Vous êtes sur la page 1sur 388

‫جملة فصلية فكرية ثقافية‬

‫تصدر عن مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث‬


‫العدد العاشر‬
‫‪. .‬‬
‫فصلية فكرية ثقافية‬ ‫‪2017‬‬

‫املرشف العام‬
‫الدكتور أحمد فايز‬
‫رئيس التحرير‬
‫حسن العمراين‬
‫مستشارا التحرير‬
‫الدكتور حامدي ذويب‬
‫الدكتور محمد الصغري جنجار‬
‫تنفيذ وتصميم‬
‫رنا عالونة‬
‫محرر لغوي‬
‫عدنان سلطان‬
‫لوحة الغالف األمامي والخلفي بريشة الفنان‬
‫سامي الغريب ‪ -‬تونس‬
‫المحتويات‬

‫‪8‬‬ ‫كلمة رئيس التحرير‬

‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬


‫‪10‬‬ ‫فهمي جدعان‬ ‫أولية القيم ‪ ...‬والعدل‬
‫‪42‬‬ ‫دراج‬
‫فيصل ّ‬ ‫خواطر عن عامل عريب يتقدم مرتاجع ًا‬
‫‪48‬‬ ‫حممد شوقي الزين‬ ‫الطريق «املستحيل» نحو الديمقراطية‪:‬‬
‫من السياسة إىل الثقافة‬
‫‪68‬‬ ‫حممد أندليس‬ ‫نحو إعادة استشكال الديمقراطية يف عالقتها بالعدالة‬
‫‪82‬‬ ‫حممد املصباحي‬ ‫معاين العدل عند الغزايل‬
‫‪94‬‬ ‫عادل حدجامي‬ ‫ضد الديمقراطية‪:‬‬
‫أفالطون أو العدالة اهلندسية‬
‫‪104‬‬ ‫حممد هاشمي‬ ‫من العدالة اعرتاف ًا إىل العدالة تقدير ًا للذات‪:‬‬
‫رولز واملآخذ اهليغيل َّية‬
‫‪114‬‬ ‫خالص جلبي‬ ‫جدل ّية العدالة والديمقراطية‬
‫‪130‬‬ ‫بنحمودة‬
‫ّ‬ ‫عمر‬
‫ّ‬ ‫طوبى العدالة االجتامعية وعداء الديمقراطية يف فكر سيد قطب‬
‫‪150‬‬ ‫الزواوي بغوره‬ ‫الديمقراطية الليربال ّية‪ ،‬وموقف نظرية االعرتاف‬
‫‪160‬‬ ‫حممد اخلراط‬ ‫الديمقراطية بني مطلب العدالة وآلة العنف‬
‫‪168‬‬ ‫منويب غباش‬ ‫تصور العدالة‪ :‬الرشط اإلجرائي والتأسيس األخالقي‬ ‫ّ‬
‫‪180‬‬ ‫مصطفى بن متسك‬ ‫مفارقات التعدد ّية الليربال ّية‪:‬‬
‫أو كيف يكون التعايش ممكن ًا يف وضعيات التفاوت؟‬
‫‪192‬‬ ‫غيضان السيد عيل‬ ‫العدالة والديمقراط ّية بني املودودي وس ّيد قطب‬
‫‪202‬‬ ‫صابرة بالفالح‬ ‫الكفر بالديمقراطية والعدالة يف زمن ما بعد الربيع العريب‪:‬‬
‫بحث يف املفاهيم التي دارت عىل غري معانيها‬
‫‪214‬‬ ‫أمارتيا صن ‪ /‬ترمجة وتقديم‪ :‬مصطفى العارف‬ ‫الديمقراطية باعتبارها استدالالً عموم ٍّيا‬

‫حوارات‬
‫‪224‬‬ ‫تقديم وحوار املهدي مستقيم‬ ‫مع املفكر اللبناين مشري باسيل عون‬
‫‪244‬‬ ‫تقديم وحوار عيل صدّ يقي‬ ‫مع الناقد واألكاديمي املغريب سعيد يقطني‬

‫مقاالت‬
‫‪248‬‬ ‫عبد السالم بنعبد العايل‬ ‫ابن رشد‪ :‬فيلسوف الفصل‬
‫‪252‬‬ ‫سعيد بنكراد‬ ‫التأويل الصويف وجتربة «احلقيقة»‬
‫‪256‬‬ ‫حممد يوسف إدريس‬ ‫يف السؤال عن حدود املوضوعية يف الدراسات الدينية املقارنة‬
‫‪264‬‬ ‫نايلة أيب نادر‬ ‫وقفة تأملية يف رجم العقالنية‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪6‬‬
‫‪268‬‬ ‫منصف الوساليت‬ ‫السلف‪ :‬تأمالت فلسفية يف الدّ اللة والوضع‬
‫صورة ّ‬
‫‪274‬‬ ‫توفيق فائزي‬ ‫التفكري والتذكر والزمن‬
‫تصورين‪ :‬فرجينيا وولف وحنَّا أرندت‬ ‫مقارنة بني ُّ‬
‫‪276‬‬ ‫محادي ذويب‬ ‫منزلة العقل لدى إبراهيم النظام‬

‫مراجعة كتب‬
‫‪284‬‬ ‫حنان درقاوي‬ ‫ملاذا نحتاج لإليامن؟‬
‫جوليا كريستيفا واحلاجة التي ال تصدّ ق لإليامن‬

‫أدب وفنون‬
‫‪288‬‬ ‫عيسى الشيخ حسن‬ ‫شعر‪« :‬قدود عىل مقام القصف»‬
‫‪292‬‬ ‫إبراهيم بورشاشن‬ ‫  «غار نجم أيب»‬
‫‪294‬‬ ‫عيل القاسمي‬ ‫قصة قصرية‪« :‬الذكرى»‬
‫‪298‬‬ ‫ترمجة‪ :‬أمحد عبد اللطيف‬ ‫«سعيد جدا» آلنا ماريا ماتويت‬ ‫ ‬
‫‪302‬‬ ‫عبد اهلل ابراهيم‬ ‫و«األوديسة»‬
‫ّ‬ ‫نقد‪ :‬ـ ما غاب عن هومريوس يف «اإللياذة»‬
‫‪306‬‬ ‫تقديم وترمجة‪ :‬حسن الغُريف‬ ‫  ـ بابلو نريودا‬
‫‪316‬‬ ‫حاتم الساملي‬ ‫  ـ يف آليات الشعر ّية يف رواية «ترصيح بالغياب» ملنترص الق ّفاش‬
‫‪328‬‬ ‫حممد اشويكه‬ ‫حركت الريح الرمال»‪:‬‬ ‫سينام‪ :‬فيلم «لو َّ‬
‫هل املوت ٌ‬
‫قابل للتصوير؟‬
‫‪332‬‬ ‫بنيونس عمريوش‬ ‫تشكيل‪ :‬مصطفى بومجعاوي‪:‬‬
‫العبور نحو املاورئيات‬

‫قطوف‬
‫‪336‬‬ ‫ترمجة وتقديم وتعليق‪ :‬حممد شوقي الزين‬ ‫الرتمجة بوصفها ثقافة‪ /‬حوار مع باربارا كاسان‬

‫علوم وثقافة‬
‫‪346‬‬ ‫جعفر عاقل‬ ‫موضوع الصحراء يف التجربة الفوتوغرافية املغربية‬

‫شخصيات وأعالم‬
‫‪350‬‬ ‫احلسني سحبان‬ ‫القديس أوغسطني‬
‫‪368‬‬ ‫سم ّية املحفوظي‬ ‫ابن رشد احلفيد‬

‫‪378‬‬ ‫إصدارات مؤسسة مؤمنون بال حدود‬

‫الصفحة األخيرة‬
‫‪384‬‬ ‫عبد السالم بنعبد العايل‬ ‫الفلسفة ‪ ...‬مشي ًا‬

‫‪7‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫كلمة رئيس التحرير‬
‫إن اإلحساس املرير بالظلم الذي حييق بنا من ّ‬
‫كل النواحي هو التجربة األوىل التي تدخلنا إىل إشكال َّية‬ ‫الصواب إذا قلنا َّ‬
‫لعلنا ال نجانب ّ‬
‫ملحة جعلت من‬ ‫العدالة‪ .‬فانتشار الفظاعات والرشور واستفحال االنتهاكات والتجاوزات وتفاقم االختالالت والتفاوتات‪ ،‬أمور َّ‬
‫كل األزمنة‪ ،‬وهو ما يشهد عليه باخلصوص تاريخ الفلسفة منذ أفالطون وأرسطو مرور ًا‬ ‫مؤرق ًا لإلنسان يف ّ‬ ‫مطلب العدالة سؤاالً ّ‬
‫بالفلسفتني اإلسالم َّية واحلديثة وصوالً إىل الفلسفة املعارصة‪.‬‬

‫ألن هذه‬‫تُعدُّ العدالة‪ ،‬كام َّبي أرسطو يف كتابه عن اإلتيقا‪ ،‬أسمى القيم‪ ،‬بل «أبدع من نجمتي املساء والصباح»‪ .‬فهي بديعة بالفعل َّ‬
‫الفضيلة جتعل من البحث عن الكامل شيئ ًا آخر غري السعي األناين لتمثلها والتش ُّبع هبا‪ .‬وحدها «العدالة تبدو‪ ،‬من دون سائر القيم‪ ،‬خري ًا‬
‫املتوجه نحو الغري يكشف لنا املعنى احلقيقي للكامل اإلنساين‬‫ِّ‬ ‫ال يتمحور عىل الذات وإنَّام يمدُّ اجلسور مع الغري»‪ .‬وهذا الشوق إىل اخلري‬
‫فالتوجه نحو الغري‬
‫ُّ‬ ‫إن البحث عن الكامل مسألة يف غاية الصعوبة‪.‬‬ ‫الذي ال يمكن إدراكه إال يف أفق كامل يتحقق يف إطار الوجود باملع َّية‪َّ .‬‬
‫«كل ما هو‬ ‫الصعب»‪ .‬هنا نتذكَّر ما قاله سبينوزا‪ُّ :‬‬
‫فضيلة العدالة‪ ،‬إذ ال يربع املرء يف إنجاز يشء ما مل يستحرض اآلخر‪ ،‬وهذا هو «األمر ّ‬
‫مجيل صعب ونادر»‪ .‬هنا ال ُبدَّ من متييز جوهري بني اإلتيقا واألخالق؛ فاألوىل هتفو إىل الظفر بحياة ط ّيبة‪ ،‬بينام تقرتن األخالق دوم ًا‬
‫بالواجبات وتنضبط باملعايري واإللزامات‪.‬‬

‫اإلرث األرسطي الذي تتميز فيه‬‫ِ‬ ‫درك التقابل املوجود بني إرثني‪:‬‬
‫يف التمييز بني مقصد احلياة الط ّيبة واخلضوع للمعايري والواجبات‪ُ ،‬ي َ‬
‫واإلرث الكانطي ذي الطابع الديونطولوجي‪ ،‬حيث تتحدَّ د األخالق بالطابع اإللزامي للقاعدة‬ ‫ِ‬ ‫اإلتيقا بمنظورها الغائي التليولوجي‪،‬‬
‫املؤسسات العادلة؛ وحني ننربي للحديث‬ ‫باملؤسسة‪ ،‬عىل الصعيد التليولوجي‪ ،‬يكون املقصود هو َّ‬ ‫َّ‬ ‫واملعيار‪ .‬فحني نتحدَّ ث عن العالقة‬
‫عنها عىل املستوى الديونطولوجي‪ ،‬فالعني عىل املواجهة بني جمموعة من املعايري التي جيري ضبطها وترتيبها بواسطة إجراءات تروم ضامن‬
‫املساواة بني اجلميع أمام القانون؛ وعىل الصعيد الربغاميت‪ ،‬يكون القصد هو املواجهة املحتدمة بني هذه القواعد وعالقات اهليمنة التي‬
‫كل تفكري جدّ ي يف العدالة‪ :‬كيف نعطي للعدالة‪ ،‬فيام وراء التربير‬‫مؤسسات‪ .‬هنا تنكشف الصعوبة التي تواجه َّ‬ ‫تظهر هي أيض ًا يف شكل َّ‬
‫الربغاميت‪ُ ،‬بعدها الغائي أو التليولوجي الذي ال تستقيم احلياة املشرتكة بدونه؟‬

‫مؤسسات عادلة‪ .‬ضمن هذا املنظور ال تتح َّقق العدالة‬ ‫يبي ريكور‪ ،‬تروم احلياة الط ّيبة مع اآلخر وألجله داخل َّ‬ ‫فالقصود اإلتيق َّية‪ ،‬كام ّ‬
‫للمؤسسات االجتامع َّية كام احلقيقة بالنسبة إىل‬
‫َّ‬ ‫املؤسس َّية‪ .‬فالعدل‪ ،‬حسب العبارة الشهرية لرولز‪ ،‬هو الفضيلة األوىل‬ ‫إال عرب الوساطة َّ‬
‫املؤسسىات فهي بالتعريف ليست إال بنيات تضمن العيش املشرتك جلامعة تارخي َّية ـ شعب‪ ،‬أ َّمة‪ ... ،‬ـ وهي بنيات‬ ‫أنظمة الفكر‪ .‬أ َّما َّ‬
‫أن اإلنسان ليس خالد ًا‪ ،‬فإنَّه يمنح نفسه نوع ًا من األبد َّية من خالل تشييد‬
‫غري قابلة لالختزال إىل عالقات فرد َّية بني األشخاص‪ .‬فبام َّ‬
‫املؤسسات‪ .‬فالسلطة ال توجد وألطول مدَّ ة إال إذا تو َّفرت إرادة‬
‫مؤسسات تعيش زمن َّي ًا أطول منه‪ .‬والقض َّية املعضلة هنا تكمن يف هشاشة َّ‬ ‫َّ‬
‫ال بالرتاتب َّية بني احلاكمني واملحكومني تنطوي عىل البينيات‬‫السلطة السياس َّية املوسومة أص ً‬ ‫َّ‬
‫العيش املشرتك داخل مجاعة تارخي َّية ما‪ .‬بيد أن ُّ‬
‫املؤسسات‪.‬‬‫املحايثة للهيمنة‪ ،‬وهذا هو الطابع املقلق يف هشاشة َّ‬

‫املؤسسات يف‬
‫أن فشل َّ‬ ‫املؤسسات بوصفها العنرص الذي حيقق َّ‬
‫كل رغبة يف العدل‪ ،‬ويف اآلن نفسه ‪ ،‬هي ما يتيح نسيانه‪ ،‬عىل اعتبار َّ‬ ‫تظهر َّ‬
‫فاملؤسسة نسق لتوزيع احلقوق‬
‫َّ‬ ‫تدبري العيش املشرتك والعمل بمقتىض مبدأي املساواة واإلنصاف سيجعل حتقيق العدالة أمر ًا مستحيالً‪.‬‬
‫املؤسسات‪ ،‬وعرب سريورات التوزيع املختلفة‪.‬‬ ‫والواجبات واملوارد واخلريات‪ .‬وهذا الطابع التوزيعي يطرح مشكل العدالة داخل َّ‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪8‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬إذا كان الرصاع وباقي صنوف العنف مناسبة تتيح تدخل ما هو قضائي‪َّ ،‬‬
‫فإن هذا األخري ينضبط بالقانون ويتحدَّ د‬
‫بمجموع اإلجراءات التي من خالهلا يرتفع الرصاع إىل مستوى القض َّية‪ ،‬وحول هذه يتمحور النقاش اللغوي الذي ُيسم يف النهاية‬
‫بكلمة تقول احلق‪ .‬هناك مكان يف املجتمع تنترص فيه اللغة عىل العنف‪ :‬املحكمة‪.‬‬

‫لقد انتقلت املجتمعات اإلنسان َّية من الرببر َّية إىل احلضارة عندما هجرت منطق االنتقام وعانقت أفق العدالة الرحيب والتدبري السيايس‬
‫والديمقراطي للرصاعات‪ .‬لذا كانت العدالة دوم ًا مؤرش ًا عىل الديمقراط َّية‪ ،‬وكانت الديمقراط َّية طريق ًا إىل العدالة‪ .‬فهام مفهومان‬
‫جمرد توزيع عادل للخريات املاد َّية أم هي أيض ًا توزيع‬‫متواشجان يمسك أحدمها برقبة اآلخر‪ .‬لكن عن أ َّية عدالة نتحدَّ ث؟ وهل العدالة َّ‬
‫للخريات السياس َّية وضامن ملشاركة اجلميع يف بناء املجتمع والتن ُّعم بخرياته‪ ،‬وتأذن بتحقيق أكرب قدر من طيب العيش؟ كيف يمكن أن‬
‫إن الديمقراط َّية ليست نظام ًا طوباوي ًا كامالً‪،‬‬
‫تنجح التعدُّ د َّية الديمقراط َّية يف إطار من التفاوتات االقتصاد َّية الصارخة؟ أال ينبغي القول َّ‬
‫وإنا ال تعني الفضيلة املطلقة‪ ،‬وإنَّام هي حقوق وواجبات؟ هل ستكون القرارات التي سيقود إليها استفتاء ديمقراطي بالرضورة عادلة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ألنا ديمقراط َّية؟‬ ‫َّ‬

‫هل يكفي تطبيق القانون لضامن العدالة‪ ،‬أم أنَّه ال ُبدَّ من اعتامد قيم اإلنصاف والتعويض كذلك؟ إذا كان يف الديمقراط َّية «ما يقتيض‬
‫مؤسسات اجتامع َّية متارس اإلنصاف واملساواة‪ ،‬فام هي حظوظ‬
‫احلق يف االختيار‪ ،‬دون اإلساءة إىل اآلخرين‪ ،‬ويف العدالة ما يستدعي َّ‬
‫الديمقراط َّية والعدالة يف جمتمعات عرب َّية مل تدخل فعل َّي ًا إىل األزمنة احلديثة»؟‬

‫وقوة أطروحاته وغزارة معلوماته‪ ،‬عسانا‬ ‫هذه وتلك أسئلة عميقة ومتش ّعبة جعلتنا نفرد هلا ملف ًا ضخ ًام وغن َّي ًا‪ ،‬يتم َّيز ُّ‬
‫بتنوع مقارباته َّ‬
‫نكون قد أفلحنا يف إلقاء املزيد من األضواء عىل أسئلة العدالة يف تشابكاهتا القو َّية مع الديمقراط َّية يف سعيها احلثيث لبناء جمتمع عرصي‬
‫حديث‪.‬‬

‫ال بنصوص فكر َّية وأدب َّية وفن َّية ها َّمة تسافر بالقارئ يف فضاءات اإلبداع‬ ‫وإىل جانب هذا امللف‪ ،‬حرصنا عىل جعل هذا العدد حاف ً‬
‫نتعرف عىل القضايا التي تشغلهم ونتابع‬‫ضمنَّاه حوارات ها َّمة مع مفكرين عرب وأوروبيني من خمتلف املشارب‪ ،‬حتى َّ‬ ‫واإلمتاع‪ ،‬كام ّ‬
‫جديد استشكاالهتم وتفكراهتم‪.‬مسك اخلتام دوم ًا بحصاد«مؤمنون بال حدود» الذي جاء عاكس ًا حليو َّية َّ‬
‫املؤسسة يف نرش املعرفة وإصدار‬
‫والقراء عىل امتداد ربوع الوطن العريب‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫الكتب التي تساهم يف دعم حركة التنوير ومدّ جسور التواصل بني املبدعني‬

‫أملنا أن نكون قد ُو ّفقنا يف تقديم عدد متكامل يرقى إىل تطلعات قرائنا الكرام‪ ،‬يف انتظار مسامهاتكم ومالحظاتكم واقرتاحاتكم‪.‬‬

‫ن‬‫حس‬
‫العمراين‬

‫‪9‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫أَ َّو ِل َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫فهمي جدعان*‬

‫أن املشكل األعظم الذي حيكم تالبيب االجتامع العريب املعارص ومفاصله يقع عىل وجه التحديد‬ ‫أكف‪ ،‬عن تكرار الزعم َّ‬ ‫أكف‪ ،‬ولن َّ‬ ‫مل َّ‬
‫أن املسألة ك ّلها‬
‫مرات عدة يف وجه األطروحة التي زعم أصحاهبا من الضاربني يف «العقالن َّية املرسفة» َّ‬ ‫يف شبكة القيم‪ .‬ولقد هنضت َّ‬
‫وأن ذلك‪ ،‬بالطبع‪ ،‬لن يتح َّقق إال بعد املرور‬ ‫كل يشء‪َّ ،‬‬ ‫تفرد العقل ويف تنصيبه إمام ًا يف ّ‬
‫وأن حلها يتمثل يف ُّ‬ ‫تكمن يف «العقل العريب»‪َّ ،‬‬
‫بـ «نقد» هذا العقل‪ ،‬الذي أطبق نقا ُّده عىل أنَّه عقل خرايف‪ ،‬أو بياين‪ ،‬أو «سابق للمنطق»‪ ،‬أو ضارب يف «اهلرمس َّية»‪...‬إىل آخر ذلك من‬
‫أن هذه الرؤية‪ ،‬عىل‬ ‫السامت املرذولة التي هتبط بطبيعة هذا العقل وبقيمته يف أداء دور إجيايب يف النهضة العرب َّية‪ .‬وقد كان موقفي وما زال َّ‬
‫ثمة وجه ًا آخر‪ ،‬بنيوي ًا‪ ،‬هلذا املشكل يكمن يف‬ ‫تظل قارصة عن اإلحاطة بمجمل املشكل‪َّ ،‬‬
‫ألن َّ‬ ‫الرغم من األساس الواقعي السديد هلا‪ُّ ،‬‬
‫اخللل العميق الذي يتل َّبس «الفعل»‪ ،‬أي القيم‪ ،‬أي منظومة القيم الفاعلة السائدة وهيكل َّية «الس َّلم» الذي حيكم هذه القيم ويضبطها‪.‬‬
‫بكل تأكيد‪ .‬ومن ُي ِ‬
‫لق النظر إىل وقائع احلياة‬ ‫فذلك وجه شاهد يف مجلة األفعال التي تصدر عنا يف حياتنا اليوم َّية‪ .‬الظاهرة ليست جديدة ّ‬
‫األخالق َّية العرب َّية أمس واليوم يشهد بجالء اخللل األخالقي يف هذه احلياة‪ .‬الحظ ذلك الفالسفة العرب قدي ًام؛ وضع أبو بكر الرازي‬
‫(الطب الروحاين) إلصالح األخالق والنفوس‪ .‬وتن َّبه حييى بن عدي إىل املشكل نفسه يف (هتذيب األخالق)‪ ،‬وتابعهام مسكويه يف‬ ‫ّ‬ ‫كتابه‬
‫تم يف أعامل هؤالء‪ ،‬وغريهم‪ ،‬فضح أخالق‪ :‬ال ُع ْجب‪ ،‬والكذب‪ ،‬واحلسد‪ ،‬والنفاق‪ ،‬والظلم‪،‬‬ ‫(هتذيب األخالق وتطهري األعراق)‪ .‬لقد َّ‬
‫ال عن «أمراض النفس» وآالمها‪ ،‬كاحلزن‪ ،‬واخلوف من املوت‪ ،‬والغم‪ ،‬وغريها‪ .‬مل تنقلب األمور‬ ‫وطلب اجلاه واملناصب الدنيو َّية‪ ،...‬فض ً‬
‫يف األزمنة احلديثة‪ ،‬إذ هي تسوء وتسوء‪ ،‬وتتَّجه بـ «فضل» ظفر الرأسامل َّية والنفع َّية والفردان َّية والعوملة‪ ،‬إىل مزيد من فساد القيم وانتشار‬
‫مضادات «الفضيلة» وفق املصطلح القديم‪ ،‬مصطلح أفالطون وأرسطو ومن تابعهام من فالسفة العرب واإلسالم‪.‬‬

‫إن املسألة كامنة يف هجر الدين واألخالق‬‫بكل تأكيد‪ ،‬يقول الدعاة والوعاظ وأئمة املساجد املسلمون ورجال الدين املسيحي وغريه‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫التي دعت إليها ديانات التوحيد‪ .‬والوعظ الديني والرتبية الدين َّية يؤكدان َّ‬
‫أن األخالق هي عىل وجه التحديد القيم الدين َّية واألخالق‬
‫الدين َّية‪ ،‬وال يشء سواها‪.‬‬

‫أن اإلنسان‪ ،‬بإطالق‪ ،‬مفطور عىل ثلة من القيم التي يذهب كثري من الفالسفة واملفكرين والعلامء أيض ًا إىل االعتقاد‬ ‫لك َّن احلقيقة هي َّ‬
‫عززت هذه األخالق وأضافت إليها قي ًام جديدة‪ .‬لك َّن التقليد‬ ‫بأنا مغروسة‪ ،‬أو مغروزة‪ ،‬يف الطبيعة اإلنسان َّية‪ ،‬وحني جاءت الديانات َّ‬ ‫َّ‬
‫أن الناس‬ ‫ألن الثابت هو َّ‬ ‫الذاهب إىل التمييز بني األسس الدين َّية واألسس الفلسف َّية أو العقل َّية‪« ،‬الطبيعة»‪ ،‬للقيم األخالق َّية َّ‬
‫ظل قائ ًام‪َّ ،‬‬
‫أمر غري سديد وغري واقعي‪َّ ،‬‬
‫ألن للقيم الطبيع َّية‪،‬‬ ‫بكل تأكيد ٌ‬‫أن غري املؤمنني هم بال أخالق‪ ،‬ذلك ّ‬ ‫ليسوا مجيع ًا مؤمنني‪ .‬لك َّن ذلك ال يعني َّ‬
‫لكل نمط من‬ ‫أن ّ‬‫كل مكان‪ ،‬إىل جانب القيم الدين َّية التي يشدّ د عليها هذا الدين أو ذاك‪ .‬وال خيفى َّ‬ ‫أو «اإلنسان َّية»‪ ،‬حضور ًا ملموس ًا يف ّ‬
‫املسوغ‪ ،‬فالقيم الطبيع َّية‪ ،‬أو «اإلنسان َّية» ذات أسس رصحية‪ :‬العقل‪ ،‬أو الفطرة‪ ،‬أو الضمري‪ ،‬أو املجتمع‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫املقوم أو‬
‫هذه القيم أساسها ّ‬
‫أو غري ذلك‪.‬‬

‫* مفكر وأكادميي من فلسطني‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪10‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫أ َّما القيم الدين َّية فرتجع إىل األساس الذي تقوم عليه الديانة‪ ،‬أي أوالً وآخر ًا إىل الوحي‪.‬‬

‫قد تتضارب أو تتضاد أو تتباين القيم الدين َّية ‪ -‬يف هذه الديانة أو تلك ‪ -‬والقيم «اإلنسان َّية» الطبيع َّية أو الفلسف َّية‪ ،‬لكنَّها يمكن أيض ًا أن‬
‫وألن هذا موضعه‪ .‬قلت‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫مهيته‪،‬‬ ‫تتوافق هبذا القدر أو ذاك‪ .‬وقد كان يل قول يف هذه املسألة‪ ،‬غري متداول‪ ،‬أرى أن أسوقه هنا‪ ،‬أل ّ‬

‫«يف حماورة (أوطيفرون ‪ )Euthyphron‬ألفالطون‪ ،‬يلتقي سقراط بأوطيفرون يف دار القضاء‪ ،‬فيسأله عن السبب الذي من أجله هو‪،‬‬
‫حق أبيه ‪ -‬الطاعن يف السن ‪ -‬الذي اقرتف جريمة ِ‬
‫قتل غال ٍم عنده‪.‬‬ ‫إن غرضه إقامة دعوى «الفجور» يف ّ‬ ‫مث ُله‪ٍ ،‬‬
‫آت إىل هذا املكان‪ ،‬فيجيبه َّ‬
‫تستبدُّ بسقراط الدهشة‪ ،‬ويطلب من أوطيفرون تفسري ًا ملا هو م ِ‬
‫قد ٌم عليه‪ ،‬فيقول إنَّه يفعل ذلك استجابة آلمر «التقوى» أو «املقدَّ س» ‪ -‬و‬ ‫ُ‬
‫يكون بينهام‪ ،‬عىل وجه اخلصوص‪ ،‬هذا احلوار‪:‬‬

‫التقي‪ ،‬يا عزيزي أوطيفرون‪ ،‬أال حت ُّبه اآلهلة مجيع ًا؟‬ ‫ّ‬ ‫سقراط‪ :‬ما قولنا يف‬
‫بكل تأكيد‪.‬‬‫أوطيفرون‪ّ :‬‬
‫تقي أم لسبب آخر؟‬ ‫سقراط‪ :‬وهل هي حتبه ألنَّه ّ‬
‫أوطيفرون‪َّ :‬إنا حتبه لسبب واحد‪ ،‬هو أنَّه ّ‬
‫تقي‪.‬‬
‫ألنا حتبه‪»! ‬‬ ‫تقي ‪ ،‬لكنَّه ليس تقي ًا َّ‬
‫سقراط‪ :‬فهي إذ ًا حتبه ألنَّه ّ‬
‫ويستمر احلوار وينرصم من دون أن يفيض إىل نتيجة قاطعة‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫َت َّول هذا احلوار يف تاريخ الفكر الفلسفي والديني إىل ما ُس ّمي (إحراج أوطيفرون)‪ ،‬وتر َّددت أصداؤه لدى توما األكويني وكانط‬
‫وبرتراند رسل وهابرماس وكثريين آخرين‪ .‬ويف اإلسالم أيض ًا تقابل عنده «النقليون» من (أصحاب احلديث) و(األشاعرة) من طرف‬
‫خي ًا أو حسن ًا َّ‬
‫ألن اهلل‬ ‫يغ (اإلحراج) يف هذه األوساط مجيع ًا عىل النحو التايل‪ :‬هل يكون ٌ‬ ‫و«العقليون» من املعتزلة من طرف‪ِ .‬‬
‫وص َ‬
‫فعل ما ّ‬
‫خي أو حس ٌن يف ذاته؟ ويتعلق هبذا السؤال إحراج آخر‪:‬‬ ‫يأمر به؟ أم َّ‬
‫أن اهلل يأمر به ألنَّه ّ‬

‫هل يمكن أن يكون الفعل الفاجر تق َّي ًا‪ /‬أو الفعل القبيح حسن ًا‪ /‬إذا أخرب اهلل بذلك؟ أو أن يكون الفعل احلسن قبيح ًا إن أخرب اهلل‬
‫بذلك؟‬

‫وبتعبري آخر‪:‬‬
‫يؤسس القول َّ‬
‫إن هذه القيمة األخالق َّية خري أو رش؟ العقل (اإلنساين)‪ ،‬أم الدين (أو اهلل)؟‬ ‫ما الذي ِّ‬

‫تثور املسألة اليوم أيض ًا‪ ،‬يف فكرنا العريب واإلسالمي‪ ،‬ويف الفكر الغريب أيض ًا‪ .‬وتشخص يف أمرها رؤيتان متقابلتان مرتافعتان‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬الرؤية التي تنسب نفسها إىل العقل والعقالن َّية وتؤسس األخالق عىل العقل‪ ،‬وجتعله مسوغ ًا لإللزام األخالقي الكوين‪.‬‬
‫ومسوغ ًا لإللزام األخالقي عند املؤمنني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والثانية‪ :‬الرؤية التي جتعل الدين أو الوحي أساس ًا لألخالق‪،‬‬

‫ويلحق هبذين الوجهني من النظر تقرير مطابقة األخالق للدين عند فريق‪ ،‬وتقرير «التاميز» والتقابل التام بني االثنني عند فريق آخر‪.‬‬

‫سأنحرص يف مراجعة املشكل يف حدود هاجسنا العريب واإلسالمي‪ ،‬لكنَّني لن أجتاهل ما يتعلق به عن فالسفة الغرب املحدثني‪،‬‬
‫بممثلي دا ّلني‪ ،‬أحدمها يدافع عن األساس العقالين لألخالق‪ ،‬واآلخر يدافع عن األساس الديني له‪ :‬عادل‬
‫ْ‬ ‫وسأكتفي من مفكرينا‬

‫‪11‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫إن هاتني الرؤيتني يف شأن األساس الذي‬ ‫ضاهر‪ ،‬وطه عبد الرمحن‪ .‬ثم أقول قويل‪ .‬لكنَّني قبل ذلك‪ ،‬ومن أجل استكامل املشهد‪ ،‬سأقول َّ‬
‫ثمة وجوه ًا أخرى من النظر تشخص يف مواقف أخرى ال‬ ‫تستند إليه القيم األخالق َّية ال تستنفدان مجيع املواقف املتعلقة باملسألة‪َّ ،‬‬
‫ألن َّ‬
‫تشتق األخالق من العقل‪ ،‬وال تشتقها من الدين‪ ،‬وإنَّام تر ُّدها إىل منابع أخرى‪ ،‬إ َّما طبيع َّية‪ ،‬وإ َّما ذات َّية‪ .‬ذات َّية كاإلرادة والرغبة والشهوة؛‬
‫ال للوجود‪،‬‬ ‫أن القيم األخالق َّية حمايثة أص ً‬‫أو طبيع َّية كتلك التي تدافع عنها الفلسفة الطبيع َّية الواقع َّية‪ ،‬التي يذهب اآلخذون هبا إىل َّ‬
‫قائمة فيه بالطبع أو الطبيعة‪ ،‬ويف اصطالح بعضهم‪ :‬مغروزة يف الوجود‪ .‬وليس يبعد عن هذه النظرة مذهب القائلني‪ ،‬وفق رؤية دين َّية‪،‬‬
‫عب عنها جان جاك روسو‪ .‬وكذلك يمكن أن يلحق هبذه‬ ‫بـ «الفطرة»‪ ،‬أو بـ «حال الطبيعة»‪ ،‬وفق فلسفة إنسان َّية رومانس َّية كتلك التي َّ‬
‫«احلس األخالقي»‪ ،‬الوجداين‪ ،‬الطبيعي‪ ،‬الذي يتكلم عليه‪ ،‬عىل وجه اخلصوص‪ ،‬ديفيد هيوم‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫األفهام نظرة الفالسفة القائلني بـ‬
‫أن العقل ُيعنى بام هو كائن ال بام جيب أن‬‫يم ّيز بني األحكام الوجود َّية واألحكام املعيار َّية‪ ،‬ويربط النظر إىل العقل هبذا التمييز‪ ،‬إذ يؤكد َّ‬
‫يقرر الوسائل ال الغايات‪ ،‬أي أنَّه ينحرص يف الكشف‬ ‫يكون‪ ،‬وما جيب أن يكون هو حقل «مملكة الغايات» أي األخالق‪ ،‬أ َّما العقل فإنَّه ّ‬
‫عن الوسائل اجلديرة بتحقيق الغايات التي تتعلق موضوعاهتا باإلرادة عىل وجه التحديد‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أنَّه ال يملك القوة الدافعة إىل الفعل‪.‬‬
‫أن احلكم اخللقي ال يقوم عىل العقل‪ ،‬وأنَّه ليس لألحكام األخالق َّية أساس عقالين (عادل ضاهر‪ ،‬األخالق والعقل‪.)20 ،‬‬ ‫وحمصل ذلك َّ‬

‫لنرجع إىل الرؤيتني املركزيتني اللتني مها مثار النظر واجلدل يف أمر تأسيس األحكام األخالق َّية‪ :‬الرؤية العقل َّية‪ ،‬والرؤية الدين َّية‪.‬‬

‫ألن أصحاب هذا‬ ‫يف مقدمة ما يشخص للنظر‪ ،‬حني يتعلق األمر باملنظور العقالين‪ ،‬هو أن نسأل عن معنى العقل‪ .‬هذا أمر رضوري‪َّ ،‬‬
‫املذهب يشدّ دون عىل قض َّية مركز َّية هي «أسبق َّية العقل عىل النقل»‪ ،‬ومن َث َّم الدفاع عن قضية اشتقاق األحكام األخالق َّية من العقل‬
‫وتقرير اإللزام اخللقي بالر ّد إىل العقل‪.‬‬

‫أن مفهوم العقل مفهوم غامض‪ ،‬مشكل‪ ،‬ال اتفاق حوله وال إمجاع‪ ،‬ومازال اخلالف واالختالف قائمني يف الغرب نفسه‬ ‫ليس رس ًا َّ‬
‫حول معنى العقل‪ ،‬وحول ما إذا كان العقل ملكة نظر َّية إدراك َّية فحسب‪ ،‬أم َّ‬
‫أن له وظيفة معيار َّية‪ .‬ومعلوم اليوم يف إطار مرحلة (ما بعد‬
‫أن «الرسديات الكربى» ‪ -‬كالتقدُّ م والعقل والعلم‪ -...‬قد أصيبت يف الصميم واشتدَّ التخيل والعزوف‬ ‫يمر هبا الغرب َّ‬
‫احلداثة) التي ُّ‬
‫عنها‪ .‬وأطروحة «أول َّية العقل» التي أخذ هبا مفكرو عرص التنوير وكانت متثل بداهة من بداهات ذلك العرص والقرون التي تلت‪ ،‬هي‬
‫اآلن موضع مراجعة نقد َّية جذر َّية لدى مفكرين كجاك دريدا وريشارد روريت‪ ،‬ومجلة فالسفة التأويل‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن الفالسفة الوجوديني‪.‬‬

‫لكن ما هو املفهوم الكالسيكي‪ ،‬أو التقليدي للعقل‪ ،‬خصوص ًا ذاك الذي نجده عند «العقالنيني الكالسيكيني»؟ أرسطو قدي ًام‪،‬‬
‫وديكارت حديث ًا‪.‬‬

‫وم َ ِّردة‪ ،‬مستعدَّ ة لقبول صور املعقوالت من املوجودات احلس َّية وحتويلها من‬‫قوة يف النفس اإلنسان َّية ُم َ َّردة ُ‬ ‫أ َّما العقل عند أرسطو فهو َّ‬
‫معقوالت بالقوة إىل معقوالت بالفعل هي موضوعات املعرفة‪ ،‬أي أنَّه قوة نظر َّية ُم َعدَّ ة إلدراك ماهيات املوجودات وصورها‪ ،‬وقادرة عىل‬
‫االستنباط واملحاكمة واملقايسة والتسويغ والتحليل والرتكيب والربهان‪ .‬لكنَّه ال يتمتع بميزة الفاعل َّية‪ ،‬أو بأن يكون فع ً‬
‫ال من األفعال‬
‫أن العقل ُيعنى بام يكون ال بام جيب أو ينبغي‪َّ ،‬‬
‫وأن وظيفته إدراك َّية معرف َّية عىل وجه التحديد‪.‬‬ ‫اإلنسان َّية‪ ،‬أو مبدأ ألحكام معيار َّية‪ .‬وهذا يعني َّ‬

‫أن العقل ملكة متكّن اإلنسان من أن يدرك أو يعرف‬ ‫ويتحرك الفكر الديكاريت يف األفق نفسه عىل وجه التقريب‪ ،‬إذ يرى ديكارت َّ‬
‫حقائق من نوع معني عىل نحو مبارش (غري استداليل)‪ ،‬أي أنَّه ملكة استنباط ال ملكة استدالل‪ ،‬وأنَّه يستند ابتداء إىل أداة يف املعرفة املبارشة‬
‫كل ما ال يمكن حدسه‬ ‫أن َّ‬
‫هي احلدس‪ ،‬منه تستنبط مجلة املعارف املمكنة يف العامل اخلارجي أو يف الوجود الذايت‪ .‬والذي يرتتب عىل ذلك َّ‬
‫أو ما ال يمكن استنباطه ممَّا نحدسه ال يمكن أن يكون ذا شأن عقيل‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪12‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫التصور األرسطي والديكاريت الذي جيعل‬ ‫ُّ‬ ‫إ َّن‬ ‫والسؤال الكبري الذي يثور هنا هو التايل‪ :‬هل العقل قوة فاعلة‬
‫من العقل قوة إدراك َّية نظر َّية خالصة وظيفتها‬ ‫قادرة عىل دفع اإلنسان إىل الفعل؟ أم أنَّه ليس كذلك؟ ويلحق‬
‫يقرر الغايات التي ينبغي‬
‫بذلك‪ :‬هل من وظائف العقل أن ّ‬
‫األساس َّية «تعيني احلقائق الرضور َّية القبل َّية التي ال‬
‫حتقيقها يف احلقل األخالقي العميل‪ ،‬أم َّ‬
‫أن وظيفته تنحرص يف تقرير‬
‫أي وظيفة‬‫جمرد من ّ‬ ‫حتتاج إىل برهان‪ »..‬هو عقل َّ‬ ‫الوسائل املناسبة لتحقيق غايات اختريت عىل أساس غري عقيل‪،‬‬
‫معيار َّية جوهر َّية‪ ،‬أي أنَّه ال يملك أن يكون أساس ًا‬ ‫كاإلرادة أو الشهوة أو العاطفة أو املزاج االجتامعي؟‬
‫تشتق منه األحكام اخللق َّية‬
‫يتفق القديس أوغسطني وتوما األكويني ودفيد هيوم‬
‫ويؤكدون‬ ‫أن العقل النظري ال يملك القوة عىل الدفع إىل الفعل‪ ،‬أي إىل ممارسة األفعال األخالق َّية‪ِ ،‬‬
‫وعادل ضاهر وسواهم‪ ،‬عىل َّ‬
‫أن العقل النظري ينحرص يف املعرفة واإلدراك واالستدالل فحسب‪ .‬وذلك خالف ًا لفالسفة يتقدَّ مهم سقراط القائل َّ‬
‫إن العلم‬ ‫َّ‬
‫بالفضيلة يقتيض بالرضورة العمل هبا وممارستها‪ .‬وبكلمة‪ ،‬مثلام يؤكد عادل ضاهر‪ ،‬املعارف واالعتقادات هي املادة األساس َّية‬
‫للعقل النظري؛ أ َّما الغايات التي ينبغي حتقيقها يف حقل العمل فرتتبط بعقل آخر قادر عىل تسويغ وإنفاذ األفعال األخالق َّية‬
‫واالختيارات والقرارات والغايات واملقاصد‪ .‬هذا العقل هو العقل العميل‪ ،‬الذي ال ينفصل فيه العقل عن الفعل (أول َّية‬
‫العقل‪ .)34،‬ذلك أيض ًا ما يذهب إليه طه عبد الرمحن‪ ،‬عىل الرغم من التضاد املذهبي بينه وبني عادل ضاهر‪ ،‬إذ هو رصيح يف‬
‫املجردة‪ ،‬أي النظر َّية اخلالصة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫إن العقل النظري ال يمكن فصله عن الفعل (سؤال األخالق‪ ،)63،‬هو يس ِّلم بالعقالن َّية‬ ‫القول َّ‬
‫عرف العقل املسدَّ د بأنَّه «العقل الذي اهتدى‬ ‫يسميه «العقالن َّية ا ُمل َسدَّ دة»‪ .‬وهو ُي ِّ‬
‫لكنَّه يؤكد َّأنا قارصة‪ ،‬وأنَّه ينبغي تعزيزها بام ّ‬
‫املجردة‬
‫َّ‬ ‫إىل معرفة املقاصد النافعة» التي هي عنده املعاين الثابتة التي تنبني عليها تكاليف الدين‪ .‬وعنده َّ‬
‫أن اخلروج من العقالن َّية‬
‫أن العقل العميل هو الذي يصبح أساس ًا للقيم األخالق َّية‬ ‫يتم بالتوسل بالقيم العمل َّية؛ أي َّ‬ ‫العارية من منافع املقاصد‪ ،‬والقارصة‪ُّ ،‬‬
‫واألفعال األخالق َّية (نفسه‪ 68 ،‬وما بعدها)‪ .‬وذلك عىل وجه التحديد‪ ،‬لكن عىل خالف جوهري يف املذهب‪ ،‬هو ما عرف عن‬
‫التقليد الكانطي وما شدَّ د عليه عادل ضاهر‪.‬‬

‫لكن ما هو العقل العملي هذا؟‬


‫إنَّه عقل‪ ،‬أو قوة إدراك َّية قادرة عىل تسويغ األفعال واالختيارات واملقاصد والغايات والقرارات‪ ،‬أي أنَّه عقل ال ينفصل عن الفعل‪،‬‬
‫جمرد عقل َّية أدات َّية أو وسائل َّية‪ ،‬إذ هي تتجاوز التفكري يف كيف َّية تقرير الوسائل الرضور َّية لتحقيق‬ ‫َّ‬
‫ألن العقالن َّية‪ ،‬وفق هذا املنظور‪ ،‬ليست َّ‬
‫منبت الصلة عن‬ ‫ّ‬ ‫معني بتقرير الوسائل‪ .‬وتقرير الغايات ليس‬ ‫ٌّ‬ ‫معني بتقرير الغايات مثلام هو‬ ‫ٌّ‬ ‫غايات مع َّينة؛ والذي يتميز بالعقالن َّية‬
‫بالعميل‪ ،‬أي‬
‫ّ‬ ‫الرشوط البيولوج َّية وعن التنشئة االجتامع َّية‪ ،‬إذ احلاصل األخري للتنشئة االجتامع َّية كائن عقالين يرتبط النظري عنده‬
‫العقالين غري التقويمي بالعقالين التقويمي‪ ،‬لذا ال جيوز جتريد العقل من الوظيفة املعيار َّية‪ ،‬أي األخالق َّية‪.‬‬

‫مر‪ ،‬بالرشوط البيولوج َّية والرشوط االجتامع َّية‬ ‫لك َّن هذا العقل عند عادل ضاهر ليس ذا عالقة عضو َّية بالدين‪ ،‬وإنَّام هو مرتبط‪ ،‬مثلام َّ‬
‫فإن العقالن َّية ‪ -‬يف صيغتها «ا ُمل َسدَّ دة»‪ ،‬ال يف‬
‫التي تدفع إىل الفعل يف املجال العميل‪ .‬أ َّما عند طه عبد الرمحن وأصحاب املنظور الديني َّ‬
‫املجردة – هي «خاصة الفعل اإلنساين الذي يقوم يف طلب حتقيق مقاصد مع َّينة نافعة بوسائل مع َّينة»‪ ،‬ويف صيغتها «املؤ ّيدة »‬ ‫َّ‬ ‫صيغتها‬
‫طاعة يف العبادة واشتغال باهلل وطاعة يف املعاملة وتعامل مع اهلل‪ ،‬وهي «خاص َّية الفعل اإلنساين الذي يقوم يف طلب حتقيق مقاصد نافعة‬
‫بوسائل ناجعة»‪ ،‬يف حدود اجلمع بني نفع املقاصد يف ثباهتا وشموليتها وبني نجوع الوسائل يف تغريها وخصوصيتها‪ ،‬بدوام «االشتغال‬
‫أي مذهب عقالين حقيقي‪ ،‬أعني‬ ‫فإن ما يذهب إليه طه عبد الرمحن هنا ال يمكن أن ينتسب إىل ّ‬ ‫باهلل والتغلغل فيه» (نفسه‪ .)75 ،‬ومع ذلك َّ‬
‫ألن «العقيل»‬‫يتمسكون باستقالل العقل اإلنساين ال يمكن أن يس ّلموا له بر ّد العقل إىل الدين أو إىل التد ُّين‪َّ ،‬‬ ‫أن مجيع «العقالنيني» الذين َّ‬ ‫َّ‬
‫يظل «إنسان َّي ًا» يف املقام األول والنهائي‪ ،‬أ َّما الديني فيظل إهل َّي ًا أوالً وآخر ًا‪ ،‬وإحراج أوطيفرون ُّ‬
‫يظل قائ ًام‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫‪13‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫التصور األرسطي والديكاريت الذي جيعل من العقل قوة إدراك َّية نظر َّية خالصة وظيفتها األساس َّية‬ ‫ُّ‬ ‫ُم َ ّصل القول يف هذه املسألة َّ‬
‫أن‬
‫أي وظيفة معيار َّية‬
‫جمرد من ّ‬
‫ثم استنباط ما يمكنه استنباطه منها» هو عقل َّ‬ ‫«تعيني احلقائق الرضور َّية القبل َّية التي ال حتتاج إىل برهان‪ ،‬ومن َّ‬
‫جوهر َّية‪ ،‬أي أنَّه ال يملك أن يكون أساس ًا تشتق منه األحكام اخللق َّية‪ ،‬ألنَّه متعلق جوهري ًا بام هو واقع ال بام هو مرغوب فيه أو مطلوب‬
‫معياري ًا‪ ،‬أي أنَّه يتعلق بالوجود ال بالوجوب‪ .‬أ َّما العقل العميل أو التقويمي أو املعياري ‪ -‬أو األخالقي‪ -‬فإنَّه قوة يف اإلنسان تتعلق قبل‬
‫توجه الفاعل إىل الفعل‪ ،‬وال تنفصل عن الرشوط‬ ‫أي يشء آخر بالرغبة واإلرادة والقرارات واألفعال القصد َّية التي هي دوافع ورغبات ّ‬ ‫ّ‬
‫توجه إىل الفعل وحتكم طبيعة الفعل الذي يوصف بأنَّه أخالقي أو غري أخالقي‪ ،‬إذ ختتلط يف فضائه األفعال‬ ‫البيولوج َّية واالجتامع َّية التي ّ‬
‫أن جمال العقل العميل هو جمال‬‫التي يقتضيها الواجب واألفعال التي تتدخل فيها املصلحة الذات َّية‪ ،‬وقد يتناقض مع ما يتطلبه الواجب‪ .‬أي َّ‬
‫تتقابل فيه وتتشابك وتتعارض وتتوافق‪ :‬الرغبات واملنافع والواجبات واالعتبارات الفرد َّية واالجتامع َّية‪.‬‬

‫سمى العقل‬‫يف املشكل الذي نحن يف قبالته‪ ،‬أعني األساس العقيل لألخالق واألساس الديني لألخالق‪ ،‬ويف ضوء هذا التاميز بني ما ُي َّ‬
‫سمى العقل العميل والعقالن َّية املعيار َّية‪ ،‬ويف حدود مبدأ «اإللزام األخالقي» الذي تفرتضه األفعال‬
‫النظري والعقالن َّية النظر َّية‪ ،‬وبني ما ُي َّ‬
‫األخالق َّية‪ ،‬سوا ٌء أكان األصل هو العقل أم الدين‪ ،‬ما الذي يل أن أعتربه األقوم واألجدر بأن يكون موضوع اعتقاد أو تصديق؟‪.‬‬

‫املقوم للقيم‬
‫أن (النص) ـ الديني‪ -‬هو احلاكم واألساس ّ‬ ‫يف تراثنا اإلسالمي تقابل النقل ُّيون والعقل ُّيون عند هذا املشكل‪ .‬أكَّد النقل ُّيون َّ‬
‫واملبدأ القاطع لإللزام اخللقي‪ ،‬وأنَّه ال أساس سواه‪ ،‬فام أخرب به النص هو اخلري أو الرش‪ ،‬احلسن أو القبيح‪ .‬وقد ترتب عىل ذلك‪ ،‬منطقي ًا‪،‬‬
‫وبكل تأكيد سيضيق جمال‬ ‫ّ‬ ‫أن اهلل لو أخرب بأن يكون ما اعتُرب «منكر ًا» أمر ًا حسن ًا ‪-‬أو العكس ‪ -‬لكان األمر مقضي ًا عىل هذا النحو‪.‬‬ ‫َّ‬
‫«العامل األخالقي» حينذاك لدى من ال يأخذون بأصول القياس واإلمجاع واالستصحاب واملصالح املرسلة‪ ،‬وغري ذلك ممَّا َأ َّصله بعض‬
‫أن هؤالء مجيع ًا ال يشعرون بالغبطة ملا ذهب إليه العقل ُّيون ‪-‬‬ ‫يوسع عىل الناس يف دينهم ودنياهم‪ .‬ومع َّ‬ ‫أصحاب املذاهب الفقه َّية‪ ،‬وممَّا ِّ‬
‫خصوص ًا املعتزلة منهم‪ -‬يف وضع «النظر العقيل»‪ -‬أي العقالن َّية النظر َّية ‪ -‬منهج ًا يف النظر وحتديد احلسن والقبيح من حيث َّإنام ذات َّيان‬
‫أن احلق الذي‬ ‫وأن الرشع يأيت ويعززمها‪ ،‬إال َّ‬
‫يف املوجودات يستطيع العقل النظري اإلنساين الكشف عنهام وتبينهام قبل ورود الرشع هبام‪َّ ،‬‬
‫أن هؤالء وأولئك ـ أعني أصحاب العقل وأصحاب املذاهب الفقه َّية «املنفتحة» ‪ -‬يشرتكون يف فضيلة جوهر َّية هي‬ ‫ينبغي أن يقال هو َّ‬
‫الديني»‪ ،‬إىل رؤية دين َّية إنسان َّية منفتحة‬
‫ّ‬ ‫الرغبة واإلرادة يف اخلروج من الرؤية الدين َّية التي تقف عند حدود ما حيلو يل أن أسم ّيه «اإلنسان‬
‫مهها اإلنسان بإطالق‪ .‬وحني أقول الرغبة واإلرادة فإنَّني أحرش يف الرؤية هذه العقليني و«النقليني املنفتحني» يف القاطرة نفسها‪ .‬قد يقال‬ ‫ُّ‬
‫أن (النص) يأيت‬ ‫يل هنا‪ :‬لك َّن املعتزلة ال يس ِّلمون إال بالعقل أساس ًا ملا هو خلقي أو غري خلقي‪ ،‬وجوايب هو َّأنم يثبتون إىل جانب ذلك َّ‬
‫أن اهلل خالقه وطابعه ال الطبيعة أو الوجود‪،‬‬ ‫وأن العقل نفسه هبة إهل َّية لإلنسان وليس «هبة طبيع َّية»‪ ،‬أي َّ‬
‫ليعزز ما يعقله العقل النظري‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫إن العقل النظري ‪ -‬الذي ال يملك قوة الدفع إىل‬ ‫وفق املنظور«الدهري»‪ .‬وأنا سأحدث‪ ،‬من بعد‪ ،‬تطوير ًا أساسي ًا يف هذه الرؤية ألقول َّ‬
‫الفعل‪ -‬جيد يف العقل العميل الديني‪ ،‬أي يف الوحي ومتعلقاته من الثواب والعقاب األخرويني‪ ،‬متم ًام له ومسوغ ًا موضوعي ًا‪ -‬وذاتي ًا يف آنٍ‬
‫ِّ‬
‫مع ًا‪ -‬لإللزام األخالقي‪.‬‬

‫ألنظر اآلن يف مدى قوة األفهام التي ال جتعل األساس األخالقي ال يف الدين وال يف العقل‪ ،‬وألقف منها بشكل خاص عىل املنظورات‪:‬‬
‫«الطبيعي»‪ ،‬واإلرادي‪ ،‬واالجتامعي‪ ،‬والنفعي؛ إذ هي األبرز واألكثر تداوالً يف الفضاءات الفلسف َّية‪.‬‬

‫وإن اإلنسان يكتشفه‬ ‫إن «األخالقي حارض‪ ،‬موجود‪ ،‬مغروز يف الوجود نفسه‪َّ ،‬‬ ‫يقول «الطبيع ُّيون»‪ -‬وهم يتعللون أيض ًا بالعقل‪َّ -‬‬
‫إن هذه احلالة «الغريز َّية» أو «ال َط ْبع َّية» ‪ -‬أو «الفطرة» أيض ًا ‪ -‬تفرض أو تلزم بالرضورة‪َّ ،‬‬
‫ألنا طبيع َّية‪،‬‬ ‫بعقله»‪ ،‬ويضيفون إىل ذلك القول َّ‬
‫أحتول من‬ ‫بأن نخضع ألحكام القيم التي تصدر عنها‪ .‬لكن إذا اقرتن هبذه الرؤية القول بدهر َّية الطبيعة والوجود ما الذي سيلزمني بأن َّ‬
‫أتوسل به لدحض دعوى السوفسطائيني‪ ،‬من أمثال كاليكليس وترازيامخوس‪...‬‬ ‫معرفة هذه القيم إىل العمل هبا؟ وما الذي أستطيع أن َّ‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪14‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫إن قيمة العدل هي القيمة األخالق َّية العليا‬ ‫َّ‬ ‫وهوبز أيض ًا‪ ،‬القائلني بسلطان اجلور والظلم وغياب العدالة يف‬
‫و«الكلمة الفصل» يف دين اإلسالم‪ ،‬وأضيف‬ ‫الوجود؟ وحتى القائلون بنظر َّية «الفطرة»‪ ،‬ما قيمة هذه الفطرة إن‬
‫مل تكن مقرتنة بإيامن ديني من نوع خاص؟‬
‫الرس األعظم الذي يثوي وراء‬ ‫اليوم القول َّإنا ُّ‬
‫اخللل املزمن يف االجتامع السيايس اإلسالمي‪،‬‬ ‫إن األفعال األخالق َّية جتسيد لرغباتنا‬ ‫ويقول «اإلراد ُّيون» َّ‬
‫وخلف «اإلعصار» الذي يرضب اليوم بجور‬ ‫وإراداتنا‪ ،‬من هذه اإلرادات والرغبات تكتسب القيم داللتها‬
‫وبغري رمحة‬ ‫األخالق َّية‪ .‬لكن كيف يأيت لنا أن نقيم أخالق ًا كل َّية‪ ،‬عامة‪ ،‬شاملة‪،‬‬
‫كون َّية‪ ،‬إذا ما تعلق األمر برغبات وإرادات متفاوتة‪ ،‬متباينة‪،‬‬
‫متعارضة‪ ،‬متضادة‪...‬؟ أال تكون النسب َّية هي النتيجة احلتم َّية ملثل هذا املذهب؟ أال تقرتن النسبية هنا بنزعة «ذاتان َّية» تنهض يف وجه‬
‫الكيل»‪ ،‬أي عدمية؟‬
‫ّ‬ ‫«االجتامعي» و«األخالقي‬

‫وسلطته وأحكامه‬ ‫أن قوة املجتمع ُ‬ ‫أن إحدى النظريات الفلسفية يف «اإللزام األخالقي» تؤكد‪ ،‬منذ إميل دوركهايم‪َّ ،‬‬ ‫وليس رس ًا َّ‬
‫ومنطقه اإلطالقي القرسي هي التي تؤسس القيم األخالق َّية يف املجتمع‪ .‬ال شك يف َّ‬
‫أن للمجتمع أحكامه القهر َّية االستبداد َّية القرس َّية‪،‬‬
‫لك َّن املجتمع يتمثل ثقافة حمددة‪ ،‬وحاله يف ذلك حال ثقافات أخرى مباينة بقدر هزيل أو بقدر عظيم‪ .‬ويرتتب عىل ذلك ما يرتتب عىل‬
‫النظريات اإلراد َّية من نتائج «النسب َّية» األخالق َّية‪ ،‬ومن َث َّم «العدم َّية» املعرف َّية‪.‬‬

‫احلرة‬
‫وتبقى الرؤية «النفع َّية» التي تعترب أقوى النظريات األخالق َّية منذ السوفسطائيني إىل أيامنا هذه التي حتكمها السوق االقتصاد َّية َّ‬
‫ال عند صاحبها قوة إلزام خارقة‪ .‬يف وجه هذه الفلسفة قامت‬ ‫والعوملة النفع َّية الرشسة‪ .‬والقيمة العليا هنا هي املنفع َّية التي متلك فع ً‬
‫ال عن مضادهتا ملا يقتضيه اإللزام العقيل األخالقي الشمويل‪ ،‬تنحدر‬ ‫الفلسفة األخالق َّية الكانطية‪ ،‬فلسفة الواجب‪ ،‬وهي‪ ،‬أي النفع َّية‪ ،‬فض ً‬
‫إىل نظر َّية يف النسب َّية والفردان َّية ويف خرق قيمة العدالة عىل ما نجده يف الليربال َّية اجلديدة‪.‬‬

‫أي يشء آخر عن العالقة بني الديني‬


‫نعود اآلن لبؤرة اإلشكال املركز َّية وإىل التقابل بني املنظور العقيل واملنظور الديني‪ ،‬ونسأل قبل ّ‬
‫واألخالقي‪ ،‬مستحرضين السؤال‪ :‬هل يرتدّ الديني إىل األخالقي أو األخالقي إىل الديني؟ بتعبري آخر‪ :‬هل حقل الدين هو نفسه حقل‬
‫يستقل بحقله اخلاص؟‬ ‫ُّ‬ ‫األخالق؟ أم َّ‬
‫أن ك ً‬
‫ال منهام‬

‫وأن له حقله اخلاص‪ ،‬وهم من َث َّم يدافعون عن التمييز القاطع بني «األخالقي»‬
‫أن العقل سابق عىل الدين‪َّ ،‬‬‫يؤكد القائلون بأول َّية العقل َّ‬
‫الديني‪ ،‬عىل ما يذهب إله القائلون بأول َّية الدين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األخالقي من‬
‫َّ‬ ‫و«الديني»‪ ،‬بمعنى َّأنَّنا ال نستطيع التوحيد بني احلقلني‪ ،‬وأن نشتق‬
‫الديني‪ ،‬وأنَّه يتعلق‬
‫ّ‬ ‫أن األخالقي غري قابل لالشتقاق من‬‫وبأن األخالقي والديني متاميزان‪ .‬وهذا ما جيعل فيلسوف ًا كعادل ضاهر يؤكد َّ‬ ‫َّ‬
‫باإلنسان يف وجوده البيولوجي واالجتامعي‪ ،‬بينام يؤكد آخر‪ ،‬كطه عبد الرمحن‪ ،‬بأنَّه ال أخالق بال دين‪ ،‬وال دين بال أخالق‪.‬‬

‫العقيل يتعلق بالوجود‪ ،‬بينام يتعلق األخالقي‬


‫ّ‬ ‫من وجه آخر تتقابل هنا‪ ،‬عىل سبيل الرتافع‪ ،‬القضية التي يقول أصحاهبا إنَّه َّملا كان‬
‫أن ما هو عقيل ال يملك أن يفرض الفعل األخالقي‪َّ ،‬‬
‫ألن ك ً‬
‫ال‬ ‫بالوجوب‪ ،‬فإنَّنا ال نستطيع أن ننتقل ممَّا هو كائن إىل ما ينبغي أن يكون‪ ،‬أي َّ‬
‫منهام يتعلق بحقل مباين لآلخر‪ ،‬األول حقل الوجود والثاين حقل األخالق‪ ،‬األول حقل النظر والثاين حقل العمل املعياري‪ ،‬أي الفعل‬
‫تؤسسه معايري أخالق َّية أو قيم َّية‪ .‬وباعتبار آخر يتعني أن نالحظ أيض ًا أنَّنا حتى يف احلاالت التي يأخذ فيها العقليون املعياريون بر ّد‬
‫الذي ِّ‬
‫بأنم ال يضمنون بصورة مطلقة وجود تطابق تام ودائم بني ما تقتضيه االعتبارات‬ ‫فإنم يعرتفون َّ‬ ‫املنظور األخالقي إىل املنظور العقيل َّ‬
‫إن تعارض ًا أو تضاد ًا يمكن أن حيدث بني ما يقتضيه الواجب األخالقي املشتق من‬ ‫اخللق َّية املطلقة أو «الشاملة» وما يقتضيه العقل‪ ،‬إذ َّ‬

‫‪15‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫العقل وبني املصلحة الذات َّية‪ ،‬بحيث جيوز أحيان ًا التخيل عن املقتضيات اخللق َّية واالستجابة لدواعي املصلحة الذات َّية‪ ،‬وهو ما يأباه املنظور‬
‫الكانطي بإطالق‪.‬‬

‫إن «الفرد ال بدَّ له أن يرى بعقله (أي عندما تتوافر له املعلومات املطلوبة عن طبيعة‬ ‫يلخص عادل ضاهر هذه األطروحة بالقول‪َّ :‬‬ ‫ِّ‬
‫كل اعتبارات أخرى من الرضوري أن‬ ‫أن هناك اعتبارات تفوق َّ‬ ‫احلياة االجتامع َّية وعن معنى األخالق وما تقتضيه عىل صعيد السلوك) َّ‬
‫يأخذ األفراد هبا يف سلوكهم‪ ،‬وهي االعتبارات التي يمليها املنظور اخللقي‪ ،‬بام هو منظور واحد للجميع» (األخالق والعقل ‪،)41 - 40‬‬
‫إن لألخالق أساس ًا عقالني ًا هبذا املعنى ال يعني بالرضورة َّ‬
‫أن الفرد ال بدَّ له أن يرى‬ ‫وهذه العبارة األخرية كانط َّية‪ ،‬ثم يضيف‪« :‬القول َّ‬
‫أن تقيده باالعتبارات اخللق َّية هو أمر الزم (‪ ،)...‬وهذا هو أساس‬ ‫بعقله‪ ،‬يف ّ‬
‫كل حالة من احلاالت التي يمتلك فيها املعلومات الالزمة‪َّ ،‬‬
‫قولنا إنَّه ال يمكننا أن نضمن بصورة مطلقة وجود تطابق تام ودائم بني ما تقتضيه االعتبارات األخالق َّية وما يقتضيه العقل»‪ .‬و«من هو‬
‫جمرد كائن عقالين لن يتورع عن العمل بمقتىض االعتبارات النابعة عن املصلحة الشخص َّية يف حالة تعارض األخرية مع االعتبارات‬ ‫َّ‬
‫أن هذا سيكفل له أفضل النتائج عىل املدى البعيد» (أول َّية العقل‪ .)52،‬والنتيجة التي أخلص أنا منها شخصياً‬ ‫األخالق َّية‪ ،‬إذا كان يعتقد َّ‬
‫أن «العقالن َّية املعيار َّية» تفتقر إىل توافر املبدأ أو العنرص الفاعل القطعي الذي يلزم الفرد بالقيام بالفعل األخالقي عىل الرغم من َّ‬
‫أن‬ ‫هي َّ‬
‫هذا العقل يرى ذلك‪.‬‬

‫أن فالسفة والهوتيني كبار ًا كالقدّ يس أوغسطني والقدّ يس توما األكويني يف املسيح َّية ‪ -‬وهم‬
‫هذه احلقيقة ليست جديدة‪ ،‬ألنَّنا نعلم َّ‬
‫أن العقل ال يملك سلطة اإللزام األخالقي‪ ،‬وأنَّه يفتقر إىل‬‫أقر بالتاميز بني احلقل الديني واحلقل األخالقي (العقيل) ‪ -‬قد أكَّدوا َّ‬ ‫ممَّن َّ‬
‫القوة التي تدفع إىل الفعل األخالقي‪ ،‬أي إىل االنتقال والتحول من حقل النظر والوجود إىل حقل العمل والوجوب‪ .‬ومع َّ‬
‫أن املعتزلة يف‬
‫يعزز العقل‬
‫ويعزز ذلك‪ ،‬أي ّ‬ ‫يتبي حقيقة القيم األخالق َّية ثم يأيت الوحي ّ‬
‫أن العقل َّ‬‫اإلسالم أكَّدوا أسبق َّية العقل عىل الوحي ‪ -‬بمعنى َّ‬
‫الذي هو عندهم بطبيعة احلال ِمنَّة إهل َّية ‪ -‬إال َّأنم حسب علمي مل ُيبينوا عن حقيقة االنتقال من «التعقل» إىل «الفعل»‪ ،‬ويف اعتقادي َّأنم‬
‫إن «اإليامن» هو الذي يضمن ذلك‪.‬‬ ‫ملزمون بالقول َّ‬

‫لك َّن القصور الذي يطال املوقف «العقالين العميل» من هذا الوجه يطال املوقف الذي يدافع أصحابه عن «تبع َّية األخالق للدين»‬
‫ويرفضون استقالل األخالق عن الدين‪ ،‬ويزعمون أنَّه ال أخالق بال دين وال دين بال أخالق‪ .‬وطه عبد الرمحن هو أبرز من يذهب هذا‬
‫املذهب‪ ،‬إذ خيتزل عقيدته يف ذلك بالقول «ال إنسان بال أخالق‪ ،‬وال أخالق بغري دين‪ ،‬وال إنسان بغري دين»‪ ،‬ويضيف إىل ذلك القول َّ‬
‫إن‬
‫املتخ ّلق بأخالق الدين هو الذي يرقى إىل مرتبة العقالن َّية الكاملة الضامنة للحياة الطيبة والسعيدة‪.‬‬

‫كل البعد عن احلقيقة وعن الواقع‪ ،‬من‬ ‫كل التقدير هذه «االعتقادات اإليامن َّية» اخلالصة‪ ،‬لكنَّني لألسف الشديد أرى َّأنا بعيدة ّ‬ ‫أقدّ ر َّ‬
‫أن حشد ًا من «القيم الدين َّية» التي تنطوي عليها‬ ‫كل القرائن تشري إىل َّ‬‫ألن َّ‬
‫وغلو ًا ال حدَّ له‪ ،‬من وجه آخر‪َّ .‬‬
‫ّ‬ ‫وأنا ُت ّسد «ذات َّية» مفرطة‬
‫وجه‪َّ ،‬‬
‫بأنم بال دين‪ .‬وإذا كان حق ًا أنَّه «ال إنسان بال أخالق»‪ ،‬فإنَّه‬‫يرصحون َّ‬ ‫الديانات السامو َّية هي قيم متداولة أيض ًا عند كثري من البرش الذين ّ‬
‫وسعنا بقدر عظيم جد ًا فهمنا للدين‪ ،‬وجتاوزنا ما‬ ‫مر‪ ،‬وليس حق ًا أنَّه «ال إنسان بغري دين»‪ ،‬إال إذا َّ‬
‫ليس حق ًا أنَّه «ال أخالق بال دين»‪ ،‬كام َّ‬
‫هو ُمدرك منه يف حدود ديانات الوحي‪.‬‬

‫أن التخ ّلق بأخالق الدين‪ ،‬حني يكون هذا التخ ّلق نقي ًا‪ ،‬يفيض بصاحبه حق ًا إىل حياة طيبة سعيدة‪ ،‬هي حياة‬ ‫عىل أنَّنا ال نملك أن ننكر َّ‬
‫التقوى والصفاء الروحي واإليامن‪ ،‬وإن كان نعتها بالعقالن َّية الكاملة ال خيلو من« تز ُّيد» يدخل يف باب املجاز‪.‬‬

‫إذا كانت العقالن َّية النظر َّية قارصة عن حتويل الفاعل األخالقي من حالة «التعقل النظري» إىل حالة « الفعل األخالقي»‪ ،‬وإذا كانت‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪16‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫«ارهتان َّية» األخالق بالدين غري واقع َّية وقارصة يف التفسري‪ ،‬فام هي العالقة السديدة‪ ،‬يف نظري‪ ،‬يف أمر العقل والفعل األخالقي‪ ،‬من جهة‬
‫األسس القاعد َّية التي حتكم‪ ،‬عقلي ًا أو ديني ًا‪ ،‬القيم األخالق َّية؟‬

‫مالحظة للواقع واعتبار للتجربة‪ ،‬من وجه‪ ،‬ومسألة تصديق فلسفي‪ ،‬من وجه‬ ‫ٍ‬ ‫ليست املسألة عندي مسألة اختيار‪ ،‬وإنَّام هي مسألة‬
‫يتبي حقائق الوجود املوضوع َّية وأن يدرك حقيقة القيم املغروزة يف هذا‬ ‫إن العقل النظري يملك أن َّ‬ ‫آخر‪ .‬أ َّما الواقع فيقول يل رصاحة َّ‬
‫الوجود‪ ،‬وذلك بفضل ما يتمتَّع به من قوة احلدس الطبيع َّية التي يتمتَّع هبا‪ ،‬أو بفضل قوة اإلدراك النظر َّية التي هي خاصته اجلوهر َّية‪.‬‬
‫أن هذه القيم املغروزة يف الوجود ليست موجودة فيه «بالطبع»‪ ،‬أي من حيث هو حاصل عليها أو متو ّفر عليها بذاته‪ ،‬أو‬ ‫ويف اعتقادي َّ‬
‫َّأنا مطبوعة فيه كالحقة من لواحقه ومتعلق من متعلقاته الذات َّية الطبيع َّية‪ ،‬وإنَّام هي مركوزة فيه عىل سبيل اإلبداع واإليداع من جانب‬
‫فاعل هذا الوجود أو خالقه‪ ،‬وذلك دفع ًا للفلسفة الدهر َّية‪ .‬لك َّن هذه القيم الكربى التي ينطوي عليها الوجود ويكتشفها احلدس أو‬
‫أن فيها االستعداد ألن تتحول إىل أفعال ممارسة‪ .‬لك َّن العقل النظري الذي هو‬ ‫تظل‪ ،‬يف حدود العقل النظري‪ ،‬قي ًام بالقوة‪ ،‬أي َّ‬ ‫العقل ُّ‬
‫ذو طبيعة استدالل َّية أو استنباط َّية‪ ،‬استقرائ َّية وبرهان َّية‪...‬إلخ‪ ،‬ال يملك الكفاية والقوة عىل حتويل هذه القيم ونقلها من حالة القوة إىل‬
‫كل العجز عن دفع الفاعل األخالقي إىل أن يامرس الفعل األخالقي‪ .‬وأنا هنا ال أتفق مع من يذهب‬ ‫حالة الفعل‪ .‬بكلمة‪ :‬العقل عاجز ّ‬
‫أن القول بقدرة العقل املعياري عىل حتقيق الفعل األخالقي‪ ،‬أي عىل نقل القيمة من‬ ‫أن الفعل ال ينفصل عن العقل‪ ،‬ويف اعتقادي َّ‬ ‫إىل َّ‬
‫القوة إىل الفعل‪ ،‬ال يؤدي إال إىل النسب َّية األخالق َّية‪ ،‬إن مل أقل إىل الذاتان َّية األخالق َّية‪ ،‬ال إىل األخالق الكُل َّية التي يراد هلا أن تكون مبدأ‬
‫كل الناس‪.‬‬ ‫للفعل عند ّ‬

‫ثمة أساس ًا‬ ‫جمرد املعرفة إىل واقع املامرسة‪َّ ،‬‬


‫إن َّ‬ ‫ما الذي يأذن إذ ًا بالقول‪ ،‬يف ضوء عجز العقل النظري عن حتويل الفاعل األخالقي من َّ‬
‫التحول؟‬
‫ُّ‬ ‫ما آخر هو القادر عىل حتقيق هذا‬

‫اجلواب‪ :‬األساس الديني‪ ،‬أعني اإليامن ومتعلقاته املشخصة والشاخصة يف مبدأي الثواب والعقاب أو املح َّبة (اإلهل َّية)‪ .‬هذا األساس‬
‫تبي القيم األخالق َّية والكشف عنها ومعرفتها وحتديدها‪،‬‬ ‫متمم لألساس العقيل الذي تنحرص داللته يف ُّ‬ ‫يشخص عندي بام هو أساس ِّ‬
‫لكنَّه يعجز عن فرض املامرسة والفعل األخالقي‪ ،‬ألنَّه ال يملك قوة اإليامن املستندة إىل دواعي الرجاء والثواب أو «املح َّبة اإلهل َّية»‪ ،‬أو إىل‬
‫نسميه اليوم (العقل الوجداين)‪.‬‬‫بواعث اخلوف والرهبة والعقاب‪ ،‬ممَّا يلحق كله بعقل ثالث ّ‬

‫معنى ذلك َّ‬


‫أن العقل النظري والعقل الوجداين ‪ -‬وفيه واقعة اإليامن ‪ -‬يتضافران‪ :‬األول يف حتديد القيم األخالق َّية‪ ،‬والثاين يف حتقيق‬
‫هذه القيم يف الواقع املشخص‪ ،‬ونقلها من عامل الوجود إىل عامل الوجوب املشخص‪.‬‬

‫يتعزز هذا التضافر يف اعتقادي َّ‬


‫بأن القيم العليا التي يتب َّينها العقل ويكشف عنها يف مطلق الوجود‪ ،‬توافق القيم األخالق َّية التي حيدِّ دها‬ ‫َّ‬
‫أسميه «األصول البذر َّية»‬ ‫الدين‪ ،‬سوا ٌء أكان ذلك متعلق ًا بام هو رصيح يف النصوص الدين َّية (الوحي)‪ ،‬أم منطوي ًا‪ ،‬بشكل أو بآخر‪ ،‬يف ما ّ‬
‫القيم َّية الثانو َّية يف هذه النصوص‪.‬‬

‫أ َّما ما يمكن أن يعرض من قول أو أقوال أو اعرتاضات أو مالحظات أو نقود آتية من املنظورات النفع َّية أو االجتامع َّية أو الذاتان َّية أو‬
‫العدم َّية أو غري ذلك‪ ،‬فله شأن آخر‪ ،‬ويتط َّلب متابعات أخرى ومراجعات خاصة ليس ههنا موضع اخلوض فيها‪.‬‬

‫لكن ما ينبغي أن يكون موضع انتباه هنا‪ ،‬من جديد‪ ،‬هو أنَّنا‪ ،‬فيام يتعلق جوهري ًا بحياتنا يف جممل االجتامع العريب‪ ،‬نفتقر إىل ُس ّلم شامل للقيم‪،‬‬
‫متوافق عليه إنساني ًا وديني ًا أيض ًا‪ .‬وهذا ال يتعلق بقيمنا احليات َّية اليوم َّية ويف معامالتنا العارضة وأساليب أفعالنا وترصفاتنا يف البيت والشارع‬

‫‪17‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫سمى «األخالق املط َّبقة»‪ :‬يف‬ ‫واملأكل واملرشب والتحادث واالنضباط يف السري أو يف (الدَّ ْور)‪...‬وإنَّام أيض ًا وبشكل جذري يف مسالكنا فيام ُي َّ‬
‫نبي يف ثقافتنا احليات َّية املتداولة‬
‫الطب والبيولوجيا‪ ،‬والبيئة‪ ،‬والعلم والتكنولوجيا‪ ،‬والسياسة‪ ،‬والتجارة‪ ،‬والفن‪ ،...‬فنحن‪ ،‬يف واقع األمر‪ ،‬ال ّ‬
‫ثلة القيم التي نستطيع أن نزعم َّأنا متوفرة ومنضبطة عىل نحو جدير وقادر عىل قيادة حياتنا‪ ،‬يف هذه احلقول مجيع ًا‪ ،‬مثلام هي حال املواطن يف‬
‫أن قيم الفاعل َّية والصدق واالنضباط وااللتزام والنزاهة واملسؤول َّية‬ ‫الغرب احلديث‪ ،‬الذي يعلم مثالً‪ ،‬عىل وجه العموم ال وجه اإلطالق‪َّ ،‬‬
‫ثمة بيننا من ال يلتزم هبذه القيم‬ ‫واالحرتام املتبادل واالعرتاف‪ ،‬هي قيم نافذة وينبغي أن تكون كذلك‪ .‬هذا ال يعني‪ ،‬بطبيعة احلال‪ ،‬أنَّه ليس َّ‬
‫أن مضادات القيم اإلجياب َّية مسترشية‬ ‫ثمة بيننا من ال يكذب وال ينافق وال ينتهز وال يظلم وال حيتقر‪ ،...‬لكن القصد هو َّ‬ ‫ويتمثلها‪ ،‬وأن ليس َّ‬
‫ِ‬
‫بكل واحد منا أن يلتزم هبا وحيرت َمها و ُينْف َذها يف أفعاله‬‫نتبي عىل وجه التحديد واإللزام القيم التي جيدر ّ‬ ‫بقدر عظيم يف حياتنا العمل َّية‪ ،‬وأنَّنا ال َّ‬
‫حس االجتاه والفوىض‬ ‫اليوم َّية‪ ،‬وليس خيفى َّ‬
‫أن غياب ذلك وافتقارنا إليه سيقود اجتامعنا اإلنساين إىل خارج دائرة الضبط والسيطرة وحسن ّ‬
‫وفقدان املعنى والغاية‪ ،‬وذلك‪ ،‬إن شئنا استخدام املصطلح اخللدوين‪ ،‬مؤذن بفساد العمران اإلنساين واالجتامعي والسيايس‪.‬‬

‫ن َّبهت يف أكثر من موضع من أعاميل‪ ،‬ويف هذا العمل أيض ًا الذي بني يدَ ْي القارئ‪ ،‬عىل ثلة القيم الرئيسة التي أرى أن يتقوم هبا ُس ّل ٌم‬
‫للقيم حيكم اجتامعنا العريب‪ ،‬ويتضافر فيها «العقل األخالقي اإلنساين»‪ ،‬و«األصول البذر َّية» التي ينطوي عليها النص الديني‪ :‬العدالة‪،‬‬
‫املساواة‪ ،‬احلر َّية‪ ،‬الكرامة اإلنسان َّية‪ ،‬اخلري العام‪ ،‬النزاهة‪ ،‬االستقامة‪ ،‬الرمحة‪ ،‬تقدير اآلخرين‪ ،‬احرتام النفس اإلنسان َّية واجلسد اإلنساين‪،‬‬
‫إن جتاوز الفوىض يف املسائل املتعلقة هبذه القيم ينبغي أن يقرتن فيه ُس ّلم القيم املنشود بالرتكيب بني نظريتني أساسيتني‬ ‫الرفاهية‪ ،...‬وقلت َّ‬
‫يف فلسفة القيم واألخالق‪ :‬نظر َّية الواجب ذات اجلذور الكانط َّية املوافقة لـ «القصد َّية» األخالق َّية اإلسالم َّية‪ ،‬والنظر َّية النفع َّية ‪ -‬التي‬
‫أن (كانط) كان خصمها اللدود‪ ،‬لك َّن الزمن الراهن يفرضها بقدر أو بآخر‪ ،‬ألنَّه زمن حيكمه االقتصاد وطلب الرفاه َّية وطيب‬ ‫أعلم َّ‬
‫أن التناقض التارخيي بني الديونطولوجيا الكانط َّية ‪ -‬أي فلسفة الواجب العمل َّية ـ واملذهب النفعي الفرداين‪ ،‬حيتاج‬ ‫شك يف َّ‬
‫العيش‪ -‬ال َّ‬
‫إىل جهد جتاوزي ال يمكن أن يفيض إىل نتيجة جمدية إال يف حدود نظرة ليربال َّية اجتامع َّية تكافل َّية‪.‬‬

‫هذه النظرة يمكن إدراكها يف معاجلة القيمة العليا التي أرى َّأنا متثل رأس القيم اإلنسان َّية والدين َّية عىل حد سواء‪ ،‬أعني قيمة العدل‬
‫خصها أفالطون بالنظر يف (اجلمهور َّية)‪ ،‬وهي القيمة‬ ‫أو العدالة‪ .‬كانت هذه القيمة األخالق َّية ‪ -‬االجتامع َّية هي القيمة الركن َّية التي َّ‬
‫كررت دوم ًا القول َّ‬
‫إن قيمة العدل‬ ‫املركز َّية التي عني هبا أعظم العناية يف العرص احلديث‪ ،‬جون رولز يف كتابه (نظر َّية العدالة)‪ .‬وقد َّ‬
‫الرس األعظم الذي يثوي وراء اخللل املزمن‬‫هي القيمة األخالق َّية العليا و«الكلمة الفصل» يف دين اإلسالم‪ ،‬وأضيف اليوم القول َّإنا ُّ‬
‫يف االجتامع السيايس اإلسالمي‪ ،‬وخلف «اإلعصار» الذي يرضب اليوم بجور وبغري رمحة‪ .‬وخلطورة هذه «الكلمة» وملوقعها من هذا‬
‫العمل أستحرض هنا هذا البحث الذي َخ َص ْصتُها به‪ ،‬وأذعته يف أكثر من مناسبة وموضع‪ ،‬وفيه‪:‬‬

‫(‪)1‬‬

‫أن هذا املصطلح‪ ،‬مصطلح (العدل)‪ ،‬خيتلط يف االستخدام العريب املعارص‬ ‫قد ال يكون من فضل القول أن أن ِّبه‪ ،‬يف مبدأ هذا النظر‪ ،‬عىل َّ‬
‫بمصطلح آخر أكثر تداوالً هو مصطلح أو لفظ‪( :‬العدالة)‪ ،‬لك َّن احلقيقة َّ‬
‫أن هذين املصطلحني‪ ،‬أو اللفظني‪ ،‬ال يدالن عىل املعنى نفسه‪.‬‬

‫أن العدل مصدر عَدَ ل َي ْع ِدل عدالً؛ ثم قد ُيذكر و ُيراد به الفعل‪ ،‬وقد ُيذكر ويراد به الفاعل‪.‬‬
‫يقول القايض عبد اجلبار بن أمحد «اعلم َّ‬
‫أن هذا يقتيض أن يكون خ ْلق العامل من اهلل تعاىل‬
‫ليرضه‪ ،‬إال َّ‬
‫كل فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به غريه أو َّ‬ ‫فإذا ُوصف به الفعل‪ ،‬فاملراد به ّ‬
‫ألن هذا املعنى فيه‪ ،‬وليس كذلك‪ .‬فاألَ ْوىل أن نقول‪ :‬هو توفري حق الغري‪ ،‬واستيفاء احلق منه»‪.1‬‬ ‫عدالً‪َّ ،‬‬

‫‪ - 1‬القايض عبد الجبار بن أحمد‪ ،‬رشح األصول الخمسة‪ ،‬حقَّقه وقدم له عبد الكريم عثامن‪ ،‬ط‪ ،1‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪ ،1965 ،‬ص‪.301‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪18‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫يف املعطيات الثقاف َّية العرب َّية اإلسالم َّية‪ ،‬ويف املجال‬ ‫وهذا املعنى‪ ،‬الذي جيعل من العدل وضع ًا حقوقي ًا‪ ،‬هو عىل وجه‬
‫السيايس واالجتامعي والفقهي‪ ،‬أو القانوين‪ ،‬ال نجد‬ ‫توجه إليها لفظ (العدالة) حني يراد له أن‬‫التحقيق أبرز املعاين التي َّ‬
‫معب ًا عن معنى املصطلح غري العريب (‪ .)Justice‬أ َّما العدالة‬ ‫يكون ّ‬
‫« نظر َّية » يف العدل‪ ،‬وإنَّام نجد وقائع أو إجراءات‬
‫يف االستخدام العريب املوروث‪ ،‬فإ َّما أن تعني االستقامة واالستواء‬
‫بأنا عادلة أو ظاملة أو جائرة‪،‬‬ ‫أو حاالت توصف َّ‬ ‫وت ّثل مجلة الفضائل الرشع َّية واجتناب‬ ‫والنزاهة وامليل إىل احلق َ‬
‫ويتعذر جتريد نظر َّية منها‪ .‬ونحن ال نجد هذه‬ ‫َّ‬ ‫األفعال اخلسيسة‪ ،2‬وإ َّما تعني ما أثبته ابن خلدون يف باب (اخلطط‬
‫ِ‬
‫الدين َّية اخلالف َّية) من (املقدّ مة)‪ ،‬حيث جعل هذه (اخلطط) يف النظر َّية إال يف النظم الفلسف َّية املستقاة من اإلغريق‪.‬‬
‫مخس هي‪ :‬إمامة الصالة‪ ،‬والفتيا‪ ،‬والقضاء‪ ،‬والعدالة‪ ،‬واحلسبة‬
‫والسكّة‪ ،‬ويف العدالة يقول‪« :‬هي وظيفة دين َّية تابعة للقضاء‬
‫ال عند اإلشهاد وأدا ًء عند‬ ‫ومن موارد ترصيفه‪ .‬وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القايض بالشهادة بني الناس قي ًام هلم وعليهم‪ ،‬حتم ً‬
‫االتصاف بالعدالة‬
‫ُ‬ ‫التنازع‪ ،‬وكتاب ًا يف السجالت ُيفظ به حقوق الناس وأمالكهم وديوهنم وسائر معامالهتم (‪ .)...‬ورشط هذه الوظيفة‬
‫جل ْرح‪ ،‬ثم القيا ُم بكتاب السجالت والعقود من جهة عبارهتا وانتظام فصوهلا‪ ،‬ومن جهة إحكام رشوطها الرشع َّية‬ ‫الرشع َّية والرباء ُة من ا َ‬
‫ُص ذلك‬ ‫وعقودها‪ ،‬ف ُيحتاج حينئذ إىل ما يتعلق بذلك من الفقه‪ .‬وألجل هذه الرشوط وما ُيتاج من املران عىل ذلك واملامرسة له‪ ،‬اخت َّ‬
‫كأنم خمتصون بالعدالة؛ وليس كذلك؛ وإنَّام العدالة من رشوط اختصاصاهتم بالوظيفة» ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫ببعض ال ُعدول‪ ،‬وصار الصنف القائمون به َّ‬

‫سأتوجه يف هذا القول إىل استخدام لفظي (العدل) و(العدالة) باملعنى نفسه‪ ،‬لسببني‪ :‬األول َّ‬
‫أن‬ ‫َّ‬ ‫ومع ذلك فإنَّني‪ ،‬دفع ًا ألي لبس‪،‬‬
‫(العدالة)‪ ،‬بمعنى العدالة الرشع َّية أو الوظيفة الدين َّية التابعة للقضاء‪ ،‬باتت مصطلح ًا ينتمي إىل الدولة اخلالف َّية أو الدين َّية التارخي َّية التي‬
‫استقر يف خميالنا الثقايف والفكري واالجتامعي والسيايس‬ ‫َّ‬ ‫أن مصطلح العدالة‪ ،‬بمعنى العدل‪ ،‬قد‬ ‫ليست مناط البحث والنظر هنا‪ .‬الثاين َّ‬
‫وسلطة يف االستخدام املعارص‪ .‬وأنا‪ ،‬يف كال اللفظني‪،‬‬ ‫وح َّل يف املكان نفسه الذي حيتله العدل‪ ،‬وأصبح ذا قوة وجذب ُ‬ ‫والقانوين‪َ ،‬‬
‫سأصدر عن املعنى الذي أشار إليه القايض عبد اجلبار يف أمر (العدل)‪ ،‬من حيث هو «توفري حق الغري‪ ،‬واستيفاء احلق منه»‪ ،‬أي تأدية‬
‫احلقوق ور ّد احلقوق إىل أصحاهبا‪ ،‬وما يلحق هبذا املعنى من متعلقات ومن وجوه تنتظم هبا أحوال الدنيا‪ ،‬وسياسة الدولة‪ ،‬وحياة‬
‫املجتمع ومعاشه‪ .4‬كام أنَّني سأربط كال اللفظني باملعنى أو باملعاين التي ينطوي عليها املصطلح املتداول يف الفلسفة السياس َّية املعيار َّية ويف‬
‫الفلسفة االجتامع َّية املعارصة‪ ،‬واملنحدر من أرسطو‪ ،‬أعني املصطلح‪ ،)justice( :‬أو( ‪ )dikaiosuné‬اليوناين‪.‬‬

‫عم هو محظور دينياً»‪،‬‬


‫‪ - 2‬ورد يف كتاب التعريفات للرشيف الجرجاين‪« :‬العدالة يف اللغة‪ :‬االستقامة‪ ،‬ويف الرشيعة‪ :‬عبارة عن االستقامة عىل طريق الحق باالجتناب َّ‬
‫و«العدل عبارة عن األمر املتوسط بني طريف اإلفراط والتفريط‪ ،‬ويف اصطالح النحويني‪ :‬خروج االسم عن صيغته األصلية إىل صيغة أخرى‪ ،‬ويف اصطالح الفقهاء‪ :‬من‬
‫رص عىل الصغائر وغلب صوابه واجتنب األفعال الخسيسة (‪ .)...‬وقيل‪ :‬العدل مصدر مبعنى العدالة‪ ،‬وهو االعتدال واالستقامة‪ ،‬وهو امليل إىل الحق»‬
‫اجتنب الكبائر ومل ي ّ‬
‫(عيل بن محمد بن الرشيف الجرجاين‪ ،‬كتاب التعريفات‪ ،‬تحقيق غوستاف فلوغل‪ ،‬ليبزغ‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬بريوت‪ /‬ب‪ .‬ت‪ ، .‬ص ‪.)152‬‬
‫‪ - 3‬ويل الدين عبد الرحمن بن خلدون‪ ،‬كتاب العرب وديوان املبتدأ والخرب‪ ،...‬الكتاب األول‪ :‬املقدّمة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬قرأه وعارضه بأصول املؤلف وأع َّد معاجمه وفهارسه‬
‫إبراهيم شبوح وإحسان عباس‪ ،‬دار القريوان‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬تونس‪.383 ،‬‬
‫لكل ذي حق واستحقاق بحقه واستحقاقه‪ ،‬ويتيح‬
‫‪ - 4‬يف تحليله ملفهوم العدل بالنسة إىل السلطة السياس َّية يذهب ناصيف نصار إىل أ َّن العدل (ترتيب اجتامعي يعرتف ّ‬
‫له أن يتمتع به‪ ،‬وأن يقوم بالواجب املصاحب له‪ ،‬تحت رشوط معيَّنة)‪( ،‬منطق السلطة ‪ -‬مدخل إىل فلسفة األمر‪ ،‬ط‪ ،1‬دار أمواج للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‬
‫‪ ،1995‬ص‪ ،)237‬لك َّنه أيضاً يف كالمه عىل العدل االجتامعي يستخدم املصطلح املتداول (العدالة االجتامع َّية)‪ ،‬ويو ّجه معناها إىل «مح َّبة العدل وطلبه والسعي إليه‬
‫والفرح بتحقيقه»‪ ،‬وأ َّن مفهومها «يو ّجه اإلدراك نحو الذاتيَّة ونحو التمييز بني العدل االجتامعي وبني العدالة االجتامعيَّة‪ ،‬متشياً مع قاعدة التمييز بني املوضوعي وبني‬
‫الذايت» (نفسه‪ .)241-240 ،‬وهذا املعنى من تقديره‪ ،‬وبه يتم ّيز ويتف ّرد‪.‬‬

‫‪19‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫وليس القصد أن أستقيص هذا املفهوم يف املعطيات التارخي َّية العرب َّية اإلسالم َّية‪ ،5‬لك َّن استحضار ًا وجيز ًا لألوجه الرئيسة منه‪ُّ ،‬‬
‫يظل‬
‫أي نظر حا ّيل‪.‬‬‫رضوري ًا ‪ ،‬مادام بعضها ممتد ًا يف احلارض ويطلب أن يؤخذ يف احلسبان يف ّ‬

‫يعلم الواقفون عىل مجلة الرتاث العريب اإلسالمي ‪ -‬الفقهي والكالمي والفلسفي ‪ -‬املكانة العظمى التي حيتلها مفهوم العدل يف‬
‫خص هذا‬
‫أن القرآن نفسه قد َّ‬ ‫هذا الرتاث‪ ،‬وذلك عىل الرغم من تفاوت املعنى واملضمون الذي ينطوي عليه هنا وهناك‪ .‬ال أحد جيهل َّ‬
‫يتكرر األمر بالعدل‪،‬‬
‫املفهوم بمكانة مركز َّية وجعله موضوع أمر إهلي وصفة ثبوت َّية من صفات اهلل نفسه‪ .‬ففيه‪ ،‬ويف األحاديث النبو َّية‪َّ ،‬‬
‫يتكرر النهي عن الظلم واجلور‪ ،‬وتنزيه اهلل عن أن يتصف هبام‪.6‬‬
‫واحلكم بالعدل‪ ،‬وباحلق‪ ،‬وبالقسط‪ ،‬وبامليزان‪ ،‬مثلام َّ‬

‫أ َّما فقهاء األحكام السلطان َّية والسياسة العقل َّية فقد استغرقوا يف مدحيه ووصفه والتنويه بنتائجه وآثاره‪ ،‬من دون أن يقفوا عىل‬
‫تعريفه وبيان ماهيته‪ .‬ثم َّإنم ربطوا بينه وبني صالح العمران والدولة وا ُمللك‪ ،‬وجعلوا صالح الدنيا وانتظامها ودوام العمران‬
‫كل مملكة سواء أكانت نبو َّية أو صالح َّية»‪ .‬وضدّ ه‪ ،‬الظلم «مؤذن‬ ‫ونموه وفوزه مرهون ًة به‪ .‬فهو «قوام امللك ودوام الدول و ُأسس ّ‬
‫عرض‬ ‫بخراب العمران»؛ والعدل «ميزان اهلل عىل أرضه‪ ،‬وضعه للخلق ونصبه للحق‪ ،‬فمن خالفه يف ميزانه وعارضه يف سلطانه فقد َّ‬
‫و«كل دولة بني أساسها عىل العدل أمنت االنعدام وسلمت االهندام»‪ ،‬وقيل‬ ‫ُّ‬ ‫وعزه للذل وكثرته ِ‬
‫للقل»‬ ‫دينه للخبال ودولته للزوال ّ‬
‫إن النبي (صىل اهلل عليه وسلم) قال‪« :‬عدل ساعة يف حكومة خري من عبادة ستني سنة»؛ وقال بعض احلكامء‪« :‬عدل السلطان خري‬ ‫َّ‬
‫تدر األرزاق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫من خصب الزمان»؛ وقال أردشري‪« :‬اململكة ال تصلح إال بأعداد األجناد‪ ،‬وال تعدُّ األجناد إال بإدرار األرزاق ‪ ،‬وال ُّ‬
‫إال بكثرة األموال‪ ،‬وال تثمر األموال إال بعامرة البالد‪ ،‬وال َت ْع ُمر البالد إال باألمن والعدل يف العباد»‪ .7‬وإىل ذلك ذهب املاوردي‪ ،‬إذ‬
‫واخلصب الدار يف املكاسب واملواد‪،‬‬ ‫أن صالح الدنيا وقواعد ا ُمللك تستقيم بالدين املتبع‪ ،‬والسلطان القاهر‪ ،‬والعدل الشامل‪ِ ،‬‬ ‫أكَّد َّ‬
‫واألمل الفسيح يف أحوال الدنيا والعمران‪ ،8‬أي بأسس‪ :‬دين َّية وسياس َّية واجتامع َّية واقتصاد َّية ونفس َّية‪ ،‬احتفت هبا كتب (مرايا امللوك‬
‫واألمراء) أ َّيام احتفاء‪.‬‬

‫ال يكون‬ ‫بأنا «ما كان فع ً‬


‫عرفوا السياسة َّ‬
‫فذ القيمة الرفيعة ملبدأ (املصلحة) املنوطة بالعدل‪ ،‬إذ َّ‬ ‫وقد أبرز فقهاء (املقاصد) عىل ٍ‬
‫نحو ِّ‬
‫وأن املقصود الرشعي هو «إقامة املصلحة‬ ‫معه الناس أقرب إىل الصالح وأبعد عن الفساد‪ ،‬وإن مل يضعه رسول وال نزل به وحي»‪َّ ،‬‬
‫استحضار قول ابن قيم اجلوز َّية‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ودرء املفسدة»‪ ،‬أو «حتصيل مصلحة ودرء مفسدة»‪ .‬وقد يكفي هنا‪ ،‬لتعزيز اجلوهري يف هذا النظر‪،‬‬
‫«فإن اهلل أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط‪ ،‬وهو العدل الذي قامت به السموات واألرض‪ ،‬فإذا ظهرت أمارات احلق‬ ‫َّ‬

‫‪ - 5‬عالج هذا املوضوع مجيد خدوري يف كتابه‪:‬‬


‫‪Islamic conception of justice, John Hopkins Press, Paltimore and London, 1984.‬‬
‫(الرتجمة العربية‪ :‬مفهوم العدل يف اإلسالم‪ ،‬دار الحصاد‪ ،‬دمشق‪ .)1998 ،‬كام أنَّني عرضت لبعض وجوهه يف البحث الذي قدمته إىل‪:‬‬
‫‪The Seventh Esat- West Philosophers Conference,‬‬
‫الذي عقد يف هونولولو بجزيرة هاواي بالواليات املتحدة األمريكيَّة يف العام ‪ ،1988‬بعنوان‪:‬‬
‫‪Perspectives Justice and Democraty- Islamic.‬‬
‫وترجمته العربيَّة منشورة يف كتايب‪ :‬رياح العرص‪ -‬قضايا مركزيَّة وحوارات كاشفة‪ ،‬املؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،2002 ،‬ص ‪.217-187‬‬
‫‪ 6‬ـ الحجر‪92 :‬؛ النساء‪61 :‬؛ األنفال‪180 :‬؛ آل عمران‪106،110 ،100 :‬؛ التوبة‪113 :‬؛ يوسف‪42:‬؛ لقامن‪16:‬؛‪...‬وغريها كثري‪.‬‬
‫‪ - 7‬أبو عبد الله محمد بن عيل القلعي‪ ،‬تهذيب الرياسة وترتيب السياسة‪ ،‬مكتبة املنار‪ ،‬عامن‪ ،1985 ،‬ص ‪189‬ـ ‪.190‬‬
‫‪ - 8‬أبو الحسن عيل بن محمد املاوردي‪ ،‬أدب الدنيا والدين‪ ،‬تحقيق مصطفى السقا‪ ،‬ط ‪ ،3‬مكتبة مصطفى الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ ،1955/1375 ،‬ص ‪.78‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪20‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫لكن احلقيقة هي‬ ‫املساواة هي قرين العدل‪َّ .‬‬ ‫فثم رشع‬


‫بأي طريق كان‪َّ ،‬‬ ‫وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه ّ‬
‫‪9‬‬

‫أن املظامل االقتصاد َّية يف العامل العريب ليست‬ ‫َّ‬ ‫اهلل ودينه ورضاه وأمره‪ .‬واهلل تعاىل مل حيرص طرق العدل وأدلته‬
‫وأماراته يف نوع واحد وأبطل غريه من الطرق التي هي أقوى‬
‫فثمة‬ ‫هي الوحيدة التي تستجلب أمر العدل‪َّ ،‬‬ ‫أن مقصوده‬ ‫منه وأدل وأظهر‪ ،‬بل َّبي‪ ،‬بام رشعه من الطرق‪َّ ،‬‬
‫إىل جانبها املظامل السياس َّية املاثلة يف االستبداد‬ ‫فأي طريق استخرج‬ ‫إقامة احلق والعدل وقيام الناس بالقسط‪ّ ،‬‬
‫واالفتئات عىل احلريات األساس َّية‪ ،‬واملظامل‬ ‫هبا احلق ومعرفة العدل وجب احلكم بموجبها ومقتضاها‪.‬‬
‫القانون َّية واالعتداء عىل احلقوق‪ ،‬واملظامل‬ ‫والطرق أسباب ووسائل ال تُراد لذاهتا‪ ،‬وإنَّام املراد غاياهتا التي‬
‫هي املقاصد»‪.10‬‬
‫االجتامع َّية الشاخصة يف غياب العدالة االجتامع َّية‬
‫واملساواة واحرتام الكرامة اإلنسان َّية‬ ‫واتَّسع النظر يف العدل ليطال علم الكالم التقليدي والفلسفة‬
‫املنحدرة عن اإلغريق‪ ،‬حتى بات من املمكن جتريد مجلة من‬
‫األصناف التي يتخذ فيها العدل هذا الشكل أو ذاك‪ .‬وقد نستطيع حرص هذه األصناف يف الوجوه التالية‪:‬‬

‫حرة‬
‫وأنا َّ‬
‫وأنا عادلة ال ظلم فيها وال رش‪ ،‬والعدل املتعلق بأفعال اإلنسان َّ‬ ‫الوجه األول‪ :‬العدل الكالمي‪ ،‬أي العدل املتعلق بأفعال اهلل َّ‬
‫ـ عىل مذهب املعتزلة والقدر َّية ‪ ،-‬مكتسبة عىل مذهب األشاعرة‪ ،‬مق َّيدة أو قرس َّية عىل مذهب اجلرب َّية‪ .‬ويف نظر َّية املعتزلة يف العدل ُيصار‬
‫خي‪.‬‬
‫إىل إقامة عالقة رضور َّية بني العدل واخلري‪ ،‬فالعادل ّ‬

‫الوجه الثاين‪ :‬العدل الفلسفي األخالقي الذي ينحدر من أفالطون وأرسطو عىل وجه اخلصوص‪ ،‬ويتعلق به مجيع فالسفة اإلسالم‪،‬‬
‫إذ جيعلون العدل مجاع فضائل النفس اإلنسان َّية وكامهلا وتوازهنا واعتداهلا‪ :‬احلكمة‪ ،‬والشجاعة أو النجدة‪ ،‬والع َّفة‪ ،‬والعدل‪ .‬ويف هذا‬
‫الصنف من العدل أيض ًا ال ينفصل العدل عن اخلري‪.11‬‬

‫‪ - 9‬هكذا يف الطبعات املتداولة من كتاب ابن قيم الجوزيَّة‪ ،‬وهكذا أثبتها املحدثون (جامل الدين عط َّية‪ ،‬تفعيل مقاصد الرشيعة)‪ ،‬لكن األصح‪ ،‬وفقاً للسياق‪ :‬العدل‪.‬‬
‫ويَبْعد أن يكون ابن القيم ومن أخذ عنه قد جعل لـ (العقل) هذه املكانة‪.‬‬
‫رب العاملني‪ ،‬مكتبة الكل َّيات األزهريَّة‪ ،‬القاهرة‪ ،1968 ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪ .373‬وانظر أيضاً بحثي‪ :‬يف‬
‫‪ - 10‬أبو عبد الله محمد بن أيب بكر بن قيم الجوزيَّة‪ ،‬إعالم املوقعني عن ّ‬
‫العدالة والشورى والدميقراطيَّة (منشور يف‪ :‬رياح العرص‪ -‬قضايا مركزيَّة وحوارات كاشفة‪ ،‬املؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،2002 ،‬ص ‪ .)217 - 187‬وأيضاً‬
‫كتايب‪ :‬يف الخالص النهايئ ‪ -‬مقال يف وعود النظم الفكريَّة العرب َّية املعارصة‪ ،‬ط ‪ ،2‬الشبكة العرب َّية لألبحاث والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،2012 ،‬ص ‪.150 - 145‬‬
‫‪ - 11‬يف التمييز الذي يقيمه الفارايب بني املدينة الفاضلة ومضاداتها من املدن الجاهلة‪ ،‬يجعل الفارايب التعاون واالجتامع لنيل الخري األفضل والكامل األقىص مبدأ لبلوغ‬
‫كل طائفة أو قبيلة أو مدينة لغريها‪ ،‬مبدأ لنيل السعادة‪.‬‬
‫السعادة يف الحقيقة‪ ،‬بينام يجعل «التغالب والتهارج» اللذين يطلبان السالمة واليسار والكرامة واللذات‪ ،‬بقهر ّ‬
‫كل طائفة‪ ،‬وهي تابعة ملا عليه طبائع املوجودات الطبيعية‪ .‬فام يف الطبع هو العدل‪.‬‬
‫كل إنسان أو يف طبع ّ‬
‫ويضيف أ َّن «هذه األشياء هي التي يف الطبع‪ ،‬إ َّما يف طبع ّ‬
‫فالعدل إذا ً التغالب‪ .‬والعدل هو أن يقهر ما اتفق منها‪ .‬واملقهور إ َّما أن يُقهر عىل سالمة بدنه‪ ،‬أو هلك وتلف‪ ،‬وانفرد القاهر بالوجود‪ ،‬أو قهر عىل كرامته وبقي ذليالً‬
‫ومستعبدا ً تستعبده الطائفة القاهرة ويفعل ما هو األنفع للقاهر يف أن ينال به الخري الذي عليه غالب ويستديم به‪ .‬فاستعباد القاهر للمقهور هو أيضاً من العدل‪.‬‬
‫وأن يفعل املقهور ما هو األنفع للقاهر هو أيضاً عدل‪ .‬فهذه كلها هي العدل الطبيعي‪ ،‬وهي الفضيلة‪ .‬وهذه األفعال هي األفعال الفاضلة‪ .‬فإذا حصلت الخريات‬
‫للطائفة القاهرة فينبغي أن يعطي من هو أعظم غناء يف الغلبة عىل تلك الخريات من تلك الخري أكرث‪ ،‬واألقل غناء فيها أقل‪ .‬وإن كانت الخريات التي غلبوا عليها كرامة‪،‬‬
‫أعطى األعظم غناء فيه كرامة أكرب‪ ،‬وإن كانت أمواالً أعطى أكرث‪ .‬وكذلك يف سائرها‪ .‬فهذا هو أيضاً عدل طبيعي عندهم‪ .‬قالوا‪ :‬وأ َّما سائر ما يُسمى عدالً‪ ،‬مثل البيع‬
‫والرشاء‪ ،‬ومثل رد الودائع‪ ،‬ومثل أن ال يغضب وال يجوز‪ ،‬وأشباه ذلك‪ ،‬فإ َّن مستعمله إنَّ ا يستعمله أوالً ألجل الخوف والضعف وعند الرضورة الواردة من خارج» (أبو‬
‫جوسن‪ ،‬بريوت‪ -‬القاهرة‪ ،1980 ،‬ص ‪ 102-101‬و ‪ .)136-135‬وليس‬
‫نرص الفارايب‪ :‬آراء أهل املدينة الفاضلة‪ ،‬بتحقيق وترجمة فرنسية وتقديم يوسف كرم‪-‬ج‪ .‬شالال‪ -‬أ‪ّ .‬‬

‫‪21‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫الوجه الثالث‪ :‬العدل الرشعي الذي َّ‬


‫يتقوم بمبدأي احلالل واحلرام وبإنفاذ األوامر والنواهي التي انطوت عليها الرشيعة‪ ،‬من حيث هي‬
‫َّ‬
‫وتتوخى حتقيق مكارم األخالق‪ ،‬واخلري العام‪ ،‬وسعادة الدارين‪ ،‬واملصلحة‪ ،‬ور ّد األمانات واحلقوق‬ ‫تعب عن إرادة اهلل العادل وأحكامه‪،‬‬
‫ّ‬
‫سمى (العدل اإلجرائي)‪ ،‬أي‬ ‫إىل أصحاهبا‪ .‬وهبذا العدل‪ ،‬يف دين اإلسالم‪ ،‬توزن مجيع أنواع العدل األخرى ومظاهره‪ .‬ويلحق به ما ُي َّ‬
‫العدل املتعلق بضبط اإلجراءات القضائ َّية وإحكامها وسالمتها ونزاهتها‪.12‬‬

‫مي بالسياسة الرشع َّية‪ ،‬وهي تُعنى بإصالح العالقات‬ ‫الوجه الرابع‪ :‬العدل السيايس واالجتامعي‪ ،‬وقد اختذ يف التجربة التارخي َّية ما ُس ّ‬
‫بني الراعي والرع َّية‪ ،‬وبتحقيق املصلحة العامة يف خمتلف املؤسسات والتنظيامت السياس َّية واالجتامع َّية‪ ،‬وبتطبيق مقاصد الرشيعة‪ ،‬درء ًا‬
‫لفساد العمران وأفول الدول‪.13‬‬

‫استمر مفهوم العدل ـ وقد‬ ‫َّ‬ ‫ويف العرص احلديث‪ ،‬وبتأثري من الفكر الليربايل الغريب احلديث‪ ،‬خصوص ًا من فالسفة األنوار الفرنسيني‪،‬‬
‫ُقرن بمفهوم احلر َّية ‪ -‬يف احتالل مكانة مركز َّية لدى مفكري النهضة العرب يف القرنني التاسع عرش والعرشين‪ .‬واستوى يف ذلك املفكرون‬
‫العرب‪ ،‬املسلمون واملسيحيون‪ :‬رفاعة الطهطاوي‪ ،‬وخري الدين التونيس‪ ،‬وأمحد بن أيب الضياف‪ ،‬وفرح أنطون‪ ،‬وشبيل الشميل‪ ،‬وأديب‬
‫إسحاق‪ ،‬وسالمة موسى‪ ،‬ومجال الدين األفغاين‪ ،‬وحممد عبده‪ ،‬وقاسم أمني‪ ...‬وسواهم‪ ،‬إذ أشادوا مجيع ًا باحلكم املؤسس عىل احلكمة‬
‫ظل من بعض لواحق وفواعل وظالل (األنوار)‪ ،‬مثلام َّأنام‬ ‫أن مفهومي العدل واحلر َّية‪ ،‬يف أعامل هؤالء مجيع ًا‪َّ ،‬‬
‫والعدل واحلر َّية‪ .14‬غري َّ‬
‫كانا استجابة «وقت َّية» مبارشة ملطالب العرص‪.‬‬

