‪"-‬إني مصابة بااليدز! مراد ال يجب أن يعرف‬
‫شيئا‪"....‬‬
‫‪"-‬أتريدين قلبي على جمجمتي أنت؟"‬
‫ّصها حتى‬
‫‪"-‬ال تصدقني ؟ التحاليل أمامك تفح‬
‫تتثبت‪"..‬‬
‫إنها متأكدة أن صديقها هذا سيكتم السر‪ ..‬لكن‬
‫جمجمته ال تستوعب شيئا‪.‬‬
‫ّ هكذا! إني ادري فيما تفكر‪..‬‬‫‪"-‬ال تحدق في‬
‫المهم عندي أن ال يعلم مراد بشيء‪"..‬‬
‫انتهى كل شيء‪ ..‬و ال داعي أن تبكي أو أن تنفعل‬
‫أمام أحد‪..‬‬
‫حقائبها جميعها صارت جاهزة‪ ،‬و األلم العميق‬
‫أول ما وضعته فيها‪...‬‬
‫ستطفئ كل أضواء الشقة هذه الليلة‪...‬و سيأتي‬
‫مراد بعد قليل حتى يقول في أذنها كلمات تشبع‬
‫اضطرابها و لكنها لن تفتح الباب‪ .‬فيترك رسالة‬
‫تحت الباب يعلمها فيها انه قد بحث عنها طويال‬
‫اليوم و أّ‬
‫نه انتظرها على الدرج و لم تأت و‬
‫انه مشتاق إليها و سينتظرها في الغد‪ ..‬و في‬
‫آخرها يكتب بخط كبير‬
‫"احــــــــــــــبــــــــــــــك"‪..‬‬
‫إنها تشبه "تسونامي" في حركتها و دمارها و في‬
‫ركل هذه الدنيا في أسفل خاصرتها‪..‬‬
‫حملت حقيبتها اليدوية و حقيبة السفر‪ ..‬نفضت‬
‫عنها الغبار العالق بحذائها و نزلت درج‬
‫العمارة درجة‪ ،‬درجة‪..‬‬
‫الجميع هنا ينتظر‪ ..‬بين األزقة‪ ..‬في المقاهي‪،‬‬
‫في الرياحين ‪..‬عند المالعب و في كل مكان‪..‬‬

‫‪28‬‬
‫الطريقة الوحيدة للوصول إلى مطار العاصمة أن‬
‫توقف سيارة أجرة‪ ..‬تجلس في المقعد األخير و‬
‫تتحمل رجات الطريق‪..‬تتقيأ‪ ..‬حتى تصل‪..‬‬
‫إن العاصمة لوحة أخرى من لوحات المعارض‪..‬‬
‫إنها المكان الوحيد الذي ال يموت‪ ..‬مهما غصت‬
‫باألوجاع تبقى في لونها الزهري‪ ،‬وال تتوقف عن‬
‫الدوران‪..‬‬
‫ديسمبر يودع الشوارع‪ ،‬يحمل على ظهره كل‬
‫السيئات و يذوب على الشاطئ‪ ..‬و النوارس‬
‫تتهاوى مثله يعميها السكر‪..‬‬
‫كقلب األم هذه العاصمة‪ ،‬تحمل الرفض و ال تغضب‪..‬‬
‫إنها تفتح جفنيها ألول مرة هذا اليوم على صوت‬
‫الموج و إزعاج السيارات‪ ..‬تخلع روبها القصير‬
‫و تضع وجهها تحت ماء الحنفية البارد‪..‬‬
‫نزلت حياة من التاكسي‪ ..‬ال احد ينتظر وصولها‪..‬‬
‫حملت حقائبها و جلست تتأمل عن بعد حركة‬
‫العاصمة الفوضوية و تسمع غناءها العذب‪..‬‬
‫قاعة االنتظار و الساعة اليدوية تعمل‪ ..‬تكره‬
‫حياة االنتظار و قد طال نظرها إلى الساعة‪..‬‬
‫‪"-‬مداموازيل ‪،‬أأنت متوجهة إلى فرنسا؟"‬

‫‪"-‬اجل‼"‬
‫‪"-‬أنا أيضا! سنكون معا على ذات الطائرة إذن!‬
‫اسمي 'نادية'‪"..‬‬
‫‪"-‬حياة‪. .‬اسمي حياة‪"..‬‬
‫‪"-‬أأجد معك مناديل ورقية لو سمحت؟"‬
‫اآلن فقط أحست أن اجتماعيتها ذابت وسط صخرة و‬
‫تكتلت‪ ..‬أنها تتحول شيئا فشيئا إلى حيوان‬

