Académique Documents
Professionnel Documents
Culture Documents
1
-١-
..../01/10
Théâtre de Renaissance-PARIS
*الفصل الثاني-مسرحية الموناليزا
ُفتح الستار األحمر على سيمفونية بيتهوفني
..يصفق الجمهور ..انارة الركح مسكونة
باألشباح و السّكر و السبات ..والشخصيات تغط في
نوم عميق ..و االستفاقة ستكون بطيئة ،مميتة و
قاسية.
يظهر النحاة في ورشته على هيأة المجنون :لحية
كثيفة و شعر متشعث ينهي اللمسات األخيرة من
منحوتة "الموناليزا"..
ّ الطبيعة من خلفك تهتز كأسطورة-النحاة ":إن
ّ موعده مع النهاية
..إنسانك األخرق ال يوقن أن
قد حان ..و لكني أعلم ذلك ..أعلم أن جمالك
ّ هذه الكرة الجليدية تذوب و أنككغضبك ..و أن
ستغمضين جفنيك عما قريب ،سترهقين حقيقتك
..فانطقي أنت ..قولي لطبيعتك أن تهدأ
،فالثورة لن تجدي نفعا مع حيوان حان موعد
انقراضه ،ال يفكر في شيء سوى النوم على قبعة
ّة ..في الحقيقة
فقمة ،سوى إشباع رغبته المتعي
2
أنا أعرف أن ال Rabbitهو األرنب بال English
و أن ال Appleهو التفاح و لكني لألسف ال اعرف
ُهضم التفاح ..أنا كيف يعيش األرنب و ال كيف ي
إنسان ،شكلي كهذا الكائن و لكن لألسف جسدك
يحرك هرموناتي ..أخبريها طبيعتك أن ال تغضب
..سآتيك بالشال الحريري الذي نسيته في مكان
آخر من ذات ذاك الحيوان"..
يخرج النحاة يغني..
يظهر الركح فارغا ،في الوقت الذي تتحرك فيه
بعض الصور المعلقة على الجدار ..و تتشخص.
3
-الموناليزا" :ليونارد ..إني عاجزة عن
الحراك ،الجبن رائحته عنيفة ..جد لي مخرجا من
فقاعة الفوالذ هذه"..
-ليونارد دي فانشي":ما أبشع وجهك و عينيك و
أنهارك ..أأنت حقا صورة مني؟؟"
-الموناليزا" :الطبيعة من خلفي ألوان من
الجحيم و من النهاية ..و أنا ألمي من صنع بني
اإلنسان ،بصري من صنعه و بشاعتي أيضا
..انظر(تكشف عن صدرها المشوه) إنها الجروح من
صنع بني اإلنسان"..
♣♣♣
وصل البريد الذي انتظر قدومه طيلة شهر و نصف
..لم يتمالك نفسه ،جرى يلتقط الرسالة من تحت
الباب الخشبي حافي القدمين؛ نسي نعله و
جوربه...لم يشعر ببرد البالط ..يؤلمه شوقه و
ينسيه كل شيء في اآلونة األخيرة..
فتح الظرف و قرأ الرسالة:
بسم هللا الرحمان الرحيم
././.
أما بعد ..
قد تشعر بالوحدة و الضيق
قليال ،و لكن يا أخي هذه حال الدنيا ،ال تزعل
..فما من شيء في الكون يستحق
منك كل هذا اإلرهاق ،ما من
شيء يستحق أن تظلم نفسك من اجله ..اصبر..
و لكنه فجأة تذكر نعله ،شعر بالبرد و األلم و
بخبث الحياة ..آه يا حياة‼ ..تكمشت الورقة
و الجنون بين أصابعه من فرط الغضب
4
..ليست الرسالة التي جلس شهرا و نصف الشهر
خلف الباب ينتظرها صباح عشية لقد تم تزيور
شفرتها ..لم يدر ما يفعل..
جلس عند مكتبه أين تبعثرت أوراق ،و تمزقت
ّة كومة من السجائر أيضا ..كم أوراق أخرى ..ثم
دخن في الفترة األخيرة ..لقد دخن أعصابه...وضع
يده على رأسه ،شعر بالصداع المصاحب إلى كومة
من الحزن تنزل على قلبه توصده ..نزلت الدمعة
واألخرى ..إنه يبكي‼ أجل يبكي ..لم تأت
الرسالة التي ينتظرها..
5
معها
صرخ حتى خار صوته ،و خارت قواه التي يجّ
منذ سنين ،و خار ثوره الهائج و لكن الشيء
الوحيد الذي لم يتزحزح هو ضعفه..
جلس على ركبتيه .لم يشعر أنهما داميتان،
تدميهما شظايا الزجاج المكسور ..ال يجرحه
نه منهار و مهزوم تماما..الكريستال ..إّ
7
يتأمل السقف المتآكل بسبب الرطوبة و سيجارته
تنطفئ كآخر لحظة أمل.