‫يخفى أ َّن مدينة الفارايب هي مدينة التعاون واالجتامع‪ .‬أ َّما مدينة التغالب والتهارج التي يدور عليها هذا النص وتقوم عىل أ َّن «ما يف الطبع هو العدل» فهي مدينة‬
‫السوفسطائيني‪ :‬بولوس وكاليكليس‪ ،‬خصوصاً ترازمياخس‪.‬‬
‫‪ - 12‬يطلق مجيد خدوري عىل هذا العدل مصطلح (العدل اإللهي)‪ ،‬ويرى أ َّن العلامء كانوا متفقني عىل «أ َّن العدل اإلسالمي يف صورته املثالية تعبري عن العدل اإللهي»‪،‬‬
‫وهو يوجز مصادراته وافرتاضاته عىل النحو التايل‪:‬‬
‫« أوالً‪ :‬مل َّا كان منشأ العدل من مصدر إلهي بالغ السمو‪ ،‬فإ َّن اإلنسان ال يستطيع أن يحدده إال بالدليل املتوفر له‪ .‬ومثل هذا الدليل ال ميكن بالنسبة إىل البعض أن يوجد‬
‫واعتف باملنهجني يف نهاية املطاف‪ .‬لك َّن الوحي كان وما يزال يُ َعد هو الذي يوفر الدليل األهم‪.‬‬
‫رص آخرون عىل أ َّن العقل رضوري لفهمه‪ُ .‬‬
‫إال يف الوحي‪ .‬وأ َّ‬
‫ثانياً‪ :‬يتطابق العدل مع الصفات اإللهيَّة‪ ،‬لهذا مل يكن العدل مفهوماً بسيطاً يسهل عىل العلامء تحديده أو تعريفه مبصطلحات برشيَّة‪ .‬فعدّه بعض املفكرين تجسيدا ً‬
‫ألسمى الفضائل اإلنسان َّية‪ ،‬ورأى آخرون أنَّه فيض مبارش من الله‪ ،‬وعدّوه معادالً للكامل اإللهي‪ .‬واتفقوا جميعاً عىل أ َّن العدل‪ ،‬سواء مبعيار إلهي أم مبعيار إنساين‪ ،‬فكرة‬
‫مثاليَّة يسعى اإلنسان إىل تحقيقها يف فضائل إنسانيَّة مه َّمة‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬إ َّن موضوع العدل اإللهي (‪ )Subject‬هو أولئك الذين آمنوا بالله الواحد العادل‪ .‬وأ َّما اآلخرون ‪ -‬أي بقية بني البرش ـ فهم هدف ذلك العدل (‪ .)Object‬والعدل‬
‫كل البرش‪ ،‬وباستطاعة حتى الذين ال‬
‫اإللهي‪ ،‬مثل رشيعة الله‪ ،‬ليس كامالً وحسب‪ ،‬بل هو أبدي‪ ،‬برصف النظر عن الزمان واملكان‪ .‬وهو ُم َع ّد من أجل تطبيقه عىل ّ‬
‫يؤمنون بالله الواحد أن يلوذوا به إن أرادوا‪.‬‬
‫كل حسب الضوء الذي يهتدي به‪ ،‬الصواب‪ ،‬ويتجنبون الخطأ‬
‫يبي للناس سبييل الصواب والخطأ‪ ،‬فيتبع الجميع‪ٌّ ،‬‬
‫رابعاً‪ :‬إ َّن معيار العدل‪ ،‬سوا ٌء ق َّرره العقل أم ق َّرره الوحي‪ّ ،‬‬
‫من أجل تحقيق الخري يف الدنيا والخالص يف اآلخرة؛ وبعبارة أخرى من أجل تحقيق السعادة يف كليهام»‪( .‬مجيد خدوري‪ ،‬مفهوم العدل يف اإلسالم‪ ،‬ص ‪.)224 - 223‬‬
‫‪ - 13‬يف فصلني بارزين من فصول (املقدّمة)‪ ،‬يقف ابن خلدون عىل دور القهر والجور والظلم يف حياة املُ لك والدولة من وجه‪ ،‬والعمران من وجه آخر‪ .‬فـ«إرهاف الحد‬
‫رض بامللك ومفسد له يف األكرث‪)332-330 :1( :‬؛ والظلم ‪ -‬خصوصاً ما تعلق منه مبا هو اجتامعي‪ -‬اقتصادي من أبواب املعاش والتحصيل والكسب وما يطال االعتداء‬
‫م ُّ‬
‫عىل الناس يف أموالهم ومكاسبهم‪ -‬يولّد كساد أسواق العمران وانتقاص األحوال واختالل حال الدولة‪ ،‬وهو «مؤذن بخراب العمران» وعائد عىل الدولة بالفساد والوبال‬
‫واالنتقاض» (‪ .)493-491 :1‬وخالص األمر أ َّن العدل هو الضامن لل ُملك والعمران‪ ،‬وأ َّن النظر السيايس العقيل والنظر الرشعي كليهام يتقومان به‪.‬‬
‫‪ - 14‬انظر‪ :‬ألربت حوراين‪ ،‬الفكر العريب يف عرص النهضة‪ ،‬ترجمة كريم عزقول‪ ،‬دار النهار‪ ،‬بريوت (ب‪.‬ت)؛ فهمي جدعان‪ ،‬أسس التقدُّم عند مفكري اإلسالم يف العامل‬
‫العريب الحديث‪ ،‬ط ‪ ،5‬الشبكة العرب َّية لألبحاث والنرش‪2010 ،‬؛ عزت قرين‪ ،‬العدالة والحريَّة يف فجر النهضة العرب َّية الحديثة‪ ،‬عامل املعرفة (‪ ،)30‬الكويت‪.1980 ،‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪22‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫(‪)2‬‬

‫يفصلنا اليوم عن التجربة التارخي َّية قرون متطاولة‪ ،‬وعن عرص النهضة قرن وبعض القرن‪ .‬ومجيع املعطيات والظروف التارخي َّية‬
‫واالقتصاد َّية والسياس َّية واالجتامع َّية والثقاف َّية قد طاهلا التغري والتبدل والتطور‪ ،‬عىل نحو بطيء يف بعض املواطن‪ ،‬متسارع متعاظم‬
‫يف بعضها اآلخر‪ .‬وما عدنا اليوم ما كنَّا عليه باألمس‪ ،‬عىل الرغم ممَّا يفرزه قرننا اجلديد من تطورات جينح بعضها إلعادة إنتاج املايض‬
‫ظل القرن العرشون متعطش ًا جلملة القيم واملبادئ التي حققت للغرب احلديث التقدم والظفر والرفاهية‪،‬‬ ‫البعيد‪ ،‬املايض «السلفي»‪ .‬وقد َّ‬
‫أن احلقبة االستعامر َّية واحلقبة «الوطن َّية» كلتيهام‪ ،‬مل ُتَتِّعا هذا العامل إال بأطياف احلداثة وأوهامها‪ .‬فقد ظلت مجيع القيم والغايات‬
‫ذلك َّ‬
‫التي سعى لتحقيقها مفكرو النهضة وقوى احلر َّية والتحرر العرب َّية مصابة يف الصميم‪ .‬وإذا كانت مطالع القرن اجلديد تعلن عن تطورات‬
‫فإن هذه التطورات‪ ،‬خصوص ًا منها ما يتعلق بالعدل واحلر َّية‪ ،‬جتتاز أوضاع ًا عصيبة‬ ‫متفاوتة العمق يف أحوال عدد من األقطار العرب َّية‪َّ ،‬‬
‫ال عن‬ ‫وخماطر حقيق َّية‪ ،‬وذلك بسبب اختالط وقائعها واضطراب أهدافها ونجاح بعض القوى املضادة للتقدم يف االحتياز عليها‪ ،‬فض ً‬
‫التدخل الكبري لقوى اهليمنة اخلارج َّية الساعية لتجريد الوقائع اجلديدة من غائياهتا األصل َّية احلقيق َّية وتزييفها‪ .‬يف أتون هذا احلراك ُيراد‬
‫أن مجيع‬ ‫للحر َّية «املربجمة»‪ ،‬تارة حقيق َّية وتارة زائفة‪ ،‬أن يكون هلا السبق واألولو َّية والقطع‪ ،‬و ُيقىص العدل إقصاء تام ًا‪ ،‬عىل الرغم من َّ‬
‫أن «الرش االجتامعي» الشاخص يف غياب العدل يف مجلة القطاعات اإلنسان َّية العرب َّية‪ ،‬يطلب عالج ًا مبارش ًا ومقاربة‬ ‫القرائن تشري إىل َّ‬
‫ُّ‬
‫التدخل‪.‬‬ ‫جذر َّية وأسبق َّية يف‬

‫والسؤال الذي حيكم القول هنا هو التايل‪ :‬إذا كان العدل هو املبدأ األسمى الذي تطلبه جمتمعاتنا ومؤسساتنا ودولنا اليوم‪ ،‬وأنَّه‪ ،‬مثلام‬
‫يقول جون رولز يف (نظر َّية العدالة)‪« ،‬الفضيلة األوىل للمؤسسات االجتامع َّية»‪ ،‬فام هي طبيعة هذا املبدأ؟ وما هي النظر َّية التي تالئم‬
‫متمم ألمنية العيش الطيب‬ ‫إن العدل‪ ،‬مثلام يقول بول ريكور‪ ،‬جزء ِّ‬ ‫أوضاع جمتمعاتنا وتأذن بتحقيق أكرب قدر من «طيب العيش»‪ ،‬إذ َّ‬
‫مرة‬
‫أو هناءة العيش‪ .‬واملسألة يف هناية التحليل مسألة أخالق َّية‪ ،‬والسؤال الذي ُيطرح هنا وينتمي إىل حقل األخالق‪ ،‬مثلام يقول ريكور َّ‬
‫أخرى‪ ،‬ليس‪ :‬ما الذي ينبغي علينا أن نفعله؟ وإنَّام‪ :‬كيف نريد أن نقود حياتنا؟ وهذا الوضع للسؤال يمثل يف حقيقة األمر انتقاالً من‬
‫املنظور األخالقي الغائي إىل املنظور األخالقي الديونطولوجي‪.15‬‬

‫يف املعطيات الثقاف َّية العرب َّية اإلسالم َّية‪ ،‬ويف املجال السيايس واالجتامعي والفقهي‪ ،‬أو القانوين‪ ،‬ال نجد «نظر َّية » يف العدل‪ ،‬وإنَّام‬
‫َّ‬
‫ويتعذر جتريد نظر َّية منها‪ .‬ونحن ال نجد هذه النظر َّية إال يف‬ ‫بأنا عادلة أو ظاملة أو جائرة‪،‬‬
‫نجد وقائع أو إجراءات أو حاالت توصف َّ‬
‫النظم الفلسف َّية املستقاة من اإلغريق‪ ،‬وهي نظم ترت َّدد ما بني فلسفة أكسيولوج َّية يف األخالق عند أفالطون قوامها فضائل النفس العاقلة‬
‫وجاعها العدل)‪ ،‬وبني فلسفة عمل َّية يف السياسة املعيار َّية‪ ،‬عند أرسطو‪ ،‬قوامها «العدل‬ ‫والغضب َّية والشهو َّية (احلكمة والشجاعة والعفة‪ِ ،‬‬
‫التوزيعي» الذي‪ ،‬بإخراجه املرأة والعبيد واألجانب من «جنَّة احلر َّية واملساواة»‪ ،‬خيرج عىل العدل‪.‬‬

‫أن اهلل خري مطلق؛ والثاين َّ‬


‫أن اإلنسان حر مسؤول عن أفعاله‪.‬‬ ‫فإنا تنطوي عىل مبدأين إجيابيني‪ :‬األول َّ‬ ‫أ َّما نظر َّية العدل الكالمي َّ‬
‫وكالمها ذو جدوى يف عمل َّية التقدَّ م اإلنساين واالجتامعي‪.‬‬

‫أي نظر‬
‫بكل تأكيد‪ ،‬ينطوي عىل قدر عظيم من األحكام القمينة باالعتبار واملراجعة يف ّ‬ ‫وأ َّما العدل الرشعي (أو القانوين)‪ ،‬فإنَّه‪ّ ،‬‬
‫أن الفاعل الديني ُّ‬
‫يظل أحد الفواعل األساس َّية يف املعطى العريب الراهن‪.‬‬ ‫ديونطولوجي عريب معارص‪ ،‬لسبب ّبي هو َّ‬

‫‪ - 15‬أفاض بول ريكور القول يف هذه املسائل يف مباحثه القيّمة يف كتابه (العادل)‪:‬‬
‫‪Paul Ricoeur, Le Juste, Ed. Esprit, Paris, 1995.‬‬

‫‪23‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ظل حل ًام‬‫وأن هذا العدل قد َّ‬ ‫ص مفهوم العدل بمكانة رفيعة‪َّ ،‬‬ ‫أن عرص النهضة العريب قد َخ ّ‬ ‫شك ـ وقد أملعت إىل ذلك ‪ -‬يف َّ‬
‫ال َّ‬
‫ٍ‬
‫أن الوسع مل يبذل عىل نحو كاف من أجل اإلبانة عن طبيعته الذات َّية وعنارصه‬ ‫يداعب مجيع حركات النهضة والتحرر إىل أيامنا هذه‪ ،‬بيد َّ‬
‫توجه إىل هذا املفهوم يف القرن املايض ـ إذا ما استثنينا بطبيعة احلال النظر َّية املساوات َّية التي‬
‫املكونة‪ .‬وربام يكون االهتامم األبرز الذي َّ‬
‫ّ‬
‫استقتها األحزاب االشرتاك َّية والشيوع َّية العرب َّية من مثيالهتا يف االحتاد السوفييتي وأوروبا الغرب َّية ‪ -‬هو ذاك الذي مثله عمل اإلسالمي‬
‫سيد قطب يف منتصف القرن املايض‪ ،‬أعني ما ساقه يف كتاب العدالة االجتامع َّية يف اإلسالم (‪ ،)1951‬الذي‪ ،‬عىل الرغم من طابعه‬
‫يظل ينتمي إىل التيار« التكافيل» يف فكر النهضة العريب‪ ،‬وهو التيار‬ ‫اإليديولوجي املقرتن بفكر (مجاعة اإلخوان املسلمني) وعملها‪ُّ ،‬‬
‫روج ملفاهيم «التكافل العام» أو «عدل القوام»‪ ،‬عند رفيق العظم عىل وجه اخلصوص‪ ،‬وجنح من بعد ذلك إىل مفاهيم (اجلامع َّية‬ ‫الذي َّ‬
‫اإلسالم َّية) عند عبد الرمحن البزاز‪ ،‬و(اشرتاك َّية اإلسالم) عند مصطفى السباعي‪ ،‬الذي ينتمي هو أيض ًا إىل (مجاعة اإلخوان املسلمني)‪.‬‬
‫يسميه «الوحدة‬ ‫واخلصيصة التي تسم عمل قطب هي حماولته تقديم نظر َّية يف «العدالة االجتامع َّية» تستند إىل «رؤية الهوت َّية» منطلقها ما ّ‬
‫وأن اإلسالم‬ ‫الكون َّية املتكاملة» الصادرة عن اإلرادة املطلقة املبارشة هلل‪ ،‬وهي وحدة يشتق منها مبدأ التعاون والتكافل بني أفراد املجتمع‪َّ ،‬‬
‫الذي هو دين التوحيد يعني وحدة مجيع القوى الكون َّية‪ ،‬ويف الوقت نفسه هو يعني وحدة ـ واحلقيقة ثنائ َّية!‪ -‬العبادة واملعاملة‪ ،‬والعقيدة‬
‫والسلوك‪ ،‬والروحيات واملاديات‪ ،‬والقيم االقتصاد َّية والقيم املعنو َّية‪.16‬‬

‫أن العدالة االجتامع َّية عنده‪ ،‬أي العدالة يف اإلسالم وفق تصوره‪ ،‬هي عدالة إنسان َّية شاملة ال عدالة اقتصاد َّية‬ ‫َب عىل ذلك أيض ًا َّ‬ ‫و ُيرت ّ‬
‫حمدودة‪ ،‬أي َّأنا عدالة متتزج فيها القيم املاد َّية بالقيم املعنو َّية والروح َّية امتزاج ًا ال انفصام معه‪ .‬ثم َّإنا عدالة تراحم وتواد وتكافل‪،‬‬
‫ال عدالة تنازع ورصاع بني الطبقات‪ .‬وذلك ال يلغي القول َّإنا «إطالق للطاقات الفرد َّية والعا َّمة»‪ ،‬كام َّأنا ال تعني عدالة املساواة يف‬
‫قرر مبدأ املساواة اإلنسان َّية ومبدأ العدل بني‬ ‫ألن اإلسالم َّ‬‫األجور‪ ،‬وإلغاء التفاوت االقتصادي‪ ،‬وإنَّام هي «عدالة مساواة إنسان َّية»‪َّ ،‬‬
‫وقرر إباحة الفرص املتساوية للجميع‪ ،‬مقي ًام «العدالة» عىل ثالثة أسس‪:‬‬ ‫اجلميع‪ ،‬لكنَّه «ترك الباب مفتوح ًا للتفاضل باجلهد والعمل»‪َّ ،‬‬
‫التحرر الوجداين املطلق والعبود َّية هلل وحده‪ ،‬واملساواة اإلنسان َّية يف احلقوق والواجبات والتفاضل بالتقوى‪ ،‬والتكافل االجتامعي‬ ‫ُّ‬
‫باعتبار املصلحة العليا للمجتمع وربط احلر َّية الفرد َّية واملساواة اإلنسان َّية هبذه املصلحة وبسياس َّية خاصة للامل تقوم عىل حق امللك َّية‬
‫كل املضار‬ ‫الفرد َّية وفق رشوط وقيود حمدَّ دة‪ ،‬وأخذ ًا بمبادئ «املصالح املرسلة» و«سد الذرائع» التي متنح احلاكم «سلطة مطلقة لتدارك ّ‬
‫االجتامع َّية»‪.17‬‬

‫إن فكرة «الوحدة‬ ‫أن عمل َّية التنظري التي أقدم عليها سيد قطب تفتقر إىل األساس الفلسفي والعلمي الذي تقوم عليه‪ ،‬إذ َّ‬ ‫واحلقيقة َّ‬
‫املتكاملة» يف مطلق الوجود فكرة غامضة خيتلط فيها النظر الفلسفي والعلم واحلدس من وجه‪ ،‬ويتعذر إقامة عالقة منطق َّية وواقع َّية بينها‬
‫أن سيد قطب قد اصطنع هذا‬ ‫وبني الرتابط بني املادي والروحي‪ ،‬وبني العقيدة والسلوك‪ ،‬وبني القيم االقتصاد َّية والقيم املعنو َّية‪ .‬وواضح َّ‬
‫ظل العمل الذي أقدم عليه سيد قطب‪ ،‬كالعمل الذي‬ ‫التقابل اصطناع ًا‪ ،‬ترتيب ًا عىل مبدأ (الوحدان َّية)‪ ،‬الذي هو يشء آخر‪ ،‬ومن وجه آخر َّ‬
‫قام به قرينه عبد القادر عودة‪ ،‬رهني اهلاجس الرصاعي الذي حكم اخلمسينيات من القرن املايض‪ ،‬أعني االستغراق يف جدليات (امللك َّية‬
‫فإن العنارص والغائيات‬ ‫اخلاصة) التي جنح فيها اإلسالميون إىل املذهب الرأساميل الليربايل قبالة املذهب املاركيس الشيوعي‪ .‬ومع ذلك َّ‬
‫تظل جديرة باالعتبار‪.‬‬ ‫االجتامع َّية ‪ -‬االقتصاد َّية التي تنطوي عليها نظر َّية قطب يف العدالة ُّ‬

‫خصه ناصيف‬‫معمقة‪ ،‬يف الفكر العريب املعارص‪ ،‬إال عىل ما َّ‬


‫أ َّما اليوم فلم يقفني النظر‪ ،‬ممَّا يتعلق بمبدأ العدل ويقاربه مقاربة نظر َّية جد َّية َّ‬
‫األول يعرض لعالقة العدل بالسلطة‬‫نصار من معاجلة يف بعض فصول كتابيه‪ :‬منطق السلطة (‪ ،)1995‬والذات واحلضور (‪ .)2008‬يف َّ‬

‫‪ - 16‬سيد قطب‪ ،‬العدالة االجتامعيَّة يف اإلسالم‪ ،‬ط ‪ ،2‬مكتبة ومطبعة مرص‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ب‪.‬ث‪ ، .‬ص ‪.29-28‬‬
‫‪ - 17‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪ .110-105 ،71-59 ،59-35 ،29-28‬وانظر أيضاً كتايب‪ :‬أسس التقدُّم‪ ،‬ط ‪ ، 4‬ص ‪.518-507‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪24‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫أي أمر آخر‪ ،‬هو أن‬ ‫ما جيدر الوقوف عنده قبل ّ‬ ‫السياس َّية‪ ،‬ويف الثاين يقول قوالً أكسيولوجي ًا وجيز ًا «يف العدل‬
‫نفرتض ابتداء أنَّه ليس لدينا أ َّية نظرية حمددة يف‬ ‫بوصفه قيمة»‪ ،‬ومن حيث هو‪ ،‬جوهري ًا‪« ،‬وضع حقوقي» نابع‬
‫عن حقوق الكائن الذايت «النابعة من احلرمة الطبيع َّية التي يتمتع‬
‫العدالة‪ ،‬وأنَّنا يف صدد البحث عن نظر َّية «عمل َّية»‬
‫«متأصل يف حقيقة الكائن الذايت» وال‬ ‫ّ‬ ‫كل إنسان»‪ ،‬و«مركوز»‬ ‫هبا ُّ‬
‫لنا‪ .‬حينذاك سيكون علينا أن ننظر يف نظريات‬ ‫ينبغي جتريده من أساسه يف الطبيعة‪ ،‬والزعم بأنَّه «إذا كان له مكان‬
‫العدالة املتداولة يف الفلسفة السياس َّية واألخالق َّية‬ ‫بني الناس‪ ،‬فإنَّه حيتله باالتفاق يف ما بينهم»‪ .18‬ومع ذلك َّ‬
‫فإن‬
‫املعيار َّية‪ ،‬وأن نرى ما الذي (يالئمنا) منها‬ ‫جتذرها يف حقيقة الكائن الذايت‪ ،‬ال تتحقق يف‬ ‫«قيمة العدل‪ ،‬مع ُّ‬
‫الواقع االجتامعي املحسوس إال بالكفاح العنيد لبناء مفهومها بنا ًء‬
‫عقلي ًا يتناوهلا كمنظومة حقوق‪ ،‬وبالرضورة كمنظومة واجبات‬
‫ولكل منها‬ ‫ٍّ‬ ‫يتأسس عليها التعاون العفوي واملؤسسايت بني الناس بوصفهم كائنات اجتامع َّية مسؤولة يف ماهيتها عن هويتها‪،‬‬ ‫وممنوعات َّ‬
‫ألن القصد التعاون االجتامعي القائم عىل «العدل األسايس» املتضمن يف احلقوق الطبيع َّية‪ ،‬وهو تعاون بني كائنات تتمتع‬ ‫استحقاقه»‪َّ .19‬‬
‫بصفات أساس َّية هي الرغبة والعقل واحلر َّية واملساواة يف الكرامة‪ .‬وحيتفظ نصار بمكانة اخلري يف حياة الناس ويف هذه الدنيا‪ ،‬إذ يرجع‬
‫يتم التوفيق فيها بني أخالق املنفعة وأخالق العدل‪ ،‬وذلك منع ًا‬ ‫العدل إىل هذه القيمة التي هي حمور للحياة األخالق َّية التي ينبغي أن َّ‬
‫يتجسد يف االرتفاع إىل‬ ‫َّ‬ ‫أن «االرتقاء األخالقي‬ ‫النحراف األخالق عن مبدأ املساواة يف الكرامة ومستلزماته بني الكائنات الذات َّية‪ .‬فعنده َّ‬
‫ثم التوفيق بني أخالق املنفعة وأخالق العدل»‪ ،‬وكذلك التوفيق بني العدل واحلر َّية ورفع التناقض املطلق بينهام ‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫أخالق العدل‪ ،‬ومن َّ‬
‫أ َّما يف (منطق السلطة)‪ ،‬فينظر يف االرتباط اجلوهري بني السلطة والعدل‪ ،‬بعيد ًا عن «السيطرة» التي ال تعمل بمقتىض العدل‪ ،‬وتعزيز ًا‬
‫يعرف العدل بأنَّه‪« :‬ترتيب اجتامعي‬ ‫للغاية العليا التي يسعى إليها اإلنسان يف حدود اجلانب الدنيوي واالجتامعي‪ ،‬وهي السعادة‪ .‬وفيه ّ‬
‫لكل ذي حق واستحقاق بحقه واستحقاقه‪ ،‬ويتيح له أن يتمتع به‪ ،‬وأن يقوم بالواجب املصاحب له حتت رشوط مع َّينة» ‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫يعرتف ّ‬
‫والقول يف الرابطة بني السلطة والعدل يقود إىل جمال العدل السيايس والعالقة بني الدولة والعدل‪ .‬فللدولة احلق يف الوجود واالعرتاف‬
‫حق امللك َّية‪ ،‬بحدود‪ ،‬حفاظ ًا عىل املصلحة العامة واحرتام املصلحة اخلاصة وازدهار املجتمع‬ ‫به‪ ،‬داخلي ًا وخارجي ًا‪ ،‬وهلا أيض ًا بوجه خاص ُّ‬
‫ألن «الدولة العادلة ال تستخدم حقها يف امللك َّية من أجل التجرب عىل أعضائها‪ ،‬بل من أجل توزيع فوائد الثروة العامة يف‬ ‫بوجه شامل‪َّ ،22‬‬
‫حق الترشيع‪ ،‬لنفسها وألعضائها‪ ،‬والعدل‬ ‫املجتمع عىل هؤالء األعضاء‪ ،‬بعد اقتطاع ما هو رضوري لبقائها ونموها»‪ ،23‬وللدولة أيض ًا ُّ‬
‫الترشيعي أو القضائي هو الرشط العام للعدل يف املجتمع السيايس‪ .‬ويرتبط أيض ًا بالسلطة السياس َّية العدل االقتصادي وأنواع أخرى‬
‫خيصه نصار باهتامم بالغ‬ ‫لكل ما جيري يف املجتمع‪ ،‬هو العدل االجتامعي‪ ،‬الذي ُّ‬ ‫فرع َّية من العدل يمكن ر ُّدها إىل عدل واحد شامل ّ‬
‫أسس‬ ‫يستحرض فيه عمل أبرز الفالسفة املعارصين الذين دافعوا عن مبدأ (العادلة االجتامع َّية)‪ :‬جون رولز وكتابه (نظر َّية العدالة)‪ ،‬الذي َّ‬
‫تصوره عىل نظر َّية العقد االجتامعي املنحدرة عن لوك وروسو وكانط‪ ،‬ذاهب ًا هبا إىل التآلف بني احلر َّية واملساواة‪ .‬لك َّن (نصار) ال يأخذ‬ ‫ُّ‬
‫يوحد‬ ‫ً‬
‫مر‪ .‬ثم إنَّه‪ ،‬خالفا ملن يذهب إىل ربط العدل االجتامعي باملساواة أو ِّ‬ ‫بالنظر َّية التعاقد َّية‪ ،‬وإنَّام خيتار القول بالنظر َّية الطبيع َّية‪ ،‬مثلام َّ‬
‫أن املعنى الفلسفي للمساواة بني األفراد االجتامعيني هو املساواة يف الكرامة اإلنسان َّية‪ ،‬أ َّما‬ ‫بينهام‪ ،‬ال يس ّلم بالتفسري املساوايت للعدل‪ ،‬ويرى َّ‬
‫فتجاوز لطبيعة األشياء وتشويه خلصائصها التي تؤكد حقيقة الفوارق‬ ‫ٌ‬ ‫دفع املساواة إىل ما أبعد من ذلك ‪-‬عىل طريقة املذهب املساوايت‪-‬‬

‫‪ - 18‬ناصيف نصار‪ ،‬الذات والحضور‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ ،208 ،‬ص ‪.378-377‬‬
‫‪ - 19‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.370‬‬
‫‪ - 20‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.386-384‬‬
‫‪ - 21‬ناصيف نصار‪ ،‬منطق السلطة ‪ -‬مدخل إىل فلسفة األمر‪ ،‬ط ‪ ،1‬دار أمواج للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،1995 ،‬ص ‪.237‬‬
‫‪ - 22‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.255-250‬‬
‫‪ - 23‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.256‬‬

‫‪25‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫كل فرد اجتامعي من حيث هو كائن حي فريد حقيقة ينبغي‬ ‫بني األفراد االجتامعيني‪ .‬املامثلة بني األفراد حقيقة اجتامع َّية‪ ،‬لك َّن فرد َّية ِّ‬
‫مقوم ًا جوهري ًا من مقومات الفرد اإلنساين‪ ،‬ويف ذلك تأكيد للمساواة من وجه وللتاميز‬ ‫يعزز هذا املذهب عنده اعتبار احلر َّية ّ‬ ‫احرتامها‪ّ .‬‬
‫أن «األولو َّية يف العدل االجتامعي هي ملبدأ احلر َّية‪ ،‬وبخاصة احلر َّية االجتامع َّية‬ ‫الذي تولده الدينام َّية املبدعة للحر َّية من وجه آخر‪ .‬وعنده َّ‬
‫أن األولو َّية ال تعني اإلطالق‪ ،‬فال إطالق يف العدل االجتامعي للحر َّية‪ ،‬وال ملبدأ احلر َّية‪ .‬هذا هو وضع اإلنسان احلر‬ ‫بأوسع معانيها‪ ،‬إال َّ‬
‫بكل فرد موجود معه‪ ،‬ومضطر إىل تنظيم ممارسته حلريته معه‪ .‬ويف بعض احلاالت يضع‬ ‫كل فرد حمدود ّ‬ ‫الذي تالزم االجتامع َّية طبيعته‪ُّ .‬‬
‫كل فرد يف احلر َّية‪ ،‬ويف التمتع باحلر َّية‪ ،‬هو حق طبيعي واجتامعي‬ ‫إن حق ّ‬ ‫مبدأ آخر‪ ،‬مثل مبدأ املنفعة العامة‪ ،‬حدود ًا قاسية أمام مبدأ احلر َّية‪َّ .‬‬
‫يف الوقت نفسه‪ :‬فهو من العدل ما دام يتالءم مع احلق نفسه لغريه من أفراد الدول وللدولة نفسها‪ .‬ومن البدهيي َّ‬
‫أن احلر َّية االجتامع َّية ال‬
‫إن احرتام املساواة يف الكرامة اإلنسان َّية يتطلب تأمني فرص متكافئة أمام األفراد االجتامعيني‬ ‫«ثم َّ‬
‫تكون بمعناها التام من دون التزام» ‪َّ .‬‬
‫‪24‬‬

‫تسمح للفوارق فيام بينهم بالظهور من دون حكم اجتامعي مسبق عليها‪ ،‬وبخاصة يف الرتبية والتعليم‪ .‬فالفرص املتكافئة‪ ،‬املتغرية بحسب‬
‫مستويات النمو وأنواع الطلب‪ ،‬تبعد األفراد عن املساوات َّية الظاملة‪ ،‬ومتنحهم القدرة عىل جتنب التفاضل َّية اجلائرة»‪ .‬ويرتتب عىل ذلك ضبط‬
‫التفاوت االقتصادي االجتامعي عىل قاعدة تكافؤ الفرص‪ ،‬ضمن حدود الفوارق الناجتة عن العمل‪ .‬وحتى يستقيم العدل ينبغي تعزيز‬
‫اخلدمات االجتامع َّية العامة من أجل إعادة توزيع الثروة االجتامع َّية وتسخريها لفائدة أفراد الشعب كلهم من حيث هم أفراد متضامنون‪،‬‬
‫ال من حيث هم أفراد أنانيون‪ «.‬فالقاعدة الصحيحة التي ينبغي اعتامدها يف هذا الصدد هي قاعدة التضامن التي تنقل التعاون من مستوى‬
‫احلسابات األنان َّية إىل مستوى املسامهة الواعية يف املصري العام للمجتمع»‪ ،25‬والطريقة املثىل لتحقيقها تستند إىل سياسة رضائب َّية مناسبة‬
‫ال عن أن يكون رشط ًا للتعاون والوئام والسالم‬ ‫وسياسة خدمات َّية شاملة‪ .‬بذلك يكون العدل رشط ًا من رشوط سعادة املجتمع‪ ،‬فض ً‬
‫االجتامعي‪ .‬وبجملة هذه املواقف يمكن القول َّ‬
‫إن ما جينح إليه نصار يرتد إىل نظر َّية ليربال َّية تكافل َّية أو تضامن َّية‪ ،‬قوامها تأسيس العدل عىل‬
‫مبدأ «احلق الطبيعي» ال عىل مبدأ التعاقد‪.‬‬

‫وأن العدل «مغروز» يف الكينونة‬ ‫ويف اعتقادي‪ ،‬عىل الرغم من اجلدل الذي يمكن أن يثريه القول بر ّد العدل إىل احلق الطبيعي‪َّ ،‬‬
‫أن الليربال َّية التكافل َّية تستحق أن تكون مركز االعتبار يف مقاربتنا الديونطولوج َّية ملبدأ العدل يف عاملنا العريب‪ .‬ثم إنَّنا إذا‬ ‫اإلنسان َّية‪َّ ،‬‬
‫أن‬‫ُقر َّ‬
‫شئنا اليوم أن نقابل بني املنظور الذي خيتاره نصار الليربايل‪ ،‬واملنظور الذي نجده عند سيد قطب اإلسالمي‪ ،‬فإنَّنا ال بدَّ أن ن َّ‬
‫ثمة اتفاق مبدئي ـ وعام‪ -‬عىل االنحياز إىل الليربال َّية التضامن َّية يف املجال‬ ‫ثمة بينهام قدر ًا من املامثلة وقدر ًا أعظم من االختالف‪َّ .‬‬ ‫َّ‬
‫االقتصادي (يف مسائل امللك َّية الفرد َّية واملساواة اإلنسان َّية‪ ،‬واملنفعة العامة‪ ،‬والتكافل االجتامعي‪ ،‬ورفض املذهب املساوايت‪ ،‬وإقرار‬
‫ثمة اختالف جوهري بني الرؤية الدين َّية أو الالهوت َّية عند قطب‪ ،‬والرؤية‬ ‫لكن َّ‬ ‫مبدأ الربط بني السياسة واالقتصاد وبني األخالق)‪ْ .‬‬
‫أن املرتكز األسايس للعلامن َّية هو العدل‬ ‫أن نصار يربط ربط ًا عضوي ًا بني العدل والعلامن َّية ‪ ،‬إذ يؤكد َّ‬
‫‪26‬‬ ‫الدنيو َّية عند نصار‪ ،‬خصوص ًا َّ‬
‫الطبيعي‪ .‬وكذلك ربط نصار بني العدل واحلر َّية‪ ،‬أ َّما قطب‪ ،‬وعموم اإلسالميني‪ ،‬فقد ربطوه بالعبود َّية هلل‪ ،‬وق َّيدوا احلر َّية‪ ،‬خصوص ًا‬
‫ألنا ذات صلة بالتقابل احلايل الذي يشهده املرسح العريب‪ ،‬بني اإلسالميني‬ ‫االجتامع َّية‪ ،‬تقييد ًا عظي ًام‪ .‬هذه املقابلة «اخلارج َّية» مفيدة‪َّ ،‬‬
‫من طرف والليرباليني من طرف آخر‪ ،‬وهو تقابل يمدُّ جذوره يف الفكر العريب احلديث منذ أمحد لطفي السيد وطه حسني واملحدثني‬
‫املجدّ دين‪.27‬‬

‫‪ - 24‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.256‬‬


‫‪  25‬ـ املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.279-278‬‬
‫‪  26‬ـ ناصيف نصار‪ ،‬اإلشارات واملاملك‪ ،‬من إيوان ابن رشد إىل رحاب العلامنيَّة‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ ،2011 ،‬ص‪.285-247‬‬
‫‪ 27‬ـ انظر كتايب‪ :‬يف الخالص النهايئ ‪ -‬مقال يف وعود النظم الفكريَّة العرب َّية املعارصة‪ ،‬ط‪ ،2‬الشبكة العرب َّية لألبحاث والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،2012 ،‬ص ‪.231-153‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪26‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫(‪)3‬‬

‫وجهت هذا القول ليكون قوالً يف العدل يف حدود ديونطولوج َّية عرب َّية‪ ،‬فإنَّني كنت يف حقيقة األمر أضمر االعتقاد بأنَّني ال‬ ‫حني َّ‬
‫أقارب املوضوع مقاربة كون َّية تنطوي عىل التسليم بمفهوم متداول عند الكثريين‪ ،‬هو أنَّنا نحن البرش ننتمي مجيع ًا إىل«حضارة واحدة»‪،‬‬
‫وإنَّام أختار مقاربة تنطوي رصاحة عىل هاجس «الدفاع عن هو َّية خاصة» هي هويتنا نحن‪ ،‬أي أنَّني أحرص عىل حترير خميالنا ودماغنا‬
‫أن اجلريمة‬ ‫من استبداد الفلسفات األحاد َّية التي تنكر عىل «الثقافات اخلاصة» متيزها وفرادهتا ومجالياهتا‪ ،‬بل وعبقرياهتا‪ .‬ويف اعتقادي َّ‬
‫الثقاف َّية العظمى التي تقرتفها فلسفة العوملة الثقاف َّية األحاد َّية تكمن يف اجلَور الذي تلحقه بالفرادة َّ‬
‫الفذة للحضارات اإلنسان َّية املتعدّ دة‬
‫املتباينة‪ ،‬إذ تفتئت عىل األصالة الذات َّية هلذه احلضارات وتدجمها يف حضارة كون َّية مطلقة ليست يف حقيقة األمر إال حضارة ظافرة ذات‬
‫مكونات معرف َّية وعلم َّية وتقن َّية وثقاف َّية وماد َّية ‪ -‬ونسب َّية زمن َّية أيض ًا ‪ -‬يزعم أصحاهبا َّأنا األكمل واألمثل واألجدر باالقتداء والبقاء‪.‬‬
‫ّ‬

‫أن هذه (الثقافة الكون َّية) ال تشتمل عىل ثلة من املبادئ والقيم التي يمكن أن تكون ثاوية يف هذه احلضارة‬ ‫ّ‬
‫وبكل تأكيد‪ ،‬ال يعني َّ‬ ‫ذلك‪،‬‬
‫أن الرؤى الكون َّية األحاد َّية هي رؤى استبداد َّية ليست يف حقيقة األمر إال رؤية فريق‬ ‫أو تلك‪ ،‬أو التي يمكن إغناؤها هبا‪ ،‬وإنَّام يعني َّ‬
‫دون آخر‪ ،‬أي الفريق األقوى‪ ،‬الفريق الذي تسمح له قوته وطغيانه بأن يفرض عىل اآلخرين طريقته يف التفكري ويف العمل والسلوك‪،‬‬
‫كل مكان‪ .‬وبالطبع تؤدي األذرع (اإلعالم َّية) هنا دور ًا حاس ًام يف إشاعة‬ ‫بحيث جيد نفسه‪ ،‬أي جيد قوته وحضوره وتأثريه وفاعلياته‪ ،‬يف ّ‬
‫وجتذير وتوطني قيم ومبادئ ومسلكيات ورموز هذه الرؤى‪ .‬يف مقال استفزازي عنوانه‪( :‬يف مديح اإلمربيال َّية الثقاف َّية) يقول أحد كبار‬
‫املسؤولني يف إدارة بيل كلينتون‪ -‬دافيد روثكوف(‪« : )David Rothkopf‬ينبغي أن يكون اهلدف الرئييس للواليات املتحدة يف سياستها‬
‫اخلارج َّية يف عرص اإلعالم أن تكسب معركة تدفق اإلعالم العاملي وذلك بالسيطرة عىل«األمواج» (القنوات واإلذاعات)‪ ،‬متام ًا مثلام‬
‫ثم يضيف‪« :‬من املصلحة االقتصاد َّية والسياس َّية للواليات املتحدة أن حترص‬ ‫كانت بريطانيا العظمى تسيطر يف املايض عىل البحار»؛ َّ‬
‫توجه العامل نحو معايري‬
‫عىل أن تكون اللغة اإلنجليز َّية هي اللغة املشرتكة إذا ما تبنَّى العامل لغة مشرتكة‪ ،‬وأن تكون املعايري أمريك َّية إذا ما َّ‬
‫تم االرتباط بني األطراف املختلفة يف جمال التلفزيون‬ ‫مشرتكة يف جمال االتصاالت واألمن والنوع َّية‪ ،‬وأن تكون الربامج أمريك َّية إذا ما َّ‬
‫يتبي فيها األمريكيون أنفسهم»‪ .‬فام هو حسن للواليات املتحدة‬ ‫والراديو واملوسيقى‪ ،‬ويف حالة بلورة قيم مشرتكة أن تكون هذه القيم قي ًام َّ‬
‫أن شعبهم من بني مجيع الشعوب يف تاريخ العامل هو األعظم‬ ‫حسن بالنسبة إىل البرش َّية‪« .‬وليس ينبغي عىل األمريكيني أن ينفوا حقيقة َّ‬
‫حيسن من نفسه عىل الدوام‪ ،‬وأنَّه النموذج األفضل للمستقبل» ‪.‬‬ ‫عدالة وتساحم ًا واألكثر رغبة يف أن يراجع نفسه وأن ِّ‬
‫‪28‬‬

‫بتفوق رؤية جمتمع ما أو حضارة ما‪ ،‬يف إدراكها وفهمها وحتديدها للعدالة وغريها‪ ،‬أن أقول َّ‬
‫إن‬ ‫يرصح ُّ‬
‫أقصد من َسوق هذا النص الذي ّ‬
‫وإن هذا املذهب ونظائره تسوغ متام ًا الذهاب إىل حدود معطياتنا‬ ‫مذهب ًا يدَّ عي لنفسه هذا النظر املستبد يف شأن العدل هو مذهب غري عادل‪َّ ،‬‬
‫الثقاف َّية وغائياتنا الوجود َّية وتطلعاتنا اخلاصة يف بحثنا عن العدالة اجلديرة بأن تكون العدالة املناسبة ملجتمعاتنا وحياتنا الذات َّية يف هذا العامل‪.‬‬

‫قد يكون من أول ما ينبغي أن يقال يف مسألة العدل َّ‬


‫أن «العدل ليس من هذا العامل! »‪ ،‬الظلم هو الذي حييق بوجود اإلنسان يف هذا‬
‫شك َّ‬
‫أن‬ ‫العامل‪ ،‬ومثلام يقول بول ريكور‪« :‬الشعور بالظلم هو التجربة األوىل التي تدخلنا إىل مشكل العدل»‪ .‬ويف عاملنا احلديث‪ ،‬ال َّ‬
‫االقتصاد الرأساميل هو املكان األبرز للظلم‪ ،‬وأنَّه‪ ،‬مثلام يقول ليفيناس‪« :‬يف عامل حيكمه االقتصاد ال يكون للعدل من موضوع إال املساواة‬

‫‪28 . D.Rothkopf:”in parise of cultural imperialism”, foreign policy, no 07.‬‬


‫وقد أورده سريج التوش يف‪:‬‬
‫‪Serge latouche, justice sans limites, Fayard, Paris,2003, p.226.‬‬

‫‪27‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫أن املظامل االقتصاد َّية يف العامل العريب ليست هي الوحيدة التي تستجلب أمر‬ ‫االقتصاد َّية»‪ .29‬املساواة هي قرين العدل‪ .‬لك َّن احلقيقة هي َّ‬
‫فثمة إىل جانبها املظامل السياس َّية املاثلة يف االستبداد واالفتئات عىل احلريات األساس َّية‪ ،‬واملظامل القانون َّية واالعتداء عىل احلقوق‪،‬‬
‫العدل‪َّ ،‬‬
‫واملظامل االجتامع َّية الشاخصة يف غياب العدالة االجتامع َّية واملساواة واحرتام الكرامة اإلنسان َّية‪ ،...‬والسؤال الرئيس بالطبع هو‪ :‬كيف‬
‫للتحرر منها وإلقامة بنيان العدل الراسخ اجلدير بتأسيس‬ ‫ُّ‬ ‫يتأتَّى لنا أن نخرج من هذه املظامل؟ وما هو املبدأ الديونطولوجي الذي يصلح‬
‫األمن والطمأنينة والسعادة وطيب العيش؟ وليس املقصود هنا هو وضع ُس ّلم لألحكام واإلجراءات «الفرد َّية» املفضية إىل العدل‪ ،‬وإنَّام‬
‫املقصود الوقوف عىل اآلليات األخالق َّية الوظيف َّية والسياس َّية الفاعلة والضامنة لتحقيق الوضع العادل‪.‬‬

‫يف إطار البحث عن نظر َّية للعدالة يف املوروث الثقايف العريب ويف األدبيات الفلسف َّية السياس َّية واألخالق َّية املعارصة‪ ،‬نظر َّية ذات‬
‫جدوى يف مقاربة املشكالت االجتامع َّية واالقتصاد َّية والسياس َّية العرب َّية املعارصة‪ ،‬ال نملك إال أن نستحرض مجلة النظريات املتداولة‬
‫اليوم يف الفضاء العاملي‪ ،‬ونرفدها بام انطوت عليه املعطيات التارخي َّية الصلبة ‪ -‬يف اعتقادي ‪ -‬التي متتدُّ يف حارضنا‪ ،‬وباملعطيات الراهنة‬
‫التي حتكم أفعالنا وتستأثر باهتامماتنا‪ .‬بتعبري آخر‪ ،‬عىل الرغم من أنَّنا نحرص عىل الدفاع عن هويتنا الثقاف َّية وعىل حترير خميالنا من‬
‫بأن فالسفة اليونان وفقهاء اإلسالم ومفكري الغرب احلديث واملعارص قد وضعوا أيدهيم عىل مجلة‬ ‫نقر َّ‬ ‫استبداد العوملة‪ ،‬إال َّ‬
‫أن علينا أن َّ‬
‫من املبادئ الكربى التي أداروا عليها احلياة األخالق َّية والسياس َّية‪ ،‬التي ال نملك اليوم إال أن نستأنف النظر فيها ومراجعتها قصد ًا إىل‬
‫إدراك الصيغة املالئمة ألوضاع جمتمعاتنا يف خصوصياهتا الذات َّية والتارخي َّية‪.‬‬

‫إن مبدأ العدل كان أحد أعظم املبادئ األخالق َّية والسياس َّية التي شغلت فالسفة اليونان ‪ -‬خصوص ًا‬ ‫نكرر القول َّ‬
‫ال تثريب علينا يف أن ّ‬
‫وأن العصور التالية إىل أزمنتنا احلديثة قد جعلت منه أحد املبادئ‬ ‫تم ربطه عندهم باخلري األسمى‪َّ ،‬‬ ‫أفالطون وأرسطو‪َّ -‬‬
‫وأن هذا املبدأ قد َّ‬
‫املركز َّية للفلسفة السياس َّية واملعيار َّية‪ ،‬عىل الرغم من التفاوت واالختالف يف حتديد طبيعته ومتعلقاته‪ .‬واليوم أيض ًا‪ ،‬عندنا‪ ،‬وبسبب القهر‬
‫والظلم وغياب املساواة عىل وجه اخلصوص‪ ،‬تتطلع مجيع شعوبنا إىل هذا املبدأ من حيث هو باب رئيس للخالص‪ .‬ويف الغرب كذلك‪ ،‬ومنذ‬
‫أن أذاع جون رولز كتابه (نظرية العدالة) ‪ ،30 1971‬يغزو مفهوم العدالة مجيع األعامل الفلسف َّية والفكر َّية التي تدور يف حقل الفلسفة السياس َّية‬
‫املعيار َّية والفلسفة األخالق َّية والفلسفة االجتامع َّية‪ .‬وبالطبع ال نملك نحن إال أن نستحرض النظر املعارص يف هذه املسألة‪ ،‬مثلام نستحرض ما‬
‫نجده مالئ ًام يف النظر العريب املوروث املمتد يف احلارض‪ ،‬لنتبني الطريق األنجع ملقاربة املوضوع وحتديد اجتاهنا األنسب لفضاءاتنا اخلاصة‪.‬‬

‫أن األفكار السياس َّية متتدُّ‬‫(ول كيمليكا) أنَّنا حني نستحرض املشهد السيايس التقليدي يف الغرب عىل وجه اخلصوص‪ ،‬نتبني َّ‬ ‫يالحظ ِ‬
‫وإنم من َث َّم يأخذون‬ ‫فإن األفراد الذين جينحون إىل اليسار يؤمنون باملساواة‪َّ ،‬‬ ‫عىل حمور قطباه اليسار واليمني‪ .‬وبحسب هذه الصورة َّ‬
‫فإنم يؤمنون باحلر َّية‪ ،‬وهم من َث َّم يميلون إىل الرأسامل َّية بال قيود‪ .‬أ َّما يف‬
‫بشكل ما من االشرتاك َّية؛ أ َّما األفراد الذين يقعون إىل اليمني َّ‬
‫وسط املحور فتتموضع طوائف أبرزها الليرباليون الذين يؤمنون بمزيج غامض خمتلط من املساواة واحلر َّية‪ ،‬وهم من َث َّم أنصار لرأسامل َّية‬
‫أن هذا التقدير لواقع األمر مل يعد اليوم قاطع ًا‪ ،‬ألنَّه من ناحية جيهل عدد ًا من املشاكل َّ‬
‫املهمة‪،‬‬ ‫معتدلة هي رأسامل َّية «دولة الرعاية»‪ .‬بيد َّ‬
‫خصوص ًا تلك املتعلقة برضورة التمييز بني الفضاء الذكوري والفضاء النسائي يف الدولة ويف االقتصاد واملنزل والعائلة‪ ،‬وكذلك ما‬
‫يتعلق باملشاكل التي يثريها املذهب (اجلام َعتي)‪ .‬والنظريات السياس َّية التقليد َّية‪ ،‬يمين ًا ويسار ًا‪ ،‬هتمل هذه املجاالت‪ ،‬أو تزعم َّأنا ال تثري‬
‫أي حكم معياري سيايس ال‬ ‫إن إطالق ّ‬ ‫أ َّية مشكلة ذات صلة بالعدالة أو باحلر َّية‪ .‬ومن وجه آخر ال يأبه هذا النظر بالسياق التارخيي‪ ،‬إذ َّ‬
‫بدَّ أن يستند إىل تعليل التقاليد واملامرسات التي حتكم حياتنا التارخي َّية واالجتامع َّية‪ ،‬ونحن لن نستطيع أن نفهم احلركة النسو َّية أو املذهب‬
‫اجلامعتي إذا ظللنا متشبثني بتأقطب اليمني واليسار‪.‬‬

‫‪29 . E. levinas. Entre nous: essai sur le penser-à- l autre; grasset; paris; 1991. p 116.‬‬
‫‪30 . Rawls, John.Theory of justice. Oxford University Press. London. 1972.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪28‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫مؤسسة» متباينة‪ .‬فع َّلة االختالف بني اليمني واليسار يف شأن الرأسامل َّية تكمن يف‬
‫ال عن ذلك‪ ،‬تستند النظريات املختلفة إىل «قيم ِّ‬ ‫وفض ً‬
‫فإن اخلالفات ال يمكن أن َّ‬
‫حتل‬ ‫أن اليسار يؤمن باملساواة بينام يؤمن اليمني باحلر َّية‪ .‬وملا كانت قيمهام اإلنسان َّية متعارضة وال توافق بينها‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫أن اليمني يمكن أن‬ ‫فإن عليك أن تنترص لالشرتاك َّية؛ مثلام َّ‬
‫عقل َّي ًا‪ .‬يستطيع اليسار أن يدافع عن القض َّية التالية‪ :‬إذا كنت تؤمن باملساواة َّ‬
‫فإن عليك أن تكون نصري ًا للرأسامل َّية‪ .‬لكن ليس َّ‬
‫ثمة أ َّية وسيلة لتقديم الدليل عىل صحة مبدأ املساواة يف قبالة‬ ‫يؤكد‪ :‬إذا كنت تؤمن باحلر َّية َّ‬
‫مبدأ احلر َّية‪ ،‬والعكس صحيح‪ ،‬ألنَّنا ههنا بإزاء قيم مؤسسة‪ ،‬وأنَّه ال تتوفر أ َّية قيمة أو مقدّ مة أسمى أو أعىل يمكن أن حيتكم إليها الطرفان‬
‫فإنا تبدو لنا غري قابلة للحل‪ ،‬ألنَّنا ملزمون باالحتكام إىل قيم متناهية متصارعة‪.31‬‬ ‫تعمقنا يف النظر يف هذه املسائل َّ‬
‫املتصارعان‪ .‬ومهام َّ‬

‫كل نظر َّية من نظريات العدالة اجلديدة متيل بدورها إىل قيم هنائ َّية‬ ‫إن َّ‬
‫مل تنل التصورات املستحدثة من هذه الرؤية التقليد َّية‪ ،‬إذ َّ‬
‫خمتلفة‪ .‬فإىل جانب ارتباط املساواة باالشرتاك َّية‪ ،‬واحلر َّية بالليربتار َّية‪ ،‬تعتمد النظريات السياس َّية اجلديدة عىل «قيم هنائ َّية»‪ ،‬كاالتفاق‬
‫التعاقدي (رولز)‪ ،‬و«اخلري العام» (املذهب اجلامعتي)‪ ،‬و«املنفعة» (املذهب النفعي)‪ ،‬و«احلقوق» (دوركن)‪ ،‬و«الذكورة»(‪)androgynie‬‬
‫أي دليل عقيل أن يوفق بينها‪ .‬وذلك من‬ ‫(النسو َّية)‪ .‬ويف هذه احلاالت مجيع ًا نحن قبالة عدد متعاظم من «القيم النهائ َّية» التي ال يستطيع ُّ‬
‫ثمة قدر كبري من القيم النهائ َّية التي يمكن هلا أن تدَّ عي حتقيق هذه‬ ‫شأنه أن يشكِّك يف إمكان َّية بناء نظر َّية شاملة جامعة يف العدالة‪ ،‬إذا كان َّ‬
‫أن اإلجابة الوحيدة املعقولة عىل هذه التعدد َّية يف القيم‪ ،‬تكمن يف أن هنجر فكرة تطوير‬ ‫أي شك يف َّ‬ ‫ثمة ُّ‬
‫العدالة‪ ،‬جييب كيمليكا‪« :‬ليس َّ‬
‫التعصب» ‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫ُّ‬ ‫فإن الفكرة التي تع ّلق مجيع القيم عىل قيمة عليا تكاد تبدو شك ً‬
‫ال من‬ ‫نظر َّية «أحاد َّية» أو «واحد َّية» يف العدالة‪َّ .‬‬

‫خيتلف رونالد دوركني مع كيمليكا‪ ،‬إذ يؤكد َّ‬


‫أن مجيع النظريات السياس َّية احلديثة ال تستند فع ً‬
‫ال إىل قيم مؤسسة خمتلفة‪ ،‬وإنَّام هي تشرتك‬
‫وأن من املمكن رفع التناقضات الظاهر َّية التي توجد بني نظريات العدالة املختلفة بحيث تفيض إىل‬ ‫يف قيمة هنائ َّية واحدة‪ ،‬هي املساواة‪َّ ،‬‬
‫هذه الرؤية‪ ،‬وهي َّأنا مجيع ًا نظريات يف املساواة ‪.33‬‬

‫بأن َّ‬
‫كل املذاهب األخالق َّية تستند إىل نواة‬ ‫ال يعنيني هذا السجال هنا‪ ،‬وال هيمني أن أستغرق يف الدفاع‪ ،‬مع كيمليكا‪ ،‬عن خطأ االعتقاد َّ‬
‫ألن بعضها رصيح رصاحة مطلقة يف إنكار هذه القيمة‪ ،‬كاملذهب الليربتاري مثالً‪ .‬وقد أضيف إىل ذلك‬ ‫قاعد َّية أساس َّية هي «املساواة»‪َّ ،‬‬
‫«أن من يعمل ليس كمن ال يعمل‪ ،‬ومن يبدع ليس كمن ال يبدع»‪ ،‬وأ َّي ًا ما كانت مشاعر التعاطف عندنا سامية فإنَّنا ال‬‫أنَّنا مجيع ًا نتفق عىل َّ‬
‫نقبل بمبدأ االستحقاق املتساوي ملن يعمل وملن ال يعمل‪.‬‬

‫أي أمر آخر‪ ،‬هو أن نفرتض ابتداء أنَّه ليس لدينا أ َّية نظرية حمددة يف العدالة‪ ،‬وأنَّنا يف صدد البحث‬ ‫أن ما جيدر الوقوف عنده قبل ّ‬ ‫بيد َّ‬
‫عن نظر َّية «عمل َّية» لنا‪ .‬حينذاك سيكون علينا أن ننظر يف نظريات العدالة املتداولة يف الفلسفة السياس َّية واألخالق َّية املعيار َّية‪ ،‬وأن نرى‬
‫أن ذلك أجدى‪ ،‬منهجي ًا وواقعي ًا‪ ،‬من أن أ ّدعي تقليد جون رولز وإعادة‬ ‫ما الذي (يالئمنا) منها‪ .‬ويف اعتقادي‪ ،‬لسياقاتنا اخلاصة الراهنة‪َّ ،‬‬
‫جتربة «الوضع األصيل» و«حجاب اجلهل»‪ ،‬الذائعة الصيت‪.‬‬

‫إن العمل الذي قام به كيمليكا يفيدين يف هذا القصد إفادة بالغة‪ ،‬إذ يضع يده عىل أبرز النظريات الكربى الراهنة يف العدالة‪ ،‬يف‬ ‫َّ‬
‫الفكر الغريب املعارص‪ .‬وهي‪ ،‬عنده‪ ،‬ست‪ :‬النظر َّية النفع َّية‪ ،‬ونظر َّية املساواة الليربال َّية‪ ،‬والنظر َّية الليربتار َّية‪ ،‬والنظر َّية املاركس َّية‪ ،‬والنظر َّية‬
‫اجلامعت َّية‪ ،‬والنظر َّية النسو َّية‪.‬‬

‫‪31 . Willkimlicka; les théories de la justice. Edition la découverte-édition du boréal. Canada.1999 .p.8 - 9.‬‬
‫‪32 . W. Kimlicka, Op.Cit, p. 10.‬‬
‫‪33 . Dworkin, Taking Rights Seriously, Duckworth, Londres, 1977, pp. 179- 183, In Defense of Equality, 1983, p. 24…etc.‬‬

‫‪29‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫أن الفكر الغريب‬ ‫وألن املوروث العريب اإلسالمي ممتد فينا مثلام َّ‬
‫وألن القصد هنا حتديد معامل نظر َّية يف العدالة يف حدود ديونطوجليا عرب َّية‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫يؤثر فينا أيض ًا‪ ،‬فإنَّني سأضيف إىل النظريات املتداولة يف الفضاءات الغرب َّية ‪ -‬وهي نظريات قابلة للتداول يف فضاءات أخرى‪ -‬النظر َّية‬
‫التي تنحدر إلينا من الرتاث العريب اإلسالمي‪ ،‬أعني نظر َّية املصلحة‪ ،‬ألرى يف هناية األمر ما الذي يستدعيه حارضنا السيايس‪ ،‬االقتصادي‪،‬‬
‫االجتامعي‪ ،‬األخالقي‪ ،‬التارخيي‪ ،‬ويتطلبه من بني مجلة هذه النظريات‪ ،‬عىل سبيل «املالءمة» أو «املناسبة» أو «اجلدوى»‪ ،‬اليوم وغد ًا‪.‬‬

‫النظر َّية األولى في العدالة هي النظر َّية النفع َّية (‪)Utilitarianism‬‬


‫أن السلوك العادل أو السياسة العادلة أخالقي ًا هي التي تنتج أعظم قدر من السعادة ألعضاء املجتمع‪ ،‬أي‬ ‫وهي تعني‪ ،‬باختزال شديد‪َّ ،‬‬
‫تعظيم السعادة اإلنسان َّية‪ .‬النظر َّية ليست جديدة‪ ،‬إذ هي متدُّ جذورها يف مذهب اللذة اإلبيقوري‪ ،‬لك َّن الذي بلورها فلسفي ًا يف العرص‬
‫وس ْحرها ممتد يف احلياة املعارصة‪ ،‬املستغرقة يف «االقتصادي»‪ ،‬وجاذبيتها يف الغرب‪ ،‬كأخالق‬ ‫احلديث جرييمي بنتام وجون ستوارت مل‪ِ .‬‬
‫أن الغاية التي يتطلع النفعيون إىل حتقيقها ‪ -‬السعادة والرفاهية ‪ -‬ليست مرهونة بوجود اهلل والنفس‬ ‫سياس َّية‪ ،‬مستمدة من وجهني‪ :‬األول َّ‬
‫أو أي كائن ميتافيزيقي ممكن‪ ،‬فذلك كله ال يدخل يف حسابات النفعيني‪ .‬السعادة‪ ،‬وفق ًا هلم‪ ،‬ذات قيمة يف حياتنا ويمكن أن تتحقق‬
‫أن جاذبيتها تنجم أيض ًا من النتائج‬ ‫أن النفع َّية ذات سمة (ذرائع َّية)‪ ،‬بمعنى َّ‬
‫من دون أن تكون ذات متعلقات دين َّية أو أخرو َّية‪ .‬الثاين َّ‬
‫التي ترتتب عىل ممارستها (‪ ،)consequentialism‬بمعنى أن تكون هذه النتائج نافعة أو مفيدة أو جالبة للسعادة لصاحبها‪ ،‬غري ضارة‬
‫أن املنفعة مرتبطة بمذهب اللذة‬ ‫باآلخرين‪ .‬وللمنفعة عند النفعيني مفهوم وتعريفات ختتلف عند هذا أو ذاك منهم‪ .‬فبعضهم يذهب إىل َّ‬
‫(‪ ،)Hédonisme‬أي «جتربة أو خربة اللذة أو الشعور باللذة الذي يمثل اخلري األسمى لإلنسان‪ ،‬إذ هو اخلري الوحيد الذي هو غاية يف ذاته‬
‫أن املنفعة هي «حالة ذهن َّية» أو عقل َّية‬‫كل اخلريات األخرى وسائل»‪ .‬اللذة هي معيار املنفعة‪ ،‬وبعضهم اآلخر يؤكد َّ‬ ‫والذي من أجله تعترب ُّ‬
‫لذة‪ ،‬مثال ذلك خربة النظم الشعري الذي يولد حالة ذهن َّية أو عقل َّية خاصة باعثة عىل الرضا أو املتعة من دون‬ ‫جمرد غبطة أو َّ‬‫وليست َّ‬
‫أن املنفعة هي «إشباع اخليارات املفضلة» (‪ )satisfaction des préferénces‬وتعظيمها‪.‬‬ ‫أن تكون «لذة حس َّية»‪ .‬وآخرون يذهبون إىل َّ‬
‫أن املنفعة هي إشباع اخليارات العقل َّية‪ ،‬أي تلك املستندة إىل معلومات كاملة وأحكام صحيحة‪ ،‬ورفض اخليارات‬ ‫وأخري ًا يرى فريق منهم َّ‬
‫الضالة (املغلوطة) أو الالعقل َّية‪.34‬‬

‫النظر َّية الثانية هي نظر َّية المساواة الليبرال َّية (‪)liberalism‬‬


‫التي يدافع عنها جون رولز ودوركني‪ .‬ونظرية رولز يف العدالة تستند إىل الفكرة التالية‪:‬‬
‫يتم‬
‫«إن مجيع اخلريات االجتامع َّية األول َّية ‪ -‬احلريات والفرص والدخل والغنى‪ ،‬والقواعد االجتامع َّية الحرتام الذات ‪ -‬ينبغي أن َّ‬ ‫َّ‬
‫َّ ً ‪35‬‬ ‫ّ‬
‫لألقل حظا» ‪ .‬يف إطار هذه‬ ‫متساو ملجمل هذه اخلريات أو لواحد منها‪ ،‬مفيد ًا‬ ‫ٍ‬ ‫اللهم إال أن يكون توزيع غري‬
‫َّ‬ ‫توزيعها عىل وجه املساواة‪،‬‬
‫النظر َّية العامة‪ ،‬يربط رولز فكرة العدالة بالتوزيع املساوايت للخريات االجتامع َّية مع تعديل مهم‪ .‬فنحن نعامل األفراد عىل قدم املساواة‪،‬‬
‫لكل الناس من حيث َّإنا‬‫ال بإلغاء مجيع التفاوتات‪ ،‬لكن بإلغاء تلك التي تلحق حيف ًا ببعض األفراد‪ .‬فإذا كانت بعض التفاوتات مفيدة ّ‬
‫إن التفاوتات مقبولة إذا كانت تزيد من حصتي األول َّية‬ ‫فإنا ستكون حينذاك مقبولة لدى اجلميع‪َّ .‬‬ ‫تثمر مهارات وقدرات جمدية اجتامعي ًا َّ‬
‫العادلة‪ ،‬لكنَّها ليست كذلك إذا ما كانت جتور عىل هذه احلصة‪ ،‬مثلام هي احلال يف النفع َّية‪.‬‬

‫إن املبادئ التي حتكم هذه النظر َّية هي التالية‪:‬‬


‫َّ‬

‫ٍ‬
‫مساو بأوسع قدر ملا حيق جلميع اآلخرين من هذه احلريات‪.‬‬ ‫املبدأ األول‪ّ :‬‬
‫لكل شخص‪ ،‬من مجلة احلريات األساس َّية املتساوية‪ ،‬حق‬

‫‪34 . W, Kimlicka, Op. cit. pp.17- 25.‬‬


‫‪35 . J,Rawls, Theory of Justice,Oxford University Press; Londres,1972, p.303.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪30‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫املبدأ الثاين‪ :‬ينبغي للتفاوتات االجتامع َّية واالقتصاد َّية أن ُتنَ ّظم عىل نحو‪:‬‬
‫أ ‪ .‬حتقق أعظم النفع لألفراد ّ‬
‫األقل حظ ًا‪.‬‬
‫ِ‬
‫ب ‪ .‬أن تكون متعلقة بوظائف وأوضاع ميسورة للجميع‪ ،‬يف أوضاع س َمتُها املساواة العادلة يف الفرص ‪.‬‬
‫‪36‬‬

‫وعند رولز َّ‬


‫أن للمساواة يف احلر َّية األسبقية عىل املساواة يف الفرص‪ ،‬التي هي بدورها ذات أسبق َّية عىل املساواة يف املصادر واملوارد‪،‬‬
‫يظل رضوري ًا لالنتقال من املذهب النفعي إىل املساواة‬‫إن توزيع املوارد ُّ‬ ‫ّ‬
‫لألقل حظ ًا‪ .37‬ثم َّ‬ ‫َّ‬
‫واللمساواة ليست مقبولة إال إذا كانت مفيدة‬
‫الليربال َّية‪.‬‬

‫يعمم وحيمل إىل مستوى أعىل من التجريد نظر َّية العقد االجتامعي املشهورة يف الصورة التي‬ ‫هتدف مقاربة رولز إىل «تقديم فهم للعدالة َّ‬
‫نجدها‪ ،‬من بني آخرين‪ ،‬لدى لوك وروسو وكانط» ‪ .‬والقصد نظر َّية يف العدالة االجتامع َّية قائمة عىل مفهوم للعدالة التوزيع َّية بني أفراد‬
‫‪38‬‬

‫يتم‬
‫إن األفراد ليسوا حياديني يف أمر الطريقة التي ُّ‬ ‫املجتمع‪ .‬ونقطة االنطالق هي مالحظة تناقض املصالح بني املواطنني يف ّ‬
‫كل جمتمع‪ ،‬إذ َّ‬
‫هبا توزيع ثامر مشاركتهم‪ ،‬فهم مجيع ًا يفضلون القدر األعظم من املنافع عىل القدر األقل‪ .‬ويرتتب عىل ذلك أنَّنا «يف حاجة ملجموعة من‬
‫املبادئ لالختيار بني التنظيامت االجتامع َّية املختلفة التي حتدّ د هذه القسمة للمنافع»‪« .‬هذه املبادئ هي مبادئ العدالة االجتامع َّية‪ ،‬التي ن َّبه‬
‫كل شخص ما هو حق له»‪.‬‬ ‫إليها أرسطو يف مفهومه للعدالة التوزيع َّية‪ ،‬أي املثال الذي بفضله تعني العدالة أن يعطى ّ‬

‫فإن علينا أن نحرتم مبدأ «االستقالل املطلق» للفرد‪ ،‬واالختالف أو التمييز بني األفراد‪،‬‬ ‫ويؤكد رولز أنَّنا إذا ما أردنا أن نضمن العدل َّ‬
‫«كل شخص يمتلك حرمة (‪ )inviolability‬مستندة إىل العدل الذي حتى باسم سعادة جمموع املجتمع ال يمكن انتهاكه»‪ .‬لذا هو‬ ‫ألن َّ‬
‫َّ‬
‫أن «مبادئ العدل (ينبغي أن تُبني) يف البنية االجتامع َّية القاعد َّية عن رغبة البرش يف أن يعامل بعضهم بعض ًا من حيث‬ ‫يتابع (كانط) مؤكد ًا َّ‬
‫هم غايات يف ذاهتا‪ ،‬ال من حيث هم جمرد وسائل»‪ .‬يف هذا املنظور يؤكد رولز ابتداء‪« :‬يف نظر َّية العدالة بام هي إنصاف‪ ،‬مفهوم العادل‬
‫سابق عىل مفهوم اخلري»‪ ،‬وحقوق املواطنني تتمثل يف ث ّلة من «احلريات األساس َّية التي يتمتع هبا اجلميع عىل قدم املساواة» ‪ .39‬لكنَّها‬
‫حريات تلتزم بعدالة توزيع َّية تتنكَّر هلا النظر َّية النفع َّية الالمساوات َّية‪.‬‬

‫النظر َّية الثالثة هي النظر َّية الليبرتار َّية (‪)libertarianism‬‬


‫التي متثل جتذير ًا لليربال َّية‪ ،‬أو ليربال َّية مرسفة أو مغالية‪ ،‬وأصحاهبا يدافعون عن (السوق َّ‬
‫احلرة)‪ ،‬ويدعون إىل حتديد تدخل الدولة يف‬
‫عم إذا‬ ‫الترصف احلر بممتلكاهتم‪ ،‬بغض النظر َّ‬
‫ُّ‬ ‫السياسة االجتامع َّية‪ ،‬وإىل تعزيز احلقوق الرشع َّية للملك َّية‪ ،‬من حيث َّ‬
‫إن لألفراد احلق يف‬
‫كان يرتتب عىل ذلك زيادة أو نقصان يف اإلنتاج َّية‪ .‬فليس للدولة احلق يف التدخل يف آليات السوق حتى لو كان القصد زيادة الفاعل َّية‪.‬‬

‫‪36 . J. Rawls; The basic Liberties and their Priority; in »Political Liberalism; Colombia University Press; New York; 1993; 1996; p. 291.‬‬
‫‪37 . W.kimlicka; OP. cit; pp. 64 - 66.‬‬
‫‪38 . J. Rawls; OP. cit; p. 11. ‬‬
‫‪ -  39‬انظر عرضاً دقيقاً لنظرية رولز يف‪:‬‬
‫‪Quentin Skinner,on Justice, The Common Good and the Priority of Liberty, in Chantal Mouffe (ed). Dimensions of Radical Democracy,‬‬
‫‪Pluralism, Citizenship, Community, Londres, New York, Verso (Phronesis), pp. 211, 212.‬‬
‫الرتجمة الفرنس َّية‪:‬‬
‫‪Quentin Skinner, Sur la Justice, Le bien commun et la priorité de la liberté, in Libéraux et communautariens , texte réunis et présente per‬‬
‫‪André breton, pablo la silveira, Hervé pourtois ,PUF, 1997, pp. 209 - 225.‬‬

‫‪31‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫وثمة بعض األشياء التي ال يستطيع ال الفرد وال املجتمع القيام هبا (من دون أن يطال ذلك‬ ‫ومثلام يقول روبرت نوزيك‪« :‬لألفراد حقوق‪َّ ،‬‬
‫كل تدخل من جانب الدولة هو بمنزلة‬ ‫فإن َّ‬
‫حق الترصف يف ممتلكاهتم عىل النحو الذي يرونه‪َّ ،‬‬ ‫اغتصاب حقوقهم)»‪ .‬و َّملا كان لألفراد ُّ‬
‫َ‬
‫«أشغال شاقة»‪ ،‬إذ هو خيرق ال مبدأ الفاعل َّية‪ ،‬وإنَّام حقوقنا األخالق َّية األساسية ‪ .‬والليربتار َّية تقوم عىل املبادئ التالية‪:‬‬
‫‪40‬‬

‫‪1.1‬التبادل التجاري احلر الشامل‪.‬‬


‫‪2.2‬املنافسة املطلقة‪.‬‬
‫‪3.3‬تذبذب األجور بال حدود‪.‬‬
‫‪4.4‬دولة احلد األدنى‪.‬‬
‫‪5.5‬احلياد األخالقي أو عدم االكرتاث األخالقي‪.‬‬

‫كيف يقوم الليربتاريون بالربط بني العدل والسوق؟ «يف نظر َّية احلقوق الرشع َّية للملك َّية» لدى نوزيك‪ ،‬إبانة عن هذه املسألة عىل‬
‫فإن توزيع ًا عادالً يتمثل حينئذ‪،‬‬
‫إن لكل فرد حق ًا مرشوع ًا يف األشياء التي هي يف حوزته‪َّ ،‬‬
‫النحو التايل‪ :‬إذا انطلقنا من الفرض َّية القائلة َّ‬
‫يتم بثمرة حتويالت ومبادالت حرة بدء ًا من وضع عادل‪ ،‬هو‬ ‫احلرة بني األفراد؛ ّ‬
‫وكل توزيع ُّ‬ ‫كل توزيع ينتج عن املبادالت َّ‬ ‫بكل بساطة‪ ،‬يف ّ‬ ‫ّ‬
‫وإن فرض أ َّية رسوم (رضيب َّية)عىل هذه املبادالت خالف ًا إلرادة املواطنني هو أمر ظامل‪ ،‬حتى لو كانت هذه الرسوم تستخدم‬
‫نفسه عادل‪َّ .‬‬
‫للتعويض عن التكاليف اإلضاف َّية التي يمكن أن يكون ضحايا هلا األفرا ُد الذين يعانون من إعاقات طبيع َّية ال يد هلم فيها‪َّ .‬‬
‫ألن الرسم‬
‫(الرضيبة) الرشعي الوحيد هو ذلك الرسم الذي يستخدم يف اقتطاع املوارد الرضور َّية للحفاظ عىل املؤسسات القاعد َّية الرضور َّية حلامية‬
‫نظام التبادل احلر (الرشطة والقضاء)‪.‬‬

‫وبدقة أكرب‪ ،‬تستند نظر َّية حقوق امللك َّية عند نوزيك إىل ثالثة مبادئ أساس َّية‪:‬‬

‫‪1 .1‬مبدأ التحويل‪ :‬ما يكتسب بحق يمكن نقله بحر َّية‪.‬‬
‫يفس‪ ،‬يف األصل‪ ،‬الطريقة التي أمكن فيها لألفراد أن حيصلوا عىل املمتلكات التي يمكن أن‬ ‫‪2 .2‬مبدأ الكسب األويل العادل‪ ،‬الذي ّ‬
‫يتم نقلها موافقة للمبدأ السابق‪.‬‬
‫َّ‬
‫تم نقلها ظلام‪ً.‬‬ ‫ً‬
‫تم اكتساهبا ظلام أو التي َّ‬
‫يفس الطريقة التي هبا يمكن الترصف يف املمتلكات التي َّ‬
‫‪3 .3‬مبدأ تصحيح املظامل‪ ،‬الذي ّ‬

‫فإن ذلك يعني أنَّه إذا كانت ممتلكات األفراد مكتسبة بحق‪َّ ،‬‬
‫فإن صيغة التوزيع العادل تكون هي‬ ‫إذا ما اعتربنا هذه املبادئ الثالثة مع ًا َّ‬
‫ولكل أحد بحسب ما اختري له»‪.41‬‬ ‫ّ‬ ‫كل أحد بحسب ما خيتار‪،‬‬ ‫التالية‪« :‬من ّ‬

‫«أن دولة احلد األدنى»‪ )Minimal State( ،‬مقترصة‪ ،‬عىل نحو وثيق‪ ،‬عىل وظائف احلامية من‬‫ومجاع نظر َّية حقوق امللك َّية عند نوزيك َّ‬
‫توسع الحق يف وظائف هذه‬ ‫العنف‪ ،‬والرسقة‪ ،‬واالحتيال (الرضيبي)‪ ،‬وعىل ضامن احرتام العقود‪ ،‬هي دولة ذات أساس مسوغ‪ُّ .‬‬
‫وكل ُّ‬
‫الدولة من شأنه أن يعتدي عىل حقوق األفراد يف َّأل يفعلوا بعض األشياء‪ ،‬هو أمر ال ّ‬
‫مسوغ له»‪.42‬‬

‫‪40 . Robert Nozick, Anarchy, state and Utopia, Basic Book, New York, 1974, p. IX.‬‬
‫‪41 . Op. cit. p.16.‬‬
‫‪42 . Op. cit. p. IX.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪32‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫إن (العدل الكالمي) و(العدل الفلسفي) خيرجان‬ ‫َّ‬ ‫ألي تدخل من جانب الدولة‬ ‫ويرتتب عىل ذلك أنَّه ال جمال ّ‬
‫من دائرة االهتامم املشخص املبارش احلايل‪ ،‬فض ً‬
‫ال‬ ‫يف قضايا الرتبية‪ ،‬والصحة‪ ،‬واملواصالت‪ ،‬وإصالح الطرق أو‬
‫إن االلتزام هبذه املؤسسات يتضمن‪ ،‬وفق ًا‬‫الفضاءات اخلرضاء‪ .‬إذ َّ‬
‫أن األول منهام جينح نحو امليتافيزيقا‪ ،‬بينام‬ ‫عن َّ‬
‫لنوزيك‪ ،‬رضائب قرس َّية عىل بعض املواطنني‪ ،‬رغ ًام عن إرادهتم‪،‬‬
‫يلحق الثاين بالفلسفة األخالق َّية األكسيولوج َّية‬ ‫وخرق ًا ملبدأ التوزيع العادل وفق ًا لنوزيك‪.43‬‬
‫الغائ َّية‪ .‬واملطلوب االستجابة لنداء الواقع‬
‫املشخص‪ :‬الواقع االجتامعي واالقتصادي‬ ‫باختصار شديد يتفق الليربتاريون‪ -‬ميلتون فريدمان‪،‬‬
‫وفريدريك فون هايك‪ ،‬وروبرت نوزيك ـ عىل الدفاع عن ثالث‬
‫والسيايس وملطلب املسؤول َّية والواجب‪ ،‬أوالً‬
‫قضايا أساس َّية‪ :‬احلق الطبيعي يف احلر َّية‪ ،‬واإلطالق األقىص‬
‫وآخر ًا‪ ،‬وقصد ًا للضبط والتحديد والفاعل َّية‬ ‫للسوق ولنظامه التلقائي‪ ،‬والنضال يف وجه الفلسفة التدخل َّية‬
‫للدولة‪ ،‬ومناهضة مجيع االهتاممات املتعلقة بالعدالة االجتامع َّية‬
‫وبفكرة املساواة والعدالة التوزيع َّية (القسم الثاين من كتاب فون‬
‫هايك‪ :‬القانون والترشيع واحلر َّية‪ ،‬حيمل العنوان‪ :‬رساب العدالة االجتامع َّية)‪.‬‬

‫وبالطبع يمثل مبدأ احلر َّية‪ ،‬من حيث هو حق طبيعي مطلق ال جيوز املساس به‪ ،‬نقطة االرتكاز األساس َّية يف الدفاع املرسف عن امللك َّية‬
‫اخلاصة ويف إشهار «حرب صليب َّية» عىل مبدأ العدالة االجتامع َّية وعىل «ليربال َّية املساواة» التي مثلها رولز ودوركني‪.44‬‬

‫النظر َّية الرابعة هي النظر َّية الماركس َّية‬


‫التي شهدت يف العقود املتأخرة اجتهادات ومواقف متباينة أبرزها اثنان‪ :‬املوقف األول يشكِّك يف فكرة العدالة نفسها‪ ،‬ويعترب َّ‬
‫أن‬
‫أن العدالة ليست إال «فضيلة تصحيح َّية»‪ ،‬هي ر ٌّد عىل قصور يف احلياة االجتامع َّية؛‬ ‫الشيوع َّية متثل «جتاوز ًا» ملشكلة العدالة‪ ،‬ويؤكد َّ‬
‫املوقف الثاين جياري احلرص الليربايل عىل العدالة‪ ،‬لكنَّه يرفض االقتناع الليربايل َّ‬
‫بأن العدالة تتوافق مع امللك َّية اخلاصة لوسائل اإلنتاج‪،‬‬
‫أن‬‫أن امللك َّية اخلاصة هي أداة لالستغالل‪ ،‬وعند بعضهم علة لالغرتاب‪ .‬ومعلوم َّ‬ ‫لكن كال املوقفني يشجب «االستغالل»‪ ،‬ويؤكد َّ‬
‫«إن نظرية الشيوعيني يمكن أن تلخص يف عبارة واحدة‪ :‬إلغاء امللك َّية اخلاصة»‪ .‬وهذه ليست مقبولة إال ألغراض‬ ‫ماركس يقول‪َّ :‬‬
‫أي حق يف‬ ‫أي حق أخالقي وال ُّ‬ ‫االستخدام الشخيص‪ ،‬مثلام هي احلال يف الثياب واألثاث واألدوات املنزل َّية أو الرتفيه‪ ،‬وليس هلا ُّ‬
‫السيطرة عىل وسائل اإلنتاج‪ ،‬وهي ما ينبغي أن يكون ملك ًا للمجتمع وللتخطيط االقتصادي القومي‪َّ .‬‬
‫إن «ديمقراط َّية املالكني» التي‬
‫يتكلم عنها رولز غري عمل َّية واقعي ًا‪ .‬واملساواة العادلة ينبغي أن تتخذ شكل التمتع املتساوي باخلريات واملوارد العا َّمة‪ ،‬ال شكل التوزيع‬
‫اخلاصة‪.45‬‬
‫َّ‬ ‫املتساوي للخريات‬

‫(الجماعت َّية) (‪)communitarianism‬‬


‫َ‬ ‫النظر َّية الخامسة هي النظر َّية‬
‫وهي تنهض بشكل خاص يف وجه الليربال َّية و«حياد َّية الدولة»‪ ،‬وجتنح إىل سياسة «اخلري العام»‪ .‬وبحسب هذه النظر َّية يتم َّيز املجتمع‬
‫«اجلامعتي» بفهم جوهري للحياة السعيدة أو اهلانئة‪َ ،‬ف ْه ٍم حيدِّ د «شكل حياة اجلامعة»‪ .‬وفيها بدالً من أن يطلب من اخلري العام التك ُّيف‬
‫مع خمتلف «اخليارات التفضيل َّية الفرد َّية» فإنَّه هو الذي يقدّ م املعيار الذي يسمح بتقييم هذه اخليارات وضبطها وتوجيهها‪ .‬والدولة‬

‫‪43 . W. Kimmlicka, Op. cit. pp.112 - 113.‬‬


‫‪ 44‬ـ ملزيد من اإلحاطة بالفلسفة الليربتاريَّة‪ ،‬انظر‪ :‬فهمي جدعان‪ ،‬يف الخالص النهايئ‪ ،‬مقال يف وعود النظم الفكريَّة العربيَّة املعارصة‪ ،‬ط‪ ،2‬ص‪ 173‬ـ ‪.183‬‬
‫‪45 . W. kimlicka; Op. cit. p. 188.‬‬

‫‪33‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫اجلامعت َّية يمكن هلا‪ ،‬بل جيب عليها‪ ،‬أن تشجع األفراد عىل أن يتبنَّوا تصورات للخري موافقة لنمط حياة اجلامعة‪ ،‬وأن ينهضوا يف وجه‬
‫تصورات اخلري التي تضاده‪ .‬هبذا املعنى يبدو املجتمع «اجلامعتي» جمتمع ًا مثالي ًا يطلب الكامل‪ ،‬ويضع ُس َّل ًام قيم َّي ًا ألنامط احلياة املختلفة‪.‬‬
‫فإن اجلامعتيني يرفضون هذا املبدأ‪ .‬ومعلوم َّ‬
‫أن املفهوم الليربايل‬ ‫ويف الوقت الذي يشدّ د فيه الليرباليون عىل مبدأ «تقرير املصري الذايت»‪َّ ،‬‬
‫وأن هويتهم‪ ،‬من َث َّم‪ ،‬ال تتحدَّ د يف ضوء هذه‬ ‫أن األفراد أحرار يف أن يتبنوا املامرسات االجتامع َّية السائدة‪َّ ،‬‬‫للهو َّية الشخص َّية يقوم عىل َّ‬
‫العالقة االقتصاد َّية أو الدين َّية‪ ،‬أو اجلنس َّية أو‪ ، ...‬إذ َّإنم أحرار يف نقد أو رفض هذه الروابط‪ .‬األنا‪ ،‬مثلام يرى (كانط)‪ ،‬سابق يف الوجود‬
‫عىل خمتلف العالقات االجتامع َّية واألدوار املحدَّ دة‪ ،‬وهو جدير بأن يضع هذه العالقات خارج وضعه االجتامعي‪ ،‬وأن خيضعها ألحكام‬
‫«متجذر» و«متموضع»‬ ‫ّ‬ ‫أن (األنا)‬ ‫أن هذه النظرة للهو َّية الشخص َّية نظرة غري صحيحة‪ ،‬إذ هي جتهل َّ‬ ‫فإنم يرون َّ‬ ‫العقل‪ .‬أ َّما اجلامعتيون َّ‬
‫نستقل عنها‪ .‬لذا ينبغي أن تعترب مجيع‬ ‫َّ‬ ‫يف داخل املامرسات االجتامع َّية القائمة‪ ،‬وأنَّنا ال نستطيع دوم ًا أن نضع «مسافة» بيننا وبينها أو أن‬
‫كل تداول شخيص‪ .‬ومعنى ذلك َّ‬
‫أن‬ ‫أدوارنا وعالقاتنا االجتامع َّية‪ ،‬أو عىل األقل بعض هذه األدوار والعالقات‪ ،‬معطيات سابقة عىل ّ‬
‫وتعمق‬‫ِّ‬ ‫ممارسة حق تقرير املصري الذايت جتري من خالل هذه األدوار االجتامع َّية‪ ،‬ال بعيد ًا عنها ومن خارجها‪ .‬وعىل الدولة أن تشجع‬
‫إن احلر َّية التي يبني عليها الليرباليون ال بدَّ أن تكون‪ ،‬يف رأي تشارلز تايلور‪« ،‬متموضعة»‪ ،‬واألنا الذي‬ ‫التجذر والتعلق باجلامعة‪َّ .‬‬‫ُّ‬ ‫هذا‬
‫أي‬
‫بأي سامت أو خصائص ذات َّية‪ ،‬وهو بال هدف حمدَّ د‪ ،‬وفارغ من ّ‬ ‫حريته ُمقصي ًا مجيع العقبات والعراقيل اخلارج َّية‪ ،‬ال يتمتَّع ّ‬ ‫يامرس ّ‬
‫يتعذر علينا أن «نختار» أو أن «نرفض» عالئقنا باجلامعة التي ننتمي إليها‪ ،‬ونحن‬ ‫معنى‪ .46‬ويذهب الفريق األغلبي من اجلامعتيني إىل أنَّه َّ‬
‫ال نملك إال أن نكتشف يف احلياة ارتباطنا الوشيج هبا وبالسياق الثقايف‪ .‬يأخذ اجلامعتيون عىل الليرباليني َّأنم هيملون الرشوط االجتامع َّية‬
‫الرضور َّية للتلبية احلقيق َّية ملنافعنا ورغباتنا‪ ،‬ويؤكد تايلور َّ‬
‫أن النظر َّية الليربال َّية تستند عىل نزعة «ذر َّية» يشخص هبا األفراد بام هم مكتفون‬
‫أن «السياق اجلمعي» أو «البيئة االجتامع َّية»‬‫أي «رباط اجتامعي»‪ .‬ولك َّن تايلور يؤكد َّ‬ ‫بذواهتم ويتحركون يف حالة استقالل تام عن ّ‬
‫رضور َّية للحياة الطيبة يف املجتمع‪ ،‬وأنَّه يمتنع متام ًا حتقيق تقرير املصري الذايت خارج اإلطار االجتامعي‪ .‬لذا ينبغي هجر «احلياد الليربايل»‬
‫و«األنا الليربايل غري امللتزم»‪ ،‬والتعلق بسياسة «اخلري العام» والرشوط االجتامع َّية الرضور َّية لتحقيق املصري الذايت واحلياة الطيبة يف‬
‫اجلامعة وباجلامعة‪ .47‬وذلك كله ينطوي عىل ربط العدل باخلري‪.‬‬

‫النظر َّية السادسة هي النظر َّية النسو َّية (‪)feminism‬‬


‫فثمة النسو َّية الليربال َّية‪ ،‬والنسو َّية االشرتاك َّية‪ ،‬والنسو َّية الليربتار َّية‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫وهي‪ ،‬كبقية النظريات األخرى‪ ،‬ذات نزعات متعدّ دة؛ َّ‬
‫لك َّن هذه النزعات مجيع ًا تتضافر يف االعتقاد برضورة «إلغاء تبع َّية النساء»‪ ،‬والتعلق بمبدأ «املساواة» بني اجلنسني‪ ،‬ونبذ التمييز واخلضوع‬
‫لسلطة الرجل بسبب «الوضع البيولوجي» أو «الطبيعة» التي تضع املرأة يف مرتبة أدنى من مرتبة الرجل‪ ،‬وتقيم بينهام «اختالف ًا»‬ ‫القانوين ُ‬
‫يسوغ املعاملة غري املتساوية‪ ،‬ومن َث َّم غري العادلة‪ ،‬بينهام‪ .‬و«تبع َّية» النساء‪ ،‬يف الفلسفة النسو َّية‪ ،‬هي نتيجة للهيمنة الذكور َّية‬ ‫أو «فرق ًا» ّ‬
‫تعب عن نفسها يف التوزيع غري املتساوي للمنافع االجتامع َّية‪ ،‬ويف اإلجحاف املن َّظم يف حق النساء‪ .‬ويقرتن بمفهوم التبع َّية واهليمنة‬ ‫التي ّ‬
‫أو السيطرة‪ ،‬مفهوم التمييز بني املجال العام واملجال اخلاص‪ ،‬وما يتعلق به من التوزيع غري املتساوي للعمل املنزيل والعالقة بني‬
‫ويستقل الرجل باملجال (العام) وحقوله‬ ‫ُّ‬ ‫املسؤوليات العائل َّية واملسؤوليات املهن َّية‪ .‬إذ جيري إقصاء النساء يف حقل (اخلاص)‪ ،‬أي املنزل‪،‬‬
‫وبأن الرجل وحده هو الذي‬ ‫بأن «الطبيعة» هي التي تفرض ذلك‪َّ ،‬‬ ‫معزز ًا االعتقاد َّ‬
‫املختلفة‪ :‬االجتامع َّية والسياس َّية واالقتصاد َّية‪...‬إلخ‪ّ ،‬‬
‫يصلح للقيام بوظائف املجال العام‪ .‬وقد ترتَّب عىل هذا اإلقصاء التمييز بني «أخالق الرجال» و«أخالق النساء»‪ ،‬وهو متييز اعتربته‬
‫بعض النسو َّيات أسطورة ثقاف َّية وال أساس جتريب َّي ًا له‪ .‬كام أنَّه متييز يثري التقابل التقليدي بني النظر َّية الذكور َّية التي يؤكد أصحاهبا َّ‬
‫أن‬

‫‪46 . Op. cit. pp. 225 - 227.‬‬


‫‪47 . Charles Taylor, Philosophy and Human Sciences; Cambridge University Press; 1985; pp.190 - 191; W.Kimlicka, Contemporary Political‬‬
‫‪Philosophy- A.Introduction; Oxford; Clarendon Press; pp.207 - 215; Michael Walzer, La critique Communautareinne du Liberalisme; in‬‬
‫‪Liberaux et Communaitariens; p.311 - 336.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪34‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫استعدادات املرأة «حدس َّية» توافق املجال اخلاص‪ ،‬وبني النظر َّية النسو َّية احلديثة التي تؤكد َّأنا ذات طبيعة عقل َّية منفتحة عىل املجال‬
‫يعبان يف رأي (غيليكان) عن ت َّيارين ال يمكن التوفيق بينهام‪ :‬أخالق‬ ‫تصورين أخالقيني ِّ‬ ‫الكوين العام‪ .‬وقد و َّلد هذا السجال تبلور ُّ‬
‫االهتامم والرعاية (‪ )Caring /Sollicitude‬وأخالق العدالة‪ .‬األوىل تشدّ د عىل تنمية االستعدادات األخالق َّية‪ ،‬والثانية تشدّ د عىل تعلم‬
‫حل املشاكل وفق ًا ملبادئ شاملة؛ األوىل تنشد احرتام‬‫اخلاصة‪ ،‬والثانية تريد َّ‬
‫َّ‬ ‫املبادئ األخالق َّية؛ األوىل تبحث عن أجوبة مناسبة للحاالت‬
‫احلقوق واإلنصاف‪ ،‬والثانية حترص عىل املسؤوليات والروابط الشخص َّية‪ .‬بتعبري آخر‪ :‬أخالق العدالة تشدِّ د عىل احرتام احلقوق‪ ،‬أ َّما‬
‫ٍ‬
‫مساو‪.48‬‬ ‫فتوجه إىل املسؤول َّية والتعاطف بإزاء اآلخر من حيث هو‬
‫أخالق االهتامم ِّ‬

‫بكل تأكيد منظورات أخرى للموضوع‪ ،‬مشتقة من هذا املنظور أو ذاك‪،‬‬ ‫ثمة ِّ‬ ‫تلك هي أبرز نظريات العدالة يف الفكر الغريب املعارص‪َّ .‬‬
‫أو قريبة من هذه النظر َّية أو تلك‪ ،‬كتلك التي هلا صلة وشيجة باملنظور الليربايل أو املنظور اجلامعتي‪ ،‬أو تلك التي تعرض ملسألة العدل‬
‫والعدالة االجتامع َّية يف عالقتها بفلسفة (االعرتاف)‪ ،‬مثلام نجد عند أكسل هونت وبول ريكور‪ ،‬ونانيس فريزر‪ ،49‬لكن ما عرضت له يف‬
‫الصفحات السابقة يبدو يل وافي ًا باملقصود يف سياق هذا البحث‪.‬‬

‫أن هذا املقصود لن يستويف حقوقه من دون استحضار املعطى العريب الذي انطوى عليه موروثنا التارخيي‪ ،‬واعتباره يف النظر إىل‬ ‫بيد َّ‬
‫عم يمكن التوجيه إليه يف مسألة العدالة يف جمتمعاتنا العرب َّية املعارصة‪.‬‬
‫جانب الرؤى الغرب َّية املتداولة‪ ،‬لإلبانة َّ‬

‫أن أصناف العدل التي ينطوي عليها املوروث‪ ،‬التي تستحق يف اعتقادي أن تكون‬ ‫يف حدود مقاربتنا للمسألة‪ ،‬يبدو يل بوضوح تام َّ‬
‫موضوع اهتامم واعتبار‪ ،‬ومضاهاة يف قبالة‪ ،‬أو بمحاذاة‪ ،‬نظريات العدالة الغرب َّية املتداولة اليوم‪ ،‬تقع يف حقل العدل السيايس واالجتامعي‪.‬‬
‫ال عن َّ‬
‫أن األول منهام جينح نحو‬ ‫أن (العدل الكالمي) و(العدل الفلسفي) خيرجان من دائرة االهتامم املشخص املبارش احلايل‪ ،‬فض ً‬ ‫ذلك َّ‬
‫امليتافيزيقا‪ ،‬بينام يلحق الثاين بالفلسفة األخالق َّية األكسيولوج َّية الغائ َّية‪ .‬واملطلوب االستجابة لنداء الواقع املشخص‪ :‬الواقع االجتامعي‬
‫واالقتصادي والسيايس وملطلب املسؤول َّية والواجب‪ ،‬أوالً وآخر ًا‪ ،‬وقصد ًا للضبط والتحديد والفاعل َّية‪.‬‬

‫أن (العدل الرشعي) الذي يلتزم بأحكام الرشيعة‬ ‫بالطبع يمكن لفريق من املفكرين ‪ -‬أو بشكل أدق من الدعاة الدينيني ‪ -‬أن يؤكد َّ‬
‫ألن اهلل مبدأ هذا الرشع‪ ،‬فاهلل العادل‪ ،‬أعلم من البرش بام هو حق وخري وعدل هلم‪.‬‬ ‫اإلسالم َّية هو وحده الذي يضمن العدل بني الناس‪َّ ،‬‬
‫وحدَّ ة‪ .‬واملرشوع الذي يسعى «اإلسالميون السياسيون» إلنفاذه ينطوي‬ ‫«التدخل» ي ْش َخص اليوم يف مجلة أقطارنا العربية بقوة ِ‬
‫ُّ‬ ‫وهذا‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫بأن (العدل الرشعي)‪ ،‬أي أحكام الرشيعة اإلسالم َّية‪ ،‬هو طريق اخلالص‪ .‬ويكفي أن نالحظ َّ‬
‫أن أغلب َّية األحزاب‬ ‫عىل االعتقاد اجلازم َّ‬
‫اإلسالم َّية السياس َّية الكربى جتعل من لفظ (العدالة) عالمة عىل نفسها‪ :‬يف تركيا‪ :‬العدالة والتنمية‪ ،‬يف مرص‪ :‬احلر َّية والعدالة‪ ،‬يف املغرب‪:‬‬
‫العدالة والتنمية‪ ،‬والعدل واإلحسان‪ ،...‬وهكذا‪ .‬وبالطبع الدعوى األساس َّية التي تقوم عليها هذه األحزاب‪ ،‬يف ضوء االسم الذي يرمز‬
‫إليها‪ ،‬هو تطبيق أحكام الرشيعة اإلسالم َّية‪َّ ،‬‬
‫وأن هذه األحكام حتقق العدل والرفاهية‪.‬‬

‫ال رصحي ًا بني منظورين مرتافعني‪ :‬منظور‬ ‫نتحرك هنا عىل أرض غري صلبة‪ ،‬وأنَّنا نشهد عىل هذه األرض تقاب ً‬
‫إنَّني أدرك متام اإلدراك أنَّنا َّ‬
‫اإلسالميني‪ ،‬ومنظور الليرباليني‪ .‬بني هذين املنظورين يعاين (القانون)‪ ،‬وتعاين الدولة ودستورها‪ ،‬ويعاين املواطنون‪ ،‬أشدَّ رضوب العنت‬
‫وألن املجتمعات العرب َّية‪ ،‬هنا‪...‬اآلن‪ ،‬قد دخلت أو ُأدخلت يف ما يمكن أن ّ‬
‫أسميه «خمترب التجربة اإلسالم َّية الوظيف َّية»‬ ‫َّ‬ ‫والتوتر والقلق‪.‬‬

‫‪48 . W. kimlicka; Op. cit. pp. 255 - 308.‬‬


‫وملزيد من االطالع عىل الفلسفة النسويَّة الغربيَّة‪ ،‬انظر‪ :‬خديجة العزيزي‪ ،‬األسس الفلسفيَّة للفكر النسوي الغريب‪ ،‬بريوت‪.2005،‬‬
‫‪  49‬ـ انظر‪ :‬الزواوي بغورة‪ ،‬االعرتاف ‪ -‬من أجل مفهوم جديد للعدل‪ :‬دراسة يف الفلسفة االجتامع َّية‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪.2012،‬‬

‫‪35‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫‪َّ -‬‬
‫ألن هذا‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬ما يصنعه الغرب لغايات ال أخوض فيها هنا ـ فإنَّني لن ّ‬
‫«أول األدبار» من املشكلة‪ ،‬وسأقف منها املوقف التايل‪،‬‬
‫الذي هو موقف «منهجي» ال «مذهبي» أو «ع َقدي»‪:‬‬

‫يف عاملنا العريب‪ ،‬املسكون ‪ -‬بمسلميه ومسيح ّييه ‪ -‬بعبق الدين‪ ،‬وسحره‪ ،‬وأحكامه‪ ،‬وغاياته‪ ،‬وبأوامره ونواهيه‪ ،‬ووعوده ووعيده‪،‬‬
‫وعالئقه ومتعلقاته‪ ،‬وأفهامه ومفاهيمه‪ ،‬وطرائق مقاربته ورضوب ممارسته‪...‬إلخ‪ ،‬ال نستطيع أن نضع الدّ ين «بني قوسني»‪ ،‬وال‬
‫نستطيع أن ندير له ظهورنا‪ ،‬أو أن نسخر منه ونقطع معه ونقصيه من حياة املجتمع ومساره ومصريه‪ .‬فهو «معطى» مبارش‪ ،‬مشخص‪،‬‬
‫وألن املتم ّثل للدين يتمثله‬
‫َّ‬ ‫ذو بأس وقوة شديدين عند قوم‪ ،‬ط ّيب رحيم عند قوم آخرين‪ ،‬ألنَّه «حمكم» يف وجه‪« ،‬متشابه» يف وجوه‪،‬‬
‫وفق «طبيعة ذات َّية» وما تنطوي عليه من قاع وجداين أو عقيل أو تراثي أو غري ذلك‪ .‬وليست املسألة هي يف قبول أو عدم قبول الدين‬
‫ال «ذر َّي ًا»‪ ،‬بمعنى أن‬
‫وأحكامه‪ ،‬وإنَّام هي يف طريقة فهمنا له وملضامينه‪ .‬والقض َّية املنهج َّية الكربى هي التالية‪ :‬هل نتمثل الدين متث ً‬
‫ال «كُل َّي ًا»‪ ،‬أو «هولست َّي ًا»‪ ،‬أعني يف «مبادئه العا َّمة» و«مقاصده‬
‫جمردة أو منتزعة من (جمموعه)؟ أم نتمثله متث ً‬
‫نتصلب عند مفرداته َّ‬
‫النهائ َّية»؟ ويتعلق هبذا النظر املنهجي‪ :‬هل نقرأ النص الديني «عىل ظاهره»‪ ،‬أي وفق دالالته املاد َّية احلس َّية احلرف َّية؟ أم نفرتض َّ‬
‫أن‬
‫وأن التأويل وإعادة قراءة النصوص مها املنهج الذي ينبغي أن ُيتَّبع يف مقاربة‬ ‫محال للوجوه»‪ ،‬متشابه‪َّ ،‬‬
‫ظواهر النص حافلة بام هو « َّ‬
‫النص وفهمه وإنفاذ مضمونه؟‬

‫وأن املبادئ واملقاصد هي التي ينبغي أن تُطلب‪،‬‬ ‫أن املنهج اهلولستي التأوييل هو الذي ينبغي أن ُيتَّبع‪َّ ،‬‬
‫ال أتر َّدد يف املسألة‪ .‬فأنا أعتقد َّ‬
‫ال يف موضوع العدالة فقط‪ ،‬وإنَّام يف مجيع املوضوعات األخرى‪ .‬لذا كانت نظر َّية (املصلحة) التي َّنوه هبا فقهاء املقاصد هي التي ينبغي‬
‫الوقوف عندها من مجلة املوروث العريب اإلسالمي‪ ،‬ومضاهاهتا بجملة النظريات الغرب َّية يف العدالة‪ .‬وهذا التقاطع أو «التضايف»‬
‫رضوري‪ ،‬ألنَّنا ال نعيش وحدنا يف هذا العامل‪.‬‬

‫تتوخى اخلري العام‪ ،‬وهو مبدأ قرآين رصيح‪ُ ،‬يشتق من مقصد الرشيعة يف ضامن مصلحة اجلامعة وحسن‬ ‫ونظر َّية املصلحة نظر َّية َّ‬
‫مر من قبل‪ ،‬جلب منفعة ودرء مفسدة؛ أي مصلحة العباد يف العاجل واآلجل‪.‬‬
‫أحواهلا‪ .‬واألصل فيها فعل اخلري وجتنُّب الرش‪ ،‬أو مثلام َّ‬

‫أن فقهاء املقاصد القدامى ‪ -‬خصوص ًا الشاطبي والقرايف‪ -‬قد جعلوا هذه املقاصد يف أقسام‪ :‬الرضور َّية‪ ،‬واحلاج َّية‪ ،‬والكامل َّية‪،‬‬‫ومعلوم َّ‬
‫توسعوا فيها‪،‬‬ ‫وأنم شدَّ دوا عىل الرضوريات منها وحرصوها يف مخس‪ :‬حفظ الدين‪ ،‬والنفس‪ ،‬والنسل‪ ،‬واملال‪ ،‬والعقل‪ .‬لك َّن املحدثني َّ‬ ‫َّ‬
‫بحيث أضافوا إليها ثلة من قيم احلداثة‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪.‬‬

‫«نص» يف فهم هذه النظر َّية ويف تطبيقها؛‬ ‫هذه النظر َّية يف (املصلحة) هي نظر َّية اخلري العام‪ .‬ومع َّ‬
‫أن القرايف والشاطبي يتعلقان بمنهج ِّ‬
‫مر قول بعضهم إنَّه حيثام‬ ‫يؤسسوهنا عىل العقل‪ .‬وقد َّ‬
‫والعز بن عبد السالم ونجم الدين الطويف وآخرين ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن آخرين‪ ،‬كاخلرويص‬ ‫إال َّ‬
‫فثم رشع اهلل ودينه ورضاه وأمره‪ .‬واهلل تعاىل مل حيرص طرق‬
‫بأي طريق كان‪َّ ،‬‬
‫«ظهرت أمارات احلق وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه ّ‬
‫فأي طريق استخرج هبا احلق ومعرفة العدل وجب احلكم بموجبها‬ ‫العدل وأدلته وأماراته يف نوع واحد وأبطل غريه من الطرق (‪ّ ،)...‬‬
‫إن الفقيه احلنبيل نجم الدين الطويف (‪ 716‬هـ‪1316/‬م) ذهب إىل تقرير القول إنَّه إذا ما تناقضت املصلحة مع النص‬ ‫ومقتضاها‪ .»..‬حتى َّ‬
‫أن املصلحة ينبغي‬ ‫ألنا املقصد النهائي للترشيع‪ .‬ويف العرص احلديث ذهب الطاهر بن عاشور إىل َّ‬‫(الديني) فإنَّه جيب تغليب املصلحة‪َّ ،‬‬
‫أن تكون أساس ًا جلميع األحكام القانون َّية ‪.‬‬
‫‪50‬‬

‫‪ 50‬ـ انظر مادة (مصلحة) يف دائرة املعارف اإلسالميَّة‪ ،‬وانظر أيضاً‪ :‬مصطفى زيد‪ ،‬املصلحة يف الترشيع اإلسالمي‪ ،‬والقاهرة‪ ،1954 ،‬الطاهر بن عاشور‪ ،‬مقاصد الرشيعة‬
‫اإلسالم َّية‪ ،‬تونس‪1366،‬ه‪1946 /‬م‪ ،‬واألدبيات يف املوضوع كثرية‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪36‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫نستطيع دمج نظرية املصلحة يف مركب نظر َّية‬ ‫لكن‪ ،‬هل هتدف الرشيعة بالدرجة األوىل إىل محاية مصالح‬
‫عرب َّية يف «العدالة االجتامع َّية» أركاهنا األساس َّية‪:‬‬ ‫األ َّمة املشرتكة‪ ،‬أم هتدف إىل محاية املصالح الفرد َّية؟ يف املسألة‬
‫املركز َّية هنا‪ ،‬أي مسألة امللك َّية‪ ،‬ويف ضوء التسليم َّ‬
‫بأن اهلل هو‬
‫املنفعة الضاربة يف اخلري العام‪ ،‬ليربال َّية تكافل َّية‬
‫حق التمتع بامللك َّية أو احليازة‪،‬‬ ‫كل يشء‪َّ ،‬‬
‫وأن لإلنسان َّ‬ ‫مالك ّ‬
‫حافظة للحريات األساس َّية واملساواة يف الفرص‬ ‫تقابل فريق الفقهاء اآلخذين بجامع َّية حيازة امللك َّية‪ ،‬وفريق‬
‫ويف توزيع اخلريات االجتامع َّية مع اإلقرار‬ ‫وحق الفرد يف‬‫ّ‬ ‫الفقهاء الذين وقفوا إىل جانب توزيع امللك َّية‬
‫بالتفاوت ‪ ،..‬وتعزيز القواعد احلامية للهو َّية‪،..‬‬ ‫اكتساهبا ونقلها من شخص إىل آخر‪.‬‬

‫وإرساء بنيان املساواة النسو َّية بإبداع قراءة‬


‫اخلاصة هو الذي انعقد اإلمجاع عليه‪ ،‬بقيود‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫لك َّن مبدأ امللك َّية‬
‫تأويل َّية مساوات َّية للنصوص الدين َّية‪.‬‬ ‫فإن األولو َّية ظلت تقدّ م املصلحة العا َّمة أو اخلري العام‪،‬‬ ‫ومع ذلك َّ‬
‫اخلاصة واملصلحة العا َّمة‪ ،‬فإنَّه‬
‫َّ‬ ‫بحيث إنَّه إذا تعارضت املصلحة‬
‫ينبغي أن ختضع األوىل للثانية‪.‬‬

‫أن نظر َّية (املصلحة) و(اخلري العام) تفرض أحكامها يف مجيع احلقول اإلنسان َّية‪ ،‬واالجتامع َّية‪ ،‬والسياس َّية‪،‬‬ ‫أخلص من ذلك إىل َّ‬
‫واالقتصاد َّية‪ ،‬واألخالق َّية‪ ،‬والقانون َّية‪ .‬ومع َّأنا‪ ،‬يف منطلقاهتا األساس َّية ذات «بذور دين َّية»‪ ،‬إال َّأنا خضعت لتطوير جوهري جعل منها‬
‫نظر َّية «إنسان َّية» خالصة يمكن البناء عليها‪ ،‬كُل ّي ًا أو جزئي ًا‪ ،‬يف تشكيل نظر َّية عرب َّية معارصة يف العدل‪.‬‬

‫النفع َّية‪ ،‬املساواة الليربال َّية أو(الليربال َّية)الليربتار َّية‪ ،‬اجلامعت َّية‪ ،‬املاركس َّية‪ ،‬النسو َّية‪ ،‬املقاصد َّية‪...‬هي إذ ًا النظريات التي تشخص يف قبالة‬
‫ثمة خيارات أخرى‪.‬‬ ‫املجتمعات العرب َّية‪ ،‬ومت ّثل هلا هذا اخليار أو ذاك‪ ،‬إن مل تكن َّ‬

‫«االقتصادي» حيكم‪ ،‬وجيور‪ ،‬وهييمن عىل عامل اليوم‪ ،‬عامل العوملة‪ .‬ولكي يستقيم العدل يف عامل كهذا تبدو املساواة أفضل‬
‫ّ‬ ‫شك يف َّ‬
‫أن‬ ‫ال َّ‬
‫فثمة‬
‫«االقتصادي» ليس هو احلاكم األوحد‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫الردود املناسبة‪ .‬وهي تبدو كذلك عىل وجه اخلصوص يف مجلة أقطار العامل العريب‪ .‬بيد َّ‬
‫أن‬
‫العامل الثقايف‪ ،‬والعامل الديني الصاعد صعود ًا عظي ًام‪ ،‬والعامل القومي‪ ،‬والعامل السيايس‪ ،‬والعامل القانوين‪ .‬ثم َّ‬
‫إن األقطار العرب َّية‪،‬‬
‫ثمة‬‫أن َّ‬‫كل يشء‪ ،‬والفروق الثقاف َّية شاخصة هنا وهناك‪ .‬وليس خيفى َّ‬ ‫عىل الرغم من عوامل التجانس ومقومات اهلو َّية‪ ،‬ليست متامثلة يف ِّ‬
‫وأن املوارد والثروات متباعدة ومتفاوتة هنا وهناك‪ .‬والفقر‪ ،‬بل العوز‪،‬‬ ‫ُه َّوة اقتصاد َّية سحيقة تفصل بعض بلدانه عن بعضها اآلخر‪َّ ،‬‬
‫سمة صارخة من سامت بعض املجتمعات العرب َّية‪ ،‬وتوزيع الثروة يف مجيع األقطار العرب َّية توزيع غري عادل‪ .‬ويؤكد لنا االقتصاديون‬
‫معمق واستقصاء واسع‪ ،‬وهي ليست ممَّا يقدر صاحب‬ ‫واالجتامعيون واملفكرون السياسيون والقانونيون ‪ -‬وهذه وجوه حتتاج إىل بحث َّ‬
‫وأن عالجها ال يمكن أن يتحقق‬ ‫أن املظامل وقائع بدهي َّية ال يملك أحد أن ينكرها أو أن يق ّلل من شأهنا‪َّ ،‬‬
‫هذا البحث عىل النهوض به ‪َّ -‬‬
‫أي عدل؟‬
‫إال بالعدل‪ .‬لكن‪ّ ،‬‬