‫‪29‬‬
‫بري‪،‬ال يحتمل وجود هذه اآلالت البشرية تحيط به‪..‬‬
‫أحست أنها قابلة لالنهيار في أي لحظة‪ ..‬و ال‬
‫يمكنها إظهار ذلك كله أمام بشري‪..‬‬
‫كفى أنها تغلق باب الحمام و تظل معّ‬
‫لقة أمام‬
‫هيأتها المهشمة ساعات و هي تبكي‪..‬‬
‫كيف ستتخلص من هذه الجرثومة؟‬
‫هذه المناديل الورقية‪ .‬ستعطيها لها كلها فقط‬
‫ْ و تتركها‪..‬‬
‫لتنصرف‬
‫إنها تريد المناديل الورقية ألجل ابنتها‪..‬‬

‫ما أجمل أمومتها‼ أال يمكن أن تكون هذه الدنيا‬


‫أما؟‬
‫الصغيرة اسمها 'مهرة' ‪..‬كانت تعبر عن نشاطها‬
‫‪..‬ليتها تكون قادرة على المحافظة على‬
‫طفولتها‪..‬هذه الدنيا أيتها المهرة ماكرة‪ ..‬لن‬
‫تتفهم أنك ستبتسمين‪ ..‬ستجلدك‪ ..‬فقلبها يا‬
‫صغيرتي ليس كقلب أمك‪ ..‬لن تأتيك بالمناديل‬
‫الورقية‪..‬‬
‫كم اشتهت وقتها أن تقف من مكانها و تضمها إلى‬
‫صدرها‪ ..‬تضمها حتى تختنق‪ ..‬سوف لن تؤذيها‪ ،‬بل‬
‫ستخلصها من هذا العالم اللئيم‪..‬‬
‫حملت حياة حقائبها و نزلت إلى الكافيتريا‪..‬‬
‫موعد الطائرة لم يحن بعد‪..‬‬
‫جلست و أمامها قهوة دون سكر و أفكار دون سكر‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫أين كانت الممحاة حينها؟‬
‫"في الحقيبة!"‬
‫بحثت عنها و لكن لم تجدها‪..‬‬

‫‪30‬‬
‫"يا للحظ‼"‬
‫لو وجدتها لتخلصت من تاريخ ميالدها‪.‬و انتهى كل‬
‫شيء‬
‫‪..‬‬
‫الرحلة مرهقة جدا‪..‬ما عادت تعرف أهي التي‬
‫تحمل الطائرة و ركابها على ظهرها أم أن‬
‫الطائرة هي التي تحملها‪ ..‬فالفراق بكل‬
‫معطياته تجربة صعبة مزقتها أكثر من مرة‪ ..‬و‬
‫األمل أحيانا مفقود‪..‬‬
‫باريس قريبة جدا من عقول البشرية و أهوالها‪..‬‬
‫أهم ما تفكر فيه الطريق الذي ستلتف عليه و‬
‫تهرب‪..‬‬
‫أسبوعان في باريس‪ .‬تعلمت هنا‪ ،‬في غرفتها‪ ،‬في‬
‫الطابق العلوي معنى العزلة و االنكماش فوق‬
‫سرير رائحته مليئة بالمرض‪ ..‬تعلمت كيف تكره‬
‫ضجة العالم الخارجي و اقترابها من اإلنس‪..‬‬
‫تعلمت كيف تكون عدوة لنفسهو و الجتماعيتها‪..‬‬
‫تعلمت أيضا أن تكون بمفردها‪ ..‬ال احد يفهم‬
‫لغتها‪ ..‬ال احد يحس ألمها‪ ..‬ال احد يفقه‬
‫مرضها‪..‬‬