كادوا يحرقون العاصمة بأهلها خالل تلك
المظاهرة "..يا بوش ،يا جبان ..الشعب العربي
ُهان .."..و لكن مراد لم يكن يجيد لعبة ال ي
الشطرنج ..لم يكن يعرف أن البيادق أوال ،ثم
"الكش مات" ..و لم يكن يعرف انه بيدق من ضمن
ترمى في النار كي تحمي تلك البيادق الخسيسة ُ
ما خلفها ..لو كان يرى ما يوجد خلفه حقا من
النجاسة ما ألهب الدنيا بشعاراته ..حماسه
منعه من االلتفات و جعله يفكر أنه لو وقف
وجها لوجه أمام الجدار الفوالذي لقدر على
ّد بيدق ال غير
اقتحامه ..و لكنه في النهاية مجر
..كان عاجزا عن رفع أحالمه إلى الحقيقة كما لم
يكن قادرا على حمل الفأس و تكسير الصداع ،لم
يكن قادرا على قطع أرجل الكراسي ..كان يضحك
نه منه ..كان يضحك على سخف الواقع الذي نسي أّ
عندما يطبل كل من حوله و يزمرون ألجل قضية لم
و لن توجد ،أوألجل كلمات تسمع و ال تطبق ..و
لكنه اآلن يبكي ألنه صار يعرف شديد المعرفة أنه
كان بدوره يصفق ويطبل ويزمر من الخلف لما
يقول السيد" :السالم عليكم ،إني قد امتطيت هذا
الوطن دابة دون حالس"..
قام من مقعده ..دخل المطبخ يعد لنفسه كأسا من
الشاي ..و لكنه لم يجد غير الفراغ كما بنفسه
ال يوجد غير الفراغ ..لم يجد سكرا و ال شايا و
ال بنا و ال حتى جرعة نبيذ أو خل ..ال شيء
..أشعل سيجارة و اتكأ على حافة المقعد ..خطر
بباله "سمير الكساب" صديق عمره و هو كاتب .و
لكن يحلو في فم مراد أن يسميه "لسان الحقيقة
و المرارة" ..ال يعرف سمير غير الحقيقة
..أدار مراد كرة أرضية موضوعة على الطاولة
8
بجانبه ..هكذا كان يدير سمير الحقيقة ..يقول
ّ ما فيهأن هذا العالم عالم متخلف بأسره ،كل
يعيد ديباجة الصراع من اجل البقاء بطريقته
..قلم حبره يناهز الوجع و الغرابة ،و يسترسل
في األحداث ..ينقل حكايا اآلخرين جميعها..و كان
يشتكي كثيرا من أمه التي تؤلمه بكالمها ولم
يكن يعجبها أن يهدر وقته و صحته في الكتابة
..أمه امرأة أمية ال تعلم أن الذرة الواحدة
وسط عالم من الجنون ،تتعرض إلى تفاعالت
كيميائية و تصبح قادرة على االنفجار..
كان عاجزا عن نقل حكاياته هو فقط وعن استيعاب
نفسه أمام استيعاب اآلخرين ..سرعان ما ينفعل
ّ بداخله إحساس عميق باالنتماء إلى
للموجود ويظل
مكان ال يدركه ،إلى مدينة آلمها الظالم..
ال يعلم أحد مكانه و ال مصيره اآلنُ ..
نفي أم مات
أم سجن؟ ال يدري أحد ..فقط ألنه لم يكن بيدقا
..لم يصفق ..نظر إلى الكرة الجليدية من
الخارج ،ولم يقل هذا أنا وسط المعمعة و
الفتور و االستفزاز..
فتح مراد باب الشرفة و جلس على كرسي مبلل،
تبلله المطر ..و راح يتأمل في الرائح و
الغادي ..يشعره كل شيء بالهلع .لحيته تتدلى
و لم تحفظ عيناه لونهما القرمزي ،لم يعد لهما
لون لهما في تلك اللحظة ..فقد وزنه و أصبح
كهيكل عظمي تحركه الريح ..شعر كثيف ..رائحة
نتنة كرائحة الحياة ..لم يغتسل ولم ينزع عنه
البيجاما القطنية ذات اللون الرمادي و ال
األفكار البالستيكية ذات اللون األسود القاتم
منذ مّ
دة طويلة ..ال ينام ،ال يأكل ،ال يشرب ،ال
يتنفس ..الحياة تتوقف عنده و لكنها تبقى
مستمرة ال منقطعة في الخارج ،ال تنتظر الرد..