‫(‪)4‬‬

‫يف فضاءات الديمقراط َّية الغرب َّية‪ ،‬األوروب َّية واألمريك َّية‪ ،‬وعىل الرغم من الظفر الكبري الذي حققته الرأسامل َّية املعززة بنظام عوملي‬
‫أي إمجاع حول الفلسفة التي يمكن الزعم َّأنا هي الطريق املثىل‬ ‫اقتصادي‪ -‬لكنَّه يعاين منذ سنوات من آفات مستحكمة ‪ -‬مل ينجم ُّ‬
‫أن أتباع هذه املذاهب قد تص َّلبوا عند‬ ‫أن العقل الغريب قد ذهب مذاهب خمتلفة‪ ،‬أرشت إليها‪ .‬كام ظهر َّ‬ ‫لتحقيق العدالة‪ .‬وقد ظهر جل َّي ًا َّ‬
‫مؤسسة» هنائ َّية ال تسمح بالتالقي مع القيم املؤسسة للمذاهب األخرى‪ .‬فاخلالف بني النفعيني‬ ‫لكل مذهب «قيمة ِّ‬ ‫أحاد َّية مرسفة تنصب ّ‬

‫‪37‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫وليربال َّية رولز قاطع‪ ،‬والتناقض بني املساواتيني والليربتاريني جذري‪ ،‬واملخاصمة بني اجلامعتيني والليرباليني مشهودة‪ ،‬وهكذا ‪...‬؛ لكن‬
‫ثمة تقارب ًا يمكن أن حيدث بني أكثر من نظر َّية عند بعض املبادئ أو القيم األساس َّية يف هذه النظر َّية أو تلك‪ ،‬فليس َّ‬
‫ثمة‬ ‫أن َّ‬‫من املؤكد َّ‬
‫ثمة جنوح ًا أغلبي ًا إىل مبدأ تعليق العدل عىل املساواة‪ ،‬يف هذا الشكل أو ذاك‪ .‬ويمكن القول أيض ًا إنَّه عىل الرغم من التقابل‬ ‫أن َّ‬‫شك يف َّ‬
‫أن النفعيني والليرباليني والتكافليني واجلامعتيني ‪ -‬واملاركسيني أيض ًا ‪ -‬يس ِّلمون بأمه َّية اخلري العام‬
‫التقليدي بني اخلري العام والفردان َّية‪ ،‬إال َّ‬
‫ورضورته لسعادة اجلميع‪.‬‬

‫ومع ذلك فإنَّه ليس علينا‪ ،‬نحن‪ ،‬أن نقارب املسألة بإطالق من أبواب الفضاءات الغرب َّية‪ ،‬عىل الرغم من التأثريات التي تدرك أجواءنا‪.‬‬
‫َّ‬
‫وألن املعطيات الثقاف َّية‬ ‫وألن امتداداهتا التارخي َّية يف احلارض تُشكِّل وعي ًا خمتلف ًا‪،‬‬
‫َّ‬ ‫اخلاصة املختلفة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ألن للمجتمعات العرب َّية أوضاعها‬
‫والدين َّية واألخالق َّية والفقه َّية أو القانون َّية‪ ،‬والظروف التارخي َّية‪ ،‬تفرض أحكام ًا ورؤى واعتبارات ال جتري جمرى املعطيات الغرب َّية‬
‫واألمريك َّية‪ .‬لذا ينبغي أن نتأ َّمل يف مسألة العدل يف حدود املعطيات العرب َّية‪ ،‬التارخي َّية‪ ،‬والراهنة‪ ،‬ال يف حدود املعطيات الغرب َّية وتفصيالت‬
‫تشخص‪ ،‬بشكل أو‬ ‫أن النوى القاعدية لنظريات العدالة الغرب َّية التي َّنوهت هبا‪ّ ،‬‬ ‫تم تداوهلا ومناقشتها هناك‪ ،‬مقدِّ رين أيض ًا َّ‬
‫املذاهب التي َّ‬
‫بآخر‪ ،‬يف املجال االجتامعي واإلنساين العام‪ ،‬ال يف املجال الغريب فقط‪.‬‬

‫أفرتض َّ‬
‫أن املعطيات األساس َّية للثقافة العرب َّية واإلسالم َّية‪ ،‬التقليد َّية واحلال َّية‪ ،‬ماثلة بشكل أو بآخر يف أذهاننا ويف عاداتنا وممارساتنا‬
‫بكل تأكيد شاخصة يف إهاب حدس عقيل مبارش أو‬ ‫فإنا ّ‬
‫وتطلعاتنا‪ ،‬وهي إن مل تكن شاخصة عىل نحو علمي «وضعي» وعقيل دقيق‪َّ ،‬‬
‫املؤسسة» النهائ َّية جلملة نظريات العدالة الشاخصة‪ ،‬التي‬
‫يف رغباتنا وإراداتنا ومطاحمنا احليو َّية‪ .‬يف حدود هذه املعطيات سأراجع «القيم ِّ‬
‫عرضت هلا يف هذا القول‪.‬‬

‫ثمة نظريات بانية لعدد من املذاهب‪ ،‬ال نملك إال أن نضعها بني قوسني وأن نخرجها من السياق‪ ،‬إ َّما ألنَّه‬ ‫وبادئ األمر هنا َّ‬
‫أن َّ‬
‫ال ملفهوم «العدالة‬ ‫ألنا مناهضة أص ً‬ ‫تم جتاوزها واقعي ًا يف بيئاهتا األصل َّية وسواها‪ ،‬وإ َّما َّ‬
‫ألنا ال توافق املعطيات الثقاف َّية العرب َّية‪ ،‬وإ َّما َّ‬ ‫َّ‬
‫االجتامع َّية» املنشود‪.‬‬

‫ألنا تنكر مفهوم العدالة أص ً‬


‫ال ومتثل‪،‬‬ ‫وفق ًا هلذا االعتبار أستطيع أن أقول إنَّه َّ‬
‫يتعذر اجلنوح إىل النظريتني الليربتار َّية واملاركس َّية؛ األوىل َّ‬
‫ال عن املنطلقات والقواعد‬ ‫وفق تعبري بورديو‪ ،‬داروين َّية جديدة‪ ،‬والثانية بسبب املبدأ املساوايت املطلق (‪ )égalitarisme‬الذي تتبنَّاه‪ ،‬فض ً‬
‫الفلسف َّية التي ال جتد اليوم آذان ًا مصغية هلا يف الفضاءات العرب َّية‪ ،‬وذلك عىل الرغم من قوة وسداد بعض األفكار األساس َّية التي تنطوي‬
‫عليها‪ ،‬وعىل الرغم من استمرار حضورها يف أوساط بعض املثقفني واحلركات السياس َّية‪.‬‬

‫ما الذي يتب َّقى مم َّا يمكن التعويل عليه بشكل أو بآخر؟‬
‫إن الغاية اجلوهر َّية التي‬ ‫النفع َّية َّأوالً! لكن ما الذي يستحق األخذ به منها؟ أم َّأنا يمكن أن تكون صاحلة لإلنفاذ مجلة وتفصيالً؟ َّ‬
‫بكل تأكيد‪ ،‬غاية سليمة ومطلوبة‪ ،‬فام من إنسان‬ ‫مر‪ ،‬حتقيق أعظم قدر من السعادة ألفراد املجتمع‪ .‬وهذه‪ِّ ،‬‬ ‫تطلبها «النفع َّية» هي‪ ،‬مثلام َّ‬
‫جمرد سعادة دنيو َّية منبتَّة الصلة عن اهلل وعن حياة النفس أو اإلنسان بعد املوت‪،‬‬ ‫أي سعادة؟ إذا كان املقصود َّ‬ ‫إال ويطلب السعادة‪ .‬لكن ّ‬
‫أن النفع َّية‪ ،‬هبذا املعنى‪ ،‬لن تكون مناسبة ملجتمعات عرب َّية حيتل فيها «الديني» مكانة جليلة‪ .‬وتزداد أسباب انعدام املالءمة إذا‬ ‫فمن املؤكد َّ‬
‫يوجهون حياهتم اليوم َّية‬ ‫أن «املؤمنني» أنفسهم ّ‬ ‫اللذة احلس َّية وبالفردان َّية « الذر َّية» األنان َّية‪ .‬صحيح َّ‬
‫ما كانت املنفعة مرتبطة بمطلق مبدأ َّ‬
‫بمعيار «حساب احلسنات والسيئات»‪ ،‬وجيهدون يف فعل أكرب قدر من احلسنات للحصول يف اآلخرة عىل أعظم قدر من النفع املاثل يف‬
‫ألن «األفعال احلسنة» التي‬ ‫السعادة األخرو َّية‪ ،‬لك َّن هذه النزعة «النفع َّية» ال تنحرص‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬عند اجلميع‪ ،‬يف فردان َّية أنان َّية مطلقة‪َّ ،‬‬
‫حيرص املؤمنون األتقياء عىل القيام هبا وعىل كسب حسناهتا‪ ،‬ال تستحق أن تكون أفعاالً حسنة إال إذا هي اقرتنت بالن َّية اخلالصة املتَّجهة‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪38‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫توخي اخلري العام‪ .‬أ َّما إذا كان املقصود منها أفعاالً «شكالن َّية» تقصد «الربح» اخلالص‪ ،‬أي «ربح اجلنَّة»‬ ‫إىل فعل اخلري لآلخرين‪ ،‬أي إىل ِّ‬
‫بكل تأكيد‪ .‬فالعدالة‬ ‫فإنا تفقد معناها وقيمتها ّ‬‫بغض النظر عن املنفعة التي متتدُّ إىل اآلخرين ‪ -‬مثل ما يمكن أن يشاهد عند كثريين‪َّ -‬‬
‫القائمة عىل طلب املنفعة املفضية إىل السعادة هي عدالة مرشوعة‪ ،‬لكنَّها تفقد رشعيتها إذا ما التزمت فردان َّية مستغرقة يف َّ‬
‫اللذة الذات َّية‬
‫كل الناس‪ ،‬وهو خري طبيعي‪ ،‬إال أنَّه حتى‬ ‫‪ -‬حس َّية أو عقل َّية أو وجدان َّية ‪ -‬أو يف املنفعة األنان َّية‪ ،‬غري آهبة باخلري العام‪ .‬املنفعة خري يطلبه ُّ‬
‫يكون عادالً جيب أن يقرتن بفضيلة «االعتدال»‪ ،‬التي تك َّلم عليها فالسفة اليونان َّ‬
‫وأقرها الوحي الديني‪ ،‬وأن جيتنَّب الفردان َّية األنان َّية‬
‫يتوخى السعادة واخلري للمجموع العام أيض ًا‪.‬‬ ‫والنرجس َّية الذات َّية‪ ،‬وأن َّ‬

‫بكل تأكيد‪ ،‬يف احلقلني األساسيني‪ :‬احلقل االقتصادي‬ ‫هل تسهم فلسفة (احلر َّية) الليربال َّية يف تشكيل «مركب العدالة» املناسب؟ ِّ‬
‫تصور «رولز» وأقرانه للعدالة يصلح ألن يكون‬ ‫ثمة ريب يف َّ‬
‫أن ُّ‬ ‫واحلقل السيايس؛ أي يف ما ُيطلق عليه «العدالة االجتامع َّية»‪ .‬وليس َّ‬
‫دعامة أساس َّية من دعائم العدالة يف سياق عريب‪ .‬ومبدأ املساواة الذي يقرتن هنا بالعدالة اقرتان ًا تأسيسي ًا هو مبدأ جوهري من مبادئ‬
‫إن مجيع اخلريات االجتامع َّية األول َّية ‪ -‬احلر َّيات‪ ،‬والفرص‪ ،‬والدخل‪ ،‬والثروة‪،‬‬ ‫حتقيق هذه العدالة‪ ،‬والفكرة التي يدافع عنها رولز يف قوله َّ‬
‫متساو ملجمل هذه اخلريات أو لواحد منها‪ ،‬مفيد ًا‬ ‫ٍ‬ ‫غري‬
‫توزيع ُ‬‫ٌ‬ ‫اللهم إال أن يكون‬‫َّ‬ ‫توزع عىل وجه املساواة‪،‬‬ ‫واحرتام الذات ـ ينبغي أن َّ‬
‫وبكل تأكيد ليس املقصود‬ ‫ّ‬ ‫أقل حظ ًا ‪ -‬هذه الفكرة عقل َّية‪ ،‬مقبولة‪ ،‬وتوافق املعطيات اجلوهر َّية للتصورات العرب َّية اإلسالم َّية‪.‬‬ ‫ملن هم ُّ‬
‫هنا االنحراف للمبدأ «املساوايت» املطلق (‪ )égalitarisme‬وإلغاء التفاوتات‪ ،‬وإنَّام املقصود أن حيصل اجلميع عىل هذه املنافع‪ ،‬وأن حتقق‬
‫وأل تلحق‬ ‫حق له‪َّ ،‬‬
‫كل شخص ما هو ٌّ‬ ‫مدعوة ألن تعطي َّ‬ ‫َّ‬ ‫أن العدالة التوزيع َّية‬ ‫التفاوتات الطبيع َّية أعظم النفع لألفراد ّ‬
‫األقل حظ ًا‪ .‬أي َّ‬
‫ال ملجتمع رأساميل نفعي‬‫أي حيف أو ظلم بأفراد املجتمع‪ .‬هذه الصيغة لعدالة املساواة الليربال َّية صيغت أص ً‬ ‫النف َّعية َّ‬
‫اللمساوات َّية السادرة ّ‬
‫توجهه‪ ،‬وتصدَّ ت إلعادة تشكيله‪ ،‬بحيث حيقق‬ ‫فرداين أناين‪ ،‬بحيث مثلت ارتداد ًا ونقد ًا لنفع َّيته وملظامله ولطبيعة احلر َّية «السادرة» التي ِّ‬
‫تطور وتعقيد ورصاع وتفاوت‪ ،‬تبدو‬ ‫أعظم قدر من العدل واإلنصاف‪ .‬يف السياقات العرب َّية التي مل تبلغ ما بلغته املجتمعات الغرب َّية من ُّ‬
‫«املساواة الليربال َّية» ذات جدوى وفائدة‪ ،‬لكنَّها يمكن أن تكون أكثر جدوى وفائدة‪ ،‬وأعظم توافق ًا مع ثقافة هذه املجتمعات وتطلعاهتا‪،‬‬
‫إن هي اختذت طابع «ليربال َّية تكافل َّية» أو تضامن َّية أبعد غور ًا ونشدان ًا للخري العام‪ ،‬من دون التفريط باحلريات األساس َّية‪ ،‬أي من دون أن‬
‫جيور اخلري العام عىل اخلري اخلاص ألفراد املجتمع‪.‬‬

‫بكل تأكيد أيض ًا‪ ،‬فالقضيتان األساسيتان اللتان تشدّ د هذه النظر َّية عىل أمهيتهام‬ ‫هل حتمل النظر َّية اجلامعت َّية معنى خاص ًا ملجتمعاتنا؟ ّ‬
‫‪ -‬أعني نقد «حياد َّية الدولة» الذي تأخذ به الليربال َّية والليربتار َّية‪ ،‬وسياسة اهلو َّية الذات َّية واخلري العام ‪ -‬مها قضيتان مركزيتان يف الفعل‬
‫ثمة توافق ًا عا َّم ًا بني اجلامعت َّية واالجتاه األغلبي يف جمتمعاتنا‪ ،‬من حيث‬ ‫احليوي للنسيج السيايس واالجتامعي ملجتمعاتنا‪ .‬ويمكن القول َّ‬
‫إن َّ‬
‫حسها االجتامعي‬ ‫ألن مؤسساتنا االقتصاد َّية والسياس َّية والقانون َّية مل ْتر َق يف ِّ‬‫إنَّنا ال نقبل أن تتخىل الدولة عن مسؤوليتها االجتامع َّية‪ ،‬ملاذا؟ َّ‬
‫ويف إحساسها باملسؤول َّية جتاه املواطن واملجتمع إىل مستوى التنظيامت اجلديرة بأن تلتفت إىل املشكالت االجتامع َّية وتساهم يف تقديم‬
‫احللول واملساعدات الرضورية هلا‪ .‬ودولة «احلد األدنى» و«اليد اخلف َّية» التي يتكلم عنها الليرباليون والليربتاريون‪ ،‬لن يرتتب عليها يف‬
‫املجتمعات العرب َّية ودوهلا إال املزيد من الفوىض والظلم والفساد‪ .‬لكن‪ ،‬من وجه آخر‪ ،‬نحن ال نطيق أن تتدخل الدولة يف «اخليارات‬
‫جيسد‬ ‫التفضيل َّية لألفراد»‪ ،‬وأن تفرض عىل املواطن طبيعة «املصري الذايت» الذي ينبغي أن حيققه‪ ،‬وطبيعة «النظام الفكري» الذي جيب أن ّ‬
‫متجذر يف «االجتامعي»‪« ،‬متموضع» يف املامرسات االجتامع َّية القائمة‪ ،‬لكن ال ينبغي للدولة وال‬ ‫ّ‬ ‫شك َّ‬
‫أن (األنا)‬ ‫اخلاصة‪ .‬ال َّ‬
‫َّ‬ ‫يف حياته‬
‫تصور مستبد شامل ال حتيد عنه‪ .‬يف‬ ‫حريته الشخص َّية بحيث تندمج يف ُّ‬ ‫يوجها ّ‬ ‫ِ‬
‫للمجتمع أن ُيلزما الفرد بتمثل «إيديولوج َّية» جاهزة وبأن ِّ‬
‫احلس األخالقي العام‬ ‫جمتمعاتنا العرب َّية جيب الدفاع عن احلريات الشخص َّية‪ ،‬لكن جيب أيض ًا‪ ،‬يف ضوء فوىض القيم السادرة وانحطاط ّ‬
‫والتدمري الثقايف الذي أحدثته أذرع «الثقافة الكون َّية» وقيمها الفردان َّية والنرجس َّية الرشسة‪ ،‬ر ّد االعتبار للفضائل األخالق َّية العليا والدفاع‬
‫أن املنظور «اجلامعتي» الذي يؤكد عىل أمه َّية «الرباط‬ ‫عن اخلري العام وحتقيق املالءمة بني هذا اخلري وخري األفراد اخلاص‪ .‬ويف اعتقادي َّ‬
‫اللاجتامعي‪ ،‬هو منظور مناسب ملجتمعاتنا العر َّبية‬ ‫االجتامعي» وينكر «احلياد الليربايل» وغلبة «األنا الليربايل غري امللتزم»‪« ،‬األنا الذري» َّ‬

‫‪39‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فهمي جدعان‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫متر هبا حال َّي ًا‪ .‬لذا كانت الدولة الليربال َّية التكافل َّية‪ ،‬دولة اخلري العام والرعاية هي الدولة األجدر بتحقيق العدل‬
‫يف املرحلة التارخي َّية التي ُّ‬
‫االجتامعي‪.‬‬

‫ثمة موطئ قدم للعدالة النسو َّية يف مركب العدالة من منظور عريب وظيفي؟ ّ‬
‫بكل تأكيد‪ ،‬فالقض َّية اجلذر َّية العميقة التي تشكّل القاع‬ ‫هل َّ‬
‫األسايس للنسو َّية هي قضية املساواة بني اجلنسني‪ ،‬واالحتجاج عىل مبدأ «التبع َّية» وإحلاق املرأة بالرجل‪ ،‬واالفتئات عىل حقوق املرأة‪.‬‬
‫ونظر َّية العدالة يف هذا القطاع تريد أن تر َّد إىل املرأة احلقوق اإلنسان َّية التي سلبها الرجل عرب التاريخ‪ ،‬وأن تؤكد مبدأ املساواة املطلقة بني‬
‫الرجل واملرأة‪.‬‬

‫ويف عرصنا الراهن‪ ،‬بل منذ عرص النهضة العريب احلديث‪ ،‬احتلت هذه املسألة مكانة متعاظمة يف مشاريع النهضة العرب َّية‪ ،‬وتر َّددت‬
‫املقاربة بني مبدأ «إنصاف املرأة» واملطالبة بأن تر َّد إليها حقوقها «الرشع َّية»‪ ،‬ثم الدفاع عن مبدأ املساواة بني اجلنسني من منظور ليربايل‬
‫عند فريق‪ ،‬ومنظور إصالحي ‪ -‬أو تكاميل ‪ -‬إسالمي عند فريق آخر‪ ،‬ومنظور «راديكايل» عند فريق ثالث‪ .‬وهذا الفريق األخري هو الذي‬
‫جسدهتا ث َّلة من الكاتبات اللوايت جنحن إىل موقف‬ ‫كل حال «النسو َّية الرافضة» التي َّ‬ ‫ارتبط اسمه بنسو َّية إسالم َّية حقيق َّية‪ ،‬ليست هي عىل ّ‬
‫نقدي صارم بإزاء «مسلامت اإلسالم التقليدي» أو املوروث‪ ،‬أعني كاتبات من أمثال تسليمة نرسين وأيان حريس عيل ونجالء كيليك‪.‬‬
‫النسو َّية اإلسالم َّية التي يصدق عليها هذا االسم‪ ،‬وتتمثلها مفكرات مسلامت كأمينة ودود وأسامء برالس ورفعت حسن وفاطمة‬
‫املرنييس‪ ،...‬هي النسو َّية التي دافعت عن مبدأ «املساواة األنطولوج َّية» بني الرجل واملرأة‪ ،‬وأكَّدت‪ ،‬من منظور قرآين‪ ،‬املساواة الكاملة يف‬
‫احلقوق بني الرجل واملرأة‪ ،‬ورتَّبت عىل ذلك «قراءة جديدة» للنصوص الدين َّية َّ‬
‫«اللمساواتَّية» يف ظاهرها‪ .‬بفضل هذه القراءة «التأويل َّية»‬
‫أن هذه النظر َّية تستطيع أن تستوعب كلتا‬ ‫ال جتريد نظر َّية إسالم َّية يف العدالة النسو َّية‪ .51‬وبإمكاننا أن نزعم هنا َّ‬ ‫مارسنَها أمكن فع ً‬
‫التي ْ‬
‫تعززها عدالة احلقوق‪،‬‬ ‫تم تداوهلام يف الفضاء الغريب‪ ،‬أعني (أخالق العدل) و(أخالق االهتامم)‪ :‬األوىل ّ‬ ‫النزعتني األخالقيتني اللتني َّ‬
‫تعززها الرؤية القرآن َّية‪ ،‬ال الفقه َّية‪ ،‬للعالقة الزوج َّية‪.‬‬
‫والثانية ّ‬

‫وأنا يف صيغتها العقل َّية‪ ،‬نظر َّية رصحية يف العدالة القائمة‪،‬‬ ‫مسوغ ًا الستئناف القول يف نظر َّية (املصلحة) التي أخذ هبا فقهاء (املقاصد)‪َّ ،‬‬ ‫ال أجد ّ‬
‫علة مبدأ (اخلري العام)‪ ،‬وأنَّنا يف هناية املطاف ويف غاية هذا القول نستطيع باطمئنان عظيم دجمها يف مركب نظر َّية عرب َّية يف «العدالة االجتامع َّية»‬
‫أركاهنا األساس َّية‪ :‬املنفعة الضاربة يف اخلري العام‪ ،‬ليربال َّية تكافل َّية حافظة للحريات األساس َّية واملساواة يف الفرص ويف توزيع اخلريات االجتامع َّية‬
‫األقل ح َّظ ًا‪ ،‬وتعزيز القواعد احلامية للهو َّية يف إطار تنمية القدرات وامللكات الفرد َّية احلريصة‬ ‫مع اإلقرار بالتفاوت وإنصاف األفراد والفئات ّ‬
‫عىل اجلمع بني خري الفرد وخري اجلامعة واجتناب خماطر «األنا الذر َّية» الفردان َّية والنرجس َّية‪ ،‬وتعزيز مبدأ اخلري العام‪ ،‬وإرساء بنيان املساواة‬
‫النسو َّية بإبداع قراءة تأويل َّية مساوات َّية للنصوص الدين َّية التي يفيد ظاهرها «املتشابه» أوضاع ًا ال مساوات َّية غري عادلة‪.‬‬

‫شك يف َّ‬
‫أن «ديمقراط َّية عاملة» هي رشط رضوري إلنفاذها‪.‬‬ ‫تلك معامل أساس َّية وقواعد بانية لدولة عادلة‪ ،‬وجمتمع عادل‪ ،‬وحاكم عادل‪ .52‬ال َّ‬

‫‪  51‬ـ فهمي جدعان‪ ،‬خارب الرسب‪ :‬بحث يف النسويَّة اإلسالم َّية الرافضة وإغراء الحريَّة‪ ،‬ط‪ ،2‬الشبكة العرب َّية لألبحاث والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،2012 ،‬الفصل األول‪ ،‬ص ‪ 21‬ـ ‪.81‬‬
‫‪  52‬ـ وقف ناصيف نصار يف (الذات والحضور) وقفة دالة عند مقولة «العادل»‪ :‬اإلنسان العادل‪ ،‬والحاكم العادل‪« .‬فالعادل هو اإلنسان املستع ّد دوماً للتعامل مع نفسه‬
‫ومع اآلخرين بحسب ما يقتضيه العدل‪ ،‬مع تقديم العدل األسايس عىل العدل الوضعي عند الرضورة وقدر اإلمكان»‪ ،‬والعادل يتق َّيد بأحكام القانون من دون سواها‪.‬‬
‫وهو ينشد يف العدل القانوين ما يخفّف قلقه الضمريي يف ما يتعلق بحقوقه وواجباته‪ ،‬وبحقوق اآلخرين حوله وواجباتهم‪ .‬من أين يأيت املجتمع بالحاكم العادل‪ ،‬عىل‬
‫الرغم من «أ َّن قيمة العدل مركوزة يف حقيقة الكائن الذايت؟» تلك «مسألة متوقفة عىل تقدُّم الوعي النظري والتطبيقي بالعدل وعىل شيوع هذا العدل يف طبقات‬
‫املجتمع ومؤسساته‪ .‬األمر الذي يعني أ َّن مسؤوليَّة خاصة تقع عىل النخبة املفكرة والقائدة‪ .‬ولك َّن الجمهور كله مسؤول أيضاً‪ ،‬وال سيَّام إذا كان النظام دميقراطياً‪.‬‬
‫فاملسألة إذن هي مسألة روح العدل واستقراره يف املجتمع بأرسه‪ ،‬أفرادا ً وجامعات؛ والعادل ح ّقاً هو من يتح َّرك بروح العدل قبل أن ميسك مبيزان العدل» (الذات‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪40‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫َأ َّولِ َّية القيم‪ ...‬والعدل‬

‫وكل مؤسسة‪ ،‬يف النظر ويف الفعل‪ ،‬مبدأ ديونطولوجي ًا‬‫وكل مجاعة‪ُّ ،‬‬ ‫كل مواطن‪ُّ ،‬‬ ‫ثمة رشط أعظم أمه َّية وخطر ًا وبأس ًا‪ ،‬هو أن يتمثل ُّ‬‫لكن َّ‬
‫ألن حر َّية سادرة بال حدود‪ ،‬وديمقراط َّية تقن َّية صور َّية بال علم ومعرفة وثقافة‪ ،‬لن يعنيا يف عاقبة األمر إال‬‫جوهر َّي ًا هو مبدأ «املسؤول َّية»‪َّ ،‬‬
‫تسوية مع االستبداد‪ ،‬وطريق ًا سالكة إىل مضادات العدل‪.‬‬

‫خص مفهوم (العادل) بكتاب فذ‪:‬‬


‫والحضور‪ ،‬ص ‪ 389-387‬وقد م َّرت اإلشارة إىل أ َّن بول ريكور قد َّ‬
‫‪(Paul Ricoeur; Le juste; Ed. Esprit. Paris.1995).‬‬
‫الرتجمة العرب َّية‪ :‬بول ريكور‪ ،‬العادل‪ ،‬تعريب مجموعة من الباحثني‪ ،‬تنسيق فتحي الرتييك‪،‬ج ‪ 1‬و‪ ،2‬بيت الحكمة‪ ،‬قرطاج‪ ،‬تونس‪.2003،‬‬

‫‪41‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫يتقدم ُمتراجعًا‬
‫َّ‬ ‫خواطر عن عالم عربي‬

‫فيصل دراج*‬

‫احلق يف التعبري‪ ،‬أم يف جمال احلقوق النقاب َّية‪،‬‬


‫مس ذلك ّ‬ ‫ُيعترب العامل العريب‪ ،‬منذ عقود‪َّ ،‬‬
‫األقل اعرتاف ًا «بحقوق اإلنسان» يف العامل‪ ،‬سواء َّ‬
‫أم جتاوز األمرين إىل حقوق املرأة‪ .‬لذا حتدَّ ث العاملون يف حقيل السياسة وعلم االجتامع عن االستثنائ َّية العرب َّية‪ ،‬كام لو كان العرب ال‬
‫يعرتفون باحلياة الديمقراط َّية التي عرفتها جمتمعات خمتلفة بأقساط متباينة‪.‬‬

‫فإن ما تط َّلع إليه العرب منذ قرن من الزمن جيعل الفضول أكثر‬
‫والتأس‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫وإذا كان يف مصطلح «االستثنائ َّية العرب َّية» ما يثري الفضول‬
‫مرة إىل السيطرة العثامن َّية‪ ،‬وما أن جاء «سقوط فلسطني» حتى َّاتموا‬ ‫وطأة‪ .‬فقد عزا العرب نقص حقوقهم يف املجال السيايس ذات َّ‬
‫االستعامر الغريب‪ ،‬ولن خيتلف األمر مع جميء «احلراك العريب األخري»‪ ،‬حيث أشارت دوائرهم احلاكمة إىل «القوى اخلارج َّية»‪.‬‬

‫التأس من أمرين‪« :‬االستثنائ َّية» التي تفصل بني املجتمع العريب واملجتمعات األخرى‪ ،‬واستمرار َّية‬‫يأيت الفضول الذي ال ينقصه ِّ‬
‫هتمش الزمن وتستدعي الركود‪ ،‬ذلك َّ‬
‫أن «املفكرين العرب» ندَّ دوا باالستبداد منذ هناية القرن التاسع عرش‪.‬‬ ‫«االستبداد»‪ ،‬التي ِّ‬

‫‪ .1‬الموروث الذي يرفض ال َّرحيل‪:‬‬


‫استهل الفكر العريب دخوله إىل القرن العرشين بكتاب السوري عبد الرمحن الكواكبي‪« :‬طبائع االستبداد»‪ ،‬الذي عزا االستبداد إىل‬ ‫َّ‬
‫عهد عثامين طويل‪ .‬نقد الكواكبي نقد ًا نافذ ًا االستبداد يف مالحمه الرتك َّية‪ ،‬متوقف ًا أمام أبعاد أربعة‪ :‬احلاكم املستبد‪ ،‬من حيث هو مرجع‬
‫الترصف بشؤون البرش كام‬ ‫ُّ‬ ‫أعىل‪ ،‬حيكم الناس ويكون فوقهم‪ ،‬يسائل وال يسأله أحد‪ ،‬كام لو كان امتداد ًا إلرادة عليا غامضة‪ ،‬تتيح له‬
‫حيول‬
‫يريد‪ .‬يتلو احلاكم األعىل جهازه الذي يتمتع «باملرتبة الصارمة»‪ ،‬إذ حتت احلاكم إرادة تل ّبي أوامره بال انزياح‪ ،‬تقمع ما حتتها‪ ،‬ما ّ‬
‫ا ُمل ْخ َضعني‪ ،‬يف ألواهنم املختلفة‪ ،‬إىل خملوقات منضبطة ختاف ممَّا فوقها وتستبيح ما حتتها‪ .‬انطوى املنظور السلطوي املتتابع‪ ،‬وهنا ال ُبعد‬
‫الثالث‪ ،‬عىل ثنائ َّية‪ :‬املسموح واملمنوع التي تل ّبي مصالح السلطة وال تنظر إىل مصالح املقموعني وحقوقهم‪ ،‬أو عىل ثنائ َّية الوعد والوعيد‪،‬‬
‫كل األنظمة‬ ‫بلغة أخرى‪ ،‬التي يعطيها االستبداد أبعاد ًا فاجرة‪ .‬كان يف ذلك املنظور‪ ،‬الذي حافظ عىل ثباته طويالً‪ ،‬جتسيد للقاعدة القائلة‪ُّ :‬‬
‫وخاصة منها األنظمة املستبدَّ ة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫متيل إىل الفساد‪،‬‬

‫ال تط َّبع به اخلاضعون له‪ ،‬وانصاعوا ألوامره‪ ،‬وأصبح‬ ‫ال فهو يف‪« :‬تط ُّبع الرع َّية»؛ ذلك َّ‬
‫أن االستبداد إن عاش طوي ً‬ ‫أ َّما ال ُبعد األكثر خطر ًا ماث ً‬
‫«حترر اإلنسان» بحاجة إىل ثورة تعيد صوغ اإلنسان وعاداته اليوم َّية‪.‬‬
‫كل حديث عن ُّ‬ ‫اخلضوع واالنصياع جزء ًا من طبيعة املقموعني‪ ،‬ما جيعل َّ‬

‫واجه الكواكبي االستبداد العثامين هبو َّية قوم َّية عرب َّية‪ ،‬مفرتض ًا َّ‬
‫أن يف «الروح العرب َّية» ما ال يأتلف مع «العنرص الرتكي»‪ ،‬الذي أراد‬
‫أن مرور عقد من الزمن وأكثر عىل خطاب الكواكبي كشف عن «عطب مزدوج»‪ :‬مل يرحل‬ ‫باستبداده إذالل العرب وتأمني خضوعهم‪ .‬بيد َّ‬

‫* مفكر وأكادميي من فلسطني‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪42‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫خواطر عن عامل عريب يتقدَّ م ُمرتاجع ًا‬

‫إن ال ُبعد األكثر خطر ًا ماثل يف‪« :‬تط ُّبع الرع َّية»؛ ذلك‬ ‫االستبداد عن العرب برحيل العنرص الرتكي‪ ،‬إذ عاد من جديد‬
‫ال تط َّبع به اخلاضعون له‪،‬‬ ‫أ َّن االستبداد إن عاش طوي ً‬ ‫مع «دولة االستقالل الوطني»‪ ،‬ومل تزدهر اهلو َّية القوم َّية التي‬
‫األوروب‪ ،‬وغفت من جديد‬ ‫ّ‬ ‫استيقظت إ َّبان الكفاح ضدَّ االستعامر‬
‫وانصاعوا ألوامره‪ ،‬وأصبح اخلضوع واالنصياع‬
‫مع جميء دولة االستقالل يف انتظار «صحوة قادمة»‪.‬‬
‫كل حديث عن‬ ‫جزء ًا من طبيعة املقموعني‪ ،‬ما جيعل َّ‬
‫«حترر اإلنسان» بحاجة إىل ثورة تعيد صوغ اإلنسان‬ ‫ُّ‬ ‫أن «الزمن التارخيي»‪ ،‬وهو تعبري ال ينقصه الغموض‪ ،‬مل‬ ‫وكام َّ‬
‫وعاداته اليوم َّية‬ ‫فإن هذا الزمن أخذ بخناق‬ ‫يعامل بكرم كبري ما أراده الكواكبي‪َّ ،‬‬
‫أحالم طه حسني‪ ،‬التي نظرت إىل مرص تظ ّللها «الثقافة واملعرفة»‪،‬‬
‫بعد معاهدة ‪ 1936‬بني اإلنجليز واملرصيني‪ ،‬وفق ًا ملا جاء يف كتاب‬
‫السيد العميد‪« :‬مستقبل الثقافة يف مرص»‪ ،‬فقد ربط طه حسني‬
‫ٍ‬
‫شعب متعل ٍم لغو فقري املحصلة‪.‬‬ ‫ربط ًا حمك ًام بني التعليم والديمقراط َّية‪ ،‬إذ التعليم بال ديمقراط َّية مريض واهن األركان‪ ،‬والديمقراط َّية بال‬

‫عزا العرب «سقوط فلسطني» ‪1948‬م إىل االستعامر والتخ ُّلف والقوى الرجع َّية‪ ،‬ورحل االستعامر‪ ،‬وسارت فلسطني إىل نفق أكثر‬
‫ظالم ًا‪ ،‬وحافظ التخ ُّلف عىل حضوره طارد ًا «حقوق اإلنسان» ونافر ًا من الديمقراط َّية‪ ،‬وبقيت صفة «القوى الرجع َّية» غامضة غموض‬
‫ُرحب به حني تشاء أيض ًا‪.‬‬ ‫«السلطة العرب َّية املستق َّلة»‪ ،‬التي تندِّ د باالستعامر حني تشاء‪ ،‬وت ِّ‬
‫ُّ‬

‫‪ . 2‬في مآل الدولة العرب َّية المستقلة‪:‬‬


‫وعدت «دولة االستقالل الوطني»‪ ،‬التي شهدهتا أقطار عرب َّية كثرية يف النصف الثاين من القرن العرشين‪ ،‬بأمور كثرية‪ :‬احلكم‬
‫الديمقراطي؛ فال مكان حلُكم مستبد يف عامل عريب حيكم العرب فيه أنفسهم‪ ،‬وال خت ُّلف بعد أن غدا «التقدُّ م» شعار املرحلة‪ ،‬وصوالً إىل‬
‫توحد ما منع االستعامر اخلارجي من توحيده‪ ،‬وصوالً إىل «حترير فلسطني» الذي ال يتح َّقق إال بأ َّمة عرب َّية مستقلة‬
‫«الوحدة العرب َّية» التي ِّ‬
‫وحدة‪.‬‬
‫و ُم َّ‬

‫أن الدولة الوليدة‪،‬‬ ‫أن وعود «دولة االستقالل» آلت إىل ما آلت إليه أحالم طه حسني‪ ،‬وأعادت إنتاج ما ندَّ د به الكواكبي‪ .‬ذلك َّ‬ ‫غري َّ‬
‫ال إىل األهداف «القوم َّية» الكربى‪ ،‬فحرصت عىل‬ ‫املوحد» سبي ً‬
‫التي بدت مهجوسة بالبناء الداخيل وحترير فلسطني‪ ،‬رأت يف «املجتمع َّ‬
‫«حتييد الشعب»‪ ،‬الذي ال يعرف ما تعرف دولته‪ ،‬وأطلقت يد «األجهزة األمن َّية»‪ .‬بدت السياسة األمن َّية‪ ،‬يف معظم الدولة العرب َّية أو ك ّلها‪،‬‬
‫قوامة عىل السياسات االقتصاد َّية والعلم َّية والثقاف َّية‪ ،‬خمترصة األمن يف ثبات السلطة وتأمني ديمومتها‪ .‬أخذت السلطة‪ ،‬يف منظور يراقب‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫يقرر يف القضايا املجتمع َّية والوطن َّية مجيعا‪ :‬فهو املرجع السيايس والثقايف واالقتصادي‬ ‫الشعب ويستبعده‪ ،‬شكل املرجع الك ُّل الذي ّ‬
‫واإلعالمي‪ ،‬وهو القوة التي تضبط حركة املجتمع ونزوعاته‪.‬‬

‫أخذت سلطات عرب َّية كثرية‪ ،‬منذ مطلع ستينات القرن املايض‪ ،‬بشعارات كبرية‪ ،‬قوامها التقدُّ م املجتمعي والوطني يف املجاالت مجيع ًا‪،‬‬
‫أن التقدُّ م املأمول انتهى إىل نقيضه‪ ،‬بسبب «جهاز‬‫ال إىل «اهلو َّية القوم َّية»‪ .‬بيد َّ‬
‫للسلطة ضامن ًا للتقدُّ م ومدخ ً‬
‫ورأت يف «اجليش القوي» املوايل ُّ‬
‫أمني» رأى يف «الشعب» عدو ًا له‪ ،‬ويف األحزاب السياس َّية أداة انقسام وختريب؛ وهلذا متَّت عسكرة املرافق االجتامع َّية‪ ،‬إىل أن غدا دور‬
‫«كل يشء»‪ ،‬باستثناء مراقبة «كفاءة» اجليش الوطني‪ ،‬الذي سقط رسيع ًا يف حرب ‪ 1967‬م‪.‬‬ ‫«العسكر» مراقبة ّ‬

‫نسيت «الدولة الوطن َّية الوليدة»‪ ،‬التي تنقصها اخلربة والكفاءة‪َّ ،‬‬
‫أن التقدم االجتامعي والوحدة العرب َّية شأن مجاعي يقوم عىل الشعب‬
‫ويتحصن به‪ ،‬منتهية إىل شكلني من االختصاص الفقري‪ :‬للسلطة اختصاص القيادة وتقرير املسموح واملمنوع‪ ،‬وللشعب اختصاص‬ ‫َّ‬

‫‪43‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فيصل دراج‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫اخلضوع واالنصياع‪ .‬ألغت يف احلالني مفهوم املسؤول َّية‪ ،‬فالسلطة ال يسأهلا أحد‪ ،‬والشعب ُيسأل وال َيسأل‪ ،‬وعىل الطرفني أن يسريا إىل‬
‫خراهبام‪ ،‬املدعوم بثنائ َّية الفساد واالستبداد‪ ،‬التي حتيل عىل «مواطن» ال حقوق له وعىل سلطة هلا احلقوق كلها‪ ،‬طاملا َّ‬
‫أن احلاكم الذي ال‬
‫كل يشء داخله‪.‬‬ ‫ُيراقب‪ ،‬يضع َّ‬

‫ويتوسل القمع املبارش‪،‬‬


‫َّ‬ ‫األنظمة املستبدَّ ة التي َّأرقت الكواكبي إىل أن مات مسموم ًا اطمأنَّت إىل «سياسة الواحد»‪ ،‬الذي ينكر السياسة‬
‫وال يعرف «اهليمنة» التي تأخذ هبا أنظمة تتَّسم بالرشعية‪ .‬التبس الواحد بصيغ خمتلفة تامخت السخرية السوداء‪ ،‬بدء ًا «بالزعيم األوحد»‬
‫تعب عنه «صحيفة‬ ‫ال جاهزة تريض «اإلعالم املتك ّلس»‪ ،‬الذي ّ‬
‫حيول «التصفيق» إىل عادة‪ ،‬ويستظهر مج ً‬ ‫الذي هيجس بمجتمع أجوف ّ‬
‫يتغي‪ ،‬وصوالً إىل «حزب مجاهريي واحد»‪ ،‬تلغي مجاهري َّيته‬
‫واحدة»‪ ،‬وترشف عليه إدارة شكالن َّية طويلة العمر كمرجعها األعىل الذي ال َّ‬
‫الزائفة معنى احلزب والسياسة مع ًا‪ .‬كان كثري من األنظمة العرب َّية‪ ،‬بدء ًا من مطلع ستينات القرن املايض‪ ،‬قد اعترب األحزاب سبب ًا «خلراب‬
‫تعوق وحدة الشعب السائر إىل التقدُّ م والوحدة‪.‬‬ ‫األ َّمة»‪ ،‬وباعث ًا عىل «الفرقة والشقاق»‪ ،‬التي ّ‬

‫تتكشف غرابة «االستبداد العريب» يف قدرته عىل معاندة الزمن‪ ،‬كام لو كان له قدره الغريب البعيد عن أقدار حكومات الشعوب‬
‫أن الديمقراط َّية شكل قديم من أشكال احلكم‪ ،‬تعود إىل الفكر السيايس اإلغريقي‪ ،‬وتشري إىل حكم األغلب َّية أو األكثر َّية أو‬ ‫األخرى‪ ،‬ذلك َّ‬
‫الفقراء‪ ،‬كام أشار نوربريتو بوبيو يف كتابه «الليربال َّية الديمقراط َّية»‪ .‬وباختصار تعني الديمقراط َّية ‪ ،‬حسب ما تنبئ دراسة أصول الكلمة‪،‬‬
‫حكم الشعب مقابل حكم الفرد أو جمموعة صغرية من األفراد‪ .‬ومهام قيل من كالم‪ ،‬ورغم مرور العديد من القرون وورود اآلراء‬
‫يتغي‪.‬‬ ‫الكثرية حول االختالف بني الديمقراط َّية لدى القدماء ولدى احلداثيني‪َّ ،‬‬
‫فإن املعنى الوصفي العام للعبارة مل َّ‬

‫فإن األنظمة العرب َّية‪ ،‬منذ النصف الثاين من‬‫وسواء عادت الديمقراط َّية إىل الفكر اإلغريقي القديم أو ارتبطت بالفكر السيايس احلديث‪َّ ،‬‬
‫القرن العرشين بخاصة‪ ،‬أخذت عىل عاتقها عدم االعرتاف هبا‪ ،‬منتهية إىل استثنائ َّية سوداء ال تنقصها الطرافة‪ .‬ر َّبام كان من املمكن القبول‬
‫هبذه االستثنائ َّية املزعومة لو رفضت األنظمة «احلداثة السياس َّية» التي ترتمجها الديمقراط َّية‪ ،‬والتفتت إىل «حداثات أخرى» مرجعها العلم‬
‫أن اإلخفاق الشامل يف امليادين االجتامع َّية مجيع ًا‪ ،‬يسحب السؤال من جمال االستبداد إىل جمال أكثر سلب ًا عنوانه‪:‬‬ ‫والتقنية أو االقتصاد‪ ،‬غري َّ‬
‫األنظمة املتخ ّلفة التي تعيد إنتاج التخ ُّلف‪ ،‬وجتتهد يف تو ُّلد جمتمع متخ ُّلف الوعي‪ ،‬بوسائل بوليس َّية أو ما هو مشتَّق منها‪ .‬يف عالقة العامل‬
‫العريب بالديمقراط َّية ثالثة وجوه تثري املساءلة‪ :‬حضور االستبداد يف زمن السيطرة العثامن َّية وبعد رحيلها‪ .‬حتو َّلت «تركيا احلديثة» بعد‬
‫عرشينات القرن العرشين إىل دولة ديمقراط َّية‪ ،‬ولو بقدر‪ ،‬واستأنف العامل أحواله العثامن َّية‪ ،‬كام لو كان فيه «جوهر» يستدعي االستبداد‬
‫مستعمرة‬
‫َ‬ ‫األوروب‪ ،‬إذ بقي العرب مع «استبدادهم»‪ ،‬عىل خالف دول آسيو َّية كانت‬ ‫ِّ‬ ‫ويأتلف معه‪ .‬ومل خيتلف األمر بعد رحيل االستعامر‬
‫استق َّلت واختارت احلكم الديمقراطي‪ ،‬مثل اهلند واليابان‪ ،‬ما كشف عن زيف القول «باالستبداد الرشقي» الذي حافظ عليه العرب‬
‫«تطور وزارات الداخل َّية العرب َّية»‪ ،‬املشغولة بقمع اإلنسان العريب وإهدار حقوقه‪ ،‬بمعزل عن أشكال‬ ‫دون غريهم‪َّ .‬‬
‫جتل ال ُبعد الثالث يف ُّ‬
‫احلكم وإيديولوجياهتا‪ ،‬ال فرق إال بقدر حمدَّ د بني النظم اجلمهور َّية والنظم امللك َّية‪ .‬وحتى حني أخذ بعضها «بالليربال َّية االقتصاد َّية»‪،‬‬
‫فإن تلك الليربال َّية طردت ما هو سيايس واكتفت باالقتصادي‪ ،‬منتهية إىل شكل تلفيقي من احلكم‪ ،‬يعود اقتصادي ًا‬ ‫حال النظام السادايت‪َّ ،‬‬
‫إىل القرن العرشين‪ ،‬وينرصف سياسي ًا إىل ما قبل العصور الوسطى‪.‬‬

‫يستمر احلاكم يف احلكم طيلة حياته أو أن يرث األبناء السلطة بعد‬ ‫ّ‬ ‫أنتج العامل العريب يف القرن العرشين «أنظمة طويلة العهد»‪ ،‬كأن‬
‫يترصف هبا فرد وحاشية أو فرد وعائلة‪ ،‬تعبري ًا عن غياب الشعب أو «تغييبه»‪ .‬وهبذا‬‫أن احلكم «ملك َّية خاصة»‪َّ ،‬‬ ‫رحيل اآلباء‪ ،‬عىل اعتبار َّ‬
‫ح َّقق العرب وحدهتم سلب ًا‪ ،‬بقيت احلدود يف مكاهنا‪ ،‬واخلالفات السياس َّية والفكر َّية كام كانت‪ ،‬ومل يتح َّقق إال ذاك الشكل من احلكم‬
‫السلطة‪ ،‬والعنف حاكم أعىل تأخذ استمرار َّيته‬‫السلطة ومصادرة حقوق الشعب مالك ُّ‬ ‫اإلطالقي يف منهجه االختزايل؛ حيث عنف ُّ‬
‫وتستمر فيه قرون سابقة عليه‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫الطويلة شكل األحجية‪ ،‬فهو يعيش يف القرن العرشين‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪44‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫خواطر عن عامل عريب يتقدَّ م ُمرتاجع ًا‬

‫سواء عادت الديمقراط َّية إىل الفكر اإلغريقي القديم‬ ‫أن «املثقفني» انشغلوا طوي ً‬
‫ال بقضايا الديمقراط َّية والقوم َّية‬ ‫ومع َّ‬
‫أو ارتبطت بالفكر السيايس احلديث‪ ،‬فإ َّن األنظمة‬ ‫ظل ينتظر التحليل واملعاجلة مت َّثل يف‬‫فإن ما َّ‬
‫والعلامن َّية واالشرتاك َّية‪َّ ،‬‬
‫«السلطة املستبدَّ ة القائمة»‪ ،‬التي هلا «استبدادها الرأساميل»‪ ،‬بقدر‬ ‫ُّ‬
‫العرب َّية‪ ،‬منذ النصف الثاين من القرن العرشين‬
‫أن هلا «استبدادها االشرتاكي ـ العلامين»‪ ،‬أو خيارها «الديني ـ‬ ‫ما َّ‬
‫بخاصة‪ ،‬أخذت عىل عاتقها عدم االعرتاف هبا‪،‬‬ ‫يطوع الرتاث والدين كام يشاء‪.‬‬ ‫الرتاثي» الذي ِّ‬
‫منتهية إىل استثنائ َّية سوداء ال تنقصها الطرافة‬
‫السلطة من شكل الوصول إليها‪ .‬وجاء‬ ‫يتعي مضمون ُّ‬‫ُيقال‪َّ :‬‬
‫وتورث‪ ،‬وتتباهى باحلسب والنسب‪ ،‬أو عن طريق «انقالبات عسكر َّية»‬ ‫ِّ‬ ‫السلطة‪ ،‬عربي ًا‪ ،‬عن طريق «عائالت» ترث‬
‫الوصول إىل ُّ‬
‫مفتوحة‪ ،‬تشدُّ أزرها «باألحكام العرف َّية» التي هي شكل من «عسكرة احلكم»‪ .‬مل يكن هناك يف احلالني مكان للشعب‪ ،‬وال لذلك‬
‫حتول «الشعب»‬‫«احللم» القائل‪« :‬حكم الشعب بالشعب»‪ ،‬فام حصل هو حكم الشعب باألجهزة القمع َّية‪ ،‬التي إن طال عهدها َّ‬
‫«سكَّان»‪ ،‬أي إىل جمموع ديموغرايف ال عالقة له بشؤون احلكم والوطن‪.‬‬
‫إىل ُ‬

‫‪ .3‬االستبداد والعدالة المستحيلة‪:‬‬


‫يمكن الدخول إىل موضوع العدالة يف العامل العريب‪ ،‬كام ظهر يف العقود اخلمسة األخرية‪ ،‬من مداخل ثالثة‪ :‬حكم الفرد املتس ّلط الذي‬
‫ِ‬
‫حممد أنور السادات عىل إعفاء نفسه‪،‬‬ ‫أعفى نفسه من الرقابة االجتامع َّية‪ .‬مرص التي هي ال ُبعد العريب األكثر قدَ م ًا وعراقة عمل رئيسها‪َّ :‬‬
‫دستوري ًا‪ ،‬من املساءلة‪ ،‬كام لو كان حيكم الشعب ويقف فوقه‪ ،‬أو ينتسب إىل جنس برشي مغاير‪ .‬وأخذ غريه من احلكام‪ ،‬مع فروق‬
‫أن «سارق» املال‬‫وهم أو إىل حكاية ساخرة‪ ،‬فاحتة الطريق إىل فساد استثنائي‪ ،‬طاملا َّ‬ ‫حتولت «دولة القانون» إىل ْ‬ ‫حمدودة‪ ،‬بام أخذ به‪ ،‬حتى َّ‬
‫أقل ويعيش َّ‬
‫أقل‪ ،‬زاهد ًا‬ ‫أقل ويلبس َّ‬
‫العام يقف فوق البرش‪ ،‬وال ينطبق عليه القانون‪ .‬أفىض األمر إىل هنب ُم َنهج للشعب‪ ،‬فأصبح يأكل َّ‬
‫بالتحزب والسياسة‪ ،‬بعد أن ُدفع دفع ًا إىل حتصيل «احلدّ األدنى من معيشه»‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫فإن نظام ًا يكتفي «باحلاكم وأجهزته» ال عالقة له‬‫وإذا كانت «العدالة» تعني املساوة‪ ،‬وتساوي املواطنني يف احلقوق والواجبات‪َّ ،‬‬
‫بالعدالة يف يشء‪ .‬بل تصبح فيه املطالبة بالعدل أمر ًا «ختريب َّي ًا» يعاقب عليه القانون عقاب ًا صارم ًا‪ .‬وهلذا دعا الرئيس السادات انتفاضة‬
‫يفس تغييب العدالة يف األنظمة املستبدَّ ة‪ ،‬إىل حدود‬‫اجلياع عام ‪1977‬م «بانتفاضة احلرام َّية»‪ ،‬ناعت ًا املطالبني بحقوقهم باللصوص‪ِّ .‬‬
‫السلطة ال تعني تسيري شؤون البرش وإنصافهم‪ ،‬بقدر ما عنت‪ :‬رسقة حقوق الناس‬ ‫السلطة والثروة‪ ،‬إذ ُّ‬ ‫اإللغاء‪ ،‬العالقة العجيبة بني ُّ‬
‫«رشع َّي ًا»‪ ،‬وتوزيعهم إىل فئتني‪ :‬الفقراء إىل ختوم البؤس واملجاعة‪ ،‬واألغنياء املتب ِّطرون الذين يعيشون عىل رسقة «الشعب» الذي له ُّ‬
‫كل‬
‫احلق يف الضنك و«السكن يف املقابر» والعشوائ َّيات‪ ،‬والعمل املرهق الذي يؤمن حياة خيالطها املوت‪.‬‬

‫كل يشء داخله‪ ،‬وال يرتك خلارجه إال قليل القليل‪ .‬يرتاح‬ ‫يتعي املدخل الثاين بالتعريف القديم «للمستبِد» القائل‪ :‬يضع احلاكم املستبد َّ‬ ‫َّ‬
‫يسوغ‬ ‫ُّ‬
‫الكم»‪ ،‬فله كل املسموح واملمنوع‪ ،‬وله ما يملكه الشعب (الرع َّية) وما ال يملكه‪ ،‬وله «التأويل الدّ يني» الذي ّ‬ ‫احلاكم املستبد إىل «عبادة ّ‬
‫يتحول بعض احلكَّام إىل « ُمن ِّظرين‬
‫األول‪ ،...‬وال غرابة أن َّ‬‫األول واحلكيم َّ‬ ‫األول واملع ِّلم َّ‬
‫كل األلقاب والنعوت‪ :‬فهو احلاكم َّ‬ ‫ممارساته‪ ،‬وله ُّ‬
‫أن القارئ‬ ‫وفالسفة»‪ ،‬وأن يكون هلم اجتهاداهتم السياس َّية و«إبداعهم اإلبداعي»‪ ،‬وأن تنسب إليهم صفات اإلبداع والعبقر َّية‪ .‬وواقع األمر َّ‬
‫السبع» التي اقرتحها الفيلسوفان‬ ‫أن «الصفات َّ‬‫الذي يعود إىل صفات «احلاكم املستبد»‪ ،‬لدى أفالطون وأرسطو‪ ،‬وهو أمر سهل ومتاح‪ ،‬جيد َّ‬
‫يورث احلكم ملن يشاء‪ ،‬وال يعرتف بحارض الوطن ومستقبله‪ .‬جاء يف كتاب‬ ‫اليونان َّيان ال تفي بحاجات «احلاكم العريب احلديث»‪ ،‬الذي ّ‬
‫«إن لألفراد حق ًا يف مت ُّلك أو حيازة ما حصلوا عليه بطريقة‬ ‫روبرت نوزيك‪« :‬الفوىض‪ ،‬الدولة‪ ،‬واليوتوبيا» الصادر عام ‪1974‬م‪ ،‬ما ييل‪َّ :‬‬
‫كل ما حصلوا عليه بطريقة عادلة من أي طرف سابق (مبدأ العدالة يف التداول ونقل امللك َّية)‪.‬‬ ‫عادلة (مبدأ العدالة يف احليازة)‪ ،‬بام يف ذلك ُّ‬
‫مسوغ يف حياة األفراد وحر َّياهتم»‪.‬‬ ‫ألنا تتدخل دون ّ‬ ‫فإنا تترصف بصورة غري عادلة‪َّ ،‬‬ ‫مهمت أخرى عدا هذه‪َّ ،‬‬ ‫أ َّما إذا تن َّطعت الدولة أل َّية َّ‬

‫‪45‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫فيصل دراج‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫فإن يف إلغاء الدولة‪ ،‬التي اخترصت يف مرجع مستبد أعىل‪ ،‬ما يلغي العدالة يف احتامالهتا‬ ‫إن كان يف االستبداد ما يناقض الديمقراط َّية‪َّ ،‬‬
‫حياسب يلتهم حقوق الدولة والبرش مع ًا‪ ،...‬لذلك تأخذ كلامت «نوزيك» صيغة مقلوبة ال تنقصها‬ ‫أن احلاكم الذي ال َ‬ ‫املختلفة‪ .‬ذلك َّ‬
‫وكل ما حصل عليه بطريقة غري عادلة‪.»...‬‬ ‫كل ما حصل عليه بطريقة عادلة‪ّ ،‬‬ ‫حق يف مت ُّلك ِّ‬
‫السخرية السوداء‪ ،‬فيصبح‪ « :‬للحاكم املفرد ٌّ‬
‫ال عدائ َّي ًا وعدوان َّي ًا‪ ،‬حياكم عليه‬
‫وبسبب «العدالة الساخرة» التي يفرضها احلاكم الذي ال يعرف العدالة تغدو مطالبة الشعب بحقوقه فع ً‬
‫«القانون»‪.‬‬

‫حييل املدخل الثالث عىل «خربة النظم االستبداد َّية الطويلة العهد» التي ترى‪َّ :‬‬
‫أن تأمني حاجات املجتمع احليات َّية والتعليم َّية‪ ،‬ولو بشكل‬
‫فإن تأمني صمت املجتمع‬ ‫نسبي‪ ،‬يدفع املجتمع إىل العمل يف السياسة والتعامل بشكل نقدي مع قضايا الوطن والشأن العام‪ .‬وهلذا َّ‬
‫عم يسكت جوعه‪ ،‬واجلاهل ال يسأل ويس ِّلم أمره إىل القضاء والقدر‪ .‬وواقع األمر َّ‬
‫أن‬ ‫وخنوعه يقضيان بتجويعه وجتهيله‪ ،‬فاجلائع يسأل َّ‬
‫فإن التجويع والتجهيل ركنان أساس َّيان من مرتكزات‬ ‫احلكَّام املتعالني عىل الناس يسقطون حني يعرف املقموعون من أين جاؤوا‪ .‬لذا َّ‬
‫كل مستبد مكني‪ ،‬فال يطالب اإلنسان بحقوقه «الغائبة» إال إذا عرف من هنبها‪ .‬تبدو الثقافة‪ ،‬كام السياسة‪ ،‬واحلال هذه‪ ،‬عدو ًا ِّ‬
‫لكل نظام‬ ‫ِّ‬
‫يرفض املساواة‪.‬‬

‫من العبث احلديث عن العدالة يف نظام مستبد‪ ،‬إذ ال استبداد بال فساد يتيح للقلة أن ترسق حقوق األغلب َّية‪ ،‬ومن العبث أكثر احلديث‬
‫السلطة ثروة‪.‬‬
‫مؤسس عىل االستبداد املفسد‪ ،‬يرى يف الثروة ُسلطة ويف ُّ‬ ‫عن املساواة يف نظام َّ‬

‫مؤسسات تل ّبي منظور احلاكم وحاشيته‪ ،‬وال‬


‫حتيل العدالة املستحيلة يف النظم العرب َّية االستبداد َّية إىل «بنية مؤسسات َّية مستبدَّ ة»‪ ،‬أو إىل َّ‬
‫فإنا تنتهي إىل «شكالن َّية فارغة»‪ ،‬حال «مهزلة االنتخابات» يف أكثر‬ ‫املؤسسات َّ‬
‫تعرتف «باملواطنني وحقوقهم»‪ .‬فمهام يكن شكل هذه َّ‬
‫من بلد عريب‪ ،‬التي تعيد صوغ اخلوف والفساد‪ ،‬أو ملهاة «الربملان» حيث أعضاؤه خليط من السامرسة واالنتهازيني‪ ،‬حيكمون باسم‬
‫يورثها إىل آخرين ال خيتلفون‬
‫الديمقراط َّية ويامرسون إلغاءها‪ .‬فام هي خصائص تلك «اجلمهور َّية» التي «يملكها» الرئيس مدى احلياة‪ ،‬أو ّ‬
‫أي يشء؟‬ ‫عنه يف ِّ‬

‫إذا كان يف الديمقراط َّية ما يستدعي إنسان ًا له احلق يف االختيار‪ ،‬دون اإلساءة إىل اآلخرين‪ ،‬ويف العدالة ما يستدعي َّ‬
‫مؤسسات اجتامع َّية‬
‫متارس اإلنصاف واملساواة‪ ،‬فام هي حظوظ الديمقراط َّية والعدالة يف جمتمعات عرب َّية مل تدخل فعل َّي ًا إىل األزمنة احلديثة؟ وما السبل‬
‫املروع الذي يعانيه العامل العريب؟ وكيف يمكن جتسري املسافة بني مؤسسات تقليد َّية متخ ّلفة (سابقة عىل‬ ‫إىل معاجلة «الفوات التارخيي» ّ‬
‫الرأسامل َّية كام يقال) ومفاهيم سياس َّية واجتامع َّية من صميم األزمنة احلديثة‪ ،‬مثل الفرد وحقوقه‪ ،‬واملواطنة السياس َّية‪ ،‬واحلق يف العيش‬
‫والكالم‪ ،‬وحق االختيار السيايس واإليديولوجي؟ والسؤال األكثر مأساوية‪ :‬من أين تأيت احلداثة االجتامع َّية يف جممتعات عرب َّية اجتهدت‬
‫احلواري»‪ ،‬واجتهدت جمتمعاته‪ ،‬بعد «تصنيعها‬ ‫سلطاهتا اجتهاد ًا نموذجي ًا يف «وأد السياسة» و«بناء العقل األحادي»‪ ،‬وخنق «املجتمع ِ‬
‫َّ‬
‫سلطو َّي ًا»‪ ،‬يف مطاردة اجلديد واالحتفاء بالتقليدي؟‬

‫قد تأيت من ثورة اجتامع َّية جترب احلكَّام عىل االعرتاف باملواطنني‪ .‬لك َّن الثورة حتتاج إىل فضاء اجتامعي له قيم تغاير القيم املتس ّلطة‪ ،‬فضاء‬
‫عاش الديمقراط َّية أو اقرتب منها وعرف شيئ ًا من العدالة االجتامع َّية‪ .‬وقد يأيت من تواتر الثورات املجهضة التي تقرتح رغم إخفاقها‬
‫التحوالت االجتامع َّية‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫اعرتاف ًا باإلنسان وحقوقه‪ ،‬وقد تأيت شيئ ًا فشيئ ًا مع سريورة بطيئة من‬

‫دخل العرب إىل القرن العرشين من باب الشعور القومي ورفض االستبداد‪ ،‬وبعد قرن من الزمن تراجع النزوع القومي وبقي‬
‫االستبداد حارض ًا‪ .‬من أين جاء القصور العريب الذي تالزمه اهلزائم‪ ،‬انترصت إرسائيل عىل العرب مجيع ًا‪ ،‬ودخلت املجتمعات العرب َّية يف‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪46‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫خواطر عن عامل عريب يتقدَّ م ُمرتاجع ًا‬

‫من العبث احلديث عن العدالة يف نظام مستبد‪ ،‬إذ‬ ‫طور من التفكك‪ ،‬بعد أن عاشت طور ًا طوي ً‬
‫ال من االستنقاع‪ ،‬وال‬
‫ال استبداد بال فساد يتيح للقلة أن ترسق حقوق‬ ‫يأيت ذكر الثورة العلم َّية‪/‬التقن َّية إال من باب «االسترياد»‪.‬‬

‫األغلب َّية‪ ،‬ومن العبث أكثر احلديث عن املساواة يف‬


‫مهام تكن األسباب التي تدفعنا اليوم إىل احلديث عن الديمقراط َّية‬
‫مؤسس عىل االستبداد املفسد‪ ،‬يرى يف الثروة‬‫نظام َّ‬ ‫السلطة العرب َّية‪ ،‬من حيث‬ ‫والعدالة‪ ،‬ومها موضوعان ُمع َّقدان‪َّ ،‬‬
‫فإن ُّ‬
‫السلطة ثروة‬
‫ُسلطة ويف ُّ‬ ‫مقرر وحيد‪ ،‬هي سبب حاسم يف الوصول إىل «الوضع‬ ‫هي مرجع ّ‬
‫الرتاجيدي» الذي يعيشه العرب اليوم‪.‬‬

‫إشارات‬
‫‪ .1‬نوربريتو بوبيو‪ :‬الليربال َّية الديمقراط َّية‪ ،‬دار كنعان‪ ،‬دمشق ‪.1994‬‬
‫‪ .2‬جون رولز‪ :‬العدالة كإنصاف‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العرب َّية‪ ،‬بريوت ‪.2009‬‬

‫‪47‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫الطريق «المستحيل» نحو الديمقراط َّية‬


‫من السياسة إلى الثقافة‬

‫حممد شوقي الزين*‬

‫ملخص‪:‬‬
‫ظل أوضاع أو وضعيات حتول دون إنجازها‬ ‫استحالة الديمقراط َّية عبارة عن جماز يقول تقريب ًا اليشء ونقيضه‪ :‬الديمقراط َّية غري ممكنة يف ِّ‬
‫يف السلوك السيايس واالجتامعي؛ الديمقراط َّية ممكنة من حيث املبدأ الذي تضعه يف ُصلب فكرهتا وعمليتها وهذا املبدأ هو االستدارة‪.‬‬
‫تنجر احلركة والسلوك اجلديل القائم عىل املناوبة واملجاوزة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ال مستديرين‪ ،‬ألنَّه عن االستدارة‬‫ال ُبدَّ أن تكون الديمقراط َّية فكرة وفع ً‬
‫الدفع نحو األمام سمة الديمقراط َّية الكربى‪ ،‬ويقوم هذا الدفع من حيث احلركة‪ ،‬والدافع من حيث اإلهلام أو احلدس‪ ،‬عىل سند يدور‬
‫ويفيد االستدارة كالعجلة بالنسبة إىل العربة‪ .‬األدوات التي تستعني هبا الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني تفيد كلها الدينامية واالندفاع‬
‫نحو األمام‪ :‬مشورة‪ ،‬اختيار‪ ،‬حرية يف الرأي واألداء‪ ،‬اقرتاع وتصويت‪ ...،‬إلخ‪ .‬ألنَّه عىل إثر هذه األدوات يكون احلكم السليم والتدبري‬
‫ُعب عن ديناميتها‬ ‫فإنا ت ِّ‬
‫وألن هذه األدوات‪ ،‬وإن مل تقل بعمق جوهر الفكرة الديمقراط َّية‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫الصحيح إذا َح ُسن استعامهلا وتوظيفها؛‬
‫التحجر واجلمود‪ .‬حتمل الفكرة الديمقراط َّية بذرة‬ ‫ُّ‬ ‫الداخل َّية يف جتديد أطر السلوك ومقتضيات املامرسة السياس َّية واالجتامع َّية‪ ،‬وتفادي‬
‫املستمرة واملسرتسلة التي يضمنها االستعامل العقالين واحلصيف للحر َّية‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫التجديد يف نظام السلوك لدرء اجلمود‪ ،‬ونواة احلركة‬

‫فهرس‪:‬‬
‫مقدّ مة‬
‫املتعذر ترمجته من الديمقراط َّية‪« :‬ثقاف» يوناين يف «ثقافة» عاملية‬ ‫َّ‬ ‫‪.1‬‬
‫‪ -‬ال َب َشة وال َب َش‪ :‬املادة األول َّية يف الفكرة الديمقراط َّية‬
‫‪ -‬ثقاف التجربة اليونانية‪« :‬كايروس» احلدث الديمقراطي‬
‫‪ .2‬مفتاح لغوي أكسيموري‪ :‬االستحالة‬
‫‪« -‬استحالة» الديمقراط َّية‪ :‬التع ُّثر يف القياس‬
‫‪« -‬استحالة» الديمقراط َّية‪ :‬العثور عىل املقياس‬
‫‪ .3‬التوتر األصيل بني السياسة والثقافة‪ :‬طبول الصاخب وأشغال الصامت‬
‫‪ -‬السياسة‪ :‬من اآللة إىل اإليالة‬
‫‪ -‬الثقافة‪ :‬تربية الطبع‪ ،‬تربية السلوك‪.‬‬
‫بأي معنى؟‬ ‫خامتة‪ :‬الطريق «املستحيل»‪ّ ،‬‬

‫*****‬

‫* مفكر وأكادميي من الجزائر‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪48‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الطريق «املستحيل» نحو الديمقراط َّية‪ :‬من السياسة إىل الثقافة‬

‫إذا اعتربنا ال َبرشة املبدأ األساس يف تسمية‬ ‫لقد قيل الكثري وكُتب ما ال حرص له من الدراسات حول مفهوم‬
‫سمى « َبرش» هو الذي‬ ‫البرش برش ًا‪ ،‬فهذا ا ُمل َّ‬ ‫كل إضافة عبارة عن زخرفة ال تضيف شيئ ًا‬ ‫الديمقراط َّية‪ ،‬وتبدو ُّ‬
‫إىل معارفنا سوى ربط املفهوم بمفاهيم جماورة كالسياسة واحلكم‬
‫ُيعطي للمقولة «ديمقراط َّية» علة وجودها‬
‫والرتبية واألخالق‪ .‬ر َّبام ال تكمن العلة يف إضافة يشء‪ ،‬وإنَّام فقط يف‬
‫املسمى « َب َش» ينقسم‬
‫َّ‬ ‫ألن هذا‬ ‫اس ًام ورس ًام‪َّ ،‬‬ ‫إعادة استعامل املفهوم ألغراض أخرى مل تنرب هبا استعامالت ماضية‬
‫وكل شعب ينربي‬ ‫ّ‬ ‫إىل أجناس وشعوب‪،‬‬ ‫أو حارضة‪ .‬ما أريد تبيانه يف هذه الدراسة هو التفكري يف الديمقراط َّية‬
‫بتدبري ذاته والسيادة عىل نفسه‬ ‫من خارج األطر احلرص َّية للسياسة‪ ،‬بأن أرى الرابطة الكائنة بني‬
‫الديمقراط َّية والثقافة‪ ،‬وهل يمكن تشكيل ثقافة ديمقراط َّية ال‬
‫ألن املشكلة اجلوهر َّية هي اإلدراك البرشي لطبيعة الديمقراط َّية‪ :‬هل هذه الكلمة‪-‬املفهوم عبارة عن‬ ‫يمكن اختزاهلا دائ ًام يف أطر سياس َّية؟ َّ‬
‫لكل نظام سيايس يقول عن نفسه إنَّه ديمقراطي؟ هل ُتتَزل الديمقراط َّية يف فكرة دون فعل‪ ،‬ويف شعار دون‬ ‫صيغة الئقة (‪ِّ )commode‬‬
‫إنجاز‪ ،‬ويف متثيل سيايس دون استيعاب ثقايف؟ هل يمكن اعتبارها لغة شائعة (‪ )koinè‬يتداوهلا اجلنس البرشي بوصفها أمثل نظام سيايس‬
‫يمكن التعويل عليه‪ ،‬رغم النقائص يف الصيغ والعثرات يف االستعامالت؟ ملناقشة هذه األسئلة أعتمد عىل أكسيمور (‪ )oxymoron‬أو‬
‫التحول‪ ،‬أو النفي واإلجياب يف املقولة «ديمقراط َّية»‪ :‬هل الديمقراط َّية‬
‫ُّ‬ ‫ألدل هبا عىل عدم اإلمكان وعىل‬ ‫تناقض ظاهر يف الكلمة «استحالة» َّ‬
‫وأنا ممارسة حثيثة ال يمكن اختزاهلا يف هياكل وتنظيامت‬ ‫«مستحيلة»؟ ليس بموجب عدم إمكان حتقيقها تارخيي ًا وإنَّام بحكم ارتقائها الدائم‪َّ ،‬‬
‫وأشكال من التمثيل السيايس واالقرتاع‪ .‬هذه فقط تغليفات برانية ال تقول بعمق ِ‬
‫وحدَّ ة كائن الديمقراط َّية وأشكال متظهره‪.‬‬ ‫َّ َّ‬

‫‪ .1‬المتعذر ترجمته من الديمقراط َّية‪« :‬ثقاف» يوناني في «ثقافة» عالم َّية‬


‫ألن الكلامت بطبعها تتخالف داللي ًا‪،‬‬
‫كل اشتقاق لغوي يؤول إىل انشقاق فكري‪َّ ،‬‬ ‫االنطالق من االشتقاق معناه الوصول إىل االنشقاق‪ُّ .‬‬
‫وإن كانت تتشاكل صوري ًا‪ .‬عندما نأخذ بالبحث والدراسة األصل االشتقاقي للكلمة اليونان َّية ( ‪ ،)dēmokratía, δημοκρατία‬نجد‬
‫ويتجول‪ ،‬أن يتع َّثر أيض ًا أو يفشل‪ ،‬ليقول حمتوى ما يفرتضه‬ ‫يتحول‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫َّأنا كلمة تأسيس َّية لسلوك مل يلبث أن يتواتر يف التاريخ‪ ،‬أن ُيتداول‪ ،‬أن َّ‬
‫ّ‬
‫املتعذر‬ ‫«حكم (‪ )krátos‬الشعب (‪ ،»)dêmos‬وبشكل أوسع «قيادة الشعب»‪« ،‬سيادة الشعب»‪...،‬إلخ‪ .‬كلمة «ديمقراط َّية» من‬ ‫وهو‪ُ :‬‬
‫ترمجتها كمفهوم‪ ،‬وإن كان من املمكن ترمجتها حرف َّي ًا‪ .‬لك َّن حرف َّية الكلمة ال تقول املركَّب يف وهجه املفهومي والعميل‪ .‬لذا‪ ،‬احتفظت‬
‫الكلمة بجسدها األصيل يف لغات العامل تقريب ًا‪ :‬ديمقراط َّية‪...، )Democracia (،)Demokratie( ،)Democracy( ، )Démocratie(،‬‬
‫وقوة ونُدرة جتعلها صعبة التطويع‪ ،‬فتحتفظ‬ ‫تعذرت أو ص ُعبت أو استحالت ترمجة كلمة‪ ،‬كانت هذه الكلمة تتمتَّع بأصالة َّ‬ ‫ُلم َّ‬‫إلخ‪ .‬ك َّ‬
‫بامديتها اللغو َّية يف سياق الدالالت والتأويالت‪.‬‬

‫‪ -‬ال َب َشة وال َب َش‪ :‬املادة األول َّية يف الفكرة الديمقراط َّية‬

‫وكأن املظهر أصبح الظاهرة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ينطبق عىل هذه الفكرة قول بول فالريي (‪« :)Paul Valéry‬اليشء األعمق يف اإلنسان هو ال َب َشة!»‪،1‬‬
‫واالعتيادي أو املبتذل أصبح عمق ًا وحكمة‪ .‬لكن‪ ،‬ليس هبذا املعنى ينبغي أخذ كلمة بول فالريي‪ ،‬وإنَّام باملعنى الذي تكون فيه الكلمة‬
‫قوة بالغ َّية يف حرفيتها التأسيس َّية‪ .‬لذا احتفظت « َبرشة» الديمقراط َّية ب ُعمقها الداليل يف اللغات العامل َّية كلها‪ .‬عبارة فالريي ذات‬ ‫ذات َّ‬
‫جد‪/‬ولد عليه التسمية الدالة عليه‪ :‬إنَّه « َب َش»‬
‫ُ‬ ‫املسمى برش ًا هو أساس ًا اإلنسان الذي أخذ من املظهر الذي ُو‬ ‫َّ‬ ‫حنكة نادرة‪َّ ،‬‬
‫ألن اإلنسان‬
‫بغض النظر عن ألوان ال َبرشة‪ .‬إنَّه َب َش من ال َبرشة التي تُع ّلمنا دائ ًام أنَّنا إزاء إنسان له إحساس من االنطباعات التي تلتقطها‬
‫من «ال َبرشة»‪ِّ ،‬‬
‫حتس هبا ال َبرشة‪ ...،‬إلخ‪.‬‬
‫ال َبرشة‪ ،‬من األمل أو اللذة التي تشعر هبا ال َبرشة‪ ،‬من احلرارة أو الربودة التي ُّ‬

‫‪1 . Paul Valéry, « L’idée fixe », in: Œuvres II, Paris, La Pléiade, 1960, p. 215.‬‬

‫‪49‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد شوقي الزين‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫يمر عرب «ال َبرشة»‪ 2‬بالتعذيب (‪)torture‬؟‬‫ال َبرشة مدخل احلقيقة نحو اإلنسان‪ :‬هل من املصادفة أن يكون احلصول عىل احلقيقة باالعرتاف ُّ‬
‫فألن ال َبرشة هي السطح العميق (هذا التعبري «أكسيمور»!)‪ ،‬وليس فقط السطح الدال‬ ‫أو دفع املظامل باالقتصاص كام جاء يف الكتب املقدَّ سة؟ َّ‬
‫عىل ُعمق أو باطن‪ ،‬كانت النظريات السياس َّية يف العرص احلديث‪ ،‬قبل وإ َّبان اندالع الثورات الغرب َّية‪ ،‬األمريك َّية (‪ )1763‬والفرنس َّية (‪،)1789‬‬
‫يتم هبا تفادي التعنيف والقهر والسلب‪ ،‬فكان «اإلعالن العاملي عن‬ ‫يف معظمها عبارة عن تنظريات حول هذه «ال َبرشة»‪ ،‬يف الكيف َّية التي ُّ‬
‫جمرد قرشة أو جلد مركَّب من طبقات وألياف وأوعية دمو َّية‬ ‫حقوق اإلنسان واملواطن»‪ .‬ال َبرشة رمز ما يكون عليه اإلنسان برش ًا‪ ،‬وليست َّ‬
‫ومسام؛ مثلام نقول عن اإلنسان إنَّه «حيوان» ليس باملعنى املبتذل يف البهيمة أو العجامء‪ ،‬لكن باملعنى القوي للحياة يف صيغة املبالغة‪.‬‬

‫من نيتشه إىل دريدا‪ ،‬كان احلديث دائ ًام عن اإلنسان‪-‬احليوان باملعنى الذي ينضح فيه باحلياة‪ ،‬وإن كانت للكلمة استعامالت ماضية‬
‫عند أرسطو مثالً‪« :‬حيوان متمدِّ ن» (‪ )zoon politikon‬أو عند كاسرير‪« :‬حيوان رمزي» (‪ .)animal symbolicum‬أقول إذن َّ‬
‫إن‬
‫البرش برش ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تسمى هبا‬
‫الديمقراط َّية يف جسدها احلريف هي ال َبرشة التي أتاحت تشاكُل األلسنة يف املقولة نفسها‪« :‬ال َبرشة» نفسها التي َّ‬
‫وإن اختلفت يف األلوان واألحجام‪ .‬أبقى يف هذه السيامنطيقا التي جتعل من ال َبرشة املبدأ اآلين يف نعت كينونة هي اإلنسان فرد ًا أو البرش‬
‫جمموع ًا‪ ،‬ألنَّه عىل أساس هذه ال َبرشة َّ‬
‫تكونت الكُتلة التي عىل عتبتها انطلق املعنى احلقيقي لكلمة ديمقراط َّية‪ .‬إذا اعتربنا ال َبرشة املبدأ‬
‫املسمى‬
‫َّ‬ ‫سمى « َبرش» هو الذي ُيعطي للمقولة «ديمقراط َّية» علة وجودها اس ًام ورس ًام‪َّ ،‬‬
‫ألن هذا‬ ‫األساس يف تسمية البرش برش ًا‪ ،‬فهذا ا ُمل َّ‬
‫وكل شعب ينربي بتدبري ذاته والسيادة عىل نفسه‪.‬‬ ‫« َب َش» ينقسم إىل أجناس وشعوب‪ّ ،‬‬

‫نسميها «ديمقراط َّية»‪ ،‬بالفروع التي حتتملها التسمية مثل الشعب أو األ َّمة‪ ،‬هو‬ ‫مسوغ التسمية « َب َش» يف تعليل كلمة أو مقولة ّ‬
‫إن ّ‬ ‫بل َّ‬
‫ال فرانسيس فوكوياما ‪ ،‬يعترب الديمقراط َّية الليربال َّية سقف ما يصل إليه اإلنسان يف مساره التارخيي بعد األزمنة‬
‫‪3‬‬
‫ما جعل البعض‪ ،‬مث ً‬
‫اإليديولوج َّية املحمومة‪ ،‬بيشء من التلفيق بني الفلسفات التارخي َّية ذات املضامني الغائ َّية (كانط وفيكو) والفلسفات السياس َّية املن ّظرة‬
‫تم استكشافها عرب التاريخ‪ ،‬إىل غاية أن‬ ‫أن مبادئ الرشعية (‪َّ )légitimité‬‬ ‫ملفهوم الدولة احلديثة (هيغل وكوجييف)‪« :‬يقرتح فوكوياما َّ‬
‫تكون الرشع َّية املالئمة للمقتضيات األساس َّية للبرش َّية هي التي فرضت نفسها»‪ ،4‬يعني الرشع َّية املستوحاة من املامرسة الديمقراط َّية‬
‫بوصفها «هناية التاريخ»‪ ،‬أي منتهى ما يصل إليه نظام سيايس يف التاريخ‪ .‬لنأخذ من فقرة لوك فريي كلمة «البرش َّية»‪ :‬بعمومها يف البرش َّية‪،‬‬
‫بتعميمها عىل البرش‪ ،‬تكون الديمقراط َّية إذن «ال َبرشة» التي يكون هبا املقياس يف السلوك السيايس‪.‬‬

‫الديمقراط َّية واضحة‪ ،‬ساطعة‪ ،‬بارزة‪ ،‬مثل ال َبرشة‪ ،‬تُشكّل الغالف السلوكي للبرش َّية مثلام عليه ال َبرشة بالنسبة إىل اجلسم البرشي؛‬
‫بأن اإلنسان اكتمل سلوكي ًا‪ ،‬نضج عقلي ًا‪ ،‬بعد اجلروح والندوب التي َّ‬
‫حتملتها َب َشته يف التاريخ‪،‬‬ ‫هي مقياس السلوك و ُعنرص اإلحساس َّ‬
‫جراء أشكال يف احلكم مل ُتسن االحتفاظ باإلنسان برش ًا‪ ،‬مل تعمل سوى بلوغ عمقه عرب سطحه وهو البرشة‪ .‬القتالع احلقيقة‬ ‫من َّ‬
‫ربد البرشة بال ُعري ونزع الكرامة‬ ‫كانت أشكال احلكم (امللك َّية املطلقة‪ ،‬اإلقطاع َّية‪ ،‬الدكتاتور َّية‪ )...‬حترق البرشة بالنار تعذيب ًا أو ُت ّ‬
‫يمر عرب السطح‪ ،‬بلوغ اإلنسان‬ ‫(اهلولوكوست)‪ ،‬كانت ُتضع اإلنسان برش ًا‪ ،‬تُعنّف ال َبرشة حرق ًا أو قطع ًا أو خدش ًا أو رضب ًا‪ .‬بلوغ العمق ُّ‬
‫القص من برشته‪« :‬فقدان اإليامن يف اإلنسان ال يرتك يف األقوال سوى األكاذيب» ‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫يمر عرب ّ‬ ‫يف كرامته ونفسيته‪ُّ ،‬‬

‫‪2 . Michel Foucault, « La vérité et les formes juridiques », in: Philosophie. Anthologie, éd. Arnold I. Davidson et Frédéric Gros, Paris,‬‬
‫‪Gallimard, 2004, coll. « Folio Essais ».‬‬
‫‪3 . Francis Fukuyama, the End of History and the Last Man, Free Press, 1992.‬‬
‫‪4 . Luc Ferry, L’Anticonformiste, Paris, éd. Denoël, 2011, p. 268.‬‬
‫‪5 . Michel de Certeau, «Corps torturés, paroles capturées», in: Luce Giard (éd.), Michel de Certeau, Centre Georges Pompidou, 1987, coll.‬‬
‫‪«Cahiers pour un temps», p. 65.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪50‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الطريق «املستحيل» نحو الديمقراط َّية‪ :‬من السياسة إىل الثقافة‬

‫التعسف اختزال الديمقراط َّية َب َش ًة وروح ًا‬


‫من ُّ‬ ‫جاءت الديمقراط َّية‪ ،‬إيامن ًا راسخ ًا باإلنسان‪َ ،‬برشة البرش َّية يف‬
‫يف متثيالت سياس َّية وهياكل تنظيم َّية‪ ،‬أي‬ ‫إحساسها وسلوكها‪ ،‬لتقول شيئني أساسيني‪َ .1 :‬ب َشة اإلنسان‬
‫جمرد سطح دينء ومدنَّس؛ ‪ .2‬جتد‬ ‫يشء عميق ومقدَّ س‪ ،‬وليس َّ‬
‫الديمقراط َّية التمثيل َّية‪ .‬هذه الزوائد يف شكل‬
‫البرش َّية املركَّبة من أجناس وشعوب اكتامهلا يف هذا النظام السيايس‬
‫صفات «ديمقراط َّية ليربال َّية»‪« ،‬ديمقراط َّية‬ ‫ألن الديمقراط َّية تنطلق أساس ًا من تش ُّعبات‬ ‫سمى «ديمقراط َّية»‪َّ ،‬‬ ‫ا ُمل َّ‬
‫حتجب َبرشة الديمقراط َّية‬ ‫متثيل َّية» هي التي ُ‬ ‫ال َب َشة‪ ،‬من شعوب البرش َّية ذاهتا‪ .‬لكن‪ ،‬وكام سأناقش املسألة‬
‫اخلالصة‪ ،‬تغطيها بأغلفة وأزياء ال تنطبق ر َّبام‬ ‫الحق ًا‪ ،‬من اإلجحاف اإلقرار َّ‬
‫بأن الديمقراط َّية الليربال َّية سقف‬
‫ما تصل إليه البرش َّية من نظام يف السلوك واإلدارة كام يذهب‬
‫عىل أقاليم أو شعوب هلا أزياؤها وأشكال‬
‫التعسف اختزال الديمقراط َّية َب َش ًة وروح ًا يف‬ ‫ُّ‬ ‫فوكوياما؛ ومن‬
‫احلفاظ عىل َبرشهتا‪ ،‬عىل برش َّيتها إذن‬ ‫متثيالت سياس َّية وهياكل تنظيم َّية‪ ،‬أي الديمقراط َّية التمثيل َّية‬
‫(‪ .)démocratie représentative‬هذه الزوائد يف شكل صفات‬
‫حتجب َبرشة الديمقراط َّية اخلالصة‪ ،‬تغطيها بأغلفة وأزياء ال تنطبق ر َّبام عىل أقاليم أو‬ ‫«ديمقراط َّية ليربال َّية»‪« ،‬ديمقراط َّية متثيل َّية» هي التي ُ‬
‫شعوب هلا أزياؤها وأشكال احلفاظ عىل َبرشهتا‪ ،‬عىل برش َّيتها إذن‪.‬‬

‫إن جوهر الليربال َّية هو‬ ‫ال َّ‬


‫الصفتان «ليربال َّية» و«متثيل َّية» هي ُح ُجب الديمقراط َّية‪ ،‬وإن كانت تزعم تفسريها وإيضاحها‪ ،‬كأن نقول مث ً‬
‫احلر َّية‪ ،‬والديمقراط َّية بالتعريف هي حر َّية يف اخليار والقرار؛ واحلر َّية يف اخليار والقرار هي التي تُشكّل َع َصب التمثيل( (�‪représentativ‬‬
‫املرشحني لتق ُّلد مهام سياس َّية أو وظائف ُعليا يف هيكل ّ‬
‫نسميه «الدولة»‪ .‬عندما نتأ َّمل ج ّيد ًا‪ ،‬ليس‬ ‫‪ )ité‬بانتقاء األمثل واألجدر من بني َّ‬
‫منطوق الليربال َّية والتمثيل َّية هو املقصود هبذا الوصم‪ ،‬وإنَّام فكرة مع َّينة عن الليربال َّية‪ ،‬عندما تتحنَّط هذه الليربال َّية يف إيديولوجيا هلا إقليم‬
‫جمرد حشد اجلموع‬ ‫وتاريخ وتُصبح مضامينها قابلة للتصدير يف أقاليم أخرى هلا ميزة وفرادة؛ وفكرة ُمع َّينة عن التمثيل‪ ،‬عندما ُيصبح َّ‬
‫أن الديمقراط َّية ثقافة تتجاوز اهليمنة شبه‬ ‫سأبي الحق ًا َّ‬
‫وتضليل الرأي العام واختزال العملية الديمقراط َّية يف انتخابات وإحصائ َّيات‪ِّ .‬‬
‫املطلقة للسياسة يف استئثارها باملقولة «ديمقراط َّية»‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬أليست احلر َّية والتمثيل السيايس ما ُيشكّل « َبرشة» الديمقراط َّية‪ ،‬ليس فقط سطحها وإنَّام أيض ًا ُعمقها وجوهرها؟ َّ‬
‫ألن احلر َّية‬
‫جوهر املامرسة الديمقراط َّية‪ ،‬بدوهنا تصبح هذه األخرية شعار ًا فارغ ًا ولعبة فاشلة؛ والتمثيل السيايس َع َصب املامرسة الديمقراط َّية‪ ،‬بأن‬
‫يضع الشخص صوته ورأيه قيد أشخاص يمثلونه ويعملون عىل إسامع صوته ورأيه لدى الطبقة احلاكمة أو املهيمنة‪ .‬يمكن هلذه املظاهر‬
‫(احلر َّية والتمثيل السيايس) أن تكون ظواهر الديمقراط َّية ذاهتا‪ ،‬يعني َبرشهتا اخلالصة‪ ،‬يف الوقت نفسه السطح والعمق‪ ،‬املادة والصورة‪،‬‬
‫بقوة احلال واملقال النموذج الكوين الكاسح‪ ،‬وأكثر من أن ُت َتزل‬ ‫أن الديمقراط َّية أكثر من أن ُت َتزل يف نظام يصبح َّ‬ ‫الصفة واجلوهر‪ .‬غري َّ‬
‫املسمة «ديمقراط َّية» سليلة نظا ٍم برز‬
‫يف متثيليات هي أقرب إىل لعب األدوار املرسح ًّية منه إىل أداء األدوار املصري َّية‪ .‬لكن‪ ،‬أليست «ال َبرشة» َّ‬
‫يف اليونان العريقة وأصبح النموذج الكاسح؟ كيف يمكن القبول بالديمقراط َّية وهي حتمل أساس ًا عالمات نظام عريق‪ ،‬حصيلة إقليم‬
‫وتاريخ‪ ،‬بمعنى نتيجة ثقافة ُمع َّينة هي الثقافة اليونان َّية؟‬

‫‪ -‬ثقاف التجربة اليونان َّية‪« :‬كايروس» احلدث الديمقراطي‬

‫جمرد هو َّية نشأت يف إقليم وزمان ينحرصان يف اليونان العريقة‪ .‬يمكن نعت هذه الديمقراط َّية بالتجربة‬‫يف احلقيقة‪ ،‬مل تكن الديمقراط َّية َّ‬
‫سمه اليونان‬
‫أو احلدث (‪ ،)événement, Ereignis‬يشء فريد وفذ طلع دون سابق إنذار‪ ،‬أشبه ما يكون بالزمن الفوري والعابر الذي َّ‬
‫تتطور‪ ،‬كالنقطة التي تتيح‬‫قوية قابلة ألن َّ‬
‫القدامى «كايروس» (‪ ،)kairos‬ضئيل يف مبناه‪ ،‬جزيل يف معناه‪ُ ،‬مدَ ٍّو يف مغزاه‪ ،‬يرتك بصمة َّ‬

‫‪51‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد شوقي الزين‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫وكأن الديمقراط َّية نقطة كاير َّية مرتكَّزة‪ ،‬تصاحب البرش َّية خط ًا منتظ ًام‪ ،‬بارز ًا يف اللحظات‬
‫َّ‬ ‫اخلط‪ ،‬والنقطة هي ذاهتا اخلط يف مساره املنتظم‪.‬‬
‫جمرد ثقافة‬
‫إن الديمقراط َّية مل تكن َّ‬ ‫التي تنترص فيها الروح الديمقراط َّية‪ ،‬وباهت ًا يف األزمنة التي تتسلط فيها القوى االستبداد َّية‪ .‬أقول َّ‬
‫قبلية‪ ،‬بل أصبحت ثقافة بعدية‪ ،‬يف التجارب املتنوعة عرب التاريخ‪ ،‬عندما استحكمت يف الوعي والسلوك البرشيني‪ .‬لقد كانت باألحرى‬
‫وأنعت به التجربة املبدئ َّية للديمقراط َّية الناشئة يف الزمن الكايري‪ ،‬من «كايروس»‪ ،‬الذي ليس هو‬ ‫ُ‬ ‫أسميه الثقاف‬
‫«الثقاف»‪ .‬ما هذا الذي ّ‬
‫الزمن الكرونولوجي؟‬

‫ال من أشكال خلودها وديمومتها يف النوع البرشي هو الطابع الكايري الذي حتمله يف جعبتها‬ ‫أن ما ُيعطي للديمقراط َّية شك ً‬ ‫أعتقد َّ‬
‫تطورها‪ ،‬تع ُّثرها‪ ،‬أفوهلا‪ ،‬بعثها من جديد‪ ...،‬إلخ‪ .‬فهي الثقاف املتواري يف الزمن الكايري من‬ ‫داخل الزمن الكرونولوجي الذي يقول ُّ‬
‫أجل الثقافة املتجل َّية يف التاريخ‪ .‬يف نص مفيد عنوانه «الديمقراط َّية‪ :‬جرد تارخيي» ‪ُ ،‬ي ّبي جون دان‪ ،‬من وجهة نظر تارخي َّية‪ ،‬الكيف َّية التي‬
‫‪6‬‬

‫بأنا «غريبة»‪ ،‬بحكم‬ ‫انبثقت فيها الديمقراط َّية‪ ،‬وهي كيف َّية «كاير َّية»‪ ،‬بمعنى عفو َّية ودون سابق إنذار‪ .‬يرشح دان هذه الكيف َّية التي ينعتها َّ‬
‫أن الديمقراط َّية ظهرت يف سياق الرصاع‪ ،‬عندما أقدم الرجل السيايس األرستقراطي واألثيني كاليستينس (‪)Kleisthénês, Clisthène‬‬ ‫َّ‬
‫حمط معارضة شديدة من‬ ‫يعبوا عن آرائهم يف النظام السيايس اخلاص بأثينا‪ ،‬الذي اقرتحه وكان َّ‬ ‫عىل جتنيد املوالني له من الشعب لكي ّ‬
‫التوجه السائد أن تنفرد األرستقراط َّية باحلكم والرأي يف الشأن العام‪ ،‬أقحم كاليستينس زمن ًا جديد ًا وسط‬ ‫ُّ‬ ‫لدن األرستقراطيني‪ .‬بينام كان‬
‫التاريخ السيايس الرتيب‪ ،‬بأن يشاور عموم الشعب ويتطلع إىل رأهيم‪.‬‬

‫مئة سنة بعد هذا الرشخ «الكايري» الذي تس َّلل منه حدث جديد ونادر‪ ،‬وهو حدث الديمقراط َّية‪ ،‬أصبحت هذه األخرية منظومة يف‬
‫السلوك ُتدّ د الطريقة التي ُيد ِّبر هبا الشعب ذاته ويسوس حارضه ومصريه‪ ،‬بمجموعة من املعايري املتعارف عليها واملعرتف هبا‪ ،‬وهي‬
‫املشاركة يف احلياة السياس َّية واملدن َّية واالقرتاع احلر والنقاش العمومي‪ .‬ليس من السهل حتديد بد َّقة كيف وقع االنقالب (‪)basculement‬‬
‫من حكم أرستقراطي ينفرد بالسلطة والتدبري إىل حكم جديد تكون فيه الصدارة للرأي العام‪ .‬ال يمكن حتديد ذلك سوى يف إطار سلوك‬
‫أصبح يعطي األولو َّية لعامل جوهري يف ّ‬
‫كل ممارسة سياس َّية‪ ،‬وهذا العامل هو احلر َّية‪ .‬يتَّضح هذا من التفكري اجلذري الذي أجرته حنّه‬
‫أرنت حول توا ُقت ميالد السياسة واحلر َّية يف اللحظة اليونان َّية العريقة‪« :‬إذا فهمنا السيايس باملعنى احلرصي لكلمة «بوليس» ‪َّ ،Polis‬‬
‫فإن‬
‫هنايته أو علة كينونته هي اإلرساء واالحتفاظ يف الوجود لفضاء تكون فيه احلر َّية عبارة عن براعة بارزة (‪ .)virtuosity‬ذلكم هو املجال‬
‫واملتحولة إىل قصص قبل‬
‫ّ‬ ‫الذي تكون فيه احلر َّية حقيقة العامل‪ ،‬تدعمه األقوال املسموعة واألفعال املرئ َّية‪ ،‬واألحداث املرسودة واملذكورة‬
‫إدراجها يف الكتاب الكبري للتاريخ البرشي»‪.7‬‬

‫أن ما نسميه بالديمقراط َّية عبارة عن حدث انبثق يف التاريخ انطالق ًا من سلوك عفوي انتظم بالتدريج وأصبح‬ ‫نستخلص من ذلك َّ‬
‫كل ممارسة سياس َّية هدفها إرساء احلر َّية يف العالقات البرش َّية واالحتفاظ هبا من التلف والعبث‪ .‬ميالد الديمقراط َّية من رحم‬‫املعيار يف ّ‬
‫وهاج ومرتكّز يف اآلن نفسه‪ ،‬أي ابتدا ًء من اللحظة الكاير َّية‪ ،‬ال خيتلف كثري ًا عن ميالد الفن الرتاجيدي‬ ‫الرصاع وانطالق ًا من حدس َّ‬
‫لم باجلسد‪ ،‬كام ذهب نيتشه مثالً‪ .‬أصل الرقص (‪)danse‬‬ ‫وظهور الرقص واملوسيقى انطالق ًا من اهليجان واالضطراب واألمل الذي كان ُي ُّ‬
‫هو الشطح (‪ .)transe‬لقد كان للديمقراط َّية ميالد مشابه عندما كانت اللحظة حامية الوطيس‪ ،‬يف سياق رصاع عىل النفوذ واملصلحة‪.‬‬
‫من «كاوس» السلوك العفوي و«كايروس» اللحظة املواتية‪ ،‬برزت الديمقراط َّية للوعي اليوناين وأصبحت الثقاف الذي يشدُّ الوعي‬
‫وكل مشتقاهتا اللغوية والترشيعية‪ :‬الوثيق واملوثوق فيه وامليثاق‪.‬‬‫البرشي إليه بوثاقة‪ّ ،‬‬

‫‪6 . John Dunn, «Démocratie: l’état des lieux», tr. Pierre-Emmanuel Dauzat, in: Situations de la démocratie, sous la direction de Marcel‬‬
‫‪Gauchet, Pierre Manent et Pierre Rosanvallon, Paris, Gallimard/Le Seuil, 1993, coll. «Hautes études».‬‬
‫‪7 . Hannah Arendt, «What is Freedom?», in: The Portable Hannah Arendt, ed. Peter Baehr, Penguin Books, NY, 2000, p. 447.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪52‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الطريق «املستحيل» نحو الديمقراط َّية‪ :‬من السياسة إىل الثقافة‬

‫بينام كان األرستقراطيون األثينيون يفكّرون داخل براديغم مهيمن من القول والسلوك هو براديغم القوة والفضيلة واللسان املستقيم‬
‫(‪ )orthos logos‬أي القول الفصيح والبليغ من لدن داهية وحمنَّك‪ ،‬أقحم كاليستينس نموذج ًا جديد ًا مل يتوقعه أنداده أو معارضوه‪،‬‬
‫وهو اللجوء إىل رأي الشعب يف أزمنة كان هذا األخري أقرب إىل الدمهاء والغوغاء (‪ )plèbe‬منه إىل املجموع العاقل والراشد‪ .‬مل يقتنع‬
‫أفالطون هبذا الرباديغم اجلديد‪ .‬نلمس ذلك يف الكتاب الثامن من «اجلمهور َّية» عندما يصف الديمقراط َّية من خلف َّية ذرائع َّية ذات مسحة‬
‫هتكم َّية‪ ،‬جيد فيها اإلنسان ما حيتاجه كام حيتاج املؤونة يف السوق‪« :‬احلر َّية التي حتكم هناك‪َّ .‬إنا تُقدّ م تشكيلة كاملة لألنظمة؛ ومن لديه‬
‫عقل لينشئ دولة‪ ،‬كام كنا فاعلني‪ ،‬جيب أن يذهب إىل املدينة الديمقراط َّية كام يذهب إىل السوق التي يبيعون أنظمة فيها‪ ،‬وينتقي الشكل‬
‫املالئم‪ .‬وعندما يكون قد حقق اختياره‪ ،‬يمكنه إجياد دولته»‪.8‬‬

‫هل الديمقراط َّية هبذه السهولة املبتذلة والسوق َّية املنح َّطة؟ هل الوسم الذي نعت به كاليستينس حلظة الديمقراط َّية أعقبه الوصم الذي‬
‫طال بنيتها ونمط اشتغاهلا مع أفالطون؟ جاء الوصم األفالطوين من كون الديمقراط َّية تضع املساواة التا َّمة بني األفراد‪ ،‬بغض النظر عن‬
‫مؤهل‪ ،‬كُفء وغري كفء‪ ،‬جاهل وعامل‪ ...،‬إلخ‪ .‬نلمس بوضوح هذا الوصم يف الكلامت التالية‬ ‫مؤهل وغري َّ‬‫أمزجتهم واستعداداهتم بني َّ‬
‫توزع نوع ًا‬
‫منوعات وفوىض‪ّ ،‬‬ ‫خيص الديمقراط َّية‪َّ .‬إنا ميزات مألى َّ‬ ‫عىل لسان سقراط‪« :‬فتلك امليزة وامليزات املتقاربة األخرى هي ما ُّ‬
‫أن هذا الوصم األفالطوين للظاهرة الديمقراط َّية خيضع إىل نوع من احلساب‬ ‫من املساواة للمتساوين وغري املتساوين بشكل مماثل»‪ .9‬غري َّ‬
‫(‪ ،)calcul‬أي أنَّه رهني الطابع الكمي وأشكال احلصص واملوازين؛ وخيتزل احلر َّية يف الفوىض ورغبة األفراد يف فعل أشياء تناسب‬
‫أهواءهم‪.‬‬

‫جاء احرتاس أفالطون من الديمقراط َّية كوهنا أخذت بامليكانيزمات التي كانت مت ّيز احلياة السياس َّية اليونان َّية‪ ،‬لكن يف أشكاهلا املائعة‪.‬‬
‫املؤهل الذي تتو َّفر فيه رشوط اجلودة والفضيلة (‪ )arété, vertu‬ألداء وظائف عسكر َّية خالل‬ ‫عندما كان االنتخاب يدل عىل اختيار َّ‬
‫مؤهل‪،‬‬
‫يدل يف املامرسة الديمقراط َّية عىل اختيار أي شخص‪ ،‬بام يف ذلك من هو غري َّ‬ ‫احلروب‪ ،‬أو مهام سياس َّية يف تدبري املدينة؛ أصبح ُّ‬
‫َ‬
‫املنتخب إىل نسف‬ ‫لرفع التحديات الكربى وسياسة اجلموع‪ ،‬وقد يكون اختياره ديمقراطي ًا‪ ،‬بمعنى عن موافقة وحر َّية‪ ،‬ويميل الشخص‬
‫املبادئ الديمقراط َّية ذاهتا عندما يستأثر بالسلطة واحلكم‪ ،‬وكان هذا ب ّين ًا مع األنظمة الشمول َّية واالستبداد َّية يف القرن العرشين‪ .‬غري َّ‬
‫أن‬
‫الفكرة األفالطون َّية استسلمت لصورة النظام السيايس‪ ،‬وليس للشكل الذي يكون عليه‪ .‬ما الفرق هنا بني الصورة والشكل؟ من شأن‬
‫الصورة أن تكون أكثر سحر ًا وفتنة‪ ،‬أن تلعب عىل أوتار املثايل والطوباوي‪ ،‬أي اهليكل الكامل من النظام السيايس‪ ،‬بينام يميل الشكل إىل‬
‫األخذ بالسريورة‪ ،‬بالثغرات أو العثرات‪ ،‬بالقابل َّية لالكتامل مع التامدي يف اإلصالح والتفاين يف الرتكيب‪.‬‬

‫والتعسفات الناجتة عن سياسة شعب أو إقليم‪ ،‬لكن‬ ‫ُّ‬ ‫الزلت‬‫ليس القصد أن تكون الديمقراط َّية النموذج الكامل واملستوىف‪ ،‬ألنَّنا نعرف َّ‬
‫الغرض أن تكون يف حالة «القابل َّية لالكتامل» بأن تبارش االشتغال املضني والدائم عىل « َب َشهتا»‪ ،‬بأن تشتغل عىل ذاهتا بشكل متواصل من‬
‫أسميه الشكل الذي تكون عليه الديمقراط َّية‪.‬‬ ‫تصحيح األخطاء‪ ،‬تعديل األفكار واألحكام‪ ،‬مراجعة الربامج واملناهج‪ ...،‬إلخ‪ .‬هذا ما ّ‬
‫جمرد «هيكل» من املؤسسات والترشيعات واملامرسات التي يمكن أن حتيد عن أهدافها بالعدول‬ ‫أو بتعبري آخر‪ ،‬ال ُت َتزل هذه األخرية إىل َّ‬
‫عن مبادئها‪ ،‬لكن أن تكون يف انسجام مع «اهليئة» التي ُوجدت عليها‪ ،‬وهي أن تنبع من األمر الذي ُيضفي عليها املرشوع َّية والفاعل َّية‪،‬‬
‫تعممت فيها وأصبحت النموذج األقرب إىل روح‬ ‫وأعني بذلك «الشعب»‪ .‬إذا كانت الديمقراط َّية « َب َشة» هلا عالقة بده َّية بالبرش َّية التي َّ‬
‫املسمى «الشعب» (‪.)dèmos‬‬ ‫َّ‬ ‫فإن جتلياهتا تكون يف هذا‬ ‫هذه البرش َّية منذ وجودها عىل األرض‪َّ ،‬‬

‫‪  8‬ـ أفالطون‪« ،‬الجمهورية»‪ ،‬يف‪ :‬األعامل الكاملة‪ ،‬ترجمة شوقي داود متراز‪ ،‬األهلية للنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪.384/1 ،1994 ،‬‬
‫‪  9‬ـ املرجع نفسه‪.385/1 ،‬‬

‫‪53‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد شوقي الزين‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫أن ما ننعته بالشعب أو «ديموس» غالب ًا ما كان موضوع استخفاف‪،‬‬ ‫غري أنَّنا نصطدم هنا بعوائق كامنة يف هذا املفتاح اللغوي‪ ،‬وهي َّ‬
‫ألنَّه يستقطب يف ماديته احلرف َّية نعوت الوضاعة والطفولة العقل َّية‪ :‬غوغاء‪ ،‬دمهاء‪ ،‬سوقة‪ ،‬عا َّمة‪ ،‬رعاع‪ ،‬سواد‪ ..،‬إلخ‪ .‬انعطاف « َب َشة»‬
‫ألنا ُبنيت عىل دعامة ال‬
‫حمط احرتاس؛ َّ‬ ‫الديمقراط َّية عىل دعامة (ديموس) هو موضوع احتقار‪ ،‬وهو األمر الذي جعل هذه الديمقراط َّية َّ‬
‫تتو َّفر فيها الرشوط املثىل للحكم وتفتقر إىل الفضائل الرضور َّية لسياسة املدينة أو الدولة‪ .‬هلذا الغرض‪ ،‬ال يمكن أن حيكم الشعب « ُم َ‬
‫باشةً»‪،‬‬
‫َّ‬
‫وألن نظام احلكم‬ ‫متاس مبارش مع سياسة احلكم‪ ،‬نظر ًا لنقصان الفضيلة أو اخلربة من جمموع الشعب؛‬ ‫أن تكون « َب َشة» الديمقراط َّية يف ٍّ‬
‫ال حيتمل سياسة املجموع لذاته بذاته‪ ،‬لكن بوسيط هو بمنزلة املمثل (التمثيل السيايس) يف فرد أو أكثر‪ ،‬تبع ًا لطبيعة هذا النظام يف احلكم‪.‬‬

‫جمرد «تزكية»‪ ،‬بأن خيتار الشعب من يم ّث ُله أو من يم ّثلونه‪ ،‬مع الثقة املوضوعة يف هؤالء املمثلني‬‫لكن‪ ،‬هل ُت َتزل الديمقراط َّية هنا إىل َّ‬
‫مرشفة يف محاية الشعب بتوفري األمن والسعادة له؟ هل كانت هذه الصورة طبق األصل الذي نبعت منه الديمقراط َّية؟‬ ‫بأن يؤ ُّدوا أدوار ًا ّ‬
‫املرشعة؟ أمل تكن سيادة الشعب عىل نفسه بواسطة فرد‬‫أمل تكن هنالك باألحرى اخرتاقات وخمالفات‪ ،‬رغم الدساتري املوضوعة والقوانني َّ‬
‫حمط خطف لصالح أشكال أخرى يف احلكم (األوليغاريش‪ ،‬االستبدادي‪ ...،‬إلخ)‪ ،‬تكون فيه «وديعة»‬ ‫أو أفراد هلم الفضائل والكفاءات ّ‬
‫ألنا‬ ‫ٍ‬
‫مسوغ كاف لدى أفالطون يف رفض الديمقراط َّية‪َّ ،‬‬ ‫جمرد «ذريعة»؟ لقد كان امليل نحو هذه األشكال يف االخرتاق‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫الشعب َّ‬
‫وألنا متحو الرتاتب االجتامعي (الرتاتب الطبقي باملعنى احلديث) وتفرغ القوانني من مضامينها الردع َّية بوجود‬ ‫ألي كان أن حيكم‪َّ ،‬‬ ‫تتيح ٍّ‬
‫الكل سواسية‪ ،‬ويف‬ ‫مرشع ومطيع‪ .‬بجعل احلر َّية قيمة مطلقة بدالً من الفضيلة‪ ،‬بإسقاط القوانني التي تقتيض اإلذعان والطاعة‪ ،‬بجعل ّ‬ ‫ّ‬
‫يتحول إىل «بليثوس» (‪ ،)pléthos‬احلشد أو الكتلة‪.‬‬
‫سمى «ديموس» (الشعب) َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الوقت نفسه طغيان األغلب َّية عىل األقل َّية‪ ،‬فإن امل َّ‬