‫ما أوحش تلك الوحدة الجائعة‼‬


‫كان يصطحبها والدها إلى المدرسة كل يوم‪..‬‬
‫يحمل عنها حقيبة تثقلها الحماقات‪ ..‬إنها‬
‫وحيدته‪ ،‬مدللته رغم حقده على جهازها التناسلي‬
‫الذي لم يكن جهاز ذكر ناضج يحمل اسمه‪..‬‬
‫هي ال تنسى فرحتها بميدعتها الوردية و حذائها‬
‫األزرق السماوي‪ ..‬ال تنسى فرحتها بأول صدرية‬
‫اشترتها لها أمها من كومة المالبس المستعملة‪..‬‬
‫‪31‬‬
‫وال تنسى كم كانت تهوى اللعب بشارب أبيها‪ ،‬و‬
‫بمشاعر اآلخرين‪ ،‬و التحديق في معطف ‪Monsieur‬‬
‫عبد الوهاب‪..‬و كم كانت تجلس و فوقها‬
‫السماء‪..‬و كم كانت تفرح لما يشد مراد على‬
‫يدها في شارع مرسيليا‪..‬‬
‫هي اليوم تحمل حقيبة أكثر حمال من تلك التي‬
‫كان يحملها عنها والدها ذات يوم‪ ،‬تثقلها‬
‫أرشيفات أخرى و سخرية من قدر ما‪..‬كانت تغني‪..‬‬
‫و فجأة لم يعد يعنيها ازرق السماء الذي داست‬
‫عليه و ال ورديتها‪..‬‬
‫أن تنسى أن فقدان المناعة المكتسبة يشكل‬
‫حاجزا عميقا بينها و بين نفسها‪،‬و بين العالم‬
‫الخارجي أمر صعب‪،‬بل يفوق الصعب‪ ..‬إنها تعلم‬
‫أن ذبابة فرنسية تحط على جلدها أو زكام طفيف‬
‫يفوت بالزما دمها ستودي بها إلى العالم‬
‫السفلي‪...‬‬
‫حياة في باريس اسم علم بال ألف و الم‪ ..‬كونها‬
‫نكرة تحت أنوار إيفل لن يؤلمها ألم أن تكون‬
‫كلبا حامال لوباء مميت وسط شارع مرسيليا‬
‫بمدينتها‪..‬‬
‫باريس عادلة جدا‪ ..‬ال تعلم بأمر جرثومة شرقية‬
‫تتنقل في شوارعها ليال و تستعمل قطاراتها‬
‫السريعة‪...‬‬
‫و لكن في شارع مرسيليا‪ ،‬الوقوف عند كريات دم‬
‫بيضاء فاقدة للمناعة كالوقوف عند الضوء األحمر‬
‫و تجاوزه يعني مخالفة جسيمة‪ ،‬ضريبتها جد‬
‫باهظة‪..‬‬
‫في مدينتها من أعظم اآلثام أن يجلس المرء‬
‫مصابا بالسيدا في حدائقها‪.‬‬
‫لم يتبق شيء سوى الالشيء‪..‬‬
‫‪32‬‬
‫حياة ابنة الخامسة عشر ‪.‬إنها تبلغ‪ .‬تبرز‪.‬‬
‫والدها‬ ‫إنها لم تكن تشعر بما يحصل‪..‬أ يالعبها‬
‫هذا كما يفعل دوما مع صغيرته؟‬
‫ال انه يسرب االيدز في دمها بعد أن انتقل إليه‬
‫من المواخير و بؤر الزنا‪.‬‬
‫و األسباب؟ دون أسباب؟ ألن بائعات الهوى كثيرات‬
‫في الطريق العام‪ ..‬و ابنته ليست واحدة منهن‪..‬‬

‫‪-٣-‬‬

‫جلس مراد على مكتبه بالجريدة منذ الساعة‬


‫السابعة صباحا‪..‬‬
‫طاولته مسكونة بالعبث و فكره مليء باألشباح و‬
‫باالضطراب‪ ..‬لم يكتب مقاال منذ ثمانية أشهر‪..‬‬
‫كل ما يجيد فعله هو المكوث على مقربة من نفسه‬
‫ينكل بها أقبح تنكيل و يمزق جلده حتى ينهكه‬
‫التعب فينام‪..‬‬
‫أن ينسى‪...‬‬
‫أينسى إذن؟‬
‫كيف ذلك يا صديقي و ذاكرته كالورم الخبيث‬
‫تزامنه‪..‬‬