9
"آه منك يا حياة‼ كم أنت قوية يا غزالي‼ قوية
جدا ،فوق تصوري‼ ال تتأثرين بزوابع و ال
بأعاصير ،يكفيك انك تتفسحين بثوبك المفتوح في
شوارع لندن أو باريس و ال يهمك ما أفعل أنا
بحالي"..
وضع مراد يده على خده دون أن يشعر بالبرد.
الشوارع متأنقة بكسوة جديدة لم يعهدها من
قبل..
"عام سعيد" لم تكن هذه الالفتة موجودة آخر مرة
نزل فيها الشارع ..خارج دوامة الزمان..تساءل
كثيرا "كم مضى على سجني هذا؟؟"..تالمذة
المدارس يضحكون و يتحدثون عن االمتحانات ..و
لكنهم على كل حال يضحكون من الصميم ،ال يرثون
لحال الدنيا و مشاويرها..
لفتت انتباهه فتاة بحلة وردية ،ذكرته بأخته
كوثر ..كم اشتاق إليها‼ ال بل كم يشعر بحاجة
ماسّة إليها ..محتاج إلى أي كان يزيل عنه
العبء و إلى أنيس يتحدث معه ..آه‼ إنها أمل
زميلته في العمل و شقيقة صاحبه سمير كما أّ
نها
جارته القديمة في الحي الشعبي..
أفقدته حياة التركيز ..أفقدته صوابه و جعلت
منه دمية مسيخة يهزأ بها القدر ،بل تهزأ
بنفسها ،تنسى الجميع أحياء و أموات..
11
حاول أن يكون أبا مثاليا ،يحترم قرارات ولده
و يحاول كبت غيضه في البداية ظنا منه أن
وليده قد ينسحب من صفوف المعارضة عما قريب ،و
أن كل ما يقوم به هو فقط اثبات لذاته في سن
المراهقة..و لكن تصوراته مخطئة..وما كان مراد
يبغي إثبات ذاته بل إثبات الحقيقة..
طرده الحاج عبد المعطي من الدار و هو في سن
التاسعة عشر ،بعد أن كاد يفقد منصبه بسببه.
يوزع مراد المناشير و يرفع الشعارات و سمير
يكتب و ينشر ..كذلك كان مراد يختار عن الحياة
أحذيتها العالية ..كلها كانت على ذوقه ..و
لكن....
قطعت عليه تلك الغبية أمل دوامة أفكاره عندما
قذفته بحجر صغير ..و من أين جاء األمل؟ انه
مفقود تماما كالحليب..
12
..فهو حقا كالمتسول‼ الحياة تفعل أكثر من
هذا..
و لكن هذه الصديقة لم تقدر على إخفاء شعورها
بالشفقة ..وضعت إصبعها على أحد جروحه و قالت:
"-يؤلمك؟"
ّ‼"
"-ما دمت ال تشفق على حالك يا أخي
كانت تنهداته كافية للرد عليها..
"-والدتك جد مستاءة منك ألنك لم تقض العيد
عندها"..
"-العيد؟؟"
شرد به ذهنه ،و سلم إليها نفسه دون وعي بوجهة
مسيره ..رفع يده إلى عنقه ..الطوق الفضي الذي
أهدته له حياة في عيد الميالد الماضي ..عليه
اسمها" ..كم اشتاق إليك يا عمري‼"
أخذت معها عمره الحلو و رحلت ..ال يدري إلى
أين و إال لحقها ليعيد تلك السنوات ..انه يجهل
دة يومين فسألسبب رحيلها المفاجئ ..لم يرها مّ
عنها زميلتها التي قالت له بكل بساطة
":سافرت" إلى أين؟ متى؟ كيف؟ لماذا؟ ..ال أحد
يعلم "..سافرت والسالم" ..و هو آخر من يعلم
ّخه ،قلبه على عقبيه....رحيلها آلمه كثيرا ،دو
بعيدة جدا‼
لكنه يبقى محتاجا إليها ..إنها الوحيدة التي
تفهمه ،تحس به بعد حياة طبعا..
14
و لكن الحياة ال لون لعينيها حين تغضب
..جميلتان..
ابتسم ابتسامة عليلة ،سقيمة عندما مدت له
يدها تسنده كي يقف و تجره خلفها كالعادة ،و
لكنه سقط ..سقط دونما مقدمات كسفر حياة الذي
حدث بسرعة و دون مقدمات ..أغمي عليه ..و لم
يستفق إال على صوت الدكتور عماد ":نوبة عصبية‼
سوء تغذية‼ إرهاق‼ ليس بخير ..اعتني به يا
آنسة أمل ...يجب أن يتغذى ..يجب أن يبتعد عن
االنفعال"..