‫َّ‬
‫وألن ظهور العمل َّية الديمقراط َّية تواقت‬ ‫تكمن خطورة هذا االنتقال من الشعب إىل الكتلة يف كون الديمقراط َّية حتمل بذور نفيها‪،‬‬
‫حمط اهتامم السفسطائ َّية‪ ،‬التي دخل أفالطون يف مجباز فكري معها‪ ،‬خصوص ًا مع ممثلها‬ ‫مع صعود اخلطابة (‪ )rhétorique‬التي كانت ّ‬
‫بروتاجوراس (‪ .)Protagoras‬جاء االحرتاس األفالطوين من كون الديمقراط َّية ُت ّول الشعب إىل الكتلة (‪ّ ،)masse, pléthos‬‬
‫وحتول‬
‫جمرد كالم يميل إىل السفسطة والتنميق وإرادة‬ ‫اللوغوس احلي واجلديل يف بلوغ الفكرة والتامس احلقيقة إىل رصاحة مبتذلة (‪َّ ،)parrhésia‬‬
‫تتجسد فيها الديمقراط َّية‪ ،‬خمتزالً إ َّياها يف الكم (املساواة يف العدد‪ ،‬حكم‬
‫َّ‬ ‫أن أفالطون يناقش يف الغالب الدعامات التي‬ ‫التضليل‪ .‬املالحظ َّ‬
‫األغلب َّية‪ )...‬ويف النوع («الباريزيا» بدالً من «اللوغوس» أو السفسطة بدالً من الكالم احلي واملستقيم)‪ .‬هذه ر َّبام اهلياكل التي قامت‬
‫بتعليم الديمقراط َّية بوصفها مساواة بني األفراد وحر َّية يف التعبري واإلدالء بالرأي‪ .‬لك َّن املساواة من حيث الكم َّية ال تنفي العدالة من‬
‫حيث الكيف َّية‪ ،‬واالعتدال من حيث املامرسة والسلوك؛ وحر َّية التعبري ال تنتهي دائ ًام بالسفسطة والقول الفاتن واملضلل‪ .‬ينبغي قراءة أو‬
‫إن الديمقراط َّية ليست دائ ًام حكر ًا عىل السياسة‪.‬‬
‫إزاحة ثقاف َّية للقول َّ‬

‫‪ .2‬مفتاح لغوي أكسيموري‪ :‬االستحالة‬


‫اللعب عىل أوتار اللغة هو ما يكشف عن التوتُّر الكائن فيها‪ ،‬كوهنا لغة حتتمل اليشء ونقيضه‪ ،‬كام يف العديد من األلسنة العريقة مثل‬
‫أن دريدا كان عىل حق يف‬ ‫«فارماكون» (‪ )pharmakon‬يف اليونانية الدال عىل السم والرتياق‪ ،‬أو الداء والدواء يف الوقت نفسه‪ ،‬وأحسب َّ‬
‫استعامل «صيدلية أفالطون» ملعاجلة التناقض الكامن يف الديمقراط َّية نفسها يف هدم حتصيني للذات (‪10)destruction auto-immunitaire‬؛‬
‫املتعذرة (‪ )intraduisible‬وهي الكلمة( ‪ )Aufhebung‬التي جازفنا بتعريبها باللغوة (الزائد والزائل)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أو يف الكلمة األملان َّية ذات الرتمجة‬
‫وتعني أساس ًا جماوزة اليشء باالحتفاظ به‪ ،‬أو بعنارص منه‪ ،‬كاحتفاظ تشكُّالت احلارض بعنارص تراث َّية ماضية؛ أو يف الكلمة العرب َّية «النسخ»‬
‫التي تعني النقل أو الكتابة واملحو أو اإلزالة‪ .‬تكتيس االستحالة الوظيفة التناقض َّية ذاهتا‪ ،‬لكنه تنا ُقض دون إحراج‪ ،‬تناقض فيه تراص كام تتتابع‬
‫الكلامت املتناقضة يف «جرح لذيذ» أو «شمس مظلمة»‪ .‬هذا ما نسميه إذن باألكسيمور‪.‬‬

‫‪10 . Jacques Derrida, Voyous! Deux essais sur la raison, Paris, Galilée, 2003.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪54‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الطريق «املستحيل» نحو الديمقراط َّية‪ :‬من السياسة إىل الثقافة‬

‫حمط تساؤل وإشكال؟ هل يمكن للديمقراط َّية أن جتمع بني‬ ‫وأي تناقض يف الديمقراطية يمكنه أن يكون َّ‬‫أي أكسيمور أحتدَّ ث؟ ُّ‬ ‫عن ّ‬
‫اليشء ونقيضه؟ ما هذا اليشء ونقيضه إن ُوجد؟ لربام ملس دريدا هذا «الفارماكون» الكامن يف العملية الديمقراط َّية نفسها‪ ،‬كوهنا السم‬
‫سأوجه تساؤيل نحو وجهتني‬ ‫ّ‬ ‫الرش الذي ال بدَّ منه‪ ،‬واخلري الذي ال مناص منه؛ لكن‬ ‫ضارة ونافعة يف آن واحد؛ ُّ‬
‫والرتياق يف الوقت نفسه‪َّ ،‬‬
‫متحولة‪ ،‬يف هذا الوضع نفسه‪ .‬عندما أحتدث عن‬ ‫ّ‬ ‫يف االستحالة‪ ،‬كون الديمقراط َّية مستحيلة باملقارنة مع وضع برشي ما‪ ،‬ومستحيلة‪ ،‬أي‬
‫‪11‬‬
‫االستحالة‪ ،‬فإنَّني أقصد النفي واإلجياب مع ًا‪ ،‬التع ُّثر والعثور يف الوقت نفسه‪ ،‬وما عثر سوى من تع َّثر‪ ،‬وإن كانت السخرية األفالطونية‬
‫جمرد ارتياب من حصول الفيلسوف املنبطح أرض ًا‬ ‫من سقوط طاليس يف البئر من فرط ارشئباب عنقه يف السامء بحث ًا عن يشء ال جيده‪َّ ،‬‬
‫عىل يشء ُيعتدُّ به‪ .‬تط َّلع إىل الثريا‪ ،‬فوجد وجهه ّ‬
‫متمرغ ًا يف الثرى! لكن ما األمر املتع ّثر يف الديمقراط َّية واملعثور عليه فيها؟‬

‫‪« -‬استحالة» الديمقراط َّية‪ :‬التع ُّثر يف القياس‬

‫التصور الذي أخذ به الفالسفة القدماء يف نقدهم‬


‫ُّ‬ ‫والترصف‪ .‬هذا عىل األقل‬ ‫ُّ‬ ‫كل معيار بحجة حر َّية الرأي‬‫املتع ّثر يف الديمقراط َّية هو انتفاء ِّ‬
‫ألن من شأن هذه التجربة أن تضع يف صف واحد االستعدادات املتباينة كام‬ ‫للتجربة الديمقراط َّية األثين َّية عىل غرار أفالطون وأرسطو‪َّ .‬‬
‫متَّت اإلشارة إليها سابق ًا‪ .‬مطلب احلر َّية مطلب مضاد للقانون (‪ )anomique‬الذي يقتيض اإلذعان‪ ،‬ومضاد للرتاتب (‪ ،)anarchique‬ألنَّه‬
‫ُينفي (‪ )ana -‬القائد (‪ .)archos‬من اخلطأ ترمجة ‪ anarchisme‬بالفوضو َّية‪ ،‬وإنَّام بالسلوك املضاد للقيادة‪ ،‬سواء كانت زمرة أوليغارش َّية أو‬
‫كل إمالء َّبراين‪ ،‬ألنَّه سلوك جيعل من احلر َّية املبدأ واملامرسة‪ .‬انتفاء املبدأ القيادي (‪ )anarchè‬أو‬ ‫طبقة استبداد َّية؛ أي هو سلوك مستقل عن ِّ‬
‫أقل ما نُعتت به‬‫حترر ًا من هذه العالئق واإلكراهات‪ .‬هذا ُّ‬ ‫القانون (‪ )anomos‬هو األمر الذي جيعل الديمقراط َّية ممكنة يف مطالبتها باحلر َّية ُّ‬
‫الديمقراط َّية من لدن املناهضني هلا أو املشككني يف سالمة قيامها سلوك ًا سياسي ًا وديمومتها زمني ًا‪ ،‬عالوة عىل ُّ‬
‫تعممها عىل البرش‪.‬‬

‫أي نظام سيايس يقتيض باألحرى اخلضوع إىل املبادئ واإلذعان‬ ‫يكمن االعرتاض األول يف كون مطلب احلر َّية غامض ًا وملتبس ًا‪َّ ،‬‬
‫ألن قيام ّ‬
‫إىل القوانني‪ .‬كيف جتعل الديمقراط َّية يف مطلبها بداهة احلر َّية وهي تسعى أساس ًا ألن تتشكَّل باعتبارها نظاما سياسيا؟ نلمس هنا تناقض ًا‬
‫يف احلدود بني مطلب احلر َّية ورضورة قيام نظام سيايس ديمقراطي عىل اخلضوع إىل القانون واالحتكام إىل املبادئ والترشيعات‪ .‬أ َّما‬
‫ألن االختالف يف الرؤى واحلساسيات والتعارض‬ ‫االعرتاض الثاين فيتلخص يف استحالة أن جتتمع احلر َّيات الفردية يف وحدة جامعة‪َّ ،‬‬
‫يف السلوكيات واملصالح جيعل الوحدة أمر ًا هش ًا ومفرتض ًا‪ .‬قد ينجم عن احلريات املتعددة رصاع وتنافر‪ ،‬بحكم االختالف يف األذواق‬
‫والتصورات‪ ،‬وهذا األمر ُي ّطم أساسيات الفكرة الديمقراط َّية ذاهتا‪ .‬أ َّما االعرتاض الثالث فيكمن يف استحالة املساواة بني األفراد بدء ًا‬
‫من القاعدة‪ ،‬بحكم االختالفات املشار إليها سابق ًا‪ ،‬اختالفات كم َّية من حيث املِلك َّية الفرد َّية أو اجلامع َّية‪ ،‬واختالفات نوع َّية من حيث‬
‫التفاوت بني األفراد عىل مستوى النباهة والوعي والذكاء والفضيلة‪.‬‬

‫ال باملقارنة مع املطالب الكربى التي حتملها‪ ،‬وهي مطالب غامضة‬ ‫هذه االعرتاضات الثالثة هي التي جتعل الديمقراط َّية أمر ًا مستحي ً‬
‫وصعبة اإلنجاز عملي ًا‪ ،‬وعىل رأسها احلر َّية والوحدة واملساواة‪ .‬لكن‪ ،‬بقراءة أساسيات الفكرة الديمقراط َّية التي يقدّ مها أرسطو يف كتاب‬
‫كل ضابط أو مبدأ أو‬ ‫التحرر من ّ‬
‫ُّ‬ ‫أن احلر َّية ال تعني أساس ًا‬
‫«السياسات»‪ ،‬يمكن التخفيف من املفارقات الكامنة يف هذه الفكرة‪ ،‬وهي َّ‬
‫لكل نشأة ديمقراط َّية هو احلر َّية‪.‬‬‫إن رشط إمكان احلر َّية وجودها يف جمال يتَّسم باإلكراه لتامرس أدوارها فعلي ًا‪« :‬املبدأ القاعدي ّ‬
‫قانون‪ ،‬بل َّ‬
‫وإحدى أشكال احلر َّية أن تكون حاك ًام وحمكوم ًا بالتناوب»‪ .12‬هبذا املعنى‪ ،‬ال تنفي الديمقراط َّية فكرة أن يكون الفرد خاضع ًا للحكم‪.‬‬

‫‪ 11‬ـ أفالطون‪« ،‬محاورة ثيتياتوس»‪ ،‬املحاورات الكاملة‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬املجلد الخامس‪ ،‬ص‪« :189‬سقراط‪ :‬إنَّني سأوضح معناي‪ ،‬يا ثيودورس‪ ،‬باملالحظة الساخرة التي قيل‬
‫إ َّن الوصيفة الرتاقية الذكيَّة الحاذقة أطلقتها عن طاليس‪ ،‬وهو أنَّه كان تواقاً ملعرفة ما يجري يف السامء‪ ،‬وأنَّه مل يستطع أن يرى ماذا كان بني قدميه»‪.‬‬
‫‪12 . Aristote, Les Politiques, tr. P. Pellegrin, Paris, GF-Flammarion, 1993, Livre VI, Chap. II, p. 417.‬‬

‫‪55‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد شوقي الزين‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫عندما يقبل الفرد بأن يكون حمكوم ًا‪ ،‬فهذا ال ينفي من األساس حريته يف السلوك والرأي‪ ،‬ألنَّه يشتغل يف جمال من اإلكراه‪ ،‬وهو اخلضوع‬
‫إىل احلكم‪ ،‬واالشتغال يف جمال اإلكراه هو الذي يمنح للحر َّية داللتها األصيلة‪ .‬عندما تأخذ الديمقراط َّية بفكرة التناوب يف احلكم‪،‬‬
‫بأن الفرد ال َيكُم فقط‪ ،‬لكنَّه ُيكَم أيض ًا‪ ،‬وإال أضحت السلطة تس ُّلط ًا وخطت بذلك عتبة‬
‫أي التداول عىل السلطة‪ ،‬فهي تس ّلم مسبق ًا َّ‬
‫االستبداد‪.‬‬

‫من شأن هذه الفكرة يف التناوب أن حتقق املساواة يف احلكم عرب أدوات نعرفها عن ظهر قلب‪ ،‬مثل االختيار واالقرتاع والتصويت‬
‫التحول والذهاب‬
‫ُّ‬ ‫إن فكرة التناوب ُتقق االستحالة باملعنى احلريف لكلمة‬
‫وغريها من األساليب التي تضمن التداول عىل السلطة‪ .‬لنَ ُقل َّ‬
‫إىل األمام يف املامرسات السياس َّية‪ ،‬كام سأقف عند املسألة الحق ًا‪َّ .‬‬
‫ألن من شأن التناوب أو التداول أن تكون العملية دائر َّية‪ ،‬والدائرة هي‬
‫أكمل األشكال من منظور أرسطو‪ .‬من شأن هذا الشكل الدائري يف املامرسة السياس َّية أن يقدّ م لنا التعليل الكايف يف اعتبار «استحالة»‬
‫التحول والتقدُّ م نحو األمام‪ ،‬استحالة تعني الوقوف عىل‬ ‫ُّ‬ ‫الديمقراط َّية هو أساس ًا ُّ‬
‫حتوهلا يف املامرسات السياس َّية والعمل َّية‪ ،‬استحالة تفيد‬
‫النظام الكروي لألشياء يف سريورهتا املنتظمة‪ ،‬استحالة جتعل من اإليالة باملعنى السيايس ومن التأويل باملعنى الثقايف يف ممارسة السياسة‬
‫التحول يف الزمن واالرتقاء يف الروح‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫أمر ًا يبتغي االستحالة‪ ،‬ألنَّه يروم‬

‫نستشف هذه االستدارة يف االستحالة الديمقراط َّية من خالل خطاب غيتسبريج (‪ )Gettysburg‬بتاريخ ‪ 19‬نوفمرب ‪ 1863‬الذي قال‬
‫فيه إبراهام لينكولن (‪ )Abraham Lincoln‬مقولته الشهرية‪« :‬حكم الشعب‪ ،‬بالشعب وللشعب»‪ .‬كان الرئيس األمريكي يف سعيه نحو‬
‫أن االستدارة يف الديمقراط َّية من شأهنا أن تتيح التقدُّ م إىل األمام‪ ،‬فال تركد يف‬‫جماوزة احلرب األهل َّية بني ‪ 1861‬و‪ ،1865‬عىل يقني من َّ‬
‫فرد أو تركن يف زمن؛ واالستدارة‪ ،‬بوصفها أكمل األشكال‪ ،‬هي عنوان التداول والتناوب‪ .‬فال يشء يبقى مستقر ًا أو حكر ًا‪ ،‬بل ُّ‬
‫الكل‬
‫يتحول أو يستحيل‪ .‬لربام يكون فوكوياما قد استقى االكتامل يف نظام احلكم الديمقراطي من االستدارة نفسها بوصفها استحالة يف النُظم‬ ‫َّ‬
‫ُّ‬
‫ألنا استحالة قائمة عىل احلركة واحلر َّية‪ ،‬عىل التبادل والتداول‪ ،‬عىل املشورة واملحاورة‪ ...،‬إلخ‪ .‬كل هذه‬ ‫والتصورات‪َّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫والسلوكيات‬
‫ألنا مستحيلة يف األشكال األكثر اكتامالً وارتقا ًء‪.‬‬
‫القيم البرش َّية هي استدار َّية يف جوهرها َّ‬

‫‪« -‬استحالة» الديمقراط َّية‪ :‬العثور عىل املقياس‬

‫تُشكل الديمقراط َّية لذاهتا ما أسميه «اإليالة» تعبري ًا عن الكلمة اليونان َّية ‪ ،Politéia‬بوصفها جماالً يأخذ من تأويل الشعب لذاته وقدراته‬
‫املنطلق واملسرية‪ .‬اإليالة ليست بعدُ السياسة‪َّ .‬إنا العتبة املبدئ َّية واالكتامل يف نظام احلكم‪َّ .‬إنا «ثقاف» العملية السياس َّية نفسها‪َّ .‬إنا‬
‫يتأول فيها الشعب ذاته‪ ،‬يرى منطلقاته النظر َّية وغاياته العمل َّية يف دورة تارخي َّية أو حضار َّية تقول نظام وجوده وطريقة‬ ‫الطريقة التي َّ‬
‫يتلون هبا الشعب نحو نمط الكينونة التي يكون عليها‪ .‬يف تعيريه للفكرة‬ ‫جمرد السامت التي َّ‬ ‫اشتغاله االجتامعي والسيايس‪ .‬تتعدَّ ى اإليالة َّ‬
‫أن األغلب َّية املغلوب عىل أمرها‪ ،‬فقرية أو بائسة‪ ،‬تتحكَّم يف األقل َّية الثر َّية أو ذات خصال‬ ‫الديمقراط َّية‪ ،‬كان أفالطون قد تساءل كيف َّ‬
‫أن أفالطون كان يفكر من باب ذرائعي يأخذ بجدل الوسائل والغايات كام‬ ‫وفضائل كفيلة بإدارة الشؤون وتدبري احلياة املدن َّية؟ يبدو َّ‬
‫ناقشت املسألة حنه أرنت؛ ومل يأخذ القض َّية يف ُبعدها األنطولوجي الواسع‪ .‬ليست الديمقراط َّية مسألة ُحكم مثايل ينربي للحر َّية والعدل‬
‫واملساواة‪ ،‬مقوالت طوباو َّية صعبة اإلنجاز‪.‬‬

‫تواجد الشعب يف إقليم يد ّبر فيه شؤونه ويبتكر لذاته أشكاالً من السلوك‪ .‬تنعطف الديمقراط َّية عىل اإليالة التي تقول‬ ‫كل يشء ُ‬ ‫َّإنا قبل ّ‬
‫بأي معنى‬
‫التصور والسلوك؟ ّ‬ ‫ُّ‬ ‫حريته يف‬
‫تأول الوجود‪-‬يف‪-‬إقليم‪ :‬ما معنى أن يتواجد شعب يف إقليم ويامرس فيه ّ‬ ‫ب ُعمق نمط الكينونة وطريقة ُّ‬
‫يتأول وجوده يف هذا اإلقليم بأن يط ّبق فيه نظام ًا مفتوح ًا من اإليالة؟ عىل أن تكون اإليالة هنا ممارسة أدائ َّية (‪ )praxis‬تقول الطريقة التي َّ‬
‫يتأول‬ ‫َّ‬
‫ألنا طريقة تدفع‬
‫يتوجه إليها‪َّ ،‬‬‫فيها الشعب تواجده يف إقليم‪ ،‬طريقة حلق َّية أو دائر َّية‪ ،‬يرى هبا الشعب املبادئ التي ينطلق منها واألهداف التي َّ‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪56‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الطريق «املستحيل» نحو الديمقراط َّية‪ :‬من السياسة إىل الثقافة‬

‫لربام فقدت الشعوب َّ‬


‫كل ثقة يف الديمقراط َّية‪،‬‬ ‫التناوب يف احلكم أو التداول عىل‬
‫إىل األمام وتقول بجسارة وجدارة ُ‬
‫ألن هذه األخرية أضحت فكرة طوباو َّية‬ ‫َّ‬ ‫السلطة‪َّ ،‬‬
‫ألن املسألة استدارة بامتياز‪ ،‬عالوة عىل َّأنا إدارة‪ ،‬باملعنى‬
‫غري التقني للكلمة‪ ،‬غري التكنوقراطي‪ ،‬أي إدارة بوصفها استدارة يف‬
‫جراء هيمنة تقاليد أو ممارسات‬ ‫مستحيلة من َّ‬ ‫تداول الشؤون وإيالة األحكام‪.‬‬
‫مضا َّدة للروح الديمقراط َّية‪ :‬أوليغارش َّية ذات‬
‫مطامع اقتصاد َّية ونفع َّية‪ ،‬أنظمة استبداد َّية‬ ‫ألن تعريفها غالب ًا‬
‫إذا جاز لنا حتديد الديمقراط َّية دون تعريفها‪َّ ،‬‬
‫ختتزل اإلرادة والفعل يف الواحد املنفرد‬ ‫ما خضع العتبارات إيديولوج َّية يف حتويل الشعب إىل الكتلة‪ ،‬أو‬
‫«ديموس» إىل «بليثوس»؛ كتلة خام قابلة للقولبة حسب أغراض‬
‫واملتفرد يف سياسته للجموع الغفرية‪ ،‬يستقي‬ ‫ّ‬ ‫متليها األيادي احلاكمة أو املهيمنة؛ أقول إذا جاز لنا حتديد‬
‫منها الرشع َّية كم َّي ًا وينفي عنها ممارسة حر َّية‬ ‫الديمقراط َّية‪ ،‬بتأشري حقل االشتغال أو تأريف أرض َّية اإليالة‪ ،‬نقول‬
‫الرأي والسلوك نوع َّي ًا‬ ‫نسميه بالديمقراط َّية هو االستدارة يف أشمل معانيها وأشكاهلا‬
‫إن ما ّ‬‫َّ‬
‫وتناوب وتداول؛ هي أقرب إىل مفهوم «الدارة»‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫من إدارة وإيالة‬
‫تأول الشعب لتواجده يف إقليم؛ عىل غرار الدارة الكهربائ َّية التي تُشكّل نظام ترابط اخليوط أو األلياف‬ ‫والتناوب من داخل ُّ‬
‫ُ‬ ‫تقول اإلحاطة‬
‫حتض ًا وتس ُّيس ًا يف قدرته عىل تشكيل دارة يف اإليالة قائمة عىل املناوبة وال ُقدرة عىل حتقيق االنسجام‬
‫يتوهج الشعب ُّ‬‫وتوصيل الشحنات‪َّ .‬‬
‫تتلخص يف اجلشع األناين واالنفراد باحلكم‪.‬‬‫املبدئي بني األفراد يف إدارة الشؤون‪ ،‬بدرء أشكال البرت يف التداول والتوصيل التي يمكن أن َّ‬

‫سمى الشعب هو الصورة املتش ِّعبة من اإلرادات الفرد َّية التي يعكسها‪ .‬إنَّه شعب‪ ،‬ألنَّه حيمل التش ُّعب يف كيانه‪ ،‬وليس من السهل إدارة‬ ‫ُم َّ‬
‫التشاجر (‪querelle,‬‬
‫ُ‬ ‫جراء‬
‫التشجر (‪ )arborescence‬الذي ُيقال لتشابك الشجرة الوارفة بفروعها وأوراقها؛ ومن َّ‬ ‫ُّ‬ ‫جراء‬ ‫التش ُّعب‪ ،‬من َّ‬
‫والتشاحن‪ .‬إذا كان الرصاع (‪ )πόλεμος, polemos‬أبا األشياء مجيع ًا‪ ،‬كام قال هريقليطس قدي ًام‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫ُ‬ ‫‪ )dispute‬الذي ُيفيد الرصاع‬
‫الديمقراط َّية ليست سوى الطريقة التي تن ّظم هبا هذا الرصاع يف أدنى مستوياته احلضار َّية من جدال وسجال وعراك حزيب وحراك‬
‫شعبي وانتخاب وتصويت وغريها من أدوات االستدارة الديمقراط َّية التي متتهنها اآلالت الشعب َّية يف إيالتها لإلقليم الذي تتواجد فيه‪.‬‬
‫الديمقراط َّية هي عقلنة الرصاع يف األوجه احلضار َّية واملدن َّية من السلوك البرشي‪ ،‬وال بدَّ هلذه الديمقراط َّية من أن تكون استدار َّية لضامن‬
‫التناوب وا ُمليض ُقدُ م ًا نحو األمام‪ ،‬وإال ستلقى السكون والتع ُّثر واجلمود يف أشكال تس ُّلط َّية من األوليغارش َّية واالستبداد‪.‬‬

‫كل عملية ديمقراط َّية‪،‬‬‫التع ُّثر يف احلصول عىل مبدأ طوباوي من السلوك السيايس القويم‪ ،‬يقابله العثور عىل مقياس أساس وهو االستدارة يف ّ‬
‫ألن الديمقراط َّية صورة‬‫كفيلة بأن تُربز الطابع الدينامي للشعب‪ ،‬اخليوط واأللياف املتشابكة التي تقول تش ُّعبه اإلرادي يف التدبري اإلداري‪َّ .‬‬
‫كل التنميق الطوباوي واحلُلم املركَّب يف احلصول عىل أكمل ُحكم سيايس بال عثرات أو نقائص‪ .‬بل َّ‬
‫إن‬ ‫يف احلكم بسيطة ومبدئ َّية ال تتط َّلب ّ‬
‫كل إرادة نحو االكتامل‪ ،‬يشء شبيه بعمل السلب (‪ )travail du négatif, die Arbeit des Negativen‬عند هيغل‪ ،‬به‬ ‫النقيصة كامنة يف ّ‬
‫التواجد البرشي يف العامل‪ .‬كذلك‪ ،‬ال‬
‫ُ‬ ‫يكون الدفع نحو األمام‪ ،‬به يكون نفي القضية للحصول عىل الرتكيب وفق مسار جديل يقول دينام َّية‬
‫ألنا مستديرة الطبع‪ ،‬أي مستحيلة الرتكيبة‪« ،‬استحالة نفي» بعدم الوصول مطلق ًا إىل‬ ‫تشتغل الديمقراط َّية سوى بصورة دينام َّية وجدل َّية‪َّ ،‬‬
‫شكل كامل من احلكم السيايس‪ ،‬و«استحالة إجياب» بالوصول التدرجيي إىل أشكال من السلوك املحيل يف اإليالة والتدبري‪.‬‬

‫استدار َّية ودينام َّية‪ ،‬تقوم الديمقراط َّية عىل ما جاز يل تسميته يف مناسبات عدة «الالدون َّية»‪ .13‬تقوم هذه الالدون َّية عىل مبدأ مزدوج‪ :‬عدم‬
‫انفكاك األشياء عن بعضها بعض ًا من جهة؛ وانتفاء الدون َّية بني األشياء يف عالقتها ببعضه ًا بعض ًا من جهة أخرى‪ .‬عىل ذكر الدون َّية‪ ،‬يرشح‬

‫‪  13‬ـ طالع دراستنا‪ :‬محمد شوقي الزين‪« ،‬التشاكل الحضاري وأنظمة االختالف»‪ ،‬مجلة يتفكرون‪ ،‬عدد ‪ ،2016 ،9‬ص‪.196-194‬‬

‫‪57‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد شوقي الزين‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫وقت‪ ،‬فرق عظيم‬ ‫كل ٍ‬ ‫منعت مل يتزحزح أصحاب االستبداد‪ ،‬ويكون‪ ،‬يف ّ‬ ‫كنت قد‬
‫منحت مجيع ما ُ‬ ‫نسميه شعب ًا‪« :‬إذا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫روسو هذا الذي ّ‬
‫ِ‬
‫بني إخضاع مجع وإدارة جمتمع‪ ،‬وإذا ما استُعبد أناس متفرقون من ق َبل واحد بالتتابع‪ ،‬مهام كان عددهم‪ ،‬مل َأر هناك غري س ّيد وعبيد‪ ،‬ال‬
‫شعب ًا ورئيس ًا‪ ،‬وذلك كام لو كنت أرى تك ُّتالً‪ ،‬ال رشاكة‪ ،‬فال يوجد هنالك نفع عام وال هيئة سياسية‪ ،‬وال يعدو ذلك الرجل كونه فرد ًا‬
‫دائ ًام ولو استعبد نصف العامل‪ ،‬وليست مصلحته غري مصلحة خاصة عند فصلها عن مصلحة اآلخرين‪ ،‬فإذا ما هلك ذلك الرجل ظلت‬
‫وتتحول إىل ركام رماد بعد أن حترقها النار‪ .‬والشعب عند غروسيوس‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫إمرباطوريته متفرقة بال ارتباط‪ ،‬وذلك كالب ُّلوطة التي تنحل‬
‫يستطيع أن هيب نفسه مللك‪ ،‬والشعب عند غروسيوس‪ ،‬إذن‪ ،‬شعب قبل أن هيب نفسه مللك‪ ،‬وهذه اهلبة نفسها عقد مدين ينطوي عىل‬
‫أن ذلك العقد أقدم‬ ‫تشاور عام؛ ولذا يصلح درس العقد الذي يكون به الشعب شعب ًا قبل درس العقد الذي خيتار به الشعب ملك ًا‪ ،‬وبام َّ‬
‫من اآلخر بحكم الرضورة‪ ،‬فإنَّه أساس املجتمع احلقيقي»‪.14‬‬

‫خاصة عند‬ ‫اصطلحت عليه اسم الالدون َّية بطابعها املزدوج يف الرتا ُبط يف املصالح واملصائر‪ ،‬قوله «مصلحة َّ‬ ‫ُ‬ ‫يلخص روسو ُعصارة ما‬
‫التعسف واالستبداد؛ ويف نبذ الدون َّية‬‫ُّ‬ ‫أن الديمقراط َّية تدرأ أساس ًا أن تكون املصالح أنانية تقود إىل‬ ‫فصلها عن مصلحة اآلخرين»‪ ،‬بحكم َّ‬
‫أن الديمقراط َّية‬‫ال ال رشاكة»‪ ،‬بحكم َّ‬ ‫التي ُت ّول الشعب إىل الكتلة‪ ،‬وهو قوله‪« :‬مل َأر هناك غري س ّيد وعبيد [‪ ]...‬كام لو ُ‬
‫كنت أرى تك ُّت ً‬
‫بالتناوب والتداول‪ ،‬وهذا طبعها وسمتها‪ ،‬كوهنا قائمة عىل االستدارة والدينام َّية؛ وتدرأ الدون َّية يف وجود س ّيد‬ ‫ُ‬ ‫تطرح الرشاكة يف احلكم‬
‫أن املصالح العا َّمة مرتابطة ومتشابكة‪ ،‬تتبع‬ ‫يستأثر باحلكم وعبيد يف طاعته وحتت إمرته‪« .‬الالدون َّية» الكامنة يف الفكرة الديمقراط َّية هي َّ‬
‫تتفوق مصلحة عىل مصلحة‪ ،‬تبع ًا للمبدأ األساس‪:‬‬ ‫ُ‬
‫وتداخل إراداته الفرد َّية‪ ،‬فال تعلو إرادة عىل إرادة‪ ،‬وال َّ‬ ‫املسمى «الشعب» نظر ًا لتش ُّعبه‬
‫َّ‬
‫الكل يف ترابط أجزائه‪ ،‬فإنَّه ال أحد من األجزاء يعلو عىل األجزاء األخرى‪ ،‬بام‬ ‫«الكل وال أحد»‪ .‬إذا كانت الفكرة الديمقراط َّية تقوم عىل ّ‬ ‫ًّ‬
‫يف ذلك من ُينت َ‬
‫َخب ألداء وظائف ُ‬
‫وشغل مناصب‪.‬‬

‫تتبدَّ ى احليلة األوليغارش َّية أو االستبداد َّية يف استئثار جزء من الكل باحلكم ونسبة الفضيلة والذكاء والشجاعة إىل نفسه من أجل‬
‫الكل ليقول لألجزاء األخرى‪« :‬ال أحد»‪ ،‬أي ال أحد يعلو عىل أحد من حيث‬ ‫يتنصل من ّ‬ ‫إخضاع األجزاء األخرى إىل سلطته وهواه‪َّ .‬‬
‫تنصل منه‪ .‬تكمن خطورة هذا االحتكار املشني للحكم باسم مبدأ ديمقراطي‬ ‫الكل الذي َّ‬‫املبدأ الديمقراطي‪ ،‬لكنَّه ال يعدُّ نفسه جزء ًا من ّ‬
‫مز َّيف زيف ال ُعملة النقدية‪ ،‬كون اجلزء الذي يتحكَّم يف الكل يقوم بتحويل الشعب إىل كتلة ُيعدّ هلا كيفام يشاء‪ ،‬بالقوة والردع والتخويف‬
‫والتخوين؛ ُي ّول املواطنني إىل عبيد أو رعايا ُيميل عليهم السلوكيات امليكانيك َّية الواجب احتذاؤها دون استيعاهبا أو املشاورة بشأهنا أو‬
‫هش ًا‪،‬‬
‫متاسك الشعب ّ‬ ‫وقو ًة جيعل ُ‬
‫أن هذا االحتكار يف احلكم عنو ًة َّ‬‫االعرتاض عليها بام يضمنه حق الرأي واخليار‪ .‬األخطر من ذلك هو َّ‬
‫ال للتشظي واالهنيار بانتفاء الفرد املستأثر باحلكم من‬ ‫ال لالنفجار يف ثورة عارمة إذا بلغ االستبداد منتهاه يف القسوة والقهر‪ ،‬أو قاب ً‬‫قاب ً‬
‫جراء موت طبيعي أو اغتيال‪.‬‬ ‫َّ‬

‫إن األمر الذي يستدير ويستحيل يف املبدأ الديمقراطي بمجموع اإلرادات يف إيالة احلكم وتدبري السياسة‪ُ ،‬يصبح يف االستئثار‬ ‫َّ‬
‫الكل بنفي‬‫جسدها يف ذاته‪ ،‬فيكون الناطق باسم ّ‬ ‫االستبدادي للحكم عبارة عن «الواحد املنفرد» الذي يسلب من املجموع إرادته ل ُي ّ‬
‫الكل ال يتك َّلم‬
‫ألن َّ‬
‫ومتحجر‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الكل بنفي املبادرة واملسامهة‪ .‬نجد أنفسنا أمام نظام يف احلكم جامد‬ ‫الرأي واملشورة‪ ،‬والفاعل باسم ّ‬
‫والتلصص‪ .‬هكذا‬ ‫ُّ‬ ‫للتبصص‬
‫ُّ‬ ‫كل مكان‬ ‫خيوله له الواحد املنفرد حتت املراقبة الصارمة للمخربين الذين يزرعهم يف ّ‬ ‫يتحرك سوى ما ّ‬
‫وال َّ‬
‫كانت األنظمة الشمول َّية تشتغل‪ ،‬بوصفها آلة ج َّبارة توهم باحلركة‪ ،‬لكنَّها يف حقيقة األمر ماكينة مع َّطلة مضا َّدة حلركة التاريخ وسريورة‬
‫وتتجمد‪ ،‬وهي ُعرضة لألكسدة والتآكل إىل غاية‬‫َّ‬ ‫فإنا تتو َّقف‬
‫تتحرك ماكينة احلكم وفق االستدارة التارخي َّية والطبيع َّية‪َّ ،‬‬
‫الطبيعة‪ .‬عندما ال َّ‬

‫‪  14‬ـ جان جاك روسو‪ ،‬العقد االجتامعي‪ ،‬ترجمة عادل زعيرت‪ ،‬مؤسسة األبحاث العربيَّة‪ ،‬ط‪ ،1995 ،2‬الباب األول‪ ،‬الفصل الرابع‪ ،‬ص‪( 41‬ترجمتي معدَّلة نسبياً عن‬
‫الرتجمة العرب َّية)‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪58‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الطريق «املستحيل» نحو الديمقراط َّية‪ :‬من السياسة إىل الثقافة‬

‫التفكُّك والتشظي‪ .‬هذا ما حتاول الفكرة الديمقراط َّية جتنُّبه بإقحام احلركة الدينام َّية يف الفعل السيايس‪ ،‬وإرشاك ّ‬
‫الكل يف صوغ القواعد‬
‫وتدبري الشؤون السياس َّية واالجتامع َّية‪.‬‬

‫‪ .3‬التو ُّتر األصلي بين السياسة والثقافة‪ :‬طبول الصاخب وأشغال الصامت‬
‫أن السري وفق قوانني الطبيعة والتاريخ هو الذي يضمن القيمومة يف اإلقليم والديمومة يف الزمن‪.‬‬ ‫الفكرة الديمقراط َّية عىل يقني من َّ‬
‫وعىل الرغم من املحاكمة السلب َّية التي كانت الديمقراط َّية موضوع ًا هلا عند بعض الفالسفة القدماء يف نقدهم للتجربة األثين َّية عىل غرار‬
‫ِّ‬
‫املتجذر يف الطبيعة البرش َّية‪ ،‬وتقوم‬ ‫أفالطون‪َّ ،‬‬
‫فإن الديمقراط َّية تبدو أقرب إىل السري وفق قوانني الطبيعة والتاريخ‪َّ -1 :‬إنا تراعي الرصاع‬
‫بعقلنته بتنظيم هذا الرصاع يف أوجه إنسان َّية معقولة (جدال وسجال‪ ،‬نقاش عمومي‪ ،‬معرتك االنتخابات‪ ...،‬إلخ)؛ ‪َّ -2‬إنا « َب َشة»‬
‫بأنا حاملة رسالة حضار َّية هي احلفاظ عىل‬‫البرش َّية نفسها‪ ،‬كوهنا املقياس الذي تستعني به هذه البرش َّية يف الشعور بتواجدها يف األرض‪َّ ،‬‬
‫هيم طبيعة هذه احلركة‪،‬‬‫النوع اإلنساين بجذوة العقل التي تذكيها يف األفراد والشعوب؛ ‪ 3‬ـ َّإنا تساير التاريخ يف حركته نحو األمام‪ ،‬وال ُّ‬
‫تناوب يف املواقع‪ ،‬تداول‬‫إن كانت تقدُّ م َّية (احلداثة) أو لولب َّية دون هدف (ما بعد احلداثة)‪َّ .‬إنا حركة نحو األمام‪ ،‬استدارة مع الزمن‪ُ ،‬‬
‫حول املواقف‪ ...،‬إلخ‪.‬‬

‫يبقى السؤال يف معرفة أين نضع الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني‪ :‬هل يف املجال السيايس وهو وضع بدهي بحكم النسبة أو العالقة‪،‬‬
‫كون الديمقراط َّية عبارة عن نظام سيايس يقوم عىل جمموعة من التقاليد واألحكام والربوتوكوالت؟ أم يف املجال الثقايف وهو وضع‬
‫روحي بحكم األصالة‪ ،‬كون الديمقراط َّية عبارة عن فكرة وممارسة يؤطرمها التكوين الرتبوي للفرد والتجارب واخلربات السامية التي‬
‫يكتسبها شعب يف مساره التارخيي؟ تقول العالقة املتوتّرة بني السياسة والثقافة فحوى نسبة الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني‪ .‬تستأثر‬
‫ألنام تنتميان فعلي ًا إىل املجال السيايس باهلياكل املوضوعة كاملجلس الشعبي أو الربملان وباألطر التنظيم َّية‬‫السياسة هبذه الفكرة واملامرسة‪َّ ،‬‬
‫جر الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني إىل جماهلا القائم عىل القيم الرتبو َّية والتكوين َّية والروح َّية‪َّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫كاالنتخابات‪ .‬غري َّ‬
‫أن الثقافة حتاول َّ‬
‫التع ُّثر القائم يف السياسة جيد عثوره املفاجئ يف الثقافة‪.‬‬

‫‪ -‬السياسة‪ :‬من اآللة إىل اإليالة‬

‫جراء هيمنة تقاليد أو ممارسات‬ ‫ألن هذه األخرية أضحت فكرة طوباو َّية مستحيلة من َّ‬ ‫لربام فقدت الشعوب َّ‬
‫كل ثقة يف الديمقراط َّية‪َّ ،‬‬
‫مضا َّدة للروح الديمقراط َّية‪ :‬أوليغارش َّية ذات مطامع اقتصاد َّية ونفع َّية‪ ،‬أنظمة استبداد َّية ختتزل اإلرادة والفعل يف الواحد املنفرد‬
‫واملتفرد يف سياسته للجموع الغفرية‪ ،‬يستقي منها الرشع َّية كم َّي ًا وينفي عنها ممارسة حر َّية الرأي والسلوك نوع َّي ًا‪ ...‬إلخ‪ .‬بفقدان الثقة‬
‫ّ‬
‫يتم تفعيل األدوات الديمقراط َّية من‬ ‫تتحول إىل أدوات خالية من املعنى أو إىل آلة بدون روح‪ُّ .‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫يف الديمقراط َّية‪ ،‬فإن هذه األخرية‬
‫يتم نسف الروح الديمقراط َّية من أساسها عرب‬ ‫مشورة واقرتاع وتصويت‪ ،‬لكن العتبارات كامنة يف «متالزمة الالعب املتالعب»‪ُّ ،‬‬
‫جمرد آلة تشتغل يف ملء وظائف وفراغات‪ ،‬لكنَّها يف ذاهتا‬ ‫التشويش أو التشويه أو الغش واالحتيال‪ ،‬أي التزوير‪ .‬تصبح الديمقراط َّية َّ‬
‫خيول هلا مشاركة اجلميع يف التدبري السيايس وصوغ األحكام‪ ،‬بشكل مبارش عرب النقاش العمومي أو غري مبارش‬ ‫فارغة من املعنى الذي ّ‬
‫عرب اخليار احلر‪.‬‬

‫يمكن أن نطرح هنا جمموعة من التساؤالت التي متتحن السياسة يف استئثارها للفكرة واملامرسة الديمقراطيتني‪ :‬هل األدوات املو َّظفة‬
‫جمرد ماكينة عضو َّية أو ميكانيك َّية تؤ ّدي أدوار ًا أو وظائف‬
‫يف جتسيد الفكرة واملامرسة كفيلة بالتعبري عن الروح الديمقراط َّية؟ أليست اآللة َّ‬
‫جمرد وظائف تقن َّية أشبه بعمل الروبوط يف أداء سلوكيات‬ ‫بأي معنى ال يمكن دائ ًام اختزال الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني إىل َّ‬
‫خاصة؟ ّ‬ ‫َّ‬
‫متكررة؟ أعزو اآللة هنا إىل جمموع الوظائف القانون َّية واهليكل َّية التي قالت عنها أرنت َّإنا ختضع إىل جدل الوسائل والغايات‪َّ ،‬‬
‫ألن األثر‬ ‫ّ‬

‫‪59‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد شوقي الزين‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫جمرد صناعة معيار َّية يف الطريقة التي ينبغي أن يكون عليها السلوك‪ .‬عملت‬ ‫ختزل هذا األخري إىل َّ‬
‫حمل الفعل (‪ ،)action‬ف ُي َ‬ ‫حيل َّ‬
‫(‪ُّ )œuvre‬‬
‫أرنت عىل جعل السياسة يف املسافة البين َّية لألفراد‪ ،‬وهي املسافة عينها التي تتجىل فيها احلر َّية‪ .‬لذا‪ ،‬جوهر السياسة هو احلر َّية‪ .‬غري َّ‬
‫أن‬
‫يتم ردمها‪ ،‬هي األخرى‪،‬‬ ‫املسافة البين َّية التي من املفروض أن تكون مرنة كمفاصل اهليكل العظمي الذي يتيح احلركة املرنة للجسم‪ُّ ،‬‬
‫بإكراهات وقرس َّيات تعيق احلركة السياس َّية‪.‬‬

‫وكل عالقة بين َّية (بني األفراد‪ ،‬بني‬‫متحركة يف وظيفتها‪ُّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫أن الديمقراط َّية مستديرة يف جوهرها‪،‬‬ ‫نعود دائ ًام إىل الفكرة السابقة وهي َّ‬
‫فإن ذلك نسف للعالقة‬ ‫يتم ردمها بقواعد ثابتة يف السلوك‪ ،‬قواعد ُتىل وال ُتارس بحر َّية وأرحي َّية‪َّ ،‬‬
‫املؤسسات‪ ،‬بني األفراد واملؤسسات) ُّ‬
‫وتتأسس بوصفها عالقة» ‪،‬‬
‫‪15‬‬
‫َّ‬ ‫بأن السياسة «تولد أو توجد يف الفضاء البيني أو الوسيط‬ ‫التحجر واجلمود‪ .‬س َّلمت أرنت َّ‬
‫ُّ‬ ‫وسقوط يف‬
‫فإن مفهوم السياسة ينتفي من هذا الفضاء‪ ،‬وفكرة‬ ‫لكن إذا كان هذا الفضاء البيني أو الوسيط مردوم ًا بمجموعة من القواعد القرس َّية‪َّ ،‬‬
‫يتحرك بفجوات مفصل َّية رابطة بني الفقرات والعظام‪،‬‬ ‫الديمقراط َّية تنتفي هي األخرى من السياسة‪ .‬عىل غرار اهليكل العظمي الذي َّ‬
‫تتحرك بالفضاء البيني واحلر بني األفراد‪ ،‬وتتحقق الديمقراط َّية هبذا الفضاء البيني الذي يتيح لألفراد اخليار احلر والتواصل‬ ‫فإن السياسة َّ‬‫َّ‬
‫يتحرك «اهليكل العظمي للسياسة» دون فجوات مفصل َّية؟ بتعبري آخر‪ :‬كيف يمكن للهياكل السياس َّية وتنظيامهتا‬ ‫َّ‬ ‫والتداول‪ .‬كيف‬
‫احلرة للمواطنني إذا مل تكن العالقة البين َّية مرنة‪ ،‬سلسة‪ ،‬ناعمة‪ ،‬تفيد أساس ًا الليونة يف‬
‫تتحرك بحر َّية وتتيح احلركة َّ‬
‫املتجسدة يف الدولة أن َّ‬
‫ِّ‬
‫األفعال واملبادرات؟‬

‫املقرر عندها) يرتبط باحلياة‪.‬‬


‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬تربط أرنت السياسة بالعامل‪ ،‬أو الفعل بالعامل‪ ،‬عىل اخلالف من العمل (باملعنى البيولوجي َّ‬
‫فإن هذا العامل كروي عىل شاكلة كرو َّية األرض التي ينتمي إليها النوع‬ ‫إذا كان العامل مرتع الفعل (‪ ،)action‬وبالتايل جمال السياسة‪َّ ،‬‬
‫البرشي‪ ،‬وكرو َّية األفعال (االقتصاد َّية‪ ،‬التجار َّية‪ ،‬املال َّية‪ ،‬السربان َّية‪ )...‬التي تتشكَّل منها العوملة (‪)mondialisation, Globalization‬‬
‫ذات الطابع االستداري يف املجال الكوكبي لألرض‪ :‬تداول البضائع بني القارات‪ ،‬سيولة األموال بني البنوك وعىل الشبكة‪ ...،‬إلخ‪.‬‬
‫بدون هذه االستدارة املرنة‪/‬املرحة‪ ،‬يفقد الفعل عامل َّيته‪ ،‬أي أنَّه يفقد الصورة الكرو َّية واالستدار َّية التي ألجلها هو «فعل» داخل العامل‪:‬‬
‫ويتطور‪ ،‬ينمو و ُينتج‪ ،‬يتداول ويتواصل‪ ...،‬إلخ‪ .‬هبذا الشكل‪« ،‬معنى السياسة‬ ‫َّ‬ ‫ويتحول‪ ،‬يدور ويستدير‪ ،‬يتقدَّ م‬ ‫َّ‬ ‫يتجول‬
‫َّ‬ ‫ويدِّ د‪،‬‬
‫يتجدَّ د ُ‬
‫وألنا تنعطف عىل الفعل املتحرك يف العامل‪ .‬تضيف أرنت بمسحة‬ ‫ألن احلرية بين َّية‪ ،‬يف املسافات والفجوات‪ ،‬بني‪-‬األفراد‪َّ ،‬‬ ‫هو احلر َّية» ‪َّ ،‬‬
‫‪16‬‬

‫رش ال ُبدَّ منه للحفاظ عىل البرشية‪ ،‬فهذه األخرية بدأت يف االختفاء من العامل‪،‬‬ ‫أن السياسة ليست سوى ٍّ‬ ‫تشاؤم َّية‪« :‬إذا كان من الصحيح َّ‬
‫أن معناها انقلب نحو غياب املعنى»‪.17‬‬ ‫أي َّ‬

‫بكل ثقله احليوي أو‬ ‫املسمى «النموذج االقتصادي‪/‬الليربايل» طغى ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ال نجد صعوبة يف فقه املسألة عندما نُدرك َّ‬
‫أن الرباديغم الثالث‬
‫البيولوجي يف ضامن املأكل واملسكن وامللبس واالستهالك‪ ،‬وانترص «العمل» (جمال احلياة) عىل «الفعل» (جمال العامل)‪ ،‬بأفول الرباديغم‬
‫املسمى «النموذج السيايس‪/‬األخالقي»‪ ،‬فانتفى املعنى من العامل باختفاء البرش َّية ذاهتا من العامل‪ .‬مل ت ُعد هذه البرش َّية يف « َب َشة» متاس‬ ‫الثاين َّ‬
‫متمرغة يف إشباع حاجات بيولوج َّية يف احلفاظ عىل النوع البرشي‪ ،‬إىل درجة َّ‬
‫أن الديمقراط َّية‬ ‫مع العامل ملامرسة احلر َّية فيه‪ ،‬لكنَّها أصبحت ّ‬
‫تم إحلاقها بالعمل‪ ،‬بينام يكمن جوهرها يف الفعل املتصل بالعامل‪ .‬من املفروض‬ ‫تم اختزاهلا يف ضامن املأكل واملرشب واملسكن‪ ،‬أي َّ‬ ‫نفسها َّ‬
‫ينجر عنها التنظيم العقالين للبرش‪ ،‬السلوك‬ ‫أن تكون الديمقراط َّية مسألة إيالة يف املامرسة الرباكس َّية للحر َّية‪ ،‬يف أداء أدوار والقيام بوظائف ُّ‬
‫احلر لألفراد‪ ،‬النقاش العمومي بني الذوات العاقلة‪ ،‬االنخراط يف ممارسة السياسة فعلي ًا باملشاركة واملعارضة واالقرتاح واالقرتاع‪ ...،‬إلخ‪.‬‬

‫‪15 . Hannah Arendt, Qu’est-ce que la politique? Tr. Jérôme Kohn, Paris, Seuil, 1995, p. 42.‬‬
‫‪16 . Ibid, p. 64.‬‬
‫‪17 . Ibid, p. 67.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪60‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الطريق «املستحيل» نحو الديمقراط َّية‪ :‬من السياسة إىل الثقافة‬

‫أن طغيان البارديغم الثالث اليوم وشيوع العمل (بمفهوم أرنت دائ ًام)‪ ،‬حيوالن دون أن تتجاوز الديمقراط َّية الفضاء احليوي‬ ‫غري َّ‬
‫يف ضامن حاجات بيولوج َّية نحو الفضاء الرباكيس يف أداء أدوار وممارسة مهام بكل الطاقات الفرد َّية واجلامع َّية يف جتسيد السلوك احلر‬
‫فإن الفكرة الديمقراط َّية أضحت رساب ًا ُينظر إليه َّ‬
‫بالقوة‬ ‫واحلصيف‪ .‬باختفاء البرش َّية من جمال العامل‪ ،‬أي بانتفاء احلر َّية من جمال السياسة‪َّ ،‬‬
‫بالقوة العمل َّية‪ .‬اختزال النشاطات البرش َّية كلها يف نظام العمل أ َّثر سلب ًا عىل الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني‪،‬‬
‫النظر َّية وال ُيقبض عليه َّ‬
‫ربر هذه الديمقراط َّية يف توفري احلاجيات البيولوج َّية حتت العنوان العريض «حقوق اإلنسان»‪ ،‬وهنا بالضبط يلعب‬ ‫ألنَّنا سنجد أنفسنا ن ّ‬
‫االستبداد عىل الوتر احلساس للجوقة السياس َّية بأن يربط الديمقراط َّية بالعمل (توفري املأكل واملسكن وتغطية النفقات) ويستبعدها من‬
‫ألن ربط الديمقراط َّية بالفعل معناه تقليص جمال االستبداد واالنفراد باحلكم والقرار نحو جمال االنخراط اجلامعي يف التدبري‬ ‫الفعل‪َّ ،‬‬
‫السيايس‪.‬‬

‫‪ -‬الثقافة‪ :‬تربية الطبع‪ ،‬تربية السلوك‬

‫إذا كانت السياسة تستأثر بالفكرة واملامرسة الديمقراطيتني‪ ،‬لكن ال تل ّبي حقوقهام املرشوعة باملقارنة مع األشكال السياس َّية القائمة‬
‫يف إقليم وزمان‪ ،‬أوليغارش َّية كانت أم استبداد َّية؛ فهل يمكن للثقافة أن تؤ ّدي هذا الدور‪ ،‬وإن كان جماهلا حمصور ًا باملقارنة مع السياسة؟‬
‫لفك اإلهبام واستبعاد الغموض‪ ،‬ال أطرح هنا‬ ‫أي دور تؤ ّديه عىل مستوى العناية بالفكرة واملامرسة الديمقراطيتني؟ ِّ‬
‫ماذا نقصد بالثقافة؟ ُّ‬
‫ال عن السياسة‪ ،‬وإنَّام بوصفها «الكائن‪ -‬نحو»‪ ،‬مثلام السياسة هي «السلوك‪ -‬بني»‪ ،‬هي جمموع الوظائف البين َّية‪ ،‬بني‪-‬األفراد‪،‬‬ ‫الثقافة بدي ً‬
‫أن الثقافة تعتني باحلدود التي تُشكّل فيام بينها عالقات‪ ،‬عندما تقوم‬ ‫بني‪-‬املؤسسات‪ ،‬كام ألفينا ذلك سابق ًا‪ .‬ما أقصده بالكائن‪-‬نحو‪ ،‬هو َّ‬
‫السياسة يف العالقات ذاهتا‪ .‬العناية باحلدود معناها العناية باألفراد تربو َّي ًا‪ ،‬بأن تكون هلم الصيغ الكفيلة من أجل تثمني القول والفعل‬
‫السياسيني‪ .‬ال يمكن أن تستقيم العالقة البين َّية لألفراد‪ ،‬أي جمال السياسة‪ ،‬ما مل يكن األفراد أنفسهم عىل استعداد ألداء مهام رياد َّية‬
‫تتدخل الثقافة يف تقويم األفراد تربو َّي ًا وعمل َّي ًا‪.‬‬
‫واالضطالع إجياب َّي ًا بالفكرة واملامرسة الديمقراطيتني‪ .‬هنا َّ‬

‫وأخص بالذكر جون ديوي‬ ‫ُّ‬ ‫كانت هنالك جتارب مفيدة يف جعل الثقافة يف ُصلب الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني عرب وسيط الرتبية‪،‬‬
‫إن الرتبية هي تنمية‪ )Growth( 18‬أو تطوير يف امللكات والقوى‬ ‫يصب يف الفكرة القائلة َّ‬
‫ُّ‬ ‫ال جلي ً‬
‫ال‬ ‫(‪ )John Dewey‬الذي خ َّلد عم ً‬
‫واالستعدادات‪ ،‬وهي َحر َّية بأن تلعب أدوار احلُر َّية يف السلوك الديمقراطي‪ .‬حتى قبل مؤلفه الشهري «الديمقراط َّية والرتبية»‪ ،‬كان‬
‫بثقاف قبيل من أجل ثقافة بعد َّية‪ُ ،‬يشارك فيها ويشرتك هبا‬ ‫ٍ‬ ‫ديوي قد و َّطد فكرته يف مقالته «قناعتي الرتبو َّية» ومفادها َّ‬
‫أن الفرد يتق َّيد‬
‫كل تربية تقوم عىل مشاركة الفرد يف الوعي االجتامعي للعرق البرشي‪ .‬تبدأ هذه السريورة بال دراية الفرد‪،‬‬ ‫أن َّ‬
‫مع اإلنسان َّية‪« :‬أعتقد َّ‬
‫قبل امليالد نفسه‪ ،‬وتشرتط قوى الفرد بشكل مستمر‪ ،‬متأل وعيه وتُشكّل عاداته‪ ،‬تُعيل من أفكاره وتُوقظ أحاسيسه وعواطفه‪ .‬هبذه‬
‫رث الرأسامل املد ّعم‬‫يتوصل الفرد تدرجي َّي ًا إىل املشاركة يف الذخائر العقل َّية واألخالق َّية التي راكمتها البرش َّية‪ .‬فهو َي ُ‬‫َّ‬ ‫اللواعية‪،‬‬ ‫الرتبية َّ‬
‫للحضارة»‪.19‬‬

‫حيث تنمية القوى وامللكات‪ ،‬ولكن جتعل منه «الكائن‪-‬نحو» عىل‬ ‫ُ‬ ‫اجلواين من‬
‫ال تكتفي هنا الرتبية بتقويم الفرد عىل املستوى َّ‬
‫يتوجه نحو العامل باملشاركة يف صوغ أساسيات السلوك وا ُمل ُثل التي حيتذهيا‪ .‬املفردات التي استعملها ديوي‬
‫رباين‪ ،‬إنَّه كائن َّ‬
‫الصعيد ال َّ‬
‫اصطلحت عليه اسم «الثقاف»‪،‬‬
‫ُ‬ ‫من قبيل «سريورة بال دراية»‪« ،‬الرتبية الالواعية»‪« ،‬مرياث رأس املال احلضاري» ُ‬
‫تدخل كلها يف ما‬

‫‪18 . John Dewey, Democracy and Education. An Introduction to the Philosophy of Education, the MacMillan Society, New York, 1930,‬‬
‫‪Chap. IV: Education as Growth, p. 49 - 62.‬‬
‫‪19 . John Dewey, «My Pedagogic Creed», the School Journal, vol. LIV, n°3 (January 16, 1897), E.L. Kellog & Co., New York, p. 77.‬‬

‫‪61‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد شوقي الزين‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫حالة كائنة تسوس نظام احلقيقة لدى الفرد‪ ،‬وجتعل منه «الكائن‪-‬نحو» يف اندفاعه جتاه العامل‪ ،‬حيمل يف ذاكرته وجسده إرث ًا جيعله يف‬
‫مقام املشاركة واملزامحة‪ُ ،‬يبادر ويساهم‪ ،‬يتواصل ويتفاعل‪ .‬فهو حيمل ثقاف ًا مع َّين ًا تبع ًا للنشأة والبيئة والذاكرة‪ ،‬ويشرتك مع غريه يف‬
‫سمها ديوي التنمية‬ ‫دت بفكرة التكوين التي َّ‬ ‫تشكيل ثقافة تتعدَّ د أسامؤها ملسم َّيات ممكنة‪ :‬حوار‪ ،‬بناء‪ ،‬تنمية‪ ،‬تكوين‪ ...،‬إلخ‪ .‬إذا تق َّي ُ‬
‫فإنا تُؤ ّدي األدوار‬
‫عز األنوار والرومانس َّية البيلدونغ (‪َّ ،)Bildung‬‬ ‫سمها األملان يف ّ‬ ‫باملعنى الطبيعي للكلمة (‪ ،)Growth‬والتي َّ‬
‫قمت بتسمية هذا التكوين الداخيل‬ ‫ُ‬ ‫الثقاف َّية يف تشكيل فرد له القابل َّية للتنمية الذات َّية داخل َّي ًا من أجل املشاركة اجلامع َّية خارج َّي ًا‪.‬‬
‫للفرد بالكلمة «تربية» ملا يف ذلك من إبراء يف الطبع ونحت يف القوى وامللكات‪ ،‬ويمكن أخذها مقلوب ًا اسرتاتيج َّي ًا ومقصود ًا للكلمة‬
‫«تربية»‪.‬‬

‫مت‬
‫ثم يف الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني؟ سبق يل أن قدَّ ُ‬ ‫ما عسى هذه الكلمة أن تُقدّ مه من معقولية جديدة يف فكرة الثقافة أوالً‪َّ ،‬‬
‫ثم يف تبيان إسهامها يف‬ ‫قمت بإقحام أساسيات هذه الكلمة يف حتديد فكرة الثقافة ً‬
‫أوال‪َّ ،‬‬ ‫اخلطوط العريضة للتربية يف دراسة مستقلة‪ .20‬إذا ُ‬
‫أعول عىل املسائل التالية‪ .1 :‬باملقارنة مع فكرة الرتبية بوصفها تنمية عند جون ديوي‪ ،‬التربية طريقة يف‬ ‫مفهوم الديمقراط َّية ثاني ًا‪ ،‬فإنَّني ِّ‬
‫اخللقة السليمة واخلُ ُلق الكفيل بمواجهة العامل؛ ‪ .2‬التربية طريق نحو الثقافة‪َّ ،‬إنا بمثابة العتبة الطبيع َّية يف االشتغال‬ ‫نحت الطبع بوهب ِ‬
‫تسمى هبا الفر ُد َب َش ًا‪ ،‬وألنَّه خيتلط بالبرش َّية التي يتقاسم معها اإلرث احلضاري املشرتك‪ .‬ال َب َشة كناية عن الطبع‬ ‫عىل «ال َب َشة» التي َّ‬
‫سمه‬‫والسمت؛ ‪ .3‬التربية عملية مستمرة يف التنمية اخلُ ُلق َّية مثلام هي عليه التعرية بالنسبة إىل الطبقات اجليولوج َّية‪ .‬هناك ما َّ‬ ‫والسليقة َ‬
‫روسو «القابل َّية لالكتامل» (‪ )perfectibilité‬التي ليست الكامل‪ ،‬وإنَّام االشتغال احلثيث واملستمر عىل النقائص والعثرات التي ال ّ‬
‫ينفك‬
‫عنها اإلنسان بوصفه كائن ًا حمدود ًا‪ ،‬خمتوم ًا عليه بالتناهي (‪.)finitude‬‬

‫إن الرتبية هي تنمية‪ ،‬هذا يتوقف عىل طريقة إدراك التنمية‪ .‬بالنسبة‬ ‫تقوم التربية مقام التنمية‪ ،‬وحول التنمية يقول ديوي‪« :‬عندما نقول َّ‬
‫فإن ‪ .1‬السريورة الرتبو َّية ليست هلا غاية خارج ذاهتا‪،‬‬‫والتطور أو النمو هو احلياة‪ .‬إذا ترمجنا ذلك يف ما ُيعادله تربو َّي ًا‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫إلينا‪ ،‬احلياة تنمية‪،‬‬
‫والتحول املستمر» ‪ .‬لربام بدت التنمية سريورة داخل َّية‬
‫‪21‬‬
‫ُّ‬ ‫وإنَّام هي الغاية يف ذاهتا؛ ‪ .2‬السريورة الرتبو َّية مسار يف إعادة التنظيم وإعادة البناء‬
‫اخللقة واخلُ ُلق لدى الفرد‪ ،‬وبدت التربية سريورة آل َّية يف نحت الطبع من‬ ‫وهلا غايتها يف ذاهتا‪ ،‬ألهنا عمل الطبيعة يف وهب االكتامل يف ِ‬
‫يتكون‪ ،‬وإنَّام هي الطريقة التي‬
‫بتدخل عوامل أخرى خارج الفرد الذي َّ‬ ‫أن التربية ال ُت َتزل يف السريورة اآلل َّية ُّ‬‫خارج رشطه الطبيعي‪ .‬غري َّ‬
‫رباين للمشاركة واملسامهة‪ .‬بتعبري‬ ‫يتكون هبا الفرد « َب َش ًا»‪ ،‬يف تربية َب َشته‪ ،‬ويف تنمية برشيته التي جتعل منه «الكائن‪ -‬نحو» يف سعيه ال َّ‬ ‫َّ‬
‫ويتحول فيه‪ ،‬بترصيف رأس املال أو اإلرث‬ ‫َّ‬ ‫يتحصل عليه الفرد من «الثقاف» قبل َّي ًا‪ ،‬يقوم بترصيفه يف «الثقافة» بعد َّي ًا‪ُ ،‬ي ّول به‬ ‫َّ‬ ‫آخر‪ ،‬ما‬
‫احلضاري إىل صفقات ثقاف َّية وتداول َّية‪.‬‬

‫مستمرة‪ ،‬أو اشتغال حثيث ومتواصل‪ ،‬تكمن غايته يف ذاته‪ ،‬ألنَّه اشتغال براكيس (‪ُ )praxis‬يفيد‬ ‫َّ‬ ‫بأنا سريورة‬ ‫ينعت ديوي املسألة َّ‬ ‫ُ‬
‫يتجل «الكائن‪ -‬نحو» للفرد املشتغل عىل َب َشته‬‫َّ‬ ‫املشاركة واملسامهة واملقاسمة‪ ،‬وهي كلها قيم ديمقراط َّية ذات غايات إنسان َّية ُمثىل‪.‬‬
‫طبيع َّي ًا وذات َّي ًا‪ ،‬واملشتغل عىل َب َشيته ثقاف َّي ًا وتواصل َّي ًا‪ ،‬يف ال ُقدرة عىل تداول القول والفعل‪َّ ،‬‬
‫ألن القول والفعل مها سمة ال َب َشية‪،‬‬
‫ُعمر املجال الكوكبي لألرض‪ .‬اإلنسان ظاهرة نُطق َّية‪ ،‬يقول‬ ‫أن اإلنسان الكائن‪-‬الناطق‪-‬الوحيد من جمموع الكائنات التي ت ّ‬ ‫بحكم َّ‬
‫والتصورات املصاحبة هلا‪ .‬فهو إذ يتك َّلم‪ ،‬فإنَّه يوصل إىل اآلخرين صورة ومعنى‪ ،‬وهو يف‬ ‫ُّ‬ ‫خزان الكلامت‬ ‫شيئ ًا مفهوم ًا باملقارنة مع َّ‬
‫يتصور ما يسمع‪ ،‬يتخ َّيل ما حيكي أو يقرأ‪ .‬إذا كانت الصورة تو ِّفر له َّ‬
‫اخلزان‬ ‫َّ‬ ‫ذاته «كائن‪ -‬من‪ -‬أجل‪ -‬الصورة»‪ُ ،‬يدرك ما يرى‪،‬‬
‫يتحرك وفق رضورة طبيع َّية فحسب‪ ،‬يشرتك فيها مع احليوان يف إبداء رغبة‬ ‫فإن الفعل يو ّفر له جمال احلركة‪ .‬ال َّ‬ ‫الرمزي يف التواصل‪َّ ،‬‬

‫‪  20‬ـ محمد شوقي الزين‪« ،‬نظريَّة «البيلدونغ» وتأسيس فكرة الثقافة»‪ ،‬مجلة «يتفكرون»‪ ،‬عدد ‪ ،4‬صيف ‪ ،2014‬ص‪.205-188‬‬
‫‪21 . J. Dewey, Democracy and Education, Op. cit. p. 59.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪62‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الطريق «املستحيل» نحو الديمقراط َّية‪ :‬من السياسة إىل الثقافة‬

‫أصبح الفرد العريب يستشعر احلاجة إىل‬ ‫أو التعبري عن مح َّية‪ ،‬لكن تبع ًا لغاية ثقاف َّية هي جتسيد احلر َّية يف‬
‫الديمقراط َّية ‪ ،‬يتفنَّن يف إتيان قواعدها‬ ‫العامل بإبراز الفعل سلوك ًا حر ًا ومعقوالً‪.‬‬

‫بالتثقيف الذايت ‪ ،‬رغم شيوع التكوينات‬


‫إذا كان اإلنسان يتمتَّع هباتني اخلاص َّيتني‪ ،‬ومها القول والفعل وفق‬
‫املضا َّدة يف شكل ُعقم سيايس ُينتج األوهام‪،‬‬ ‫فإن سمة «الكائن‪ -‬نحو»‬‫خمططات عقل َّية واستعدادات ُخ ُل َّقية‪َّ ،‬‬
‫وحلم ديني ُينتج األمنيات‪ .‬أصبحت احلاجة‬ ‫«التواجد‪ -‬مع» (‪ ،)Mitsein‬ألنَّه يتواجد‪ -‬مع‪ -‬اآلخرين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُت ّقق‬
‫ال بعد فشل السياسة‬ ‫إىل الواقع َّية أمر ًا عاج ً‬ ‫يتوجه نحوهم‪ ،‬يعقد روابط معهم يف شكل مصالح مشرتكة‪ .‬ليس‬ ‫َّ‬
‫غريب ًا أن ُتدِّ د حنه أرنت كلمة «مصلحة» باملعنى الغريب املتداول‬
‫‪22‬‬
‫ومتحجرة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وصريورهتا أيدولة جامدة‬
‫(‪ )intérêt, interest‬يف الكلمة الالتين َّية ( ‪ ) inter-est‬والتي تعني‬
‫وانحسار الدين يف تد ُّين آيل َّفرت منه الروح‬ ‫تواصل البرش وحتقيق السياسة‬‫ألن جمال ُ‬ ‫حرفي ًا «الكينونة‪ -‬بني»‪َّ ،‬‬
‫يتعزز هذا املجال «البيني» الذي‬ ‫بوصفها حر َّية هو جمال « َب ْيني»‪َّ .‬‬
‫ُثمنه الثقافة‪ ،‬أن يكون‬
‫تستأثر به السياسة باملجال «النحوي» الذي ت ّ‬
‫تسمى هبا برش ًا‪ ،‬وله «وجهة» يقصدها وهي التواجد‪ -‬مع‪-‬‬ ‫التوجه نحو‪ ،‬أن يكون له «وجه» من حيث بداهة ال َب َشة التي َّ‬ ‫ُّ‬ ‫الفرد قادر ًا عىل‬
‫اآلخر من حيث بداهة ال َب َش َّية اجلامعة‪ .‬عندما يناقش ديوي إسهام الرتبية يف الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني‪ ،‬فإنَّه يضع رشط ًا لذلك‬
‫وهو‪ .1 :‬واقع َّية الفكرة واملامرسة بوصفهام مثاالً أعىل يبتغي التجسيد‪ ،‬و‪ .2‬استحالة هذه الواقع َّية يف شكل احلياة االجتامع َّية (‪a Form of‬‬
‫التواجد‪-‬مع‪ ،‬باالشرتاك يف القول والفعل قصد بناء قيم ديمقراط َّية فاعلة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ )social Life‬بأن تستخلص أساسيات‬

‫جمرد آلة يف‬‫حتقيق هذا الرشط املزدوج مرهون بجعل الرتبية يف ُصلب الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني‪ ،‬وإال أصبحت الديمقراط َّية َّ‬
‫االقرتاع وجمموع املكاسب البيولوج َّية املضمونة للفرد املهموم باملعيش العضوي‪ .‬الديمقراط َّية مسألة روح يشتغل عىل ذاته يف حمض‬
‫أن حتقيق شكل احلياة االجتامع َّية الذي تتداخل فيه املصالح وتُوىل أمه َّية‬ ‫خيص الرتبية‪ ،‬نُشري قبل ِّ‬
‫كل يشء إىل َّ‬ ‫«الكائن‪ -‬نحو»‪« :‬فيام ُّ‬
‫أن املجتمع الديمقراطي يويل اهتامم ًا بليغ ًا للرتبية املتداولة واملن َّظمة من املجتمعات التي ليست‬
‫قصوى للتقدُّ م وأيض ًا للتسوية‪ ،‬يقتيض َّ‬
‫أن الديمقراط َّية ال‬ ‫املسوغ‪ ،‬وهو َّ‬
‫يف حاجة إىل ذلك» ‪ .‬ربط الديمقراط َّية بالرتبية مسألة جوهر َّية بالنسبة إىل جون ديوي‪ ،‬ونعرف ج ّيد ًا ّ‬
‫‪23‬‬

‫احلرة‪ .‬اختزال الديمقراط َّية يف شكل َّيات صورية‬ ‫ُعمر أركان السياسة وتُعطي االنطباع اخلاطئ أو املض ّلل يف املامرسة َّ‬‫ُت َتزل يف شكل َّيات ت ّ‬
‫قائمة عىل االقرتاع والتصويت‪ ،‬هو أساس ًا حتويل الفرد من ظاهرة نُطق َّية معقولة إىل ظاهرة صوت َّية فارغة أو ُمفرغة من مضامينها املعقولة‬
‫ووهاج ًا يف النقاش العمومي‪ ،‬بأن يعرتض عىل‬ ‫صوت لصالح مم ّثل سيايس‪ ،‬لكن أن يبقى الكالم ح ّي ًا َّ‬ ‫والعقالن َّية‪ .‬ال يكتفي الفرد بأن ُي ّ‬
‫سياسات أو ينتقد خيارات‪ ،‬وينخرط بالقول والفعل يف تقديم اقرتاحات أو بدائل‪.‬‬

‫ال تنتهي الديمقراط َّية باالقرتاع يف صناديق االنتخاب‪ ،‬لكن تبدأ أساس ًا من هذا االقرتاع بأن جتعل املامرسة السياس َّية رهن املراقبة‬
‫مستمرة لذات‬
‫َّ‬ ‫املستمرة‪ ،‬ما دامت الديمقراط َّية هي االشتغال املستمر للقول احلي والفعل البنَّاء‪ .‬إذا كانت الرتبية أيض ًا تنمية‬
‫َّ‬ ‫واملحاسبة‬
‫مستمرة للمواطن املنخرط يف العمل السيايس‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫فإنا يف العمل َّية الديمقراط َّية عبارة عن هتيئة‬
‫الفرد‪ ،‬تربية متواصلة يف الطبع والقرحية‪َّ ،‬‬
‫أن الديمقراط َّية تستبعدُ مبدأ السلطة اخلارج َّية‪ ،‬جتد مبدأ آخر يف االستعداد اإلرادي ويف املصلحة‪ :‬ال يمكن ابتكار هاتني القيمتني‬ ‫«بحكم َّ‬
‫سوى بالرتبية [‪ ]...‬الديمقراط َّية هي أكثر من شكل يف احلكومة‪َّ :‬إنا نمط يف احلياة االجتامع َّية‪َّ ،‬إنا جتارب مشرتكة‪ ،‬قابلة لالقتسام‬

‫‪22 . H. Arendt, The Human Condition, The University of Chicago Press, Second Edition, 1958, p. 182‬‬
‫‪23 . J. Dewey, Democracy and Education, Op. cit. p. 100 - 101.‬‬

‫‪63‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد شوقي الزين‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫والتداول»‪ .24‬ال غبار عىل فكرة ديوي‪ :‬الديمقراط َّية حركة واستدارة ال يمكن اختزاهلا يف شكل من احلكومة ِّ‬
‫بكل هياكلها ووظائفها‬
‫أثمنها بفكرة الثقافة التي تو ّفر أساسيات «الكائن‪-‬نحو» و«التواجد‪-‬مع»‪َّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫اآلل َّية‪ ،‬القانون َّية والتنظيم َّية‪ .‬هذه الفكرة بالضبط التي ّ‬
‫الثقافة تطرح مشكالت أنطولوج َّية وأنثروبولوج َّية عندما تكتفي السياسة باألشكال التنظيم َّية‪.‬‬

‫املستمرة أو التنمية املتواصلة بتعبري ديوي‪ ،‬وبالتايل َّ‬


‫فإن الديمقراط َّية ال‬ ‫َّ‬ ‫تذهب الثقافة إىل أبعد من اهلياكل الثابتة‪َّ .‬إنا حركة بالتربية‬
‫تتحرك نحو األمام‪ ،‬تبدأ من االقرتاع نفسه وال‬ ‫َّ‬ ‫تم االقرتاع من أجلها‪َّ ،‬إنا استدارة‬ ‫تتجمد يف هياكل ومؤسسات أو برامج سياس َّية َّ‬ ‫َّ‬
‫ألنا تضع القول والفعل البرشيني يف ُصلب احلياة السياس َّية واالجتامع َّية‪ ،‬يف قلب احلياة اليوم َّية احلبىل باإلمكانات الثقف َّية‬ ‫تنتهي به‪َّ ،‬‬
‫واملامرسات الثقاف َّية‪ .‬نلمس ذلك يف حتديد السامت اجلوهر َّية للديمقراط َّية من منظور ديوي‪« :‬توسيع فضاء النشاطات املشرتكة وحترير‬
‫املتنوع من ال ُقدرات الشخص َّية مها أبرز خصائص الديمقراط َّية»‪ .25‬لسنا هنا إزاء تعريف آيل للديمقراط َّية من خالل معجم سيايس‬ ‫األمر ّ‬
‫معروف (تصويت‪ ،‬اقرتاع‪ ،‬حزب‪ ،‬برنامج‪ ،‬هيئات‪ ،‬مؤسسات‪ ...،‬إلخ)‪ ،‬لكن أمام حتديد حيوي ودينامي‪ُ ،‬يربز الديمقراط َّية ثقافة فاعلة‬
‫واحلس النقدي يف إيالة شؤون املدينة أو الدولة وإدارة‬ ‫ِّ‬ ‫من خالل النشاطات احل َّية املشرتكة وال ُقدرات الشخص َّية يف تنمية الرؤية الغائرة‬
‫العمليات االقتصاد َّية واالجتامع َّية‪.‬‬

‫كل األحوال‪ ،‬تنخرط الثقافة يف حتديد جوهر الديمقراط َّية مثلام تُدرج هذه األخرية الثقافة بوصفها إنارة يف ال ُقدرات وامللكات‬ ‫يف َّ‬
‫كل إيالة وتدبري‪َّ .‬إنا مسألة تكوين مستمر للفرد الذي‪ ،‬عندما ُيصبح مواطن ًا‪ ،‬يؤ ّدي أدوار ًا تربو َّية بتنمية مستدامة‬ ‫الواجب جتسيدها يف ِّ‬
‫لل ُقدرات والقرائح التي هبا تشتغل احلياة السياس َّية واالجتامع َّية‪ .‬عندما قدَّ م شيرشون تعريف ًا للثقافة‪ ،‬وهو خطيب روماين ورجل سيايس‬
‫أي حقل‪،‬‬ ‫شهري‪ ،‬فإنَّه حدَّ دها عىل َّأنا تنمية باملعنى الذي أخذ به ديوي‪ ،‬مربز ًا ال ُبعد الطبيعي هلذه التنمية وال ُبعد الثقايف للفالحة‪َّ :‬‬
‫«إن َّ‬
‫مها كان خصب ًا‪ ،‬ال يمكنه أن ُينتج بال فالحة‪ ،‬واألمر نفسه مع النفس بال تعليم [‪ ]...‬فالحة النفس هي الفلسفة‪ :‬فهي التي تقتلع بشكل‬
‫يتطور»‪ .26‬الثقافة والفلسفة‬ ‫كل ما يمكنه أن يقتني حماصيل وافرة عندما َّ‬ ‫راديكايل الرذائل وجتعل النفوس يف وضع َّية تلقي البذور وتزرع َّ‬
‫ألن هذه األخرية كانت مضمرة يف جمموع النشاطات الرتبو َّية‬ ‫أن القدماء عرفوا الفلسفة ومل يعرفوا بعدُ مفهوم الثقافة‪َّ ،‬‬ ‫مرتادفتان‪ ،‬بحكم َّ‬
‫من تكوين وتشكيل وتنمية يف القوى وامللكات بنزع الرذائل وزرع الفضائل‪ .‬تأيت الديمقراط َّية لتتل َّبس هذه األدوار الرتبو َّية‪ ،‬وتعيد‬
‫اكتشاف أصلها التارخيي وفصلها الزمني‪« :‬البايديا» (‪ )Paideia‬أو الرتبية الثقاف َّية باملعنى الذي درسه فرنر ياغر‪.27‬‬

‫بأي معنى؟‬
‫خاتمة‪ :‬الطريق «المستحيل»‪ّ ،‬‬
‫تعممتا يف األقاليم واألزمنة‬
‫أن الديمقراط َّية عريقة‪ ،‬ليس بموجب األصل اليوناين الذي جعل منها مقولة وفكرة َّ‬ ‫ندرك بال لبس كيف َّ‬
‫املتعاقبة‪ ،‬لكن بموجب االستدارة التي ُبنيت عليها‪ ،‬وهي إتاحة احلركة والسلوك الدينامي واجلديل‪ ،‬وبموجب القيم التي تشكَّلت عليها‪،‬‬
‫كل تفكري منهجي حول املهام السياس َّية والتفاعالت‬ ‫كل خيار وقرار‪ ،‬أي جعل الرتبية والثقافة يف قلب ّ‬ ‫وهي وضع الفضيلة يف مركز ّ‬
‫االجتامع َّية‪ .‬إذا كانت الديمقراط َّية ال ُت َتزل يف هياكل جامدة‪ ،‬لكن تنبع من احلركة اجلدل َّية والدينام َّية يف النقاش والتبادل الرمزي‪ ،‬فهذا‬
‫احلس النقدي‪.‬‬
‫التحول واالرتقاء من جمموع القيم التي تد ّبرها يف تربية الطبع البرشي وتنمية ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ألنا دائمة‬ ‫جيعل منها فكرة «مستحيلة»‪َّ ،‬‬
‫السؤال امللتبس‪ :‬ماذا عن الفكرة «املستحيلة» للديمقراط َّية يف السياق التداويل العريب اإلسالمي؟ هل يمكن االنتقال من «استحالة‪ -‬سلب»‬
‫والتحجر نحو احلركة التي جتعل ممكن ًا االستدارة الديمقراط َّية من تشاور وتداول وخيار حر؟‬
‫ُّ‬ ‫إىل «استحالة‪ -‬إجياب»‪ ،‬باالنتقال من اجلمود‬

‫‪24 . Ibid. p. 101.‬‬


‫‪25 . Ibid.‬‬
‫‪26 . Cicéron, Tusculanes, II, 5; in: Œuvres complètes, tr. Nisard, Paris, Dubeauchais, 1840.‬‬
‫‪27 . Werner Jaeger, Paideia. La formation de l’homme grec, Paris, Gallimard, 1964.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪64‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الطريق «املستحيل» نحو الديمقراط َّية‪ :‬من السياسة إىل الثقافة‬

‫ألن هذا األخري كان خيضع يف األزمنة السابقة عىل الثورات‬ ‫واملتحجرة للسلوك السيايس‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫فتحت الثورات العرب َّية ثغرة يف النواة الصلبة‬
‫إىل قرس َّية نظام احلكم القائم عىل احتكار أدوات التعبري واملامرسة الديمقراط َّية‪ .‬كانت هذه األخرية «شكل َّية» يف املبنى‪ ،‬فارغة من املعنى‪،‬‬
‫إن الدول العرب َّية اإلسالم َّية متارس قسط ًا من السلوك الديمقراطي عرب االنتخابات‪ .‬لكن‬ ‫تؤدي وظائف آل َّية‪ ،‬هلا قيمة «التق َّية»‪ ،‬بالقول َّ‬
‫الواحد‪-‬املتفرد باحلكم‬
‫ّ‬ ‫ألن القول والفعل كانا مسلوبني من أجل‬ ‫تعب عن الروح الديمقراط َّية ذاهتا‪َّ ،‬‬ ‫أن هذه «الشكل َّيات» مل تكن ِّ‬ ‫نعرف َّ‬
‫تم التعبري عن احلاجة إىل ممارسة الديمقراط َّية‬
‫(قائد‪ ،‬حزب واحد‪ ،‬جمالس شعب َّية صور َّية‪ .)...‬باندالع االنتفاضات يف أكثر من بلد عريب‪َّ ،‬‬
‫فعلي ًا وليس شكل َّي ًا‪ ،‬حقيق ًة وليس جماز ًا‪ .‬وإن كانت التجربة يف مهدها‪ ،‬مع العثرات املصاحبة هلا بصريورة بعض الثورات حروب ًا أهل َّية‪،‬‬
‫جراء التع ُّثر امليداين‪ .‬يكون «العثور‪ -‬عىل» من ُصلب «التع ُّثر‪-‬‬
‫ثن العزائم من َّ‬ ‫فإن العثور عىل اجلوهرة النادرة للمامرسة الديمقراط َّية مل ُي ِ‬ ‫َّ‬
‫جراء االشتغال عىل النقائص تكون الطريق نحو االكتامل يف الفضائل‪.‬‬ ‫ألن التجارب خماطرات وعثرات‪ ،‬ومن َّ‬ ‫يف»‪َّ ،‬‬

‫كل اشتغال عىل السلب‬ ‫«متحولة» باالستحالة الكامنة يف ّ‬


‫ّ‬ ‫كل حال‪َّ .‬إنا طريق‬ ‫هل الطريق «مستحيلة»؟ َّإنا طريق غري مسدودة عىل ّ‬
‫بمجاوزته جدل َّي ًا ودينام َّي ًا‪ .‬يستشعر الفرد العريب هذه الرضورة يف جماوزة «التع ُّثر‪ -‬يف» نحو «العثور‪ -‬عىل»‪ ،‬يف امتحان قدراته عىل‬
‫ظل‬‫ألنا برهنت عىل حدودها وفشلها يف ّ‬ ‫أن الشكل َّيات مل ت ُعد تكفي‪َّ ،‬‬‫املجاوزة واجرتاح أساليب إنجاز املامرسة الديمقراط َّية‪ .‬يعرف َّ‬
‫مهها الوحيد مراعاة املصالح الض ّيقة للخاصة‪ ،‬مستبعد ًة املصلحة العا َّمة نحو استهالك خطايب ودعائي من الثرثرة‬ ‫أنظمة استبداد َّية كان ُّ‬
‫واهلرج‪ .‬أصبح الفرد العريب يستشعر احلاجة إىل الديمقراط َّية روح ًا وثقاف ًة‪ ،‬يتفنَّن يف إتيان قواعدها بالتثقيف الذايت والتكوين الفردي‪،‬‬
‫رغم شيوع التكوينات املضا َّدة يف شكل ُعقم سيايس ُينتج األوهام‪ ،‬وحلم ديني ُينتج األمنيات‪ .‬أصبحت احلاجة إىل الواقع َّية والفاعل َّية‬
‫ومتحجرة‪ ،‬وانحسار الدين يف تد ُّين آيل وميكانيكي َّفرت منه الروح‪ .‬مالذ‬ ‫ّ‬ ‫ال بعد فشل السياسة وصريورهتا أيدولة جامدة‬ ‫أمر ًا عاج ً‬
‫وحس ًا‪ ،‬يف تع ُّلم أبجديات السلوك‬ ‫َّ‬ ‫الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني يف أشكال التنمية الذات َّية والثقافة النبيهة‪ ،‬يف ازدهار الفرد حدس ًا‬
‫الديمقراطي‪َّ .‬إنا ليست أمنيات مستحيلة‪َّ .‬إنا االستحالة املتط ّلعة نحو آفاق واسعة‪.‬‬

‫‪65‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد شوقي الزين‬ ‫ العدالة والديمقراطية‬:‫ملف العدد‬

‫مراجع‬
.1994 ،‫ بريوت‬،‫ األهلية للنرش والتوزيع‬،‫ ترمجة شوقي داود متراز‬،‫ املحاورات الكاملة‬،‫ـ أفالطون‬
.1995 ،2‫ ط‬،‫ مؤسسة األبحاث العرب َّية‬،‫ ترمجة عادل زعيرت‬،‫ العقد االجتامعي‬،)‫ـ روسو (جان جاك‬
-Arendt Hannah, «What is Freedom ?», in : The Portable Hannah Arendt, ed. Peter Baehr, Penguin Books,
NY, 2000.
-Id., Qu’est-ce que la politique ? tr. Jérôme Kohn, Paris, Seuil, 1995.
-Id., The Human Condition, The University of Chicago Press, Second Edition, 1958.
-Aristote, Les Politiques, tr. P. Pellegrin, Paris, GF-Flammarion, 1993.
-Cicéron, Tusculanes, II, 5 ; in : Œuvres complètes, tr. Nisard, Paris, Dubeauchais, 1840.
-De Certeau Michel, « Corps torturés, paroles capturées », in : Luce Giard (éd.), Michel de Certeau, Centre
Georges Pompidou, 1987, coll. « Cahiers pour un temps ».
-Derrida Jacques, Voyous ! Deux essais sur la raison, Paris, Galilée, 2003.
-Dewey John, Democracy and Education. An Introduction to the Philosophy of Education, The MacMillan
Society, New York, 1930.
-Id., « My Pedagogic Creed », The School Journal, vol. LIV, n°3 (January 16, 1897), E.L. Kellog & Co., New
York.
-Dunn John, «Démocratie : l’état des lieux », tr. Pierre-Emmanuel Dauzat, in : Situations de la démocratie,
sous la direction de Marcel Gauchet, Pierre Manent et Pierre Rosanvallon, Paris, Gallimard/Le Seuil, 1993,
coll. « Hautes études ».
-Ferry Luc, L’Anticonformiste, Paris, éd. Denoël, 2011, p. 268.
-Foucault Michel, « La vérité et les formes juridiques », in : Philosophie. Anthologie, éd. Arnold I. David-
son et Frédéric Gros, Paris, Gallimard, 2004, coll. « Folio Essais ».
-Fukuyama Francis, The End of History and the Last Man, Free Press, 1992.
-Jaeger Werner, Paideia. La formation de l’homme grec, Paris, Gallimard, 1964.
-Valéry Paul, « L’idée fixe », in : Œuvres II, Paris, La Pléiade, 1960

2017 )10( ‫العدد‬


66
‫بريشة الفنان رشيد باخوز من املغرب‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫نحو إعادة استشكال الديمقراط َّية‬


‫في عالقتها بالعدالة‬

‫حممد أندليس*‬

‫‪ .1‬مدخل منهجي لمقاربة حقل الفلسفة السياس َّية المعاصرة‬


‫متس القضايا واملسائل‬ ‫أن حقل الفلسفة السياس َّية املعارصة قد عرف منذ تسعينيات القرن املايض خلخلة وزحزحة مل َّ‬ ‫ممَّا ال شك فيه َّ‬
‫التي كانت مواضيع للبحث العلمي والسجال الفكري والتساؤل والتحليل الفلسفيني فحسب‪ ،‬بل طالت تلك اخللخلة الكثري من‬
‫والتصورات وآل َّيات النظر‪ ،‬فكان نتيجة ذلك ظهور منظورات جديدة‪ ،‬ومعايري مغايرة‪ ،‬مل تكن معروفة ومتداولة‬ ‫ُّ‬ ‫املفاهيم واملقوالت‬
‫أهم مظاهر اجلدَّ ة التي طالت املناظرة الفلسف َّية السياس َّية املعارصة‪ ،‬نشري‬
‫من قبل‪ .‬ولكي ندرك بشكل ملموس وبكيفية دقيقة بعض ّ‬
‫أن االهتامم الفلسفي قد انزاح يف الفرتة األخرية عن مقاربة بعض التيامت التي كانت إىل حدود األمس القريب تُعترب تيامت مركز َّية‬ ‫إىل َّ‬
‫يف اخلطاب السيايس احلديث واملعارص‪ ،‬نظري موضوعة السلطة‪ ،‬والسيادة‪ ،‬وطبيعة القانون‪ ،‬وأسس احلق‪...‬إلخ‪ ،‬لقد أصبح االهتامم‬
‫تتم إثارهتا واستدعاؤها لتقويم‬ ‫منص َّب ًا أساس ًا عىل قيم‪ :‬مثل العدالة‪ ،‬واإلنصاف‪ ،‬واحلر َّية‪ ،‬واملساواة‪ ،‬واجلامعة‪ ،‬واجلنس؛ وهي قضايا ُّ‬
‫إن املشهد الفكري‬ ‫املؤسسات‪ ،‬أو الربامج السياس َّية‪ ،‬أو النظريات السياس َّية‪ ،‬أو املشاريع املجتمع َّية‪ ،...‬ولكي نجيل الصورة أكثر نقول َّ‬
‫أقل‪ .‬فاحلجج واألدلة املقدَّ مة لتسويغ الطروحات وتربير‬ ‫للفلسفة السياس َّية هو اآلن أشدُّ اختالف ًا ممَّا كان عليه قبل عرشين سنة أو ّ‬
‫اخلطابات ال ختلو من أصالة‪ ،‬ليس فحسب عىل صعيد قدرهتا عىل إنامء تأويالت جديدة غري مسبوقة حول تيامت قديمة (مثل الكيف َّية التي‬
‫يؤول هبا «روبري نوزيك» نظرية احلقوق الطبيع َّية لدى لوك‪ ،‬أو الكيف َّية التي يقارب هبا «جان راولز الواجب األمري لدى كانط»)؛ ولكن‬ ‫ّ‬
‫التطورات عىل مستوى التنظري‬ ‫ُّ‬ ‫أيضا من خالل انبثاق منظورات جديدة (مثل املنظور النسوي‪ ،‬واملنظور اإليكولوجي)‪ .‬أحد نتائج هذه‬ ‫ً‬
‫أقل تالؤم ًا وموافقة‪.‬‬‫تتم مناقشة وتقويم النظريات السياس َّية صارت َّ‬ ‫واملقاربة مت ّثل يف كون َّ‬
‫أن املقوالت التقليد َّية التي يف إطارها كانت ُّ‬

‫أخذ ًا بعني االعتبار إذن هذه الزحزحة ومتغرياهتا‪ ،‬نريد كتمهيد هلذه الدراسة أن نذكِّر ببعض املبادئ التي نعتربها أساس َّية من أجل‬
‫مقاربة حتليل َّية نقد َّية وحذرة للخطاب السيايس املعارص‪.‬‬

‫أهم مظاهر تلك الرؤية نذكر ما ييل‪:‬‬ ‫التحرر َّأوالً وقبل ِّ‬
‫كل يشء من الرؤية التقليد َّية للسياسة‪ ،‬ومن ّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫إن أول ما تقتضيه تلك املقاربة هو‬

‫‪ .1‬اعتامد ثنائي «اليمني واليسار» يف قراءة املشهد السيايس املعارص‪.1‬‬

‫خط يمتدُّ من اليسار إىل اليمني‪ .‬فتبع ًا هلذه الصورة‬


‫إن رؤيتنا التقليد َّية للمشهد السيايس كانت تقوم عىل توزيع األفكار السياس َّية عىل ٍّ‬ ‫َّ‬
‫بأنم أولئك الذين يعتقدون يف مبدأ املساواة‪ ،‬وبالتايل فهم ينتمون بشكل‬ ‫التقليد َّية‪ ،‬كان ُينظر إىل األفراد املتموقعني يف جهة اليسار َّ‬

‫* أكادميي من املغرب‪.‬‬
‫‪1 . Will Kymlicka, Les théories de la justice: une introduction, p8, traduit de l’anglais par Marc Saint-Upéry, éditions, La Découverte, Paris,‬‬
‫‪2003.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪68‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫نحو إعادة استشكال الديمقراط َّية يف عالقتها بالعدالة‬

‫تصورمها‬ ‫اليسار واليمني يتاميزان من خالل ُّ‬ ‫أو بآخر إىل نمط من أنامط االشرتاك َّية؛ بينام األفراد اآلخرون‬
‫للحر َّية والعدالة يف إطار الدوائر التقليد َّية‬ ‫املتمرتسون يف اليمني‪ ،‬ينظر إليهم باعتبارهم يعتقدون يف مبدأ‬
‫احلر َّية‪ ،‬وبحكم ذلك فلهم استعداد وقابل َّية لالنتامء إىل أحد أنامط‬
‫الذكور َّية للدولة واالقتصاد‪ ،‬لكن خارج‬
‫الليربال َّية الرأسامل َّية‪ .‬طبع ًا توجد عدة درجات تتوسط املواقف التي‬
‫فإن ذلك التاميز يفقد مصداقيته‬ ‫هذا اإلطار َّ‬ ‫ذكرهتا‪ ،‬والكثري من األشخاص ال يقبلون سوى بمظهر واحد من‬
‫وأمهيته‪ ،‬وخاصة حينام ينظر إليه يف إطار‬ ‫املظاهر املختلفة من تلك النظريات‪ .‬لكن نعتقد يف غالب األحيان‬
‫الدوائر التقليد َّية األنثو َّية للمنزل والعائلة‬ ‫بأن أحسن طريقة لفهم أو لوصف األفكار السياس َّية لشخص من‬ ‫َّ‬
‫األشخاص‪ ،‬تتم َّثل يف حماولة موقعتها يف موضع ما عىل امتداد‬
‫ذلك اخلط‪ .‬هذه الكيف َّية يف التفكري يف النظر َّية السياس َّية ليست‬
‫كل يشء تتجاهل بعض املسائل اهلا َّمة‪ ،‬من بينها عىل سبيل‬ ‫ألنا قبل ِّ‬ ‫ك ُّلها بمنأى عن احلقيقة؛ لكنَّها أصبحت َّ‬
‫أقل تالؤم ًا وإقناع ًا‪ ،‬نظر ًا َّ‬
‫تصورمها للحر َّية والعدالة يف إطار الدوائر التقليد َّية الذكور َّية للدولة واالقتصاد‪ ،‬لكن‬ ‫أن اليسار واليمني يتاميزان من خالل ُّ‬ ‫املثال َّ‬
‫فإن ذلك التاميز يفقد مصداقيته وأمهيته‪ ،‬وخاصة حينام ينظر إليه يف إطار الدوائر التقليد َّية األنثو َّية للمنزل والعائلة‪.‬‬ ‫خارج هذا اإلطار َّ‬
‫أي مشكل‬ ‫بأنا ال تثري َّ‬
‫فالنظريات السياس َّية التقليد َّية أكانت من اليسار أم من اليمني‪ ،‬متيل إىل عدم االكرتاث هبذه امليادين‪ ،‬أو إىل االدعاء َّ‬
‫تم إمهاهلا‬ ‫يتعلق بقيمة العدالة أو احلر َّية‪ .‬وحدها النظر َّية التي تؤمن فع ً‬
‫ال باملساواة اجلنس َّية بني الذكر واألنثى يمكن هلا أن تواجه أسئلة َّ‬
‫وجتاهلها يف مناظرات اليسار واليمني التقليد َّية‪.‬‬

‫املجرد وإمهاله للسياق التارخيي‪ ،‬إذ ال يمكن إصدار أحكام عىل مؤسسات سياس َّية‬ ‫كام متَّت مؤاخذة «معيار» اليمني واليسار عىل طابعه َّ‬
‫ُّ‬
‫التجذر‬ ‫اعتامد ًا عىل معيار مستقل وال تارخيي؛ فاحلكم السيايس يستند إىل تأويل التقاليد واملامرسات التي تنبثق منها احلياة السياس َّية‪ ،‬وهذا‬
‫التارخيي والثقايف واإلثني مل يكن يؤخذ يف احلسبان يف السجال التقليدي الدائر بني اليسار واليمني‪ .‬فعىل سبيل املثال ال احلرص نجد َّ‬
‫أن‬
‫يتعذر فهم طروحاهتام عىل ضوء مقولتي «اليسار»‬ ‫النزعة النسو َّية (‪ ،) Le féminisme‬والنزعة اجلامعو َّية (‪َّ )Le communautarisme‬‬
‫و«اليمني»‪.‬‬

‫‪ .2‬املظهر الثاين للمقاربة السياس َّية التقليد َّية‪ ،‬يتم ّثل يف االعتقاد َّ‬
‫بأن مجيع التيارات السياس َّية تتأسس عىل قيم هنائ َّية ومبادئ أحاد َّية‬
‫وأن أساس االجتاه‬ ‫أن أساس التيار االشرتاكي هو مبدأ املساواة‪َّ ،‬‬ ‫مستقلة جتعلها يف اختالف مطلق مع التيارات األخرى‪ ،‬مثل اعتبار َّ‬
‫وأن أساس االجتاه القومي هو مبدأ الوحدة‪َّ ،‬‬
‫وأن أساس االجتاه الرباغاميت هو مبدأ املنفعة‪...‬إلخ ‪.‬‬
‫‪2‬‬ ‫الليربايل هو مبدأ احلر َّية‪َّ ،‬‬

‫يبي صعوبة اختزال النظر َّية السياس َّية أو املوقف السيايس يف مبدأ واحد‪ ،‬وقيمة حاسمة وهنائ َّية؛ فإذا كنَّا يف الرؤية‬ ‫َّ‬
‫إن هذا املظهر الثاين ّ‬
‫بأن املناظرة األساس َّية يف جمال الفلسفة السياس َّية هي تلك التي تدور حول سؤال ما إذا كنا نقبل أو ال‬ ‫التقليد َّية نعتقد بشكل راسخ َّ‬
‫نقبل بمبدأ املساواة كقيمة عليا‪ ،‬فإنَّه يف الرؤية املعارصة غدت املناظرة األساس َّية ال تكمن يف معرفة ما إذا كنا نعتقد يف فكرة املساواة أم‬
‫أن املنخرطني يف املناظرة السياس َّية يشرتكون يف األساس نفسه‪ ،‬ويقبلون‬ ‫ال نعتقد‪ ،‬وإنَّام تكمن يف كيف َّية فهمنا وتأويلنا هلا؛ هذا يفرتض َّ‬
‫بالقيمة نفسها ‪ -‬يتع َّلق األمر هنا بقيمة املساواة ‪ -‬حتى ولو كان لوهنم السيايس خمتلف ًا يتوزع بني اليسار واليمني‪ ،‬أو غريمها‪ .‬وهكذا‬
‫فافرتاض وجود أرض َّية مشرتكة بني املتناظرين السياسيني وعىل رأس تلك األرضية قيمة املساواة‪ ،‬يبدو‪ -‬كام سنرى ذلك ‪ -‬هو االفرتاض‬
‫تنوع ووحدة الفلسفة السياس َّية املعارصة‪ .3‬إنَّه افرتاض ينتهي بإقرار إمكان َّية عقلنة املناظرة السياس َّية وبلورة‬
‫الذي يتالءم أكثر من غريه مع ُّ‬

‫‪2 . Ibid, p.9.‬‬
‫‪3 . Ibid, p.11, p.12.‬‬

‫‪69‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد أندليس‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫أن هذا االفرتاض سيكون خاطئ ًا إذا‬ ‫تقويم ناجع للخطابات السياس َّية يمكِّن من إقامة تفاضل بينها عىل أساس إيتيقي‪-‬عقالين‪ .‬غري َّ‬
‫أن «نظرية املساواة»(‪ )La théorie égalitariste‬هي تلك التي تنادي بإعادة توزيع الدخل والثروة‬ ‫اختزلنا مفهوم املساواة‪ ،‬واعتربنا َّ‬
‫تصور ًا أكثر عموم َّية وجتريد ًا‬
‫متساو بني الناس‪ .‬عىل عكس هذا يكون االفرتاض إجرائ َّي ًا عىل مستوى الفهم والتقويم‪ ،‬إذا ما تبنينا ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل‬
‫فإن هذه الفكرة‬ ‫لفكرة املساواة‪ ،‬تصبح بموجبه مبدأ يقتيض وضع الناس عىل قدم املساواة والتعامل معهم بكيف َّية متساوية‪ .‬وبطبيعة احلال َّ‬
‫متنوعة باختالف املواقف السياس َّية‪ .‬هكذا‬ ‫واملجردة للمساواة التي تشتغل كمبدأ إيتيقي بامتياز‪ ،‬هلا جت ّليات خمتلفة وجتسيدات ِّ‬ ‫َّ‬ ‫العامة‬
‫كل عضو من اجلامعة هلا الوزن نفسه والقيمة نفسها مقارنة مع مصالح‬ ‫أن مصلحة ّ‬ ‫تُعترب النظر َّية السياس َّية «مساوات َّية»‪ ،‬إذا قبلت بفكرة َّ‬
‫فإن «النظرية املساوات َّية» تقتيض من السلطة أو الدولة أن تتعامل مع مجيع املواطنني بكيف َّية متساوية‪ ،‬بحيث‬ ‫باقي الناس‪ .4‬وبتعبري آخر‪َّ ،‬‬
‫التصور اإليتيقي للمساواة نعثر عليه لدى ليربايل‬ ‫ُّ‬ ‫كل مواطن أن حيظى باالحرتام نفسه‪ ،‬وباالهتامم نفسه‪ ،‬وباالعتبار نفسه‪ .‬وهذا‬ ‫من حق ِّ‬
‫بأن‬‫مثل«روبر نوزيك» (‪ ،)Robert Nozick‬كام نعثر عليه لدى اشرتاك َّية مثل «نانيس فرايزر» ‪ .‬فإذا كان أصحاب «اليسار» يعتقدون َّ‬
‫‪5‬‬

‫أن االستمتاع‬ ‫فإن أصحاب «اليمني» يعتربون َّ‬ ‫املساواة يف الدخل أو الثروة هي بمثابة رشط رضوري العتبار األفراد متساوين بالفعل‪َّ ،‬‬
‫بامللك َّية اخلاصة وبثامر الشغل الشخيص رشط رضوري لتحقيق املساواة بني األفراد يف احلقوق‪.‬‬

‫املجردة عن املساواة بام هي قيمة أخالقية‬ ‫هكذا فاألرض َّية املشرتكة للمناظرة السياس َّية بني اخلطابات السياسية املختلفة مت ّثلها هنا الفكرة َّ‬
‫إن الذي جيعل املناظرة ممكنة بني خمتلف النظريات‬ ‫أن ترصيف هذه الفكرة عىل أرض الواقع قابل لتأويالت خمتلفة ومتباينة‪َّ .‬‬ ‫عليا‪ ،‬غري َّ‬
‫التصور النوعي اخلاص للمساواة‬ ‫ُّ‬ ‫املتنوعة واملتباينة (كالربامجات َّية‪ ،‬والليربال َّية‪ ،‬واملاركس َّية‪ ،‬والنزعة النسو َّية‪...‬إلخ) يتعلق بطبيعة‬
‫السياسية ّ‬
‫يتم الرجوع إليه من قبل هذه النظر َّية أو تلك‪ ،‬أو من قبل هذا التيار أو ذاك‪ ،‬باعتباره رشط ًا وأساس ًا لتحقيق املساواة العا َّمة بني األفراد‪.‬‬ ‫الذي ُّ‬

‫كل نظر َّية سياس َّية تنطلق يف مناظرهتا خلصومها من األرض َّية املشرتكة ذاهتا للمساواة‪ ،‬أي إذا كانت ُّ‬
‫كل نظر َّية‬ ‫أن َّ‬
‫إذن إذا كان صحيح ًا َّ‬
‫كل األفراد متساوين؛ فإنَّه يصبح من املمكن املفاضلة بني‬ ‫تسعى إىل حتديد الرشوط السياس َّية واالقتصاد َّية واالجتامع َّية التي يف ظ ّلها يصبح ُّ‬
‫حمط إمجاع من طرفها‪.‬‬ ‫أن إحداها حت ّقق ما مل حت ّققه النظريات األخرى باستيفائها لرشوط «املعيار» الذي هو ّ‬ ‫تلك النظريات‪ ،‬والربهنة عىل َّ‬

‫اخلاصة واملصلحة العا َّمة‪ ،‬أو بني احلر َّية‬


‫َّ‬ ‫‪ .3‬املظهر األسايس الثالث للرؤية التقليد َّية للحقل السيايس يقوم عىل الفصل بني املصلحة‬
‫إن هذه الرؤية كانت وما زالت مت ّثل أحد‬ ‫واملساواة‪ ،‬أو بني السياسة واألخالق‪ ،‬بل وافتعال تناقض وتنافر بني القطبني‪ .‬ال داعي للقول َّ‬
‫ألنا تنتهي؛ إ َّما إىل تأثيم‬‫احلط من قيمة الشأن السيايس والعزوف عن املشاركة يف العمل السيايس‪َّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫العوامل األساس َّية التي أ َّدت إىل‬
‫الرغبة واملصلحة اخلاصة وشيطنة رجل السياسة‪ ،‬أو إىل إفساد الشأن السيايس‪ ،‬واستئصال روح املواطنة من اإلنسان بتحويله إىل كائن‬
‫وحتركه الضغينة وروح االنتقام من احلياة‬ ‫يمزقه الوعي الشقي ّ‬ ‫ذي «نزعة كلب َّية» جشعة يلهث وراء امللذات الدنيا‪ ،‬أو إىل كائن ارتكايس ّ‬
‫التي صارت يف عينيه «حياة دنيا حقرية»‪ .‬يف مقابل هذه الرؤية التقليد َّية االختزال َّية للمجال السيايس‪ ،‬تسعى الفلسفة السياس َّية املعارصة‬
‫إلعادة االعتبار إىل العقل العميل‪ ،‬وإرساء املناظرة السياس َّية عىل أسس إيتيق َّية‪ ،‬مثل اإلنصاف واملساواة واالعرتاف والتسامح‪ ،...‬يتعلق‬
‫األمر إذن بإعادة استشكال العالقة التي جيب أن تكون بني الفلسفة السياس َّية والفلسفة األخالق َّية‪ ،‬بني الديموقراط َّية والعدالة‪ ،‬بحيث‬
‫يمكن أن نؤكّد عىل وجود استمرار َّية أساس َّية لتلك العالقة داخل الفلسفة السياس َّية املعارصة عىل ّ‬
‫األقل عرب مظهرين‪:‬‬

‫املظهر األول نستش ُّفه من خالل قولة «روبر نوزيك» التالية‪َّ :‬‬
‫«إن الفلسفة األخالق َّية تشكّل اخللف َّية النظر َّية للفلسفة السياس َّية وتضع‬
‫حدودها‪ ،‬بحيث حتدِّ د ما جيب وما ال جيب أن تكون عليه العالقة بني األفراد‪ ،‬وهذا كفيل بأن يضع حدود ًا ملا يمكن أن يفعلوه بجهاز‬

‫‪4 . Ibid, p.10.‬‬


‫‪ Nancy Fraser . 5‬فيلسوفة أمريكية معارصة‪ ،‬رائدة الحركة النسويَّة بشامل أمريكا‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪70‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫نحو إعادة استشكال الديمقراط َّية يف عالقتها بالعدالة‬

‫إن الذي جيعل املناظرة ممكنة بني خمتلف‬ ‫َّ‬ ‫الدولة ومؤسساهتا‪ .‬فاملحظورات األخالق َّية التي جيب احرتامها‬
‫املتنوعة واملتباينة‬‫ّ‬ ‫النظريات السياسية‬ ‫قوة الدولة الزاجرة‬ ‫ومراعاهتا ستشكّل مصدر ًا ملرشوع َّية َّ‬
‫هتتم‬
‫أن الفلسفة السياس َّية املعارصة ُّ‬ ‫بكل أشكاهلا»‪ .6‬هذا يعني َّ‬ ‫ِّ‬
‫(كالربامجات َّية‪ ،‬والليربال َّية‪ ،‬واملاركس َّية‪،‬‬
‫ربر اللجوء إىل املؤسسات العموم َّية‪ ،‬وإن كانت‬ ‫باإلكراهات التي ت ّ‬
‫والنزعة النسو َّية‪...‬إلخ) يتعلق بطبيعة‬ ‫خمتلف النظريات مت ّيز بني املسؤوليات العموم َّية واملسؤوليات‬
‫يتم‬‫التصور النوعي اخلاص للمساواة الذي ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫اخلصوص َّية بكيفيات خمتلفة‪ ،‬لك َّن مضامني هذه املسؤوليات‬
‫الرجوع إليه من قبل هذه النظر َّية أو تلك‪،‬‬ ‫يتم حتديدها انطالق ًا من مبادئ أخالق َّية‬‫واحلدود التي تفصل بينها ُّ‬
‫عميقة وعا َّمة‪.‬‬
‫أو من قبل هذا التيار أو ذاك‪ ،‬باعتباره رشط ًا‬
‫وأساس ًا لتحقيق املساواة َّ‬
‫العامة بني األفراد‬ ‫املظهر الثاين لتلك االستمرار َّية مرتبط باملظهر األول‪ ،‬حيث‬
‫تصور للمسؤول َّية العموم َّية أن ينكتب يف إطار‬‫ُّ‬ ‫يقتيض من ِّ‬
‫كل‬
‫أن َّ‬
‫كل نظرية سياس َّية تقيم متييز ًا دقيق ًا بني‬ ‫موسع لكي يرتك املجال ويمنح املعنى للمسؤول َّية اخلصوص َّية‪ .‬فبالرغم من َّ‬ ‫تصور أخالقي َّ‬
‫ُّ‬
‫أي تأثري مبارش عىل قواعد السلوك الشخيص‪ ،‬إلَّ‬ ‫َّ‬
‫هذين النوعني من املسؤول َّية بحيث حترص عىل أل يكون ملبادئها السياس ًّية التي تتبناها ُّ‬
‫ال إىل تقديم يد املساعدة لآلخرين‪ ،‬أو التضامن مع صديق‪ ،‬أو‬ ‫َّأنا مع ذلك ال يمكن أال تكرتث باملسؤول َّية الشخص َّية التي تدفع الفرد مث ً‬
‫كل فرد إلكراهاته الشخص َّية جيب كام يقول «جان راولز»‪ ،‬أن يأخذ بعني االعتبار «القيم العليا‬ ‫تصور ِّ‬
‫إن ُّ‬ ‫الوفاء بوعد قطعه عىل نفسه‪َّ .‬‬
‫التي تتأسس عليها املؤسسات السياس َّية»‪ ،‬مثل قيم الديمقراط َّية‪ ،‬واملساواة‪ ،‬والتسامح‪.7‬‬