‫آه يا عبث الحياة و األقدار‼ يتمنى لو تعود‬


‫به الساعة الجدارية إلى محطة العاصمة‪..‬‬
‫‪.‬سيتزوج من سهام بعد أسبوع‪..‬‬
‫حتما سيجيد الشطرنج‪ ،‬و ستكون الحياة ذلك‬
‫البيدق‪ ..‬و لن يسيء فهم والده مجددا‪..‬‬
‫‪33‬‬
‫السياسة أيضا بعثرته‪ ،‬لم تكن حياة وحدها‬
‫حاضرة في كل هذه التراجيديا التي وصل إليها‪..‬‬
‫والده يجيد اللعب بالملك و بالفيل‪ ،‬يعرف كل‬
‫شروط اللعب‪..‬‬
‫كان أمله الوحيد أن يزيح الستار عن الكواليس‬
‫و أن يوقف الجمهور األبله أو المدعي البله عن‬
‫التصفيق‪...‬شعاراته الحماسية كانت صادقة‪،‬‬
‫نابعة عن قلبه‪ ،‬عن نبضه‪ ،‬عن عروبته‬
‫المتحررة‪ ...‬و لكن الصفعة جاءته قوية جدا‪...‬‬
‫أفكَّر حقا انه لوحده وسط كومة القمل هذه سيزيح‬
‫كل الكراسي و يعيد صلة الرحم بين العروبة و‬
‫أمها؟‼‬
‫البيادق أوال‪...‬ثم الملك‪...‬‬
‫"المعارضة التي أنت تقول انك منتم إليها‬
‫كلها في خدمة المواالة‪،‬في خدمة أل‪... King‬و‬
‫لكنها تحيى خلف الكواليس و تموت بعدها‪ ..‬أنت‬
‫فيها مجرد بيدق تحركه الجرذان‪ ..‬استفق‼‬
‫الكراسي لن يجلس فوقها الوطن كما تريد ‪،‬بل‬
‫الوطن سيتحول إلى كرسي بالستيكي يجلس فوقه كل‬
‫من أجاد اللعب‪"..‬‬
‫المكتب ممل و الجلسة هنا‪ ،‬خلف هذا المكتب‬
‫مملة أيضا‪. .‬إن محطة العاصمة تلحقه إلى كل‬
‫زاوية‪ ،‬إلى فراشه قبل النوم‪ ،‬إلى عمله‪ ،‬إلى‬
‫الحديقة العمومية بعد منتصف الليل‪ ..‬تهمس‬
‫بقطاراتها في أذنه‪" ..‬امرأتك رحلت‼"‬

‫سهام ابنة جارتهم‪ ..‬ال تجيد سوى الطبخ و‬


‫القيام بدور اآللة‪..‬‬

‫‪34‬‬
‫♣♣♣‬
‫‪-PARIS‬‬
‫المقاعد وجوه غير مألوفة‪...‬‬
‫جلس الدكتور 'اندريه' في الكراسي األولى يعدل‬
‫جلسته تارة و يمسح نظاراته و دموعه تارة‬
‫أخرى‪..‬‬
‫نظر في ساعته اليدوية مستمتعا بتك‪-‬تاك صبره و‬
‫انتظاره‪ ..‬كل المقاعد من خلفه رؤوس بداخلها ال‬
‫تسمع سوى التك‪-‬تاك‪..‬‬
‫‪-‬ليونارد دي فانشي‪":‬ال تأخذي من صبري كثيرا‪..‬‬
‫خذي كل الشفقة من صدري و بلغيها ألولئك‬
‫الجرذان‪ ..‬ما بقي منهم سوى الحقارة ‪،‬سوى‬
‫القذارة‪ ،‬سوى النسيان‪ ..‬أنا سأنزع كل جلدي‪ ،‬و‬
‫ابتر كل أعضائي و احقن بصري و بصيرتي‪...‬ال‬
‫أريد أن أرى بشاعتك‪"..‬‬
‫‪-‬الموناليزا‪" :‬أنا حقيقتي تشوهت ‪،‬طبيعتي‬
‫تشوهت‪ ،‬و الجرذان لعبوا كما شاءوا بإنسانيتي‪.‬‬
‫ُتات من جسدي‬
‫‪.‬ليونارد إني اشعر باأللم ‪،‬أرى الف‬
‫عن كثب‪"..‬‬
‫‪-‬ليونارد دي فانشي‪":‬سأجتر بؤسي‪ ،‬و أعود من‬
‫حيث أتيت‪ ..‬لن تعيدك ألواني و ال جمالي و ال‬
‫حتى ضميري إلى الحياة‪...‬لقد عطسوا في وجهك‪،‬‬
‫أماتوا ضميرك كما أماتوا ضمائرهم‪ ،‬كما اشبعوا‬
‫غرائزهم‪ ..‬لن اقدر على فعل شيء ألجلك‪..‬‬
‫الجرذان النحيلة لن تتخلى عن قذارة قنوات‬
‫الجر‪"..‬‬
‫تغمض منحوتة الموناليزا عينيها و تتجمد رمزا‬
‫للموت‪..‬‬

‫‪35‬‬
‫يرحل ليونارد يجر خلفه موليار و يختفيان عن‬
‫الركح‪...‬و يعود النحاة إلى مكانه و هو يغني‪.‬‬
‫يضع الشال الحريري على رقبة المنحوتة‪..‬‬
‫‪-‬النحاة ‪":‬ال تظني يا عزيزتي أني بسكيني هذه‬
‫أقتلك و أؤذيك‪...‬فقط أريد أن أخلصك من أسرك‪.‬‬
‫موتي أنت‪..‬و سأموت أنا‪..‬و لن تبقى منا سوى‬
‫رائحة القطران‪"..‬‬
‫يطفئ النحاة الضوء‪ ..‬و يسدل الستار و خلفه‬
‫النهاية‪.‬‬

‫‪36‬‬

Vous aimerez peut-être aussi