بعيد عن االنفعال؟ كيف ذلك و الكون من حوله
حقل ألغام ،مليء بالسوء و بالعصبية ..و حياة
ليست معه ‼ كيف ال ينفعل؟ كيف ال يحترق؟ كيف ال
يمأل الحنجرة بالصرخات و بالطعنات؟؟
ثم استفاق ثانية على صوت أم كلثوم "فات
الميعاد" في غرفة صغيرة..السقف و مكتبة
متواضعة .لفتت انتباهه كما لو انه ألول مرة
يراها ..منضدة عليها كتب الثانوية ..نسي انه
ُلقت على الجدار صور عديدة وجلس هنا طويال ..ع
لم تثره سوى صورة واحدة ..الحاج عبد المعطي
،الشامبانزي العالقة في فكره ..قامته القصيرة
و شكله الدائري يجعالنه مثل البرميل تماما
.رأس أصلع لرجل تكومت عنده ملفات مفتوحة ،و
سالت من تحت ضرسه حتى أسفل ذقنه رائحة لحم
الخروف و التونة و الرشوة ..و من حوله يقف
مراد ابن السادسة و أخته كوثر و سمير و أمل
في عيد من األعياد..
يغضب عبد المعطي لما يرى ابنه يحمل في يده
بالونا أحمر ..وجهه يمتقع كما لو أنه يريد شد
بارود يصوبه نحو رأسه ..أكان يقلقه أن أكون
طفال؟؟
15
كان يريد منه رجال ..منذ يوم نزوله من رحم
أمه المحموم كان يريد منه رجال حقيرا مثله.
انه يوقن في قرارة نفسه بشاعة الموقف و
بشاعة نفسه و سنه و شعوره بالقسوة على أبيه
بل احتقاره له..
أبإمكانه تغيير الحقائق و قلبها رأسا على
عقب؟ أله أن يمزق هويته و وطنه و ينسى انه
حيوان كالش؟ أله أن ينسى اجتماعات والده
السرية في غرفة المكتب على ضوء هادئ و أنه
كان ينقع الخبز بمال الحرام ألفي سنة؟ أله أن
ينسى أن والده أصلع و بطنه كبيرة و انه كان
يشعل األخضر قبل اليابس ألجل كرسي بالعجل؟ هل
له أن يغير طبيعة هذا المخلوق؟ و أن يمحي
انتماءه إلى عصر الغزو و الملل؟؟
كان مستعدا لفعل ذلك كله ،لنسيان هشاشة عظامه
لو ظل األمل ..لو ظل اإلحساس بالحياة موجودا
..و لكن حياة ذهبت ..و هو يبحث عن شريط الصق
يضعه على فمه و انفه و قلبه..
و نزلت تلك الدمعة التي يكرهها من عينه..
"لماذا يا حياة؟؟فقط قولي لماذا؟و لن أسألك
مرة أخرى‼"
اسند يده على طرف السرير الخشبي و لكنه لم
يقدر على الوقوف ..لم يجد بداخله قوة تحمله..
حياة...إنها تشل حركته و تعطل حواسه و تلغي
فيه كل المعاني الممكنة..
يحسها أحيانا طفلته المتصابية ..ترسم
"ألكاريه" و تحمل الحجر و تلعب ..تلعب
"ألكاريه" و هي ابنة الست و العشرين وأحيانا
أخرى كانت تصاب بحالة من الشرود فتسحب نفسها
16
من هذا العالم إلى عالم آخر ..إنها حبيبته
غريبة األطوار..
"أتدري أنه خلف كل فنان شيء عظيم من األلم و
الوجع؟؟"
"و هل أنت تتألمين إذن؟؟"
"أحيانا‼"
و لكنه لم يجد فرصة كي يسألها عن مكان األلم
..ال تبكي ..وجهها الخجول مبتسم دوما ..و
الطفلة التي تسكنها ال تنام ..كانت تحلم دوما
أن تنام نومتها األبدية على ركح Olympiaأو
دار األوبرا..
17
أثقله األلم المصحوب بعدم الرغبة في مواصلة
الحياة..
امرأة تفعل كل هذا؟؟
ما أقسى أن يدير الرجل وجهه للجدار الندي ،و
يتمعن في أسفل الكوكب األرضي ،أين تدوس كل
المآقي و األحزان على نفسه..
يشعر مراد بوحدة قاتلة ..سمير ثم كوثر ثم
حبيبته ..كل شيء يتالشى من حوله..
الحياة الغبية تقتله ببطء..تقطر له الموت في
كأسه قطرة تلو القطرة ..ما كانت تخسر لو
دفعته بسرعة و أنهت األمر؟؟ ما كانت تخسر لو
قتلته ،لو هضمته دفعة واحدة؟؟ ما أقسى كل شيء
..أتختبر الحياة صبره؟ و لكن كيف غاب عن
ذهنها أني ال اعرف صبرا؟ أني مصاب بهشاشة
العظام و سرعان ما أتحطم؟
امرأة كانت مصدر قوته و صبره ..حبها كان كل
شيء..