‫املهمة مسألة تتعلق بالعدالة‪ ،‬فالدليل عىل نجاحها يتوقف‬


‫املهمة السياس َّية أو تلك‪ ،‬كأن تكون تلك َّ‬
‫أ َّما فيام يتعلق بمعيار النجاح يف هذه َّ‬
‫إىل حدّ ما عىل مدى تالحم تلك النظر َّية يف العدالة ومدى انسجامها مع القناعات األخالق َّية الراسخة ودرجة مسامهتها يف إضاءهتا‪ .‬فإذا‬
‫ألنا تعبري عن الظلم وتكريس َّللعدل‪ ،‬فيجب أن‬ ‫كان املبدأ األخالقي العام يعترب‪ ،‬عىل سبيل املثال‪َّ ،‬‬
‫أن العبود َّية مسألة جيب شجبها َّ‬
‫أن َّ‬
‫كل نظر َّية يف العدالة تدافع عن العبود َّية‪ ،‬كيف ما كان شكلها‪ ،‬تُعترب نظر َّية غري مرشوعة وجيب االعرتاض عليها‪.‬‬ ‫يدفعنا هذا إىل اعتبار َّ‬

‫يتأسس باللجوء إىل القناعات الراسخة‪.‬‬ ‫أن الفلسفة السياس َّية املعارصة صارت تنتمي إىل جمال احلجاج األخالقي الذي َّ‬ ‫اخلالصة إذن َّ‬
‫فكل منا له معتقدات ومربرات أخالق َّية يمكن تنظيمها وبلورهتا يف صورة مبادئ أخالق َّية ونظريات يف العدالة‪ .‬وأحد األهداف املركز َّية‬ ‫ٌّ‬
‫للفلسفة السياس َّية الراهنة يكمن يف تقويم خمتلف النظريات السياس َّية املتنافسة حول قضايا العدالة أو احلق أو احلر َّية أو املساواة وغريها‪،‬‬
‫وذلك بغية قياس مدى قوة وتالحم احلجج التي تعتمدها من أجل تسويغ طروحاهتا والدفاع عنها‪.‬‬

‫‪ .2‬نحو إعادة استشكال الديمقراط َّية في عالقتها بالعدالة‬


‫فإنا رغم ذلك ليست نظام ًا‬
‫يريد هذا املقال تسويغ االفرتاض التايل‪ :‬إذا كانت الديموقراط َّية أعدل نظام سيايس عرفه تاريخ اإلنسان‪َّ ،‬‬
‫أي توزيع‬‫عادالً‪ ،‬أو إن شئت قلت‪َّ ،‬إنا ال تتامهى مع العدالة‪ ،‬عىل اخلصوص يف بعدها االجتامعي‪ -‬االقتصادي من حيث هي إنصاف ‪ّ -‬‬
‫عادل للثروة‪ -‬ممَّا جيعل العالقة بينهام متوترة‪ ،‬من حيث هي مظهر أسايس للعالقة اإلشكال َّية بني السياسة واألخالق‪ ،‬وهي يف نظري‬
‫إشكال َّية متزامنة مع انبثاق احلقل السيايس يف العرص احلديث وظهور اإلشكال السيايس‪.‬‬

‫‪6 . Robert Nozick: «Anarchie, Etat et utopie», p.6, Puf, Paris, 1988.‬‬
‫‪7 . Robert Nozick: «Anarchie, Etat et utopie», p.6, Puf, Paris, 1988.‬‬

‫‪71‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد أندليس‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫إن تدبري شؤون اإلنسان داخل املجتمع بشكل آمن ومن َّظم هو إشكال عويص‪ ،‬ألنَّه يقتيض إجياد صيغة توافقية متكِّن من إشباع رغبات‬
‫َّ‬
‫واملتنوعة واملتنافرة‪ ،‬هذا هو اإلشكال السيايس‪ ،‬وهو أعوص إشكال َّيات اإلنسان عىل اإلطالق‪ :‬كيف يمكن إذن‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسان املختلفة‬
‫إجياد شكل من التدبري يستطيع أن حيقق التوافق والتعايش ولو يف حدودمها الدنيا بني خمتلف أفراد املجتمع الواحد وبني هذا املجتمع‬
‫واملجتمعات األخرى؟‬

‫أن خمتلف الصيغ التي ُج ّربت لتدبري حياة الناس بشكل مشرتك داخل املجتمع كانت مصدر ًا لرصاعات ونزاعات‬ ‫من املعروف تارخيي ًا َّ‬
‫أن احلقل السيايس بطبيعته هو رهان لرصاعات سياس َّية‪ ،‬هلذا فهو‬ ‫تنتهي غالب ًا بثورات وحروب تصل أحيان ًا إىل اإلبادة اجلامع َّية‪ ،‬ممَّا يعني َّ‬
‫ّ‬
‫املحك إنسان َّية اإلنسان‪.‬‬ ‫يتَّسم بطابع إشكايل مازال يشكّل حتدِّ ي ًا حقيقي ًا للوجود اإلنساين‪ ،‬ويضع عىل‬

‫حينام نتحدث عن املجال السيايس‪ -‬بام هو جمال لتدبري شؤون اإلنسان وتنظيم حياته‪ ،‬والسعي إلشباع حاجاته ورغباته ‪ -‬جيب َّأل‬
‫ألن جوهر اإلشكال السيايس يف عمقه يرتبط هبذا اللبس واخللط والتداخل‬ ‫نخلط بني مستويني أو مفهومني‪ :‬مها السياسة والسيايس‪َّ ،‬‬
‫اخلاصة واملصلحة العا َّمة‪ ،‬أو بتعبري«هيجل» بني‬
‫َّ‬ ‫بني املفهومني‪ ،‬أي بني السياسة واألخالق‪ ،‬أو بني الرغبة والفضيلة‪ ،‬أو بني املصلحة‬
‫املجتمع املدين والدولة‪.8‬‬

‫التصور‬
‫ُّ‬ ‫اخلاصة‪ .‬وهذا‬
‫َّ‬ ‫التصور الذي ينظر إىل السياسة بام هي جمال لرصاع املصالح‬
‫ُّ‬ ‫التصور السائد للمجال السيايس‪ ،‬هو ذلك‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫إن‬
‫ملتبس بل وخماتل ألنَّه يقوم عىل اخللط بني «السياسة»(‪ )La politique‬و«السيايس»( ‪ ، )Le politique‬ومثل هذا اخللط تكون له‬
‫مضاعفات سلب َّية عىل مستوى املامرسة السياس َّية بام هي ختليق للحياة السياس َّية‪ ،‬أي بام هي تدبري منصف للشأن اإلنساين وتربية عىل‬
‫العيش املشرتك‪.‬‬

‫‪8 . Hegel .F: «Principes de la philosophie du droit ou Droit naturel et Science de l’Etat en Abrégé».Deuxième partie «La moralité» p.105 à‬‬
‫‪141. Troisième partie «La vie éthique» p.142 à 160. Edit Librairie philosophique J. Vrin. 1998.‬‬
‫تص ُّور «هيجل» لعالقة الدولة بالفرد (املجتمع املدين) يختلف عن تصورين ميكن أن نعتربهام متط ّرفني‪ ،‬هام‪ :‬التص ُّور األفالطوين والتص ُّور الليربايل‪ .‬ففي التص ُّور األفالطوين‬
‫‪-‬الذي ميكن أن نعتربه جذر التص ُّور التوتالتاري‪ -‬تت ُّم التضحية بحقوق الفرد لصالح وحدة الكُل‪ ،‬أل َّن الفرديَّة أو الخصوص َّية يُنظر إليها يف إطار هذا التص ُّور كعنرص فوىض‬
‫وكلين‪.‬‬
‫لكل طابع جوهراين َّ‬
‫وانشقاق‪ .‬أ َّما يف التص ُّور الليربايل الحديث فالدولة مج َّرد تج ُّمع ُوجد من أجل حامية حقوق األفراد (املجتمع املدين)‪ ،‬وبالتايل فهي فاقدة ِّ‬
‫تتجل يف السعي للربهنة عىل أ َّن الدولة الحديثة ميكن أن تبقى «دولة جوهريَّة»‪ ،‬ويف الوقت نفسه تعمل عىل إشباع حاجات األفراد‪ ،‬وتحقيق‬
‫أصالة التص ُّور الهيجيل ّ‬
‫طموحاتهم‪ ،‬والنمو الحر لشخصياتهم‪ .‬لهذا وجدنا هيجل ينتقد ادّعاء الدولة الليرباليَّة املتمثّل يف اعتبار نفسها جهازا ً غايته القصوى هي حامية املصلحة الفرديَّة‪ .‬ويرى‬
‫أ َّن الحروب تكذّب هذا االدعاء حيث تسود قوة الدولة املطلقة‪ .‬فحينام يصبح وجود الدولة مهدَّدا ً‪ ،‬فإنَّها ترغم املواطنني عىل التضحية بحياتهم ومصالحهم‪ .‬من هنا‬
‫يستنتج هيجل أ َّن للدولة غايتها الخاصة بها‪ .‬فهي لها حق سامٍ عىل األفراد‪ ،‬إذ واجب هؤالء أن يكونوا أعضاء داخل الدولة‪ .‬وبهذه الصفة يحقّقون درجة عالية من‬
‫الحريَّة واألخالق َّية‪ ،‬أل َّن إرادتهم الذات َّية متفقة ومتناغمة مع اإلرادة ال ُكلّ َّية والشمول َّية‪ .‬إ َّن الدولة الهيجل َّية متثّل الحقيقة‪ ،‬ومحتواها يتحدَّد يف تعارض مع املجتمع املدين‪.‬‬
‫أل َّن الخلط بني الدولة واملجتمع املدين‪ ،‬يعني يف التص ُّور الهيجيل أن نجعل كهدف لها السهر عىل حامية امللكيَّة الخاصة والحريَّة الشخصيَّة؛ ويف هذه الحالة ستصبح‬
‫املصلحة الفرديَّة هي التي ستشكّل الغاية النهائ َّية لوجود الدولة والوحدة‪ ،‬ومن شأن هذا أن يستتبع أ َّن انتامء األفراد إىل الدولة يتوقف عىل إرادة أولئك األفراد وعىل‬
‫أي وجود موضوعي أو أيّة حياة أخالقيَّة إال من حيث هو‬
‫حريتهم‪ .‬يف حني أ َّن الدولة مادامت متثّل «الروح املوضوعي» فإ َّن الفرد ال ميكن أن تكون له أيُّة حقيقة أو ّ‬
‫عضو داخل الدولة‪ .‬فاتحاد الفرد بالدولة غاية يف ذاته‪ ،‬إنَّه الغاية الحقيق َّية واملحتوى الحقيقي مادام مصري الفرد هو أن يعيش حياة كُلّ َّية وشمول َّية ومتَّحدة‪ .‬والدولة من‬
‫حيث هي «حقيقة أخالقيَّة» ليست سوى االندماج الحاصل بني الجوهريَّة والخصوصيَّة‪ ،‬حيث الخصوصيَّة لحظة أساسيَّة داخل الدولة‪ ،‬واإلشباع الكامل ملتطلّباتها مسألة‬
‫رضوريَّة‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪72‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫نحو إعادة استشكال الديمقراط َّية يف عالقتها بالعدالة‬

‫يتم امتالكها‪ ،‬فضاء توضع فيه السلطة بني اجلميع ووسطهم‪.‬‬ ‫ويتم إدارهتا وتدبريها دون أن َّ‬
‫إن «السيايس» هو الفضاء الذي متارس فيه السلطة ُّ‬ ‫َّ‬
‫تتم داخل «املدينة» أي «البوليس»‬
‫وأن هذه احلياة ُّ‬‫أن احلياة اإلنسان َّية هي حياة مجاع َّية‪َّ ،‬‬‫هذا املفهوم للسيايس يتأسس عىل إدراك عميق مفاده َّ‬
‫باملصطلح اإلغريقي‪ .‬وهي فضاء تُد َّبر فيه شؤون املدينة بمسامهة اجلميع ويف استقالل عن أ َّية سلطة خارج َّية أو مفارقة‪ .‬قد خيتلف هذا التدبري‬
‫أن «الشأن‬‫أن شؤون اإلنسان‪/‬املواطن يف «املدينة» بيد اإلنسان ويشارك فيها اجلميع‪ .‬وهو الذي يعني َّ‬ ‫من جمتمع إىل آخر لك َّن املبنى واحد‪ ،‬وهو َّ‬
‫السيايس» يمكن أن يكون موضع تفكري عقالين‪ -‬تداويل وتعاقدي‪ ،‬ألنَّه خيضع لقوانني وضع َّية يمكن مناقشتها واجلدل حوهلا بل وتغيريها أو‬
‫أن «السياسة» ليست هي «السيايس»‪.‬‬ ‫أن املجتمعات التي عرفت «السيايس» مل تعرف «السياسة»‪ ،‬بيد َّ‬ ‫استبداهلا بأخرى‪ .‬ال يعني هذا َّ‬

‫كل يشء وجود الدولة‪ ،‬أي وجود سلطة هلا منطقها اخلاص بحيث يمكن ملن يمتلك أجهزهتا أن يعمل‬ ‫فـ«السياسة» تفرتض أوالً وقبل ِّ‬
‫عىل تسويد مصاحله‪ ،‬وتوسيع نفوذه‪ ،‬وبسط سلطته‪ .‬هبذا املعنى تغدو «السياسة» «صناعة» متارسها أحزاب‪ ،‬وتتك َّفل هبا تنظيامت سياس َّية‬
‫تسهر عىل سري األمور‪ ،‬ومحاية حقوق أفرادها وفئاهتا‪ .‬فإذا كان «السيايس» نسيج احلياة البرش َّية وحلمة املجتمع وسداه‪َّ ،‬‬
‫فإن «السياسة»‬
‫هي منطق الدولة‪ ،‬وهي منظامت وأحزاب وتيارات‪ ،‬ولع َّلها أيض ًا وأساس ًا حنكة ومهارة ودهاء وتضليل ومكر؛ هلذا قد يتخىل عنها‬
‫البعض وهيجرها لكنَّه مع ذلك ال يستطيع أن يتخىل عن «السيايس»‪ ،‬ألنَّه ر َّبام هو بمثابة قدر لإلنسان من حيث هو بالتعريف «حيوان‬
‫سيايس»‪ ،9‬كام ذهب إىل ذلك الفيلسوف اليوناين «أرسطو»‪.‬‬

‫«السيايس» إذن يرتجم البعد اإليتيقي واألخالقي يف املامرسة السياس َّية‪ ،‬أ َّما «السياسة» فهي تكشف عن الوجه املتعلق بطبيعة «إرادة‬
‫القوة»‪ ،‬والرغبات التي هتدف إىل إشباع ذاهتا عرب االستيالء عىل السلطة واستعامل أجهزهتا ومؤسساهتا وآلياهتا الرمز َّية‪.‬‬
‫َّ‬

‫ال بني املجتمعات ومستويات نضجها‬ ‫أن هذا التمييز بني املستويني رضوري‪ ،‬ألنَّه انطالق ًا منه نستطيع أن نقيم متايز ًا وتفاض ً‬ ‫شك َّ‬
‫وال َّ‬
‫وتطورها‪ .‬وليست الديمقراط َّية سوى أرقى أشكال التنظيم السيايس الذي ابتكره عقل اإلنسان وجتربته‪ ،‬وما ذلك إال لكوهنا حماولة‬ ‫ُّ‬
‫مستمرة ودائمة إلخضاع «السياسة» «للسيايس»‪ ،‬أي حماولة لتأسيس املامرسة السياس َّية عىل أساس أخالقي‪ ،‬وجعل اإليتيقا قاعدة مبدئ َّية‬ ‫َّ‬
‫َّ‬ ‫ً‪10‬‬ ‫ً‬
‫لتدبري الشأن اإلنساين بشكل أكثر تالمحا وانسجاما ‪ .‬يقول «روبري نوزيك» يف هذا الصدد‪« :‬إن الفلسفة األخالق َّية تُشكِّل اإلطار‬
‫حيق هلم أن يفعلوه جتاه بعضهم البعض‪ ،‬هو الذي حيدّ د ما‬ ‫حيق أو ال ُّ‬
‫إن حتديد األفراد ملا ُّ‬ ‫اخللفي للفلسفة السياس َّية وتس ّطر حدودها‪ ،‬إذ َّ‬
‫لقوة‬ ‫حيق هلم أن يفعلوه عند تس ّلمهم جلهاز الدولة‪ .‬فاملحظورات األخالق َّية التي جيب مراعاهتا‪ ،‬تُعترب مصدر ًا ِّ‬
‫لكل أشكال املرشوع َّية َّ‬ ‫ُّ‬
‫الدولة الزجر َّية» ‪.‬هذا عىل الرغم من املشاكل والقضايا اجلديدة التي صاحبت نشأة الديمقراط َّية‪ ،‬والتي كثري ًا ما ُتدِّ د مصداقيتها وتضع‬
‫‪11‬‬

‫موضع تساؤل أساسها اإليتيقي وبعدها املعياري‪.‬‬

‫‪  9‬ـ إ َّن اعتبار اإلنسان مبثابة «حيوان اجتامعي» يعترب األ ّوليَّة األساسيَّة التي انطالقاً منها ت َّم استنباط حقوق وواجبات اإلنسان‪ ،‬إذ انطالقاً من مالحظة التشكيل الجسامين‬
‫العضوي لإلنسان ومقارنته بالحيوان ت َّم استنتاج أنَّه وجد من أجل العيش داخل املجتمع‪ .‬فهو من جهة له حاجات كثرية ومتنوعة (اللباس‪ ،‬التغذية‪ ،‬التدفئة‪ ،‬الحامية‪)..‬؛‬
‫مم يعني أ َّن تدبري حياة اإلنسان داخل املجتمع رضورة وجوديَّة ومنطقيَّة بحكم كون‬
‫ومن جهة ثانية فإ َّن الطبيعة مل تز ّوده بالوسائل الرضوريَّة إلشباع تلك الحاجات‪َّ ،‬‬
‫إشباع حاجاته تتجاوز إمكانياته كفرد‪ ،‬هذا هو الجزء األ َّول من االستنباط‪ .‬الجزء الثاين من االستدالل يتمثّل يف استحضار الرشوط الرضوريَّة منطقياً لقيام املجتمع‪،‬‬
‫واملتمثّلة يف رضورة متتُّع الناس بحقوق وقيامهم بواجبات‪ .‬ذلك هو املصدر األ َّول لنظريَّة الحق الطبيعي الحديث‪ ،‬الذي يختلف جذرياً عن الحق الطبيعي الكالسييك‬
‫الذي يستلهم الكوسمولوجيا اإلغريق َّية‪ .‬فليس الحق الطبيعي يف صورته الحديثة سوى مجموعة من الحقوق والواجبات التي يجب أن تحرتم لقيام املجتمع بشكل آمن‬
‫ومنظَّم‪ .‬يفرتض هذا أ َّن معرفة الحقوق تستتبع معرفة الواجبات املتمثّلة يف احرتام الذات وضامن‪ ،‬عرب القوة الجامعية‪ ،‬احرتام حقوق اآلخرين‪ ،‬وهي يف األصل عبارة عن‬
‫أربعة حقوق‪ :‬الحريَّة‪ ،‬امللك َّية‪ ،‬األمن‪ ،‬مقاومة االضطهاد‪.‬‬
‫كل من جان راولز‪ ،‬وميكائيل والزر‪ ،‬وروبر نوزك‪ ،‬ودوركان‪...‬إلخ‪.‬‬
‫‪  10‬ـ ميكن الوقوف عىل هذه املسألة بشكل ملموس باالطّالع عىل أه ّم نظريات العدالة لدى ٍّ‬
‫‪11 . Robert Nozick «Anarchie, Etat et utopie», p.6, Puf, Paris, 1988.‬‬

‫‪73‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد أندليس‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫‪ .1 .2‬فيام وراء الديمقراط َّية كمثل أعىل‬

‫ما من تفكري اليوم يف الديمقراط َّية بطريقة فلسف َّية إال ويقتيض التفكري فيها انطالق ًا من طبيعة التمفصل الذي يوجد بني املفهوم‬
‫أي حديث عن الديمقراط َّية يتط ّلب أن ننظر إليها «فيام‬ ‫والواقع‪ ،‬بني «مفهوم» الديمقراط َّية وبني «التجربة» الديمقراط َّية‪ .‬وهذا يعني َّ‬
‫أن َّ‬
‫وراء اخلري والرش»‪ ،‬أي فيام وراء الديمقراط َّية كمثل أعىل‪ ،‬ومثل هذا النظر يصبح ممكن ًا رشيطة أن نعيد «توجيه الفكر» من جديد‪ ،‬نحو‬
‫«قبلة» الفلسفة اإلغريق َّية القديمة‪ ،‬ونحو فضاء التجربة الديمقراط َّية يف اليونان‪ .‬فاإلغريق يشكّلون بداية تأسيس َّية للفلسفة وللتجربة‬
‫أن هذا التعالق التزامني‪ -‬املكاين بني نشأة الفلسفة ونشأة الديمقراط َّية له ما يربره سواء عىل صعيد‬ ‫الديمقراط َّية يف الوقت ذاته‪ .‬وال َّشك َّ‬
‫أن «املواطن» يشكّل أحد املواضيع األساس َّية‪  ‬يف الفلسفة‪،‬‬ ‫الفلسفة أو عىل صعيد الديمقراط َّية‪ .‬العالمة األوىل لذلك التعالق تتم ّثل يف َّ‬
‫وحر‪َّ .‬‬
‫«إن اليونان‬ ‫ألن أحد رشوط ظهور الفلسفة هو ظهور «املواطن»‪ ،‬أي ظهور الفرد الواعي بذاته ككائن عاقل ومستقل ّ‬ ‫وذلك َّ‬
‫هي بمثابة الفضاء احلضاري‪-‬التارخيي الذي هو «موطن» اإلقامة بالنسبة إىل الفلسفة والديمقراط َّية‪ ،‬وهو بحكم ذلك يم ّثل مصدرنا‬
‫املتجسد يف املدينة اليونان َّية‪ ،‬وأثينا بصفة خاصة‪ ،‬ال خيلو‬
‫ِّ‬ ‫فإن تسليط الضوء عىل فضاء نشأهتام التارخي َّية‬‫األصيل الكوين»‪ .12‬ومع ذلك َّ‬
‫جيسد مجاعة الناس املتساوين واألحرار(أي مجاعة‬ ‫من طابع إشكايل‪ .‬فمن املعروف َّ‬
‫أن انبثاق «الفلسفة» و«املدينة الديمقراط َّية» ‪ -‬بام هو ّ‬
‫تعرضت هلا التقاليد واألساطري والسلط الدين َّية والسياس َّية وأشكال احلياة التقليد َّية‬
‫من املواطنني) ‪ -‬قد جاء بعد اخللخلة الكبرية التي َّ‬
‫كل الرصاع الدائر‬ ‫جسد سقراط َّ‬ ‫املرتبطة هبا‪ .‬لك َّن هذه النشأة املتزامنة ألقت أيض ًا بظالهلا عىل العالقة بني «الفلسفة» و«املدينة»‪ .‬وقد َّ‬
‫بينهام‪ ،13‬وهو خيتزل أيض ًا التناقض غري القابل للتصعيد بني الفلسفة والديمقراط َّية‪ ،‬أو بني األخالق والسياسة‪.‬‬

‫حينام نعود إىل هذا الفضاء ‪ -‬الذي ُيشكّل يف نظري البذرة األوىل ليس فحسب للفلسفة والفكر الغريب عىل نحو ما ذهب إىل ذلك‬
‫كل من وقعوا يف أرس التامهي مع الذات ومع النزعة املركز َّية الغرب َّية‪ ،‬وإنَّام أيض ًا بالنسبة إىل الفكر‬‫هايدغر وقبله أستاذه هورسل ومعهم ُّ‬
‫تصوروا هبا الديمقراطية كمفهوم والديمقراط َّية كتجربة وكواقع‪،‬‬ ‫الفلسفي اإلنساين الكوين ‪ -‬ونسائل فالسفة اليونان عن الكيف َّية التي َّ‬
‫أن هذا الطابع اإلشكايل مالزم ملفهوم الديمقراط َّية‬ ‫سنجد َّأنم قد أدركوها كشأن إشكايل غري منسجم‪ ،‬بل ومنقسم عىل نفسه‪ ،‬وعىل َّ‬
‫وللتجربة الديمقراط َّية يف الوقت نفسه‪.14‬‬

‫لكل من مفهوم الديمقراط َّية وواقع الديمقراط َّية‪ ،‬هو ما تشهد عليه‬ ‫هذا الوعي الفلسفي النقدي املبكِّر بالطبيعة امللتبسة واملتناقضة ٍّ‬
‫كل من أفالطون وأرسطو‪ .‬ففي الكتاب الثامن من مؤلف «اجلمهور َّية» يتحدث أفالطون عن الديمقراط َّية ‪ -‬من حيث هي واقع‬ ‫فلسفة ٍّ‬
‫وجتربة معيش َّية أكثر ممَّا هي نموذج نظام سيايس‪ -‬باعتبارها «خليط ًا من الدساتري» تفتقر إىل االنسجام والوحدة‪َّ .‬إنا يف نظره أشبه بسوق‬
‫مقومات «املفهوم»( ‪ )Le concept‬وخصائص «الفكرة»( ‪ )L’idée‬لديه‪،‬‬ ‫كل مع ّ‬ ‫«لألثاث الرديء»(اخلردة)‪ ،‬ممَّا جيعلها تتعارض بشكل ّ‬
‫إن التباس التجربة الديمقراط َّية واالنقسام الذي يطبع واقع الديمقراط َّية يتعارضان بشكل‬ ‫مقوماهتا‪ :‬الوحدة والك ّل َّية‪َّ .‬‬
‫أهم ّ‬ ‫والتي من ّ‬
‫جذري مع وحدة «املفهوم»‪ ،‬وك ّل َّية «الفكرة» وانسجامها‪ .‬فواقع الديمقراط َّية عند أفالطون ـ مقارنة مع الفكرة‪ -‬يعني التناقض غري القابل‬
‫للتدليل والتجاوز املوجود بني اهلجانة واالنسجام‪ ،‬أو بني االنقسام والوحدة‪ ،‬أو بني التعدُّ د والك ّل َّية‪ .‬وهذا ما جتليه الصورة القدح َّية ‪-‬‬
‫يغي لباسه‪ ،‬فاليوم‬ ‫يغي آراءه وحياته كام ّ‬ ‫التي يقدّ مها الكتاب الثامن من «اجلمهور َّية»‪ -‬عن الكائن الديمقراطي‪ .‬إنَّه ذلك الكائن الذي ّ‬
‫أن النظام الذي‬ ‫شك فيه َّ‬
‫يشتغل يف املال َّية وغد ًا يف البحر َّية‪ ،‬اليوم مزاجه ج ّيد وغد ًا يصبح س ّيئ ًا‪ ،‬إنَّه كائن مرت ِّدد‪ ،‬ذو نزعة نسب َّية؛ وممَّا ال َّ‬

‫‪12 . C.Castoriadis, La Polis grecque et la création de la démocratie, p.263 - 264. Seuil 1986.‬‬
‫ظل الدميقراط َّية األثين َّية‪ ،‬أن يعود إىل مقايل املنشور مبجلة األزمنة الحديثة العدد‪ ،5‬صيف ‪،2012‬‬
‫‪  13‬ـ ميكن للقارئ الراغب يف املزيد من االطالع عىل مأساة سقراط يف ِّ‬
‫ص‪ ،94‬تحت عنوان‪« :‬نحو إعادة استشكال فلسفي ملفهوم الحريَّة يف ضوء الثورات العربيَّة»‪.‬‬
‫‪  14‬ـ عبد الله العروي‪« :‬من ديوان السياسة»‪ ،‬ص‪ ،90‬وأيضاً ص‪ 82‬و‪ 83‬و‪ ،84‬املركز الثقايف العريب‪.2009 ،‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪74‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫نحو إعادة استشكال الديمقراط َّية يف عالقتها بالعدالة‬

‫املوجه اليوم للمجتمعات الديمقراط َّية‬


‫إن النقد َّ‬ ‫َّ‬ ‫يسعى إىل ضامن حقوق مثل هذا الكائن سينحدر ال حمالة إىل «نظام‬
‫أن هذه املجتمعات ال يمكن أن‬ ‫يبي َّ‬‫الليربال َّية ّ‬ ‫إن هذه املفارقات التي تطبع واقع الديمقراط َّية‪ ،‬جتد‬ ‫أوليغاريش»‪َّ .‬‬
‫تتم مقاربة الديمقراط َّية كلفظ أو كمفهوم من جهة‬ ‫ما يامثلها حينام ُّ‬
‫جتسد التكامل بني احلر َّية واملساواة‪ ،‬أو بني‬ ‫ِّ‬ ‫األويل الذي يوجد يف أصل‬ ‫أخرى‪ .‬هذا ما جيليه املعنى االشتقاقي َّ‬
‫توسع‬ ‫الديموقراط َّية والعدالة‪ ،‬بل هي ال تني ِّ‬ ‫لفظ الديمقراط َّية من حيث هي «حكم العموم» أو «حكم الشعب‬
‫الفجوة التي تفصل بينهام‬ ‫للشعب»‪ .‬فتحديد هذا اللفظ ييش بااللتباس واخللط نفسه الذي‬
‫وجدناه مالزم ًا للديمقراط َّية كتجربة وكواقع‪ .‬فمن هو يا ترى‬
‫«الشعب»؟ أال يعني تارة «األمة»‪ ،‬وطور ًا آخر «اجلامعة»؟ بىل‪ ،‬فمن جهة يتم إقامة ٍ‬
‫متاه مطلق ما بني «الشعب» ِّ‬
‫وكل «األ َّمة»‪ ،‬ومن جهة‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫يتم احلديث عن «الدَّ مهاء»‪ ،‬أو «اجلمهور» ‪ ،‬أو «السكان‬
‫‪15‬‬
‫يتم متاهيه مع جزء من األ َّمة أي مع «مجاعة» نكرة ال خصائص هلا‪ ،‬حيث ُّ‬ ‫أخرى ُّ‬
‫غري املميزين»‪ ،‬أو «عا َّمة الناس»‪ .‬هذا هو مصدر الطابع الداليل امللتبس للفظ «الشعب»‪ ،‬ومن هنا أيض ًا املرشوع َّية التي يكتسيها هذا‬
‫اإلحلاح الفلسفي ملعاودة طرح السؤال نفسه‪ :‬هل مفهوم «الشعب» يم ّثل َّ‬
‫«كل» أعضاء املجتمع‪ ،‬أم أنَّه ال يم ّثل سوى «جزء» من مجاعة‬
‫أي خاصية مم ّيزة؟‬ ‫تفتقر إىل ِّ‬

‫هذا اللبس والتناقض الذي يكتنف «الديمقراط َّية» سواء نظر إليها كمفهوم‪ ،‬أو كتجربة‪ -‬والذي يب ّينه حتليل «أفالطون»‪ -‬نعثر عليه‬
‫وخاصة يف كتابه «السيايس»‪ ،‬حيث يتحدث «أرسطو» عن أصلني أو مصدرين للتجربة السياس َّية‪ .‬ففي‬ ‫َّ‬ ‫أيض ًا حارض ًا لدى «أرسطو»‪،‬‬
‫تم تكوينها عىل أساس «القسمة العقل َّية»‪ ،‬فالناس يعيشون داخل «اجلامعة»‪،‬‬ ‫األول حيدّ د «اجلامعة السياس َّية» باعتبارها تلك التي َّ‬
‫كتابه َّ‬
‫ألنم يقتسمون «اللوغوس» أو «العقل» ‪ -‬بام هو معيار أو مبدأ حكم‪ -‬أي يقتسمون «القدرة عىل املناظرة العقل َّية‬ ‫أو يشكّلون «مجاعة»‪َّ ،‬‬
‫ألنا‬ ‫مع الرشكاء والنظراء حول العادل وغري العادل‪ ،‬حول اخلري والرش؛ بينام نجد َّ‬
‫أن الكائنات «احليوان َّية» تفتقر إىل هذا «اللوغوس» َّ‬
‫كل يشء إىل اللذة أو األمل‪ .‬وحده «الكائن اإلنساين» قادر عىل أن يقتسم مع اآلخرين «كالم ًا» أو «خطاب ًا‬ ‫خاضعة للغريزة‪ ،‬أي ملبدأ خيتزل َّ‬
‫ال عىل نحو عقالين»‪.‬‬ ‫متمفص ً‬

‫لكن نجد أيض ًا لدى «أرسطو» تساؤالً من نمط آخر حول أصل السياسة‪ ،‬فمن هو اجلدير بالعقل والعقالن َّية‪ ،‬من هو العاقل والعقالين؟‬
‫خاصة»؟‬
‫جمرد جزء منه‪ ،‬أي «مجاعة َّ‬ ‫هل هو ُّ‬
‫كل «الشعب»‪ ،‬أي مجيع أفراد املجتمع‪ ،‬أم َّ‬

‫يتم إدراجه يف إطار فضاء‬ ‫فإن البعد الداليل هلذا السؤال األرسطي الذي ال خيلو من عمق فلسفي‪ ،‬ينجيل بوضوح حينام ُّ‬ ‫يف احلقيقة َّ‬
‫نكوهنا عن «املسألة الديمقراط َّية»‪،‬‬ ‫تتم مواجهة «الصورة املثال َّية» أو «الداللة اليوطوب َّية» التي ّ‬
‫خاصة حينام ُّ‬
‫التجربة الديمقراط َّية اليونان َّية‪َّ ،‬‬
‫فإن الواقع التارخيي‬‫مع الواقع الفعيل‪ -‬التارخيي للديمقراط َّية اإلغريق َّية خالل القرن اخلامس قبل امليالد‪ .‬فتبع ًا لتحليل «أرسطو» َّ‬
‫ال للمناظرة العقالن َّية‪ ،‬وإنَّام «البعض» منه فحسب؛‬ ‫مؤه ً‬
‫«كل الشعب»‪ ،‬ليس َّ‬ ‫أن «اجلميع» أو ّ‬
‫يبي بشكل جيل َّ‬‫للتجربة السياس َّية اليونان َّية ّ‬
‫مؤهلني للمشاركة يف املناظرة التي تقوم عليها التجربة الديمقراط َّية يف أثينا‪.‬‬ ‫فـ«النساء» و«الغرباء» و«العبيد» ليسوا َّ‬

‫هذا ما الحظه «جاك دريدا» يف سياق جمتمع آخر وجتربة تارخيية مغايرة‪ ،‬حيث حاول أن يبلور تلك املالحظة عرب مفهوم «احلصانة‬
‫الذات َّية»‪ ،‬بام هي ٍّ‬
‫جتل واضح للتناقض أو باألحرى للمفارقة املالزمة للديمقراط َّية‪ .‬واملثال الذي ُيقدّ مه «دريدا» هو مثال «التجربة‬
‫الديمقراط َّية يف اجلزائر»‪ ،‬أي جتربة التناوب عىل السلطة‪ .‬لقد طرحت هذه التجربة عىل املحك «مدى ديمقراط َّية» النظام الديمقراطي‪،‬‬
‫وذلك حينام صار ما كان ُيعدُّ عىل مستوى االحتامل السيايس اليشء األكثر استبعاد ًا حقيقة ملموسة عىل األرض‪ ،‬أعني احتامل أن يصل‬

‫‪  15‬ـ ميكن الرجوع بصدد املعاين السياس َّية التي يكتسيها مفهوم الجمهور‪ ،‬إىل كتاب‪ :‬عبد الله العروي‪ ،‬من ديوان السياسة‪ ،‬من ص‪ 78‬إىل ص‪ .84‬مرجع مذكور سابقاً‪.‬‬

‫‪75‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد أندليس‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫إىل السلطة حزب ديني‪ -‬سيايس حيمل قي ًام مناهضة للديمقراط َّية‪16‬؛ فام الذي يمكن تو ّقع حدوثه يف هذه احلالة؟ جواب «دريدا» واضح‬
‫تم تعطيل الديمقراط َّية وإعالن حالة الطوارئ‪.‬‬ ‫تم إلغاء االنتخابات‪ ،‬أي َّ‬
‫وضوح الواقع اجلزائري‪ :‬لقد َّ‬

‫لو حاولنا أن نتساءل ونفكّر بمع َّية «جاك دريدا» يف الداللة الفلسف َّية العميقة التي تكتسيها هذه التجربة التارخي َّية التي ال َّ‬
‫شك َّأنا‬
‫سنتوصل ال حمالة إىل النتيجة التالية‪ :‬لتحصني النظام الديمقراطي ضدَّ خصوم الديمقراط َّية واملناوئني هلا‪ ،‬جيب العمل‬ ‫َّ‬ ‫ليست وحيدة‪،‬‬
‫َّ‬
‫فكأن تأمني‬ ‫عىل تعطيل الديمقراط َّية عن طريق ِّ‬
‫شل لعبتها أو آليتها االنتخاب َّية‪ .‬فإلغاء نتائج االقرتاع معناه إلغاء اللعبة الديمقراط َّية‪.‬‬
‫الديمقراط َّية ومحاية نظامها يقتيض باستمرار العمل عىل حتصينها ضدَّ نفسها‪ ،‬حتى لو اقتىض ذلك العمل عىل تعطيل آل َّيات اشتغاهلا‪.‬‬

‫هكذا نستنتج أنَّه ال يمكن إعطاء تعريف متالحم للديمقراط َّية بدون أن يكون هذا التعريف خمرتق ًا من جديد بسؤال‪ :‬من هو اجلدير‬
‫بالديمقراط َّية ومن هو غري اجلدير هبا؟ من يستحق املشاركة يف الديمقراط َّية ومن ال يستحق املشاركة فيها؟‬

‫قوة للحرص أو للتحصني أو لإلقصاء‪.‬‬ ‫كل تعريف للديمقراط َّية ينطوي عىل يشء يلغيها‪ ،‬بمعنى يستلزم أن تصبح الديمقراط َّية َّ‬‫إذن ُّ‬
‫أي تعريف هلا يؤ ّدي إىل نفيها وإلغائها؟‬ ‫ثم هل يعني هذا َّ‬
‫أن َّ‬ ‫فهل يعني هذا َّ‬
‫أن «الديمقراط َّية»‪ -‬كمثل أعىل‪ -‬مستحيلة؟ َّ‬

‫هذا ما حاول «أرسطو» أن يبلوره يف سياق حديثه عن التناقض املالزم «ل ُّلعبة السياس َّية»‪ -‬بام هو تناقض بني املبدأ الديمقراطي‬
‫واملبدأ األرستقراطي‪ -‬حينام م َّيز بني «املساواة احلساب َّية» و«املساواة اهلندس َّية»؛ فإذا كانت «املساواة احلساب َّية» هي عبارة عن «مساواة‬
‫ٍ‬
‫«متساو»‬ ‫فإن «املساواة اهلندس َّية» هي أيض ًا توزيع‬ ‫ٍ‬
‫متساو عىل اجلميع؛ َّ‬ ‫كم َّية»‪ ،‬أي مساواة عدد مع عدد آخر‪ ،‬وتوزيع األعداد بشكل‬ ‫ّ‬
‫كل فرد‪ ،‬وهذا هو مفهوم‬ ‫يتم بكيف َّية جتعله يتناسب ويتوافق مع طبيعة ووظيفة وحاجات ِّ‬‫كم َّي ًا‪ ،‬إنَّه توزيع ُّ‬
‫لكن عىل نحو «كيفي» وليس ّ‬
‫كل «الكوسمولوجيا اليونان َّية» بصفة عا َّمة‪.‬‬‫«العدالة»‪ ،‬والتوزيع العادل ليس فحسب لدى «أرسطو» وإنَّام أيض ًا لدى «أفالطون» ويف ِّ‬
‫إذن هذا «النمط من اإلنصاف» خمرتق بسؤال‪ :‬من هو أهل للديمقراط َّية ومن هو ليس كذلك؟ إذن «التوزيع»(أي العدالة) الذي تقتضيه‬
‫«املساواة اهلندس َّية» توزيع خمرتق من قبل «مبدأ أرستقراطي»‪ ،‬عىل عكس التوزيع املعتمد من قبل «املساواة احلساب َّية» فهو خاضع «للمبدأ‬
‫أن التناقض بني «العدالة احلساب َّية» و«العدالة اهلندس َّية» هو تناقض مبارش ما بني «مبدأ الديمقراط َّية» و«مبدأ‬ ‫الديمقراطي»‪ ،‬ممَّا يعني َّ‬
‫األرستقراط َّية»‪.‬‬

‫أن «التجربة الديمقراط َّية» هي جتربة نظام غري متطابق مع نفسه‪ ،‬أو جتربة «مجاعة» غري متامهية مع نفسها‪.‬‬ ‫اخلالصة إذن هي َّ‬
‫فالديمقراط َّية إذن هي «جتربة عدم التالؤم والتوافق» الذي يطال مع ًا َّ ً‬
‫كل من املفهوم والتجربة‪ ،‬كام يطال من جهة أخرى العالقة ما بني‬
‫املفهوم والتجربة‪ ،‬أو ما بني املثال والواقع‪ ،‬أو ما بني املساواة واحلر َّية‪...‬إلخ‪.‬‬

‫و«التوجس» الذي يكون مصدرمها ليس «اآلخر الغريب»‪ -‬الذي كان َّ‬
‫حمط‬ ‫ُّ‬ ‫النتيجة إذن هي َّ‬
‫أن «جتربة الديمقراط َّية» هي جترية «القلق»‬
‫إقصاء مجاعي‪ ،-‬وإنَّام «اآلخر املحايث» للجامعة وللتجربة اجلارية‪ ،‬يكفي أن نستحرض التجربة الرتاجيد َّية لسقراط داخل الديمقراط َّية‬
‫صحة هذا االستنتاج‪.‬‬‫يتبي لنا مدى َّ‬‫األثينية لكي َّ‬

‫انطالق ًا من حتليالت «أفالطون» و«أرسطو» نالحظ َّ‬


‫أن املامرسة الديمقراط َّية تتحدَّ د بام هي «الالتوافق» مع الذات‪َّ ،‬إنا ابتعاد مستمر‬
‫التوجس َّية جتاه الديمقراط َّية‪ ،‬من حيث هي مصدر خلطر فعيل‪ .‬بل يمكن اعتبار َّ‬
‫أن تاريخ «تقليد الفلسفة السياس َّية»‬ ‫ُّ‬ ‫عنها‪ .‬من هنا النظرة‬

‫‪ 16‬ـ يتعلق األمر بحزب جبهة اإلنقاذ الجزائريَّة التي كان يقودها ع َّباس مدين خالل انتخابات سنة ‪1985‬م‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪76‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫نحو إعادة استشكال الديمقراط َّية يف عالقتها بالعدالة‬

‫يف الغرب ما هو إال تاريخ السعي املتواصل واملستمر لتصعيد هذه املفارقة وهذا الالتوافق املالزم ملفهوم الديمقراط َّية‪ ،‬حماوالً بذلك‬
‫مصاحلتها مع ذاهتا عرب اسرتجاع ماه َّيتها اإليتيق َّية‪ ،‬أي عرب ربط السياسة بالسيايس‪ .‬لقد كان هذا هو الرهان األكرب للحداثة الغرب َّية‬
‫خاصة‪ ،‬لكنَّه رسعان ما اصطدم بالتيار اجلارف واملرسف للثورة الفرنس َّية التي كانت من بني‬ ‫بصفة عا َّمة ولعرص األنوار والتنوير بصفة َّ‬
‫نتائجها اإلجياب َّية إعادة مساءلة مبدأ الديمقراط َّية بام هو «مثل أعىل» ‪ .‬سيستمر هذا املسعى أزيد من مخسة وعرشين قرن ًا‪ ،‬لكي يستطيع‬
‫‪17‬‬

‫سيكف عن مقاومة «تناقض» الديمقراط َّية و«عدم توافقها» مع‬ ‫ُّ‬ ‫يغي نظرته للديمقراط َّية حيث‬ ‫الفكر‪ ‬الفلسفي السيايس املعارص أن ّ‬
‫«بالتمزق» و«بالتوتُّر» الذي‬
‫ُّ‬ ‫«ماهيتها» لكي يعرتف بالطابع «اهلش» و«املتناقض» و«املفارق» للتجربة الديمقراط َّية‪ ،‬أي لكي يعرتف‬
‫فإن االستشكال‬ ‫أن هذا «القدر» يضعها «فيام وراء» اخلري والرش‪ .‬ويف احلقيقة َّ‬ ‫تقتضيه‪ ،‬من حيث هو يشكّل «قدر» الديمقراط َّية‪ ،‬وعىل َّ‬
‫مؤسس املرشوع الديمقراطي وصاحب نظرية «العقد‬ ‫اجلذري ملفهوم الديمقراط َّية قد تزامن مع نشأهتا الثانية يف العرص احلديث مع ِّ‬
‫ألنا مضادة للطبيعة‬ ‫االجتامعي»‪ .‬لقد أكّد «جون جاك روسو» يف الفصل السابع من كتابه الثاين َّ‬
‫أن فكرة الديمقراط َّية غري قابلة للتحقيق َّ‬
‫اإلنسان َّية‪ .‬فرشوط الديمقراط َّية احل َّقة ال جتتمع ك ّلها عىل أرض الواقع‪ ،‬إذ هي يف حاجة إىل دولة صغرية يعرف أفرادها بعضهم بعض ًا‪،‬‬
‫خاصة جيب القضاء عىل البذخ‪.‬‬ ‫وجيب عىل الشعب أن يمتلك من العبقر َّية مقدار ما تقتضيه االستامتة من أجل املصلحة العا َّمة‪ ،‬وبصفة َّ‬
‫أن مثل هذه الرشوط مستحيلة التحقيق‪ ،‬ومن ضمنها وعىل رأسها نجد الطبيعة األنانَّية لإلنسان‪ ،‬يف حني تقتيض الديمقراط َّية‬ ‫واضح َّ‬
‫يضحي بذاته ومصاحله وكربيائه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يتحول الفرد إىل «مالك»‬
‫حسب «روسو» أن َّ‬

‫تصور «كلود‬
‫تصورين معارصين للديمقراط َّية؛ ُّ‬ ‫اهلش للديمقراط َّية هو ما يمكن إجالؤه أيض ًا من خالل الوقوف عىل ُّ‬ ‫‪ ‬هذا الطابع ُّ‬
‫أن الديمقراط َّية تقوم عىل القسمة‪ ،‬وتعني استحالة حتقيق التوافق‬ ‫لوفور» الذي يرى يف مؤلفاته حول الديمقراط َّية واملسألة السياس َّية َّ‬
‫بأن فضاء السلطة «فضاء فارغ» غري قابل للتملك‪،‬‬ ‫مكونات املجتمع الواحد‪ .18‬كام تعني الديمقراط َّية اإلقرار َّ‬ ‫واالندماج بني خمتلف ّ‬
‫معرضة‬
‫ألنا َّ‬
‫جمرد «كائنات فانية» يامرسوهنا بشكل مؤقت‪ ،‬بل حتى قوانني الديمقراط َّية غري قابلة للتثبيت َّ‬ ‫َّ‬
‫وأن الذين يامرسوهنا هم َّ‬
‫إن الديمقراط َّية يف نظره‪ ،‬بام هي مؤسسة عىل‬‫باستمرار للنقض من حيث مضامينها‪ ،‬كام توضع أسسها وركائزها موضع تساؤل ونقد‪َّ .‬‬
‫جتسد مصدر سلطتها‪ ،‬عىل غرار ما هو عليه األمر يف ّ‬
‫ظل‬ ‫قارة ِّ‬
‫بأي حال من األحوال أن تستند إىل هيئة َّ‬ ‫«سيادة الشعب»‪ ،‬ال يمكن هلا ّ‬
‫تدشن جتربة جمتمع «غري قابل للحجز» (‪،)insaisissable‬‬ ‫املهمة‪َّ .‬إنا ِّ‬
‫نظام «احلكم الفردي»‪ ،‬حيث يضطلع «امللك» أو «املونارك» هبذه َّ‬
‫و«غري قابل للتحكُّم» ( ‪ ، )immaîtrisable‬وال يني يعيد باستمرار صياغة هو َّيته ‪ ،‬وما ذلك إال َّ‬
‫ألن مواطن الديمقراط َّية ال يمكن يف‬ ‫‪19‬‬

‫تتم مطابقة حقوقه مع «حقوق اإلنسان»‪ .‬فمنذ‬ ‫بمجرد ما ُّ‬


‫َّ‬ ‫لتحوالت دائمة‬‫ُّ‬ ‫ألن وضعيته قابلة‬ ‫ّ‬
‫ظل هذا املنظور أن حيدّ د بشكل هنائي‪َّ ،‬‬
‫فإن «احلق الوضعي القائم»(أي النظام السيايس) يوضع‬ ‫يتم فيها اعتبار اإلحالة إىل «حقوق اإلنسان» إحالة هنائ َّية وأخرية‪َّ ،‬‬
‫اللحظة التي ُّ‬
‫بالرضورة موضع مساءلة ‪.‬‬
‫‪20‬‬

‫وهكذا نالحظ‪ ،‬يف رحاب هذا املنظور‪ ،‬أنَّه عوض ًا عن التفكري بطريقة سلب َّية يف هذه «القسمة» املحايثة للديمقراط َّية ويف ذلك‬
‫يتم التفكري فيهام بام مها يشكّالن «فرصة» لالبتعاد عن «الذات» من أجل االقرتاب من اآلخر واالنفتاح عليه‪.‬‬‫«الالتوافق» الذي تقتضيه‪ُّ ،‬‬

‫ظل حكم يعرتف‬ ‫ظل جمتمع ديمقراطي‪ ،‬أي يف ّ‬ ‫تصور املفكر األمريكي «شارل تايلور»‪ ،‬حيث يرى أنَّه يف ّ‬
‫التصور اآلخر الثاين فهو ُّ‬
‫ُّ‬ ‫أ َّما‬
‫َّ‬
‫الشك‬ ‫نمي أناه بشكل أصيل‪ .‬وممَّا‬ ‫لكل واحد باملساواة‪ ،‬جيب أن يمنح للجميع وبدون استثناء الفرص نفسها التي تتيح ّ‬
‫لكل واحد أن ُي ِّ‬

‫‪  17‬ـ ميكن الرجوع بصدد هذه املسألة إىل طوكفيل‪ ،‬ونيتشه‪ ،‬وأنّا آرندت‪ ،‬ودولوز‪ ،‬وفوكو‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫‪18 . Le citoyen, p15, textes choisis et présentés par Marie Gaille, Flammarion, Paris, 1998.‬‬
‫‪19 . C. Lefort, L’image du corps et le totalitarisme. Un homme en trop, Le Seuil, 1976, p.172 - 173.‬‬
‫‪20 . C. Lefort, Droits de l’homme et politique, L’invention démocratique. Les limites de la domination totalitaire. Fayard, 1983, p.68.‬‬

‫‪77‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد أندليس‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ألنا ترشيع َّي ًا تؤ ّدي إىل إلغاء ّ‬


‫أي إمكان َّية «لالختالف» و«التاميز»‪،21‬‬ ‫التصور للمساواة يقطع مع «نظر َّية التعاقد» لدى «روسو» َّ‬
‫ُّ‬ ‫فيه َّ‬
‫أن هذا‬
‫حيث تعترب «التالحم االجتامعي» رضوري ًا لقيام اجلسد السيايس الذي هو أساس «اإلرادة العا َّمة»‪ .‬انطالق ًا من هذا‪ ،‬وبناء عليه‪ ،‬يبلور‬
‫«كل كائن إنساين هو فريد من نوعه»‪ ،‬وبحكم ذلك «ال يمكن أن يكون غري ما‬ ‫أن َّ‬
‫«تايلور» ما يطلق عليه «مبدأ األصالة» الذي يعني َّ‬
‫يرغب أن يصنعه هو بنفسه»‪.22‬‬

‫‪ . 2 .2‬الليربال َّية اجلديدة‪ ،‬وحماولة تلقيح الديمقراط َّية بالعدالة‬

‫جتسد التكامل بني احلر َّية واملساواة‪،‬‬ ‫أن هذه املجتمعات ال يمكن أن ِّ‬ ‫يبي َّ‬‫املوجه اليوم للمجتمعات الديمقراط َّية الليربال َّية ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إن النقد‬
‫بأن الديمقراط َّية ال يمكن أن‬ ‫توسع الفجوة التي تفصل بينهام ‪ .‬فالنقد اليساري يس ّلم َّ‬
‫‪23‬‬
‫أو بني الديموقراط َّية والعدالة‪ ،‬بل هي ال تني ِّ‬
‫اللمساواة‬ ‫حتقق العدالة‪ ،‬أي ال يمكن أن حتقق مطلبي احلر َّية واملساواة يف الوقت ذاته‪ ،‬وذلك بحكم كوهنا نظام ًا يقوم أساس ًا عىل َّ‬
‫أن املشكل‬ ‫املوجه من قبل اليمني يرى َّ‬ ‫االقتصاد َّية‪ ،‬أي بحكم كوهنا نظام ًا رأسامل َّي ًا يقوم عىل امللك َّية اخلاصة لوسائل اإلنتاج‪ .‬بينام النقد َّ‬
‫ألن الكائنات اإلنسان َّية من حيث طبيعتها غري‬ ‫ليس هو عدم التالؤم بني املبدأين‪ ،‬أي احلر َّية واملساواة‪ ،‬وإنَّام يتعلق بقيمة املساواة‪َّ ،‬‬
‫إن النقد اليساري ينتهي يف آخر املطاف إىل إقامة‬ ‫متساوية‪ ،‬وبالتايل فالتعامل معها عىل قدم املساواة معناه رفض سمتها اإلنسان َّية‪َّ .24‬‬
‫اللمساواة االجتامع َّية بني العامل والرأسامليني‪،‬‬ ‫ألن أسس نقده ـ مثل َّ‬ ‫طالق هنائي بني الديمقراط َّية من جهة والعدالة من جهة أخرى‪َّ ،‬‬
‫حل هلا يف إطار الليربال َّية ‪ .‬وبالرغم من َّ‬
‫أن‬ ‫‪25‬‬ ‫ألنا لن تعثر عىل ٍّ‬ ‫واللمساواة االقتصاد َّية القائمة عىل اجلنس والعرق‪ -‬ستحال إىل املستقبل‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫أن ُج َّل املن ّظرين الليرباليني وعىل رأسهم‬ ‫دينامية االقتصاد الرأساميل تنزع إىل إزاحة الكثري من العوائق العرف َّية والثقاف َّية أمام املساواة‪ ،‬إال َّ‬
‫أن الديمقراط َّية الليربال َّية هي من حيث ماهيتها المساوات َّية‪ ،‬وذلك بحكم االختالف الطبيعي‬ ‫«فوكوياما» يتش َّبثون بأطروحة كون َّ‬
‫إن «كوجيف» يذهب بعيد ًا حيث‬ ‫املوجود بني االستعدادات واملواهب‪ ،‬وبحكم التقسيم الرضوري للعمل الذي يقتضيه االقتصاد‪ .26‬بل َّ‬
‫كل‬‫أن الديمقراط َّية الليربال َّية األمريك َّية قد ح َّققت «حلم ماركس املتع ّلق باملجتمع اخلايل من الطبقات»‪ ،‬ليس بمعنى َّأنا قضت عىل ّ‬ ‫يرى َّ‬
‫أن ما تب َّقى من حواجز تعترب رضور َّية من حيث ارتباطها بطبيعة األشياء أكثر ممَّا هي متوقفة‬ ‫اللمساواة االجتامعية‪ ،‬وإنَّام يعني َّ‬‫أشكال َّ‬
‫عىل إرادة الناس‪ .‬لقد استطاعت هذه املجتمعات أن حتقق «مملكة احلر َّية» وذلك بالقضاء الفعيل عىل احلاجة الطبيع َّية‪ ،‬ومتكني الناس من‬
‫فإن اخلطر احلقيقي الذي هيدّ د فعلي ًا مستقبل املجتمعات‬ ‫امتالك ما يشتهونه مقابل بذهلم ملقدار أدنى من الشغل‪ .27‬ويف نظر «فوكوياما» َّ‬
‫«اللمساواة االجتامع َّية» وإنَّام هو «شمول َّية املساواة»‪ ،‬أي السعي لفرض املساواة بني أناس غري متساوين طبيعي ًا‪.28‬‬ ‫الديمقراط َّية ليس هو َّ‬

‫‪21 . J. J. Rousseau, Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes, p.228.‬‬
‫‪22 . Ch. Taylor, La politique de reconnaissance, Multiculturalisme. Différence et démocratie, p.56 - 59, trad. D.A.Canal, Aubier, 1994.‬‬
‫‪23 . Francis FuKuyama: «La fin de l’histoire et le dernier homme», p326. Champs Flammarion, 1992.‬‬
‫‪24 . Ibid, p.326.‬‬
‫‪  25‬ـ للوقوف عىل االختالف الجذري الذي يوجد يف أساس التص ُّورات السياس َّية الحديثة واملعارصة‪ ،‬وهو اختالف له عالقة بالكيف َّية التي يت ُّم بها ترصيف «مبدأ الحريَّة»‬
‫داخل التجربة الدميقراطيَّة الغربيَّة بني تلك التي تتخذ من «إشباع الرغبة» و«تحقيق الرفاهية» و«السعادة» معيارا ً لها؛ واألخرى التي تتخذ من «تحقيق االعرتاف‬
‫الشامل واملتبادل» ومن «شمول َّية املساواة» معيارا ً لها؛ ميكن الرجوع إىل مقايل املنشور مبجلة «األزمنة الحديثة» العدد‪ ،5‬صيف ‪ ،2012‬تحت عنوان‪« :‬نحو إعادة‬
‫استشكال فلسفي ملفهوم الحريَّة يف ضوء «الثورات الربيعيَّة»‪.‬‬
‫‪26 . Ibid, p.328.‬‬
‫‪27 . Ibid, p.328.‬‬
‫‪28 . Ibid, p.338.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪78‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫نحو إعادة استشكال الديمقراط َّية يف عالقتها بالعدالة‬

‫تصورات‬ ‫ُّ‬ ‫إن هذا التعارض اجلذري يف‬ ‫َّ‬ ‫إن التناقض األسايس الذي سيهدّ د عىل املدى البعيد النظام‬ ‫َّ‬
‫العدالة داخل األنظمة الديمقراط َّية الليربال َّية‪،‬‬ ‫الديمقراطي الليربايل هو تناقض داخيل له عالقة من جهة أوىل‬
‫كل رغبات اإلنسان‪ ،‬ومن جهة ثانية‬ ‫بالنزوع املرسف إلشباع ّ‬
‫املحك مدى مصداق َّية‬ ‫ّ‬ ‫الذي يضع عىل‬
‫بالسعي لتحقيق االعرتاف الشامل واملتبادل‪ .‬ويرى «فوكوياما»‬
‫االختيار الديمقراطي‪ ،‬هو الذي يفتح أمام‬ ‫َّ‬
‫أن التهديد األكرب لتلك األنظمة هو املتعلق بشمول َّية االعرتاف‬
‫شعوب العامل الثالث باب األمل من جديد يف‬ ‫ألن هذا سيصطدم باحلدود املفروضة من قبل‬ ‫(أي العدالة)‪َّ ،‬‬
‫ديمقراط َّية مستقبل َّية عادلة‪ ،‬ال هي ديمقراط َّية‬ ‫الطبيعة ذاهتا‪.29‬‬

‫ليربال َّية‪ ،‬وال هي اشرتاك َّية توتالتار َّية‬


‫يف مقابل هذا التصور املتشائم لفوكوياما وعىل أنقاضه‪ ،‬نجد‬
‫تصور «جان راولز» الذي يقوم عىل املصاحلة بني الديمقراط َّية‬ ‫ُّ‬
‫َّ‬
‫يتأسس عىل االقتناع التايل‪ :‬وهو أن الديمقراط َّية الليربال َّية يمكن أن تكون عادلة‪،‬‬ ‫التصور الذي صنع شهرته‪ -‬الذي َّ‬ ‫ُّ‬ ‫والعدالة ‪ -‬وهو‬
‫ليس عىل املستوى القانوين‪ -‬احلقوقي فحسب‪ ،‬وإنَّام أيض ًا بل وأساس ًا عىل املستوى االجتامعي‪ .‬واجلدير بالذكر َّ‬
‫أن اإلقبال عىل «نظر َّية‬
‫يتم إال بعد سقوط «جدار برلني» واهنيار «املنظومة االشرتاك َّية»‪ ،‬فقد تراجع الطرح الذي يراهن عىل الثورة‬ ‫العدالة» لدى «راولز» مل َّ‬
‫اخلاصة لوسائل اإلنتاج وإحالل امللك َّية اجلامع َّية حم َّلها‪ -‬باعتبارها وحدها الكفيلة ِّ‬
‫بحل إشكال َّية‬ ‫َّ‬ ‫االشرتاك َّية ‪ -‬والقضاء عىل امللك َّية‬
‫واللمساواة املالزمة للمجتمعات الديمقراط َّية احلديثة‪ .‬لكن إذا كان النظام املجتمعي ‪ -‬بام يف ذلك نظام السوق‪ -‬عبارة عن‬ ‫االستغالل َّ‬
‫مؤسسة‪ ،‬فإنَّه جيب طرح إشكال عدالته‪ ،‬أي الكيف َّية التي جيب اتباعها يف تنظيمه لكي يصري ذا مصداق َّية يف أعني من خيضعون لقواعده‪.‬‬ ‫َّ‬
‫حر ال يمكن أن‬ ‫َّ‬
‫فإذا كانت العدالة ـ كام يقول «راولز»‪ -‬جيب أن تكون الفضيلة األوىل للمؤسسات االجتامع َّية‪ ،‬فألن مواطني جمتمع ّ‬
‫خيضعوا لنظام غري عادل‪.‬‬

‫بأن النظام السيايس األكثر عدالً الذي يقرتب أكثر من النموذج املثايل ويأخذ بعني االعتبار أكثر من غريه قيمتي احلر َّية‬ ‫إن «راولز» مقتنع َّ‬ ‫َّ‬
‫واملساواة وقيمة التسامح‪ ،‬هو بال شك النظام الديمقراطي الليربايل‪ .‬وإذا كان «راولز» يقدّ م نفسه باعتباره «مريد ًا» للفيلسوف األملاين‬
‫«إيامنويل كانط»‪ ،‬فألنَّه يعيد تركيب الصورة الفلسف َّية التي حيرض هبا اإلرث الكانطي األخالقي يف منظومة الفلسفة السياس َّية املعارصة‬
‫ويصوغها عىل النحو التايل‪ :‬كيف يمكن االنتقال إىل جمتمع مدين حتكمه قوانني عادلة حتدِّ د احلر َّية الفرد َّية وتصوهنا يف الوقت نفسه؟‪.30‬‬
‫لكل املجتمعات‪ ،‬مهام كانت خصوصياهتا‬ ‫ال أعىل كون َّي ًا صاحل ًا ّ‬
‫أن التعامل مع «العدالة كإنصاف» ‪ ،‬يعترب قيمة شاملة‪ ،‬بل ومث ً‬ ‫هلذا يرى َّ‬
‫التارخي َّية واالجتامع َّية والثقاف َّية‪ .‬فنجاعة النظام الديمقراطي الليربايل تتم ّثل يف التوافق الذي يقيمه بني العدالة واحلر َّية‪ ،‬حيث جيعله‬
‫فألنا رضورية للحفاظ عىل االستقرار االجتامعي‪،‬‬ ‫أساس التعاقد االجتامعي‪ .‬وإذا كان «راولز» يعطي األولو َّية للعدالة عىل احلر َّية‪َّ ،‬‬
‫وحل النزاعات األنان َّية التي يمكن أن تعيق تالحم املجتمع؛ هلذا ال يمكن للعدالة أن تتناىف مع أهم مبدأ إنساين‪ ،‬وهو املتع ّلق باحلر َّية‬ ‫ّ‬
‫فاللمساواة‬ ‫الفرد َّية‪ ،‬حتى وإن كانت احلر َّية «العادلة» ال تتامهى مع «النزعة املساوات َّية» (‪ )L’égalitarisme‬التي هي خرق ملبدأ احلر َّية‪َّ .‬‬
‫لتطور قوى اإلنتاج املؤ ّدي للزيادة يف اإلنتاج واالستهالك‪ .‬ولكي توجد احلر َّية‬ ‫االجتامع َّية هي رشط رضوري لالخرتاع‪ ،‬وال غنى عنها ُّ‬
‫كل فرد بحق الولوج إىل أكرب مقدار من احلر َّية يسمح به النظام القائم‪ ،‬الذي‬ ‫فعل َّي ًا عىل أرض الواقع جيب ـ حسب «راولز»‪-‬أن يتمتع ُّ‬
‫األول األسايس الذي تقوم عليه نظر َّية العدالة لدى «راولز»‪ ،‬وهو «مبدأ املساواة‬ ‫حمط مساواة بني اجلميع‪ .‬يتع ّلق األمر هنا باملبدأ َّ‬
‫هو ُّ‬
‫اللمساواة‬ ‫يتم تنظيم َّ‬
‫يف احلر َّية» ‪ .‬أ َّما املبدأ الثاين (أي مبدأ االختالف)‪ ،‬فهو يقتيض لكي تتحقق العدالة فعل َّي ًا عىل أرض الواقع أن َّ‬
‫‪31‬‬

‫‪29 . Ibid, p.354.‬‬


‫‪  30‬ـ د‪ .‬مصطفى حنفي «النزعة اإلنسانيَّة وإرث األنوار»‪ ،‬ص‪ 137‬وص‪ .138‬إفريقيا الرشق ‪.2014‬‬
‫‪31 . John Rawls, «Théorie de la Justice», p91, Le Seuil, Paris, 1989.‬‬

‫‪79‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد أندليس‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ترضر ًا‪ .‬فهنا املبدأ جييز َّ‬


‫اللمساواة االجتامع َّية واالقتصاد َّية‬ ‫ّ‬
‫األقل ح ّظ ًا واألكثر ُّ‬ ‫االجتامع َّية واالقتصاد َّية بكيفية جتعلها لفائدة الفئات‬
‫بني خمتلف الفئات واملجموعات رشيطة‪( :‬أ) أن تكون لصالح الفئات األكثر فقر ًا‪( ،‬ب) وأن تكون املناصب املتاحة مفتوحة أمام‬
‫اجلميع انطالق ًا من مبدأ تكافؤ الفرص‪ .‬وهكذا وانطالق ًا من هذين املبدأين (مبدأ املساواة يف احلر َّية‪ ،‬ومبدأ االختالف)‪ ،‬تصبح العدالة‬
‫ألنام أساس العيش املشرتك داخل املجتمع التعاقدي‪ .‬فهذه احلياة املشرتكة ال يمكن أن تكون عادلة‬ ‫واحلر َّية ح ّقني غري قابلني للخرق َّ‬
‫إال إذا كان أعضاؤها األحرار حيتكمون يف تدبري شؤوهنم إىل قواعد متفق عليها ومقبولة من حيث إجراءاهتا من قبل اجلميع‪ .‬لتثبيت‬
‫هذه القواعد‪ -‬أي قواعد التشارك املنصف‪ -‬ينطلق «راولز» من وضعية افرتاض َّية يعتربها بمثابة «الوضع َّية األصل َّية»(‪La situation‬‬
‫كل شخص نفسه قبل التعاقد‪ ،‬بحيث جيهل املكانة التي سيحتلها داخل املجتمع‪ ،‬ال موقعه‬ ‫‪ ،)originelle‬وهي الوضع َّية التي جيد فيها ُّ‬
‫حصته من االستعدادات واملؤهالت الطبيع َّية التي سيحصل عليها‪ .‬هؤالء األفراد الواقعون‬ ‫الطبقي وال وضعيته االجتامع َّية‪ ،‬كام جيهل ّ‬
‫يسميه «راولز» «قناع اجلهل»(‪ )un voile d`ignorance‬سيسعون إىل حتقيق احلدّ األقىص لإلنصاف‪ ،‬وهذا ما سيقودهم إىل تبنّي‬ ‫حتت ما ّ‬
‫النظام السيايس القائم عىل الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬مع ما يقتضيه من مساواة فعل َّية يف تكافؤ الفرص واحرتام مبدأ االختالف‪ .‬يف هذه‬
‫الديمقراط َّية الليربال َّية تضطلع الدولة بدور هام يف تدبري اقتصاد السوق‪ ،‬حيث حتافظ عىل سالمة املنافسة ووفرة الشغل‪ ،‬وتضمن حدَّ ًا‬
‫أدنى من مستوى العيش املعقول للمعوزين‪ ،‬بتحقيق اإلنصاف يف توزيع اخلريات وأداء الرضائب‪.‬‬

‫كل املجتمعات وتبنَّاها «القانون الدويل»‪ ،‬ستؤ ّدي ال حمالة‬ ‫تم تعميمها عىل صعيد ِّ‬ ‫يعتقد «راولز» َّ‬
‫أن مبادئ نظريته يف العدالة إذا ما َّ‬
‫إىل إقصاء األنظمة الدكتاتور َّية واالستبداد َّية‪ ،‬لكنَّها مع ذلك ستكون متساحمة مع األنظمة غري الديمقراط َّية (أي األنظمة الرتاتب َّية) حتى‬
‫أن شمولية «حقوق اإلنسان» و«مبادئ النزعة اإلنسان َّية» مثل مبدأ «التسامح» من‬ ‫ألن «راولز» يعتقد َّ‬‫لو كانت ثيوقراط َّية؛ وما ذلك إال َّ‬
‫كل املشاكل‬ ‫حلل ِّ‬
‫شأهنا‪ ،‬إذا ما اعتمدت من قبل الدول كأساس للرتبية‪ ،‬أن تؤ ّدي إىل حتقيق السعادة‪ .‬فالرتبية بالنسبة إىل راولز هي مفتاح ِّ‬
‫االقتصاد َّية واالجتامع َّية‪ ،‬فعىل سبيل املثال ليس النقص يف اإلنتاج الغذائي هو السبب الرئيس وراء املجاعة‪ ،‬وإنَّام االضطهاد املامرس عىل‬
‫الشعوب من قبل بعض احلكَّام‪ ،‬وفساد النخبة‪ ،‬واستعباد املرأة (الناجم عن سيادة بعض األحكام املسبقة الدين َّية)‪ ،‬والكثافة السكَّان َّية‪.‬‬
‫هلذا فأفضل ما يمكن القيام به هو إعطاء اجلميع فرص ًا متكافئة للولوج إىل الرتبية والصحة‪.‬‬

‫تصورها لإلنسان‬
‫ُّ‬ ‫تعرضت «نظرية العدالة» لدى «راولز» لعدَّ ة انتقادات متحورت أساس ًا عىل مبادئها‪ ،‬كام انص َّبت عىل‬
‫لقد َّ‬
‫والدولة‪.‬‬

‫جمرد للفرد‬
‫تصور َّ‬‫األول َّية لإلنسان‪ -‬عىل ُّ‬ ‫تتأسس نظرية العدالة لدى راولز‪ -‬وخاصة من خالل افرتاض «قناع اجلهل» املم ّيز للوضع َّية َّ‬ ‫َّ‬
‫التصور امليتافيزيقي للفرد هو الذي ُوضع موضع نقد جذري‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫باعتباره ذات ًا حمايدة بدون جذور تارخي َّية أو اجتامع َّية أو ثقاف َّية؛ وهذا‬
‫وخاصة من قبل «النزعة اجلامعو َّية»(‪ ، )Le communautarisme‬التي تؤكّد عىل اجلذور التارخي َّية والثقاف َّية للفرد‪ ،‬وعىل أنَّه خمرتق‬ ‫َّ‬
‫بالتقاليد واألعراف واملؤسسات والقيم التي ينتمي إليها‪ ،‬وبالتايل فحر َّية الفرد هلا طابع تارخيي‪ -‬إثني وثقايف َّ‬
‫ألن جماهلا ليس الفرد‬
‫املعزول وإنَّام املجتمع الذي خيرتق الفرد َّية‪ .‬وهكذا فـ«مبدأ املساواة» احلديث ‪ -‬يف نظر هذا املذهب‪ -‬جيب أن يبني «هو َّية اإلنسان‬
‫ٍ‬
‫متساو‪ ،‬وعىل نحو‬ ‫عىل أساس االختالفات»‪ ،‬حيث يتيح العبور من «العدالة الصور َّية»‪ -‬التي تبع ًا هلا يصبح العدل هو التعامل بشكل‬
‫لتنوع الدوائر‪ ،‬وهذه هي وجهة النظر التي‬ ‫متطابق يف مجيع احلاالت‪ -‬إىل «العدالة الواقع َّية» التي تأخذ بعني االعتبار تعدُّ د اخلريات تبع ًا ُّ‬
‫يدافع عنها الفيلسوف األمريكي املعارص «ميكائيل والزر»(‪ .32 )Michael Walzer‬يرفض هذا األخري اعتبار «مبدأ العدالة» مبدأ واحد ًا‬

‫سيقدّم «راولز» فيام بعد تأويلني آخرين لنظريته يف العدالة‪ ،‬يحاول أن يجيب فيهام عن بعض اعرتاضات النقاد‪:‬‬
‫‪Libéralisme politique,tr. fr., Paris, PUF, 1995 ; La justice comme équité ,tr. fr., Paris, La Découverte, 2006.‬‬
‫‪32 . Michael Walzer, Sphères de Justice, tr. fr. Paris, Le Seuil, 1996.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪80‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫نحو إعادة استشكال الديمقراط َّية يف عالقتها بالعدالة‬

‫فتصورنا للعدالة جيب أن يتالءم مع خصوص َّية دوائر وجماالت اخلري‪ ،‬فهناك دائرة‬ ‫ُّ‬ ‫ومتنوعة‪ ،‬وهلذا‬
‫ّ‬ ‫األولية كثرية‬ ‫ووحيد ًا‪َّ ،‬‬
‫ألن اخلريات َّ‬
‫حيث «املال» هو املصدر املهيمن‪ ،‬وهناك جمال آخر حيث السلطة هي اهلا َّمة‪ ،‬وهناك جمال ثالث تُعترب فيه املعرفة هي املعيار األسايس‪،...‬‬
‫وهكذا فالسعي لتحقيق اإلنصاف يعني العمل بكيف َّية جتعل االمتيازات أو املعيقات ال جتتمع يف جهة واحدة‪ .‬لك َّن االعرتاض عىل نظر َّية‬
‫مؤسسة حمايدة‪،‬‬ ‫ألن «أولو َّية العدل عىل اخلري» قادت «راولز» إىل جعل الدولة َّ‬ ‫العدالة لدى «راولز» يطال أيض ًا مكانة الدولة ودورها‪َّ ،‬‬
‫لكل فرد‬ ‫تصور ليربايل للدولة‪ ،‬فقد حرص دورها يف ضامن احلر َّيات السياس َّية واملدن َّية األساس َّية‪ ،‬بحيث يمكن ِّ‬
‫وبالتايل انتهت إىل تكريس ُّ‬
‫تصور خاص ملا ينبغي أن يكون عليه‬ ‫أي ُّ‬‫تصوره للخري‪ ،‬وهذا لن يتحقق إال بتبنّي مبادئ ال تفرتض مسبق ًا َّ‬‫أن حي ّقق غاياته بالرجوع إىل ُّ‬
‫أي بعد إتيقي‪ ،‬وتصبح الدولة جهاز ًا حمايد ًا‪ .‬إال َّ‬
‫أن حياد َّية‬ ‫تصور أدايت للسياسة‪ ،‬حيث تصبح بدون ّ‬ ‫اخلري املشرتك‪ .‬ويرتتَّب عىل هذا ُّ‬
‫ظل جمتمع عادل أن تضمن سياق ًا مالئ ًام لتحقيق االستقالل الذايت لألفراد ‪ ،‬وذلك نظر ًا‬
‫‪33‬‬ ‫الدولة ‪ -‬يف نظر «شارل تايلور»‪ -‬ال يمكن يف ِّ‬
‫لتنوع اخلريات االجتامع َّية وعدم تكافؤ فرص الولوج إليها‪.‬‬
‫ُّ‬

‫وبصفة عا َّمة يمكن تلخيص مشهد الفلسفة السياس َّية املعارصة يف جانبه املتع ّلق بإشكال َّية العالقة بني الديمقراط َّية والعدالة‪ ،‬يف‬
‫التصورين التاليني‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫االستقطاب املحصور يف‬

‫بالتصور املساوايت للعدالة ‪ -‬وفيه تندرج نظر َّية «راولز» يف العدالة‪ -‬يسعى أساس ًا ملعاجلة‬
‫ُّ‬ ‫األول للعدالة الذي يمكن أن ننعته‬‫التصور َّ‬ ‫ُّ‬
‫َّ‬
‫تنصب عىل مفعوالت اللمساواة‬‫ُّ‬ ‫اللمساواة االقتصاد َّية ببلورة سياسات إعادة توزيع اخلريات‪ ،‬وهي يف جوهرها سياسات تصحيح َّية‬ ‫َّ‬
‫التصور الثاين للعدالة ‪ -‬الذي يندرج فيه التيار اجلامعوي(ميكائيل والزر‪ )..‬والتيار االشرتاكي (أكسيل‬ ‫ُّ‬ ‫االقتصا َّدية وليس عىل عللها‪ .‬أ َّما‬
‫ألن «إنكار االعرتاف» ‪ -‬يف نظره‪ -‬هو الذي‬ ‫هونيث ‪ -‬نانيس فرايزر)‪ -‬فهو يدعو إىل تبنّي اسرتاتيجيات تقوم عىل «سياسة االعرتاف»‪َّ ،‬‬
‫أن مثل هذه االسرتاتيج َّية تقتيض اعتامد سياسة التغيري‬ ‫اللمساواة داخل املجتمعات الليربا َّلية؛ وواضح َّ‬ ‫يوجد وراء خمتلف أشكال َّ‬
‫اللمساواة االقتصاد َّية ذاهتا بدالً من مفعوالهتا‪.‬‬
‫ألنا تروم معاجلة علل َّ‬ ‫اجلذري‪َّ ،‬‬

‫املحك مدى مصداق َّية االختيار‬ ‫ّ‬ ‫تصورات العدالة داخل األنظمة الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬الذي يضع عىل‬
‫إن هذا التعارض اجلذري يف ُّ‬ ‫َّ‬
‫الديمقراطي‪ ،‬هو الذي يفتح أمام شعوب العامل الثالث باب األمل من جديد يف ديمقراط َّية مستقبل َّية عادلة‪ ،‬ال هي ديمقراط َّية ليربال َّية‪،‬‬
‫وال هي اشرتاك َّية توتالتار َّية‪.‬‬

‫‪33 . Charle Taylor, L’histoire des idées politiques, p.569, PUF, 2004.‬‬

‫‪81‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫معاني العدل عند الغزالي‬

‫حممد املصباحي*‬

‫« ا ُمللك يبقى مع الكفر‪ ،‬وال يبقى مع الظلم»‬


‫حديث نبوي‪.‬‬

‫ال مل يكن عادالً»‬


‫«ظهور العدل من كامل العقل‪ ،‬وكامل العقل أن ترى األشياء عىل ما هي ‪ ،...‬ومن مل يكن عاق ً‬
‫أبو حامد الغزايل‪ ،‬الترب املسبوك يف نصيحة امللوك‪.‬‬

‫« حدّ العدالة هو اإلسالم من غري ظهور فسق»‬


‫الغزايل‪ ،‬املستصفى يف أصول الفقه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.186‬‬

‫العدالة «هيئة راسخة يف النفس حتمل عىل مالزمة التقوى واملروءة مجيع ًا حتى حتصل ثقة النفوس بصدقه»‬
‫املستصفى يف أصول الفقه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.186‬‬

‫« ما من حكم رشعي إال وهو قابل للنسخ‪ ،‬خالف ًا للمعتزلة ّ‬


‫فإنم قالوا من األفعال ما هلا صفات نفسية تقتيض حسنها وقبحها‪ ،‬فال‬
‫يمكن نسخها‪ ،‬مثل معرفة اهلل تعاىل والعدل وشكر املنعم‪ ،‬فال جيوز نسخ وجوبه‪ ،‬ومثل الكفر والظلم والكذب فال جيوز نسخ حتريمه‪،‬‬
‫وبنوا هذا عىل حتسني العقل وتقبيحه »‬
‫الغزايل‪ ،‬املستصفى يف أصول الفقه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.144‬‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫ّ‬
‫مل ينتج الفالسفة املسلمون شيئ ًا ذا بال يف موضوع العدل والعدالة الذي يلتقي فيه األخالقي والسيايس والديني‪ ،‬يف حني كتب‬
‫ّ‬
‫وألن الغزايل مفكر خمرضم تتقاطع فيه صفات الفقيه واألصويل واملتكلم‬ ‫الفقهاء كثري ًا يف العدل الفقهي‪ ،‬وعلامء الكالم يف العدل اإلهلي‪.‬‬
‫ختص العدالة قاب ً‬
‫ال ألن يرقى إىل مستوى‬ ‫واملتصوف وربام الفيلسوف‪ ،‬فمن حقنا أن نتساءل هل ما يوجد لديه من مادة معرفية متناثرة ّ‬ ‫ّ‬
‫النظرية؟‬

‫بنى أبو حامد رؤيته أو رؤاه للعدالة عىل أساس مرجعيات متعددة‪ ،‬بل ومتضاربة‪ ،‬تتكون أوالً من القرآن واحلديث واألخبار املستقاة‬
‫من التوراة واإلنجيل والرتاث اإليراين؛ وثاني ًا من نظريات ومفاهيم ورؤى تنتمي إىل جمال الفلسفة اليونانية وامتداداهتا يف الفلسفة‬
‫العربية اإلسالمية‪ ،‬والتأثريات الفقهية واألصولية والكالمية والصوفية‪ .‬وهذا الغنى يف موارده املعرفية ويف أعامله الكثرية واملتنوعة يف‬
‫مشارهبا ومراميها‪ ،‬جيعل من الصعب استخالص نظرية‪ ،‬أو حتى فكرة واضحة متامسكة عن العدالة من متون الغزايل‪ ،‬الس ّيام أنّه كان‬

‫* مفكر وأكادميي من املغرب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪82‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫معاين العدل عند الغزايل‬

‫مل ينتج الفالسفة املسلمون شيئ ًا ذا بال يف‬ ‫ُيكثر من إيراد األخبار واألقوال يف كتاباته عن املوضوع‪ ،‬فتختلط‬
‫موضوع العدل والعدالة الذي يلتقي فيه‬ ‫آراؤه وخالصاته وإشاراته ورشوحه بالنصوص التي يوردها‪،‬‬
‫فال ندري كيف نفرز موقفه اخلاص من اخلليط العجيب من‬
‫األخالقي والسيايس والديني‪ ،‬يف حني كتب‬
‫مواقف اآلخرين‪ .‬ومع ذلك سنعمل عىل استعراض رسيع ملفهوم‬
‫الفقهاء كثري ًا يف العدل الفقهي‪ ،‬وعلامء‬ ‫العدل لديه عرب أربعة حماور تتصل بعالقات العدل بالعقل واحلق‬
‫الكالم يف العدل اإلهلي‬ ‫واألخالق والسياسة والرشيعة واالقتصاد‪.‬‬

‫وقبل أن نخوض يف هذا املضامر‪ ،‬ال بدّ من اإلشارة إىل تنوهيه بقيمة ومكانة العدالة سواء يف اإلسالم أو يف الثقافتني اإليرانية واليونانية‪.‬‬
‫إن اهلل تعاىل مل خيلق شيئ ًا يف األرض أفضل من العدل‪ ،‬والعدل ميزان اهلل يف أرضه‪ ،‬من‬ ‫ال يورد هذا القول‪« :‬قال موسى ـ ع‪ .‬س ـ ّ‬ ‫فمث ً‬
‫تعلق به أوصله اجلنة‪ ،...‬وقال قتادة يف تفسري هذه اآلية ﴿أالّ تطغوا يف امليزان﴾ قال أراد به العدل‪ ،‬فقال‪ :‬يا ابن آدم اعدل كام ّ‬
‫حتب أن‬
‫يعدل فيك»‪.1‬‬

‫‪ .1‬العدل والعقل‪:‬‬
‫أول أمر اشتغل عليه الغزايل بصدد العدل هو ربطه بالعقل ربط ًا ذاتي ًا‪ .‬إذ بالرغم من اختالف فضيلة العقل‪ ،‬وهي احلكمة أو العلم ‪،‬‬
‫‪2‬‬

‫يتم وزن األفعال‪ ،‬ومقايسة اآلراء‬ ‫فإن العقل حارض يف تشكيل مفهوم العدل باعتباره معيار ًا له‪ ،‬إذ به ّ‬ ‫عن فضيلة العدل وهي اإلنصاف‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫متعال عن األشياء‬ ‫ّ‬
‫وألن املعيار بطبيعته‬ ‫تعسف ًا وظل ًام‪.‬‬
‫يتم ردع النفس حتى ال تتجاوز أفعاهلا وآراؤها حدودها فتصري ّ‬ ‫واملامرسات‪ ،‬وبه ّ‬
‫املعارة‪ ،‬فسيكون العقل ضامن ًا للحياد والنزاهة للعدل‪ .‬فإذا س ّلمنا بأنّه ال عدل بدون عقل‪ ،‬فإنّه يف املقابل ال عقل بغري إنصاف وعدل‪.‬‬
‫ولذلك متى غاب العقل حرض الظلم‪ ،‬ومتى حرض العقل كان العدل‪ .‬وهذا ما أشار إليه ابن منظور صاحب لسان العرب قائالً‪:‬‬
‫أن الظلم‬‫حجته‪ ،‬أي معقوليته الصادرة عن العقل‪ ،‬يف حني ّ‬ ‫أن للعدل ّ‬ ‫حجة له‪ ،‬وقد ُس ّمي ظامل ًا»‪ ،‬ممّا يعني بالنسبة إلينا ّ‬
‫«وكذلك الظامل ال ّ‬
‫وح َّجتُه داحضة عند‬
‫حجة‪ُ ،‬‬ ‫سمه ّ‬‫املحتج به ّ‬
‫ّ‬ ‫حجة‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫«سمى ظلمه هنا ّ‬ ‫احلجة ألنّه ال عقل له‪ .‬كام نقرأ يف لسان العرب أيض ًا َّ‬ ‫يفتقر إىل ّ‬
‫بحجة موجبة ح ًّق ًا»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫حجة ُم ْبطل‪ ،‬فليست ّ‬ ‫حجة‪ ،‬إال ّأنا ّ‬ ‫﴿ح َّجتهم داحضة عند رهبم﴾؛ فقد ُس ّميت ّ‬ ‫اهلل‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ُ :‬‬

‫أن بعض صفات األفعال‪ ،‬كاحلسن‬ ‫والتالزم «الذايت» بني العقل والعدل يطرح مشكلة من النوع املعتزيل‪ .‬فأصحاب هذا املذهب يرون ّ‬
‫والقبح والعدل هي صفات ذاتية‪ ،‬أو نفسية بلغتهم‪ ،‬أي ّأنا تتسم بالرضورة التي جتعلها غري قابلة لالنفصال‪« ،‬فال يمكن نسخها‪ ،‬مثل‬
‫معرفة اهلل تعاىل والعدل وشكر املنعم‪ ،‬فال جيوز نسخ وجوبه‪ ،‬ومثل الكفر والظلم والكذب فال جيوز نسخ حتريمه»‪ .3‬أ ّما الغزايل فال يقبل‬

‫‪ 1‬ـ الغزايل‪ ،‬أبو حامد محمد‪ ،‬الترب املسبوك يف نصيحة امللوك‪ ،‬ع ّربه عن الفارسية أحد تالمذته‪ ،‬ضبطه وص ّححه أحمد شمس الدين‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،1988 ،‬‬
‫ص ‪.49‬‬
‫‪ 2‬ـ عن فضيلة الحكمة باعتبارها مثرة تهذيب قوة الفكر‪« :‬ولنذكر جمل العلم األخص من هذه العلوم السياسية فإنّه املقصود بالبيان‪ ،‬ومجامع القوى التي ال ب ّد من‬
‫تهذيبها ثالث‪ :‬قوة التفكر وقوة الشهوة وقوة الغضب‪ .‬ومهام هذبت قوة الفكر وأصلحت كام ينبغي‪ ،‬حصلت بها الحكمة‪ ،‬التي أخرب الله عنها حيث قال‪﴿ :‬ومن يؤتَ‬
‫الحكمة فقد أويت خريا ً كثريا ً﴾‪ ،‬ومثرتها أن يتيرس له الفرق بني الحق والباطل يف االعتقادات وبني الصدق والكذب يف املقال‪ ،‬وبني الجميل والقبيح يف األفعال‪ ،‬وال يلتبس‬
‫عليه يشء من ذلك‪ ،‬مع أنّه األمر امللتبس عىل أكرث الخلق»‪ ،‬ميزان العمل‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة الجندي‪ ،‬ب‪ .‬ت‪ ،‬ص ‪.54-53‬‬
‫‪ 3‬ـ عن االرتباط الذايت للعدل والظلم باألفعال‪ ،‬وليس بعدم جواز نسخه كام يدّعي املعتزلة يقول‪« :‬ما من حكم رشعي إال وهو قابل للنسخ‪ ،‬خالفاً للمعتزلة فإنّهم‬
‫قالوا من األفعال مالها صفات نفسية تقتيض حسنها وقبحها‪ ،‬فال ميكن نسخها‪ ،‬مثل معرفة الله تعاىل والعدل وشكر املنعم‪ ،‬فال يجوز نسخ وجوبه‪ ،‬ومثل الكفر والظلم‬
‫والكذب فال يجوز نسخ تحرميه‪ ،‬وبنوا هذا عىل تحسني العقل وتقبيحه وعىل وجوب األصلح عىل الله تعاىل‪ ،‬وحجروا بسببه عىل الله تعاىل يف األمر والنهي»‪ ،‬الغزايل‪،‬‬
‫املستصفى يف أصول الفقه‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار صادر‪ ،‬ط‪ ،2010 ،2‬ج‪ ،1‬ص ‪.144‬‬

‫‪83‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد املصباحي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫أن ربطه للعقل بالعدل له حدود‪ّ ،‬‬


‫وأن الرشيعة‬ ‫بتقييد اإلرادة اإلهلية‪ ،‬كام ال يقبل العالقة الرضورية والذاتية لألفعال بصفاهتا‪ ،‬ممّا يعني ّ‬
‫هي التي تضفي عىل األفعال صفات احلق والعدل واحلسن والقبح والصدق والكذب‪.‬‬

‫ودخول العقل يف ماهية العدالة واالعتدال ُي ِدث وظيفة أخرى هي التوسط‪ .‬فالفضائل‪ ،‬كالعفة والشجاعة‪ ،‬هي فضائل بسبب دخول‬
‫العدالة يف حدها‪ ،‬فيتحدد معناها بالتوسط بني اإلفراط والتفريط‪ ،‬أي بني رذيلتني متقابلتني هلا؛ كالشجاعة وسط بني التهور واجلبن‪،‬‬
‫والكرم وسط بني التبذير والتقتري‪ ،‬والعفة بني الشبقية وفتور الشهوة‪ ...،‬إلخ‪ .‬يف مقابل العدل‪ ،‬الذي له مقابل واحد هو الظلم‪.4‬‬

‫ولعل دخول العقل يف رسم ماهية العدل هو الذي محل الغزايل عىل اإلقرار بدور كوسمولوجي له بنا ًء عىل أقوال مأثورة يف املوضوع‪،‬‬
‫كالقول الذي يثبت «وبمثل هذا العدل قامت السموات واألرض»‪ ،5‬وكاحلكمة التي نقلها عن سقراط «العامل مركب من العدل‪ ،‬فإذا‬
‫اجلور ال يثبت وال يستقر»‪ ،6‬وكأنّه بفضل هذا العدل الكوسمولوجي حيصل االنسجام الذي يضمن االستقرار بني العوامل املختلفة‪.‬‬ ‫جاء ْ‬
‫أن العامل صادر من عدل اهلل‪« :‬وأنّه سبحانه وتعاىل ال موجود سواه إال وهو حادث بفعله وفائض من‬ ‫أكثر من ذلك‪ ،‬يذهب الغزايل إىل ّ‬
‫عدله عىل أحسن الوجوه وأكملها وأمتّها وأعدهلا»‪.7‬‬

‫باختصار « ‪ ...‬ظهور العدل من كامل العقل‪ ،‬وكامل العقل أن ترى األشياء عىل ما هي‪ ،‬وتدرك حقائق باطنها وال تغرت بظاهرها‪،...‬‬
‫فكل من مل يتيقن ذلك فليس‬‫رت بصورها‪ .‬وحقيقة هذه األعامل ما ذكرناه وأوضحناه‪ّ ،‬‬ ‫والعاقل من نظر أرواح األشياء وحقائقها وال يغ ّ‬
‫ال مل يكن عادالً‪ ،‬ومن مل يكن عادالً مأواه جهنم‪ .‬فلهذا السبب كان رأس مال السعادات كلها العقل» ‪ .‬ويورد‬
‫‪8‬‬
‫بعاقل‪ ،‬ومن مل يكن عاق ً‬
‫حديث ًا نبو ّي ًا يربط فيه بني حق أو إنصاف املظلوم وزكاة العقل‪ ،‬أي صفوته‪« :‬وقال ـ عليه ص‪ .‬س ـ «ن ََصفة املظلوم زكاة العقل»» ‪.‬‬
‫‪9‬‬

‫‪ .2‬العدل والحق‪ ،‬أو العدالة الحقوقية‪:‬‬


‫من جهة أخرى‪ُ ،‬يعترب احلق من معاين أو مرادفات العدل‪ .‬وعندما يدخل احلق يف ماهية العدل يتخذ هذا األخري معنى االقتصاد يف‬
‫املخالفة واملوافقة‪ ،‬والتوسط يف املعارف واالعتقادات والسياسات‪ .‬وهبذا املعنى يكون العدل هو عدم جماوزة احلد‪ ،‬يف مقابل الظلم الذي‬
‫هو جتاوز احلدود‪ ،‬و ّ‬
‫«كل ما جاوز حدّ ه انعكس عىل ضدّ ه»‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وبنا ًء عىل معيار احلق‪ ،‬مل َيدْ ر أبو حامد أنّه جتاوز حدّ االقتصاد‬
‫حق املرأة قائالً‪« :‬فينبغي أن تسلك سبيل االقتصاد يف املخالفة واملوافقة‪ ،‬وتتبع احلق يف‬ ‫يف املخالفة إىل أبعد احلدود حينام أجحف يف ّ‬
‫فاش‪ ،‬والغالب عليه ّن سوء اخلُ ُلق‪ ،‬وركاكة العقل‪ ،‬وال يعتدل ذلك منهن‬ ‫ورشه ّن ٍ‬ ‫فإن ﴿كيدهن عظيم﴾‪ّ ،‬‬ ‫رشهن ّ‬ ‫مجيع ذلك لتس َلم من ّ‬

‫‪ 4‬ـ عن أنواع الظلم يقول‪« :‬الظلم نوعان‪ :‬أحدهام ظلم السلطان لرعيته‪ ،‬وجور القوي عىل الضعيف‪ ،‬والغني عىل الفقري؛ والثاين ظلمك لنفسك‪ ،‬وذلك من شؤم‬
‫معصيتك‪ ،‬فال تظلم ُليفع عنك الظلم»‪ ،‬الترب املسبوك‪ ،‬ص ‪47‬؛ يورد تقسيامً ثالثياً للظلم‪ :‬ظلم الناس لنفسها‪ ،‬الظلم يف املعامالت‪ ،‬والظلم يف االعتقادات‪ ،‬وظلم إزاء‬
‫النفس‪ :‬املعايص «وقال قتادة‪ :‬الظلم ثالثة أرضب‪ :‬ظلم ال يغفر لصاحبه‪ ،‬وظلم ال يدوم‪ ،‬وظلم يغفر لصاحبه‪ .‬فأ ّما الذي ال يغفر لصاحبه فهو الرشك بالله تعاىل‪ .‬قال الله‬
‫تعاىل ﴿إ ّن الرشك لظلم عظيم﴾ [لقامن ‪]13‬؛ وأ ّما الظلم الذي ال يدوم فهو ظلم العباد بعضهم لبعض؛ وأ ّما الظلم الذي يغفر لصاحبه فهو ظلم العبد نفسه‪ ،‬بارتكاب‬
‫الذنوب ثم يرجع إىل ربه ويتوب‪ ،‬فإ ّن الله يغفر له برحمته‪ ،‬ويدخله الجنة بفضله»‪ ،‬نفسه‪ ،‬ص ‪.50-49‬‬
‫‪ 5‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪54‬؛ عن االعتدال يف الفضائل واألخالقية انظر ميزان العمل‪ ،‬م‪ .‬م‪ ،.‬ص ‪.75-72‬‬
‫‪ 6‬ـ الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬الترب املسبوك‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪ 7‬ـ الغزايل‪ ،‬أبو حامد محمد‪ ،‬إحياء علوم الدين‪ ،‬كتاب قواعد العقائد‪ ،‬عني به الشيخ محمد الدايل بلطة‪ ،‬بريوت‪ ،‬املكتبة العرصية‪ ،2009 ،‬الجزء‪ ،1‬ص ‪.128‬‬
‫‪ 8‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪ 9‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.59‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪84‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫معاين العدل عند الغزايل‬

‫تعو ْد نفسك االشتغال‬ ‫إال بنوع لطف ممزوج بسياسة»‪ .10‬ولعل القناعة تدخل يف باب عدم جتاوز احلدود‪ ،‬حيث ينصح ً‬
‫قائال‪« :‬أن ال ّ‬
‫بالشهوات من لبس الثياب الفاخرة وأكل األطعمة الطيبة‪ ،‬لكن تستعمل القناعة يف مجيع األشياء‪ ،‬فال عدل بال قناعة»‪.11‬‬

‫ويستدعي احلق الرشعي االلتزام بمبدأ املساواة‪ ،‬وذلك حينام يتخذ العدل شكل العقاب‪ .‬فمعاقبة املجرم جيب أن تكون عىل قدر‬
‫إجرامه‪ ،‬مساوية للفعل الذي اقرتفه‪ .12‬وتعظم فكرة املساواة لتصل إىل أن تكون أساس ًا «للعدل التام»‪ ،‬عندما يتعلق األمر بمحاكمة‬
‫يفضل‬
‫رجلني‪ :‬أحدمها معروف وصاحب جاه‪ ،‬والثاين نكرة وجمهول املكانة‪ .‬يف هذه احلالة عىل احلاكم أن ينظر إليهام بعني واحدة‪ ،‬وأن ال ّ‬
‫أحدَ مها عىل اآلخر‪ ،‬بسبب غنى األول وفقر الثاين‪ ،‬أو شهرة األول وغربة الثاين‪.13‬‬

‫ويف هذا السياق‪ ،‬سياق املساواة‪ ،‬يثري الغزايل مسألة شائكة وهي شهادة الفاسق باحلق‪ .‬فالغزايل جييز أحيان ًا خرب الفاسق إن ُع ِلم «من‬
‫قرينة حاله أنّه ال يكذب حيث ال غرض له فيه»‪ .‬ومن أجل هذا يميز بني الفسق‪ ،‬الذي هو «بينه وبني اهلل تعاىل»‪ ،‬وبني الثقة‪« :‬وقد حيصل‬
‫كل من تُرى العدالة يف ظاهره يصدق‪،‬‬ ‫فسق يكذب‪ ،‬وال ّ‬ ‫كل من َ‬‫من الثقة بقول الفاسق ما ال حيصل بقول عدل يف بعض األحوال‪ .‬وليس ّ‬
‫فإن البواطن ال يطلع عليها»‪ .14‬وجييز الغزايل أن يدخل الغلط والكذب عىل‬ ‫وإنّام نيطت الشهادة بالعدالة الظاهرة لرضورة احلكم‪ّ ،‬‬
‫بنص القرآن ‪ ،...‬فصار الفسق‬ ‫أن «الفاسق مردود الشهادة والرواية ّ‬ ‫العدول لغرض خفي‪ .15‬لك ّن القاعدة العامة بالنسبة إىل أيب حامد ّ‬
‫مانع ًا من الرواية‪ ،‬كالصبا والكفر والرق‪ ،‬يف الشهادة»‪.16‬‬

‫‪ 10‬ـ إحياء علوم الدين‪ ،‬كتاب آداب النكاح‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪65‬؛ عن العدالة الكوسمولوجية يذكر‪« :‬حكمة‪ :‬قال سقراط‪ :‬العامل مركب من العدل‪ ،‬فإذا جاء الجور ال يثبت وال‬
‫يستقر»‪ ،‬الترب املسبوك‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪ 11‬ـ الترب املسبوك يف نصيحة امللوك‪ ،‬م‪.‬م‪ ،.‬ص ‪.27‬‬
‫‪ 12‬ـ عن أخالق العدل ينقل هذا القول املأثور‪« :‬سأل عمر بن عبد العزيز محمدا ً بن كعب القرظي فقال‪ :‬صف يل العدل‪ ،‬فقال‪ :‬كل مسلم أكرب منك سناً فكن له ولدا ً‪،‬‬
‫كل مجرم عىل قدر جرمه‪ ،‬وإياك أن ترضب مسلامً سوطاً واحدا ً عىل حقد منك فإ ّن ذلك يصريك‬
‫ومن كان أصغر منك فكن له أباً‪ ،‬ومن كان مثلك فكن له أخاً‪ ،‬وعاقب ّ‬
‫إىل النار»‪ ،‬نفسه‪ ،‬ص ‪.20‬‬
‫كل الناس يقول‪« :‬والعدل التام هو أن تساوي بني املجهول الذي ال يعرف‪ ،‬وبني املحتشم صاحب الجاه املعروف يف مقام واحد يف‬
‫‪ 13‬ـ عن رضورة التعامل بالتساوي مع ّ‬
‫الدعاوى‪ ،‬وتنظر أيضاً بعني واحدة‪ ،‬وال تفضل أحدهام عىل اآلخر ألجل أن أحدهام فقري واآلخر غني‪ ،‬فإ ّن الجوهر والخزف يف اآلخرة بسعر واحد‪ .‬وال يحرق عاقل نفسه‬
‫بالنار‪ ،‬لحشمة األغيار»‪ ،‬نفسه‪ ،‬ص ‪.57‬‬
‫متهام فليسأل من‬
‫‪ 14‬ـ عن تقديره للفاسق يف بعض الحيثيات يقول‪« :‬وكذلك يسأل عبده وخادمه ليعرف طريق اكتسابه فهاهنا يفيد السؤال‪ ،‬فإذا كان صاحب املال ً‬
‫غريه‪ ،‬فإذا أخربه عدل واحد قبِله‪ .‬وإن أخربه فاسق يعلم من قرينة حاله أ ّن ال يكذب حيث ال غرض له فيه‪ ،‬جاز قبوله‪ ،‬أل ّن هذا أمر بينه وبني الله تعاىل‪ ،‬واملطلوب ثقة‬
‫كل من ترى العدالة يف ظاهره يصدق‪ ،‬وإنّ ا نيطت‬
‫كل من فسق يكذب‪ ،‬وال ّ‬
‫النفس‪ .‬وقد يحصل من الثقة بقول الفاسق ما ال يحصل بقول عدل يف بعض األحوال‪ .‬وليس ّ‬
‫الشهادة بالعدالة الظاهرة لرضورة الحكم‪ ،‬فإ ّن البواطن ال يطلع عليها»‪ ،‬إحياء علوم الدين‪ ، ،‬كتاب الحالل والحرام ‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ 172‬؛ لك ّنه يف مكان آخر يقول‪« :‬وال يجوز‬
‫قبول قول الفاسق ورمبا كان صادقاً‪ ،‬بل نعني باملقبول ما يجب العمل به‪ ،‬وباملردود ما ال تكليف علينا يف العمل به»‪ ،‬الغزايل‪ ،‬املستصفى يف أصول الفقه‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار‬
‫صادر‪ ،‬ط‪ ،2010 ،2‬ج‪ ،1‬ص ‪.183‬‬
‫عدوال فالغلط جائز عليهم‪ ،‬والكذب لغرض خفي جائز عليهم‪ ،‬أل ّن العدل أيضاً قد يكذب‪،‬‬
‫ترسب الكذب والوهم إىل أقوال العدول يقول‪« :‬فإ ّن النقلة وإن كانوا ً‬
‫‪ 15‬ـ عن ّ‬
‫والوهم جائز عليه‪ ،‬فإنّه قد يسبق إىل سمعهم خالف ما يقوله القائل وكذا إىل فهمهم‪ .‬فهذا ورع مل ينقل مثله عن الصحابة فيام كانوا يسمعونه من عدل تسكن‬
‫نفوسهم إليه»‪ ،‬إحياء علوم الدين‪ ،‬كتاب الحالل والحرام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.161‬‬
‫‪ 16‬ـ املستصفى يف أصول الفقه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪186‬؛ أ ّما رواية الكافر «فال خالف يف أ ّن رواية الكافر ال تقبل ألنّه متهم يف الدين‪ ،‬وإن كانت تقبل شهادة بعضهم عىل بعض‬
‫عند أيب حنيفة‪ ،...‬وهو أوىل من قولنا الفاسق مردود الشهادة‪ ،‬والكفر أعظم أنواع الفسق»‪ ،‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪185‬؛ وهو يف أكرث من مناسبة يع ّرف العدالة باإلسالم «قلنا‬
‫إذا كان ح ّد العدالة هو اإلسالم من غري ظهور فسق فقد تحقق ذلك فلم يجب التتبع حتى يظهر الفسق»‪ ،‬املستصفى يف أصول الفقه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.186‬‬

‫‪85‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد املصباحي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫‪ .3‬العدل األخالقي‪:‬‬
‫يضفي الغزايل عىل النوع األخالقي من العدل أمهية خاصة‪ .‬فهو حتت تأثري النظرة األفالطونية يعتربه فضيلة النفس ككل‪ ،‬بينام‬
‫ختتص هبا قوى بعينها‪ :‬فاحلكمة أو العلم فضيلة العقل‪ ،‬والشجاعة فضيلة النفس الغضبية‪ ،‬والعفة فضيلة‬
‫ّ‬ ‫الفضائل الثالث األخرى‬
‫النفس الشهوية‪ .‬وتعود أمهية العدل األخالقي إىل كونه عالمة عىل كامل الفرد ككل‪ ،‬وليس ّ‬
‫ألن له وظيفة اجتامعية‪.‬‬

‫وال يقف الغزايل عند حدود الفضائل األربع‪ ،‬بل يرى ّ‬


‫أن هلا أربعة كامالت‪« :‬العقل وكامله العلم‪ ،‬والعفة وكامهلا الورع‪ ،‬والشجاعة‬
‫وكامهلا املجاهدة‪ ،‬والعدالة وكامهلا اإلنصاف‪ ،‬وهي عىل التحقيق أصول الدين» ‪ .‬تستوقفنا يف هذه العالقات الطريفة بني الفضائل‬
‫‪17‬‬

‫والكامالت أربعة أمور‪ :‬أوهلا جعله العقل فضيلة‪ ،‬أي نسبته إىل جمال العمل واألخالق؛ ثانيها جعله املجاهدة كامالً للشجاعة؛ وثالثها‬
‫جعله اإلنصاف كامالً للعدالة‪ ،‬وأخري ًا جعله هذه املبادئ الفلسفية «أصوالً للدين عىل التحقيق»‪.‬‬

‫حلضور العقل يف العدالة وجه آخر استلهمه الغزايل من فلسفة أفالطون النفسية واألخالقية والسياسية‪ ،‬وهو اخلضوع واالنقياد؛‬
‫إذ ال تتحقق العدالة يف النفس إال بخضوع وانقياد القوتني الشهوانية والغضبية للقوة الفكرية العقلية‪« :‬ومهام أصلحت القوى الثالث‬
‫وجعلت القوتان (الشهوانية والغضبية) منقادتني للثالثة‪ ،‬التي هي الفكرية‬ ‫وضبطت عىل الوجه الذي ينبغي‪ ،‬وإىل احلد الذي ينبغي‪ُ ،‬‬
‫العقلية‪ ،‬فقد َحصلت العدالة»‪ .18‬والغاية من انقياد القوى الالعقلية للعقل هي حتقيق االنسجام بينها وبني فضائلها‪ .‬ومعنى االنسجام أن‬
‫يكون ترتيب الفضائل ترتيب ًا رضوري ًا‪ ،‬أي خاضع ًا إلمرة العقل‪« :‬الفضائل وإن كانت كثرية فتجمعها أربع تشمل ُش َعبها وأنواعها‪ ،‬وهي‬
‫احلكمة والشجاعة والعفة والعدالة‪ .‬فاحلكمة فضيلة القوة العقلية‪ ،‬والشجاعة فضيلة القوة الغضبية‪ ،‬والعفة فضيلة القوة الشهوانية‪،‬‬
‫تتم مجيع األمور‪ .‬ولذلك قيل بالعدل قامت السموات واألرض»‪.19‬‬ ‫والعدالة عبارة عن وقوع هذه القوى عىل الرتتيب الواجب‪ ،‬فبها ّ‬
‫أن فضيلة العدالة هي ثمرة ترتيب الفضائل الثالث‪ ،‬بل العكس هو الصحيح‪ ،‬العدالة هي علة الرتتيب بني‬ ‫بيد أنّه ال ينبغي أن نفهم ّ‬
‫الفضائل‪ ،‬خصوص ًا إذا علمنا ّ‬
‫أن العدالة هي علة الفضائل يف هناية األمر‪.‬‬

‫أن الغزايل يف سياق غري أفالطوين يشري إىل ّ‬


‫أن العدالة هي مجاع ثالثة أجناس للمامرسة‪ :‬الرشيعة والنفس واألخالق‪ ،‬أي ّأنا «مجاع‬ ‫غري ّ‬
‫مكارم الرشيعة‪ ،‬وطهارة النفس‪ ،‬وحسن اخلُلق املحمود»‪.20‬‬

‫وتعود أمهية العدل األخالقي‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬إىل كونه ثمرة انسجام بني قوى النفس وفضائلها‪ ،‬ممّا يؤهله للقيام بوظيفة إعداد الفرد‬
‫ألن ارتكاب الذنوب الذي هو ظلم‪،‬‬ ‫لسعادة عليا‪ ،‬هي سعادة اآلخرة‪ .‬يف مقابل الظلم‪ ،‬الذي هو إخالل باالنسجام والتوازن والتوسط‪ّ ،‬‬
‫سواء إزاء النفس أو إزاء الغري‪ ،‬هو إخالل بالتوازن الذي يفيض إىل انعدام الفضيلة‪.‬‬

‫وتندرج العدالة النفسية أو األخالقية حتت أقسام «العلم العميل» الثالثة‪ :‬علم النفس‪ ،‬والعلم بسياسة األهل والولد واخلدم‪ ،‬وعلم‬
‫«أهم هذه الثالثة هتذيب النفس وسياسة البدن ورعاية العدل من هذه الصفات‪ ،‬حتى إذا اعتدلت‬‫ّ‬ ‫سياسة أهل البلد‪ .‬غري أنّه يعترب ّ‬
‫أن‬
‫تعدّ ت عدالتها إىل الرعية البعيدة من األهل والولد‪ ،‬ثم إىل أهل البلد»‪ .21‬ويف سياق اإلعالء من شأن عالقة العدل باإلنصاف واإلحسان‬

‫‪ 17‬ـ ميزان العمل‪ ،‬م‪ .‬م‪ ،.‬ص ‪.97‬‬


‫‪ 18‬ـ ميزان العمل‪ ،‬ص ‪.54‬‬
‫‪ 19‬ـ ميزان العمل‪ ،‬م‪ .‬م‪ ،.‬ص ‪.76‬‬
‫‪ 20‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.54‬‬
‫‪ 21‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.53‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪86‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫معاين العدل عند الغزايل‬