سيفجر رأسه في ضربة واحدة على الحائط الخلفي
..لم رحلت؟ أتنتقم منه؟ أين رحلت؟
يا للحمق‼
رأسه سينفجر دونما مقدمات ..قدمت األفكار
السوداء كلها و ساور الشك نخاعه الشوكي..
أخانته مع Monsieurعبد الوهاب؟؟ أمجنون أنا؟
كيف تخطر هذه األفكار ببالي؟ انه رجل متزوج ،ال
يقل سنه على الستين ..انتحرت إذن؟ ..بلعتها
األرض و أرجعتها إلى صلبها؟؟
لقد انتظر الرسالة و لم تأت ..حياة ال تؤمن
بقلب الدماغ و االتصاالت الحديثة ..مخها أنتيكة
نادرة أعاده إلى زمن الدهشة الجميلة .أسهرته
18
على ضوء الشموع و غنت في أذنه اليمنى طويال
حتى نام ..أخرجته من قوقعة المعقول إلى أخرى
كسرت فيها الئحة المعقول إلى الالمعقول ..ليست
المرة األولى التي تدوس فيها الحياة على
أصابعه بحذائها العالي ..
و هو مدرك رغم كل شيء أن وضعه هذا ال يجب أن
يطول ..ال بد له من أن يسأل نفسه إلى متى كل
هذا الخمول؟؟
ال بد له من مباشرة عمله في الجريدة من جديد..
دخل غرفته و أغلق الباب خلفه ..سيضحك على
نفسه قليال ويوهمها بالعافية و بالنسيان..لن
تمأل رائحة التبغ المكان مجددا. .ولهذا الشعور
حالوته و مرارته و أحياناتصدر حالوته عن
المرارة..
ارتدى معطف الكشمير و خرج..
شارع مرسيليا لم يتغير..
البرد شديد و المطر شديد و األلم شديد ..لقد
اخذ عن حياة تصابيها ..جرته خلفها إلى عالمها
الخلفي ..عودته على السير جنبا لجنب مع نفسه
وهو يشعل سيجارة خالية من النيكوتين وسط شارع
مرسيليا و المطر يتدفق على أمعائه و يبكيه في
صمت..
عودته على السير في بطء و على الغناء و
التألم في بطء ..و هو يفعل كل هذا ..يالحقها..
الصمت و السيجارة...
رمى جسده على مقعد الحديقة العمومية ..انه
بمفرده ..ال احد هناك غيره ..الجو قارس و
المطر غزير و هو ما عاد يأبه ..قد يظن المارة
19
انه مجنون ،انه معتوه ..و لكن ال يهم ..فقط أن
يجلس قرب نفسه مع بعض الصمت..
منتصف الليل إال ربع ..الشارع الرئيسي خالي
الذهن .
يدخل الجريدة حامال ملفاته و أوراقه غير آبه
بالكرة الجليدية التي تحطمه،يقدم اعتذاراته
لرئيس التحرير ..يحمل الكاميرا و ينزل تحت
األنفاق ينقب عن الحياة من جديد ..الحياة التي
ال تجوز إال في حرمات األنفاق المظلمة و القذرة
..أو يقدم استقالته األبدية من الجريدة و من
الدنيا و من كل شيء لونه بدأ يمتقع ..أو
يشتري كمية مهولة من الهيروين و يدمن على
الهرب ..أو يشد ربطة عنقه في أعلى الشجرة هنا
و يلفها حول جيده و يجد الخالص..
هذا كله ليس كاف.
-٢-
شهر ديسمبر يودع كل شيء رتيب ..يودع الشمس
الرتيبة و األمل المسكون بالبشاعة..
"مصحة الفي)-")La Vieالساعة 07:39صباحا
"-الدكتور آدم موجود؟ قولي له حياة( )....من
فضلك‼"
"-الدكتور موجود ماداموازيل ..انه في
انتظارك‼ يمكنك مالقاته"..
هناك في آخر الرواق ،الغرفة التي أشارت عليها
السكرتيرة..
كل ما كان عليها فعله هو أن تفتح الباب و
تدخل ..و لكن قلبها لم يتعود على المراوغة
20
..ال تدري إن كان كل شيء على ما يرام أم ال..
ليت قلبها يخطئ هذه المرة..
دوخة و آالم عديدة قلبت ذهن الدكتور و خلته
يطلب بعض التحاليل..
الغرفة مميتة،باردة..تغير ديكورها عن األسبوع
الماضي ..السرير األبيض الذي كان في الزاوية
المواجهة للباب تغير موقعه إلى الزاوية األخرى
..المكتب في لون الكستناء و الدكتور جاهز ،في
يده القلم و أوراق التحاليل..
وجهه متجهم و عروقه من تحت جلده تكاد تكون
واضحة .لوى شفتيه و خبأ عينيه البنيتين خلف
نظاراته و قد قرن حاجبين كثيفين ..عالقتها به
ليست جديدة العهد ..آدم كان زميلها في
الثانوية ..كانت تسميه X, Yألنه خريج شعبة
العلوم ،و هي ألنها ال تفهم الرياضيات اختارت
اآلداب..
صافحها و جلس قبالتها محترما ذكاءها:
"-حياة،ال ادري إن كان هذا الوقت المناسب
لحديثي ..و لكنك عزيزة جدا على قلبي و تدرين
أن ما يجمعنا صداقة عمرها طويل"..
لغة تبدو غريبة ..أأظهرت تحاليلها مرضا
قاتال؟ كوليرا مثال؟
"-ماذا هناك ادم؟ لم تحدثني بهذا األسلوب
الجاف؟"
-حياة أتقيمين عالقة مع مراد؟"
21
-ال اقصد هذا‼ أعني عالقة من نوع آخر ..عالقة
ّة ؟"
جسدي
كيف تتمالك نفسها و أعصابها؟
22
"-والدتي توفيت سليمة ..ليس بها شيء‼"
"-أتريدين بي جنونا؟ كيف ذلك؟ نزلت من بطن
والدك؟ أنت تتالعبين بأعصابي"..
"-الحكاية أصعب بكثير من أن يتقبلها ذهن
ّة" ..
دكتور مثلك ..لقد اغتصبني أكثر من مر
قلبها صدق هذه اللعنة ..ال بأس من كاس لوعة
آخر..
لم تكن صدمتها قوية بما فيه الكفاية لترتمي
مغمى عليها ..فقد استيقظت حاستها السابعة
قبل لحظات واشتمت رائحة مثيرة للعطس و
السعال..
23
يبدو المقهى و كل من فيه على الجانب اآلخر من
الشارع كقطع من الكرتون ..كل شيء يتحرك
"بالرالونتي"..
متثاقلة ..دفعت الكرسي إلى األمام و جلست
تتصبب عرقا .و الدنيا في الخارج تسير سيرها
المخاتل.
"-مداموازيل! أتطلبين شيئا معينا؟"
"-قهوة ..قهوة دون سكر"..
ألول مرة تشعر أنها تحب هذه المدينة حقا و
تحب هذا الطريق و تحب الدنيا.
كانت تشرب القهوة هنا،مع مراد في
الصباح...رائحة القهوة و االنتحار الجماعي
..أصوات الكعب العالي..
حياة كانت صغيرة جدا لما كان جدها يصحبها إلى
هنا ،يقتني لها قطعة 'الكيك' و يرسلها مع
مصطفى البقال إلى الدار..
لم تحافظ "مقهى الرياحين" على رائحتها و
بالطها المشقق و سقفها الملون بأعشاش
الحمام..كانت أجمل بكثير من هذه الرطبة،
الملونة..
"-أنت بخير مداموازيل؟"
"-ألك أن تأتيني بمناديل ورقية؟!"
المناديل الورقية لم تكن وحدها كافية لتجفيف
تلك المآقي..
لو كان مراد بجانبها الرتمت في حضنه و بكت و
بكت دون توقف..و لكن ال يجب أن يعرف شيئا..
24
ما اعند هذه الحماقة و ما اعصبها ..فيم يجب
أن تفكر؟ تظل هنا حتى تقفل الرياحين أبوابها،
بل تبيت فيها ،و تبكي فيها حتى يقدم اجلها
على عجل؟ أم تتصل بمراد ،تطلب منه القدوم و
تتذوق طعم المواجهة المستحيلة؟ أيستوعب ما
تقول يا ترى؟ انه في كل األحوال سيطلق األحكام
المسبقة ولن ينتظرها حتى تنهي جملتها األولى..
سيتركها و يرحل فتخسره إلى األبد ..فهو رجلها
الشرقي على كل حال..
فيم يجب أن تفكر إذن؟ في الموت؟ في الخالص؟ في
الرحيل؟
سحبت روحها من بين عظام جسدها الفاقد مناعته
..دفعت الحساب و خرجت..
"-تاكسي‼"
لن تفكر أكثر ..مراد ال يجب أن يعرف قصة هذه
التحاليل منذ البداية ..سيتألم أللمها و يحزن،
و هي ال تطيق حزنه و دموعه!
تقطن حياة في شقة تابعة لعمارة توجد في حي من
األحياء الشعبية بمفردها مع قطتها 'جوجو' منذ
توفيت والدتها..
هذا المرض يسري في كامل جسدها ..تتذكره مع كل
جرعة مسكن..
إنها اآلن و أكثر من أي وقت أخر محتاجة لذلك
الحب معها ،بجانبها ،يسحبها من يدها كدمية في
شارع مرسيليا..