‫ْأوىل الغزايل أمهية خاصة ألحد املوضوعات‬ ‫يورد هذه األقوال اجلميلة‪« :‬سئل ذو القرنني فقيل له‪ :‬أي يشء‬
‫املتصلة بالعدل السيايس‪ ،‬وهو عامرة الدنيا‬ ‫أنت به أكثر رسور ًا؟ فقال شيئان‪ :‬أحدمها العدل واإلنصاف‪،‬‬
‫والثاين أن أكافئ من أحسن إ ّيل بأكثر من إحسانه»‪.22‬‬
‫وخراهبا‪ ،‬فالعامرة ال تكون وال تدوم إال بالعدل‪،‬‬
‫وال خترب وال تنقرض إال بالظلم‪ :‬والسلطان‬ ‫ويقوم الغزايل بإخراج العالقة بني العقل والقوتني الشهوية‬
‫العادل من عدل بني العباد‪ ،‬وحذر من َ‬
‫اجل ْور‬ ‫والغضبية إخراج ًا ديني ًا قائالً‪ « :‬وجيب أن ُيعلم ّ‬
‫أن العقل من‬
‫والفساد؛ والسلطان الظامل شؤم ال َيبقى ملكه‬ ‫جوهر املالئكة ومن جند البارئ‪ ،‬ج ّلت قدرته‪ّ ،‬‬
‫وأن الشهوة‬
‫والغضب من جند الشيطان‪ ،‬فمن جيعل جند اهلل ومالئكته أرسى‬
‫وال يدوم‬
‫وأول ما تظهر شمس العدل‬‫جند الشيطان كيف يعدل يف غريهم؟ ّ‬
‫يف الصدر‪ ،‬ثم ينرش نورها يف أهل البيت وخواص امللك‪ ،‬فيصل‬
‫شعاعها إىل الرعية‪ ،‬ومن طلب الشعاع يف غري الشمس فقد طلب املحال‪ ،‬وطمع فيام ال ينال» ‪.‬‬
‫‪23‬‬

‫‪ .4‬العدالة السياسية‪:‬‬
‫بجانب العدل األخالقي‪ ،‬يشري الغزايل بني الفينة واألخرى إىل العدل السيايس؛ وللتعبري عن تقديره الفائق للعدل السيايس يورد مجلة‬
‫و«أحب الناس إىل اهلل تعاىل وأقرهبم إليه‬
‫ُّ‬ ‫من األحاديث النبوية من بينها‪« :‬عدل السلطان يوم ًا واحد ًا ُّ‬
‫أحب إىل اهلل من عبادة سبعني سنة»‪،‬‬
‫السلطان العادل‪ ،‬وأبغضهم إليه وأبعدهم منه السلطان اجلائر» ‪ .24‬وكام كان الرتتيب واالنسجام أحد املقومات الذاتية للعدل األخالقي‪،‬‬
‫أن العدل السيايس هو عبارة عن تنظيم أجزاء املدينة عىل غرار‬ ‫كذلك سيكون النظام مقوم ًا ذاتي ًا للعدل السيايس‪ ،‬خصوص ًا إذا علمنا ّ‬
‫ألن له رذيلة واحدة مضادة له هي الظلم‪،‬‬‫مر بنا ليس العدل السيايس وسط ًا بني رذيلتني‪ّ ،‬‬ ‫التنظيم الذي ختضع له قوى النفس األربع‪ .‬وكام ّ‬
‫شأنه يف ذلك شأن النظام الذي تقابله رذيلة واحدة هي الفوىض‪.‬‬

‫فإنا إن كانت كاملة فقد ال حتتاج إىل الفضائل‬ ‫والعدالة السياسية‪ ،‬وإن كانت تقتيض التوفيق واالنسجام بني الفضائل األخرى‪ّ ،‬‬
‫األخرى كالشجاعة‪ .‬وهنا يستند الغزايل يف إثبات هذه الفكرة عىل قول مأثور يقول‪« :‬سأل اإلسكندر أرسطاطاليس‪ّ :‬أيام أفضل للملوك‬
‫الشجاعة أم العدل؟ فقال أرسطاطاليس‪ :‬إذا عدل السلطان مل حيتج إىل شجاعة»‪ .25‬ومع ذلك‪ ،‬كثري ًا ما كان الغزايل يربط العدل السيايس‬
‫جل النِّعم‪ ،‬بعد نعمة اإلسالم‪ ،‬الصحة واألمن؟ واألمن إنّام يكون من‬ ‫أن َأ ّ‬
‫سمعت ّ‬
‫َ‬ ‫«أو ما‬
‫باألمن‪ ،‬والسلطان بخالفة اهلل يف األرض‪َ :‬‬
‫سياسة السلطان‪ ،‬فيجب عىل السلطان أن يعمل بالسياسة‪ ،‬وأن يكون مع السياسة عادالً‪ّ ،‬‬
‫ألن السلطان خليفة اهلل‪ ،...‬ويف األمثال‪َ :‬ج ْور‬
‫جور الرعية بعضهم عىل بعض سنة واحدة»‪ .26‬كام ينقل حديث ًا نبوي ًا جيعل العدل‪ ،‬ومرادفه اإلنصاف‪ ،‬هو الكلمة‬
‫السلطان مائة عام‪ ،‬وال ْ‬
‫«إن اهلل تعاىل ّملا أهبط آدم إىل األرض أوحى إليه أربع كلامت‪ ،‬وقال‪ :‬يا آدم علمك وعلم مجيع ذريتك عىل‬
‫التي بني اإلنسان واإلنسان‪ّ :‬‬
‫هذه الكلامت األربع‪ ،‬وهي‪ :‬كلمة يل‪ ،‬وكلمة لك‪ ،‬وكلمة بيني وبينك‪ ،‬وكلمة بينك وبني الناس؛ أ ّما الكلمة التي يل فهي أن تعبدين ال‬

‫‪ 22‬ـ الترب املسبوك‪ ،‬م‪ .‬م‪ ،.‬ص ‪.49‬‬


‫‪ 23‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.23-22‬‬
‫‪ 24‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ 25‬ـ نفسه‪ ،‬ص‪ 61‬؛ ويقول‪« :‬حكمة‪ :‬سئل أرسطاطاليس‪ :‬هل يجوز أن يُدعى أحد ملكاً غري الله تعاىل؟ فقال‪ :‬من وجدت فيه هذه الخصال‪ ،‬وإن كانت عارية‪ :‬العلم‬
‫والعدل والسخاء والحلم والرقة وما ناسبها‪ ،‬أل ّن امللوك إمنا كانوا ملوكاً ّ‬
‫بالظل اإللهي‪ ،‬وضياء الحس‪ ،‬وطهارة النفس‪ ،‬وتزايد العقل والعلم‪ ،‬وقدم الدولة‪ ،‬ورشف األصل‪،»...‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪ 26‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.62‬‬

‫‪87‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد املصباحي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ترشك يب شيئ ًا؛ وأ ّما التي هي لك فأنا أجازيك بعملك؛ وأ ّما الكلمة التي هي بيني وبينك‪ ،‬فمنك الدعاء ومني اإلجابة‪ ،‬وأ ّما الكلمة‬
‫التي بينك وبني الناس فهي أن تعدل فيهم وتنصف بينهم»‪ .27‬وباإلضافة إىل آثارها االجتامعية احلميدة‪ ،‬جتلب العدالة السياسية لصاحبها‬
‫الذكر اجلميل‪.28‬‬

‫وعن حماربة الدين للظلم السيايس ينقل لنا الغزايل أحاديث نبوية منها‪« :‬من حكم بني اثنني بظلم فلعنة اهلل عىل الظاملني»‪ ،‬وقال‪ « :‬ثالثة‬
‫ال ينظر اهلل إليهم‪ :‬سلطان جائر كاذب‪ ،‬وشيخ زان‪ ،‬وفقري متكب»‪ 29‬؛ وقال‪« :‬رجالن من أمتي ُيرمان شفاعتي‪ :‬ملك ظامل‪ ،‬ومبتدع ٍ‬
‫غال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يف الدين يتعدى احلدود»‪ ،‬وقال‪« :‬مخسة قد غضب اهلل عليهم‪ ...‬أمري قوم يطيعونه يأخذ حقه منهم وال ينصفهم من نفسه وال يرفع الظلم‬
‫عنهم‪ ،‬ورئيس قوم يطيعونه وال يساوي بني القوي والضعيف وحيكم بامليل واملحاباة‪.30» ...‬‬

‫‪ .5‬العدالة الدينية‪:‬‬
‫إن «الدين والسلطان توأمان‪ ،‬وقيل الدين ُأ ّس‪ ،‬والسلطان حارس‪ .‬وما‬ ‫ينطلق الغزايل يف تصوره للسلطان السيايس من القول املأثور ّ‬
‫أس له فمهدوم‪ ،‬وما ال حارس له فضائع»‪ .31‬وبناء عىل ذلك‪ ،‬كان الغزايل يعترب العدل السيايس فرع ًا من فروع اإليامن‪« :‬واألعامل‬ ‫ال ّ‬
‫التي هي فروع اإليامن هي جتنب املحارم وأداء الفرائض‪ ،‬ومها قسامن‪ :‬أحدمها بينك وبني اهلل تعاىل‪ ،‬مثل الصوم والصالة واحلج والزكاة‬
‫والكف عن الظلم»‪ .‬واملسؤولية عن‬‫ّ‬ ‫واجتناب رشب الرشاب والعفة عن احلرام‪ .‬واألخرى بينك وبني اخللق‪ ،‬وهي العدل يف الرعية‬
‫كل من يدخل حتت إمرته‪« :‬جيب ّأل تقنع برفع يدك عن الظلم‪ ،‬لكن ُت ّذب غلامنك‬ ‫الظلم ال تقترص عىل ذات امللك‪ ،‬بل تتسع لتشمل ّ‬
‫وعملك ونوابك‪ ،‬فال ترىض هلم بالظلم‪ ،‬فإنك تُسأل عن ظلمهم كام تُسأل عن ظلم نفسك »‪ .32‬ويضيف‪« :‬ويف التوراة‪ّ :‬‬
‫كل‬ ‫وأصحابك ّ‬
‫عمله فسكت عنه‪ ،‬كان ذلك الظلم منسوب ًا إليه‪ ،‬و ُأخذ به وعوقب عليه» ‪ .‬يف مقابل ذلك «إذا عدل [السلطان]‬ ‫ِ‬
‫ظلم َعلمه السلطان من ّ‬
‫‪33‬‬

‫الكل شفعاءه‪ ،‬ومن شفع فيه من هؤالء اخلالئق من املؤمنني كان آمن ًا يوم القيامة من العذاب؛ وإن ظلمهم كان ّ‬
‫الكل خصامءه»‪.34‬‬ ‫فيهم كان ّ‬

‫عمل بالعدل‬ ‫ِ‬


‫يسوغ ربطه بني العدل الدنيوي وبني عدل يوم القيامة‪ ،‬الذي ال يسلم من خطره «أحد من امللوك‪ ،‬إال َملك َ‬
‫وهذا ما ّ‬
‫واإلنصاف‪ ،‬ليعلم كيف يطلب العدل واإلنصاف يوم القيامة » ‪ .‬ويربط العدل األخروي بامليزان ً‬
‫قائال‪« :‬األصل الرابع امليزان‪ ،‬وهو‬ ‫‪35‬‬

‫‪ 27‬ـ الترب املسبوك يف نصيحة امللوك‪ ،‬ص ‪.49‬‬


‫‪ 28‬ـ عن أهم ّية العدل يف الذكر الحسن يقول‪« :‬فإن شئت أن تعلم أ ّن عدل السلطان وتقيته سبب لجميل ذكره ونبل فخره‪ ،‬فانظر يف أخبار عمر بن عبد العزيز فإنّه‬
‫مل يكن ألحد من بني أمية وبني مروان مثل مدحه ومحمدته‪ ،‬وال يدعي إال له‪ ،‬وال يثنى إال عليه‪ ،‬ألنّه كان عادالً تقياً كرمياً‪ ،‬حسن السرية تقي الرسيرة»‪ ،‬نفسه ‪56‬؛‬
‫أحب إىل الله تعاىل من عدل إمام ورفقه‪ ،‬وال يشء أبغض إليه من جوره وخرقه»‪ ،‬إحياء علوم الدين‪ ، ،‬كتاب الحالل والحرام‪،‬‬
‫«وكذلك قال عيل ريض الله عنه‪ :‬ليس يشء ّ‬
‫ج ‪ ،2‬ص ‪.71‬‬
‫‪ 29‬ـ الترب املسبوك يف نصيحة امللوك‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ 30‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪ 31‬ـ ميزان العمل‪ ،‬م ‪.‬م‪ ،.‬ص ‪.99-98‬‬
‫‪ 32‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫‪ 33‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.22‬‬
‫‪ 34‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪ ،42‬عن الربط بني العدل السيايس‪-‬الدنيوي والعدل األخروي يقول‪« :‬دخل شبيب بن شيبة يوماً عىل املهدي فقال‪ :‬يا أمري املؤمنني إ ّن الله قد أعطاك‬
‫الدنيا فأعط رعيتك قسطاً من طيب عيشك‪ ،‬فقال املهدي‪ :‬وما الذي ينبغي أن تُعطَى الرعية؟ فقال العدل‪ ،‬فإنّه إذا نامت الرعية يف أمن منك‪ ،‬منت آمناً يف قربك‪،...‬‬
‫واعدل ما استطعت فإنك تجازى بالعدل عدالً‪ ،‬وبالجور جورا ً‪ ،‬وزيّن نفسك بالتقوى»‪ ،‬الترب املسبوك‪ ،‬ص ‪.59‬‬
‫كل حال يوم القيامة‪ ،‬وخطره عظيم‪ ،‬وال‬
‫‪ 35‬ـ «واعلم أ ّن ما كان بينك وبني الخالق ـ سبحانه ـ فإ ّن ع ْف َوه قريب‪ ،‬وأ ّما ما يتعلق مبظامل الناس فإنّه ال يتجاوز به عنك عىل ّ‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪88‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫معاين العدل عند الغزايل‬

‫ووجهها‬
‫ُ‬ ‫حق‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ونضع املوازين القسط ليوم القيامة﴾‪ ،‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فمن ثقلت موازينه فأولئك هم املفلحون‪ ،‬اآلية﴾‪.‬‬
‫أن اهلل تعاىل حيدث يف صحائف األعامل وزن ًا بحسب درجات األعامل عند اهلل تعاىل‪ ،‬فتصري مقادير أعامل العباد معلومة للعباد حتى يظهر‬
‫ّ‬
‫كل ما كان يف قلب اإلنسان من معرفة‬‫«إن ّ‬
‫هلم العدل يف العقاب أو الفضل يف العفو وتضعيف الثواب» ‪ .‬ويعترب العدل فرع ًا من اإليامن‪ّ :‬‬
‫‪36‬‬

‫واعتقاد فذلك أصل اإليامن‪ ،‬وما كان جاري ًا عىل أعضائه السبعة من الطاعة والعدل فذلك فرع اإليامن »‪.37‬‬

‫وقد ْأوىل الغزايل أمهية خاصة ألحد املوضوعات املتصلة بالعدل السيايس‪ ،‬وهو عامرة الدنيا وخراهبا‪ ،‬فالعامرة ال تكون وال تدوم إال‬
‫بالعدل‪ ،‬وال خترب وال تنقرض إال بالظلم‪« :‬والسلطان العادل من عدل بني العباد‪ ،‬وحذر من اجلَ ْور والفساد؛ والسلطان الظامل شؤم‬
‫أن املجوس ملكوا أمر العامل أربعة‬ ‫ألن النبي يقول «ا ُمللك يبقى مع الكفر وال يبقى مع الظلم»‪ .‬ويف التواريخ ّ‬ ‫ال َيبقى ملكه وال يدوم‪ّ ،‬‬
‫وأنم ما كانوا يرون الظلم واجلور يف‬ ‫آالف سنة‪ ،‬وكانت اململكة فيهم‪ ،‬وإنّام دامت اململكة بِ َعدهلم يف الرعية‪ ،‬وحفظهم األمور بالسو ّية‪ّ ،‬‬
‫وحيمل امللوك مسؤولية عامرة الدنيا وخراهبا‪« :‬فينبغي أن تعلم ّ‬
‫أن عامرة‬ ‫وعمروا بعدهلم البالد‪ ،‬وأنصفوا العباد » ‪ّ .‬‬ ‫دينهم وم ّلتهم جائز ًا‪َ ،‬‬
‫‪38‬‬

‫عمرت الدنيا وأمنت الرعايا‪ ،‬كام كانت عليه يف عهد أزدشري وأفريدون‪ ،...‬وإذا كان‬ ‫وخرابا من امللوك؛ فإذا كان السلطان عادالً َ‬
‫َ‬ ‫الدنيا‬
‫السلطان جائر ًا َخربت الدنيا» ‪ .‬ويضيف سبب ًا آخر للخراب غري الظلم‪ ،‬وهو عجز امللك‪« :‬وخراب األرض من شيئني‪ :‬أحدمها عجز‬
‫‪39‬‬ ‫ِ‬
‫أن العدل وما يرتتب عليه من عمران ليس من الرعية‪ ،‬وإنّام من امللك‪ ...« :‬أ َما ترى أنّه إذا وصف‬ ‫جوره»‪ .40‬ومعنى ذلك ّ‬ ‫امللك‪ ،‬والثاين ْ‬
‫فإن ذلك دليل عىل عدل امللك وعقله وسداده وحسن نيته يف رعيته ومع‬ ‫وأن أهله يف أمان وراحة ودعة وغبطة‪ّ ،‬‬ ‫بعض البالد بالعامرة‪ّ ،‬‬
‫صح ما قالته احلكامء‪ :‬الناس بملوكهم أشبه منهم بزماهنم» ‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫أهل واليته‪ ،‬وأن ليس ذلك من الرعية؟ فقد ّ‬

‫وعندما يقارن بني العدل اإلهلي والعدل البرشي ال جيد وجه ًا للشبه‪ ،‬فاهلل «حكيم يف أفعاله عادل يف أقضيته ال يقاس عدله بعدل‬
‫العباد؛ إذ العبد يتصور منه الظلم بترصفه يف ُملك غريه‪ ،‬وال يتصور الظلم من اهلل تعاىل‪ ،‬فإنّه ال يصادف لغريه ُملك ًا حتى يكون ترصفه‬
‫فكل ما سواه من إنس وجن و َم َلك وشيطان وسامء وأرض وحيوان ونبات ومجاد وجوهر وعرض ومدرك وحمسوس حادث‬ ‫فيه ظل ًام‪ّ ،‬‬
‫اخرتعه بقدرته بعد العدم اخرتاع ًا وأنشأه إنشا ًء بعد أن مل يكن شيئ ًا»‪ .42‬بل إنّه يذهب أبعد من ذلك إىل القول ّ‬
‫إن ابتالءه العباد برضوب‬

‫يسلم من هذا الخطر أحد من امللوك إال ملك عمل بالعدل واإلنصاف‪ ،‬ليعلم كيف يطلب العدل واإلنصاف يوم القيامة»‪ ،‬نفسه‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫‪ 36‬ـ إحياء علوم الدين‪ ،‬كتاب قواعد العقائد‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‪ 161‬؛ عن الربط بني العدل اإللهي ورمزية امليزان يورد‪« :‬ولهام من حديث أيب هريرة وعائشة استعاذته من‬
‫عذاب القرب‪ ،‬وأنّه حق وحكمة عدل عىل الجسم والروح عىل ما يشاء وأن يؤمن بامليزان ذي الكفتني واللسان وصفته يف العظم أنّه مثل طبقات السموات واألرض توزن‬
‫األعامل بقدرة الله تعاىل‪ ،‬والصنج يومئذ مثاقيل الذر والخردل تحقيقاً لتامم العدل‪ ،‬وتوضح صحائف الحسنات يف صورة حسنة يف كفة النور فيثقل بها امليزان عىل قدر‬
‫فيخف بها امليزان بعدل الله»‪ ،‬إحياء علوم الدين‪ ،‬كتاب قواعد العقائد‪ ،‬م‪.‬م‪ ،.‬ص‬
‫درجاتها عند الله بفضل الله‪ ،‬وتطرح صحائف السيئات يف صورة قبيحة يف كفة الظلمة ّ‬
‫‪.129‬‬
‫‪ 37‬ـ الترب املسبوك يف نصيحة امللوك‪ ،‬ص ‪ .14‬عن ربطه الحق بالقلب ‪ ...« :‬أ ّما الذي ليس مبتأول‪ ،‬وهو املعاند بلسانه بعد معرفة الحق بقلبه‪ ،‬فذلك‪ ،» ...‬املستصفى‪ ،‬ص‬
‫‪.85‬‬
‫‪ 38‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.44‬‬
‫‪ 39‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪44‬؛ ويقول‪« :‬روي أنّه كلام كانت الوالية أعمر‪ ،‬كانت الرعية أوىف وأشكر‪ .‬وكانوا يعلمون أ ّن الذي قالته العلامء ونطقت به الحكامء صحيح ال ريب فيه‪،‬‬
‫وهو قولهم‪ :‬إ ّن الدين بامللك‪ ،‬وامللك بالجند‪ ،‬والجند باملال‪ ،‬واملال بعامرة البالد‪ ،‬وعامرة البالد بالعدل يف العباد‪ .‬فام كانوا يوافقون أحدا ً عىل الجور والظلم‪ ،‬وال يرضون‬
‫لحشمهم بالخرق والغشم‪ ،‬علامً منهم أ ّن الرعية ال تثبت عىل الجور‪ ،‬وأ ّن األماكن تخرب إذا استوىل عليها الظاملون»‪ ،‬نفسه‪ ،‬ص ‪.46‬‬
‫‪ 40‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪ 41‬ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.52-51‬‬
‫‪ 42‬ـ إحياء علوم الدين‪ ،‬قواعد العقائد‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.128‬‬

‫‪89‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد املصباحي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫يصب عىل عباده أنواع العذاب ويبتليهم برضوب‬


‫ّ‬ ‫اآلالم ُيعدّ عدالً‪« :‬فله الفضل واإلحسان والنعمة واالمتنان‪ ،‬إذ كان قادر ًا عىل أن‬
‫اآلالم واألوصاب‪ ،‬ولو فعل ذلك لكان منه عدالً ومل يكن منه قبيح ًا وال ظل ًام»‪.43‬‬

‫وكعادته‪ ،‬ال ينظر إىل العدل القضائي الدنيوي يف حدّ ذاته‪ ،‬بل يربطه بالعدل يف اآلخرة‪ ،‬حيث ينقل هذا اخلرب عن عيل بن أيب طالب‪:‬‬
‫«ويل لقايض األرض من قايض السامء حني يلقاه‪ ،‬إال من عَدَ ل وقىض باحلق ومل حيكم باهلوى‪ ،‬ومل َي ِمل مع أقاربه‪ ،‬ومل ُيبدّ ل حك ًام خلوف‬
‫ٌ‬
‫أو طمع‪ ،‬لكن جيعل كتاب اهلل مرآتَه ونصب عينيه وحيكم بام فيه»‪.44‬‬

‫‪ .6‬شرط العدالة في الشهادة والرواية‪:‬‬


‫تطرح فكرة العدالة يف «علم أصول الفقه» أسئلة وإشكاالت نوعية تتصل بمجاالت الرواية والشهادة والفتوى‪ ،...‬ممّا يضفي عليها‬
‫وأول مسألة تواجهنا يف هذا املجال هي تعريفها‪ ،‬حيث صارت العدالة تعني عدالة النفس‪ ،‬أي صدقها وتقواها ومروءهتا‬ ‫معاين جديدة‪ّ .‬‬
‫وجتنبها للمعايص القادحة فيها‪ .‬وهبذا تصبح العدالة األخالقية رشط ًا يف قبول الرواية (رواية احلديث) والشهادة‪ ،‬ويف قبول الفتوى‪،‬‬
‫لكن ال يف قبول االجتهاد‪.45‬‬

‫من هنا جاءت التعاريف األصولية الثالثة للعدالة‪ :‬فهي أوالً «عبارة عن استقامة السرية والدين»‪ ،46‬وهي ثاني ًا «هيئة راسخة يف النفس‬
‫َت ِمل عىل مالزمة التقوى واملروءة مجيع ًا‪ ،‬حتى حتصل ثقة النفوس بصدقه‪ ،‬فال ثقة بقول َمن ال خياف اهلل تعاىل خوف ًا وازع ًا عن الكذب »‪،47‬‬
‫أن صورة العدالة يف هذه التعريفات حتيل عىل هيئة أخالقية راسخة‬ ‫و«حدّ العدالة ـ ثالث ًا ـ هو اإلسالم من غري ظهور فسق»‪ .48‬وبالرغم من ّ‬
‫فإنا مع ذلك ليست مفطورة لدى اجلميع عىل السواء‪ ،‬إذ «املشاهدة والتجربة دلت عىل‬ ‫وكأنا غريزة فطرية يف نفس املؤمنني‪ّ ،‬‬
‫يف النفس‪ّ ،‬‬
‫فإنا ال‬
‫أن العدالة هيئة راسخة‪ّ ،‬‬ ‫فساق املؤمنني أكثر من عدد عدوهلم» ‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬بالرغم من تنصيص التعريف الثاين عىل ّ‬
‫‪49‬‬ ‫ّ‬
‫أن عدد ّ‬
‫إن أفعاهلا وصفاهتا ذات طبيعة عالئقية‪ ،‬وال‬ ‫العرضية‪ ،‬أو ْقل ّ‬
‫تظل يف مستوى الصفة َ‬ ‫ترقى إىل مرتبة الطبيعة اجلوهرية جلميع الناس‪ ،‬وإنّام ّ‬
‫تُفهم إال يف تقابلها الضدّ ي مع الكذب والفسق والكفر‪ ،‬ويف تالزمها الذايت مع الصدق واحلق واالستقامة والتقوى واملروءة والدين‪.‬‬

‫وبالفعل‪ ،‬العدالة هي‪ :‬أوالً إحجام عن الكذب‪ ،‬غري ّ‬


‫أن هذا اإلحجام ليس صادر ًا عن وازع عقيل (كانط)‪ ،‬وإنّام عن وازع اخلوف‬
‫من اهلل‪ ،‬ممّا يضفي عىل العدالة طابع ًا ديني ًا‪ ،‬لكن باملعنى األخالقي للدين‪ ،‬وليس باملعنى العقدي‪ .‬فركاكة املرء يف دينه تستدرجه إىل‬

‫‪ 43‬ـ نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪128‬؛ ويقول عن استحالة الظلم عىل الله‪« :‬وال ميكن الظلم يف أفعاله‪ ،‬أل ّن الظامل هو الذي يترصف يف ملك غريه‪ ،‬والخالق تعاىل ال يترصف إال يف‬
‫وكل ما يكون وهو كائن فهو ملك له‪ ،‬وهو املالك بال شبيه وال رشيك‪ .‬وليس ألحد عليه اعرتاض بلِ َم وكيف‪ ،‬لكن له الحكم واألمر يف ّ‬
‫كل‬ ‫ملكه‪ ،‬وليس معه مالك سواه‪ّ ،‬‬
‫أفعاله‪ ،‬وما ألحد غري التسليم والنظر إىل صنعه والرضا بقضائه»‪ ،‬الترب املسبوك يف نصيحة امللوك‪ ،‬م‪ .‬م‪ ،.‬ص ‪.12‬‬
‫‪ 44‬ـ نفسه‪ ،‬م‪.‬م‪ ،.‬ص ‪.16‬‬
‫‪ 45‬ـ عن العدالة بوصفها رشطاً يف الشهادة والرواية يقول‪« :‬قال الله تعاىل‪﴿ :‬إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا﴾ (الحجرات‪ )6 :‬وهذا زجر عن اعتامد قول الفاسق‪،‬‬
‫ودليل عىل رشط العدالة يف الرواية والشهادة»‪ ،‬املستصفى يف أصول الفقه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪186‬؛ عن كون العدالة رشطاً يف قبول الفتوى يقول‪« :‬والرشط الثاين أن يكون عدالً‬
‫مجتنباً للمعايص القادحة يف العدالة‪ .‬وهذا يشرتط لجواز االعتامد عىل فتواه‪ ،‬فمن ليس عدالً فال تقبل فتواه‪ .‬أ ّما هو يف نفسه فال‪ .‬فكأ ّن العدالة رشط القبول للفتوى‪ ،‬ال‬
‫رشط صحة االجتهاد»‪ ،‬نفسه‪ ،‬ج‪.200-199 ،2‬‬
‫‪ 46‬ـ نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.186‬‬
‫‪ 47‬ـ نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.186‬‬
‫‪ 48‬ـ نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.186‬‬
‫‪ 49‬ـ نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.187‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪90‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫معاين العدل عند الغزايل‬

‫استطاع الغزايل أن يتصور العدل مبدأ كوني ًا‪،‬‬ ‫أن «يستجرئ عىل الكذب وعىل عدم التوقي عن بعض املباحات‬
‫أي قيمة كونية تقيم املوازين بني السموات‬ ‫القادحة يف املروءة»‪ ،50‬وبالتايل َمن أبدى جرأة عىل الكذب ُر ّدت‬
‫شهادته‪ ،‬وال ُيؤخذ بروايته‪ .51‬ومع ذلك ّ‬
‫فإن ربط الغزايل العدالة‬
‫واألرض وبني األنظمة السياسية واحلقوقية‬
‫إن الوحي ليس معيار ًا‬
‫بالدين‪ ،‬باعتباره إسالم ًا‪ ،‬مل يمنعه من القول ّ‬
‫واألخالقية بسبب ربطه إ ّياه بالعقل‪ .‬من‬ ‫وحيد ًا للحكم عىل املرء «جمهول احلال» بالعدل‪ ،‬ألنّه يمكن احلكم‬
‫هنا كان العدل قرين العامرة‪ ،‬والظلم قرين‬ ‫عىل األعرايب غري املعروف بنا ًء عىل اخلربة‪ ،‬أو انطالق ًا من «تزكية‬
‫اخلراب‬ ‫َمن عرف حا َله»‪.52‬‬

‫كل من الفسق والكفر‪ ،‬ألنّه متى حرضا‬ ‫مر بنا‪ ،‬ال ينفرد الكذب وحده بالتضاد مع العدالة‪ ،‬ولكن يتقاسم معه ذلك أيض ًا ّ‬ ‫وكام ّ‬
‫واملتأول‪ ،‬يقيض بعدم قبول‬
‫ّ‬ ‫غابت عدالة النفس وبطل االستئناس بشهادهتا واإلقرار بروايتها‪ .‬فبعد أن يميز الغزايل بني الكافر واملعاند‬
‫بمتأول‪ ،‬وهو املعاند‬
‫ّ‬ ‫فإن اليهودي أيض ًا ال يعلم كونه كافر ًا‪ .‬أ ّما الذي ليس‬
‫متأول‪ّ ،‬‬
‫كل كافر ّ‬ ‫متأوالً أم ال‪ّ ،‬‬
‫«ألن ّ‬ ‫رواية الكافر سواء كان ّ‬
‫كتورع النرصاين فال ينظر إليه‪ ،‬بل هذا املنصب ال يستفاد إال‬ ‫املتأول عن الكذب ّ‬
‫وتورع ّ‬
‫ّ‬ ‫بلسانه بعد معرفة احلق بقلبه‪ ،‬فذلك ممّا يندر‪.‬‬
‫باإلسالم»‪ .53‬ومع ذلك ال يكفي اإلسالم للحكم عىل «جمهول احلال» بالعدل «وعندنا ـ يقول الغزايل ‪ -‬ال تعرف عدالته إال بخربة باطنة‪،‬‬
‫والبحث عن سريته ورسيرته»‪.54‬‬

‫َص القرآن ‪ ،...‬لو قبلت روايته لقبل بدليل اإلمجاع‪ ،‬أو بالقياس‬
‫حق الفاسق‪ ،‬فهو «مردود الشهادة والرواية بن ّ‬ ‫واحلكم نفسه أصدره يف ّ‬
‫عىل العدل ا ُملجمع عليه‪ ،‬وال إمجاع يف الفاسق‪ ،‬وال هو يف معنى العدل يف حصول الثقة بقوله‪ .‬فصار الفسق مانع ًا من الرواية‪ ،‬كالصبا‬
‫والكفر‪ ،‬وكالرق يف الشهادة‪ ،‬و«جمهول احلال» يف هذه اخلصال ال يقبل قوله‪ ،‬فكذلك «جمهول احلال» يف الفسق‪ ،‬ألنّه إن كان فاسق ًا فهو‬
‫مردود الرواية‪ ،‬وإن كان عدالً فغري مقبول أيض ًا للجهل به‪.55» ..‬‬

‫أن «العدالة ال تُع َلم إال بالظن»‪ 56‬ال باليقني‪« ،‬لك ّن‬
‫فإن الغزايل يرى ّ‬
‫حق لنا أن نتكلم عن إيبستيمولوجية العدالة يف هذا املجال‪ّ ،‬‬ ‫وإذا ّ‬
‫ُعرف باخلربة‬ ‫احلكم بالصدق واجب‪ ،‬وهو معلوم بالنص‪ ،‬وقول العدل صدق معلوم بالظن و َأمارات العدالة» ‪ّ ،‬‬
‫ألن «العدالة إنّام ت َ‬
‫‪57‬‬

‫واملشاهدة‪ ،‬أو بتواتر اخلرب»‪ ،58‬ال بالقياس والربهان‪.‬‬

‫كل ما ّ‬
‫يدل عىل ركاكة دينه إىل حد يستجرئ عىل الكذب باألعراض الدنيوية‪ ،‬كيف وقد رشط يف العدالة التوقي عن بعض املباحات القادحة يف املروءة»‪،‬‬ ‫‪ 50‬ـ «وبالجملة ّ‬
‫نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.186‬‬
‫محل اإلجامع أن يرد إىل اجتهاد الحاكم‪ ،‬فام ّ‬
‫دل عنده عىل جراءته عىل الكذب ر ّد الشهادة به»‪ ،‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.186‬‬ ‫‪ 51‬ـ «فإ ّن الضابط يف ذلك فيام جاوز ّ‬
‫‪ 52‬ـ نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.187‬‬
‫‪ 53‬ـ نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.185‬‬
‫‪ 54‬ـ نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.186‬‬
‫‪ 55‬ـ نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪186‬؛ «واملجهول ال تسكن النفس إليه‪ ،‬بل سكون النفس إىل قول فاسق جرب باجتناب الكذب أغلب منه إىل قول املجهول ‪ ،...‬أ ّما ر ّد خرب الفاسق‬
‫واملجهول فقريب من القطع»‪ ،‬نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.188‬‬
‫‪ 56‬ـ نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ ،108‬ويضيف يف املعنى نفسه‪« :‬وال يحكم إال بقول عدل‪ ،‬وتعرف عدالته بالظن‪ ،‬وكذلك االجتهاد يف الوقت والقبلة»‪ ،‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.108‬‬
‫‪ 57‬ـ نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.108‬‬
‫‪ 58‬ـ نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.202‬‬

‫‪91‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد املصباحي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫تقصيه حلقيقة العدل‪ ،‬كان الغزايل عادالً حين ًا يف مجعه بني النظرية الفلسفية والنظرية الدينية‪ ،‬أي بني البناء العقيل والبناء الرشعي‪،‬‬
‫يف ّ‬
‫فإن الغزايل ‪ -‬الفقيه واألصويل واملتصوف املعروف بعدائه للفلسفة‪ -‬بانفتاحه‬ ‫ال لألمر الرشعي‪ .‬لكن مهام يكن‪ّ ،‬‬ ‫وحين ًا آخر كان أكثر مي ً‬
‫عىل الفلسفة لتطعيم رؤيته اإلسالمية للعدالة‪ ،‬يكون قد برهن عىل أنّه ال مناص لإلسالم من الفلسفة‪ ،‬أي من التعاطي العقيل مع القضايا‬
‫أن العدل مل يكن لدى حجة اإلسالم ينفصل‬ ‫يفس ّ‬ ‫وأنا شكلت جزء ًا حيوي ًا من فعاليته املعرفية والتارخيية‪ .‬وهذا ما ّ‬
‫النظرية والعلمية‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫عن العقل واحلق واإلنسان‪ ،‬إذ أنّه كان يشتق موقفه من العدل من هذه األقانيم الثالثة‪ ،‬عل ًام بأنّه مل يكن ينظر إىل اإلنسان كغاية يف ذاته‪،‬‬
‫أو كذات مستقلة يف فكرها وإرادهتا‪ ،‬وإنّام كوسيلة لعبادة اهلل‪ ،‬والشهادة بأنّه موجود وواحد‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬استطاع الغزايل أن يتصور العدل مبدأ كوني ًا‪ ،‬أي قيمة كونية تقيم املوازين بني السموات واألرض وبني األنظمة السياسية‬
‫واحلقوقية واألخالقية بسبب ربطه إ ّياه بالعقل‪ .‬من هنا كان العدل قرين العامرة‪ ،‬والظلم قرين اخلراب‪.‬‬

‫متحية حول طبيعة العدالة بأنواعها املختلفة‪ ،‬وتوابعها املختلفة‪ ،‬فلكوهنا تعكس جتربته الذاتية والتارخيية‬
‫ّ‬ ‫ولئن كانت أفكار الغزايل‬
‫الغنية املطبوعة حين ًا باحلظوة والنجاح‪ ،‬وأخرى بالفشل والقلق واحلرية‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪92‬‬
‫بريشة الفنان رشيد باخوز من املغرب‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ضد الديمقراط َّية‬


‫ّ‬
‫أفالطون أو العدالة الهندس َّية‬

‫عادل حدجامي*‬

‫بكل ما لدهيا من حكمة إىل ّ‬


‫أقل الفئات عدد ًا فيها(‪ ،)...‬وإىل املعرفة التي‬ ‫«وعىل ذلك فالدولة التي تُبنى وفق ًا ملبادئ طبيع َّية‪ ،‬إنَّام تدين ّ‬
‫تتصف هبا هذه الفئة»‪.‬‬
‫أفالطون‬

‫«نحن األفالطونيون ‪.» ...‬‬


‫أرسطو‬

‫«الفلسفة هي التحليل النفيس للدوكسا»‪.‬‬


‫فرانسوا شاتيل‬

‫مقدمة أولى‪ :‬‬
‫ّ‬
‫يسوغ لنا اليوم‪ ،‬يف سياق احلديث عن قضية العدالة‪ ،‬أن نفزع إىل عهد‬
‫هناك سؤال َّأول يفرض ذاته عند قراءة مثل هذا العنوان‪ ،‬ما الذي ّ‬
‫وامى مثل عهد اإلغريق؟ وإىل فيلسوف قىض منذ ما يقارب مخسة وعرشين قرن ًا؟‬ ‫درس َّ‬

‫جمرد تكرار بعض املعلومات حول فلسفة اليونان السياس َّية‪ ،‬فمنطق‬ ‫اهلم املدريس بالطبع‪ ،‬فليس من املفيد يف يشء أن تكون الغاية َّ‬ ‫ليس ّ‬
‫الفكر غري منطق التعليم‪ ،‬وعرض معلومات مدرس َّية حول فيلسوف ما‪ ،‬مهام كان العرض دقيق ًا‪ ،‬ليس كافي ًا يف ذاته لصناعة فكر؛ الغاية‬
‫أن درس اليونان السيايس‪ ،‬ودرس أفالطون منه حتديد ًا‪،‬‬ ‫كل انشغال تعليمي أو تارخيي يف احلقيقة‪ ،‬إنَّه اعتقادنا َّ‬ ‫عندنا أمر آخر أعمق من ّ‬
‫هو اليوم‪ ،‬يف زمن متثل فيه الديمقراط َّية التمثيل َّية اإلبدال املرجعي األوحد يف السياسة‪ ،‬نص معارص لنا كُل َّي ًا (من جهة اإلشكال َّية ال من‬
‫أن زمن السياسة والقضايا‬ ‫جهة اجلواب طبع ًا)‪ ،‬بل لعله يكون أقرب إلينا من كثري من املعارصين‪ ،‬عىل بعد املسافة الزمان َّية بيننا وبينه‪ ،‬إذ َّ‬
‫القيم َّية عموم ًا ليس زمن ًا تارخيان َّي ًا خط َّي ًا‪ ،‬فالقيم ال ختضع ملنطق التقدُّ م الكرونولوجي‪ ،‬بل تبقى هي عينها‪ ،‬متى ما ظلت أسئلة اإلنسان‬
‫هي نفسها رغم تبدُّ ل األعصار وتعاقب األيام؛ فكام قد يكون تأمل نشأة وصريورة اإلمرباطور َّية الرومان َّية قدي ًام‪ ،‬مدخ ً‬
‫ال أكثر إجرائ َّية‬
‫نص فلسفي قديم حول ماه َّية السياسة‬ ‫فإن النظر يف ٍّ‬ ‫أي حتليل سيايس أو اقتصادي آين‪َّ ،‬‬ ‫لفهم واقع اإلمرباطور َّية األمريك َّية اليوم من ّ‬
‫أي حتليل صحايف أو «بوليتولوجي» راهن‪.‬‬ ‫والديمقراط َّية‪ ،‬قد يكون أكثر فائدة من ّ‬

‫لكن ِل َ نص أفالطون عينه‪ ،‬وليس َّ‬


‫نص واحد آخر غريه من أسامء العامل القديم؟‬

‫* أكادميي من املغرب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪94‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫ضدّ الديمقراط َّية ‪ ...‬أفالطون أو العدالة اهلندس َّية‬

‫درس اليونان السيايس‪ ،‬ودرس أفالطون منه‬ ‫ألن أفالطون َّأول من افتتح القول نظري ًا يف هذا األمر‪ ،‬أو‬
‫ليس َّ‬
‫حتديد ًا‪ ،‬هو اليوم‪ ،‬يف زمن متثل فيه الديمقراط َّية‬ ‫ألنَّه َّأول من ارتقى ليجعل من التأريخ السيايس فلسفة‪ ،‬بل َّ‬
‫ألن‬
‫أي جهة وجلنا إليه‪ ،‬هو قول يف السياسة‬ ‫كل أثر أفالطون‪ ،‬ومن ّ‬ ‫َّ‬
‫التمثيل َّية اإلبدال املرجعي األوحد يف السياسة‪،‬‬
‫تصورنا‪ ،‬هو أكثر الفالسفة «تسييس ًا»‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ابتداء‪ ،‬فأفالطون‪ ،‬يف‬
‫نص معارص لنا كُل َّي ًا (من جهة اإلشكال َّية ال من‬ ‫ف من األقدمني «رأس ًا» يف السياسة‬ ‫فإضافة لكونه أكثر من أ َّل َ‬
‫جهة اجلواب طبع ًا)‪ ،‬عىل بعد املسافة الزمان َّية‬ ‫فإن مدار الرهان يف نصوصه‬ ‫(اجلمهور َّية‪ ،‬السيايس‪ ،‬القوانني‪َّ ،)...‬‬
‫أن زمن السياسة والقضايا‬ ‫بيننا وبينه‪ ،‬إذ َّ‬ ‫كلها متعلق بالسياسة‪ ،‬إذ ال يكاد جيد القارئ حماورة أو رسالة أو‬
‫مفهوم ًا له خيلو من محولة أو شحنة سياس َّية‪ ،‬وهكذا فالسياسة عند‬
‫القيم َّية عموم ًا ليس زمن ًا تارخيان َّي ًا خط َّي ًا‬
‫أفالطون مل تكن موضوع ًا فكري ًا فقط‪ ،‬بل كانت أفق الفكر بر َّمته‪،‬‬
‫فحتى يف القضايا األبعد عن السياسة‪ ،‬مثل الرغبة أو الشجاعة أو‬
‫خيص الرغبة مثالً‪ ،‬والتي هي مفهوم «أخالقي» أساس ًا‪ ،‬ال يمكن ضبط نازع‬ ‫اخلطابة‪ ،‬يبقى النظر دائ ًام واقع ًا يف أفق السياسة‪ ،‬ففي ما ُّ‬
‫الرغبات إال حني نجعل من الفرد مواطن ًا يف مدينة‪ ،‬فخارج املدينة‪ ،‬كام سنبني‪ ،‬ليست األخالق وحدها ما يكون غري ممكن التحقق‪ ،‬بل‬
‫أن فهم نظر َّية األخالق عنده خارج فلسفته‬ ‫اإلنسان نفسه‪ ،‬وهو ما ينتج عنه‪ ،‬من الناحية املنهج َّية بالنسبة إلينا‪ ،‬أنَّه يصري من غري املمكن َّ‬
‫السياس َّية‪ ،‬وهذا ينسحب يف تصورنا عىل جمموع النظريات األخرى‪ ،‬بام فيها امليتافيزيقا‪ ،‬ويف هذا نرى أنَّه ذهب يف األمر أبعد من كثري‬
‫ليمس‬‫ّ‬ ‫من فالسفة السياسة املعارصين‪ .‬واألمر ال يقترص عنده عىل املضامني فحسب‪ ،‬أي املفاهيم واألفكار والقيم‪ ،‬بل هو يتعدَّ ى ذلك‬
‫أسلوب الكتابة نفسه‪ ،‬فاملحاورات وأسلوب احلوار السقراطي ال يفهامن إال يف تقابلهام مع اخلطابة السوفسطائ َّية‪ ،‬فاجلدل سياسة‪ ،‬متام ًا‬
‫كام اخلطابة سياسة‪ ،‬إذ بسبب اخلطابة استبدَّ حزب الغوغاء باملدينة‪ ،‬فض َّيعوا أهلها وأباحوهم للسبارطيني ابتداء‪ ،‬قبل أن يستبيحوهم‬
‫لبعضهم بعض ًا‪ ،‬فيعمد رعاع أثينا‪ ،‬بأثر من حتريض أهل الديامغوجيا‪ ،‬لذبح خيارهم وعىل رأسهم سقراط؛ هكذا فحتى جثة سقراط‬
‫فإن الثأر لسقراط ممَّن قتله‪ ،‬وإحقاقه ما هو أهل له لن يكون إال بالسياسة‪َّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫وشوكران موته ال يفهامن‪ ،‬عند أفالطون‪ ،‬إال سياسي ًا‪ ،‬هلذا َّ‬
‫إقامة العدالة التي ستمنع أن يقتل السوقة الفالسفة‪ ،‬لن يتم إال بإقامة مدينة األخيار‪ ،‬ضدَّ ديكتاتور َّية الرعاع التي اختار هلا األثينيون اس ًام‬
‫أخف وقع ًا يف النفوس‪ ،‬وهو «ديموكراثيا»‪ ،‬سلطة الشعب‪.‬‬ ‫َّ‬

‫لكن قبل بيان الكيفية التي يتحقق هبا ُّ‬


‫كل هذا عند الفيلسوف‪ ،‬ال بدَّ أن نبتدئ من حيث ينبغي‪ ،‬أي أن نبتدئ‪ ،‬بأن نحدّ د معنى هذا‬
‫ُسميه السياسة َّأوالً‪.‬‬
‫الذي ن ّ‬

‫ماهية السياسة(‪)politéia‬‬
‫ملاذا يوجد اإلنسان املجتمع؟ وبحسب أي ضابط ينتجه؟ بعبارة أكثر دقة‪ ،‬ما مصدر القانون والسياسة عند أفالطون؟‬

‫أن هذا القارئ لن يعدم‬ ‫ٍ‬


‫متعال‪ .‬واحلقيقة َّ‬ ‫إن األصل عنده‬‫ظل لصيق ًا بأفالطون‪ ،‬قد يغري القارئ فيسارع باجلواب َّ‬ ‫نعت املثال َّية الذي َّ‬
‫بعض القرائن واحلجج‪ ،‬من نصوص أفالطون‪ ،‬التي تدعم مثل هذا القول‪ ،‬تبع ًا لذلك سيصري اجلواب عن سؤال مصدر النزوع السيايس‬
‫أن التد ُبر املتأين للنصوص‬ ‫أنَّه عند أفالطون«قبيل»‪ ،‬يشتق أسبابه من ماه َّية اإلنسان والوجود كليهام‪ ،‬فالسياسة رضور َّية «طبع ًا»‪ ،‬غري َّ‬
‫يسوغ مثل هذا اجلواب‪ ،‬سيظهر هو عينه غري‬ ‫أن اجلواب ليس بسيط ًا هكذا‪ ،‬بل َّ‬
‫إن وصف املثال َّية نفسه‪ ،‬الذي ّ‬ ‫والنظر يف منطوقها‪ ،‬يبني َّ‬
‫ال بوجود ميل‬ ‫أن أفالطون ال يؤمن بوجود أصل َّأول أو طبيعة أوىل‪ ،‬فأفالطون ال يؤمن مث ً‬ ‫أن أول ما يبينه هذا النظر هو َّ‬
‫واضح بذاته‪ ،‬إذ َّ‬
‫سيايس فطري عند اإلنسان جيعله مستعد ًا ق ْبل َّي ًا لالجتامع‪ ،1‬فاإلنسان عنده‪ ،‬وعىل عكس أرسطو‪ ،‬ليس حيوان ًا مدني ًا أو اجتامعي ًا بالطبع‪،‬‬

‫كل املحاورات هو املعتمد دول َّياً يف‬


‫‪  1‬ـ نجد هذا يتك َّرر عند أفالطون أكرث من م َّرة‪ ،‬انظر مثالً محاورة القوانني الفقرة ‪( C 626‬نشري إىل أ َّن الرتقيم الذي سنعتمده يف ّ‬

‫‪95‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫عادل حدجامي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫إذ املدينة يشء طارئ ومصطنع فرضته احلاجة العمل َّية واالقتصاد َّية فقط ‪ ،‬وليس أبد ًا عنرص ًا يف الفطرة أو الطبيعة‪ ،‬وهذا ما ِّ‬
‫يفس كوننا‬ ‫‪2‬‬

‫وعدو لنفسه»‪.3‬‬
‫ٌّ‬ ‫«كل إنسان هو عدو ِّ‬
‫لكل إنسان‪ ،‬بل‬ ‫نصادف عنده عبارات مثرية أقرب ما تكون إىل لغة هوبس؛ عبارات من مثل ُّ‬

‫يسوغ لنا هذا أن نجعل من أفالطون فيلسوف ًا‬


‫إذا كان األمر هكذا‪ ،‬وكانت السياسة حمض اصطناع‪ ،‬من حيث النشأة عىل األقل‪ ،‬فهل ّ‬
‫ونجرده من ّ‬
‫كل نزوع مثايل؟‬ ‫ّ‬ ‫وضعي ًا عىل شاكلة املحدثني‪،‬‬

‫اجلواب هو بالنفي قطع ًا‪ ،‬فأفالطون ليس فيلسوف ًا وضعي ًا‪ ،‬وإن كان ال ُبدَّ من التوصيف فاألقرب هو أن نقول إنَّه‪ ،‬سياسي ًا‪ ،‬فيلسوف‬
‫التصور الوضعي يف السياسة‪َّ ،‬‬
‫فإن اعتقاده الفلسفي العام‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫«طبيعي» ـ أو طبيعاين ـ فإن كان قوله بصناع َّية املدينة جيعله يقرتب من‬
‫وحضور فكرة النموذج عنده‪ ،‬كام سنبني‪ ،‬جتعل تربئته من املثال َّية‪ ،‬بشكل تام‪ ،‬غري ممكنة‪.‬‬

‫مؤداه؟‬
‫ما المقصود من وصف الطبيعان َّية هذا؟ وما َّ‬
‫إن الطبيعة‪ ،‬يف صورهتا وقوانينها التي ندرك منها‪ ،‬هي املرجع واألصل‪ ،‬وإال لكان قوله هذا هو‬ ‫البي أنَّنا ال نقصد بذلك كونه يقول َّ‬
‫من ّ‬
‫كل عمره يف الر ّد عىل حججها‪ ،‬فالطبيعة عند أفالطون ليست هي قوانني املادة كام هي قائمة‬ ‫عينه ما تقول به السوفسطائ َّية التي قىض هو َّ‬
‫يف الواقع الغفل الذي أمامنا‪ ،‬والقانون األخالقي ليس بحال هو قانون األقوى أو سيادة األعنف‪ ،‬كام زعم السوفسطائيون‪ ،4‬الطبيعة‬
‫احلس يمنعنا عن أن نتبينها يف بساطتها؛ َّإنا الطبيعة‬‫أن َّ‬ ‫املقصودة هنا هي يشء آخر‪َّ ،‬إنا طبيعة «العقل» كام ينعكس يف العقل فعالً‪ ،‬لوال َّ‬
‫(مهمة الكوسمولوجيا‬ ‫َّ‬ ‫األوىل التي ليست هذه الطبيعة الثانية إال نسخة عنها‪ ،‬بل ومانعة هلا من الظهور؛ َّإنا الطبيعة كام ينبغي أن نراها‬
‫(مهمة السياسة واألخالق)‪ ،‬عىل أن نفهم َّ‬
‫أن‬ ‫َّ‬ ‫والفلسفة)‪ ،‬وكام ينبغي أن نجتهد بمجهودنا اإلنساين املحايث لنصنع قوانني عىل شاكلتها‬
‫هذا االجتهاد ليس بحال اجتهاد ًا لتحقيق غاية سابقة علينا تتجاوزنا‪ ،‬بل دافعه حتقيق منفعتنا وصاحلنا فقط‪ ،‬فاملصلحة‪ ،‬كام سنرى‪ ،‬وليس‬
‫أي مبدأ فوقي‪ ،‬هي املعيار يف الدفاع عن نظام اجلمهور َّية‪ ،‬وبالتايل هي املعيار الذي بسببه نرفض نظام الديمقراط َّية‪.‬‬ ‫ّ‬

‫كل ما قد نفهمه من الطبيعة الغفل أيض ًا‪َّ ،‬إنا طبيعان َّية‬ ‫ٍ‬
‫متعال‪ ،‬لكنَّها ضدَّ ِّ‬ ‫كل نزوع‬‫طبيعان َّية أفالطون هي ُمرك َّبة إذن‪ ،‬فهي طبيعان َّية ضدَّ ّ‬
‫أن ما نعقله خمتلف‬ ‫جذر َّية ال تستند إىل احلس؛ طبيعان َّية حتاول أن جتعل من نظام ما نعقله معيار ًا قيمي ًا لنا‪ ،‬وهذا ال يتأتَّى إال حني نفهم َّ‬
‫وأن سبب انخداعنا وخلطنا بني األمرين هو استئناسنا بظلمة الكهف التي متنعنا من أن نميز بينهام‪ ،‬فنتخيل للحظة‪ ،‬كام ختيل‬ ‫عم نراه‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫أن حقيقة الطبيعة هي هذه الظواهر الواقعة أمامنا فقط ‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫ثراسيامخوس‪َّ ،‬‬

‫لكن كيف هي هذه الطبيعة املعقولة يف ذاهتا؟ وكيف نتب َّينها؟ ثم ما معنى أن نستلهمها؟ وماذا ستكون قيمة ما اقرتحه اليونان كنظم‬
‫سياس َّية‪ ،‬وضمنها نظام الديمقراط َّية‪ ،‬من منظور فلسفة تريد أن تنشئ سياسة بمرجع َّية الطبيعة املعقولة هذه؟‬

‫كل لغة)‪.‬‬
‫كل اللغات‪ ،‬مع بعض الفروق يف حروف الفقرات بحسب أبجديَّة ّ‬
‫ترتيب النصوص األفالطون َّية‪ ،‬وهو مو َّحد يف ّ‬
‫‪  2‬ـ الجمهوريَّة‪ ،‬الكتاب األ َّول‪ ،369 - 358 ،‬ونشري هنا إىل أنَّنا نعتمد الرتجمة العربيَّة التي اقرتحها الدكتور فؤاد زكريا (دار وفاء للطباعة‪ ،‬اإلسكندريَّة‪ ،)2004 ،‬وهي‬
‫موسعة لفكر أفالطون السيايس ‪.‬‬
‫ترجمة ت َّم التمهيد لها مبقدّمة َّ‬
‫‪  3‬ـ «‪ »Tout homme est pour tout homme un ennemi et en est un pour lui-même‬القوانني ‪ ، C 626‬وبالنسبة إىل أنرثوبولوجيا أفالطون عموماً نحيل عىل‬
‫الكتابني األول والثاين ( ‪ D 632‬و ‪ () C 674‬من املحاورة نفسها‪ ،‬وعىل تيامووس )( ‪ C 87‬و‪  .) d 90‬‬
‫‪  4‬ـ الجمهورية ‪ ،‬الكتاب األول ‪ 343‬ـ ‪.344‬‬
‫‪  5‬ـ غورجياس (‪ ،)a 492 e 491‬نعتمد هنا الرتجمة الفرنس َّية القدمية نسبياً لـ ( ‪ ،) Alfred Croiset‬عن دار ‪. 1923 ,Les Belles Lettres‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪96‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫ضدّ الديمقراط َّية ‪ ...‬أفالطون أو العدالة اهلندس َّية‬

‫كل هذه األسئلة إىل سؤال واحد رئيس تنتظم حوله‪ ،‬وهو سؤال العدالة‪ ،‬أو أصل‬ ‫يمكن يف احلقيقة‪ ،‬وكام سنتبني فيام بعد‪ ،‬أن نر َّد َّ‬
‫أن هناك شيئ ًا مثري ًا وفاتن ًا يدركه من يقرأ نصوص أفالطون ويتد َّبرها يف جمموعها‪ ،‬وهو الرتابط العضوي املوجود‬ ‫العدالة باألحرى‪ ،‬إذ َّ‬
‫تصور أو فكرة عنده حتيل‪ ،‬من جهة أوىل‪ ،‬عىل‬ ‫فكل ُّ‬‫كل املفاهيم والقضايا‪ ،‬فأفالطون كان مولع ًا بالرتتيب‪ ،‬أو لنقل بالتضمني‪ُّ ،‬‬ ‫بني ِّ‬
‫عنرص سابق عليها تكون حمتواة فيه‪ ،‬وحتيل‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬عىل عنرص آخر يكون هو حمتوى فيه‪ ،‬هكذا يأيت متنه يف النهاية أشبه بنظيمة‬
‫كربى(‪ ،)epuzzl‬أو لنقل ‪ -‬إن شئنا مثاالً قريب ًا‪ -‬أشبه بالدُّ مى الروس َّية التي يكون فيها السابق حمتوي ًا التايل‪ ،‬صعود ًا ونزوالً‪ ،‬وهذا ليس‬
‫إن أفالطون فيلسوف نسقي جد ًا‪ ،‬لكنَّها‬ ‫عىل مستوى املفاهيم والقضايا فقط‪ ،‬بل وعىل مستوى الصياغة أيض ًا‪ ،‬وهو ما يسمح لنا بالقول َّ‬
‫ألنا ليست نسق َّية خط َّية‪ ،‬بل نسق َّية «مرآت َّية» أو انعكاس َّية‪ ،‬هكذا فال يمكن فهم موقفه السيايس‬ ‫نسق َّية خمتلفة عن نسق َّية أرسطو مثالً‪َّ ،‬‬
‫تصوره األخالقي عن اإلنسان‬ ‫تصوره الكوسمولوجي الذي هو فوق املدينة َّأوالً‪ ،‬وال باستقالل عن ُّ‬ ‫وتصوره عن املدينة يف استقالل عن ُّ‬‫ُّ‬
‫تصور هذا الرتاتب اخلارجي العام باستقالل عن دفاعه عن الفلسفة التي تبني‬ ‫ً‬
‫وفضائله التي يتحقق هبا داخل املدينة ثانيا؛ كام ال يمكن ُّ‬
‫تعمي عىل هذه احلقيقة من جهة ثانية‪ ،‬فالرصاع مع اخلطابة ليس رصاع ًا معرفي ًا‬ ‫حقيقة هذا العامل من جهة‪ ،‬ومن حربه عىل اخلطابة التي ِّ‬
‫أي واحد‬ ‫بأنم متساوون يف امللكات‪َّ ،‬‬
‫وأن َّ‬ ‫خالص ًا‪ ،‬بل هو سيايس َّأوالً‪ ،‬فاخلطابة هي املسؤولة عن خراب املدينة‪َّ ،‬‬
‫ألنا توهم األفراد َّ‬
‫مهمة‪ ،‬وهو الوهم الذي يمثل املدخل لفساد السياسة‪. 6‬‬ ‫أي َّ‬ ‫منهم قادر عىل شغل ّ‬

‫يفس‪ ،‬من الناحية املنهج َّية‪ ،‬أمور ًا دقيقة جد ًا يف متن أفالطون‪ ،‬مثل إقحامه لقضايا‬‫أن هذا التقابل والرتاتب هو وحده ما ِّ‬ ‫واحلقيقة َّ‬
‫كوسمولوج َّية يف سياق حديثه عن العدالة (اجلمهور َّية)‪ ،‬أو تقديمه للحديث عن الكوسمولوجيا‪ ،‬باحلديث عن طبقات أهل املدينة‬
‫وفضائلهم (تيامووس)‪ ،‬أو حديثه عن السياسة يف سياق حديثه عن اخلطابة (غورجياس)‪ ،‬أو حتى حديثه عن احلقيقة يف سياق حديثه عن‬
‫الرغبة (املأدبة‪ ،‬فيدر)؛ هكذا تأيت فلسفة أفالطون يف النهاية كقطعة نسيج؛ نسيج داليل يكون فيه ُّ‬
‫كل خيط ُمنشدّ ًا إىل اخليوط األخرى‪،‬‬
‫بمسوغ مدريس‬
‫ّ‬ ‫كل اجلهات‪ ،‬فال إمكان للفصل بني القضايا يف فلسفة أفالطون إال‬ ‫فال يتأتى القبض عليه وحده دون وصله بام يشدُّ ه من ِّ‬
‫كل القضايا األخرى‪ ،‬وهو‬ ‫سيجر معه حت ًام قضايا أخرى‪ ،‬أو عىل األصح‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫خالص‪ ،‬ويف السياسة األمر أوضح من غريه‪ ،‬فتناول السياسة‬
‫ما سيبدو واضح ًا بذاته من اآلن‪.‬‬

‫غاية السياسة‬
‫للسياسة غاية جليلة عند أفالطون‪ ،‬هي خلق التوافق بني جمموع املصالح اإلنسان َّية وفق نموذج العدالة‪َّ ،‬إنا ما يضمن عيش اجلميع‬
‫بام يتفق مع مبادئ اخلري األعم‪ .‬لك َّن السياسة ال يمكن أن حتقق دورها هذا ما مل نوفر رشوط ًا ونرفع موانع‪َّ ،‬أول هذه الرشوط أن ّ‬
‫نعرف‬
‫الناس بإنسانيتهم‪ ،‬أي بحقيقة وجودهم يف هذا العامل ومكانتهم فيه‪ ،‬بعبارة أخرى إنَّنا ال نستطيع أن نجعل الناس يرتقون نحو إنسانيتهم‪،‬‬
‫وهي إنسان َّية سياس َّية دائ ًام‪ ،‬ما مل نعرفهم بحقيقتهم «الوجود َّية»‪ ،‬وهذا دور الفلسفة التي تع ّلم الناس أن «يعرفوا أنفسهم بأنفسهم»‪،7‬‬
‫ألن اإلنسان جاهل بطبيعته‪ ،‬فديدنه أن خيضع العقل‬ ‫حني تساعدهم عىل توليد حقائقهم من ذواهتم‪ .‬لك َّن حتقيق هذه املعرفة ليس يسري ًا‪َّ ،‬‬
‫ملا دونه من القوى‪ ،‬وحني حيصل هذا تنتج الفوىض وينتج العنف رضورة‪ .‬هكذا فالسياسة ليست برناجم ًا إيديولوجي ًا سيط َّبق عىل واقع‬
‫مبارش‪ ،‬بل هي عمل نظري أوالً‪ ،‬ألنَّه يشرتط الفلسفة يف الوسط؛ فلسفة صاعدة تع ّلم الناس معنى الوجود ودورهم فيه‪ ،‬وفلسفة نازلة‬
‫كل تصور عنها‬ ‫تكشف‪ ،‬جينيالوجي ًا‪ ،‬عن بنيات النظم الفاسدة التي ليست فقط نقيض ًا نظري ًا للسياسة الفاضلة‪ ،‬بل هي مانع عميل لقيام ِّ‬
‫يف األذهان ابتداء‪.‬‬

‫‪  6‬ـ بروتاغوراس‪ ، b-d 319 ،‬الجمهورية‪ ،‬الكتاب الثامن ‪ ،558‬انظر تحليل البُعد السيايس للرصاع مع الخطابة يف الفصلني الثاين والثالث من كتاب‪:‬‬
‫‪Platon, François Châtelet, éditions Gallimard, Paris, 1964, pp. 71 -140.‬‬
‫‪  7‬ـ بحسب هذا السياق تصري عبارة سقراط الشهرية «اعرف نفسك بنفسك‪ »)GNOSIS TEOTON( ،‬ليست عبارة ذات داللة أخالقية فقط‪ ،‬بل سياسية خصوصاً‪،‬‬
‫وسيصري معناها «اعرف مكانك يف هذا العامل‪ ،‬ومن مث َّة دورك ومهمتك التي وجدت للقيام بها يف املدينة»‪.‬‬

‫‪97‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫عادل حدجامي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ضد الديمقراط َّية‬


‫ّ‬
‫لسنا نحتاج للتذكري بأنواع املدن عند أفالطون‪ ،‬فهي أشهر من أن تذكر‪ ،‬وكثري من قوله فيها نوافق عليه نحن اليوم‪ ،‬كام هو احلال مع‬
‫ثمة الدوافع‪،‬‬ ‫تصوره عن الديمقراط َّية بشكل خاص وبيان احلجج‪ ،‬ومن َّ‬ ‫قوله يف طبيعة نظامي الطغيان واجلند ‪ ،‬لكنَّنا حمتاجون ألن نبني ُّ‬
‫‪8‬‬

‫جمرد عنارص خارج َّية‪،‬‬ ‫تفس من داخل فلسفته حكمه القايس عليها‪ ،‬إذ ليس من املفيد يف يشء أن نر َّد موقفه من الديمقراط َّية إىل َّ‬ ‫التي ّ‬
‫وهو ما يكتفي به كثري من املؤرخني ممَّن يفضل احلكم األخالقي بدل بذل جهد الفهم الفلسفي؛ فموقف أفالطون يف نظرنا ال جيوز ر ُّده‬
‫العتبارات نظر َّية خالصة هي مثاليته الساذجة‪ ،‬أو العتبارات ظرف َّية من مثل أصوله االجتامع َّية وظروف نشأة أرسته االقتصاد َّية‪ ،‬بل له‬
‫ثم يف جتربته‬ ‫مسوغات عمل َّية‪ ،‬جتد أسباهبا يف معيشه هو كمواطن أثيني شهد حال مدينته هناية القرن اخلامس وبداية الرابع قبل امليالد‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫السياس َّية اخلاصة‪ ،‬وهي التجربة التي كابد فيها السجن والعبود َّية كام هو معروف‪ .‬من هذا املنظور‪ ،‬يبدو أنَّه مل يكن بمكنة أفالطون أن‬
‫جمرد النتيجة التي‬ ‫تفس شيئ ًا‪ ،‬بل هي عينها حتتاج للتفسري‪َّ ،‬إنا َّ‬‫توجهاته الفلسف َّية املثال َّية فال ّ‬
‫يقف من الديمقراط َّية إال ذلك املوقف‪ ،‬أ َّما ُّ‬
‫يراد هلا‪ ،‬بعدي ًا‪ ،‬أن تكون سبب ًا للسبب‪.‬‬

‫عاشت أثينا قبيل القرن الرابع وإ َّبانه وضع ًا معقد ًا وتراجيدي ًا‪ ،‬إذ ذاق األثينيون طعم اهلزيمة والتقتيل إثر انتصار سبارطة عليهم يف‬
‫أن نظام احلكم‬‫خضمها كان استثنائي ًا‪ ،‬إذ َّ‬
‫ِّ‬ ‫حرب البولوبونيز التي دامت من سنة ‪ 431‬إىل سنة ‪ 404‬قبل امليالد‪ .9‬وضع أثينا قبيل احلرب ويف‬
‫الذي كان مهيمن ًا هو النظام الديمقراطي‪ ،‬كام فرضه حزب اجلبل القوي‪ ،‬أيام احلاكم بسيسرتاتوس‪ ،‬ضد ًا عىل حزب السهل والبحر‬
‫وسيستمر يف هيمنته عىل‬
‫ُّ‬ ‫سيتقوى وسيفرض نفسه مع بدايات القرن اخلامس‪ ،‬باعتباره السلطة األقوى‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫املحافظني‪ .‬حزب اجلبل هذا‬
‫املدينة إىل حدود عرص برييكلس‪ ،‬وهو العرص الذي ستبلغ فيه هيمنة الديامغوجيا وسيادة اهلوى‪ ،‬من منظور أفالطون‪ ،‬الغاية والنهاية‪،‬‬
‫فبرييكليس الذي يقدَّ م إلينا يف كتب التاريخ باعتباره نموذج ًا للقائد احلكيم‪ ،‬هو من منظور أفالطون رمز هليمنة الشعبو َّية وثقافة اهلزيمة‬
‫جترأ عىل نقد الفكر الديني والقيمي السائدين‪ ،‬وعىل رأسهم سقراط‪ .‬إنَّه رمز‬ ‫كل من َّ‬ ‫التي ستنتهي باحتالل أثينا‪ ،10‬وبقتل وسحل ّ‬
‫للديمقراط َّية فعالً‪ ،‬لكنَّه رمز لزيف شعاراهتا خصوص ًا‪ ،‬فالديمقراط َّية التي أعلنت احلر َّية واملساواة والثروة غايات هلا‪ ،‬ها هي ذي تنتهي‬
‫كل أشكال الفساد واالرتشاء‪ ،‬كام تشهد بذلك‬ ‫حتول مدينة بحجم أثينا إىل مدينة منهزمة حمتلة حيكمها الطغاة‪ ،‬مدينة تنخرها ُّ‬ ‫إىل أن ّ‬
‫كتابات ثيوسيديد ونصوص أريسطوفان الشهرية ‪.‬‬
‫‪11‬‬

‫‪  8‬ـ انظر تفصيل أنواع الحكم (األرستقراطي أو حكم األفضل‪ ،‬الثيموقراطي أو حكم الجند‪ ،‬األوليغاريش أو حكم األعيان‪ ،‬الدميقراطي أو حكم الحشود‪ ،‬األوليغاريش أو‬
‫حكم الطغاة) يف الكتاب السابع من الجمهورية‪.‬‬
‫‪  9‬ـ للتع ُّرف عىل تاريخ حروب البولوبونيز بتفصيل‪ ،‬نُحيل من القدامى عىل كتاب ثيوسيديد «تاريخ حرب البولوبونيز» يف ترجمته الفرنسيَّة (غري مرتجم للعربيَّة)‪:‬‬
‫‪Thucydide, Histoire de la guerre du Péoloponnèse, traduction Jacqueline de Romilly, Raymond Weil et Louis Bodin Paris, Robert Laffont,‬‬
‫‪1990.‬‬
‫باإلنجليزية هناك ترجامت متعدّدة‪ ،‬بعضها بدون حقوق نرش‪ ،‬من بينها‪:‬‬
‫‪http://classics.mit.edu/Thucydides/pelopwar.html‬‬
‫أ َّما للتعرف عىل هذه الحرب‪ ،‬وعىل وضع أثينا عموماً‪ ،‬بلغة وأسلوب أكرث تجريدا ً‪ ،‬فنحيل عىل الكتاب الرئيس للباحثة الكبرية جاكلني دو رومييل‪:‬‬
‫‪Jacqueline de Romilly, Thucydide et l`impérialisme athénien: La pensée de l`historien et la genèse de l`œuvre, Paris, Les Belles Lettres, 1961.‬‬
‫لعل أشهرها هي الواردة يف خطبة سقراط أمام قضاته (الكتاب األ َّول من محاورة الدفاع)‪ ،‬حيث حاول سقراط التذكري‬
‫‪  10‬ـ يع ّرج أفالطون عىل ذكر احتالل أثينا م َّرات‪ّ ،‬‬
‫مباضيه كعسكري حارب جيش سبارطة‪ ،‬أ َّما بخصوص احتالل أثينا‪ ‬واعتالء الطغاة الثالثني‪ ،‬فانظر‪ :‬أرسطو‪ ،‬دستور أثينا‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬الفصول ‪ XXXV‬إىل ‪ ، XL‬ومن‬
‫املعارصين انظر كتاب املؤرخ‪:‬‬
‫‪Edmond Lévy, La Grèce au Ve siècle de Clisthène à Socrate, Paris, Seuil, coll. «Points Histoire / Nouvelle histoire de l`Antiquité», 1995.‬‬
‫«الس ُحب»‪ ،‬حيث ينتقد وضع القضاء وفساد املحاكم‪ ،‬أو «مجمع النساء»‪ ،‬التي يسخر فيها من أوضاع الجلسات والنقاشات الدميقراط َّية‪ ،‬بافرتاض‬
‫مثال مرسح َّية ُّ‬
‫‪ 11‬ـ انظر ً‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪98‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫ضدّ الديمقراط َّية ‪ ...‬أفالطون أو العدالة اهلندس َّية‬

‫فالديمقراط َّية التي أعلنت احلر َّية واملساواة‬ ‫قوة حضار َّية‬ ‫ما الذي جيعل مدينة مثل هذه‪ ،‬كانت قبل عقود َّ‬
‫حتول‬
‫والثروة غايات هلا‪ ،‬ها هي ذي تنتهي إىل أن ّ‬ ‫وعسكر َّية تضارع إمرباطور َّية الفرس‪ ،‬بل وهتزم أسطوهلا العتيد‬
‫يف معركة «ساالمني»‪ ،‬تنتهي هلذا املصري املأساوي؟ ليس أفرادها‬
‫مدينة بحجم أثينا إىل مدينة منهزمة حمتلة حيكمها‬
‫يشك يف‬ ‫ُّ‬ ‫يف ذاهتم؛ وليس الديمقراطيون كوهنم أعيان ًا‪ ،‬فال أحد‬
‫كل أشكال الفساد‬ ‫الطغاة‪ ،‬مدينة تنخرها ُّ‬ ‫أن آنتستني وبرييكليس‪ ،‬بل وحتى ألسيبياد‪ ،‬فيام بعد‪ ،‬كانوا‬ ‫َّ‬
‫واالرتشاء‪ ،‬كام تشهد بذلك كتابات ثيوسيديد‬ ‫ُّ‬
‫يشك يف النوايا املبدئ َّية‬ ‫حيبون أثينا وينترصون ألهلها‪ ،‬ال أحد‬
‫ونصوص أريسطوفان الشهرية‬ ‫هلؤالء وغريهم من القادة العسكريني والسياسيني‪ ،‬بل السبب هو‬
‫النموذج الديمقراطي‪ ،‬فالعيب ليس يف الن َّيات‪ ،‬بل هو يف النظام‪،‬‬
‫أي يف قلب االختيار السيايس املوضوعي‪ ،‬هلذا ما كان بمكنة املدينة‬
‫عمت عىل هذه احلقيقة إىل حني‪.‬‬
‫أن تنتهي إال ملا انتهت إليه‪ ،‬حتى وإن كانت مظاهر املجد والثراء الظرف َّية قد َّ‬

‫كل هذا العداء للديمقراط َّية‪ ،‬وهي النظام الذي‬ ‫يفس َّ‬
‫كل هذا األمر للنظام الديمقراطي؟ ما الذي ّ‬ ‫ولكن ملاذا ير ُّد أفالطون أسباب ّ‬
‫أن هذه املفاهيم الثالثة هي نفسها ما يعلن أفالطون أنَّه يريدها‬ ‫جعل شعاره‪ ،‬حتى يف ذلك الزمان‪ ،‬العدالة واملساواة واحلر َّية‪ ،‬واحلال َّ‬
‫تصور أفالطون‪ ،‬تدافع عن متثل خاطئ ملعنى املساواة وفهم زائف ملعنى احلر َّية‪ ،‬وبالتايل مفهوم فاسد‬ ‫غاية ملدينته؟ كون الديمقراط َّية‪ ،‬يف ُّ‬
‫عن معنى العدالة‪.‬‬

‫‪ .1‬مغالطة املساواة‬

‫تتحدث الديمقراط َّية‪ ،‬فيام يتعلق باملساواة‪ ،‬عن كون الناس متساوين يف القيمة‪ ،‬متعادلني يف االعتبار‪ ،‬لك َّن تأمل مضمون هذه املساواة‬
‫أن املساواة احلق‬‫ألنا مساواة حساب َّية تعتمد اجلمع الكمي‪ ،‬واحلال َّ‬ ‫جمردة وصور َّية فقط‪َّ ،‬‬
‫أن هذه املساواة املقصودة هي َّ‬ ‫عن قرب يبني َّ‬
‫هي التي تكون من طبيعة هندس َّية يستحرض فيها بعد الكيف والقيمة‪ ،‬وليس العدد فقط‪ .‬عيب املساواة احلساب َّية قائم يف كوهنا ال‬
‫املؤسس عىل العقل‪ ،‬بل يصري‬ ‫تستحرض مضمون ما تساوي بينه ‪ ،‬هكذا فتبع ًا ملعيارها يصري الرأي القائم عىل االنفعال مساوي ًا للرأي ّ‬
‫‪12‬‬

‫يفس احلظوة الكبرية التي متتَّع هبا معلمو اخلطابة من السوفسطائيني زمن‬ ‫أوىل منه وأقوى‪ ،‬ألنَّه أنفذ يف النفس وأقرب للهوى‪ ،‬وهذا ما ّ‬
‫ألن قوامها هو الفصاحة ومنارصة األهواء بالبالغة‪،‬‬ ‫الديمقراط َّية‪ ،‬فاخلطابة هي أنسب أنواع القول ملنطق عمل النظام الديمقراطي‪َّ ،‬‬
‫والناس بالسليقة لألهواء أميل‪ .‬هكذا تصري مواجهة السوفسطائيني‪ ،‬التي قىض ألجلها أفالطون فرتة طويلة‪ ،‬واجب ًا سياسي ًا وليس فلسفي ًا‬
‫حيرك آلتها‪ ،‬وهو اخلطابة والديامغوجيا‪.‬‬
‫ألنا مواجهة لوقود الديمقراط َّية الذي ّ‬
‫فقط‪َّ ،‬‬

‫‪ .2‬حر َّية للعبود َّية‬

‫تصور اإلنسان احلر بوصفه ذلك‬‫ّ‬ ‫فإنا ختطئ أيض ًا يف فهم معنى احلر َّية‪َّ ،‬‬
‫ألنا‬ ‫إن كانت الديمقراط َّية ختطئ يف فهم معنى املساواة‪َّ ،‬‬
‫الذي يفعل ما يرغب وينترص ملا ينفعه آني ًا‪ ،‬وهذا ما ترمجه‪ ،‬وهنا أيض ًا‪ ،‬السوفسطائيون األوائل يف خطبهم وتعاليمهم‪ ،‬وهكذا فإن كانت‬
‫فإنا‪ ،‬من حيث املضمون‪ ،‬التعبري األدق عن إيديولوجيا‬ ‫السوفسطائ َّية هي أنسب أشكال القول‪ ،‬من حيث الشكل‪ ،‬للنظام الديمقراطي؛ َّ‬

‫إمكان َّية سطو النساء عليها وقلب نظام الحكم بالتنكّر بال ّزي فقط‪ ،‬وأعامل أريسطوفان موجودة‪ ،‬مرتجمة للفرنسية من طرف ( ‪ ) Eugène Talbo‬خالية من الحقوق‪،‬‬
‫‪.http://remacle.org‬‬ ‫عىل املوقع‪:‬‬
‫‪ 12‬ـ القوانني‪. a 758 e 756 ،‬‬

‫‪99‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫عادل حدجامي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫حتول املدينة من مرشوع عيش مشرتك إىل شتات أنوات ال رابط بينها‪ ،‬أنوات منغلقة عاجزة عن التواصل‪ ،‬ال‬ ‫الفردان َّية الديمقراط َّية التي ّ‬
‫كل ُعرى العيش املشرتك‪ ،‬وبالتايل السلم‪.‬‬ ‫يمكن أن جتتمع إال يف شكل لوبيات حتمل تسمية أحزاب‪ ،‬وهو ما ينتهي يف األخري إىل تقويض ّ‬
‫التصور عن احلر َّية‪ ،‬التي جتعلها اختيار ًا‬
‫ُّ‬ ‫يتوجه لبيان العيوب الدقيقة التي تسكن هذا‬
‫أن أفالطون ال يقف عند هذا التقرير العام‪ ،‬بل َّ‬ ‫عىل َّ‬
‫مد ّمر ًا عىل املستوى السيايس‪.‬‬

‫يكمن جوهر اخلطأ الذي يرتكبه اإلنسان الديمقراطي‪ ،‬وقبله اخلطيب السوفسطائي‪ ،‬يف كوهنام خيلطان‪ ،‬يف حتديدمها للحر َّية‪ ،‬بني‬
‫أن هناك فرق ًا بني احلاجات الطبيع َّية التي تكون رضور َّية وقابلة لإلشباع‪،‬‬ ‫احلر َّية وبني الرغبة أوالً‪َّ ،‬‬
‫ثم بني الرغبات واحلاجات ثاني ًا‪ ،‬إذ َّ‬
‫جمرد ميوالت متوحشة سائبة غري قابلة لإلشباع‪ ،‬هكذا فاحلر َّية ليست أبد ًا ما اعتقده كاليكليس‪ ،‬حني ذهب‬ ‫وبني الرغبات التي هي َّ‬
‫يمر عرب حتقيق ما تشتهيه النفس من رغبات ‪ ،‬فالذي يسعى لتحقيق حريته‪ ،‬بفرض شهواته عىل الواقع‪،‬‬
‫‪13‬‬ ‫إىل َّ‬
‫أن حتقيق السعادة واحلر َّية ُّ‬
‫قل‪ ،‬باملثال السقراطي الشهري‪َّ ،‬إنا وعاء مثقوب‪،‬‬ ‫أن الرغبات يفيض بعضها إىل بعض‪ ،‬أو ْ‬ ‫ينتهي بشكل مفارق ألن يصري عبد ًا هلا‪ ،‬إذ َّ‬
‫تكف أنت عن ملئه‪ ،‬وال يبلغ هو أن يمتلئ‪ .‬هلذا فالرغبات طريق االستالب‪ ،‬وتابع رغباته هو‬ ‫ُّ‬ ‫ترسب منه املاء‪ ،‬فام‬‫كلام سعيت مللئه َّ‬
‫عبد عىل احلقيقة‪ ،‬عبد وجب حتريره من سطوة ميوالت نفسه عليه‪ ،‬ميوالت ظ َّن لوهلة َّأنا السبيل حلريته‪ .‬هلذا االعتبار ولغريه‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫السعي جلعل الرغبات معيار ًا حلر َّية الفرد ال ينتج من منظور أفالطون إال العبود َّية‪ ،‬بل ال ينتج‪ ،‬حني نحمله عىل اجلميع‪ ،‬إال احلرب‬
‫أن‬‫فإن تعميمه جيعلنا نفقد املعيار الذي جيعل العيش املشرتك ممكن ًا‪ ،‬وهو ما يعني َّ‬
‫ألن الرغبات متعدّ دة بتعدُّ د الناس‪ ،‬وبالتايل َّ‬ ‫املعممة‪َّ ،‬‬
‫ألن ما جيعل اإلنسان إنسان ًا‪ ،‬كام تقدَّ م‪،‬‬
‫الدعوة للحر َّية‪ ،‬باملعنى السوفسطائي‪ ،‬هي دعوة للقضاء عىل املجتمع‪ ،‬وبالتايل عىل اإلنسان‪َّ ،‬‬
‫هو املدينة‪.‬‬

‫إذا تبينا هذا‪ ،‬فستكون الديمقراط َّية‪ ،‬يف تصور أفالطون‪ ،‬دعوة للعودة بلغة املحدثني إىل حالة الطبيعة‪ ،‬فام يسعى الفرد لتحقيقه يف حالة‬
‫الطبيعة َّ‬
‫والل قانون‪ ،‬حتققه له الديمقراط َّية بالتحايل اخلطايب عىل القانون‪.‬‬

‫‪ .3‬االستعامر كأفق‬

‫أن هناك صريورة‬ ‫والديمقراط َّية ال تنتهي إىل إهناء العيش املشرتك يف املدينة الواحدة فقط‪ ،‬بل تنتهي لتخريب املدن التي جتاورها‪ ،‬إذ َّ‬
‫استعامر َّية للديمقراط َّية‪ ،‬فالديمقراط َّية ليست إال مقدّ مة للديكتاتور َّية‪ ،‬فمن غري السليم أن نعتقد َّ‬
‫أن الديمقراط َّية هي النظام الذي يأيت‬
‫نتصور وفق فلسفة تارخينا نحن‪ ،‬بل الطغيان هو الذي يأيت نتيجة للديمقراط َّية رضورة‪ ،‬فحني نجعل من‬ ‫َّ‬ ‫ال عن نظام الطغيان‪ ،‬كام قد‬ ‫بدي ً‬
‫الرغبات معيار ًا‪ ،‬فإنَّنا ننتج بالرضورة نظ ًام ذات نزوع إمربيايل‪ ،‬وهذا ما يشهد به تاريخ أثينا االستعامري للقرن اخلامس‪ ،‬فهذا القرن مل‬
‫جمرد قرن للدمار واحلرب واالستعامر‪،‬‬ ‫يكن أبد ًا‪ ،‬من منظور املدن األخرى‪ ،‬قرن شمس أثينا الساطعة‪ ،‬كام سيعتقد هيغل فيام بعد‪ ،‬بل كان َّ‬
‫وهذا طبيعي بالنظر ملنطق الديمقراط َّية التي كانت تتبناها املدينة‪ ،‬فالديمقراط َّية ال يمكن أن تنتج إال حكام ًا طغاة‪ ،‬حكام ًا جيعلون من‬
‫أمراضهم الروح َّية وأمراض احلشود التي تدعمهم معيار ًا أخالقي ًا أسمى‪.14‬‬

‫بأي حال‬
‫ثم تنتهي رضورة إلنشاء دول استبداد َّية استعامر َّية‪ ،‬فال يمكن ّ‬
‫إذا كانت الديمقراط َّية تفهم بشكل خاطئ املساواة واحلر َّية‪َّ ،‬‬
‫إن املجتمع الذي جيعل من الشهوات الفرد َّية معيار ًا‪ ،‬ومن‬‫أن نتحدَّ ث عن عدالة يف الديمقراط َّية‪ ،‬فال يشء أكثر هتافت ًا من أن نقول َّ‬

‫‪  13‬ـ غورجياس‪. a 495 a 492 ،‬‬


‫كل القادة الدميقراطيني‪ ،‬تيميستوكل‪ ،‬ميلتياد‪ ،‬سيمون أنتيستني‪ ،...‬ألنَّهم كلهم احتكموا إىل مبدأ‬
‫‪ 14‬ـ ليس بريكليس وحده من ال يسلم من نقد أفالطون القايس‪ ،‬بل ّ‬
‫إخضاع العقل للهوى والرغبة‪ ،‬الجمهوريَّة‪ ، VIII 561 ،‬وبخصوص التص ُّور التاريخي للقادة‪ ،‬انظر محاورة منيكسني‪ ،) Ménexène(،‬من الفقرة ‪ a 234‬إىل ‪. e 249‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪100‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫ضدّ الديمقراط َّية ‪ ...‬أفالطون أو العدالة اهلندس َّية‬

‫سيحررنا من‬
‫ّ‬ ‫غواية البالغة برناجم ًا سياسي ًا‪ ،‬هو نظام يمكن أن يكون عادالً‪ ،‬هلذا فاألمر معكوس متام ًا عند أفالطون‪ ،‬فالعدالة هي ما‬
‫الديمقراط َّية‪.‬‬

‫عدالة الموسيقى (‪)Diké‬‬


‫ما املقصود بالعدالة عند أفالطون؟‬
‫عرجنا عليه إمجاالً يف البداية‪ ،‬وهو أصل القيم‪ ،‬عىل َّ‬
‫أن‬ ‫ليس من املمكن فهم جواب أفالطون هنا‪ ،‬ما مل نحسم أوالً يف سؤال رئيس َّ‬
‫كل القضايا واألسئلة‪ ،‬كام أسلفنا‪ ،‬متداخلة‬‫أن َّ‬
‫اجلواب عن هذا سري ُّدنا إىل جمال يبدو أبعد ما يكون عن السياسة وهو سؤال الوجود‪ ،‬إذ َّ‬
‫عند أفالطون‪ ،‬فإذا كانت السياسة هي الفن الذي يمكننا متثله من فهم أرسار اصطناع مدينة اخلالص وجمتمع الفضيلة‪َّ ،‬‬
‫فإن نظرية‬
‫نتبي صورة هذا اخلالص ونموذج هذه الفضيلة‪ ،‬بل وتقدّ م لنا الضامنة عىل إمكان هذا األمر كله ابتداء‪.‬‬
‫الوجود هي التي جتعلنا َّ‬

‫لتصور استطاع أن هييمن عىل هذا‬ ‫ُّ‬ ‫سبق لبعض كبار مؤرخي الفلسفة أن اعترب العامل القديم‪ ،‬يف مجلته‪ ،‬عامل ًا فيتاغوري ًا‪ ،‬إذ ال وجود‬
‫العامل قي ًام وفلسفة وعل ًام‪ ،‬من القرن الرابع قبل امليالد إىل حدود بدايات القرن السابع عرش‪ ،‬كام هيمنت الفيتاغورية‪ ،‬عىل َّ‬
‫أن الفيتاغورية‬
‫ورسخ قدمها يف التاريخ‬ ‫كل هذه السطوة َّ‬ ‫ليست يف احلقيقة سوى اسم آخر ممكن لألفالطون َّية‪ ،‬فالفيلسوف الذي مكَّن للفيثاغور َّية من ّ‬
‫هو أفالطون‪ ،‬ولسنا نظن أنَّنا حمتاجون للتدليل عىل فيثاغور َّية أفالطون‪ ،‬فهذا موضوع قتل بحث ًا‪ ،‬لكنَّنا باملقابل نحتاج ر َّبام ألن نحدّ د‬
‫أن نظر َّية الفيلسوف يف‬ ‫ثمة يف السياسة‪ ،‬بام أنَّنا زعمنا َّ‬
‫بدقة املقصود بنعت الفيثاغور َّية هذا وجتلياته يف نظر َّية الوجود عند أفالطون‪ ،‬ومن َّ‬
‫كل أسسها من نظريته يف الوجود‪.‬‬‫السياسة متتح َّ‬

‫وأن ما يعطي هلذا الكائن أو احليوان صفة‬ ‫أن العامل كائن واحد حي من َّظم‪َّ ،‬‬ ‫التصور الذي يعترب َّ‬
‫ُّ‬ ‫تعني الفيثاغور َّية أمر ًا واحد ًا‪َّ ،‬إنا‬
‫كل عنارصه متامسكة وموصولة‪ ،‬حتى وإن كانت هذه العنارص املتواصلة واملتامسكة غري متساوية يف القيمة‬ ‫أن َّ‬
‫التناغم والنظام هذه‪ ،‬هو َّ‬
‫قياس ًا إىل بعضها بعض ًا‪ ،‬فالتامسك احلاصل هنا هو حاصل بني عنارص متاميزة يف القوة واالعتبار‪ ،‬هلذا فالنظام ّ‬
‫الكل يف النهاية هو نظام‬
‫تراتبي‪ ،‬وليس نظام ًا متواطئ ًا‪ ،‬فاملوجودات يف العامل متفاوتة يف مرتبة الوجود‪ ،‬بل هي يف بعض جوانبها متعارضة‪ ،‬لك َّن هذا الرتاتب وهذا‬
‫التعارض هو وحده ما يمنح‪ ،‬وبشكل مفارق‪ ،‬للوجود صفة النظام وخاص َّية التناغم‪ ،‬وكام أنَّه ليس من املمكن يف املوسيقى‪ -‬التي تبقى‬
‫أي كيان موسيقي‪ ،‬مهام كان بسيط ًا‪ ،‬إال باصطناع مسافات وقيم صوت َّية مرتاتبة‪،‬‬ ‫لكل الفيثاغوريني ‪ -‬تشكيل أو تركيب ّ‬ ‫املرجع النظري ّ‬
‫فإن العامل‪ ،‬أو كوسموس بلغة اليونان الذي هو نموذج التناغم‪ ،‬ال يكون ممكن التحقق‬ ‫قياس ًا إىل س ّلم ومفتاح موسيقي ثابت تنتظم فيه‪َّ ،‬‬
‫تكونه حترتم الرتاتب الذي ينبغي أن تكون وفقه‪ ،‬أي حترتم مكانتها ودورها الذي وجدت ألجله‪،‬‬ ‫ألن األجزاء التي ّ‬ ‫عىل هذا النحو إال َّ‬
‫كل هذا النظام‪ ،‬وإال فسد الوجود‪.‬‬ ‫ابتداء‪ ،‬يف ّ‬

‫كل وجود صناعي ملزم ًا بأن يكون كذلك‪ ،‬أي ملزم ًا بأن يكون نسخة تستلهم‬ ‫وإذا كان ناموس الوجود الطبيعي هو هذا‪ ،‬كان ّ‬
‫األول‪ ،‬ومن ذلك السياسة‪ ،‬وهذا هو جوهر الطبيعان َّية السياس َّية التي أوردنا احلديث عنها سابق ًا‪ .‬بالنتيجة‪َّ ،‬‬
‫إن‬ ‫صورة الوجود الطبيعي َّ‬
‫املدينة‪ ،‬حتى تكون وتنجح‪ ،‬ينبغي أن تكون‪ ،‬عند أفالطون‪« ،‬كوسموس» مصغر ًا‪ ،‬أي «ميكروكوسموس» حيرتم هذه املبادئ األزل َّية‬
‫أن املدينة ينبغي أن تتحقق برتاتب عنارص متفاوتة يف القيمة‪ ،‬حيتل‬ ‫اخلالدة التي يراها حوله يف الكوسموس الكبري‪ ،‬وهو ما يعني عمل َّي ًا َّ‬
‫أن املدينة‬‫كل واحد مكانته الطبيع َّية‪ ،‬حتى يقوم‪ ،‬بأحسن ما يكون‪ ،‬بوظيفته التي وجد هو ألجلها سياسي ًا‪ ،‬وهو ما يعني يف النهاية َّ‬ ‫فيها ُّ‬
‫أن هذه الطبق َّية ال حتمل عند أفالطون أي بعد أخالقي‪ ،‬هلذا فال جمال عنده‬ ‫ينبغي أن تكون‪ ،‬بعبارة معارصة‪ ،‬مدينة طبقات ‪ .‬عىل َّ‬
‫‪15‬‬

‫للحديث عن ظلم اجتامعي مثالً‪ ،‬فالتفاوت ليس «سياسي ًا»‪ ،‬بل هو وجودي‪ ،‬أي متحقق يف العنرص األول‪ ،‬فالناس متفاوتون يف القيمة‬

‫‪ 15‬ـ الجمهورية‪ ،‬الكتاب الرابع ‪ ،423 419‬السيايس‪308 - 306. ،‬‬

‫‪101‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫عادل حدجامي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫معي‪ ،‬وبالتايل بنوع فضيلة حمدَّ د‪ ،‬فمن الناس من يكون صاحب‬ ‫وكل معدن خيتص بجنس وعي َّ‬ ‫قل َّإنم معادن‪ُّ ،16‬‬
‫والقوة ابتداء‪ ،‬أو ْ‬
‫وعي من حديد يلحقه الصدأ‪ ،‬وهؤالء هم من تغلب فيهم نوازع البحث عن الشهوة والنفور من األمل‪ ،‬فيحققون فضيلة العفة حني‬
‫حيسنون‪ ،‬وخيبث عنرصهم حني يسايرون ميلهم الطبيعي للجشع والرشاهة‪ ،‬وفوق هذا النوع‪ ،‬نجد من يكون صاحب وعي من فضة‪،‬‬
‫وهؤالء هم أشخاص أقدر عىل متثل الواجبات بطبعهم‪ ،‬حتى وإن كانوا مشاركني يف حياهتم اخلاصة ألفراد النوع األول‪ ،‬يف امليل لطلب‬
‫ألنم وحدهم من يتميزون بكوهنم‬ ‫الشهوة واتقاء األمل‪ .‬فوق هؤالء نجد أصحاب النفوس الذهب َّية الرفيعة‪ ،‬وهؤالء هم أصفى املعادن‪َّ ،‬‬
‫خي ومجيل‪.17‬‬ ‫حيتكمون يف حياهتم ّ‬
‫لكل ما هو ّ‬

‫كل واحد يف مكانه‪ ،‬بحسب‬ ‫أن اخلري سيكون يف أن نضع َّ‬ ‫وإذا كانت األنفس بالطبيعة هكذا‪ ،‬وكانت الفضائل هكذا‪ ،‬فمن البني بذاته َّ‬
‫فضيلته وما تؤهله له‪ ،‬فأصحاب الذهب وفضيلة احلكمة يكونون طبيعي ًا يف األعىل‪ ،‬أي يف القيادة والرياسة‪ ،‬وأهل الفضة وفضيلة‬
‫الشجاعة يف الوسط‪ ،‬أي يف العسكر واجلند َّية‪ ،‬وأهل احلديد والعفة يف األدنى‪ ،‬أي يف ما حيقق رشوط املدينة املعيشية األوىل‪ .‬هذا هو‬
‫النظام الذي ينبغي أن تكون عليه األشياء‪ ،‬وهذا هو جوهر العدالة عند أفالطون (عدالة العقل والطبيعة مع ًا)‪ ،18‬العدالة التي تلزمنا بأن‬
‫تصور العدالة عىل َّأنا املساواة احلساب َّية بني‬ ‫نحرتم الوضع الطبيعي لألشياء‪ ،‬فنحفظ هذا الرتتيب الطبيعي عينه ونحققه صناعي ًا‪ ،‬إذ َّ‬
‫أن ُّ‬
‫ال عن كونه ظامل ًا أخالقي ًا‪،‬‬ ‫تصور‪ ،‬فض ً‬
‫ألنا مساواة بني أناس متفاوتني يف الطبع والقدرة ابتداء‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫كل يشء هو قلب للقيم‪َّ ،‬‬ ‫الناس يف ّ‬
‫فهو خمطئ نظري ًا‪ ،‬ألنَّه خيطئ يف فهم طبيعة الوجود وصريورته الفعل َّية ذاهتا‪ ،‬ويغفل عن إدراك حقيقة كون الوجود يف ذاته مرتاتب ًا‪ ،‬وكونه‬
‫حيتاج هلذا الرتاتب حتى يكون‪.19‬‬

‫تصوره اخلاص عن العدالة معيار ًا حياكم‬ ‫الديمقراط َّية إذن نظام خاطئ نظري ًا وظامل أخالقي ًا‪ ،‬نظام يقلب السبب نتيجة‪ ،‬فيجعل من ُّ‬
‫التصور الديمقراطي‪،‬‬‫ُّ‬ ‫إن العدالة هي املساواة والظلم هو الرتاتب‪ ،‬هو قول يأيت نتيجة بعد َّية هليمنة‬ ‫ال َّ‬
‫به ماهية السياسة كلها‪ ،‬فالقول مث ً‬
‫نغي من زاوية النظر‪ ،‬ونعترب مث ً‬
‫ال‬ ‫يسوغ ظهورها كام نعتقد‪ ،‬إنَّه جمرد مس َّلمة‪ ،‬وهي مس َّلمة ليست بدهي َّية بحال‪ ،‬وإال فإنَّنا حني ّ‬
‫وليس سبب ًا ّ‬
‫لكل واحد مكانه‪ ،‬أي بلغة واحد من املعارصين الكبار‪ ،20‬حني نُصنِّف الناس حسب قدراهتم وطاقاهتم‪،‬‬ ‫أن العدالة تتحقق حني نحفظ ّ‬ ‫َّ‬
‫فإن مفهوم العدالة حينها سينقلب‬ ‫وأن التفاوت بني الناس مسألة طبعية (وليس مسألة تارخي َّية كام افرتض روسو يف أصل التفاوت)‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫كُل َّية‪.‬‬

‫«لكل حسب قدرته‪ٍّ ،‬‬


‫لكل حسب طبيعته»‪ ،‬فالعقل‬ ‫حق حتقيق فضيلته‪ ،‬وبالتايل شغل وظيفته‪ٍّ ،‬‬ ‫العدالة إذن‪ ،‬هي أن نحفظ ّ‬
‫لكل شخص َّ‬
‫ينبغي أن حيكم ما دونه‪ ،‬وليس العكس‪ ،‬هكذا تنشأ «اهلارمونيا» وحيصل التكامل يف مدينة حتتاج للجميع‪ ،‬فالشهوة حتتاج للحكمة كي‬

‫‪ 16‬ـ أسطورة املعادن اإلنسانيَّة قدمية تعود يف الثقافة اليونانيَّة ملرويات هزيود‪ ،‬وهي تتك َّرر عند أفالطون‪ ،‬مثال ذلك ما ورد يف الكتاب الثالث من الجمهوريَّة‪.‬‬
‫املتخصص لوك بريسون‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫مثال الكتاب الخامس‪ ، 473 ،‬من الجمهورية‪ ،‬ويف تأويل وبحث املسألة انظر ما كتبه الباحث‬
‫‪ 17‬ـ انظر ً‬
‫‪Luc Brisson et Jean-François Pradeau, Introduction: Politique (Platon), GF Flammarion, 2011, pp. 33, 34.‬‬
‫‪ 18‬ـ القوانني‪ ،‬الكتاب ‪ ، XII‬وكذلك الجمهوريَّة الكتاب الثالث والرابع‪ ،‬ويف الدراسات ميكن العودة إىل كتاب‪:‬‬
‫‪Jean Francois Revel, histoire de la philosophie occidentale, édition Nil ; paris 1994, P. 113.‬‬
‫‪ 19‬ـ رغم أ َّن نظرية الوجود عند أفالطون أعقد من أن تختزل يف تص ُّور واحد‪ ،‬وأ َّن بعض وجوهها تحتمل القول بوحدة للوجود حتى (أطروحات محاورة بارمينيدس‬
‫التسعة ‪ -‬محاورة تياموس ‪ ) c-d 55 a-b 31‬فإ َّن املستقر عند الدارسني هو أ َّن الوجود مرتاتب‪ ،‬حتى لو كان هذا الرتاتب يدرك يف إطار الواحد الساكن‪ ،‬انظر بهذا الصدد‬
‫مثالً النصوص املتعلقة بالعنارص املك ّونة للوجود‪ ،‬من عقل أول ونفس كل َّية ومادة‪ ،‬يف محاورة تياموس‪.c 61 b 53 ،‬‬
‫‪ 20‬ـ نقصد هنا مسألة اإلنصاف كام طرحها جون رولز يف نصه الشهري حول العدالة‪ ،‬والتي تبقى‪ ،‬رغم البون الشاسع املوجود يف الطرح والسياق‪ ،‬يف جزء منها عىل األقل‪،‬‬
‫داخلة يف اإلشكال َّية نفسها‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪102‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫ضدّ الديمقراط َّية ‪ ...‬أفالطون أو العدالة اهلندس َّية‬

‫تصور العدالة عىل َّأنا املساواة احلساب َّية بني‬ ‫ُّ‬ ‫هتذهبا صحيح‪ ،‬لك َّن احلكمة حتتاج للشهوة حتى توجد‪ ،‬فاملسألة‬ ‫ّ‬
‫ألنا مساواة‬ ‫كل يشء هو قلب للقيم‪َّ ،‬‬ ‫الناس يف ّ‬ ‫ليست أخالق َّية وال شخص َّية عند أفالطون‪ ،‬وال هي‪ ،‬كام قد‬
‫نعتقد‪ ،‬حمكومة بديكتاتور َّية املال أو العائلة أو النفوذ؛ َّإنا مسألة‬
‫بني أناس متفاوتني يف الطبع والقدرة ابتداء‪،‬‬
‫تدبري َّية عمل َّية خالصة‪ ،‬مسألة قدرات وملكات شخص َّية‪ ،‬مسألة‬
‫ال عن كونه ظامل ًا أخالقي ًا‪ ،‬فهو‬
‫تصور‪ ،‬فض ً‬
‫وهذا ُّ‬ ‫ألبوة بيولوج َّية‬
‫طموح ألن حيكم األفضل‪ ،‬بام أنَّه ال وجود مبدئي َّ‬
‫خمطئ نظري ًا‪ ،‬ألنَّه خيطئ يف فهم طبيعة الوجود‬ ‫يف املدينة الفاضلة‪ ،‬وال النتامء بالعرق أو اجلنس حتى‪ ،‬بل َّ‬
‫إن‬
‫ويغفل عن إدراك حقيقة كون الوجود يف ذاته‬ ‫أفالطون يذهب أبعد من ذلك‪ ،‬فال يرى مانع ًا من أن يعرب شخص‬
‫يف طبقة إىل أخرى إن حقق رشط التعلم واإلتقان‪ ،‬وهذا ينسحب‬
‫مرتاتب ًا‪...‬‬
‫حتى عىل النساء والعبيد‪ ،‬فكالمها يمكن أن يشغل وظائف عليا‪.21‬‬
‫ال أن نتحدث مع أفالطون عن ديكتاتور َّية‪ ،‬لكنَّها‬ ‫يصح فع ً‬ ‫ُّ‬ ‫قد‬
‫قل ديكتاتور َّية األرستقراط َّية الفلسف َّية‪ ،‬وليست دكتاتور َّية املال أو العرق‪ ،‬فاملال والعرق ال‬‫ديكتاتور َّية األفضل باملوهبة والعقل‪ ،‬أو ْ‬
‫يسودان بحق إال حني تبلغ الديمقراط َّية مداها األقىص‪ ،‬فتتحول إىل أوليغارش َّية وطغيان‪ ،‬والتاريخ شاهد عىل ذلك يف فرتة حكم احلزب‬
‫الديمقراطي وفرتة الطغاة الثالثني الذين أتوا بعده‪ .‬هكذا تكون العدالة‪ ،‬وهكذا تكون املدينة؛ مدينة منغلقة ساكنة صحيح‪ ،‬لكنَّه سكون‬
‫من جنس سكون الكوسموس‪ ،‬فاحلقيقة‪ ،‬وضمنها احلقيقة السياس َّية‪ ،‬ال يمكن أن تكون إال ساكنة كام َّقرر بارمينيد‪َّ ،‬‬
‫ألن الوجود الذي‬
‫أمامنا‪ ،‬ودائ ًام بحسب املرجع َّية الفيتاغور َّية‪ ،‬هو وجود ال يتغري‪ ،‬بل يدور يف مكانه‪ ،‬وهذه هي علة االستقرار والنظام فيه‪ ،‬وإال فهو الفساد‬
‫واالنحالل والعدم‪.‬‬

‫مقدمة ثانية‬
‫ّ‬
‫كل هذا نحن ـ الديمقراطيني‬ ‫ما الذي يمكن أن نستنتجه‪ ،‬عمل َّي ًا نحن اليوم‪ ،‬من حديث مثل هذا؟ ما الذي يمكن أن نحصله من ّ‬
‫كل خيبات الفلسفات املغلقة والتصورات املاهو َّية عن اإلنسان‬ ‫جربوا نموذج احلاكم الفيلسوف زمن لينني‪ ،‬وخربوا َّ‬ ‫املعارصين ـ الذين َّ‬
‫تفهم لفلسفة‬ ‫والعامل‪ ،‬وما أنتجته من أهوال؟ طبع ًا ليس االنتصار ألفالطون ونبذ ديمقراطيتنا‪ ،‬فهذا لن يكون ممكن ًا‪ ،‬رغم ما قد نبديه من ُّ‬
‫ألن املس َّلامت‬
‫ألن نظريته تفتقر للقيمة‪ ،‬بل َّ‬
‫ألن أفالطون مل يكن فيلسوف ًا كبري ًا‪ ،‬أو َّ‬
‫الرجل‪ ،‬فنحن ال يمكننا أن نكون أفالطونيني‪ ،‬ليس َّ‬
‫تصوره بأكمله هتاوت واندثرت باندثار األساس الذي كانت تقوم عليه‪ ،‬وهو نظرية اهلارمونيا املوسيق َّية والكوسموس‪،‬‬ ‫التي انبنى عليها ُّ‬
‫يكف عن الصريورة‪ ،‬والفضاء الذي من حولنا ليس ثريات أفالك منرية تشري‬ ‫فعاملنا ليس دائرة مغلقة ساكنة‪ ،‬بل حركة اختالف مطلق ال ُّ‬
‫كل األنحاء؛ وإنسانيتنا التي نحن عليها‬ ‫إلينا كالصوى من بعيد بام ينبغي أن نفعل‪ ،‬بل هو فراغ مرعب وشتات أجسام وغازات متناثرة يف ّ‬
‫ليست معادن ترتب لنا فضائل ترت ّقى بنا نحو اخلري األعم‪ ،‬بل هي مزيج من الكيمياء ودفق السياالت العصب َّية والشحنات التي تتفاعل‬
‫ال هو يشء عميل خالص‪ ،‬هو أن نمتحن هذه‬ ‫هنتم اليوم بأفالطون فع ً‬‫مع بعضها بعض ًا لتصنع منَّا ما نحن عليه؛ الذي يمكن أن جيعلنا ُّ‬
‫كل يشء‪ ،‬ويف هذا العنرص وحده يمكن أن نعلن‬ ‫الديمقراط َّية التي هي دوكسا عرصنا ودوغام سلوكنا‪ ،‬ونعاندها بتمثل رؤى خمالفة هلا يف ّ‬
‫أن وظيفة الفكر وغايته األوىل‪ ،‬عند أفالطون‪ ،‬كام عندنا نحن اليوم‪ ،‬ظ َّلت هي‬ ‫أنَّنا أفالطونيون دونام حرج‪ ،‬وأن نتفق معه دون حتفظ‪ ،‬إذ َّ‬
‫نفسها‪ :‬معاندة الدوكسا ومكافحة الدوغام‪.‬‬

‫‪  21‬ـ قض َّية النساء والعبيد وموقعهام يف املدينة أثارت نقاشاً كبريا ً بني املختصني يف فكر أفالطون‪ ،‬فبقدر ما نجده أحياناً يق ُّر بالعبوديَّة ودون َّية النساء ويزكيها‪ ،‬بقدر ما‬
‫نجده يف نصوص أخرى يق ُّر بأنَّه ال مانع من ترقي بعضهم م َّمن حقق رشوطاً من وضعه‪ ،‬بل هو أحياناً ينتقد الرغبة يف امتالك العبيد (انظر يف املنت مثالً‪ ،‬الجمهوريَّة‪،‬‬
‫الكتاب التاسع ‪ )578 - 579‬وانظر يف الدراسات مقال‪:‬‬
‫‪«La République de Platon et la communauté des femmes» Suzanne Said, L›antiquité classique, Bruxelles, 1986, Volume 55 Numéro 1 pp.‬‬
‫‪142 -162.‬‬

‫‪103‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫من العدالة اعترافًا إلى العدالة تقديرًا ّ‬


‫للذات‬
‫رولز والمآخذ الهيغيل َّية‬

‫حممد هاشمي*‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫ّ‬
‫تداول يف أدبيات الفلسفة االجتامع َّية‪ ،‬عىل األقل منذ كتابات أكسيل هونث (‪)Axel Honneth‬‬ ‫إذا كان مفهوم االعرتاف‪ ،‬كام هو ُم َ‬
‫عب عن حماولة إعادة تأهيل للفلسفة اهليغيل َّية‪ ،‬ورصد إمكانياهتا النظر َّية ملواجهة حتدِّ يات الوجود البيني‬ ‫وتشارلز تايلور(‪ُ ، )T.Taylor‬ي ِّ‬
‫ترصفت التيارات‬ ‫للذاتية اإلنسانية‪ ،‬دون االضطرار إىل التخيل عن هذا املفهوم من حيث هو إرث مثخن بالتناقضات األنوار َّية‪ ،‬كام َّ‬
‫أقل تقدير لكوهنا حماولة الستعادة النفس‬ ‫التصور‪ ،‬عىل ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫تظل يف منأى عن مثل هذا‬‫أن فلسفة جون رولز ُّ‬ ‫الفكر َّية ما بعد احلداث َّية‪ ،‬فيبدو َّ‬
‫التوجهات املرتكزة عىل اللحظة اهليغل َّية‪.‬‬ ‫الكانطي يف إطار إحياء التقليد التعاقدي‪ ،‬وهو األمر الذي جيعلها مرجعي ًا يف حالة ٍ‬
‫تناف مع ك ُِّل‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫ِّ‬
‫لكن هناك ما هو أدعى ملثل هذا التباين واالختالف النظريني‪ ،‬ويتمثل يف نزعة كون َّية حمايثة لكُل العدَّ ة التسويغ َّية واالستدالل َّية للطرح‬
‫أن هذه‬ ‫الرولزي‪ ،‬وذلك جري ًا عىل الطبيعة الدينتلوج َّية لنظريته التي تعمد إىل اختبار ك ُِّل قضاياها انطالق ًا من مبادئ عا َّمة وكون َّية‪ ،‬واحلال َّ‬
‫التوجهات ما بعد االشرتاك َّية‪.‬‬‫ُّ‬ ‫ال لدى فالسفة االعرتاف‪ ،‬سواء يف إطار املدرسة النقد َّية أو اجلامعت َّية أو‬ ‫الكون َّية الال َّمة هي ما يطرح مشك ً‬
‫ما نود أن نشري إليه يف هذا املقال هو خصوص َّية تعاطي جون رولز مع مطلب االعرتاف‪ ،‬لكن من خالل مفاهيم خمتلفة ّ‬
‫وأقل حدَّ ة‪ ،‬مقارنة‬
‫الذات‪ .‬وهو ما يميز يف الواقع بني احلساسية الديمقراط َّية الرصاعية‬ ‫التوجهات السابقة الذكر‪ ،‬وعىل اخلصوص تعلق ًا بمفهوم تقدير ّ‬ ‫ُّ‬ ‫مع‬
‫وبني احلساسية الديقراط َّية الوفاقية‪.‬‬