دخلت غرفة االستحمام ..وضعت جسدها في الحوض
لساعات ،دموعها و حرقتها و الصابون المعطر في
حوض واحد إلى األبد..
25
"-آلو‼"
"-آلو‼"
"-باسل هذه أنا حياة!"
"-أين كنت اليوم؟ اخبريني!"
"-باسل يمكنني رؤيتك؟!"
"-أأنت بخير؟ صوتك ال يعجبني!"
"-أنا في الشقة! أأنتظرك؟"
"-نصف ساعة و أطرق بابك!"
ماذا تريد هذه الحياة؟ أن تجمع شجاعتها و
تواجه الدنيا؟ إنها امرأة ليست ككل امرأة،
26
طموحاتها و أحالمها فاقت حجم أنوثتها ،وجعلت
كل من حولها صديقا لها..
إن نظراتها تحفظ زوايا مختلفة ،ليست بالحادة
و ال بالمنفرجة ..و لكل ما حولها مقاييس جمال
و فن ،حتى االيدز في جسدها فن جديد. .فن
التآكل ،تآكل الخاليا الدماغية ...
جرس الباب..
باسل مديرها في الشغل ،لكنه أيضا صديقها
المفضل على اإلطالق ..رجل يكمن بريقه في فكره..
على األريكة األرجوانية ,جلس ينتظر حياة حتى
تحتسي آخر جرعة من فنجان قهوتها ببطء .
"-أأنت بخير؟!انك ترعبينني؟"
مدته بأوراق التحاليل..
"-ما هذا؟!أسبق و سمعت إنني دكتور ؟"
"-أال يزال عرض االشتراك في مهرجان باريس
قائما؟"
"-غيرت رأيك؟"
"-سأقدم 'كتيبة الموناليزا'! "
"-صدعت رأسي! ما دخل هذه التحاليل في
الموناليزا؟"
"-أنا..أنا يا باسل ..أريد أن أؤمنك على سر..
سأجمع حقيبتي هذه الليلة ..غدا سأتوجه نحو
المطار و منه إلى فرنسا ..سوف لن تخبر أحدا
بمكاني ..إنني انتهي"..
"-أنت تثيرين قلقا ماكرا في صدري! ما األمر؟"
27
"-إني مصابة بااليدز! مراد ال يجب أن يعرف
شيئا"....
"-أتريدين قلبي على جمجمتي أنت؟"
ّصها حتى
"-ال تصدقني ؟ التحاليل أمامك تفح
تتثبت"..
إنها متأكدة أن صديقها هذا سيكتم السر ..لكن
جمجمته ال تستوعب شيئا.
ّ هكذا! إني ادري فيما تفكر.."-ال تحدق في
المهم عندي أن ال يعلم مراد بشيء"..
انتهى كل شيء ..و ال داعي أن تبكي أو أن تنفعل
أمام أحد..
حقائبها جميعها صارت جاهزة ،و األلم العميق
أول ما وضعته فيها...
ستطفئ كل أضواء الشقة هذه الليلة...و سيأتي
مراد بعد قليل حتى يقول في أذنها كلمات تشبع
اضطرابها و لكنها لن تفتح الباب .فيترك رسالة
تحت الباب يعلمها فيها انه قد بحث عنها طويال
اليوم و أّ
نه انتظرها على الدرج و لم تأت و
انه مشتاق إليها و سينتظرها في الغد ..و في
آخرها يكتب بخط كبير
"احــــــــــــــبــــــــــــــك"..
إنها تشبه "تسونامي" في حركتها و دمارها و في
ركل هذه الدنيا في أسفل خاصرتها..
حملت حقيبتها اليدوية و حقيبة السفر ..نفضت
عنها الغبار العالق بحذائها و نزلت درج
العمارة درجة ،درجة..
الجميع هنا ينتظر ..بين األزقة ..في المقاهي،
في الرياحين ..عند المالعب و في كل مكان..
28
الطريقة الوحيدة للوصول إلى مطار العاصمة أن
توقف سيارة أجرة ..تجلس في المقعد األخير و
تتحمل رجات الطريق..تتقيأ ..حتى تصل..
إن العاصمة لوحة أخرى من لوحات المعارض..
إنها المكان الوحيد الذي ال يموت ..مهما غصت
باألوجاع تبقى في لونها الزهري ،وال تتوقف عن
الدوران..
ديسمبر يودع الشوارع ،يحمل على ظهره كل
السيئات و يذوب على الشاطئ ..و النوارس
تتهاوى مثله يعميها السكر..
كقلب األم هذه العاصمة ،تحمل الرفض و ال تغضب..
إنها تفتح جفنيها ألول مرة هذا اليوم على صوت
الموج و إزعاج السيارات ..تخلع روبها القصير
و تضع وجهها تحت ماء الحنفية البارد..
نزلت حياة من التاكسي ..ال احد ينتظر وصولها..
حملت حقائبها و جلست تتأمل عن بعد حركة
العاصمة الفوضوية و تسمع غناءها العذب..
قاعة االنتظار و الساعة اليدوية تعمل ..تكره
حياة االنتظار و قد طال نظرها إلى الساعة..
"-مداموازيل ،أأنت متوجهة إلى فرنسا؟"
"-اجل‼"
"-أنا أيضا! سنكون معا على ذات الطائرة إذن!
اسمي 'نادية'"..
"-حياة. .اسمي حياة"..
"-أأجد معك مناديل ورقية لو سمحت؟"
اآلن فقط أحست أن اجتماعيتها ذابت وسط صخرة و
تكتلت ..أنها تتحول شيئا فشيئا إلى حيوان
29
بري،ال يحتمل وجود هذه اآلالت البشرية تحيط به..
أحست أنها قابلة لالنهيار في أي لحظة ..و ال
يمكنها إظهار ذلك كله أمام بشري..
كفى أنها تغلق باب الحمام و تظل معّ
لقة أمام
هيأتها المهشمة ساعات و هي تبكي..
كيف ستتخلص من هذه الجرثومة؟
هذه المناديل الورقية .ستعطيها لها كلها فقط
ْ و تتركها..
لتنصرف
إنها تريد المناديل الورقية ألجل ابنتها..
30
"يا للحظ‼"
لو وجدتها لتخلصت من تاريخ ميالدها.و انتهى كل
شيء
..
الرحلة مرهقة جدا..ما عادت تعرف أهي التي
تحمل الطائرة و ركابها على ظهرها أم أن
الطائرة هي التي تحملها ..فالفراق بكل
معطياته تجربة صعبة مزقتها أكثر من مرة ..و
األمل أحيانا مفقود..
باريس قريبة جدا من عقول البشرية و أهوالها..
أهم ما تفكر فيه الطريق الذي ستلتف عليه و
تهرب..
أسبوعان في باريس .تعلمت هنا ،في غرفتها ،في
الطابق العلوي معنى العزلة و االنكماش فوق
سرير رائحته مليئة بالمرض ..تعلمت كيف تكره
ضجة العالم الخارجي و اقترابها من اإلنس..
تعلمت كيف تكون عدوة لنفسهو و الجتماعيتها..
تعلمت أيضا أن تكون بمفردها ..ال احد يفهم
لغتها ..ال احد يحس ألمها ..ال احد يفقه
مرضها..
-٣-
34
♣♣♣
-PARIS
المقاعد وجوه غير مألوفة...
جلس الدكتور 'اندريه' في الكراسي األولى يعدل
جلسته تارة و يمسح نظاراته و دموعه تارة
أخرى..
نظر في ساعته اليدوية مستمتعا بتك-تاك صبره و
انتظاره ..كل المقاعد من خلفه رؤوس بداخلها ال
تسمع سوى التك-تاك..
-ليونارد دي فانشي":ال تأخذي من صبري كثيرا..
خذي كل الشفقة من صدري و بلغيها ألولئك
الجرذان ..ما بقي منهم سوى الحقارة ،سوى
القذارة ،سوى النسيان ..أنا سأنزع كل جلدي ،و
ابتر كل أعضائي و احقن بصري و بصيرتي...ال
أريد أن أرى بشاعتك"..
-الموناليزا" :أنا حقيقتي تشوهت ،طبيعتي
تشوهت ،و الجرذان لعبوا كما شاءوا بإنسانيتي.
ُتات من جسدي
.ليونارد إني اشعر باأللم ،أرى الف
عن كثب"..
-ليونارد دي فانشي":سأجتر بؤسي ،و أعود من
حيث أتيت ..لن تعيدك ألواني و ال جمالي و ال
حتى ضميري إلى الحياة...لقد عطسوا في وجهك،
أماتوا ضميرك كما أماتوا ضمائرهم ،كما اشبعوا
غرائزهم ..لن اقدر على فعل شيء ألجلك..
الجرذان النحيلة لن تتخلى عن قذارة قنوات
الجر"..
تغمض منحوتة الموناليزا عينيها و تتجمد رمزا
للموت..
35
يرحل ليونارد يجر خلفه موليار و يختفيان عن
الركح...و يعود النحاة إلى مكانه و هو يغني.
يضع الشال الحريري على رقبة المنحوتة..
-النحاة ":ال تظني يا عزيزتي أني بسكيني هذه
أقتلك و أؤذيك...فقط أريد أن أخلصك من أسرك.
موتي أنت..و سأموت أنا..و لن تبقى منا سوى
رائحة القطران"..
يطفئ النحاة الضوء ..و يسدل الستار و خلفه
النهاية.
36