‫ـ االعتراف واحتدام اللحظة الهيغل َّية‬


‫هناك نزعة رصاع َّية واضحة يف فلسفة االعرتاف جتعل املطالب االجتامع َّية ترتسم عىل شاكلة مقاومة‪ ،‬واستعادة‪ ،‬وانتزاع‪ ،‬إذ يبدو‬
‫الطرف الذي يعاين من اإلحساس بالظلم أو اإلذالل‪ ،‬حسب عبارة هونيث‪ ،‬منخرط ًا يف رصاع عنيف‪ ،‬يستعيد يف شدَّ ته صورة جدل َّية‬
‫فإن ا ُملبتغى العام‬ ‫كل يشء‪ .‬وهكذا َّ‬ ‫أن مثار الرصاع احلديث هو الوجود االجتامعي قبل ِّ‬ ‫السيد والعبد اهليغل َّية‪ ،‬مع اختالف طفيف مفاده َّ‬
‫يتجل يف مقاومة و«حماربة» منازع اإلقصاء داخل دواليب احلياة االجتامع َّية والسياس َّية واالقتصاد َّية والسيكولوج َّية‬ ‫َّ‬ ‫ملطلب االعرتاف‬
‫للوجود املدين لإلنسان؛ َّإنا بحث عن االمتالء اجلوهري للوجود ال عىل املستوى األنطلوجي‪ ،‬كام هو احلال يف الفلسفة اهليغل َّية‪ ،‬وإنَّام‬
‫املجردة لدى هيغل هي تلك التي تعزل عن السياق اجلديل لتطور الروح‪ ،‬ممَّا‬ ‫َّ‬ ‫عىل املستوى األنثروبولوجي حتديد ًا؛ فإذا كانت اللحظة‬
‫فإن الفرد‬‫جيعلها حلظة فارغة يف انتظار تش ُّبعها بامللموسية الواقعية‪ ،‬حينام تدخل مع اللحظات األخرى يف عالقة نفي ورفع واحتفاظ‪َّ ،‬‬
‫وتالش‪ ،‬حينام تستبعد من التداخل االجتامعي احلي‪ ،‬ويطوح هبا من خالل‬ ‫ٍ‬ ‫أو اجلامعة أيض ًا تصاب عىل املستوى األنثروبولوجي بضمور‬
‫و«م َّرد»‪ ،‬فإذا كانت اللحظة األوىل تعاين من خواء أنطولوجي‪ ،‬فالثانية تعيش موات ًا أنثروبولوجي ًا‬ ‫اإلوال َّيات اإلقصائية نحو موقع معزول ُ‬
‫ربرة برضورة إعامل قانون النفي داخل املسار اجلديل‬ ‫فإن قسوة الرصاع امل ّ‬‫يأخذ أشكال إذالل وقهر خمتلفة داخل املجال املدين‪ .‬من هنا َّ‬
‫للوجود‪ ،‬هي ما جيعل مطلب االعرتاف مواجهة مصريية بني الفرد أو األقل َّية املقصية وبني املجتمع املهيمن‪ .‬ليست الغاية منها التدمري‬
‫مكونات اجلامعة يف إطار وفاق عام‪.‬‬ ‫لكل ِّ‬ ‫املتبادل وال اإلخضاع ذا البعد الواحد‪ ،‬وإنَّام اإلدماج العام ِّ‬

‫* أكادميي من املغرب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪104‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫من العدالة اعرتاف ًا إىل العدالة تقدير ًا ّ‬
‫للذات ‪ ...‬رولز واملآخذ اهليغيل َّية‬

‫هناك نزعة رصاع َّية واضحة يف فلسفة‬ ‫أن هيغل َّية هذا الطرح ذات طبيعة إجرائية‬ ‫ومن الواضح َّ‬
‫االعرتاف جتعل املطالب االجتامع َّية ترتسم‬ ‫ووظيفية‪ ،‬وليست مذهبية باملعنى الدقيق للكلمة‪ ،‬عىل أساس‬
‫أن العوامل املوجهة للحظات اجلدل عند هيغل هي ترتيب‬ ‫َّ‬
‫عىل شاكلة مقاومة‪ ،‬واستعادة‪ ،‬وانتزاع‪،‬‬
‫ملسار بحث الروح عن اكتامله‪ ،‬وجتاوز متزقاته األصيلة‪ ،‬بغض‬
‫إذ يبدو الطرف الذي يعاين من اإلحساس‬ ‫النظر عن املساعي الفرد َّية ومشاريع احلياة الشخص َّية‪ ،‬إذ حتى‬
‫بالظلم أو اإلذالل‪ ،‬حسب عبارة هونيث‪،‬‬ ‫حينام يصادف أن جتد مثل هذه التطلعات األخرية ما يناسبها يف‬
‫منخرط ًا يف رصاع عنيف‪ ،‬يستعيد يف شدَّ ته‬ ‫فإن ذلك ال يعدو أن يكون مكر ًا للعقل‪ ،‬ال واجب ًا‬
‫حركة التاريخ‪َّ ،‬‬
‫جتاه الفرد‪ .‬ولذلك فاستعامل الفلسفة اهليغل َّية من طرف فالسفة‬
‫صورة جدل َّية السيد والعبد اهليغل َّية‬
‫االعرتاف‪ ،‬خصوص ًا لدى تشارلز تايلور وأليكس هونيث‪ ،‬هو‬
‫استعامل مصاحب بعمليات هتذيب وتشذيب مبالغ فيها؛ َّ‬
‫ألن‬
‫فكرة املطالب ذاهتا من حيث هي صياغة وجتسيد ملا يريده الفرد ُيعدُّ مسألة غريبة عىل فلسفة تعترب َّ‬
‫كل حارض التجيل األكثر معقولية‬
‫للروح داخل مساره اخلاص يف البناء‪.‬‬

‫السمك اجلوهري‪ ،‬فهو ال يتجاوز أن يكون حزمة أعراض الحقة‬ ‫َّ‬


‫إن الفرد حسب هذه الفلسفة يفتقد إذا ما نظر إليه يف ذاته إىل ُ‬
‫وسطحية عىل الطبيعة املوضوعية للمؤسسات االجتامعية والسياسية‪ ،‬ومن هنا فإنَّه ال يتوفر عىل رشط احلر َّية التي ال تتحقق إال‬
‫املؤسسايت للروح‪ ،‬والتوافق معه ودوزنة حريته عىل‬ ‫يف إطار ما هو جوهري‪ .‬لذلك ال يتبقى أمام الفرد سوى التصالح مع ال ُبعد َّ‬
‫ألن ذلك وحده ما سيسمح له بأن جيد له مغرس ًا ومرتكز ًا يف عامل احلر َّية؛ هبذا يصبح الفرد هو املدعو لالستجابة إىل مطالب‬ ‫إيقاعه‪َّ ،‬‬
‫إن األخالق َّية‬‫املجتمع‪ ،‬وليس هذا األخري ما ينبغي أن يلزم نفسه بإحداث تغيري لكي يتناسب مع ميوالت وخصوص َّية األفراد‪َّ .‬‬
‫املوضوع َّية(‪ )sittlichkeit‬تبدو غري معنية بفكرة التداول حول ما جيب فعله‪ ،‬مثلام هو احلال يف الفلسفة الكانط َّية مثالً‪ ،‬بل َّإنا تُركِّز‬
‫عىل املنحى االستداليل الذي يسمح للفرد بأن يتصالح مع عادات وتقاليد املجتمع بمؤسساته املختلفة الذي يتوفر فعلي ًا عىل وجود‬
‫جوهري‪.‬‬

‫ال تنمو احلر َّية هبذا املعنى يف مشاريع احلياة الشخصية عرب تسطري الئحة مطالب إزاء اجلامعة‪ ،‬بل هي ال تتحقق إال حينام تصهرنا‬
‫هذه اجلامعة طوع ًا يف اقتصادها العام الذي تتحكم فيه حلظات التاريخ املفصلية‪ ،‬التي حتكي احلركة النامئية للروح وهو يستعيد نفسه‬
‫احلرة التي بمقدورها أن تتظلم أو تطالب داخل هذه الفلسفة متالشية يف‬ ‫ال وممتلئ ًا عىل صورة مطلق متحقق‪ .‬لذلك ترتسم اإلرادة َّ‬ ‫مكتم ً‬
‫سوغ االختالف والتعدُّ د‬ ‫احلرة أن تريده‪ ،‬ولذلك من الصعب أن نجد يف اهليغل َّية ما ُي ِّ‬ ‫نظام احلر َّية العام‪َّ ،‬إنا ال تريد إال ما يليق باإلرادة َّ‬
‫ثمة فهي موسومة‬ ‫املتجذرة يف فكرة احلق‪ ،‬ومن َّ‬ ‫ّ‬ ‫الثقايف بالدرجة التي يعتقدها البعض‪َّ .‬‬
‫ألن احلر َّية ال جتد تعبريها النهائي إال يف القوانني‬
‫تتحول رغبات وميوالت األنا إىل ُم َّرد عالئق طبيعية غريبة عن الذاتية اإلنسانية‬ ‫َّ‬ ‫منذ املنطلق بمالمح املؤسسات اجلامع َّية‪ .‬هلذا السبب‬
‫من حيث هي شخص أخالقي وقانوين؛ بل يمكن القول إنَّنا ال نصل إىل مستوى الشخص إال حينام نحقق وعي ًا بعرضية رغباتنا وعدم‬
‫املتجسدة يف االجتامعي والسيايس‪ ،‬إال حينام‬ ‫ِّ‬ ‫مركزيتها بالنسبة إىل فكرة القانون نفسها‪ .‬ال يصل اإلنسان إىل التصالح مع مملكة احلر َّية‬
‫أن الكانط َّية ت ُعدُّ البعد االجتامعي‬ ‫يتحلل من خلفيته السيكولوج َّية باعتباره ذات رغبة وميل‪ .‬وهنا يبدو الصدى الكانطي واضح ًا‪ ،‬لوال َّ‬
‫اخلية التي متثل قوام الذات األخالقية وهي حتدد اإلراة بالعقل‪ ،‬الذي يأخذ صورة‬ ‫ال مشوش ًا عىل متحض اإلرادة ّ‬ ‫واألمربيقي عام ً‬
‫عقل عميل يف هذا املستوى‪ ،‬بينام متثل املضامني التارخي َّية وانغراس احلر َّية يف الرشط االجتامعي رضورة لتحقق احلر َّية واألخالق َّية داخل‬
‫أن فكرة احلق بأكملها تعود ملطلب واحد «كن شخص ًا‪ ،‬واحرتم كون الناس أشخاص ًا»‪ ،‬فهو يقرتب‬ ‫اهليغل َّية‪ .‬وهكذا عندما يعترب هيغل َّ‬
‫للمكون الطبيعي الفرداين‪ ،‬ويبتعد عنه يف الوقت نفسه عرب فتح مفهوم الشخص عىل االمتدادات التارخي َّية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من الطرح الكانطي باستبعاده‬
‫اجتامع َّية كانت أو سياس َّية‪.‬‬

‫‪105‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد هاشمي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫هذا البعد امللموس للحر َّية هو ما سيقتيض يف فلسفة هيغل حسب رولز ختارج ًا بني الذات ونفسها‪ ،‬يتجىل يف فعل ا ُمللك َّية الذي يتحقق‬
‫بصدد خريات موضوعية تتشكل من األشياء املفتقدة للحر َّية وللشخص َّية‪ .‬لكن يف هذا املستوى أيض ًا ال دور للرغبات اخلاصة يف تربير‬
‫ألن متلك اليشء يقتيض من الفرد اإلنساين أن يتوفر عىل ما يتجاوز الدرك الشيئي لألشياء‪ ،‬املرشوط بام هو طبيعي‪،‬‬ ‫فعل التملك واحليازة‪َّ ،‬‬
‫نحو درجة أعىل من الوجود تتجىل يف البعد األخالقي واالجتامعي الذي يتحقق يف أفق اإلنسان الشخص وليس فقط اإلنسان الفرد؛‬
‫ثمة فهو يفتقد لرشط التميز عن اليشء‪ ،‬الذي وحده‬ ‫احلال َّ‬
‫أن هذا األخري يفتقد احلر َّية باعتباره كائن رغبات خاضعة لنظام الطبيعة‪ ،‬ومن َّ‬
‫يؤهله لكي يكون كفؤ ًا حلق التملك‪ ،‬األمر الذي ال يتوافر إال حينام ننظر إىل العالقة من منظور الشخص‪ ،‬لكن هذا بدوره جيعلنا نرجع‬
‫هذه العالقة إىل البعد االجتامعي الذي يمثل التجسيد امللموس للحر َّية الشخصية‪ ،‬وهو ما حييل عالقة التملك املركزية يف تشكيل البعد‬
‫االجتامعي للعدالة‪ ،‬عالقة تقوم باألحرى بني األشخاص يف إطار بينذاتية ال تبدو معها األشياء سوى وسائل عرضية‪ ،‬أو فرص ًا للشخص‬
‫يامرس من خالهلا حتقيق ذاتيته املختلفة املتميزة عن واجهته الطبيعية‪ ،‬وهلذا السبب فال مكان داخل فلسفة هيغل ملقاربة مطلب العدالة‬
‫ُسوغ‬ ‫ألن إشباع الرغبات ال ُيعترب أمر ًا مركزي ًا يف عالقة امللك َّية اخلاصة؛ َّ‬
‫إن الغاية الوحيدة التي ت ِّ‬ ‫حسب منطق السعادة أو متعة احلياة‪َّ ،‬‬
‫ملكية اجلسد ذاته وحيازة األشياء هي جتسيد احلر َّية املوضوع َّية‪ ،‬وهلذا من الصعب استعامل الفلسفة اهليغل َّية لتسويغ مطالب باستدماج‬
‫كل وجود حسب هيغل يمكنه أن يبلغ رتبة تؤهله لتحقيق فعل التملك منظور ًا إليه‬ ‫ك ُِّل امليوالت واحلساسيات بمنطق االعرتاف‪ .‬فليس ُّ‬
‫كتجاوز للبعد الشيئي للوجود‪ ،‬للتعبري عن احلر َّية امللموسة والفعلية واملتحققة‪.‬‬

‫لذلك فتمظهرات الوجود امللموس للشخص‪ ،‬املتمثلة يف األرسة واملجتمع املدين والدولة‪ ،‬تشكل مراقي مرتاتبة للوجود اإلنساين‪،‬‬
‫يتحرر الشخص اإلنساين شيئ ًا فشيئ ًا من حلظات‬‫تعوض بعضها بعض ًا‪ ،‬بل تستلزم رضورة الدخول يف حركة سلب ونفي‪ ،‬بحيث َّ‬ ‫َّإنا ال ِّ‬
‫التحرر والتصالح مع مظاهر الروح املوضوعي‪ .‬لذلك من املهم أن نستحرض هذا الطابع الرتاتبي أثناء حديثنا‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫أقل رق َّي ًا يف سلم صريورة‬
‫ألن األمر ال يتعلق بوضعيات حمايدة يمكن للذات أن تنمي داخلها‬ ‫عن املجاالت البينذاتية لالعرتاف‪« :‬احلب والقانون والتضامن»‪َّ ،1‬‬
‫قيمة االحرتام والكرامة الشخص َّية‪ ،‬كام قد يبدو يف بعض القراءات‪ ،‬بل علينا باألحرى أن ننظر إىل قصور الشخص عن جتاوز مستوى‬
‫االعرتاف داخل السياق العائيل‪ ،‬إىل املستوى احلقوقي السلبي‪ ،‬ثم إىل املستوى احلقوقي اإلجيايب املتمثل يف تثمني الشغل‪ ،‬من حيث هو‬
‫التحرر واملصاحلة‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫تعبري ومسامهة يف حتقيق ال ُبعد امللموس للحر َّية‪ ،‬باعتباره قصور ًا ُي ِّسد فشل مرشوع‬

‫أي‬ ‫إن التخلص من االحتجاب االجتامعي‪ ،‬أو ما يدعوه هونيث بالوضعية الالمرئية للوجود اإلنساين‪ ،‬ال ينتفي من خالل ِّ‬ ‫لنقل َّ‬
‫فإن ما يمكن أن ندعوه باحلقوق الفردية املتعلقة بحميم َّية خاصة بني األفراد‪ ،‬يف‬ ‫ال َّ‬
‫اعرتاف كيفام كان نوعه‪ ،‬فحسب املنطق اهليغيل مث ً‬
‫جماالت ليس هلا امتداد يف املجال العمومي‪ ،‬عىل غرار االختالف اجلنيس‪ ،‬واخلصوصية اجلندرية‪ ،‬أو اإلشكاالت النسوانية يف جوانب‬
‫يتفرع حسب هيغل إىل دركات يعلو‬ ‫متعددة منها‪ ،‬ال تتجاوز ُبعد ًا أول َّي ًا بسيط ًا يف مسار التحقق امللموس‪ ،‬بل َّ‬
‫إن املجتمع املدين نفسه َّ‬
‫يتم تداول اخلريات‬ ‫بعضها بعض ًا‪ :‬فهناك منطلق يتجىل يف نسق احلاجيات(‪ )Bedurnfnisse‬وهو ما يقابل املستوى االقتصادي‪ ،‬حيث ُّ‬
‫املاد َّية كإشباعات‪ ،‬وحيث تتشكل اهلو َّيات عىل مثل هذا األساس الضيق من التعاطي املبارش مع األشياء‪ ،‬اهلو َّيات العائل َّية‪ ،‬واهلو َّيات‬
‫املهن َّية‪ ،‬لكن رسعان ما سيتشكل املستوى الثاين املتعلق بتدبري العدل (‪ ،)Retchsflege‬حيث يتجاوز الناس أفق احلاجة الضيق‪ ،‬واخلريات‬
‫املادية‪ ،‬نحو وضعية حقوقية وأمنية‪ ،‬مستقلة عن موضعهم يف سوق التبادالت‪ ،‬وتتأطر بالقوانني يف ُبعدها الكوين‪ ،‬حيث تتحدَّ د قيمة‬
‫اإلنسان «من حيث هو إنسان‪ ،‬ال بسبب أنَّه هيودي‪ ،‬أو كاثوليكي‪ ،‬أو بروتستانتي أو أملاين أو إيطايل»‪ ،2‬وهنا يصبح االعرتاف متعلق ًا‬
‫جمرد التنافس االقتصادي‪ ،‬ممَّا‬ ‫سوغات كونية عوض أن يتحدَّ د بام هو حميل‪ ،‬لذلك فانشغاالت األشخاص ستصبح أبعد وأرقى من َّ‬ ‫بم ِّ‬
‫ُ‬
‫ً‬
‫سيفتح أمامها أفقا أكرب‪ ،‬يتمثل يف البعد التعاوين واملدين (‪ )Korporation‬الذي يمثل من خالل تدبريه للتفاوتات العرضية‪ ،‬طريقا إىل‬ ‫ً‬

‫‪  1‬ـ أقصد هنا ما ركز عليه هونث‪ ،‬وإن كانت القامئة قابلة ألن تطول أكرث إذا استحرضنا موقف الجامعتيني والجندريني وغريهم‪.‬‬
‫‪2 . HEGEL, Principes de la philosophie du droit, tra, André Kaan, et préfacé par jean hyppolite,nrf, gallimard, p.236.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪106‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫من العدالة اعرتاف ًا إىل العدالة تقدير ًا ّ‬
‫للذات ‪ ...‬رولز واملآخذ اهليغيل َّية‬

‫تشكل هو َّية أكثر جوهر َّية وكون َّية‪ ،‬إنَّه انتشال للحضور اإلنساين من املبارشية املبتذلة لكائن احلاجة‪ ،‬ومن التطلعات الضيقة للربجوازي‪،‬‬
‫وحتضريه ملستوى املواطنة الذي يؤهله ليكون عضو ًا فعلي ًا يف الدولة‪ ،‬وليس جمرد زائدة تعيش خارج غاية ومرامي مؤسسات الدولة‪،‬‬
‫مشكلة جمموع العوام( ‪ )Pobel‬التي نظر ًا لعدم تصاحلها مع هذا ال ُبعد املؤسيس للحر َّية تعيش ممتلئة باحلقد عىل الدولة‪ ،‬مفتقدة بذلك َّ‬
‫كل‬
‫امللكات األخالق َّية واملعرف َّية التي تسمح هلا بتجاوز أفقها الوجودي الض ِّيق‪.‬‬

‫كل حلظات احلياة البينية سواء تلك اخلاضعة للروابط الطبيعية للحب والقرابة‪ ،‬أو املتعلقة بالبعد القانوين للواجبات‬ ‫أن َّ‬
‫ومن اجليل َّ‬
‫واحلقوق‪ ،‬أو املرتبطة باجلانب التعاوين واملدين‪ ،‬تنتظم يف صريورة العقل املتخفي وراء ُح ُجب التاريخ‪ ،‬ألجل توفري الرشوط الوجودية‬
‫جمرد توهيم مضاعف‪ ،‬إذ‬ ‫فكل اعرتاف يغفل هذا املعطى ُيعترب َّ‬ ‫الكتامل كيان الدولة‪ ،‬الذي يتجاوز انتظارات الفرد ومطالبه‪ .‬من هنا ُّ‬
‫باإلضافة للظالل التي يسقطها مكر التاريخ عىل تشكل تداخل اخلطاطات الفردية مع تلك املتعلقة بغاية التاريخ‪ ،‬يساهم املكر اإلنساين‬
‫وتومهاته يف مزيد من االبتعاد عن مطلب احلقيقة والواقع‪ ،‬بجعلنا نعتقد يف اعرتافات تأيت ملجرد حتقيق تطلعاتنا الشخصية أو الفئوية‪ ،‬كام‬
‫أن الزواج‬ ‫ال حينام نخلق استحالة بنيوية يف مؤسسة الزواج واألرسة‪ ،‬ألجل احرتام خصوص َّية رغبة فئة من املجتمع‪ ،‬تعتقد َّ‬ ‫قد حيدث مث ً‬
‫مسألة ذوق‪ ،‬عوض التفطن إىل أنَّه هو قبل ك ُِّل يشء وحدة بناء أول َّية لكيان الدولة العام‪ ،‬الذي ال يويل أمه َّية قصوى للميوالت املثل َّية أو‬
‫العشق َّية‪.‬‬

‫جمرد كتل ذات‬


‫تظل بالنسبة إىل هيغل َّ‬ ‫كل الفئات التي ال ترقى إىل التصالح مع مؤسسات الدولة واالنخراط يف مراميها وغاياهتا‪ُّ ،‬‬ ‫إن َّ‬
‫َّ‬
‫حجم وثقل خامني‪ ،‬لكنَّها تفتقد إىل مستوى الوعي الذي يؤهلها ألن تبلغ مستوى املواطنة‪ .‬فإ َّما أن نعرتف بالدولة أو نستبعد إىل هامشها‬
‫ألن احلر َّية الفعلية توجد يف إرادة الدولة وليس يف رغبات األفراد‪ ،‬هذا ما جيعل هيغل حسب رولز ممث ً‬
‫ال‬ ‫لكي نصبح مادة أول َّية ملشاريعها‪َّ ،‬‬
‫ملا يدعوه بليربال َّية احلر َّية‪ ،‬إذ تصبح ك ُُّل العالقات املمكنة بني الناس‪ ،‬سواء االقتصاد َّية أو االجتامع َّية أو الثقاف َّية‪ ،‬تدور يف املنتهى حول‬
‫احلرة الفعلية‪ ،‬من حيث هي كيان موضوعي مؤسسايت‪.‬‬ ‫فلك ترسيخ اإلرادة َّ‬

‫احلرة‪،‬‬
‫ال يف فلسفة هيغل لدى رولز‪ ،‬هو بالضبط اضمحالل العامل الفردي يف اخلطاطة العامة لتشكُّل وحتقق اإلرادة َّ‬ ‫ما يطرح مشك ً‬
‫إذ تبدو هذه األخرية سابقة عن تطلعات الفرد‪ ،‬ومتعالية عىل بعده اخلصويص‪َّ ،‬إنا أوالً إرادة لنظام من املؤسسات السياس َّية واالجتامع َّية‬
‫التي تسمح بتحقق حريتها‪ ،‬وهنا «ينبغي فهم املؤسسات من حيث هي أشكال حياة معيشة من طرف الكائنات البرش َّية»‪ ،3‬ثاني ًا هي إرادة‬
‫حرة أخضعت لرتبية جتعلها تستوعب حريتها من خالل سامت عمومية لنظام املؤسسات ذاته‪،‬‬ ‫ثم هي ثالث ًا إرادة َّ‬
‫لغايات هذه املؤسسات‪َّ ،‬‬
‫أي حيز مستقل يسمح‬ ‫احلرة‪ .‬يتضمن ما سبق َّ‬
‫أن اإلرادة الفردية ال متلك َّ‬ ‫إن هذه السامت العمومية ذاهتا تصبح تعبري ًا عن اإلرادة َّ‬ ‫وأخري ًا َّ‬
‫احلرة املوضوعية‪ ،‬وهذا يفيد غياب رشط الند َّية الرضوري يف حتقق فعل االعرتاف‪.‬‬ ‫هلا بالوقوف وجه ًا لوجه أمام اإلرادة َّ‬

‫تصور الفرد مصدر ًا لنظام الواجبات‬ ‫اللفردي جيعل فلسفة هيغل تستبعد التقليد التعاقدي يف بناء الدولة‪َّ ،‬‬
‫ألن ذلك يقتيض ُّ‬ ‫هذا الطابع َّ‬
‫أن هذه األخرية هي مصدر ك ُِّل حمددات الفرد نفسه‪َّ ،‬إنا كيان موضوعي عام‪ ،‬يتشكَّل من شبكة من القوانني‬ ‫ولغايات الدولة‪ ،‬واحلال َّ‬
‫عم يتجاوز اإلنسان‪ .‬ويتجىل هذا الطابع املضاد للفرد يف صورة ا َمللك ذاته‪ ،‬الذي رغم أنَّه يمثل نظام ًا ملكي ًا ال يعاين من اعتباطية‬ ‫املعبة َّ‬
‫ِّ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫التداول السيايس الذي تعاين منه باقي األنظمة األخرى‪ ،‬غري أن هذه امللكية الدستورية جتعل إرادة امللك من حيث هو فرد حمد َّدة ومس َّيجة‬
‫«إن القسم املوضوعي يعود إىل القانون وحده‪ - ،‬يقول هيغل‪ -‬ويكمن دور امللك فقط يف إضافة «أنا‬ ‫وموجهة بنسق القوانني العام‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫أريد» الذاتية»‪ ،‬لذلك فإن فردانية امللك تبدو بالرضورة غارقة يف كون َّية القانون‪ ،‬مثلام هو حال السلطة التنفيذ َّية‪ ،‬التي إنَّام حتقق الكوين‬
‫يف اجلزئي من خالل تدبري التفاصيل اليوم َّية‪ ،‬أو السلطة الترشيع َّية التي تؤسس لقوانينها من خالل مبادئ كون َّية‪ ،‬وعىل يد ممثلني فئويني‬

‫‪3 . John, Rawls, Lectures On History Of Moral Philosophiy, Harvard University Press, 2000, p.352.‬‬

‫‪107‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد هاشمي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫لطبقات املجتمع أو حلاالته االجتامعية األساسية (‪ ،)Stande‬وهم ثالث‪ :‬األرستقراطية الوراثية‪ ،‬وا ُملالًّك‪ ،‬والطبقة العا َّمة للموظفني‪ ،‬ممَّا‬
‫أن اجلانب األكرب من كتلة املجتمع ال مكان له حسب منطق الدولة اهليغل َّية يف مراكز القرار والسلطة‪ ،‬بام يتضمن ذلك من فالحني‬ ‫يعني َّ‬
‫كل هذه املكونات االجتامعية يف ال مرئية عميقة حسب عبارة هونث‪ ،‬الذي سيسعى ألن يستصلح‬ ‫وعمل ونساء وغريهم‪ .‬وهكذا تغرق ُّ‬ ‫َّ‬
‫الفلسفة اهليغل َّية كي جيعلها من ضمن مرتكزاته النظرية يف التأسيس لفلسفة االعرتاف‪ ،‬وهو ما يقتيض جهد ًا كبري ًا‪ ،‬وطمس ًا رضوري ًا‬
‫لبعض اخلصوصيات املذهب َّية هلذه الفلسفة‪ ،‬التي ال يبدو َّأنا تويل اهتامم ًا كبري ًا بام ينفلت عن سطوة الدولة القصوى‪.‬‬

‫‪ -‬جون رولز وتجاوز المآخذ الهيغل َّية حول الليبرال َّية‬


‫ُؤسس أطروحاهتا انطالق ًا من أنا مفصول‬ ‫كثري ًا ما اعتمد هيغل كخلفية فلسفية صلبة ألجل نقد الفردان َّية الليربال َّية‪ ،‬التي بدت َّأنا ت ِّ‬
‫التوجهات القومان َّية أو اجلامعت َّية تنظر إىل املنطق اهليغيل‬
‫ُّ‬ ‫ولعل هذا ما جعل أغلب‬ ‫املتجذرة يف تاريخ اجلامعة‪َّ .‬‬
‫ِّ‬ ‫ثقافي ًا عن انتامءاته املوضوعية‬
‫العام‪ ،‬خصوص ًا بعد تلطيفه من خالل تأويالت قو َّية‪ ،‬عىل أنَّه منطق مضاد للنزعة الالتارخي َّية التي تتميز هبا الفلسفات الليربال َّية‪ .‬رغم‬
‫أن دفاع هيغل عن الكثري من الشعارات الليربال َّية املتصلة حتديد ًا باجلانب االقتصادي غري قابلة لإلغفال والطمس‪ .‬فهو حسب رولز‬ ‫َّ‬
‫كل فلسفته حماولة لبناء صورة للدولة ُت ِّسد قيمة احلر َّية بشكل كامل داخل الواقع‬ ‫إن َّ‬
‫جزء من ليربال َّية احلر َّية عىل طريقته اخلاصة‪ ،‬حيث َّ‬
‫الفعيل‪ .‬لذلك فعالقة رولز هبذه الفلسفة تتخذ طابع دفع لسوء الفهم أكثر ممَّا تسعى إىل نقدها بشكل جذري‪ .‬فرغم َّ‬
‫أن اهليغل َّية شبه غائبة‬
‫إحالي ًا يف املتن الرولزي‪ ،‬فهي مع ذلك ليست فلسفة نقيضة باملعنى احلاد للكلمة‪ .‬وهذا ما جيعل صاحب نظرية العدالة من خالل حماولة‬
‫كل نقد يعتمد هذه الفلسفة هو استعامل هليغل َّية ِسء فهمها‪.‬‬ ‫أن َّ‬
‫رفعه اللتباسات موقف هيغل من الليربال َّية يعترب‪ ،‬ولو بشكل غري رصيح‪َّ ،‬‬

‫إن سريورة بناء العقد‬ ‫ومن ضمن املآخذ التي تستخلص من املقاربة اهليغل َّية للمجتمعات الليربال َّية القائمة عىل فكرة التعاقد‪ ،‬القول َّ‬
‫جتعل كيان املجتمع والدولة مرهتن ًا برغبات فردية تفتقد لِ ُل ْحمة عا َّمة تربط بينها‪ ،‬ما جيعل األفراد يشكلون جماميع ذر َّية غري قادرة عىل‬
‫إن املجتمع الليربايل هبذا املعنى يفتقد للوشيجة اجلامع َّية‪ ،‬وهو ما جيعل الفرد داخله يعاين من برت يف هو َّيته بشكل‬ ‫التعبري عن روح اجلامعة‪َّ .‬‬
‫كل فرد يتحدَّ د قبالة الدولة بشكل منفصل عن اجلامعة الثقافية أو العرقية التي ينتمي إليها‪ ،‬وهنا تصبح الليربال َّية سياسة‬ ‫مبدئي‪ ،‬ألَّن َّ‬
‫منهجية مبيتة لالمتناع عن االعرتاف باملكونات الروح َّية للفرد‪ .‬وقد كان هذا هو املأخذ اهليغيل عىل فلسفة هوبس وسوقية مطالب‬
‫كون ثقايف أو روحي‪ ،‬وهو ما جيعل الدولة القائمة عىل‬ ‫أي ُم ِّ‬ ‫متعاقدهيا‪ ،‬يف سعيهم إىل حفظ احلياة بداللتها الطبيع َّية‪ ،‬يف انفصال تام عن ِّ‬
‫مثل هذا األساس تفتقد للغاية العموم َّية املشرتكة‪.‬‬

‫كل التقليد الليربايل الذي يتجاوز يف أغلب حلظاته هذا التداول الض ِّيق حول املطالب التعاقد َّية؛‬‫لك َّن األمر ليس كذلك متام ًا بالنسبة إىل ِّ‬
‫ال تنظر إىل العقد االجتامعي من حيث هو أحد «أفكار العقل يتضمن غاية رضور َّية متمثلة يف إقامة وحدة سياس َّية‬ ‫فالفلسفة الكانط َّية مث ً‬
‫بني املتعاقدين»‪ .4‬وعىل هذا املنوال ال يصبح املجتمع الليربايل ذر َّي ًا عىل الشاكلة اهلوبس َّية‪ ،‬بل سيتقاسم اجلميع داخله غاية واحدة‪ ،‬هي‬
‫خيص اجلميع‪ ،‬وهبذا ينتفي الطابع املجاميعي عن املجتمع‬ ‫ضامن احلر َّيات واحلقوق الدستور َّية األساس َّية‪ ،‬من حيث هي مطلب عقيل ُّ‬
‫التصور الذي ملبدأ املنفعة كام هو حال طرح جريمي بنتام‪ ،‬وهو نفسه اختيار‬ ‫ُّ‬ ‫توجه ليربالية ميل‪ ،‬التي ستتجاوز‬ ‫الليربايل‪ .‬وذلك أيض ًا هو ُّ‬
‫نظرية العدالة التي ستخلق التحام ًا عا َّم ًا عرب مفاهيم خمتلفة بني مشاريع احلياة املختلفة‪.‬‬

‫ال واضح ًا‬


‫إن املبتغى العام ملثل هذه النظريات هو محاية احلر َّية وترسيخها بشكل أويل وسابق عن أ َّية قيمة أخرى‪ .‬وهذا ما يظهر متاث ً‬ ‫َّ‬
‫فكل ال ّليرباليات‪ ،‬بام يف ذلك‬
‫ولتصوره اخلاص للوجود املوضوعي هلا‪ُّ .‬‬
‫ُّ‬ ‫مع الطرح اهليغيل‪ ،‬الذي سيختلف فقط يف حتديده حلوامل احلر َّية‪،‬‬
‫ليرباليات السعادة ‪ -‬النزعة النفع َّية الكالسيك َّية ـ التي حتدُّ بقدر ما من احلر َّية باسم املنفعة‪ ،‬تسعى يف املنتهى إىل خلق تكافل عام ألجل‬

‫‪4 . Ibid، p.367.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪108‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫من العدالة اعرتاف ًا إىل العدالة تقدير ًا ّ‬
‫للذات ‪ ...‬رولز واملآخذ اهليغيل َّية‬

‫كل ال ّليرباليات تسعى إىل خلق تكافل عام‬ ‫ُّ‬ ‫خلق مناخ خيدم احلر َّيات األساس َّية‪ ،‬ولذلك فهي أبعد ما تكون‬
‫خيدم احلر َّيات األساس َّية‪ ،‬ولذلك فهي أبعد‬ ‫عن منازع اإلقصاء والعزل جتاه أعضاء جمتمعاهتا‪َّ .‬‬
‫إن االعرتاف‬
‫الضمني باحلر َّية قوام ًا هلو َّية املتعاقدين‪ ،‬يتناىف مع فكرة التضحية‬
‫ما تكون عن منازع اإلقصاء والعزل جتاه‬
‫بمكونات الشخص الثقاف َّية إذا كانت ال تعيق حت ُّقق الشخص يف‬
‫إن االعرتاف الضمني‬ ‫أعضاء جمتمعاهتا‪َّ .‬‬ ‫صورته املستقلة والعاقلة‪.‬‬
‫باحلر َّية قوام ًا هلو َّية املتعاقدين‪ ،‬يتناىف مع‬
‫فكرة التضحية بمكونات الشخص الثقاف َّية‬ ‫وهذا يدفع عن الليربال َّية أيض ًا مأخذ إغفال أمه َّية امتداد الفرد‬
‫ال ستجعل‬ ‫داخل العمق االجتامعي املؤسيس‪«،‬فنظر َّية العدالة» مث ً‬
‫إذا كانت ال تعيق حت ُّقق الشخص يف صورته‬
‫مركز مدار العدل يتعلق بالبنية األساس َّية للمجتمع‪ ،‬التي تستحرض‬
‫املستقلة والعاقلة‬ ‫بشكل عام َّ‬
‫كل املؤسسات املركز َّية يف احلياة الثقاف َّية لألفراد داخل‬
‫املجتمع‪ ،‬يف إطار بحثها عن مبادئ للعدالة قادرة عىل تأطري هذه‬
‫البنية عىل الوجه األنسب واألوجب للموافقة العا َّمة‪ .‬ولذلك فالشخص املتعاقد وهو جيري عملية اختياره األساس َّية يستحرض مقتضيات‬
‫عبة يف عموميتها عن‬ ‫هذه املؤسسات‪ ،‬دون أن حيرص نفسه يف سياج مذهبي أو عقائدي ضيق ومغلق‪ ،‬وذلك لكي تكون مبادئ العدالة ُم ِّ‬
‫«إن مفهو َمي الشخص واملجتمع ـ يؤكد رولز ـ متكامالن يستدعيان بعضهام بعض ًا‪ ،‬وال‬ ‫كل مكونات املجتمع دون استثناء أو تفاوت‪َّ .‬‬ ‫ِّ‬
‫يمكن ألحدمها أن يوجد معزوالً عن اآلخر» ‪.‬‬
‫‪5‬‬

‫إن تشكُّل القواسم املشرتكة بني مواطني األنظمة الديمقراط َّية الدستور َّية التي تقتيض منهم أن ينظروا لبعضهم بعض ًا عىل أساس‬ ‫َّ‬
‫ُعب عن‬‫املساواة واحلر َّية‪ ،‬يستدعي بالرضورة اللجوء إىل تربية إدماجية للمواطنني متتح ما َّدهتا من الثقافة السياس َّية العموم َّية‪ ،‬التي ت ِّ‬
‫فإن العالقة التواصل َّية والتداول َّية بني مكونات املجتمع ستصبح مستحيلة بدون هذه الثقافة‬ ‫املؤسسات األساس َّية للمجتمع‪ ،‬لذلك َّ‬
‫أن رغباتنا ومشاريع حياتنا تنتج عن تفاعل مستمر مع سياقنا االجتامعي الذي يعمل‬ ‫العموم َّية وتلك املؤسسات األساس َّية‪ .‬كام َّ‬
‫كل ليربال َّية تتصف‬ ‫نتجذر يف جمتمعنا‪ ،‬عىل النحو الذي تعرتف به ُّ‬ ‫َّ‬ ‫أي حد‬
‫عىل تربية غرائزنا ونزوعاتنا األول َّية‪« ،‬وهذا يثبت إىل ِّ‬
‫باملعقول َّية»‪.6‬‬

‫أن فكرة الفصل بني مفهوم اخلري لدى الفرد ومفهوم اخلري املوضوعي أو اجلامعي‪ ،‬ال تقتيض بالرضورة انفصاالً‬ ‫ما سبق يتضمن أيض ًا َّ‬
‫يتم حت ًام‬ ‫مطلق ًا‪ ،‬جيعلنا مطالبني باختيار أحدمها بدالً عن اآلخر‪ ،‬عىل اعتبار َّ‬
‫أن نجاح الفرد من حيث هو كائن يسعى إىل حتقيق ذاته‪ ،‬ال ُّ‬
‫ُعب عن ُمثل عا َّمة داخل املجتمعات الديمقراط َّية‪ ،‬بحيث ال تُشكِّل‬ ‫ضدَّ مقتضيات ومطالب املؤسسات االجتامع َّية‪ ،‬فهذه األخرية ت ِّ‬
‫حاجز ًا دون حتقيق الذات‪ ،‬بقدر ما ُت ِّسد اإلطار األكثر تناسب ًا مع مشاريع مواطنني أحرار وأنداد‪َّ .‬‬
‫إن طبيعة الفرد أو اجلامعة املندجمة‬
‫تصوره للخري احلياة‬
‫ملكوناته‪ ،‬جيعل ُّ‬
‫يف املرشوع االجتامعي العام الذي ارتسم من خالل تعاقد أويل حيرتم الطبيعة العقالن َّية واألخالق َّية ّ‬
‫املؤسيس للمجتمع الليربايل‪ ،‬وهكذا يصبح إرضاء املجتمع هو نفسه أحد مصادر إرضاء الفرد‪.‬‬ ‫الناجحة‪ ،‬منسج ًام مع املطلب ّ‬

‫أقل خطورة‬‫كل االنتقادات التي اعتمدته كمرجعية فلسفية هلا تصبح َّ‬ ‫فإن َّ‬
‫ثمة َّ‬‫هكذا لن يبدو هيغل غري ًام مطلق ًا لليربال َّية رولز‪ ،‬ومن َّ‬
‫لقوة االلتحام‬
‫أن املجتمعات الليربال َّية حسب رولز ال تعاين بالرضورة من التفكُّك بني مكوناهتا‪ ،‬وال تفتقد َّ‬ ‫ممَّا تبدو عليه يف الظاهر‪ ،‬إذ َّ‬
‫جمرد جتميع وظيفي ملؤسسات أدات َّية غايتها إشباع االنتظارات املبتذلة ملواطنيها‪َّ ،‬إنا أرقى وأبقى من ذلك بكثري‪.‬‬ ‫الداخل َّية‪ ،‬كام َّأنا ليست َّ‬

‫‪5 . Ibid، p.366.‬‬


‫‪6 . Ibid، p.370‬‬

‫‪109‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد هاشمي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫‪ -‬تقدير الذات كبديل عن مطلب االعتراف‬


‫الصمود‬ ‫ما ُيميز احلساس َّية النظر َّية جلون رولز يف مرشوعه الرامي إىل أعطاء الرتاث الليربايل التعاقدي خصوص ًا‪ ،‬نفس ًا جديد ًا قادر ًا عىل ُّ‬
‫أمام هيمنة التقليد النفعي من جهة‪ ،‬ونزوع الفلسفة التحليل َّية نحو تسفيه جهد التنظري الفلسفي يف السياسة من جهة أخرى‪ ،‬هو رهانه‬
‫الدائم عىل «وفاق اجتامعي» يتأتَّى له أعضاء املجتمع ومن يم ِّثلهم يف الفعل التعاقدي‪ ،‬دون الدخول يف منازعة ورصاع حول امتيازات‬
‫إن املامرسة السياس َّية العادلة‪ ،‬واملطالب االجتامع َّية املنصفة‪ ،‬ال تصدر عن طبائع‬ ‫خاصة يفيد منها البعض عىل حساب البعض اآلخر‪َّ .‬‬
‫الناس وهي تتدافع عىل أرض معركة بني س ِّيد وعبد‪ ،‬وبني غالب ومغلوب‪ ،‬بل هي توافق الطبائع العقالن َّية واملعقولة وهي تتفاوض عن‬
‫لكل أعضائه دون استثناء‪ ،‬من خالل بنيته األساس َّية‪،‬‬ ‫ُحسن ن َّية‪ ،‬حول التدبري املنصف للمجتمع من حيث هو مرشوع تعاوين‪ ،‬يسمح ِّ‬
‫كل ما يسمح هلم بتحقيق مشاريع حياهتم املعقولة التي ترسخ عرب الزمن‬ ‫ومؤسساته الدستور َّية والترشيع َّية والتوزيع َّية‪ ،‬أن يتوفروا عىل ِّ‬
‫أفضل ما فيهم‪.‬‬

‫يتحول مطلب االعرتاف‪ ،‬من حيث هو تعبري عن إحساس بظلم اجلامعة إزاء جزء منها‪ ،‬مطلب ًا غري ذي حمل‪ ،‬يف جمتمع يقوم‬ ‫َّ‬ ‫من هنا‬
‫كل مؤسسات الدولة تنطبع بروحهام اإلنصاف َّية‪ .‬وعىل املنوال الكانطي سوف يتجنَّب‬ ‫مهمتهام يف جعل ِّ‬
‫بأكمله عىل مبدأين للعدالة‪ ،‬تكمن َّ‬
‫ألن مسلك ًا كهذا‬
‫رولز تأسيس اختيار مبادئ التعاقد انطالق ًا من حساسيات ثقاف َّية مرجع َّية‪ ،‬تقدّ م كموجه لالستدالل وللمرشوع َّية‪َّ ،‬‬
‫ويتحول بذلك إىل ما يشبه األوامر املرشوطة‬
‫َّ‬ ‫تصور العدالة إنصاف ًا مرهتن ًا َّ‬
‫بقوة ثقافة بعينها يف ميزان القوى العام داخل املجتمع‪،‬‬ ‫سيجعل ُّ‬
‫يف الفلسفة الكانط َّية‪.‬‬

‫عوض ًا عن ذلك سيحاول رولز بناء نظر َّية دينتلوج َّية‪ ،‬تستخلص نتائج عادلة ومنصفة‪ ،‬انطالق ًا من مبادئ ُّ‬
‫يتم اختيارها يف إطار رشوط‬
‫عادلة حترتم الطبيعة العقالن َّية للمواطنني‪ .‬وسيكون املرمى العام هلذه املبادئ خلق مرجع َّية عموم َّية شاملة‪ ،‬يلزم اجلميع بناء استدالالته‬
‫املتعلقة باحلياة املدن َّية خصوص ًا انطالق ًا منها‪ .‬وعىل أساسها سترتتَّب البنية األساس َّية‪ ،‬لكي توفر ما يدعوه رولز «األسس االجتامع َّية‬
‫الحرتام الذات»‪.‬‬

‫إن ما يدعوه رولز باملجتمع املحكم التنظيم‪ ،‬يمثل معل ًام مثال َّي ًا مرجع َّي ًا ُيدِّ د بشكل دقيق معنى العدالة اخلالص‪ ،‬وهذا وحده يمكنه أن‬
‫َّ‬
‫كل حساسية ثقافية‪ُّ ،‬‬
‫وكل ميل رشطي بالداللة الكانط َّية‪ ،‬مصدر ًا للتحلل‬ ‫يوفر أساس ًا معقوالً للتظ ُّلم ولبناء املطالب‪ ،‬غري ذلك ستتحول ُّ‬
‫املؤسس لكيان الدولة ابتداء‪ ،‬وهذا خطر داهم عىل االستقرار العادل الذي ينبغي أن يتو َّفر يف املجتمعات‬ ‫من إلزامات العقد العام ِّ‬
‫املنصفة‪.‬‬

‫وإذا كان رولز يقوم بتحييد األبعاد التارخي َّية للمجتمع يف حلظة التداول حول العقد العام‪ ،‬فليس ذلك استخفاف ًا أو إقصاء‬
‫تصور العدالة انطالق ًا من‬
‫ُّ‬ ‫إن املبتغى األساس من ذلك هو جتنُّب بناء‬ ‫املكون أو ذاك‪ ،‬لصالح فئة عىل حساب أخرى‪ ،‬بل َّ‬ ‫ّ‬ ‫هلذا‬
‫إن هذا األخري هو ما يستدعي يف املجتمعات التعدد َّية مبدأ حتكيم َّي ًا‪ ،‬ممَّا يفيد رضورة التوافق‬
‫تصورات ُمتعدِّ دة للخري؛ إذ َّ‬
‫ُّ‬
‫تصور ثقايف للخري‪ .‬وهو ما يدعوه رولز بالطبيعة البنائ َّية( ‪)Constructivism‬‬ ‫ُّ‬ ‫أي‬
‫التعاقدي عىل مبادئ للعدالة مستقلة عن ِّ‬
‫لنظر َّية العدالة‪.‬‬

‫إن ما ُيعدُّ نقطة ضعف من وجهة نظر فالسفة االعرتاف‪ ،‬وال س َّيام اجلامعت ُّيون منهم‪ ،‬هو يف الواقع ٌّ‬
‫حل مبدع يف الطرح الرولزي‪ ،‬يعتمد‬ ‫َّ‬
‫عىل إعادة تأويل للفلسفة الكانط َّية خصوص ًا‪ ،‬ولفالسفة العقد عموم ًا‪ ،‬ضدَّ ًا عىل فلسفة هيغل الغارقة يف الرشط التارخيي‪ .‬فبدون وضع‬
‫مسافة واضحة بني التفكري اخلصويص القائم عىل مكونات ثقاف َّية‪ ،‬وبني التفكري العمومي املستقل عن مثل هذه املكونات‪ ،‬لن يكون هناك‬
‫من سبيل لبلوغ معقول َّية عا َّمة تسمح للمجتمع باالستقرار‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪110‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫من العدالة اعرتاف ًا إىل العدالة تقدير ًا ّ‬
‫للذات ‪ ...‬رولز واملآخذ اهليغيل َّية‬

‫يراهن رولز عىل عدالة أكثر هدوء ًا‪ ،‬تتجاوز‬ ‫إن ما ينبغي محايته وصونه داخل املجتمعات العادلة هو الطبيعة‬ ‫َّ‬
‫ينم عن انتصار‬‫مطلب االعرتاف الذي قد ُّ‬ ‫ألنا تُعدُّ النواة الصلبة التي عىل أساسها‬ ‫العقالن َّية ألعضائه‪َّ ،‬‬
‫ينبغي تشكل اهلو َّية االجتامع َّية والثقاف َّية‪ ،‬لكنَّنا إذا عكسنا األمر‪،‬‬
‫طرف عىل آخر‪ ،‬إىل مطلب اإلنصاف الذي‬
‫جمرد أداة وظيفية نفعية‪ ،‬تسعى إىل‬ ‫ستتحول إىل َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫فإن هذه الطبيعة‬
‫يتخىل عن مثل هذا التطلع‪ ،‬وجيعل تقدير‬ ‫حتقيق املصالح الفئو َّية؛ أي إىل عقل نظري غري قادر عىل تأطري‬
‫الذات جزء ًا من تقدير املبادئ التي تضمن‬ ‫ثمة‬
‫اخلية ـ الطبيعة التعاون َّية ـ لدى املواطنني‪ ،‬ومن َّ‬
‫اإلرادة ِّ‬
‫هذا اإلحساس للجميع‬ ‫قصورها عن بلوغ مستوى العقل العميل‪ .‬وهذا سيفقد املجتمع‬
‫مرجعيته األخالق َّية بدالهتا الكانط َّية‪ ،‬أي القابل َّية جلعل القواعد‬
‫العا َّمة للعقل قادرة عىل توجيه اختيارات اإلرادة باستقالل عن‬
‫املكونات العرض َّية‪ ،‬سواء أمربيق َّية سيكلوج َّية أو اجتامع َّية‪.‬‬
‫ِّ‬

‫هذا ما سيجعل فلسفة رولز تركِّز يف جزئها املثايل عىل قائمة من اخلريات االجتامع َّية األول َّية‪ ،‬تتقوم مبارشة بالقوام العقيل‪ ،‬بغض النظر‬
‫وتضم‬
‫ُّ‬ ‫أي ذات عاقلة تسعى إىل حتصيله‪ ،‬وما تقتيض نظر ًا لقيمتها أن ختضع إىل توزيع عادل‪،‬‬ ‫عن اخلصوص َّية الثقاف َّية‪َّ ،‬إنا ما يناسب َّ‬
‫هذه اخلريات‪ :‬احلقوق‪ ،‬واحلر َّيات‪ ،‬والسلط‪ ،‬والفرص االجتامع َّية‪ ،‬والوظائف‪ ،‬والدخل‪ ،‬والثروة‪« ،‬وأسس احرتام الذات»‪ .‬وتكمن‬
‫كل مشاريع احلياة العقالن َّية‪ ،‬وتتميز بكوهنا قابلة للتوزيع‪ ،‬عىل خالف‬ ‫أمه َّية هذه اخلريات االجتامع َّية‪ ،‬يف وجوب تو ُّفرها لتحقيق نجاح ِّ‬
‫والقوة‪ ،‬والذكاء‪ ،‬واخليال‪ ،‬التي رغم َّ‬
‫أن التوفر عليها يتأثر بالبنية األساس َّية‪ ،‬لكنَّها مع‬ ‫َّ‬ ‫اخلريات األول َّية الطبيع َّية‪ ،‬عىل غرار‪ :‬الصحة‪،‬‬
‫ذلك ليست حتت سطوهتا‪.7‬‬

‫هتتم نظرية العدالة‪ ،‬وذلك عىل شاكلة الفلسفة الكانط َّية‪ ،‬باملضمون امللموس للخري‪ ،‬بقدر ما تركِّز عىل ضبط شكله ورشوطه الصور َّية‬ ‫ال ُّ‬
‫أن هناك فرق ًا يف مقاربة هذا املفهوم لدى كانط بني حلظة العقل العميل‪ ،‬وحلظة نظر َّية الفضائل‪ ،‬واملجال األنثروبولوجي‪،‬‬ ‫العا َّمة‪ ،‬فكام َّ‬
‫فهناك أيض ًا فارق بني صورة اخلريات األول َّية يف اللحظة املثال َّية للنظر َّية‪ ،‬وبني اللحظة غري املثال َّية‪ ،‬حيث سيعمل رولز عىل تنزيل توابع‬
‫اختيار مبادئ العدالة‪ ،‬يف املظاهر املؤساسات َّية للبنية األساس َّية للمجتمع‪.‬‬

‫َّإنا حلظة رفع حجاب اجلهل الذي كان حيول دون أعضاء العقد ومعرفة انتامءاهتم الثقافية‪ ،‬حيث سيصبح يف هذه املرحلة بإمكاهنم‬
‫استحضار جمموعة من املعطيات اخلصوص َّية‪ ،‬ثقاف َّية وعرق َّية ودين َّية واقتصاد َّية‪ ،‬وهنا سيكون باإلمكان استحضار البعد اجلامعتي‪ ،‬لكن‬
‫وهو مؤ ّطر بضوابط مبادئ سابقة ومستقلة‪ .‬و بالتايل عوض التعاطي مع مسألة االعرتاف‪ ،‬من حيث هي مواجهة بني ثقافة ثانو َّية‬
‫ومستصغرة ومقص َّية‪ ،‬وأخرى متعاظمة ومهيمنة‪ ،‬سيقارب رولز األمر من خالل جعل ِّ‬
‫كل ثقافة داخل املجتمع عىل حدة‪ ،‬ختترب مقوالهتا‬
‫إن اهلو َّيات الثقافية‪ ،‬حسب هذا املنطق‪ ،‬لن تأخذ شكل حلظات‬ ‫حسب معيار مبادئ العدالة التي تولدت عن عقد اجتامعي غري تارخيي‪َّ .‬‬
‫تؤسس انخراطها يف املرشوع العام للتعاون‬ ‫سيتم ترصيفها بمنطق كانطي‪ ،‬جيعل َّ‬
‫كل ثقافة وهي ِّ‬ ‫يف صريورة اجلدل عىل املنحى اهليغيل‪ ،‬بل ُّ‬
‫ُمشع ًا خيضع ملا ُيدِّ د مبادئه وغاياته بشكل داخيل‪ ،‬ليس حسب إلزام خارجي غريب ومتس ِّلط‪.‬‬ ‫االجتامعي العادل‪ّْ ،‬‬

‫يتح َّقق هذا االلتحام والتداخل حينام جيعل املجتمع املنصف‪ ،‬وهو يفسح للجميع فرص الرقي بملكاته وكفاءاته‪ ،‬العدالة نفسها خري ًا‬
‫ظل‬ ‫يراد لنفسه‪ ،‬وهذا ما ُيتيح للفلسفة الرولز َّية أن تصل إىل مستوى نظر َّية اخلري التا َّمة( ‪ )full theory‬التي تنظر إىل مفهوم اخلريات يف ِّ‬
‫تم‬ ‫خاصة‪ ،‬عىل خالف املرحلة األوىل حيث َّ‬ ‫سياق واقعي‪ ،‬وارتباط ًا باملواطنني من حيث هم أشخاص أخالقيون‪ ،‬هلم ُمثل ومرا ٍم كامل َّية َّ‬

‫‪7 . John Rawl, Theory Of Justice, revised edition, Hravard University Press1999, p.54.‬‬

‫‪111‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد هاشمي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫االكتفاء بنظر َّية خري ضيقة (‪ )Thin theory‬نظر ًا ملثاليتها؛ فإذا كانت هذه األخرية اكتفت باحلدِّ األدنى من األخالق َّية يف حدود عقالن َّية‬
‫ُصلبة‪ ،‬ممَّا جعلها تنطلق من فكرة اتصاف رشكاء العقد بالالمباالة جتاه بعضهم بعض ًا‪َّ ،‬‬
‫فإن النظر َّية التا َّمة تتجاوز هذا التضييق املنهجي‪،‬‬
‫وتفتح الذات َّية اإلنسان َّية بشكل أكرب عىل ا ُملثل الكُربى‪ ،‬وعىل اخلصوصيات الثقاف َّية‪.‬‬

‫تُعدُّ نظرية اخلري التا َّمة إحدى االستعامالت املرشوعة ملبدأ العدالة‪ ،‬الذي يمكنه أن يعتمد يف حتديد وتعيني جمموعة من املفاهيم‬
‫يتحول بذاته إىل خري‪ ،‬وإىل عامل استقرار‬
‫حس العدالة حينام يشيع بني الناس َّ‬ ‫األخالق َّية التي تتجاوز مفهوم العدالة ذاته‪ ،‬عىل أساس َّ‬
‫أن َّ‬
‫كوناته الثقاف َّية‪ ،‬وهو األمر الذي يمكن أن جيري مصاحلة فعل َّية بني العدل وبني اخلري‪ ،‬بني ما جيب علينا وبني ما‬ ‫للمجتمع ككل‪ِّ ،‬‬
‫بكل ُم ِّ‬
‫نريده‪ ،‬وهذا ما يدعوه رولز بالتطابق بني اخلري َّية وبني العدل (‪.) justice as goodness‬‬

‫يصبح اخلري‪ ،‬من حيث هو صفة كامل َّية يتَّسم هبا الرجل العادل والصالح بفعل إوال َّيات اإلدماج‪ ،‬عنوانا عىل الطبيعة العقالن َّية للمواطن‪،‬‬
‫بتصور العدالة إنصاف ًا ال يمكنها إال أن تتناسب وتنسجم مع الطابع العقالين للمجتمع ككُل‪ .‬خصوص ًا َّ‬
‫أن تفتُح‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫ألن اخلريات املنطبعة‬
‫إن ممارسة العدل واخلري داخل سياق‬ ‫الكفاءة العقالن َّية واألخالق َّية جيعل العدل امليل الغالب بفعل ما يدعوه رولز باملبدأ األرسطي‪ ،‬حيث َّ‬
‫ألن تبخيس الذات هو‬ ‫تغذي الثقة بالذات واحرتامها‪ ،‬وهو ما يمثل أكرب مكسب داخل املجتمع العادل‪َّ ،‬‬ ‫يتحول بدوره إىل متعة ِّ‬
‫َّ‬ ‫شبيه‬
‫للحس املدين‪ ،‬وعائق فعيل أمام املواطن لالنخراط يف املرشوع التعاوين العادل للمجتمع‪ ،‬وفقدان الثقة يف إمكان حتقيق مرشوع‬ ‫ِّ‬ ‫إحباط‬
‫حياة عقالين‪.‬‬

‫إن الشخص الرولزي هبذا املعنى حيقق بشكل واضح املثال الكانطي الذي يقتيض أن تتضافر وتتداخل املشاريع العاقلة للحياة مع‬ ‫َّ‬
‫ألن نسق الواجبات حينام ينبني عىل مبادئ سليمة جيعل هذا االندماج تلقائي ًا‪ ،‬كام َّ‬
‫أن‬ ‫بعضها بعض ًا‪ ،‬حتى دون التخطيط املسبق لذلك‪َّ ،‬‬
‫إن اجلميع سيحرص يف إطار تنمية ملكاته يف حضن اجلامعة عىل أن خيلق‬ ‫العالقة بني مكونات املجتمع ال تقوم عىل منطق رصاعي‪ ،‬بل َّ‬
‫إن الفرد الرولزي مرتبط من‬ ‫أفق ًا كون َّي ًا يتَّسع باستمرار يف سبيل بناء إنسانية تسود فيها املساواة واحلر َّية‪ ،‬مثلام ينبغي لإلنسانية أن تكون‪َّ .‬‬
‫ثم إنَّه داخل َّي ًا من جهة عاطفته التي متثل عالقة مع‬ ‫حيث حساسيته بموضوعات العدالة‪ ،‬املتمثلة يف اخلريات القابلة للتوزيع العادل‪َّ ،‬‬
‫الذات وليس مع املوضوع‪ ،‬يستشعر هذه العدالة باعتبارها خري ًا‪ ،‬ما يمنحه ثقة بذاته‪ ،‬واستقرار ًا وتناغ ًام بني حياته اخلارجية وبني حياته‬
‫تصور ًا مشرتك ًا عن العدالة‪ ،‬وهذا ما‬
‫كل مكونات املجتمع‪ ،‬لكون مرشوع حياته ُي ِّسد أيض ًا ُّ‬ ‫الداخلية‪ ،‬كام أنَّه يصادف تثمين ًا وتقدير ًا من ِّ‬
‫وحس ًا مدن َّي ًا َّ‬
‫يتقوى من خالل الرتبية عىل التعدد َّية يف‬ ‫يسمح باستشعاره النظرة اإلجيابية للجامعة‪ ،‬ممَّا ُيضفي عىل ثقته بنفسه ُبعد ًا حضار َّي ًا‪َّ ،‬‬
‫تم التعاقد عليها؛ فاملجتمع الذي يعرتف بحر َّية التفكري واالجتامع والتعبري واالعتقاد‪ ،‬بإمكانه أن‬
‫مشاريع احلياة داخل إطار مبادئ عامة َّ‬
‫كل فرد ال بدَّ أن جيد لنفسه رفقة تشاركه اهتامماته‪ ،‬وتقدره‪ ،‬وتسعى إىل مساعدته يف حتقيق‬ ‫أن َّ‬
‫يفتح إمكانات مجعو َّية الحمدودة‪ ،‬ممَّا يعني َّ‬
‫وكل ذلك يف إطار انسجام وسلم‪ ،‬يوفران مناخ تقدير الذات‪.‬‬ ‫مرشوع حياته‪ُّ .‬‬

‫جينبنا سياق كهذا الشعور باخلجل االجتامعي الذي يمثل مقتل الثقة بالذات‪ ،‬فهو ال يتعلق بعالقتنا باألشياء‪ ،‬من جهة الفقد أو التبذير‬
‫أو اإلتالف‪ ،‬وإنَّام بخلل ما يف عالقتنا بذواتنا‪ ،‬إنَّه إحساس محيم وداخيل لألنا وهو حياكم نفسه أمام نفسه‪ ،‬وأمام األغيار الذين يمثلون‬
‫رشط ًا مبارش ًا لتقديرنا لذواتنا‪ ،‬وذلك عىل مستوى أخالقي‪ ،‬نظر ًا لتعالقه مع فكرة العدالة واإلخالل بمقتضياهتا‪.‬‬

‫أي‬
‫فإن َّ‬‫يعب عنه مبدأ العادلة الثاين‪َّ ،‬‬
‫إذا كانت العدالة التوزيع َّية تنظم عالقتنا مع األشياء التي نملكها من خالل مبدأ التفاوت الذي ّ‬
‫مساس بعدالة وضعية يرتبط هبذا املجال جيعلنا نشعر بالظلم‪ ،‬لكن حينام يتعلق األمر بصفات نحتاجها لتحقيق مشاريع حياتنا العقالن َّية‪،‬‬
‫يشوش يف حدود دنيا عىل ثقتنا يف ذواتنا‪،‬‬ ‫مثل الذكاء وسعة اخليال واإلبداع‪َّ ،‬‬
‫فإن ذلك جيعلنا نشعر باخلجل‪ ،‬لك َّن هذا اخلجل رغم أنَّه ِّ‬
‫ال خيتلف اخلجل من البشاعة والغباء عنه يف صورته األخالقية التي تتعلق مبارشة‬ ‫ُّ‬
‫يتصل مبارشة بمجتمع العدالة‪ ،‬مث ً‬ ‫ُّ‬
‫يظل طبيعي ًا وال‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪112‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫من العدالة اعرتاف ًا إىل العدالة تقدير ًا ّ‬
‫للذات ‪ ...‬رولز واملآخذ اهليغيل َّية‬

‫هيم مشاريع حياتنا التي ترتجم إرادتنا واختيارنا‪ ،‬وهذا ما ينقل اخلجل من املستوى السيكولوجي إىل املستوى‬ ‫بفكرة العدالة‪ ،‬حينام ُّ‬
‫نوجهه مبارشة ألنفسنا‪.‬‬
‫احلقوقي‪ ،‬بحيث يؤرش يف دواخلنا عن مسؤوليتنا عىل املساس بحريتنا وندّ يتنا لآلخرين‪ ،‬فهو شعور بالظلم الذي ِّ‬

‫وتتحول احلياة الفاضلة إىل‬


‫َّ‬ ‫وهبذا تصبح الفضائل يف سياق املجتمع الرولزي وسيلة حلامية تقدير الذات من الظلم الشخيص للنفس‪،‬‬
‫مرقى نحو التوفق يف كسب احرتام اآلخرين‪ ،‬ويف حتصيل احرتام ذواتنا‪ ،‬وهذا ما جيعل اخلجل يتميز عن الشعور بالذنب الذي نستشعره‬
‫حني نامرس ظل ًام يف حق اآلخرين‪ ،‬فهو يتجاوز أفق الغري َّية‪ ،‬لينظر عىل ضوء العدالة يف خجل إىل فشلنا الشخيص يف حتقيق مرشوع حياة‬
‫تصور العدالة‪.‬‬
‫تتصالح فيه خرياتنا مع ُّ‬

‫حس ًا بالعدالة‬
‫نمي لدى اجلميع َّ‬
‫توفري الرشوط الداخلية واخلارجية لتقدير الذات‪ ،‬وعدم السقوط يف اإلحساس باخلجل األخالقي‪ُ ،‬ي ِّ‬
‫التصور العام للعدالة واحلياة الداخلية هلا‪ ،‬وهذا ما خيلق مناخ ًا للتصالح بني الناس‪ ،‬يضفي عىل نقاشاهتم‬
‫ُّ‬ ‫حيرتم يف الوقت نفسه مقتضيات‬
‫العموم َّية حسن الن َّية‪ ،‬وجيعلها تدور يف إطار صداقة مدن َّية تسمح ببلوغ قرارات موضوع َّية من جهة‪ ،‬وذات جاذب َّية شخص َّية من جهة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫ألن جمتمع العدالة ال يقوم عىل أساس‬ ‫وخية‪ ،‬تتجاوز معضالت الرصاع واالعرتاف‪َّ ،‬‬ ‫ما سبق خيلق وفاق ًا ووحدة اجتامعية عادلة ِّ‬
‫انصهار املصالح يف إطار وحدة عضو َّية خانقة‪ ،‬كام أنَّه ليس بؤرة فوضو َّية يتقاتل فيها الناس ألجل مصالح متباعدة ومتضاربة‪ ،‬إنَّه‬
‫باألحرى جمتمع يوازن بني املصالح ويصالح بينها‪ ،‬بحيث يمثل إطار العدالة خري ًا للجميع عوض أن يأخذ شكل إطار خانق‪ ،‬ألنَّه‬
‫حس ًا‬
‫كل من يملك َّ‬ ‫ما يمثل ضامن االستقرار واحلر َّيات واحلقوق األساسية‪ ،‬وما يسمح بوضع قواعد لعب منصف‪ ،‬ال بدَّ أن يريض َّ‬
‫بالعدالة‪.‬‬

‫مؤسسات العدالة التي متثل خري ًا للجميع‪ ،‬والتي يف إطارها يمكن فتح إمكانية‬
‫يتوحد من خالل غايات كربى متمثلة يف َّ‬‫جمتمع كهذا َّ‬
‫انتامءات ثانو َّية تدعم وال تعاند فعل االنخراط يف االجتامع العام‪ ،‬حيث ال نظلم غرينا بفعل ضامن بنية أساسية عادلة‪ ،‬وال نظلم أنفسنا‬
‫أي طرف‪َّ ،‬‬
‫ألن الفرد واجلامعة واخلري والعدالة كلها‬ ‫جتنب ًا خلجل ينجم عن ِّ‬
‫حس العدالة لدينا‪ ،‬وال نشعر بالرغبة يف انتزاع االعرتاف من ِّ‬
‫يف وفاق وتطابق‪ ،‬وليس يف رصاع ومعاندة‪.‬‬

‫خاتمة‬
‫لقد مثلت املرجع َّية الكانط َّية ترياق ًا حقيقي ًا لفلسفة رولز من االحتدام اهليغيل‪ ،‬وهذا مكمن قوهتا‪ ،‬وغرابتها أيض ًا عىل سياق احلساسيات‬
‫يتم رضورة يف إطار مغالبة حول املصالح‬
‫السياس َّية التي ألفت منطق اجلدل والنفي والرصاع‪ ،‬الذي جيعل تعدُّ د العالقات البين َّية بني الناس ُّ‬
‫ينم عن انتصار طرف عىل آخر‪ ،‬إىل مطلب‬ ‫واالمتيازات‪ ،‬بينام يراهن رولز عىل عدالة أكثر هدوء ًا‪ ،‬تتجاوز مطلب االعرتاف الذي قد ُّ‬
‫اإلنصاف الذي يتخىل عن مثل هذا التطلع‪ ،‬وجيعل تقدير الذات جزء ًا من تقدير املبادئ التي تضمن هذا اإلحساس للجميع؛ إنَّه مرشوع‬
‫ُسوغ رصاعات من املمكن بقليل من اجلهد أن نتجاوزها‪.‬‬ ‫املجتمع التعاوين الذي من املفرتض أن ُي ِّلصنا من جدل َّية هيغل َّية ما فتئت ت ِّ‬

‫‪113‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫جدل َّية العدالة والديمقراط َّية‬

‫خالص جلبي*‬

‫متطور‪ ،‬ويمكن أن يصل إىل أرقى أنواع املجتمعات كام هو احلال يف كندا والنرويج والسويد‪ ،‬حيث يعيش احلاكم‬ ‫ّ‬ ‫الديمقراط َّية كائن‬
‫برش ًا ممَّن خلق‪ ،‬وليس إهل ًا ال ُيسأل َّ‬
‫عم يفعل‪.‬‬

‫وهذا الكائن الذي صنعه البرش ودعا له األنبياء واملرسلون خيترص بثالث مجل‪ :‬حكم األكثر َّية‪ ،‬وضامن حقوق األقل َّية‪ ،‬ومتثيل صحيح‬
‫آلل َّيات االنتخاب‪ ،‬وهذا يعني بكلمة واحدة جمتمع العدل‪ ،‬الذي جاء به س ّيد املرسلني رمحة للعاملني‪.‬‬

‫ورسالة األنبياء بدورها ُتترص بثالثة أهداف‪ :‬تركيب البوصلة األخالق َّية عند الفرد‪ ،‬وبناء جمتمع العدل الذي تسعى له الديمقراط َّيات‬
‫األخوة والسالم بني األنام‪.‬‬
‫َّ‬ ‫عرب التاريخ كام وصفناها‪ ،‬والثالث إرساء‬

‫ال يف اخلليج؛ لقفز يف الغالب إىل د َّفة احلكم أكثر القوم تشدُّ د ًا ورعونة‪ ،‬ويف يوم‬
‫تم تطبيق هذا املعيار يف بلد نفطي مث ً‬
‫ولكن مع هذا فلو َّ‬
‫تم إعدام أعظم دماغ يف تاريخ اإلنسان عىل يد األغلب َّية من أثينا‪ ،‬باسم الديمقراط َّية‪ ،‬ومنه كان القذايف يف ليبيا ـ يسء الذكر الذي طوته‬ ‫َّ‬
‫صفحة التاريخ غري مأسوف عليه (املهرج الدموي) ـ يستهزئ هبا‪ ،‬وكان ير ّدد الديموكراس َّية‪ :‬دوموا عىل الكرايس‪.‬‬

‫ال يعرف الناس متام ًا وجوه الربملانيني أيام االنتخابات‪،‬‬


‫ولذا فالديمقراط َّية ليست صناديق انتخاب‪ ،‬بل وعي الناس‪ ،‬ويف املغرب مث ً‬
‫أن‬ ‫ُّ‬
‫والكل يعرف َّ‬ ‫وأنا عارصت فرتة سيئة منها‪ ،‬امتألت األرض بأوراق الدعايات‪ ،‬ويومها تلوثت سياريت حتى عجزت عن تنظيفها‪.‬‬
‫جتارة األصوات حتمى وتسخن يف موسم االنتخابات‪ ،‬فيباع الصوت بدراهم معدودة‪ ،‬وكانوا فيه من الراغبني‪ ،‬ولكن يف النهاية تبقى‬
‫إن بعض املناطق يف الريف خاصة و(الدواوير) تذكّر بقصة‬ ‫الشوارع وسخة و(القواديس) مل تب َن‪ ،‬والطرقات مليئة باحلفر والنقر‪ .‬بل َّ‬
‫البؤساء لفيكتور هوجو‪ .‬وتعود احلياة إىل ما كانت عليه من الكسل واخلمول واهندام البنية التحت َّية‪ ،‬بدون أمل يف اإلصالح عند مواطن‬
‫املكررة‪.‬‬
‫اعتاد عىل هذه الكذبة الكربى َّ‬

‫تم إعدامه عىل يد الغوغاء باسم‬ ‫املهم هو َّ‬


‫أن هذه املقدّ مة خطرت يف بايل وأنا أكتب عن حلظات املوت لسقراط‪ ،‬وكيف َّ‬
‫الديموقراط َّية‪.‬‬

‫كان سقراط فلتة عقل َّية‪ ،‬وبالتعبري الط ّبي (طفرة)‪ .‬مع هذا فقد حكمت أثينا الديمقراط َّية بإعدام سقراط عام ‪ 399‬قبل امليالد‪ .‬والسؤال‬
‫ما هو هذا اجلرم الكبري الذي حكم عىل العقل الكبري أن ينطفئ يف أثينا؟‬

‫* مفكر من سورية‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪114‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫جدل َّية العدالة والديمقراط َّية‬

‫أنتجت احلضارة الغربية مضا ّدات للرببرية‬ ‫من الرضوري اإلحاطة بظروف إعدام هذا الرجل‪ ،‬فقد عاشت‬
‫التي أوجدهتا‪ ،‬ومع ّأنا غري كافية ّ‬
‫وهشة‪،‬‬ ‫أثينا القديمة فرتة من الزمن تنعم بنوع من احلكم الديمقراطي‬
‫السيادة فيه لعا َّمة أبنائها‪ ،‬ولكن ما كادت املدينة العريقة تنهزم‬
‫زعزعت االستعباد من الداخل‪ .‬وقد أدت‬
‫يف حرهبا مع إسبارطة حتى انتكست فيها الديمقراط َّية‪ ،‬فقد‬
‫األفكار التنويرية‪ ،‬التي تبناها املست ْع َبدون‪،‬‬ ‫أعاد اإلسابرطيون فلول األرستقراط َّية األثينية إىل احلكم فنكَّلوا‬
‫إىل نزع االستعامر عن اجلزء األكرب من‬ ‫بالديمقراطيني‪ ،‬وحكموا عىل الكثريين منهم باإلعدام دون‬
‫العامل‪.‬‬ ‫مقاضاة أو حماكمة‪.‬‬

‫لف أثينا بظالمه‪ .‬ولك َّن اخلالص كان يف‬‫كان عرص ًا أسود َّ‬
‫واضطر اإلسبارطيون إىل متكينهم من حكم‬
‫َّ‬ ‫فانضم إليه أنصار الديمقراط َّية‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الطريق‪ ،‬فقد عاد (تراسبيولوس) بعدد قليل من أتباعه؛‬
‫وحل عام ‪ 399‬قبل امليالد حتى اقرتف هؤالء ما رأت فيه األجيال الالحقة وصمة عار يف جبني‬ ‫البالد‪ ،‬ولكن ما إن مضت مخسة أعوام َّ‬
‫الديمقراط َّية األثين َّية‪ ،‬ال يمكن أن ينساها التاريخ‪.‬‬

‫يوجهون إليه اللوم‪ ،‬وكان الشعور سائد ًا َّ‬


‫بأن الفضائل اهتزت‪ ،‬وكان‬ ‫كانت ثروة البالد يف هبوط‪ ،‬فراح كثريون يبحثون عن كبش فداء ّ‬
‫نحات ًا يقال له (سقراط)‪.‬‬
‫املسؤولون عن ذلك يف نظرهم فئة من املعلمني ذوي األفكار اجلديدة الثور َّية‪ ،‬يتقدَّ مهم معلم يعمل َّ‬

‫التجول يف شوارع‬
‫ُّ‬ ‫أن سقراط مل يرتك كتب ًا حتمل آراءه‪ ،‬وإنَّام نقلها إلينا تلميذه (أفالطون)‪ .‬ومل يكن لسقراط من عمل سوى‬
‫واحلقيقة َّ‬
‫أثينا مغري ًا الناس باجلدل واملناقشة‪ ،‬دافع ًا إياهم عن طريق السؤال واجلواب إىل البحث عن املعرفة احلقيق َّية والفضيلة‪ ،‬ولكي ينهض بتلك‬
‫الرسالة كان ال بدَّ من التشكيك يف كثري من األفكار السائدة‪ ،‬وهكذا أثار سخط عدد من الناس عليه؛ فاهتموه باملروق الديني وإفساد‬
‫الشباب‪.‬‬

‫تم تقديم الفيلسوف إىل املحاكمة‪ ،‬وكانت حمكمة غريبة تتكون من ‪ 565‬قاضي ًا‪ ،‬كان اختيارهم من العوام بالقرعة العمياء‪ ،‬أي بح َّبات‬
‫َّ‬
‫وقصاب غشاش‪ ،‬وصياد‬ ‫ً‬
‫الفول كام كانت عادة األثينيني يف اختيار موظفيهم‪ ،‬وهكذا فقد كانوا خليطا من بائع متجول‪ ،‬ومتسكع عربيد‪َّ ،‬‬
‫سمك‪ ،‬و ُم ٍ‬
‫راب‪.‬‬

‫وعندما فرغ املدَّ عي من تالوة اهتامه؛ هنض سقراط وقال‪ُّ :‬أيا األثينيون‪ ،‬لقد عشت شه ًام شجاع ًا‪ ،‬ومل أترك مكاين خوف املوت‪ ،‬وما‬
‫أراين اليوم وقد تقدَّ مت يب الس ُّن مستطيع ًا أن أهبط عن ذلك املقام يف الشجاعة فأختىل عن رسالتي التي أهلمتني إياها السامء‪ ،‬والتي هتيب‬
‫يب أن ُأ َب ِّص الناس بأنفسهم‪ ،‬فإذا كان ذلك التبصري هو ما تسمونه إفساد ًا للشباب األثيني‪ ،‬فاعلموا إذن ُّأيا القضاة أنَّكم إن أخليتم سبييل‬
‫فإن عائد من فوري إىل ما كنت عليه من تعليم احلكمة‪.‬‬‫يف هذه الساعة ّ‬

‫وهنا علت مههمة القضاة وأظهروا غضبهم واستنكارهم‪ ،‬ومع ذلك فقد مىض سقراط بكلامته فقال‪ :‬ال حتسبوا دفاعي هذا عن نفيس‬
‫وحق اآلهلة لن جتدوا‬
‫عوض‪ .‬فإنَّكم ِّ‬ ‫فإن أخشى أن تفقدوا بفقدي رج ً‬
‫ال ال ُي َّ‬ ‫خوف ًا عليها بل هو خوف عليكم أنتم يا أهل أثينا األحباء؛ ّ‬
‫من بعدي أحد ًا يبرصكم بعوراتكم‪ ،‬لرتكضوا كاجلياد إىل غايات اخلري والفضيلة واإلحسان‪.‬‬

‫تتعرض له حياة الفيلسوف من مثل هذه اللهجة احلادة فقال له‪ :‬أليس من األفضل‬
‫وأحس رئيسهم باخلطر الذي َّ‬
‫َّ‬ ‫وازداد ضجيج القضاة‬
‫لك أن تكسب عطف املحكمة‪ ،‬بدالً من أن تتحداها هبذا الزهو والشموخ؟‬

‫‪115‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫خالص جلبي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫بالتوسل والبكاء؟‬
‫ُّ‬ ‫أجاب سقراط‪ :‬أتريدين حق ًا أن أترضاكم يا أهل أثينا باملديح والثناء الكاذب‪ ،‬وأن أريض غروركم‬

‫أن نفوسكم هي التي يف ك َّفة امليزان ال نفيس؛ فاحرصوا عىل العدل واحلق‪.‬‬
‫واآلن ُّأيا القضاة‪ ،‬احكموا بام شئتم‪ ،‬واعلموا َّ‬

‫عيل هو أن حتكموا يل‬ ‫أي العقوبات يظ ُّن أنَّه يستحقها؟ أجاب مبتس ًام‪َّ :‬‬
‫إن أليق حكم تصدرونه َّ‬ ‫وعندما سأل كبري القضاة سقراط عن ّ‬
‫بأن أطعم وأكسى عىل نفقة الدولة بقية عمري‪ ،‬اعرتاف ًا منكم بام أسديت ألثينا وأهلها من اخلري‪.‬‬

‫وصدر احلكم عىل سقراط باإلعدام‪.‬‬

‫يف تلك األثناء تسلل إليه ذات ليلة تلميذه الشاب (كريتون) ومهس يف أذنه‪ :‬لقد أعددنا َّ‬
‫كل يشء للهرب؛ فه َّيا بنا يا أستاذي إىل احلر َّية؛‬
‫ال ثم قال‪ :‬كال يا كريتون لن أهرب من املوت‪ّ .‬إن ال أستطيع أن أختىل عن املبادئ التي ناديت هبا عمري كله‪ .‬بل‬ ‫فتطلع إليه سقراط طوي ً‬
‫ّإن يا كريتون أرى هذه املبادئ الغالية التي ناديت هبا حتى اليوم جديرة بذلك الثمن‪ .‬أجل ياكريتون ليست احلياة نفسها شيئ ًا‪ ،‬ولكن أن‬
‫نحيا حياة اخلري واحلق والعدل فذلك هو ُّ‬
‫كل يشء‪.‬‬

‫فتجرعه سقراط ّ‬
‫بكل شجاعة‪ ،‬ومل خيف املوت‪ ،‬ألنَّه كان عىل يقني من َّ‬
‫أن اخللود يف‬ ‫َّ‬ ‫السم‪،‬‬
‫ويف ذلك اليوم محل إليه احلارس كأس ُّ‬
‫انتظاره‪.‬‬

‫(آالن تورين) فيلسوف الديمقراط َّية‬


‫اخلالصة التي وصل إليها الفيلسوف الفرنيس (آالن تورين) عن الديمقراط َّية‪ ،‬بمعنى التمثيل الفعيل‪ ،‬كام يقول يف كتابه عن‬
‫الديموقراط َّية‪ ،‬غري دقيقة لدخول التالعب فيها‪.‬‬

‫ألنم سينتخبون من هو ضدّ مصلحتهم‪ ،‬كام حصل‬ ‫وألن الوعي هو رصيد االنتخابات‪ ،‬فال يعني شيئ ًا أن ينتخب كومة من اجلاهلني؛ َّ‬ ‫َّ‬
‫يف انتخاب املمثل (شفارتتزنيجر) ذي العضالت حاك ًام لكاليفورنيا‪ ،‬بسبب عالقة زواجه من عائلة كينيدي‪ ،‬ودخوله إىل نادي أصحاب‬
‫املال والنفوذ‪ ،‬ومتويل محلته االنتخاب َّية‪ .‬ومن قبل رجيان الذي كان يقوم بدعاية اجلبنة يف التلفزيون ويمثل أفالم الكوبوي يف هوليوود‪،‬‬
‫أو بوش املعروف بأنَّه كان مدمن ًا عىل املخدّ رات‪ ،‬وقد نجح يف اجلامعة بالكاد! أو دونالد ترامب الذي ال يوصف باحلكمة وال يعرف‬
‫حترك العقالء يف مظاهرات صاخبة بعد أن‬
‫صوت له هم الغوغاء‪ ،‬وبسبب هذا َّ‬ ‫يف السياسة أكثر من معرفة فالح يف علوم الفضاء‪ ،‬ومن َّ‬
‫شعروا بأنَّه عار عىل أمريكا‪ ،‬كام فعلت جملة دير شبيجل األملانية يف عددها ‪ 2016 /45‬يف صفحة غالفها الرئيسة ووجه دونالد ترامب‬
‫وهيالري كلينتون ملطخة بالوحل وحتتها فقرة سيناريو الرتاجيديا (‪.)Drehbuch einer Tragoedie‬‬

‫سمى احلر َّية والديمقراط َّية‪.‬‬ ‫وكام حيصل يف السامح ّ‬


‫لكل املوبقات واألرضار يف املجتمعات الغرب َّية‪ ،‬بام فيها اللواط واملخدّ رات واإلباح َّية واملثل َّية حتت ُم َّ‬

‫مرضة لألطفال ومفسدة للشيخ ومهيجة‬‫كل صنف؛ ما هو َّ‬ ‫ويف مدينة مونرتيال يف شارع (سانت كاترين) ترى صور اإلباح َّية من ّ‬
‫كل ذلك من أجل مال حرام يف غرض حرام يف طريق حرام؛ ولذا فالغرب ليس جنَّة‪ ،‬كام َّ‬
‫أن الرشق ليس جهنَّم‪.‬‬ ‫للمراهقني‪ُّ .‬‬

‫وكان أرسطو حمق ًا حينام رأى َّ‬


‫أن احلكومة املثىل هي التي حيكمها الفالسفة واخلرباء‪ .‬وهناك توقعات حلكومات املستقبل أن تقع حتت‬
‫سيطرة ديكتاتوريات اخلرباء‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪116‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫جدل َّية العدالة والديمقراط َّية‬

‫نحن إذن أمام أنواع من الديمقراطيات‪ ،‬أبشعها ديكتاتوريات رهيبة تتلفع برداء الديمقراط َّية‪ ،‬جيب كشف الغطاء عنها كي يزول‬
‫السحر عنها‪ ،‬كام كانت عند صدَّ ام املصدوم املشنوق‪ ،‬واألسد الكياموي الربامييل‪ ،‬واملبارك بدون بركة‪ ،‬وزين العابدين اهلارب بدون‬
‫للمرة الرابعة‪ ،‬وهو مشلول مربوط إىل‬ ‫املنتخب ّ‬
‫بكل تلفيق َّ‬ ‫َ‬ ‫زينة‪ ،‬وصالح بدون صالح‪ ،‬حمروق الوجه يف الدنيا قبل اآلخرة‪ ،‬وبوتفليقة‬
‫كريس أخرس ‪ ،‬وخامتتهم القذايف املقذوف‪ ،‬بعد أن دفع اجلزية للغرب عن يد وهو صاغر‪.‬‬

‫وهناك مجهوريات شعب َّية ال تولد فيها الديمقراط َّية‪ ،‬بمعنى التمثيل الشعبي ملصلحة الشعب‪ ،‬إال يف خيال الفالسفة‪ .‬وجيب َّأل تستعبدنا‬
‫الكلامت والشعارات‪ .‬ويف اليونان كانت كلمة الديمقراط َّية لألحرار وليس للعبيد‪.‬‬

‫ُّ‬
‫والكل يعلم أنَّه ليس يف العراق من هو أكرب من صدَّ ام‪ .‬ووعي الناس هو‬ ‫وصدَّ ام كتب «اهلل أكرب» عىل العلم العراقي‪،‬‬
‫أن نتائجها بيد‬ ‫ُّ‬
‫والكل يعلم َّ‬ ‫رصيد االنتخابات أكثر من الصناديق واألوراق‪ .‬ويف سوريا والعراق جرت االنتخابات ومازالت‪،‬‬
‫املخابرات‪.‬‬

‫أ َّما يف ليبيا فالقذايف كان يقول‪ ،‬قبل أن ختسف به األرض وينتهي عىل اخلازوق‪ ،‬إنَّه ال حيكم ليبيا‪ ،‬ومن حيكم هو الشعب‪،‬‬
‫أن جنود فرعون وهامان وقارون هم من خيططون‪ ،‬وينفذون‪ .‬وروى يل رجل من مدينة محاة عن جلسة األسد األب‬ ‫ُّ‬
‫والكل يعلم َّ‬
‫مع اجلبهة الديمقراط َّية التي كانت مرسح عرائس وال تزيد عن ديكور سيايس‪ ،‬أنَّه كان حيرض إلنجاز أعظم األمور واستخالص‬
‫والكل هيمهم ويدمدم ويقول نعم سيادة الرئيس‪ ،‬ومل يكن من معرتض إال عبد الغني قنوت‪،‬‬‫ُّ‬ ‫أعظم املوافقات يف ربع ساعة‪،‬‬
‫كل حال جلسة‬‫الشك يف املعلومة‪ ،‬ومل يكن ليهتم أحد برأيه‪ .‬وهي عىل ّ‬
‫ُّ‬ ‫عىل رواية الراوي احلموي‪ ،‬والقنوت محوي‪ ،‬ولذا جيب‬
‫ديمقراط َّية!‬

‫أن احلروز والتامئم التي كانت تستخدمها جدَّ اتنا لطرد اجلان‪ ،‬حتولت يف العمل السيايس إىل بطاقات انتخاب‪ .‬ويف‬ ‫واعترب مالك بن نبي َّ‬
‫املجلس الفلسطيني ُت ّلق آية الشورى فوق الرؤوس‪ ،‬ولكنَّنا مل نشم الشورى يف تارخينا‪ ،‬إال فرتة العرص الراشدي نسبي ًا‪ ،‬أ َّما الديمقراط َّية‬
‫النسب َّية احلال َّية يف الغرب فتقوم عىل مؤسسات‪ ،‬تلعب هبا إىل حد كبري لوبيات املال ورشكات األسلحة‪ ،‬وتعمل بآل َّية ليست بتلك املثال َّية‪،‬‬
‫التطور يف التاريخ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ولكنَّها أصلح املوجود‪ ،‬حلني ظهور ما هو أصلح منها؛ فهذا هو قانون‬

‫أسميها الديمقراط َّية املقلوبة االجتاه‪.‬‬ ‫َّ‬


‫ولعل احلديث الرشيف يشري إىل طريقة جديدة يف السياسة‪ ،‬وهي ما ّ‬

‫يقول احلديث‪« :‬واهلل ال نويل هذا األمر أحد ًا سأله»‪ .‬وحاول سيد قطب التوفيق بني هذا احلديث‪ ،‬وما فعله يوسف عليه السالم‬
‫حينام طلب ا ُمللك‪ ،‬فقال اجعلني عىل خزائن األرض ِّإن حفيظ عليم‪ .‬ويف هذه الطريقة ال يرشح الناس أنفسهم‪ ،‬بل ينتخبهم الناس‪،‬‬
‫نتخب ليس من يعرض نفسه‪ ،‬بل من يعرفه الناس أنَّه األتقى واألنزه‪ .‬وعندما خيتار الناس األصلح‬‫ألنم يعرفوهنم بني ظهرانيهم؛ ف ُي َ‬
‫َّ‬
‫السلطات‬
‫السلطة الدستور َّية‪ .‬ويمكن نقل هذه اآلل َّية إىل بق َّية ُ‬
‫يتم انتخاب ُ‬
‫حيصل التمثيل من الدرجة األوىل‪ .‬ومن هؤالء األصلح ُّ‬
‫الثالث‪.‬‬

‫وجيب االستفادة من خربة األمريكيني؛ أن ال يدفأ الكريس حتت أحد‪ ،‬يف أكثر من انتخابني‪ .‬وال تزيد فرتة احلكم عن ثامين سنني بحال‪،‬‬
‫فرتة ألربع سنني‪ ،‬ثم أربع سنني أخرى إن نجح‪ ،‬ثم االنرصاف إىل بيت أ ِّمه وأبيه‪ ،‬فاألُ َّمة تلد زعامء وليست عقيمة‪ .‬أ َّما عندنا فسبع‬
‫عجاف يلحقها سبع عجاف يليها سبع عجاف‪ .‬والناس حت ّيي الزعيم وتصفه أنَّه ملك اإلنسان َّية يستحق أن حيكم األرض وما حوت من‬
‫خالئق وهبائم‪.‬‬

‫‪117‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫خالص جلبي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫الحديث عن الديمقراط َّية‬


‫أن الديمقراطية‬‫يكثر هذه األيام احلديث عن الديمقراط َّية‪ ،‬وحني كنست أمريكا صدَّ ام من العراق زعمت‪ ،‬كام قال بوش املصفوع بفردة حذاء‪َّ ،‬‬
‫أن املواطن العريب يسمع هذه املصطلحات مثل الطفل الذي حتدثه عن املتعة اجلنس َّية‪ ،‬أو مثل‬ ‫بزغت مثل شمس الضحى‪ .‬ولك َّن املشكلة َّ‬
‫أن جدهتا كانت تسمعها‪ ،‬وهي تنطق بكلمة‬ ‫األخرس الذي يريد نقل األفكار عن آخر مهمته الكالم‪ .‬وتذكر املغرب َّية فاطمة املرنييس (رمحها اهلل) َّ‬
‫الديمقراطية‪ ،‬فظنَّت َّأنا منطقة جغراف َّية ال تعرفها‪ .‬والعراقيون اليوم ظنُّوا مع اختفاء وزوال صدَّ ام َّأنا تعني آلي ًا وفور ًا والدة ديمقراط َّية تسبق‬
‫يدل عىل عقم الثقافة‪.‬‬ ‫سويرسا وكندا والنرويج؛ فولد من رماد صدَّ ام ألف صدَّ ام‪ ،‬وخرج صدَّ ام شيعي من رحم صدَّ ام سنّي‪ ،‬ممَّا ُّ‬

‫دشنها العبادي يف خريف ‪ 2016‬م هي امتداد هلذا املرض ومضاعفاته‪ .‬والعراق اليوم ـ وليس الوحيد ـ مثل‬ ‫ومعركة املوصل التي َّ‬
‫ففك عقاله‪ ،‬وطلب منه أن يشارك يف سباق مائة مرت يف املاراثون‪ .‬والغلط يف مثل هذه األشياء قاتل‪.‬‬ ‫كسيح كان مربوط ًا إىل كريس متنقل َّ‬
‫يتحول إىل‬
‫َّ‬ ‫وتغيري صدَّ ام أبدله باملالكي عبد إيران بعقله قبل سياسته‪ ،‬مثل استبدال املشنوق بعشاموي‪ .‬ومن اعتاد َّ‬
‫الغش يف حياته فلن‬
‫يتحول بلمسة سحر إىل قدّ يس‪ ،‬والشيخ‬ ‫َّ‬ ‫نبي‪ ،‬يدعو العباد إىل َّأل يبخسوا الكيل‪ ،‬وأن يزنوا بالقسطاس املستقيم‪ .‬كام ال يمكن ل ّلص أن‬
‫ال من حبوب الفياجرا تقوده‬ ‫وجترع رط ً‬
‫الطاعن يف السن املتكيء عىل العكَّاز ال يمكنه الزواج بفتاة صغرية‪ ،‬ولو اشرتاها باحليل واملال‪َّ ،‬‬
‫وتبي هذا املوضوع صعب‪،‬‬ ‫ِ‬
‫إىل اخلانوق قبل اجلامع‪ ،‬فهذه قوانني وجود َّية‪ .‬ومن خالف ُسنَّة اهلل‪ ،‬سحقته ُسنَّة اهلل‪ ،‬ومل تُبال ومل ترحم‪ُّ .‬‬
‫ألن القض َّية غري واضحة‪ ،‬ومل يشتغل عليها الناس يف عامل العروبة امليت‪ .‬وهي عقاب اهلل عىل استخدام اجلاهل أداة ال يعرف كيفية‬ ‫َّ‬
‫استخدامها‪ .‬واملجتمع املدين غري املجتمع القبيل‪.‬‬

‫أن املجتمع العراقي مبتىل بثالث علل‪ّ ،‬‬


‫كل علة كافية أن تقتل‬ ‫وقد ذهب الدكتور (عيل الوردي) يف كتابه تاريخ العراق احلديث‪ ،‬إىل َّ‬
‫مجالً‪ ،‬وأ ّية واحدة منها يمكن أن تصيب املجتمع بالكساح‪ :‬من ازدواج الشخص َّية (شيزوفرينيا)‪ ،‬ورصاع احلضارة والبداوة‪ ،‬والتناشز‬
‫االجتامعي‪ ،‬والثالثة أصعبها‪ .‬واحلضارة تعني الدخول يف الوقت واملعاناة‪.‬‬

‫والتفسخ‪ .‬وعندما ُت ّلق‬


‫ُّ‬ ‫ومع خريف عام ‪ 2016‬م تكامل كسوف العراق‪ ،‬فبعد أن مات يف ّ‬
‫ظل (االستبداد) يغرق حالي ًا يف الفوىض‬
‫يتكوم النمل فألنَّه رأى قطعة عظم أو ذنب سحلية‪ ،‬فهذا قانون وجودي ينطبق عىل‬ ‫فألنا عثرت عىل جيفة‪ .‬وعندما َّ‬‫الغربان يف اجلو َّ‬
‫التحول نفسه الذي حيدث للمجتمع‪ ،‬فتدخل اجلثة أوالً مرحلة (الصمل اجليفي) فتستحيل‬ ‫ُّ‬ ‫العراق وسواه‪ .‬ويف (الطب) حيدث للجثث‬
‫تتفسخ فيقبل عليها ‪ 500‬نوع من احلرشات تقوم بالتهامها تدرجيي ًا بحيث هييئ ُّ‬
‫كل فصيل املناخ للفوج الذي‬ ‫ثم َّ‬
‫اجلثة إىل قطعة خشب‪َّ ،‬‬
‫بعده‪ .‬ويف النهاية يتحلل اجلسم فيعود إىل الرتاب‪ .‬ومنها خلقناكم وفيها نعيدكم‪.‬‬

‫ظل (االستبداد)‪ ،‬ويصبح البدن جاهز ًا الستضافة ّ‬


‫أي إرهايب مثل اجلراثيم‪ ،‬فهم‬ ‫وما حيدث يف اجلثث حيدث يف األمم‪ .‬فتتخشب يف ّ‬
‫حدب ينسلون‪ .‬وعندما تُقتل األ َّمة هبذه الطريقة ينهار اجلهاز املناعي بالكامل‪ ،‬فتصبح جاهزة لالحتالل اخلارجي وانفجار ّ‬
‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫من ّ‬
‫كل‬
‫يتحول الوطن إىل بضاعة قابلة للتبادل بني أيدي املغامرين؛ فال يبقى منها إال العظام وهي رميم‪ .‬وهو ما حدث‬ ‫َّ‬ ‫األمراض‪ .‬ويف النهاية‬
‫للعراق تدرجيي ًا من التنقل بني مناخ االستبداد َّ‬
‫ثم االحتالل األمريكي وقوى اإلرهاب الداخل َّية واخلارج َّية‪ .‬واألمم متوت كام يموت‬
‫ولكل أ َّمة أجل فإذا جاء أجلهم ال يسـتأخرون ساعة وال يستقدمون‪ .‬ويف النهاية يتحلل اجلسم فيبتلع يف بطن قوة أخرى‪ ،‬مثل‬ ‫ِّ‬ ‫األفراد‪،‬‬
‫قرد غافل يف أحشاء أفعى األناكوندا‪ ،‬كام حدث مع روما التي ابتلعت املجتمع القرطاجي والغايل‪ .‬وهذا املصري ليس للعراق بل ِّ‬
‫لكل‬
‫األنظمة الشمول َّية التي تقتل األ َّمة واحلياة قتالً‪.‬‬

‫واأل َّمة التي تُبتىل بـ (االستبداد) غري التي تعاين من (االحتالل)‪ ،‬فالثاين (واضح) و(مؤمل) و(عالجه سهل) كام يف التهاب اجللد‬
‫اخلارجي‪ ،‬أ َّما (االستبداد)‪ ،‬فهو مثل الرسطان (غري مؤمل) و(غامض) و(ينترش) بخبث وعالجه معقد وأحيان ًا ميئوس منه‪ .‬ويف االحتالل‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪118‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫جدل َّية العدالة والديمقراط َّية‬

‫تؤدي التنمية إىل التقدم العلمي والتقني‬ ‫توجد أ َّمة مهانة ولكن موجودة‪ .‬أ َّما االستبداد فهو اإلعالن‬
‫والطبي واالجتامعي‪ ،‬ولكنها تؤدي أيض ًا إىل‬ ‫(اخلفي وغري املبارش) عن هناية األ َّمة وموهتا‪.‬‬

‫ختريب وهدم الوسط البيئي والثقايف‪ ،‬وإىل‬


‫وصدَّ ام املصدوم اختفى من مرسح األحداث‪ ،‬وانتقل إىل ملف‬
‫أشكال جديدة من التفاوت واالستعباد التي‬ ‫األموات يف التاريخ‪ ،‬ولكنَّه يشبه الرسطان الذي استؤصل‪ ،‬وبقيت‬
‫إن التنمية التي‬‫حلت حمل االستعباد القديم‪ّ .‬‬ ‫يفس تر ّدي العراق من‬ ‫االنتشارات الورم َّية يف ّ‬
‫كل نسيج‪ ،‬وهو ما ِّ‬
‫أطلقت العلم والتقنية قد ضمنتها هتديد ًا ينذر‬ ‫الترصف كام فعل‬ ‫ُّ‬ ‫التفسخ‪ .‬وكان بإمكان العراقيني‬
‫ُّ‬ ‫الفوىض إىل‬
‫اليابانيون واألملان يف احلرب العامل َّية الثانية فقد عادوا لبناء بلدهم‬
‫بالفناء واإلبادة (احلروب النووية واملشكالت‬
‫من جديد‪ .‬ولك َّن املشكلة يف عمقها سيكولوج َّية‪ .‬فـ(القابل َّية)‬
‫البيئية)‪ ،‬وبسلطة قادرة عىل التالعب‪.‬‬ ‫لالستعامر واالستبداد واالحتالل كلها مرتادفات لفقد (القدرة‬
‫عىل تقرير املصري) بتعبري (أوسفالد شبنجلر) الفيلسوف واملؤرخ‬
‫أن ما سوف حيافظ عىل متاسك اجلثة العراقية (حمنَّطة) يف َّبراد التاريخ‪ ،‬كام كان يفعل كهنة آمون يف حتنيط الفراعنة‪ ،‬هو‬ ‫األملاين‪ .‬ويبدو َّ‬
‫الوجود األمريكي بسبب (البرتول)‪ ،‬فهو باحتياطي خرايف يصل إىل ‪ 250‬مليار برميل‪ ،‬ومن النوع اجليد‪ ،‬وينبع بحفر أمتار يف األرض‪،‬‬
‫وبكلفة استخراج دوالر للربميل الواحد مقابل ‪ 15‬دوالر ًا لنفط بحر الشامل أو عرشة يف رمال الربتا يف كندا؟ ويمتدُّ من حقل جمنون يف‬
‫اجلنوب إىل كركوك يف الشامل يف ‪ 1832‬حقالً؟‬

‫ول َفهم ما جيري يف العراق فال بدَّ من االستعانة بحزمة من (العلوم اإلنسان َّية) املساعدة‪ ،‬مثل علوم االجتامع والنفس والتاريخ‪.‬‬
‫أن العراق مبتىل بثالثة أمراض ـ كام أسلفنا ـ‬ ‫وليس مثل العراقيني يف معرفة العراق‪ .‬و(عيل الوردي) عامل االجتامع العراقي رأى َّ‬
‫كل واحد كارثة بحدّ ذاهتا وهي‪( :‬رصاع البداوة واحلضارة) و(التناشز االجتامعي) و(ازدواج الشخص َّية)‪ .‬ويقول عن هذه املصائب‬
‫َّإنا ليست من بنات أفكاره بل استفادها من علامء اجتامع آخرين؛ ففكرة (البداوة واحلضارة) جاءته من (ابن خلدون)‪ ،‬وفكرة‬
‫(ازدواج الشخص َّية) استفادها من (مك كايفر)‪ ،‬والثالثة من (أوكربن)‪ .‬وذكر أنَّه قام بيشء من التعديل فيها لتتطابق مع املجتمع‬
‫العراقي‪ .‬ولفهم هذه األفكار الثالث كمدخل لفهم املجتمع العراقي‪ ،‬علينا مراجعة موسوعة الوردي (ملحات اجتامع َّية من تاريخ‬
‫يمر هبا العراق‪ ،‬وكذلك مذكرات‬ ‫العراق احلديث)‪ .‬وهو كتاب ضخم يف ستة أجزاء ُينصح بقراءته يف هذه الظروف العاصفة التي ُّ‬
‫(نوري السعيد)‪ ،‬أو ما تركته (مس بيل) التي شاركت مع االحتالل الربيطاين يف توجيه د ّفة احلكم‪ .‬ومفاتيح من هذا النوع تنفع يف‬
‫إضاءة خلف َّية األحداث (الثقاف َّية) وجذورها العميقة‪ .‬فالعراق فيه ألف ملة ونحلة وعرشات اللغات واملذاهب واألعراق واألديان‬
‫بمن فيهم من يعبد الشيطان الرجيم! ومن أراد فهم ما حيدث يف العراق من باب السياسة كان كمن يستدبر املغرب وهو يطلبه‪.‬‬
‫وأمه َّية ما حيدث وسيحدث يف العراق أنَّه سيرتك بصامته عىل املنطقة‪ .‬ولذا كان من مصلحة األنظمة الشمول َّية املتخشبة يف املنطقة العرب َّية‬
‫كل شعب عىل السالمة وهيتف بحياة القائد إىل‬ ‫بكل املقاييس‪ ،‬لكي حيمد اهلل ُّ‬
‫أن ترى يف التجربة العراق َّية ـ ويلحقها السور َّية ـ كارثة ّ‬
‫األبد‪.‬‬

‫والتعويضات الليب َّية كانت ‪ 33‬مليون دوالر لألملان‪ ،‬و‪ 170‬مليون دوالر للفرنسيني‪ ،‬و‪ 2,7‬مليار دوالر لألمريكيني‪ ،‬وهي توحي‬
‫الضعف الذي بلغه العرب‪ .‬دفعها القذايف كام جاء يف حمكم التنزيل عن دفع اجلزية عن يد وهم صاغرون‪.‬‬‫بمدى َّ‬

‫منوعة حلقيقة واحدة مثل أوجه اهلرم االجتامعي‪ .‬ويرى َّ‬


‫أن‬ ‫أن األمراض الثالثة مرتابطة ومتداخلة وتشكّل أوجه ًا َّ‬‫ويرى (الوردي) َّ‬
‫َّ‬
‫واختل نظام‬ ‫(البداوة) تركت بصامهتا عىل العراق لفرتة تزيد عىل ستة قرون بعد اهنيار الدولة العباس َّية‪ ،‬ومعها اهنارت سلطة الدولة‬
‫األمن وتتابعت الفيضانات واألوبئة واملجاعات واحلروب واملذابح‪ ،‬ممَّا جعل احلضارة «تذوي يف العراق وتستفحل القيم البدو َّية» من‬

‫‪119‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫خالص جلبي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫«العصب َّية والغزو والثأر والدخالة والتسيار وغسل العار وما شابه»‪َّ .‬‬
‫ولعل االنقالب البعثي (يف سوريا والعراق) محل قيم الريف إىل‬
‫املدينة (فرت َّيفت املدينة)‪ ،‬ومحلت معها َّ‬
‫كل الرتاجع يف قيم احلضارة‪.‬‬

‫وهذه القيم عميقة يف (الالشعور)‪ ،‬ومل يتفلت منها حتى أبناء املدن‪ ،‬حيث تسيطر نزعة « (الفرهود) و(الغزو) أقوى من نزعة العمل‬
‫واإلنتاج»‪ .‬فالبائع يو ُّد أن «يغلب الزبون بدالً من أن يداريه عىل طريقة أهل احلضارة»‪ .‬ومنه كثرت املشاجرات بني البائع واملشرتي‬
‫والعامل وصاحب العمل‪ .‬والويل ملن يريد أن يبني بيت ًا «فإنَّه سوف حياط بعدد كبري يريد ُّ‬
‫كل واحد منهم انتهاز الفرصة لغبنه والتدليس‬
‫عليه»‪.‬‬

‫وأنا شخصي ًا يل جتربة مريرة يف هذا‪ ،‬حني بنيت بيت ًا لألحالم والتقاعد يف اجلوالن السوري قبل أن تنسفه دبابات بشار الربامييل‪ ،‬ولست‬
‫الوحيد!‬

‫وعندما استعرض (الوردي) ظاهرة (التناشز االجتامعي)‪ ،‬قال إنَّه أحىص منها أربعة عرش نوع ًا‪ ،‬ثم ذكر أربعة منها بالتفصيل هي‪:‬‬
‫تناشز (احلقوق والواجبات)‪ ،‬و(املدارس والوظائف)‪ ،‬و(املرأة والرجل)‪ ،‬و(الدين واجليل اجلديد)‪ .‬وهو يقصد هبذا املصطلح (التناشز)‬
‫التناقض بني جمموعتني من القيم‪ .‬فالعراقي (وينطبق عىل كثري من العرب) يريد أن تكون عنده حكومة مثل (السويد)‪ ،‬ولكن ليس عنده‬
‫أن احلكومة عدوة له جيب تدمريها‪ ،‬ويظهر هذا يف مظاهر شتى؛ كام يف تكسري‬ ‫استعداد الطاعة هلا وااللتزام بالقوانني‪ ،‬بل يرى الفرد َّ‬
‫مصابيح الشوارع‪ ،‬أو اخلروج عن صف االنتظار‪ ،‬أو تدمري املرافق العامة يف املظاهرات‪ ،‬أو هنب الوزارات مع االهنيار البعثي يف بغداد‪،‬‬
‫تنج سوى السباع يف أقفاصها بأنياهبا‪.‬‬
‫فلم ُ‬

‫والوردي يعزو حصول هذا التناقض االجتامعي إىل الظاهرة التي حتدث عنها (ألفني توفلر) يف كتابه (صدمة املستقبل)‪َّ ،‬‬
‫بأن التقدم‬
‫احلضاري الرسيع قد حرم من التكيف‪ .‬وقال إنَّه يف عام ‪ 1908‬حني وصلت إىل بغداد َّأول سيارة‪ ،‬خرج أهل بغداد عن بكرة أبيهم‬
‫يتصوروا عربة تسري‬
‫َّ‬ ‫لرؤيتها‪ .‬وأخذ الكثريون منهم ينظرون حتت السيارة «ليكتشفوا قوائم احلصان املختفي يف بطنها‪ ،‬فهم مل يستطيعوا أن‬
‫«بس عىل املوت ما يقدرون!»‪.‬‬‫مرة صاحت‪ْ :‬‬ ‫ألول َّ‬
‫شاهدت عجوز من أهل الكرخ الرتام َّ‬
‫ْ‬ ‫جيرها»‪ .‬وحني‬
‫من غري حيوان ُّ‬

‫كل حاجز بني املعقول وغري‬ ‫أن اإلفرنج اخرتعوا عربة تطري يف اهلواء فكان ذلك آخر ما حتتمله عقوهلم؟ «واهنار ُّ‬
‫وبعد قليل سمعوا َّ‬
‫كل عربة ال تطري‪ .‬وعربة حديد ال تطري‪ .‬إذ ال يمكن أن يطري احلديد يف اهلواء‪ ،‬إذ ًا‬ ‫وتكس املنطق األرسطاطايل الذي يقول ُّ‬
‫َّ‬ ‫املعقول»‬
‫الطائرة خرافة!‬

‫وكل صاحب نِحلة مقتنع بيقني‬ ‫واملنطق األرسطاطايل القديم قد يصلح للجدل‪ ،‬ولكنَّه ال يصلح الكتشاف احلقائق أو التث ُّبت منها‪ُّ .‬‬
‫بصحة مذهبه‪ ،‬ومستعد لقتل املختلف عنه‪ ،‬ولو نشأ يف طائفة أخرى لوصل إىل القناعة نفسها‪ ،‬وهذا يروي أثر الربجمة العقل َّية يف املجتمع‪.‬‬
‫َّ‬

‫رأى الناس يوم ًا جحا متَّشح ًا بالسواد‪ ،‬قالوا‪ :‬لع َّله خري‪ ،‬ما املصاب؟ قال‪ :‬فقدت عزيز ًا‪ .‬قالوا‪ :‬من هو؟ قال‪ :‬مات والد ابني!‬

‫أن احلضارة ثالثة عنارص‪ :‬اإلنسان والرتاب والوقت‪ ،‬ومن تفاعلها املنظم تنبثق احلضارة‪ .‬ومن يتوقع من‬ ‫واعترب مالك بن نبي َّ‬
‫اإلنسان العراقي احرتام الوقت هيذي‪ .‬وتضارب روح الوساطة مع املساواة مشكلة‪ ،‬وهي من سامت املجتمع املدين‪ ،‬واملجتمع القبيل‬
‫بالقوة أكثر من العدالة‪ ،‬فتنترش عبارات (سبع) و(حسن كربيت)‬
‫ينمي روح الثأر والدخالة والعنرت َّية وعدم احرتام الوقت‪ ،‬واإليامن َّ‬
‫ِّ‬
‫و(عنرت)‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪120‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫جدل َّية العدالة والديمقراط َّية‬

‫وهي معوقات ليست قليلة يف بنية العقل َّية العرب َّية‪ ،‬واملعاناة منها ليس مثل رشحها عىل الورق‪ ،‬كام فعل العراقيون يوم ًا حني استقدمهم‬
‫بوش قبل غزو العراق ألخذ رأهيم عن املجتمع العراقي‪ ،‬فهؤالء ز َّينوا له األمر‪.‬‬

‫و(بوش) رجل ال يشفع له تارخيه‪ ،‬أنَّه كان من األذكياء النجباء‪ ،‬فقد خترج يف جامعة (ييل) بدرجة وسطى‪ ،‬وكان مدمن ًا عىل الكحول‪،‬‬
‫أن نصف نورونات الدماغ قد احرتقت‪.‬‬ ‫حتى س ّن األربعني‪ ،‬وهذا يعني من الناحية الطب َّية َّ‬

‫ومأساة اجلنس البرشي كانت كبرية يف هذا الرجل األبيض‪ ،‬ومل تكن أفضل بكثري مع األسود أوباما األشبه ِ‬
‫بالعنّني‪ .‬وسوف خيلد اسم‬
‫األول أنَّه من ش َّن احلرب عىل الناس‪ ،‬والثاين مشارك يف جريمة دم السوريني والعراقيني واليمنيني والليبيني عىل حدٍّ سواء‪.‬‬

‫أن األوهام كثرية‪ ،‬والغلط فيها ليس كمن يرى منام ًا فيستيقظ فزع ًا‪ ،‬وحيمد اهلل أنَّه كان يف املنام‪.‬‬
‫واخلالصة َّ‬

‫كل من سار يف درب فرعون‪ .‬يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد املورود‪ ،‬وأتبعوا يف هذه الدنيا‬‫وهو ما سيحدث مع ّ‬
‫لعنة ويوم القيامة هم من املقبوحني‪.‬‬

‫من الديكتاتور َّية إلى الديمقراط َّية بالطرق السلم َّية‬


‫أن َّ‬
‫اللعنف هو الرتياق للتغيري االجتامعي‪ ،‬وهو الطريق االقتصاد َّية‬ ‫لر َّبام اقتنع اجلميع‪ ،‬يساريون وإدارة أمريكية‪ ،‬عرب وعجم‪َّ ،‬‬
‫لعواقب أفضل‪ .‬ظهر هذا واضح ًا يف عنوان غالف جملة الشبيجل األملان َّية العدد ‪« 2005\46‬مواريث غاندي وغيفارا (‪Die Erben von‬‬
‫‪ ،) Gandhi und Guevara‬وحتتها بعنوان فرعي «ثوار أوروبا السالميون( ‪.»)Europas friedliche Revolutionare‬‬

‫وأذكر جيد ًا حني رافق يف الوقت نفسه لظهور هذا العدد اجتامع حشد من املفكرين والعسكريني‪ ،‬منهم كثري من اليساريني‪ ،‬يف مؤمتر‬
‫حيمل اسم حمور السالم يف بروكسل (‪ )Axis-for-Peace‬انعقد يف ‪ 17‬و ‪ 18‬نوفمرب ‪ ، 2005‬وقد ُدعيت أنا شخصي ًا للمشاركة يف هذا‬
‫مرة‪ .‬ونحن حالي ًا نسعى‬ ‫بتوجهنا وحركتنا عاملي ًا َّ‬
‫ألول َّ‬ ‫فتم االعرتاف ُّ‬‫أهم رموز الدعوة الالعنف َّية يف العامل العريب؛ َّ‬
‫املؤمتر‪ ،‬باعتباري من ّ‬
‫لتسجيلها يف فرنسا باسم اإلينوفيم (‪ ،)European – non violence- Movement = E-NO-VI-M‬يف ضوء حوادث العنف التي‬
‫طالت أحياء الفقراء من شامل أفريقيا واملهاجرين يف ضواحي باريس‪ ،‬وكذلك أحداث نوفمرب من عام ‪2015‬م‪ ،‬فهو وقتها كام قلت ذلك‬
‫عىل اهلواء يف إذاعة أوريون (الرشق) يف باريس‪ ،‬ويف هذا العدد‪ ،‬فيه من املعلومات املثرية ما أقرتح عىل جملة «يتفكَّرون» ترمجته بالكامل‪،‬‬
‫أن اإلدارة األمريك َّية استوعبت أخري ًا َّ‬
‫أن‬ ‫مهيته يف تعميم اللقاحات ضدَّ وباء العنف عندنا‪ ،‬ويف فهم آليات التغيري االجتامعي؛ فقد ورد َّ‬
‫أل ّ‬
‫التغيري السيايس ال بدَّ له من تغيري اجتامعي ثقايف‪ ،‬فأنشأت مؤسسات لذلك‪.‬‬

‫سمتها املجلة (مشاعل احلر َّية ‪ )Fackeln der Freiheit‬تسعى لتنشيط‬ ‫أن هناك ما ال ُّ‬
‫يقل عن مخس مؤسسات أمريك َّية‪َّ ،‬‬ ‫وجاء يف العدد َّ‬
‫اآلل َّيات الديموقراط َّية يف العامل‪ ،‬وهي مؤسسات خليط من عمل شخيص وحكومي؛ ومنها‪:‬‬

‫مؤسستا امللياردير اهلنغاري سوروس (مؤسسة سوروس ومعهد املجتمع املفتوح ‪Soros Foundation and open Society‬‬
‫‪َّ .1‬‬
‫تأسستا يف عامي ‪1984‬م و‪1993‬م‪.‬‬
‫‪ ،)Institute‬وقد َّ‬

‫أن الفكر‬ ‫أسسته (إيلينور ‪ )Eleanor‬زوجة الرئيس روزفلت عام ‪1941‬م ملعرفتها َ‬ ‫‪ .2‬مؤسسة (بيت احلر َّية ‪ )Freedom House‬الذي َّ‬
‫النازي ال يكفي فيه املواجهة العسكر َّية بل املعاجلة الفكر َّية‪ ،‬فكام تعالج اجلراثيم بالصا َّدات احليو َّية‪ ،‬كذلك احلال يف األمراض االجتامع َّية‬

‫‪121‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫خالص جلبي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫التي تنترش بـ (وحدات) من األفكار‪ ،‬كام تنترش األمراض بـ (وحدات) من الباكترييا والفريوسات‪.‬‬

‫تأسس عام ‪ 1984‬عىل يد احلزب الديمقراطي‬


‫‪( .3‬املعهد الوطني الديمقراطي ‪ )NDI = National Democratic Institute‬الذي َّ‬
‫ومركزه واشنطن‪.‬‬

‫أسسه اجلمهوريون عام ‪1983‬م ومركزه‬ ‫‪( .4‬املعهد الدويل اجلمهوري ‪ )IRI = International Republican Institute‬الذي َّ‬
‫واشنطن‪ .‬ونالحظ تقارب وقت نشوء هذه املؤسسات إلدراك اإلدارة األمريك َّية أنَّه وقت املعلومات والفكر للتغيري الديمقراطي يف‬
‫العامل‪ ،‬وحماولة االستفادة من رياح التغيري العاملي لطرفها‪ ،‬والعاقل من ه َّيأ نفسه للشتاء بحطب ودثار‪ ،‬والويل ملن دخل شتاء سيربيا‬
‫كل االحرتام ألفريقيا واألفريقيني‪ ،‬فاحلديث عن اللباس واملناخ‪.‬‬‫بجالب َّية أفريقية‪ ،‬مع ّ‬

‫تأسس عام ‪ ،1983‬ومركزه‬


‫‪( .5‬معهد األوقاف الوطني للديمقراط َّية ‪ )NED = National Endowment for Democracy‬وقد َّ‬
‫ومموله الرئييس اخلارج َّية األمريك َّية‪.‬‬
‫واشنطن ّ‬

‫املؤسسات ودوائر االستخبارات األمريك َّية‪ ،‬كام يف بيت احلر َّية (‪ )FH‬الذي رئسه (جيمس‬ ‫أن هناك تقاطع ًا بني هذه َّ‬‫وهذا ال يعني َّ‬
‫وولزي ‪ )James Woolsey‬رئيس االستخبارات األمريك َّية األسبق عام ‪2003‬م‪ ،‬ثم فرغ مكانه آلخر‪ ،‬حرص ًا من املؤسسة عىل أن يبقى‬
‫اسمها بعيد ًا عن الشبهة‪ .‬وال (املعهد الوطني الديمقراطي ‪ )NDI‬الذي ترأسه (مادلني أولربايت) وزيرة اخلارج َّية األمريك َّية سابق ًا‪،‬‬
‫التحرر السلم َّية كام يف (األوتبور ‪ )Otpor‬الرصب َّية و(كامرا ‪ )Kmara‬اجلورج َّية‪ ،‬وبورا (‪ )PORA‬األوكران َّية‪ ،‬وحركة‬ ‫ُّ‬ ‫ولك َّن حركات‬
‫(يوخ ‪ )Joch‬يف آذربيجان وتعني (كال)‪ ،‬أو جمموعة السوبري (‪ )Suber‬حلركة الفيسنت (‪ )Wisent‬يف روسيا البيضاء‪ ،‬تبقى يف مكان‬
‫أن التغيري السلمي يبقى أفضل‬ ‫بني بني‪ ،‬بني االستفادة من خربات املعاهد‪ ،‬والنأي عن سياسة البنتاغون وغزوات احلروب‪ ،‬فقد ظهر َّ‬
‫املهمشة مثل‬
‫وأقل كلفة‪ .‬والعدل أرخص من الظلم بكل املقاييس‪ .‬ظهر هذا يف حوادث العنف التي انطلقت من ضواحي باريس َّ‬ ‫وأرحم َّ‬
‫(كلييش سو بوا ‪ )Clichy sous Bois‬التي زرهتا أنا شخصي ًا‪ ،‬ورأيت آثار دمار احلريق اإلنساين‪.‬‬

‫وكذلك أحداث نوفمرب ‪ 2015‬بملهى يف باريس التي راح ضحيتها رقم خميف من الضحايا‪ .‬وهذه املؤسسات ناشطة جد ًا كام يف‬
‫مؤسسة (بيت احلر َّية) الواقع يف دوار دوبونت (‪ )Dupont Circle‬يف واشنطن حوايل ‪ 2‬كم عن البيت األبيض‪ ،‬الذي تقول رئيسته (باوال‬
‫رشيفر ‪ Paula Schriefer‬بعمر ‪ ،)36‬وربام تغريت مع كتابة مجلنا هذه‪ ،‬تقول‪:‬‬

‫القوة يف املجتمع‬
‫تسميه (الطريق الثاين ‪ )Second Road The‬الذي خيترص هبذه اجلملة «تغيري مالمح َّ‬ ‫َّ‬
‫إن اسرتاتيج َّية املعهد تعتمد ما ّ‬
‫من الداخل‪ ،‬ووالدة جمتمع مدنيني‪ ،‬ومدّ ه بالدعم اللوجستي»‪.‬‬

‫يغيوا ما بأنفسهم»‪ ،‬فهذا هو قانون التاريخ‪.‬‬ ‫غي ما بقوم حتى ّ‬ ‫إن السيدة (رشيفر) تنطق باآلية القرآن َّية بدون مصحف‪َّ :‬‬
‫«إن اهلل ال ُي ّ‬ ‫َّ‬
‫(القوة الناعمة ‪ )Soft Power‬نطقتها (كوندوليسا رايس) بشكل سيايس يف القاهرة يف يونيو ‪2005‬م‪ ،‬فقالت‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫املهمة عن‬
‫وهذه اخلالصة َّ‬
‫«خالل الستني سنة الفائتة كنَّا هندف إىل االستقرار يف املنطقة مع إمهال الديمقراط َّية‪ ،‬وما وصلنا إليه مل يكن ال الديمقراط َّية وال استقرار‬
‫املنطقة‪ .‬واآلن سوف نحاول امليش يف طريق ثانية»‪.‬‬

‫التصورات ليس أمام مرشفة الربامج (باوال رشيفر) سوى أن تضحك من خياالت وخيارات السياسيني كام فكَّر يوم ًا‬ ‫ُّ‬ ‫وحول هذه‬
‫بوش ورمسفيلد بالتلويح باهلراوة العسكر َّية للتمكني للديمقراط َّية بزعمهم‪ ،‬فتقول‪« :‬نحن لسنا موظفني نن ّفذ تعليامت رس َّية‪ ،‬ولسنا‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪122‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫جدل َّية العدالة والديمقراط َّية‬

‫إذا كانت األطامع والسعي املحموم إىل الربح‬ ‫أوصياء بفرض الديمقراط َّية عىل أحد»‪ ،‬قالتها بمرح بعد عودهتا‬
‫والكسب والالتفاهم‪ ،‬باختصار‪ ،‬املالمح‬ ‫من دورة يف رصبيا‪ ،‬لتوسيع مفاهيم الديمقراط َّية يف العامل‪« :‬إنَّنا‬
‫نع ّلم الناس كيف تعمل الديمقراط َّية‪ ،‬ونوثق لعملنا أين تفقد؟‬
‫األكثر اضطراب ًا و(مرضية)‪ ،‬وإذا كان من‬
‫وكيف يستطيع املرء تشجيعها؟» وهذا املعهد له فرع يف بودابست‪،‬‬
‫غري املمكن اقتالع بربرية ورذائل الكائن‬ ‫وهو مهتم جد ًا من هناك بمدّ أجنحة الديمقراط َّية حتى بحر‬
‫اإلنساين‪ ،‬فإنه من املمكن عىل األقل ضبطها‪.‬‬ ‫قزوين وآسيا الوسطى والرشق األوسط‪ ،‬فالقوم يف يقظة خي ّططون‬
‫إن املطلوب ليس إصالح الفكر فقط‪،‬‬ ‫هلذا ّ‬ ‫للعامل‪ ،‬ونحن نيام‪.‬‬

‫إصالح الكائن اإلنساين نفسه‪.‬‬ ‫وجرت ُسنَّة اهلل َّ‬


‫أن األرض يرثها عباده الصاحلون‪.‬‬

‫أ َّما مساعدة السيدة رشيفر السيدة (جينيفر ويندسور ‪ ،)Jennifer Windsor‬والحظ العنرص النسائي الناعم يف احلركة‪ ،‬فتلخص‬
‫املوضوع بشكل آخر‪« :‬محالت واسعة بأسس مدن َّية‪ ،‬هلا مستقبل لتحقيق نتائج ديمقراط َّية أفضل من التدخل العسكري‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن‬
‫تكاليفها األرخص»‪.‬‬

‫بجو البورصات من كثافة االتصاالت‪ ،‬وعىل اجلدار بدالً من‬


‫وجو حمموم ُيذكِّر ّ‬ ‫كل العامل‪ٌّ ،‬‬ ‫تتكوم النرشات والرسائل من ّ‬ ‫ويف املعهد َّ‬
‫كل العامل بثالثة ألوان‪ :‬أخرض وأصفر وبنفسجي؛ هي‬ ‫تبدالت أسعار العمالت واضطراب سعر األسهم والسندات‪ ،‬توجد خارطة ّ‬
‫(خارطة احلر َّيات)‪ ،‬عليها مسامري بألوان خمتلفة عن تقدُّ م الديموقراط َّية يف العامل‪ ،‬ونشاط املنظمة‪ ،‬وأين وصلت‪.‬‬

‫فأ َّما األخرض فهو جنان بالد احلر َّيات مثل أوروبا وكندا‪ ،‬وأ َّما البنفسجي فحيث يعشش غربان الديكتاتوريات‪ ،‬وتنتهك‬
‫حريات اإلنسان‪ ،‬بأنظمة مل ُترت من شعوهبا بحر َّية‪ ،‬ومنها قسم من عاملنا العريب املنكوب املنكود‪ ،‬أ َّما األصفر فهو األنظمة اآليلة‬
‫للسقوط‪.‬‬

‫احلرة سوى ‪ 41‬وهي اليوم ‪ ،89‬ومن‬


‫وإذا سمح اإلنسان لنفسه باالعتقاد بمؤرش املعهد فهو يقول‪ :‬يف عام ‪ 1974‬مل يكن من الدول َّ‬
‫الضاد ال‬
‫يتبق منها سوى ثامين دول اليوم‪ ،‬والعديد منها يف عامل العروبة‪ ،‬حيث لغة َّ‬
‫أفظع ما بقي منها حتى قبل عرش سنوات ‪ ،21‬ومل َ‬
‫جتمعنا‪ ،‬والصالة ال تنجينا من عبادة األصنام احل َّية وامليتة‪.‬‬

‫مع هذا فاأللوان تتبدَّ ل أحيان ًا من األصفر إىل البنفسجي‪ ،‬كام يف حالة روسيا‪ .‬فمخطط التاريخ أحيان ًا ينكّس عىل رأسه‪ ،‬كام يف‬
‫مجهوريات العروبة‪ ،‬التي حتولت إىل ملكيات عكس حمور التاريخ وخمطط الزمن التقدُّ مي‪ ،‬فالتقدم َّية هي يف خياالتنا وليست يف الواقع‪.‬‬

‫أن الزبد يذهب جفاء َّ‬


‫وأن ما ينفع الناس يمكث يف األرض‪ ،‬كذلك يرضب اهلل األمثال‪.‬‬ ‫وخري ما ينهى به الكالم قانون التاريخ‪َّ ،‬‬

‫ويف يوم انطلق البنتاغون بمرشوع اإلنرتنت وصواريخ الفضاء‪ ،‬ونحن اليوم نرسل مقاالتنا عرب اإلنرتنت ونتمتع بربنامج الديسكفري‬
‫العلمي بحامقات العسكريني وخدماهتم التي مل يكونوا يقصدوهنا‪ .‬فهذه هي عظة التاريخ‪.‬‬

‫من كان له أذنان للسمع فليسمع‪ ...‬وعينان فليقرأ‪ ...‬أ َّما عنف ما بعد الثورة يف ليبيا وانزالق الثورة يف سوريا إىل العنف فسوف يظهر‬
‫رجاحة ما نقول سلب ًا وإجياب ًا‪.‬‬

‫‪123‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫خالص جلبي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫من كان له أذنان للسمع فليسمع‪ ...‬وعينان فليقرأ‪...‬‬

‫أحيان ًا تكون الديمقراط َّية خرافة كبرية‬

‫مع ذلك قد تكون الديمقراط َّية خرافة‪ ،‬فليس هناك من موضة رائجة هذه األيام أكثر من كلمة الديمقراط َّية‪ ،‬وليس هناك من كلمة‬
‫أشدّ غموض ًا منها‪.‬‬

‫قارة بعيدة‪ .‬ويف يوم‬


‫وكام ذكرنا عن (فاطمة املرنييس) من املغرب َّأنا حينام حتدثت جلدَّ هتا عن الديمقراط َّية ظنتها منطقة جغراف َّية يف َّ‬
‫كانت ابنتي تركب حافلة عموم َّية يف اجلوالن السوري‪ ،‬وقد ُغ ّطيت معظم نوافذ احلافلة بصور الرئيس؛ فلم يعد يرى أحد شيئ ًا سوى‬
‫كل مواطن‪،‬‬ ‫لكل قوانني املرور يف العامل‪ ،‬وخماطرة بحياة ّ‬
‫مالمح وجهه السن َّية‪ ،‬من أنف كاخلرطوم‪ ،‬وعني جاحظة‪ ،‬وجبهة ناتئة‪ ،‬يف خمالفة ّ‬
‫يف بلد مل يعد فيه مواطن!‬

‫فسألتها من بجانبها من أ َّية قرية أنت؟ قالت جئت من كندا؟ قالت نعم ‪ ...‬نعم أعرف (تنكة)‪ .‬والتنكة باللهجة السور َّية‪ ،‬وعاء من‬
‫الصفيح حلفظ اجلبن‪...‬‬

‫والديمقراط َّية يف الغابة البعث َّية هي هكذا بفارق كندا وتنكا‪ .‬والغابة البعث َّية قطعة من سفاري عرب َّية كاملة‪...‬‬

‫َّ‬
‫وألن العرب‬ ‫تكذبان؟‪...‬‬ ‫فبأي آالء ر َّبكام ّ‬
‫مثل موسيقى فريد األطرش‪ ،‬املنترشة من القنيطرة إىل القنيطرة‪ ،‬بني املرشقني واملغربني‪ِّ ...‬‬
‫واق ثقايف‪ ،‬بدون حطب ومعطف‪ ،‬فهم جاهزون للبس‬ ‫أي ٍ‬‫يرضب مفاصلهم زمهرير قاتل من شتاء الثقافة‪ ،‬وهم يعيشون شبه عراة‪ ،‬من ّ‬
‫بأي لون ومقاس‪ .‬وعندما أصدر (مصطفى السباعي)‬ ‫أي موضة إيديولوج َّية‪ّ ،‬‬‫بأي نار يورون‪ ،‬واتباع ّ‬ ‫أي قامش فكري‪ ،‬واالستدفاء ّ‬ ‫ّ‬
‫الفارين العرب إىل (كندا)‪ ،‬يؤ ُّدون القسم عىل الديمقراط َّية الربيطان َّية‪ ،‬للملكة‬
‫كتابه عن (اشرتاك َّية اإلسالم) ُوسم باهلرطقة‪ .‬والكثري من ّ‬
‫إليزابيث الثانية‪ ،‬وهم يلعنون ديمقراط َّية الكفر هذه يف قلوهبم‪.‬‬

‫كل القارات‪ ،‬ترجوهم أن يضعوا تعريف ًا للديمقراط َّية‪ ،‬فوصلها أكثر‬ ‫ويف يوم أرسلت منظمة اليونسكو إىل أكثر من مائة عامل‪ ،‬من ّ‬
‫إن اجلدل حول‬ ‫أن عامل االجتامع اإليطايل (سارتوري جيوفاين) قال عنها‪َّ :‬‬ ‫من مائة تعريف‪ .‬وكانت هذه التعريفات متناقضة‪ ،‬إىل درجة َّ‬
‫وبمجرد أن جلس عىل العرش السلطاين زعيم ثوري يف بلد عريب‪ُ ،‬ضغط له‬ ‫َّ‬ ‫الديمقراط َّية عقيم لغوي ًا‪ ،‬ألنَّنا ال ندري حول ماذا نتكلم؟‬
‫مدربة عىل التزوير والتلفيق‪ ،‬قال‪َّ :‬‬
‫إن الديمقراط َّية الغرب َّية ال تناسبنا؟ فعن أ َّية ديمقراط َّية‬ ‫منظمة َّ‬
‫َّ‬ ‫الدستور ضغط ًا عىل املقاس‪ ،‬من عصابة‬
‫كل يشء؛ من الربملان إىل مساحيق التجميل‪ ،‬ومن السيارات إىل أدوات الفلق والتعذيب بالكهرباء‪.‬‬ ‫يتحدث إذن؟؟؟ مع أنَّه يستورد َّ‬

‫ووصف هتلر نظامه السيايس بأنَّه نموذج الديمقراط َّية‪ ،‬واألمثل من االشرتاك َّية‪ ،‬وسيبقى الرايخ الثالث ألف سنة‪ ،‬فبقي ‪ 13‬سنة فقط‪،‬‬
‫وارتاح األملان‪ ،‬أ َّما نحن فيبدو أنَّنا سوف نعارص والدة القيرص (كزبرة) بعد أربعني سنة بعد ابنه (حيدرة)‪ .‬ويزعم بشار الربامييل أنَّه‬
‫سيحكم حتى عام ‪2021‬م‪ ،‬أ َّما غالمه حافظ الثاين فيسيل لعابه منذ اآلن خلالفة والده الكياموي‪.‬‬

‫واألنظمة الثور َّية يف بالد العروبة تعترب نفسها نموذج ًا رائع ًا لتحقيق الديمقراط َّية‪ ،‬والسجون واملعتقالت ملدة عرشين سنة‪،‬‬
‫وصحة للمقاومة‪ ،‬وهبذا تصبح كندا‬ ‫َّ‬ ‫مصحات ترفيه َّية للتهذيب الثوري الديمقراطي‪ ،‬ودليل عافية‬
‫َّ‬ ‫عراهبم الفكري‪ ،‬هي‬
‫حسب َّ‬
‫وأملانيا مناطق متخلفة لعدم امتالء املعتقالت‪ .‬ووصف (موسوليني) نظامه الفايش بأنَّه ديمقراط َّية شمول َّية مركز َّية من َّظمة‪ ،‬متام ًا‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪124‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫جدل َّية العدالة والديمقراط َّية‬

‫مثل النظام الفايش البعثي‪ .‬ويعترب (جان جاك روسو) َّ‬


‫أن الديمقراط َّية ال تصلح لبني البرش‪ ،‬وإن صلحت فقد تصلح لشعب من‬
‫اآلهلة‪.‬‬

‫الركَّع‪ ،‬وكان‬ ‫ويف ديمقراط َّية (أثينا) كان من ينتخب الرجال الفحول فقط‪ ،‬دون النساء القارصات‪ ،‬والعبيد اخلُ َّشع‪ ،‬واألجانب ُّ‬
‫الفحول أقل َّية يف بحر البقية‪ .‬وتُعترب كلمة الديمقراط َّية بغيضة عند (أفالطون)‪ .‬وهو س ّيد الفالسفة‪ .‬أ َّما (أرسطو) الدماغ اجل َّبار فقد‬
‫وسمها‬
‫رأى فيها مشاعر خمتلفة خمتلطة غامضة وغري حم َّببة‪ ،‬وطاملا كان األكثر َّية جهالء فقراء فهي حكم (الديامغوج َّية) وظلم األغنياء َّ‬
‫(‪ .)Mobocracy‬ولو حكمت صناديق االنتخابات‪ ،‬يف أكثر من قطر عريب‪ ،‬حلكمت الغوغاء واألصول َّية الدين َّية‪ ،‬التي تعيش أيام‬
‫سموا بلدهم «اجلمهور َّية»‪ ،‬ومل ينعتوها بالديمقراط َّية‪ ،‬ملا رأوا‬
‫فضل اآلباء األمريكيون‪ ،‬أن ُي ُّ‬
‫«سعيد جقمق» من املامليك الربج َّية‪ .‬وقد َّ‬
‫من الرعب بعد الثورة الفرنس َّية‪ .‬أ َّما «كونغو» يف جماهل أفريقيا فاسمها كونغو الديمقراط َّية؟ كام كانت دولة «بوطني» ضابط املخابرات‬
‫الدموي يف أملانيا الرشق َّية‪ ،‬وهي يف قبضة الشتازي (‪ )Stasi‬أعتى أنظمة املخابرات‪ ،‬قبل أن يأيت أجلهم عام ‪ 1989‬فيذهبوا إىل مزبلة‬
‫التاريخ‪.‬‬

‫ُسمي نفسها‬
‫ويف يوم قبل اهنيار سد يأجوج ومأجوج يف برلني‪ ،‬كانت عصابة (هونيكر) يف أملانيا الرشق َّية متسك رقاب العباد‪ ،‬وت ّ‬
‫كل مواطن رشقي كان له ملف عند (االستازي‬ ‫أن َّ‬
‫مجهور َّية أملانيا الديمقراط َّية (‪ ،)DDR‬حتى اهنار سور برلني بدون قطرة دم‪ ،‬و ُعرف َّ‬
‫خممرة من َع َرق املشبوهني ولعاهبم‪ ،‬لعلها تنفع يوم احلساب‪ ،‬حتى‬
‫‪ )STASI‬ال يغادر صغرية وال كبرية إال أحصاها‪ ،‬بام فيها زجاجات َّ‬
‫اشرتت أملانيا الغرب َّية؛ الرشق َّية بام حوت من مدر وبرش‪.‬‬

‫أن احلكومة الفيدرال َّية ص َّبت يف عروق ومفاصل الرشق َّية الكسيحة املتصلبة ‪ 1350‬مليار يورو‬ ‫وتعرتف جملة (الشبيجل) األملان َّية َّ‬
‫وسنَّة‬
‫بدون فائدة‪ .‬وهو املصري نفسه الذي ينتظرنا يف مجهوريات العرب الثور َّية‪ .‬وعندما طار رأس صدَّ ام بقي رماد وخرافات من شيعة ُ‬
‫ظل األنظمة الشمول َّية‪ ،‬ال ُبدَّ من كنس جيل كامل‪ ،‬وحرق أ َّمة ميتة‪ ،‬كام ُترق اجلثث للطهارة يف هنر‬ ‫يقتتلون؛ فبعد موت اإلنسان يف ّ‬
‫الغانج‪.‬‬

‫و ُيعترب (جيوفاين سارتوري) من جامعة فلورنسا من أعمق الباحثني يف قضايا العلم السيايس‪ ،‬وقد وضع هو و(شوم بيرت) و(روبرت‬
‫إن حكم الشعب‪ ،‬للشعب‪ ،‬بالشعب‪ ،‬ولصالح الشعب‪ ،‬ال تزيد عن خرافة‪َّ ،‬‬
‫وإن الشعب ُيذبح‬ ‫داهل) نظريات يف الديمقراط َّية‪ ،‬تقول‪َّ :‬‬
‫وإن احلكم هو دوم ًا للنُخب واألقل َّيات و(املقاولني السياسيني)‪ .‬وهو رأي املؤرخ توينبي عن انسياق وانقياد‬ ‫و ُيلعن باسم الشعب‪َّ .‬‬
‫فتتحول األقل َّية املبدعة إىل أقل َّية مسيطرة تسوق الناس بالسوط‬
‫َّ‬ ‫األكثر َّية خلف أنغام األقل َّية مثل اخلراف والراعي‪ ،‬ثم تنقلب الصورة‬
‫والرعب‪ ،‬وهو حتليل املؤرخ ديورانت أيض ًا عن نبض التاريخ‪َّ ،‬‬
‫وأن التاريخ هو صور استبدال األكثر َّية لألقل َّية بأقل َّية جديدة‪ .‬وعندما‬
‫كل احلر َّية للشعب‪ ،‬وال حر َّية ألعداء الشعب! ولكن من هم أعداء الشعب؟ وهل يمكن أن‬ ‫تدخل مدينة دمشق تقرأ شعارات البعث‪ُّ :‬‬
‫كل الشعب هذا العدو يف حلظة؟‬ ‫يكون ُّ‬

‫ويف كثري من بلدان العربان‪ ،‬من حيكم هم طوائف وعائالت مس َّلحة حتى األظافر واألسنان‪ ،‬حتت شعار الديمقراط َّية‪ .‬و(حسني‬
‫مرات قادمة‪ ،‬مثل‬ ‫للمرة اخلامسة لست سنني باسم الديموقراط َّية‪ ،‬وانتخب ـ بزعمهم ـ ّ‬
‫بكل نزاهة‪ ،‬وقالوا إنَّه سيحكم َّ‬ ‫مبارك) حكم َّ‬
‫حسب اهلل السادس عرش‪ ،‬حتى حيكم ابنه عليه باخلَ َرف‪ ،‬بمجلس من الكرادلة من كهنة آمون‪ ،‬وحيجر عليه عقلي ًا‪ ،‬فيستلب منه الصوجلان‬
‫الفرعوين‪ ،‬والتاج املرصع بأفعى الكوبرا‪ .‬لوال مفاجأة الثورة يف مرص التي سلبته عرشه‪ ،‬ثم أعاده العسكر وأخرجوه من حمبسه ليضعوا‬
‫بدالً عنه يف املحبس مريس املنتخب رشعي ًا‪ ،‬وهي نكتة كبرية‪ ،‬ولكن ال يضحك هلا أحد‪.‬‬

‫‪125‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫خالص جلبي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫حرم زرع‬‫مهد الطريق للديمقراط َّية احلقيق َّية‪ ،‬بعد أن َّ‬ ‫و(تركامن بايش) مات‪ ،‬بعد أن حكم (تركامنستان) ‪ 66‬سنة‪ ،‬فوصفه الرفاق بأنَّه َّ‬
‫وغي أسامء األشهر باسمه‪ ،‬واسم أ ّمه اخلاتون؛ فلم يعد (ديسمرب) بل خاتون هانم‪ .‬واملصيبة يف الديمقراط َّية يف ثالثة‬ ‫األسنان الذهب َّية‪َّ ،‬‬
‫أن عنده هلا تعريف ًا مانع ًا جامع ًا‪ ،‬كام يقول املناطقة؛ فهم مثل الشعراء‬‫جوانب‪ :‬يف التعريف‪ ،‬واآلل َّية‪ ،‬واملآل‪ .‬وحول تعريفها‪ ،‬ال يدَّ عي أحد َّ‬
‫كل ٍ‬
‫واد هييمون‪.‬‬ ‫يف ّ‬

‫واآلل َّية َّأنا آلة انتخاب َّية ألخذ رأي الناس‪ ،‬ولك َّن النُخب بنفوذها‪ ،‬واملال الذي فيه تسبح‪ ،‬عندها من اإلمكان َّية أن تفربك القرار‪،‬‬
‫الرق السيايس‪ ،‬فيجعلون يف أعناقهم أغالالً فهي إىل األذقان فهم َ‬
‫مقمحون‪.‬‬ ‫وتضحك عىل اجلامهري‪ ،‬فتقودهم إىل ّ‬

‫ومن الغريب َّ‬


‫أن زيادة الرفاهية يف البلدان الصناع َّية مل تزد من إقباهلم عىل صناديق االنتخابات‪ ،‬واجلمهور غري مكرتث‪ ،‬وال يعبأ أو‬
‫ال يل يوم ًا عن رأيه فيام حيدث‪ ،‬فقال‪َّ :‬إنم الذباب نفسه الذي حيوم عىل القذارة نفسها! ومل‬
‫يصدّ ق كثري ًا ممَّا حيدث‪ .‬ويف أملانيا سألت زمي ً‬
‫يكن ينتخب‪.‬‬

‫وخالصة القول إنَّنا يف عامل العروبة هنرع إىل ّ‬


‫كل شعار ورساب مهطعني‪ .‬ففي الصيف (نخرطش) السالح مع حزب اهلل‪ ،‬ويف الشتاء‬
‫نخرطش السالح ضده!‬

‫الرب إىل االنتخابات‪ ،‬فتخاض بطريقة نزهية‪ ،‬فيكسب ‪ 11‬وزير ًا‪ ،‬بمن فيهم الوزير (كش‬ ‫وحال َّي ًا يطالب حزب َّ‬
‫الرب يف لبنان أن ينزل َّ‬
‫يقرروا من سيكون الرئيس بعد ‪ 99‬حماولة بام ُيذكِّر بأسامء اهلل‬
‫ملك)‪ ،‬فيبتلع لبنان‪ ،‬مثلام تزدرد أفعى اآلناكوندا قرد بابون غافالً‪ .‬قبل أن ّ‬
‫مفك براغ آللة الرشق األوسط‪ ،‬ميكانيكها يعمل يف سفارة طهران يف لبنان‪،‬‬ ‫احلسنى‪ ،‬وهي يف لبنان أسامء الشيطان وإيران‪ .‬وتصبح لبنان َّ‬
‫اسمه بزديج بزدران‪.‬‬

‫ثم يضحك عىل نفسه‪ُّ :‬‬


‫كل‬ ‫والسنَّة‪َّ ،‬‬
‫وهذا ُيذكِّر بام قاله الوردي عامل االجتامع العراقي الشيعي‪ ،‬الذي كان يضحك من خرافات الشيعة ُ‬
‫من يتحدَّ ث بالعدالة واحلق واملنطق فتأكَّد من صحة عقله‪.‬‬

‫ُزور فيه إرادة اجلامهري مثل اجلامهرييات‪ .‬واملجالس الشعب َّية جمالس قرود للتصفيق والتزوير‪ ،...‬والعربة‬
‫واليوم ليس هناك من مكان ت َّ‬
‫ليست يف الصناديق بل يف وعي اجلامهري‪.‬‬

‫وبيننا وبني الوعي مسرية سنة ضوئ َّية‪.‬‬

‫محام دم ومازال‪.‬‬ ‫وزيادة يف النكتة ننقل ما حدث حني قام الزيدي يوم ًا برضب بوش بحذاء‪ ،‬قبل أن َّ‬
‫يتحول العراق بعده إىل َّ‬

‫محنة الديمقراط َّية في مواجهة األحذية العرب َّية‬


‫إنَّه من الصعب عىل شعب ثرثار أن يتن َّبه لوقع أقدام الوقت اهلارب‪ .‬وباعتبار َّ‬
‫أن قس ًام ال يستهان به من الشعب العريب ثرثار‬
‫والتجسس وكتابة التقارير الرس َّية‪ ،‬فقد جاءته قصة يلغط هبا ويتسىل يف انتصارات‬
‫ُّ‬ ‫يعيش عىل اللغو والثرثرة والكذب والتأثيم‬
‫تفهم آل َّية التنفيس يف سيكولوج َّية إنسان مقهور‪ ،‬وال‬
‫ومه َّية لشعب مسحوق حتى األعامق يف ظلامت من اإلحباط‪ .‬لذا وجب ُّ‬
‫يستبعد أن تكون أحد احتامالت احلدث أنَّه ترتيب مسبق‪ ،‬كام يف قصة األمري وأواين النحاس‪ ،‬فقد أورد ابن مسكوية َّ‬
‫أن األمري‬
‫ٍ‬
‫أوان نحاس َّية جملجلة‬ ‫فلم طاب اجللوس وهدأت النفوس سقط من أعىل القرص إىل الصالة‬ ‫عقد حفلة سمر ليل َّية ألعيان القوم‪َّ ،‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪126‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫جدل َّية العدالة والديمقراط َّية‬

‫ألنام عمال ذلك‬ ‫الصوت فجأة‪ ،‬فتدافع القوم ودعسوا بعضهم بعض ًا باألقدام‪ُّ ،‬‬
‫كل القوم هاجوا وماجوا إال اثنني األمري والعامل‪َّ ،‬‬
‫برتتيب مسبق‪.‬‬

‫فإن العلم يورث الطمأنينة‪ .‬ومازلنا نتذكَّر هدوء بوش وهو يستقبل احلذاء املقذوف عليه‪ ،‬وقد يكون برتتيب ووحي بدون‬ ‫وهكذا َّ‬
‫أن يشعر من فعل الفعل نفسه ‪ ،...‬وهو احتامل‪ ،‬لذا وجب النظر آلخر قصة من إنتاج السندباد البحري يف بغداد من منظور علم‬
‫وتطوع ‪ 200‬من حمامي العرب للدفاع عن حذاء‪ ،‬وبدأ املزاد‬
‫َّ‬ ‫النفس‪ .‬فقد و َّدع العراقيون بوش بفردة حذاء‪ ،‬ولكن ليس ّ‬
‫كل العراقيني‪.‬‬
‫العلني عند العرب لرشاء احلذاء الرشيف؛ فهناك من رصد مبلغ مائة ألف دوالر ثمن ًا له‪ ،‬وآخر رفع الرقم ليصل إىل عرشة ماليني‬
‫دوالر‪ ،‬قدَّ مه ثري خليجي مل يتعب يف ماله كثري ًا‪ ،‬ويدين ّ‬
‫بكل ما يملك ملصادفة جيولوج َّية أكثر من عرق اجلبني‪ ،...‬وهو يذكّر بقصة‬
‫مروة الرتك َّية بفارق اجلنس واملوضع‪ ،...‬بني الرأس والقدم‪.‬‬

‫ِ‬
‫يمش عىل رأسه خيرس رأسه ورجليه مع ًا‪.‬‬ ‫وهي عند العرب ال ختتلف كثري ًا‪ ،‬فمن‬

‫كام ذكر يوم ًا مالك بن نبي عن رجل لبس البدلة األوروب َّية واعتمر بالطربوش الرتكي َّ‬
‫أن احلضارة دخلت من رجليه ومل تصل رأسه‬
‫بعد؟ ويف يوم َّتبعت مظاهرة من املحامني العرب للدفاع عن شقي العوجة‪.‬‬

‫وهذا يذكّر بقصة املحامي فريجيه الذي أبدى استعداده للدفاع عن هتلر‪ ،‬ومجيع أوغاد األرض‪ ،‬وط َّبق ذلك يف دفاعه عن النازي‬
‫األول للامل ملات عرشات من وزراء‬
‫باريب واحلرامي اإلرهايب الكبري كارلوس ذراع وديع حداد‪ ،‬أستاذه يف القتل واملقتلة‪ ،‬ولوال جشع َّ‬
‫األول املطلوب؛ فهو حي يرزق بمحض املصادفة وتنازع أهواء وديع‬ ‫البرتول يوم االختطاف األعظم‪ ،‬ومنهم أمحد زكي اليامين الرأس َّ‬
‫وكارلوس بني الدم واملال‪.‬‬

‫جترأ الصحفي العراقي عىل رشق بوش بحذائه فهو مؤرش خري وليس كام ه َّلل العرب األشاوس‪.‬‬
‫وحني َّ‬

‫وذاكرة الشعوب قصرية‪ ،‬ونفوسهم بئيسة‪ ،‬واحلقد له مرتع‪ ،‬ولك َّن ثقافة بوش تسمح بحدث مثل هذا‪ ،‬وكانت نظرة من صدَّ ام ألحد‬
‫الرفاق كافية لكي تصيبه بداء الرجفة بق َّية حياته‪ ،‬أو تذهب بصاحبها إىل قرص النهاية أو الرحاب‪ ،‬وما أدراك ما هي؟‬

‫ولذا وجب تأ ُّمل قصة احلذاء املرشوق من زاوية خمتلفة‪ ،‬هي التعبري وعدم اخلوف حتى بالصورة القميئة‪.‬‬

‫جترأ فسمح‬ ‫إنَّنا ُّ‬


‫نضل حني نظ ُّن أنَّنا نلنا من بوش هبذه الطريقة‪ ،‬بل هي شهادة له أنَّه لن يسحل يف شوارع الكوفة والبرصة‪ ،‬ذلك الذي َّ‬
‫لعقله بالتفكري ويده بالرضب‪.‬‬

‫تعب وتغضب حسب املنطق األرسطي يف املكان املناسب من الشخص املناسب للسبب‬
‫وهذه هي جدل َّية التعبري؛ أن تعرف كيف ّ‬
‫املناسب‪.‬‬

‫إنَّنا نفرح بترصفات احلذاء وننسى أنَّه نقلة للعراق إىل عرص التعبري ولو برشق األحذية‪ ،‬ولك َّن أكثر الناس ال يعلمون‪.‬‬

‫وتورمهم إىل حدّ التأ ّله‪ ،‬وضغطهم إىل حجم حذاء يف الثقافة الغرب َّية مأساة للعقل العريب والثقافة‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫إن ضخامة األشخاص عندنا‬

‫‪127‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫خالص جلبي‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫العرب َّية‪ ،‬وجائزة للثقافة الغرب َّية التي ال تسمح للتأ ّله‪.‬‬

‫وهذا إعالن رائع للتوحيد السيايس نسيناه من أيام املتوكّل‪.‬‬

‫َّ‬
‫واجللد ألقى عدَّ ة أبيات من الشعر‪،‬‬ ‫إنَّني أذكر قصة شاعر أحرضوه إىل اخلليفة مته ًام بكلمة‪ ،‬فلام أصبح رأسه بني السيف والنطع‬
‫حاصلها أنَّه ال يأسف عىل نفسه أن يطري رأسه مثل ديك رومي‪ ،‬ولك َّن الصبية الصغار الذين سوف يرصخون أمل ًا حني ُينعى إليهم األب‪،‬‬
‫الذي سمح لعقله باحلركة‪ ،‬ولسانه املعقول بكلمة‪.‬‬

‫نعم َّإنا ثقافة العقل املعتقل‪.‬‬

‫تعرضت إلهانة ـ من وجهة نظرنا ـ فلم ُيسحل صاحبها عىل الطريقة‬


‫أن أعظم شخصية َّ‬ ‫نسجل ألمريكا نرص ًا جديد ًا َّ‬
‫فهل يمكن أن ّ‬
‫العراق َّية‪ ،‬ومل يشنق فيطري رأسه بمعاليقه‪ ،‬كام فعل أخوة برزان التكريتي بربزان؟‬

‫يصب يف االجتاه الدموي نفسه‪.‬‬


‫ُّ‬ ‫احلجاج‪َّ ،‬‬
‫ولعل إهراق الدم يف ذكرى احلسني‬ ‫احلجاج وقبل َّ‬
‫يستحم يف الدم منذ أيام َّ‬
‫ُّ‬ ‫العراق‬

‫واآلن بعد أن طار صدَّ ام ودخل جنود أمريكا إىل العراق‪ ،‬بدأ العراقيون يف التعبري واالجتامع وتشكيل الصحافة والتمتُّع باإلنرتنت‬
‫واجلرأة عىل االعرتاض وإنشاء جمالس الصحوة واخلروج يف مظاهرات ومسريات‪ ،‬والرصاخ والزعيق ولو ذم ًا وشت ًام وقدح ًا وبغض ًا‬
‫ورمي ًا لألحذية يف وجوه الرؤساء‪ ،‬وكانت يف أيام الراحل املصدوم جرائم حياكم عليها صاحبها ويوضع عىل اخلازوق‪.‬‬

‫حتمل األذى ير ُّده بيده بدون جاندرما‬ ‫هل يمكن أن نفهم من حادثة حذاء بوش أنَّنا يف مكان احلذاء ننتج األحذية‪َّ ،‬‬
‫وأن بوش يف مكان ُّ‬
‫أي شكل ونحو ومظهر؟‬‫وخمابرات وتعذيب واستخراج للحقائق كام يريد عسس املخابرات؛ عىل ّ‬

‫مشوه ًا جيرجر‬
‫يدب عىل أربع‪ ،‬أو زاحف ًا صحراوي ًا عىل بطنه يزحف‪ ،‬أو َّ‬
‫فإن أرادوا خرج متآمر ًا للصلب‪ ،‬وإن أحبوا بدا حيوان ًا وديع ًا ُّ‬
‫قدميه بلحية منتوفة حمروقة‪ ،‬أو عمي ً‬
‫ال أل َّية جهة عامل َّية‪.‬‬

‫إن ما حدث يف زيارة بوش األخرية أفضل شهادة يمكن أن خيرج هبا للتاريخ‪ ،‬أنَّه تل َّقى احلذاء فلم ير ّد عليه باملثل‪ ،‬بل كان أفضل منه‪،‬‬ ‫َّ‬
‫يف حوار بني احلذاء والكلمة‪ ،‬فهذا هو الفرق بني الثقافتني‪.‬‬

‫ولكن بيننا وبني هذا الفهم مسافة ثالث سنوات ضوئ َّية بالضبط‪.‬‬

‫ويف النهاية ال جيوز لنا أن نلعن َّ‬


‫كل الطغاة من صدَّ ام إىل املالكي إىل داعش والرأس األسود شفارتزكوبف وبوش الصغري وبول بوت‬
‫وكل من سار يف درب فرعون‪ ،‬بل التاريخ سيلعنهم ويضعهم يف سجالت املقبوحني‪.‬‬ ‫وستالني وهونيكر واألسد الربامييل‪ّ ،‬‬

‫وأتبعناهم يف هذه احلياة الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من املقبوحني‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪128‬‬
‫بريشة الفنان رشيد باخوز من املغرب‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫طوبى العدالة االجتماع ّية وعداء الديمقراطية‬


‫في فكر س ّيد قطب‬

‫عمر بنحمودة*‬
‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ّ‬
‫ملخص البحث‬
‫نسعى من خالل هذا البحث إىل مقاربة مفهوم العدالة االجتامع ّية يف فكر س ّيد قطب وموقفه من الديمقراط ّية‪ .‬ونتّبع مراحل خمتلفة‬
‫إصالحي اعتامد ًا عىل‬
‫ّ‬ ‫والسيايس وحاول تأسيس مرشوع‬
‫ّ‬ ‫لتحقيق هذا الغرض‪ ،‬تبدأ بتشخيص أزمة اخلطاب الذي خلط بني الدّ يني‬
‫تصوره للعدالة االجتامع ّية وعالقة تلك املفاهيم باملنظومات الفكر ّية والت ّيارات السياس ّية‬
‫مقولة الرشيعة واحلاكم ّية‪ .‬ونسعى إىل دراسة ّ‬
‫السائدة يف عرصه بحث ًا عن وجوه التفاعل احلضاري وأسباب القطيعة بني املشاريع اإلصالح ّية واملواقف اإليديولوج ّية‪ .‬فاخلطاب‬ ‫ّ‬
‫أسسه س ّيد قطب يستعدي املشاريع األخرى ويعلن احلرب الشاملة ضدّ من اعتربهم ينتمون إىل اجلاهل ّية اجلهالء باسم الدفاع‬ ‫الذي ّ‬
‫عن الدّ ين ونرصة اإلسالم‪ .‬فكان العنف سبيله للقضاء عىل اخلصوم السياسيني واحلكّام الطواغيت الذين يقفون حجر عثرة يف طريق‬
‫اإلسالمي‪ .‬ولذلك فخطاب س ّيد قطب يفيض إىل احتكار العدالة دون أن يقدّ م حلوالً عمل ّية ألزمات‬‫ّ‬ ‫البرش الراغبني يف اعتناق الدّ ين‬
‫الفقر واجلهل والبطالة‪ .‬وهو ما سنسعى إىل بيانه من خالل حتليل خطابه وكشف هناته املنهج ّية‪ .‬فحاولنا بيان طوباو ّية فكرة العدالة‬
‫أهم‬
‫أسس عليها س ّيد قطب نظرته للعدالة االجتامع ّية‪ ،‬وقسمته العامل إىل جاهل ّية وإسالم‪ ،‬ورصد ّ‬ ‫االجتامع ّية وتفكيك فكرة املقدّ س التي ّ‬
‫السيايس رغم‬
‫ّ‬ ‫يت يف فكره‪ .‬وختمنا بدراسة مظاهر عدائه للديمقراط ّية وأثر موقفه يف سلفه من أتباع اإلسالم‬ ‫مظاهر االنغالق الالهو ّ‬
‫قبوهلم الظاهر بالديمقراط ّية‪.‬‬

‫‪ .1‬أزمة الخطاب بين الديني والسياسي‪:‬‬


‫طرح تقدّ م الغرب ّ‬
‫وتأخر املسلمني عىل كثري من املفكرين سؤال النهضة‪ .‬ولكنّهم اختلفوا يف املسالك واملرجع ّيات التي يمكن أن‬
‫واتهوا وجهات خمتلفة نحو البحث عن حلول ألزماهتم السياس ّية واالقتصاد ّية واالجتامع ّية‪ .‬ولذلك فقد ظهرت‬ ‫حت ّقق مقاصدهم‪ّ ،‬‬
‫مجاعي‬
‫ّ‬ ‫أعم من السياسة وهو حتقيق النهضة واسرتجاع جمد األ ّمة اإلسالم ّية يف إطار وعي‬
‫السيايس يف إطار سؤال ّ‬
‫ّ‬ ‫أطروحات اإلسالم‬
‫بواقع األزمة وغياب احللول الناجعة‪.‬‬

‫األول‬
‫السيايس‪ .‬ويعود طرحها إىل سببني رئيسيني‪ّ :‬‬ ‫ّ‬ ‫تأسس عليها اإلسالم‬ ‫وتعترب مسألة العدالة االجتامع ّية من املفاهيم املركز ّية التي ّ‬
‫داخيل يتع ّلق باألزمات االجتامع ّية التي عرفتها املجتمعات العرب ّية اإلسالم ّية كانتشار الفقر واجلهل والبطالة وغياب احللول‬
‫ّ‬ ‫اجتامعي‪/‬‬
‫ّ‬
‫خارجي‪ ،‬هو نتيجة التأ ّثر باألطروحات املاركس ّية التي‬
‫ّ‬ ‫فكري‪/‬‬
‫ّ‬ ‫الناجعة لتحقيق التنمية وجتاوز األزمات االقتصاد ّية ‪ ،‬والسبب الثاين‬
‫‪1‬‬

‫* أكادميي من تونس‬
‫‪ 1‬ـ يعود الفقر يف الوطن العر ّيب إىل أسباب داخليّة وخارجيّة؛ فأ ّما األسباب الدّاخليّة فتتمثّل يف السياسات االقتصاديّة املو ّجهة ملصلحة الطبقة الغنيّة واتّباع سياسة‬
‫نقديّة تؤث ّر يف سعر الفائدة فتقلّص من فرص االستثامر وانتشار البطالة وخفض القدرة الرشائ ّية للمواطن وتباطؤ معدالت النم ّو‪ ،‬وأ ّما العوامل الخارج ّية فتعود إىل‬
‫السياسيات املاليّة الدوليّة التي أدّت إىل نشوء أوضاع اقتصاديّة جديدة ساعدت عىل انتشار الفقر‪ .‬فالليرباليّة الجديدة هي الخلفيّة النظريّة لخطاب املنظامت الدوليّة‬
‫املتمثّلة بالبنك الدويل وصندوق النقد الدويل ومنظّمة التجارة العامل ّية‪ ،‬التي تحاول أن تنزع من الدّولة دورها يف تحقيق العدالة االجتامع ّية‪ ،‬فكانت النتيجة مضاعفة‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪130‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫طوبى العدالة االجتامع ّية وعداء الديمقراطية يف فكر س ّيد قطب‬

‫الدّ افع إىل طرح قض ّية العدالة االجتامع ّية‬ ‫العملية يف‬
‫سوقت ملفهوم العدالة االجتامع ّية وحقوق الطبقات ّ‬ ‫ّ‬
‫ليس واقع املسلمني فحسب‪ ،‬وإنّام التنافس‬ ‫اقتسام الثروة وحتقيق املساواة الطبق ّية‪ ،‬إضافة إىل ما حققته دول‬
‫وتكنولوجي أظهر‬
‫ّ‬ ‫املعسكرين الرشقي والغريب من تقدّ م صناعي‬
‫اإليديولوجي عىل سوق رمز ّية حياول فيها‬
‫التفاوت بني العرب والغرب‪ ،‬واختذ يف فكر اإلسالميني تسمية‪:‬‬
‫اإلسالم ّيون دحض األطروحات الرأسامل ّية‬ ‫ثنائ ّية الغرب واإلسالم‪ .‬ولذلك يمكن أن نالحظ بيرس األثر‬
‫والشيوع ّية من أجل إجياد حلول لألزمات‬ ‫الفكري لتلك األطروحات يف كتبات س ّيد قطب (ت ‪1966‬م)‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫ولعل هاجس املنافسة الرمز ّية‬ ‫االجتامع ّية‪...‬‬ ‫رغم ما جياهر به من عداء لذلك الفكر وشيطنة ملقوالته‪.‬‬

‫السيايس‬
‫ّ‬ ‫سيوجه مقوالت اإلسالم‬
‫ّ‬ ‫هو الذي‬
‫وعىل هذا األساس فالدّ افع إىل طرح قض ّية العدالة االجتامع ّية‬
‫نحو تأكيد عقل ّية التخاصم بدل النظر‬ ‫ليس واقع املسلمني فحسب‪ ،‬وإنّام التنافس الفكري واإليديولوجي‬
‫املوضوعي إىل الواقع وإىل أطروحات اآلخر‬
‫ّ‬ ‫عىل سوق رمز ّية حياول فيها اإلسالم ّيون دحض األطروحات‬
‫الرأسامل ّية والشيوع ّية من أجل إجياد حلول لألزمات االجتامع ّية‬
‫السيايس نحو البحث عن االختالف وتأكيد‬
‫ّ‬ ‫سيوجه مقوالت اإلسالم‬
‫ّ‬ ‫التي يعاين منها املسلمون‪ّ .‬‬
‫ولعل هاجس املنافسة الرمز ّية هو الذي‬
‫املوضوعي إىل الواقع وإىل أطروحات اآلخر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عقل ّية التخاصم بدل النظر‬

‫لقد كان البحث عن العالمات الرمز ّية الفارقة التي يمكن يف نظر أصحاهبا حسم الرصاع اإليديولوجي ضدّ أصحاب األطروحات‬
‫السيايس‪ .‬ويف هذا املستوى كان استغالل سلطة املقدّ س من أجل اإلقناع بانتصار‬ ‫ّ‬ ‫املنافسة قائ ًام عىل استدعاء الدين إىل ساحة اجلدل‬
‫السيايس عا ّمة‬
‫ّ‬ ‫حضاري غريب ومدنّس‪ .‬وقد عملت أطروحات اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫املرجع ّيات اإلسالم ّية عىل النظر ّيات التي قامت يف إطار‬
‫خاصة عىل استغالل هذه الثنائ ّيات التي تعترب انتشار ًا دالل ّي ًا لثنائ ّية املقدّ س واملدنّس‪( .‬احلضارة اإلسالم ّية‪/‬‬
‫وأطروحات س ّيد قطب ّ‬
‫احلضارة املا ّدية الوثن ّية‪ ،‬الرتاث الروحي‪ /‬الديمقراط ّية واالشرتاك ّية والشيوع ّية‪ ،‬محاة اإلسالم‪ /‬أعداء اإلسالم‪ ،‬الدين‪ /‬الدنيا‪،‬‬
‫الشيوع ّية‪ /‬الدّ ين‪.)...‬‬

‫واملسيحي من جهة‬
‫ّ‬ ‫اليهودي‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي من جهة والتاريخ‬
‫ّ‬ ‫حضاري بني التاريخ‬
‫ّ‬ ‫ومل تكن هذه الثنائ ّيات سوى حماولة إلقامة جدار فصل‬
‫الشيوعي‪ .‬فقد سعى س ّيد‬
‫ّ‬ ‫أخرى‪ .‬ويف هذا االختيار خلف ّية إيديولوج ّية واضحة أساسها دحض الرتويج لعامل ّية الفكر الرأسام ّيل والفكر‬
‫والدنيوي ما هو إال نتيجة لطبيعة الديانة املسيح ّية‪ ،‬وهو أمر ال يستقيم‬
‫ّ‬ ‫الديني‬
‫ّ‬ ‫بأن ما قامت عليه املسيح ّية من فصل بني‬ ‫قطب إىل اإلقناع ّ‬
‫اإلسالمي‪ .‬وهو هيدف من وراء ذلك إىل قطع الطريق عىل الطاحمني يف استنساخ املراحل التّارخي ّية التي شهدهتا أورو ّبا من أجل‬ ‫ّ‬ ‫يف الفكر‬
‫حتقيق هنضتها الفكر ّية واالقتصاد ّية واالجتامع ّية‪.‬‬

‫اخلاصة‪ ،‬وال من ظروفه التّارخي ّية‪ ،‬كاألسباب‬


‫ّ‬ ‫يقول س ّيد قطب‪« :‬ليس لدينا إذن سبب واحد لتنحية اإلسالم عن املجتمع‪ ،‬ال من طينته‬
‫التي الزمت املسيح ّية يف أورو ّبا‪ ،‬فعزلت الدنيا عن الدين‪ ،‬وتركت للدّ ين هتذيب الضمري وتطهري الوجدان‪ ،‬بينام تركت للقوانني الوضع ّية‬
‫تنظيم املجتمع وتسيري احلياة»‪.2‬‬

‫مم أدّى إىل اتّساع دائرة الالمساواة وإعادة إنتاج الفقر يف البلدان العربيّة ال ّنامية‪( .‬انظر‪ :‬سمري الت ّنري‪ ،‬الفقر والفساد يف العامل العر ّيب‪،‬‬
‫أرباح املراكز االحتكاريّة يف العامل‪ّ ،‬‬
‫تتغي باستمرار يع ّد صناعة للوهم وتأسيساً لرؤية غارقة يف املايض غري عابئة مبشاكل‬
‫الساقي‪ ،2009 ،‬ص ص ‪ )56 - 51‬وإ ّن تجاهل هذه العوامل التي ّ‬
‫ط‪ ،1‬بريوت‪ ،‬دار ّ‬
‫الواقع‪.‬‬
‫‪  2‬ـ س ّيد قطب‪ ،‬العدالة االجتامع ّية يف اإلسالم‪ ،‬ط‪ ،13‬مرص‪ ،‬دار الرشوق‪ ،1993 ،‬ص ص ‪.17 ،16‬‬

‫‪131‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫بنحمودة‬
‫ّ‬ ‫عمر‬
‫ّ‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ديني له قواعده املقدّ سة التي سعى س ّيد قطب إىل بياهنا وتفصيلها‪ .‬وبذلك فقد كانت منطلقاته قائمة‬ ‫إن تنظيم املجتمع هبذا املعنى شأن ّ‬ ‫ّ‬
‫عىل اعتامد املرجع ّية الدين ّية يف تأسيس مفهوم العدالة االجتامع ّية‪ .‬فهل كان املقدّ س الدّ يني آل ّية للتأثري يف املتل ّقي ومحله عىل االقتناع بوجاهة‬
‫إن للمقدّ س‬ ‫السيايس؟ بعبارة أخرى هل كان املقدّ س آل ّية للتأثري بدل أن يكون آل ّية للبناء والتأسيس؟ أم ّ‬
‫ّ‬ ‫الطرح الذي يقدّ مه مرشوع اإلسالم‬
‫أثر ًا هيكل ّي ًا أساسه املقارنة بني نجاعة الوسائل الدين ّية يف العدالة االجتامع ّية وسائر الوسائل التي صنّفها س ّيد قطب خارج الدّ ائرة الدين ّية؟‬
‫للحط من قيمة األطروحات املنافسة؟‬ ‫ّ‬ ‫جمرد وسيلة إيديولوج ّية‬‫علمي يف صياغة مفهوم العدالة االجتامع ّية‪ ،‬أم إنّه كان ّ‬
‫ّ‬ ‫وهل كان للمقدّ س أثر‬

‫‪ .2‬العدالة واالستعداء‪ :‬حصار الذات‬


‫يتوجه نحو املجتمع مبارشة من أجل تشخيص دقيق لعلله وحتديد ّ‬
‫أدق‬ ‫إن تأسيس مفهوم العدالة االجتامع ّية يف فكر س ّيد قطب ال ّ‬ ‫ّ‬
‫حلاجاته‪ ،‬وإنّام يتّخذ مسارين‪:‬‬

‫األول‪ :‬يتّصل باملرجع ّية‪ ،‬ويقوم عىل فهم أصو ّيل‪ ،‬يسعى إىل استقراء الهو ّ‬
‫يت مؤمن بقداسة املرجع ّيات اإلسالم ّية لتجارب برش ّية‬ ‫املسار ّ‬
‫حل للمجتمع إال باتّباعه واستنساخه‪« .‬فاإلسالم يفرض قواعد‬ ‫سابقة يسبغ عىل بعضها صفة القداسة‪ ،‬ويسمها بالرباديغم الذي ال ّ‬
‫العدالة االجتامع ّية ويضمن حقوق الفقراء يف أموال األغنياء‪ ،‬ويضع للحكم واملال سياسة عادلة‪ ،‬وال حيتاج إىل ختدير املشاعر‪ ،‬وال دعوة‬
‫السامء »‪ .3‬ولذلك فاتباع املنهج اإلسالمي يف العدالة هو اهلدى اإلهلي وما دون‬
‫النّاس لرتك حقوقهم عىل األرض وانتظارها يف ملكوت ّ‬
‫ذلك فضالل وجاهل ّية جهالء‪.‬‬

‫صدامي‪ ،‬يتّجه إىل األطروحات التي تواجهه سواء املنتمية إىل ديانات غري إسالم ّية كاليهود ّية واملسيح ّية‪ ،‬أم املتع ّلقة‬‫ّ‬ ‫املسار الثاين‪:‬‬
‫بأطروحات معارصة كالرأسامل ّية والشيوع ّية‪.‬‬

‫األول بنزعة متجيد ّية وتربير ّية حتاول إظهار األطروحة اإلسالم ّية باعتبارها األطروحة املقدّ سة التي وإن شابتها بعض‬
‫ويتّسم املسار ّ‬
‫عريض عن استيعاب روحها ومت ّثل مقاصدها‪ .‬بينام ُوسم املسار الثاين بنزعة استهجان وعدائ ّية جتعل من س ّيد‬
‫ّ‬ ‫الشوائب فلسوء فهم ولعجز‬
‫خصص قس ًام من كتابه «معامل يف الطريق» ليستعرض‬ ‫كل احلجج والقرائن من أجل دحضها وإظهار هتافتها‪ .‬ولذلك فقد ّ‬ ‫يتوسل ّ‬ ‫قطب ّ‬
‫عداوات الصليب ّيني واملستعمرين واملستغلني الطغاة واملحرتفني من رجال الدين واملستهرتين واملنح ّلني والشيوع ّية والشيوعيني ‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫وكل هذه العداوات تتع ّلق بحكم املسلمني‪ .‬وهي تعتمد ثنائ ّية املقدّ س واملدنّس التي تقتيض‬ ‫فجوهر هذا الفكر هو استعداء اآلخرين ّ‬
‫مسار ًا تطهري ّي ًا لدفع الرجس‪ ،‬غايته تركيز حكم اهلل يف أرضه‪.‬‬

‫اإلسالمي أن يتح ّقق متى ّ‬


‫جتردت القراءة من شوائب اآلراء املتأثرة بثقافات األمم‬ ‫ّ‬ ‫لقد حاول س ّيد قطب أن يقنع بأنّه يمكن للمرشوع‬
‫يتأسس إال إذا عادت القراءة قرآن ّية حمضة تنهل من األصول‪ .‬ففي نظره كانت الفلسفة اإلسالم ّية‬ ‫األخرى‪ ،‬وال يمكن هلذا اهلدف أن ّ‬
‫القرآين‪ .‬ولذلك فقد قام منهج س ّيد قطب عىل حماولة‬
‫ّ‬ ‫وعلم الكالم واختالف الفرق شوائب حالت دون إدراك النبع الصايف للوحي‬
‫تنزلت فيه كلامت‬‫اجلو الذي ّ‬
‫إسالمي يستلهم القرآن الكريم مبارشة « َب ْعدَ احلياة يف ظالل القرآن طويالً‪ ،‬واستحضار ّ‬
‫ّ‬ ‫تصور‬
‫البحث عن ّ‬
‫ثم التيه الذي ض ّلت‬
‫اهلل للبرش‪ ،‬واملالبسات االعتقاد ّية واالجتامع ّية والسياس ّية التي كانت البرش ّية تتيه فيها وقت أن جاءها هذا اهلدي‪ّ .‬‬
‫اإلهلي»‪.5‬‬
‫ّ‬ ‫فيه بعد انحرافها عن اهلدي‬

‫‪  3‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.17‬‬


‫‪  4‬ـ انظر‪ :‬سيّد قطب‪ ،‬معامل يف الطريق‪ ،‬ص ص ‪.112 - 93‬‬
‫اإلسالمي ومق ّوماته‪ ،‬ط‪ ،1‬مرص‪ ،‬دار الرشوق‪(،‬د ت)‪ ،‬ص ‪15‬‬
‫ّ‬ ‫‪  5‬ـ س ّيد قطب‪ ،‬خصائص التص ّور‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪132‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫طوبى العدالة االجتامع ّية وعداء الديمقراطية يف فكر س ّيد قطب‬

‫أن طوبى العدالة االجتامع ّية‬ ‫تأسست هذه القراءة عىل طوبى العدالة االجتامع ّية‪ .‬وإذا استعرنا تعريف «عبد اهلل العروي» علمنا ّ‬ ‫لقد ّ‬
‫تتحول طوبى‬ ‫اجتامعي خارج الواقع وضدّ ًا له‪ ،‬وهو يقوم عىل أدلوجة ّ‬
‫حرية وحترير‪ ،‬وأدلوجة عدالة مستقبل ّية ‪ .‬قد‬ ‫تعني خت ّيل نظام‬
‫‪6‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إيديولوجي يقوم يف جوهره‬
‫ّ‬ ‫مرت‪ ،‬واالعتقاد يف القدرة عىل استنساخها‪ .‬وهو وهم‬ ‫العدالة االجتامع ّية إىل حماولة اسرتجاع حلقبة تارخي ّية ّ‬
‫هتمه احلقائق واملعارف إال من حيث هي مو ّظفة خلدمة موقع أو‬ ‫تعبوي هيدف إىل تغيري الواقع نحو األحسن‪ ،‬وهلذا فال ّ‬ ‫ّ‬ ‫عميل‬
‫ّ‬ ‫عىل فكر‬
‫سلطة أو هيئة ‪.‬‬
‫‪7‬‬

‫نقي من الشوائب‪.‬‬ ‫إسالمي ّ‬


‫ّ‬ ‫تكمن أزمة هذا اخلطاب يف كونه حياول املامثلة بني اللحظتني املنقضية والراهنة من أجل تسويغ مرشوع‬
‫وهو ما جيعل املتخ ّيل الديني يقوم عىل رحلة ذهن ّية نحو املايض قائمة عىل االختزال واالنتقاء‪ .‬وبذلك تكون أزمة هذا اخلطاب يف‬
‫التارخيي الذي حدث‬
‫ّ‬ ‫كونه يستحرض وجدان ّي ًا مفهوم ًا طوباو ّي ًا للعدالة غري قابل للتح ّقق يف الواقع‪ ،‬ببساطة ألنّه انقىض مع اإلطار‬
‫فيه‪ ،‬ويدعمه صاحبه بتربيرات إيديولوج ّية جتعل املامرسات واالختيارات مستساغة ومرشوعة من أجل ضامن تعبئة أكرب لألتباع‪.‬‬

‫اإلسالمي بحسب وجهة نظر س ّيد قطب متم ّيز ًا بخصائص الر ّبان ّية والثبات والشمول والتوازن واإلجياب ّية‬ ‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ّ‬ ‫ال غرابة أن يكون‬
‫تصورات الشعوب األخرى‬ ‫ال عن جتاهل ّ‬ ‫التصور اإلسالمي فض ً‬
‫ّ‬ ‫التصور النقدي وعدم اإلقرار بنسب ّية‬
‫ّ‬ ‫والواقع ّية والتوحيد ‪ .‬فغياب‬
‫‪8‬‬

‫التصور اإلسالمي‪ ،‬جيعل من عقدة االستعالء تأسيس ًا إلسالم اهلروب من مواجهة املشاكل‬ ‫ّ‬ ‫وكأنا خارج نطاق الر ّبان ّية التي احتكرها‬
‫ّ‬
‫التصورات التي يعدّ ها س ّيد قطب غري إسالم ّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حممد أركون ‪ .‬وهو إسالم الكهف الذي يلغي إمكان ّية االستفادة من‬
‫‪9‬‬
‫امللحة بحسب عبارة ّ‬ ‫ّ‬
‫فالتصورات‬
‫ّ‬ ‫االعتقادي الوحيد الباقي بأصله «الر ّباين» وحقيقته الر ّبانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي هو‬
‫ّ‬ ‫«التصور‬
‫ّ‬ ‫ولذلك فقد اعترب س ّيد قطب ّ‬
‫أن‬
‫املنزلة وتصورات وتأويالت‬ ‫االعتقاد ّية السامو ّية التي جاءت هبا الديانات قبله قد دخلها التحريف‪ ،...‬وقد أضيفت إىل أصول الكتب ّ‬
‫وزيادات ومعلومات برش ّية أدجمت يف صلبها‪ ،‬فبدلت طبيعتها الربان ّية‪ ،‬وبقي اإلسالم وحده حمفوظ األصول‪ ،‬مل يشب نبعه األصل كدر‪،‬‬
‫احلق بالباطل »‪.10‬‬
‫ومل يلبس فيه ّ‬

‫ومشوهة‪ ،‬وهو ّ‬
‫شك‬ ‫ّ‬ ‫حمرفة‬
‫يشك بحكم ثقافته التقليد ّية يف كوهنا ّ‬‫ال تكمن خطورة هذا الطرح يف استعدائه للديانات األخرى التي ال ّ‬
‫كل الشوائب والتحريفات‪ ،‬وإنّام تكمن اخلطورة يف إسباغ ال ّطابع الشمو ّيل عىل اإلسالم الذي‬‫القرآين من ّ‬
‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ّ‬ ‫يضارع يقينه بسالمة‬
‫مفصل‪ ،‬ال حيتاج إىل إضافة من مصدر آخر‪،‬‬ ‫جيعله يف غنى عن الفلسفة‪ .‬فلإلسالم يف نظر س ّيد قطب «صورة كاملة شاملة وتفسري جامع ّ‬
‫كل مصدر آخر‪ .‬وقد وقع الفساد‬ ‫ال من ّ‬ ‫وأدق وأعمق‪ ،‬وأكثر تناسق ًا وتكام ً‬
‫بل ال يقبل إضافة من مصدر آخر‪ ،‬ألنّه أوسع وأشمل‪ّ ،‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ووقع التعقيد والتخليط‪ ،‬حينام شاء مجاعة ممّن عرفوا يف التّاريخ باسم «فالسفة اإلسالم» أن يستعريوا بعض‬
‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ّ‬ ‫يف‬
‫اللهوتيني املسيحيني ويدخلوها يف جسم‬ ‫وبخاصة من أرسطو وأفلوطني‪ ،‬وبعض ّ‬ ‫ّ‬ ‫التصورات الفلسف ّية اإلغريق ّية‪ ،‬وبعض املصطلحات‬‫ّ‬
‫اإلسالمي»» ‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫ّ‬ ‫«التصور‬
‫ّ‬

‫‪  6‬ـ انظر‪ :‬عبد الله العروي‪ ،‬مفهوم الدولة‪ ،‬ط‪ ،7‬بريوت‪ /‬الدار البيضاء‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،2001 ،‬ص‪.147‬‬
‫والسيايس يف اإلسالم ويف املاركس ّية‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ ،‬دار الطليعة‪ ،2005 ،‬ص ‪.12‬‬
‫ّ‬ ‫ّيني‬
‫‪  7‬ـ انظر‪ :‬مح ّمد الرحموين‪ ،‬الدّين واإليديولوجيا‪ ،‬جدل ّية الد ّ‬
‫‪  8‬ـ سيد قطب‪ ،‬خصائص التص ّور اإلسالمي‪ ،‬ص ص ‪.207 - 41‬‬
‫اإلسالمي‪( ،‬ترجمة هاشم صالح)‪ ،‬ط‪ ،3‬بريوت‪ /‬الدار البيضاء‪ ،‬مركز اإلمناء القومي‪ /‬املركز الثقايف العريب‪ ،1998 ،‬ص ‪.115‬‬
‫ّ‬ ‫‪  9‬ـ مح ّمد أركون‪ ،‬تاريخ ّية الفكر العريب‬
‫‪ 10‬ـ سيّد قطب‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫‪  11‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.101‬‬

‫‪133‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫بنحمودة‬
‫ّ‬ ‫عمر‬
‫ّ‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ولو ارتأينا تعريف ًا للدغامئ ّية ملا وجدنا جتسيد ًا هلا أكثر من هذا القول‪ .‬إذ هي تقوم عىل اعتقاد راسخ بامتالك احلقيقة يف مفهومها املطلق‬
‫ال لشحنة سلب ّية تتم ّثل يف كوهنا تكتسب تناقض النظام العقائدي التي يتبنّاها املؤمن‪.12‬‬
‫عدو ًا حام ً‬
‫بأن اآلخر املختلف يمثل ّ‬ ‫ويقني ّ‬

‫والعلمي‪ .‬فقد فرض‬


‫ّ‬ ‫الثقايف‬
‫ّ‬ ‫جمسدة يف خطاب س ّيد قطب معزولة عن حميطها‬ ‫السيايس ّ‬
‫ّ‬ ‫تأسست أطروحات اإلسالم‬ ‫ليس غريب ًا إذن أن ّ‬
‫من ّظروها عزلة بينهم وبني الديانات األخرى تقوم عىل التعايل‪ ،‬وجتاهل األطروحات الفلسف ّية باعتبارها إخالالً بشمول ّية اإلسالم‪ ،‬وعدم‬
‫بالتطورات العلم ّية التي يعتربها س ّيد قطب ال يمكن أن تزيد شيئ ًا ذا بال ملا هو شامل ومكتمل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االكرتاث‬

‫املعياري وإنّام نتيجة استقراء أطروحة س ّيد قطب‬


‫ّ‬ ‫يؤسس هذا اخلطاب مفهوم اجلهل املقدّ س ويسم الفكر باجلمود‪ .‬وهو ليس باحلكم‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫اإلسالمي حقق‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ذاهتا‪ ،‬فإذا استعرنا أمثولة الكهف وجدنا أن س ّيد قطب حيمل يقينا بأنّه من خالل اكتفائه بالتأويل الذي اعتمده للدّ ين‬
‫املعرفة يف مفهومها الشمو ّيل‪ .‬وليس غريب ًا أن تتشابه صورته وهو يرى ظالل القرآن بصورة أهل الكهف يف أمثولة أفالطون الذين كانوا‬
‫يرون ظالل احلقيقة وهم يعتقدون ّأنم يرون احلقيقة ذاهتا‪ .‬إذ مل يكن يتم ّثل يف مقاربته سوى ظالل القرآن و ظالل الواقع‪ .‬وال غرابة‬
‫والتصورات العلم ّية إىل البحث عن حقيقة اجل ّن‬
‫ّ‬ ‫ختل عن فضل مقارنة األديان واألطروحات الفلسف ّية‬ ‫أن يرتدّ وعي س ّيد قطب الذي ّ‬
‫متخ ًيال قرآن ّي ًا يتجاهل مكتسبات العلم وفضل الفلسفة‬
‫لإلنيس ‪ ،‬وهو نتيجة طبيع ّية لتأسيسه ّ‬
‫‪13‬‬
‫ّ‬ ‫اجلني‬
‫ّ‬ ‫يف ظالل القرآن وعن إثبات نكاح‬
‫وسائر األديان عىل البرش‪.‬‬

‫‪ .3‬احتكار العدالة‪ :‬قطب ووحدة القطب‬


‫وأي مكان‪ ،‬وال يمكنه باملقابل أن ينكر فرض ّية انعدامها وغياهبا‬
‫أي زمان ّ‬ ‫العدالة مقولة إنسان ّية ال يمكن أن ينكر أحد إمكان ّية حتققها يف ّ‬
‫أي حدّ يمكننا االقتناع بالطرح‬ ‫ألسباب خمتلفة‪ .‬ولكن ما رشع ّية جتنيس العدالة لتصري إسالم ّية أو نرصان ّية شيوع ّية أو اشرتاك ّية؟ إىل ّ‬
‫اإلسالمي وا ّدعاء فساد مقوالت العدالة يف فكر اآلخر؟‬‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ّ‬ ‫السيايس لإلسالم واعتبار العدالة حكر ًا عىل‬
‫ّ‬

‫يب‪ .‬وهو يعتمد مصطلحات االقتصاد‬ ‫يصور س ّيد قطب مفهوم العدالة يف إطار العالقة التبادل ّية التي أنتجت تبع ّية إسالم ّية للفكر الغر ّ‬
‫ّ‬
‫التصور إىل االعتامد عىل السلع املحل ّية التي يم ّثلها‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي‪ .‬ويدعو نتيجة ذلك‬
‫ّ‬ ‫من أجل التعبري عن أزمة االسترياد التي يعانيها الفكر‬
‫اإلسالم‪ .‬ولتحقيق عدالة إسالم ّية غري مستوردة يقدّ م س ّيد قطب طرح ًا ثالث ّي ًا يقوم عىل إبراز طبيعة العدالة االجتامع ّية يف اإلسالم‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫ُأسس تلك العدالة‪ ،‬وأخري ًا وسائل العدالة االجتامع ّية يف اإلسالم‪.‬‬

‫اإلسالمي لأللوه ّية والكون واحلياة واإلنسان‪ ،‬ويعترب‬ ‫التصور‬ ‫ِ‬


‫طبيعة العدالة االجتامع ّية يف اإلسالم يقود س ّيد قطب إىل بيان‬ ‫فهم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫التصور بالشمول ّية‪ .‬وهو ينكر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أن العدالة اإلسالم ّية فرع من ذلك األصل الكبري الذي ترجع إليه كل تعاليم اإلسالم‪ ،‬ويسم ذلك‬ ‫ّ‬
‫اإلسالمي الصحيح‪ ،‬فتأ ّثرهم بالروح اإلغريق ّية ساهم يف إفساد الروح اإلسالم ّية وتشويه‬
‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ّ‬ ‫عىل الفالسفة قدرهتم عىل إبراز‬
‫اإلسالمي‪ .‬ولذلك فهو يلتجئ نتيجة ذلك إىل احلديث والسنّة يف إطار بحثه عن الينابيع الصافية لإلسالم‪ .‬وهي عودة تضمن‬ ‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ّ‬
‫ال مستعين ًا بالقرآن أداة‬
‫التصور نق ّي ًا ومتكام ً‬
‫ّ‬ ‫كل الشوائب‪ .‬وقد حاول سيد قطب إظهار ذلك‬ ‫اإلسالمي ونقاءه من ّ‬
‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ّ‬ ‫قداسة‬
‫التصور وتكامله‪ .‬وتقوم تصوراته عىل إظهار االنسجام والتكامل بني اخلالق واملخلوق أو‬ ‫ّ‬ ‫كل مناسبة انسجام هذا‬ ‫سلطو ّية ليؤكّد يف ّ‬
‫بني اإلنسان والطبيعة‪ ،‬وهو االنسجام ذاته الذي يسم طبيعة اإلنسان‪ .‬فال تعارض بني قواه الروح ّية واملا ّدية فهو وحدة متكاملة‪ .‬هذا‬

‫‪ 12‬ـ انظر‪:‬‬
‫‪Rokeach Milton, La Nature et la signification du dogmatisme: Archives des sciences sociales des religions. N. 32, 1971, P14.‬‬
‫‪ 13‬ـ انظر‪ :‬س ّيد قطب‪ ،‬حقيقة الج ّن يف ظالل القرآن‪ ،‬ط‪ ،1‬مرص‪ ،‬دار الفضيلة للنرش والتوزيع والتصدير‪( ،‬د ت)‪ ،‬ص ‪.93‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪134‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫طوبى العدالة االجتامع ّية وعداء الديمقراطية يف فكر س ّيد قطب‬

‫تتحول طوبى العدالة االجتامع ّية إىل حماولة‬


‫قد ّ‬ ‫الوجودي لإلنسان‬
‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ّ‬ ‫االنسجام الذي يسم مجيع أركان‬
‫مرت‪ ،‬واالعتقاد يف‬ ‫اسرتجاع حلقبة تارخي ّية ّ‬ ‫والكون يف الرؤية اإلسالم ّية يقابله نقد لسائر التصورات الدين ّية‬
‫املحرفة‬
‫واملا ّدية األخرى بقوله‪« :‬وهذا األصل الكبري يف املسيح ّية ّ‬
‫إيديولوجي‬
‫ّ‬ ‫القدرة عىل استنساخها‪ .‬وهو وهم‬
‫ويف الديانات التي تشبهها ترتتّب عليه تفريعات كثرية يف النّظر‬
‫تعبوي هيدف‬
‫ّ‬ ‫عميل‬
‫ّ‬ ‫يقوم يف جوهره عىل فكر‬ ‫إىل احلياة ومتاعها وإىل سلوك الفرد وسلوك اجلامعة حياهلا‪ ،‬ويف‬
‫هتمه‬
‫إىل تغيري الواقع نحو األحسن‪ ،‬وهلذا فال ّ‬ ‫النظر إىل اإلنسان وما يضطرب يف كيانه من قوى وطاقات‪ .‬وقد‬
‫احلقائق واملعارف إال من حيث هي مو ّظفة‬ ‫ممزق ًا يف‬ ‫ظ ّلت املعركة قائمة بني هذه القوى وتلك‪ّ ،‬‬
‫وظل اإلنسان ّ‬
‫هذه املعركة‪ ،‬حريان ال هيتدي إىل قرار حتّى جاء اإلسالم‪ ،‬فإذا‬
‫خلدمة موقع أو سلطة أو هيئة‬
‫هو يعرض صورة كاملة متناسقة ال عوج فيها وال اضطراب‪ ،‬وال‬
‫تعارض فيها وال خصام»‪.14‬‬

‫اإلسالمي القائم عىل الوحدة املطلقة املتعادلة املتناسقة والتكافل العام بني األفراد واجلامعات هي التي متكّن‬
‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ّ‬ ‫ولذلك فشمول ّية‬
‫ألنا تراعي جوانب فطر ّية يف اإلنسان‪ .‬ويعترب ّ‬
‫أن يف اإلسالم قي ًام أخرى غري القيم االقتصاد ّية البحتة‪،‬‬ ‫من حتقيق العدالة االجتامع ّية‪ّ ،‬‬
‫اإلنساين ال عىل الوسائل املنكرة التي حيرمها اإلسالم‬
‫ّ‬ ‫حيث تتفاوت األرزاق املال ّية بني النّاس بأسباب التفاوت املعقولة القائمة عىل اجلهد‬
‫ال من ضغط‬ ‫حتري ًام‪ ،...‬فالعدل املطلق يقتيض أن تتفاوت األرزاق‪ ،‬ولك ّن الفرص ّ‬
‫تظل متاحة للجميع بتحرير الوجدان البرشي حترير ًا كام ً‬
‫القيم االقتصاد ّية البحتة ووضع هذه القيم يف مكاهنا احلقيقي املعقول وعدم إعطائها قيمة معنو ّية ضخمة أو التقليل املفرط من شأهنا ‪.15‬‬

‫اقتصادي حمض وإنّام له أيض ًا بعد قيمي‬


‫ّ‬ ‫تصور شمو ّيل ليس له أساس‬ ‫إن ما يم ّيز طبيعة العدالة اإلسالم ّية وفق هذا املعنى قيامها عىل ّ‬ ‫ّ‬
‫وأخالقي‪ .‬ولكن أليس هذا الطرح قائ ًام عىل استعداء التفسري املا ّدي للتّاريخ؟ أليس عىل مقاس الر ّد ومقاصده؟ وهل يمكن أن نعزل‬ ‫ّ‬
‫ال للجانب املا ّدي واالقتصادي فص ً‬
‫ال‬ ‫املعنوي مقاب ً‬
‫ّ‬ ‫تصور العدالة االجتامع ّية؟ أليس طرح اجلانب‬ ‫املعنوي واملا ّدي يف ّ‬
‫ّ‬ ‫ح ّق ًا بني اجلانبني‬
‫غري معقول يف ّ‬
‫ظل تأ ّثر القيم واملبادئ اإلنسان ّية بأوضاعها االقتصاد ّية واالجتامع ّية؟‬

‫الوجداين املطلق واملساواة اإلنسان ّية الكاملة‬


‫ّ‬ ‫التحرر‬
‫ّ‬ ‫مهها‬ ‫يقيم س ّيد قطب مفهوم العدالة االجتامع ّية عىل أسس خمتلفة‪ّ ،‬‬
‫لعل من أ ّ‬
‫االجتامعي الوثيق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والتكافل‬

‫بالتحرر‬
‫ّ‬ ‫يتصور الشيوعيون ذلك‪ ،‬وإنّام‬
‫ّ‬ ‫بالتحرر االقتصادي كام‬
‫ّ‬ ‫الوجداين فأساسه العقيدة وطاعة اهلل التي ال تستقيم‬ ‫ّ‬ ‫التحرر‬
‫ّ‬ ‫فأ ّما‬
‫أن اإلسالم بريء من العصب ّية القبل ّية‬ ‫الوجداين‪ .‬وقد اعترب س ّيد قطب ّ‬
‫ّ‬ ‫للتحرر‬
‫ّ‬ ‫الوجداين العميق‪ ،‬وأ ّما املساواة اإلنسان ّية فنتيجة طبيع ّية‬
‫ّ‬
‫والعنرص ّية إىل جانب براءته من عصب ّية النسب واألرسة‪ .‬فبلغ بذلك حسب رأيه مستوى مل تصل إليه احلضارة الغرب ّية إىل يومنا هذا‪.‬‬
‫أن هذا التم ّيز يشمل معاملة املرأة واملساواة بني الطبقات واألجناس‪ .‬وهو رأي حيتاج إىل املراجعة والنقد يف ضوء الواقع‬ ‫ويعترب ّ‬
‫التارخيي الذي أ ّبد حكم العائلتني األمو ّية والع ّباس ّية ومن بعدها العثامن ّية‪ ،‬وجعل اخلالفة باسم التأويل الديني حكر ًا عىل قريش‪،‬‬ ‫ّ‬
‫احلرية‬‫«فيقرر مبدأ التبعة الفكر ّية يف مقابل ّ‬
‫ّ‬ ‫االجتامعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫حمركا مركز ّيا له آثاره الدين ّية والسياس ّية ‪ .‬وأ ّما التكافل‬
‫‪16‬‬
‫فكانت فيه القبل ّية ّ‬

‫‪  14‬ـ سيّد قطب‪ ،‬العدالة االجتامعيّة يف اإلسالم‪ ،‬ص ‪.24‬‬


‫‪  15‬ـ انظر املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.29‬‬
‫النبوي وبعده‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي يف العهد‬
‫ّ‬ ‫مثال‪ :‬أطروحة الجابري التي قارب فيها دور القبيلة يف التاريخ‬
‫‪  16‬ـ انظر ً‬
‫السيايس العر ّيب محدّداته وتجلّياته‪ ،‬ط‪ ،4‬بريوت‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العرب ّية‪ ،2000 ،‬ص ص ‪ .98 - 79‬ص ص ‪.164 - 129‬‬
‫ّ‬ ‫راجع‪ :‬مح ّمد عابد الجابري‪ ،‬العقل‬

‫‪135‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫بنحمودة‬
‫ّ‬ ‫عمر‬
‫ّ‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ويقرر إىل جانبها التبعة اجلامع ّية التي تشمل الفرد واجلامعة بتكاليفها»‪ .17‬وقد اقتىض منه ذلك إبراز قيم التكافل والتّعاون بني‬
‫الفرد ّية‪ّ ،‬‬
‫الفرد واجلامعة‪.‬‬

‫أن هذا‬‫وحجته عىل ذلك ّ‬‫ّ‬ ‫رب‪.‬‬


‫والرمحة واإليثار وال ّ‬
‫أ ّما الوسائل التي يقدّ مها س ّيد قطب لتحقيق العدالة االجتامع ّية فهي الشهادة والزكاة ّ‬
‫النهج قد آتى «ثمراته كاملة يف فجر اإلسالم‪ّ ،‬‬
‫وظل يؤتيها يف فرتات القرون األربعة عرش التي تلت‪ .‬وإنّه لقادر عىل أن يعيدها يف احلارض‬
‫احلق القويم »‪ .18‬ولكن ما الذي قدّ مه س ّيد قطب وهو‬
‫يوجه وجهته وحني يسلك الناس طريقه ّ‬ ‫واملستقبل‪ ،‬حني يفهم عىل حقيقته وحني ّ‬
‫يتصور إعادة نرش هذه القيم بني‬
‫ّ‬ ‫يستعرض بعض أركان اإلسالم؟ هل معنى دعوته إىل هذه اآلل ّيات رصده لغياهبا يف املجتمع؟ وكيف‬
‫األخالقي بقيمة تلك القيم أم بوسائل سلطو ّية تقوم عىل تأسيس دولة راعية هلا؟ وملاذا‬
‫ّ‬ ‫الناس؟ هل يكون ذلك من خالل نرش الوعي‬
‫اإلسالمي عن حتقيق العدالة املنشودة‪ ،‬واحلال ّأنا محلت شعار اإلسالم ومل متنع‬
‫ّ‬ ‫عجزت الدول التي تعاقبت عىل السلطة يف التاريخ‬
‫املسلمني من تطبيق تعاليم الدين؟‬

‫‪ .4‬طوبى العدالة‪:‬‬
‫ال للمعضالت اإلنسان ّية‪،‬‬ ‫أن الصورة التي يقدّ مها س ّيد قطب للعدالة االجتامع ّية هي صورة طوباو ّية ترى يف اإلسالم ح ً‬ ‫ال اختالف يف ّ‬
‫كل األطروحات األخرى غري حم ّققة لألهداف الشاملة التي ح ّققها اإلسالم‪ .‬فالفهم الشمو ّيل الذي يقوم عليه اإلسالم املتخ ّيل‬ ‫وتعترب ّ‬
‫كل اهلنات والنقائص إذا‬ ‫يستعدي سائر التصورات ويستهجنها‪ .‬وهو فهم يستبعد النقد حينام يتع ّلق األمر باإلسالم واملسلمني‪ .‬وتظهر ّ‬
‫السجايل للفكر الدّ يني‪ .‬فقد م ّثل س ّيد قطب مرحلة االنزالق‬ ‫تع ّلقت املسألة بعرض أطروحات غري إسالم ّية‪ ،‬وهو ما يكشف الطابع ّ‬
‫التصورات عمل ّية‬
‫ّ‬ ‫إىل رفض النموذج الغريب بعد أن سادت أطروحات اإلعجاب بأورو ّبا‪ .‬وال غرابة أن يعترب بعض الدارسني هذه‬
‫كل حقبة تارخي ّية‬‫نسبي ال يمكن اعتبار جتسيده يف ّ‬
‫ّ‬ ‫إنساين غري قابل للتجنيس‪ .‬وهو مفهوم‬ ‫ّ‬ ‫حتريف وانتهاك للمفاهيم‪ .19‬فالعدالة مفهوم‬
‫أدل عىل ذلك من ظهور حركة ر ّدة يف الفرتة النبو ّية وزمن خالفة أيب بكر الصديق رغم ما حتمله تلك الفرتة من صورة‬ ‫مثال ّي ًا‪ .‬وليس ّ‬
‫املتمردة عىل السلطة املركز ّية للعدل نابع ًا من رفضها املركز ّية القرش ّية‪ .‬وكانت القبائل‬
‫ّ‬ ‫تصور اجلامعات‬
‫مثال ّية للعدل واملساواة‪ ،‬وكان ّ‬
‫املرتدّ ة غري راضية عن السياسة النبو ّية‪ .‬وبذلك فلم تستطع الرشع ّية النبو ّية أن تقنع تلك القبائل وحت ّقق مبدأ الرضا الذي يضمن سل ًام‬
‫وإن التعويل عىل العدالة القائمة عىل الزكاة يبدو أمر ًا ممكن التح ّقق يف إطارها التّارخيي‪ ،‬ولكنّها تطرح اليوم‬
‫اجتامع ّي ًا واستقرار ًا سياس ّي ًا‪ّ .‬‬
‫تتحول الزكاة إىل قانون تتبنّاه السلطة وتفرضه عىل الناس كره ًا عرب آل ّيات‬‫ّ‬ ‫مجة يف مستوى حتقيق مبدأ العدالة بالزكاة‪ .‬فهل‬ ‫إشكال ّيات ّ‬
‫اختياري يوكل إىل ضامئر املسلمني وإيامهنم؟‬
‫ّ‬ ‫تطوع‬
‫يظل مسألة ّ‬ ‫الرقابة اجلبائ ّية؟ وحينئذ فام الفرق بينها وبني الرضيبة عىل الدّ خل؟ أم إنّه ّ‬
‫اإلنساين حينئذ إىل سلطة توقظه؟‬
‫ّ‬ ‫وهل حيتاج الضمري‬

‫ثم كانت الزكاة‪ .‬وهذه‬


‫الصدقة ّ‬
‫القرآين مصطلح ّ‬
‫ّ‬ ‫النص‬
‫لو تناولنا تارخيية مفهوم الزكاة « لالحظنا أنّه كان يطلق عليها يف البداية يف ّ‬
‫الزكاة ترتبط بأنواع اإلنتاج وأنامط الثروة التي كانت موجودة يف ذلك العرص‪ .‬هي إذن شكل من أشكال التضامن الذي عرفته ّ‬
‫كل‬
‫املجتمعات القديمة »‪.20‬‬

‫وحتّى إن شاركنا س ّيد قطب يقينه بمثال ّية العدالة االجتامع ّية التي قدّ مها اإلسالم ‪ -‬وهو أمر ّ‬
‫يظل مرتبط ًا بالعقيدة ال بالعقل وقد‬

‫‪  17‬ـ سيّد قطب‪ ،‬العدالة االجتامعيّة يف اإلسالم‪ ،‬ص‪.35‬‬


‫‪  18‬ـ س ّيد قطب‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪  19‬ـ انظر‪ :‬عبد الوهاب املؤدّب‪ ،‬أوهام اإلسالم السيايس‪ ،‬ط‪ ،1‬بربوت‪ ،‬دار النهار‪ ،2003 ،‬ص ‪.123‬‬
‫السيايس‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ ،‬دار التنوير‪ ،2014 ،‬ص ‪.78‬‬
‫ّ‬ ‫‪  20‬ـ عبد املجيد الرشيف‪ ،‬اإلسالم‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪136‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫طوبى العدالة االجتامع ّية وعداء الديمقراطية يف فكر س ّيد قطب‬

‫وتنوعت‬
‫اإلسالمي‪ -‬فهل يمكن أن نستعيد تلك اللحظة الطوباو ّية املنقضية يف جمتمعات تعقدّ ت بنيتها ّ‬
‫ّ‬ ‫تدحضه وقائع كثرية يف التّاريخ‬
‫وتغي واقعها؟‬
‫حاجاهتا ّ‬

‫االجتامعي يف فكر س ّيد قطب هو الرتبية اخللق ّية‪ .‬فاإلحساس اخللقي فطرة يف اإلنسان‪ ،‬ووظيفة الدّ ين هي تنظيمها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إن سبيل التكافل‬
‫وتوجيهها ووضع املقاييس الثابتة هلا‪ .‬ووظيفة املجتمع محاية الفضائل التي ينفق عليها ال فرضها فرض ًا ضدّ إرادة األفراد ‪ .‬وبذلك‬
‫‪21‬‬

‫األول حني تكافل‬ ‫اإلسالمي يف فجره ّ‬


‫ّ‬ ‫ينفي سيد قطب عن األخالق الطابع النّفعي‪ .‬ويعرض نموذج ًا يعتربه مثال ّي ًا‪ ،‬وهو املجتمع‬
‫االجتامعي‪ .‬فنظام الزكاة‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي ك ّلها كام قامت تقاليده الشعب ّية عىل أساس التكافل‬
‫ّ‬ ‫ثم «قامت نظم املجتمع‬
‫األنصار مع املهاجرين‪ّ ،‬‬
‫ونظام املرياث ونظام الوقف اخلريي ونظام اجلهاد ونظام احلر ّية ونظام املعامالت االقتصاد ّية غري الربو ّية‪ ،‬ك ّلها نظم تقوم عىل أساس‬
‫والفتوة‪ ،‬ك ّلها تقاليد تقوم عىل أساس التكافل‬
‫ّ‬ ‫رب واإلحسان ومحاية الضعيف والنجدة‬ ‫االجتامعي‪ .‬وكذلك تقاليد الصدقة وال ّ‬
‫ّ‬ ‫التكافل‬
‫االجتامعي» ‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫ّ‬

‫فالعدالة االجتامع ّية وفق الرؤية اإليديولوج ّية التي يقدّ مها سيد قطب تقوم عىل االختزال والتبسيط‪ ،‬وتقديم وصفات فكر ّية جاهزة‪.‬‬
‫اإلسالمي زمن‬
‫ّ‬ ‫ال دون حتقيق مفهوم العدالة املنشود‪ .‬فإذا استقام النموذج‬‫أهم املعضالت التي يمكن أن تقف حائ ً‬ ‫وهو خيفي بذلك ّ‬
‫ظل دول وطن ّية تعاين من تبعات‬ ‫الغلبة وتد ّفق املوارد التي مجعها املسلمون بالغزو والفتوحات‪ ،‬فكيف يمكن حتقيق األوضاع نفسها يف ّ‬
‫االقتصادي وهيمنة دول أخرى عىل املسالك االقتصاد ّية والتجار ّية؟ هل يمكن عزل العدالة االجتامع ّية عن وضع ّية‬
‫ّ‬ ‫االستعامر والتخ ّلف‬
‫التبع ّية التي تعانيها الدول الوطن ّية؟ وكيف يمكن أن نقيض عىل مشاكل اجلهل والفقر والتخ ّلف بقيم نشأت يف بيئة جاهل ّية وباركها‬
‫والفتوة؟‬
‫ّ‬ ‫رب واإلحسان والنجدة‬
‫اإلسالم كال ّ‬

‫أن االعتقاد يف وجود نموذج‬ ‫تصور س ّيد قطب إشكال ّيات يف مستوى التنظري والتطبيق‪ ،‬ذلك ّ‬ ‫يطرح مفهوم العدالة االجتامع ّية يف ّ‬
‫املتغيات االقتصاد ّية واالجتامع ّية ويؤ ّبد منظومة قداسة جاهزة قائمة عىل‬
‫متحولة لفهم ّ‬
‫ّ‬ ‫واجتامعي جاهز ينهي التفكري يف آل ّيات‬
‫ّ‬ ‫اقتصادي‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫يتصور أن الوسائل التي كانت ناجعة يف حتقيق العدالة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عنارص مقدّ سة كالشهادة والزكاة ‪ ،‬ويتجاهل الواقع جتاهال كبريا‪ ،‬ولذلك فهو‬
‫‪23‬‬

‫تظل ناجعة يف جمتمعات ختتلف وضع ّياهتا من قطر إىل آخر‪،‬‬ ‫امليالدي يمكن أن ّ‬
‫ّ‬ ‫االجتامع ّية يف رقعة من اجلزيرة العرب ّية يف القرن السابع‬
‫وتتبدّ ل حاجاهتا بحسب مواردها ونسب البطالة فيها وطبيعة الفرص االقتصاد ّية املتاحة هلا‪.‬‬

‫حتوالت كربى يف عرصه‪ .‬وينقد ما شاب الدّ ين‬ ‫يؤسس س ّيد قطب مفهوم ًا منغلق ًا للعدالة يس ّيجه باملقدّ س متجاه ً‬
‫ال ما شهده العامل من ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلسالمي من فلسفة وعلم كالم أفسدا نقاءه‪ ،‬واحلال أنّه يتّخذ من علم الكالم ومنهجه وسيلة للر ّد عىل الدّ يانات األخرى والنظم‬ ‫ّ‬
‫تصور شمو ّيل‬
‫تفرد النموذج اإلسالمي وقدرته عىل حتقيق ّ‬ ‫االقتصاد ّية واالجتامع ّية الرأسامل ّية والشيوع ّية‪ .‬وغايته من وراء ذلك إثبات ّ‬
‫للعدالة االجتامع ّية‪.‬‬

‫المقدس في خطاب س ّيد قطب‪:‬‬


‫ّ‬ ‫‪ .5‬تفكيك‬
‫قد نحتاج‪ ،‬ونحن نروم تفكيك خطاب س ّيد قطب حول العدالة االجتامع ّية‪ ،‬إىل طرح سؤالني مركز ّيني طرحهام عبد الرمحن بدوي وهو‬
‫يسائل مفهوم تطبيق الرشيعة الذي تنادي به اجلامعات اإلسالم ّية‪ .‬ومها سؤال‪ :‬ملاذا؟ وكيف؟‬

‫‪  21‬ـ انظر‪ :‬س ّيد قطب‪ ،‬دراسات إسالم ّية‪ ،‬ط‪ ،11‬مرص‪ ،‬دار الرشوق‪ ،2006 ،‬ص ‪.49‬‬
‫‪  22‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى هذا النظام»‪ .‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.63‬‬
‫االجتامعي يف اإلسالم نظام كامل‪ ،‬نظام ّ‬
‫ّ‬ ‫‪  23‬ـ يقول س ّيد قطب‪« :‬إ ّن التكافل‬

‫‪137‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫بنحمودة‬
‫ّ‬ ‫عمر‬
‫ّ‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫يؤسس هلا س ّيد قطب عىل مرجع ّية إهل ّية مقدّ سة يم ّيزها عن مجيع املرجع ّيات اإلنسان ّية‪ ،‬وهو يفرتض دوم ًا يف املخاطب‬
‫تقوم العدالة التي ّ‬
‫النسبي والقارص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلنساين‬
‫ّ‬ ‫اإلهلي املقدّ س واملطلق عىل‬
‫ّ‬ ‫يرجح ك ّفة‬
‫أن ّ‬

‫ولكن هل يقدّ م س ّيد قطب مفهوم ًا إهل ّي ًا للعدالة االجتامع ّية؟‬


‫تصوره للعدالة االجتامع ّية يالحظ بيرس ّأنا تقوم عىل عمل ّية تأويل وتركيب‬ ‫إن املتأ ّمل يف األسس النظر ّية التي يقيم عليها س ّيد قطب ّ‬ ‫ّ‬
‫القرآين‪ .‬وهو تأويل يقوم صاحبه عمد ًا بإخفاء اإلشكال ّيات‬ ‫ّ‬ ‫لعنارص متناثرة حياول أن خيلق هلا انسجام ًا داخل ّي ًا واتّصاالً دائ ًام باخلطاب‬
‫كل تلك‬ ‫ال عن سبب قيام حروب الر ّدة والفتنة وافرتاق الفرق‪ ،‬وإنّام يعترب ّ‬ ‫النظري‪ .‬فال يتساءل مث ً‬‫ّ‬ ‫الطبيع ّية التي شابت تطبيق النموذج‬
‫النبوي بدوره هو‬
‫ّ‬ ‫الصايف الذي يم ّثل نواة العدالة االجتامع ّية املوعودة‪ .‬ويتجاهل ّ‬
‫أن النموذج‬ ‫النبوي ّ‬
‫ّ‬ ‫األحداث بمثابة انحراف عن املسار‬
‫القوة لنرش الدّ عوة ومجع املوارد وجعل من رشع ّية املقدّ س وسيلة لفرض سياسة اقتصاد ّية مل‬ ‫تارخيي كان من مجلة اختياراته اعتامد ّ‬ ‫ّ‬ ‫تصور‬
‫ّ‬
‫تارخيي يطرح إشكال ّيات‬ ‫ّ‬ ‫تكن لرتيض كثري ًا من القبائل التي آمنت حتت سلطة السيف ّ‬
‫وقوة اجلامعة املقاتلة‪ .‬فمفهوم العدالة هنا هو مفهوم‬
‫تنص عليه آيات كثرية هتدف ك ّلها إىل إشعار األغنياء‬ ‫التارخيي‪« .‬فمفهوم اإلحسان مبدأ اعرتف به يف اإلسالم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتغي الواقع‬
‫االستنساخ ّ‬
‫أن اإلحسان صيغة أساس ّية تستهدف حتقيق شكل‬ ‫بأن للمحرومني يف أمواهلم ح ّق ًا‪ ،‬أي هتدف إىل ضامن حدّ أدنى من املعيشة للفقري‪ .‬أي ّ‬ ‫ّ‬
‫الغني والفقري يف جمتمع‬‫ّ‬ ‫أن تع ّقد املجتمعات احلديثة‪ ،‬وعدم وجود اتّصال وثيق أو تعارف مبارش بني‬ ‫من أشكال العدالة االجتامع ّية‪ .‬غري ّ‬
‫ثم‬
‫الغني والفقري‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫املدينة الضخم املزدحم‪ ،‬حيتّم علينا أن نأخذ من مبدأ اإلحسان روحه العا ّمة‪ ،‬وذلك بالسعي إىل تضييق الفجوة بني‬
‫نبذل جهود ًا هائلة من أجل حتديد الوسائل التي تكفل حتقيق شكل من أشكال العدالة االجتامع ّية يف هذا املجتمع املع ّقد‪ .‬وتتفاوت‬
‫الغني بتقديم صدقة مبارشة إىل الفقري (وهي صيغة مل تعد جمدية يف معظم املجتمعات املعارصة)‬ ‫ّ‬ ‫الصيغة التي يمكننا تطبيقها‪ ،‬بني قيام‬
‫وبني منع األغنياء من أن يمتلكوا الوسائل التي متكّنهم من استغالل الفقراء والضعفاء‪ ،‬يف الطرف اآلخر من س ّلم احللول املمكنة‪.‬‬
‫وفيام بني هذين الطرفني تدور خالفات ال ّأول هلا وال آخر‪ ،‬ك ّلها خالفات برش ّية خالصة‪ ،‬وإن كانت ك ّلها قابلة ألن تندرج حتت املبدأ‬
‫حتام إىل تأويل‬
‫سيتحول ً‬
‫ّ‬ ‫السامو ّية املقدّ سة‬
‫أي ترشيع مهام كانت مرجع ّياته ّ‬‫أن ّ‬‫الطبيعي ّ‬
‫ّ‬ ‫الديني العام‪ ،‬مبدأ اإلحسان»‪ .24‬ولذلك فمن‬
‫وإن تسمية قوانني العدالة االجتامع ّية بتسميات إهل ّية لن يمنع من تأثري ميوالت البرش‬ ‫بمجرد أن تتل ّقفه يد البرش‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫برشي‬
‫ّ‬ ‫إنساين واجتهاد‬
‫ّ‬
‫تصورات برش ّية قابلة للنقد والتعديل‪.‬‬
‫ومشاعرهم يف تلك القوانني‪ ،‬ولذلك فهي ّ‬

‫ورغم وعي س ّيد قطب هبذا االعرتاض من خالل قوله‪« :‬واآلن يقول قائل‪ :‬إذا كان اإلسالم‪ ،‬وهو منهج اهلل للحياة البرش ّية‪ ،‬ال‬
‫البرشي‪ ،‬ويف حدود الطاقة البرش ّية‪ ،‬ويف حدود الواقع املا ّدي للحياة اإلنسان ّية يف البيئات‬
‫ّ‬ ‫يتح ّقق يف األرض ويف دنيا الناس‪ ،‬إال باجلهد‬
‫البرشي «الذي يصنعه فرد حاكم أو أرسة حاكمة أو طبقة‬ ‫ّ‬ ‫يتصور دوم ًا ّ‬
‫أن الترشيع‬ ‫ّ‬ ‫املختلفة‪ ،...‬فام ميزته إذن عىل املناهج البرش ّية؟» فإنّه‬
‫‪25‬‬

‫يتجرد من اهلوى‪ ،‬ومن مراعاة مصلحة واضع الترشيع‪ ،‬فأ ّما حني‬ ‫حاكمة أو أ ّمة حاكمة أو جنس حاكم يستحيل بحسب فطرة اإلنسان أن ّ‬
‫احلقيقي الشامل الكامل‪ ،‬الذي ال يملك منهج ًا آخر من‬ ‫ّ‬ ‫الصفة ويتح ّقق العدل‬ ‫يكون منهج اهلل هو الذي حيكم حياة البرش‪ ،‬فتنتفي هذه ّ‬
‫اإلنساين‬
‫ّ‬ ‫اإلنساين والضعف‬
‫ّ‬ ‫يتجرد من عوامل اهلوى‬‫مناهج البرش أن حيققه يف صورته هذه‪ .‬ألنّه ليس بني هذه املناهج ك ّلها ما يمكن أن ّ‬
‫واحلرص عىل املصلحة الذات ّية يف صورة من الصور»‪.26‬‬

‫اإلهلي هو اإلله ذاته؟ وكيف يمكن أن نتجاوز تلك األهواء واملصالح بتحويل‬
‫ّ‬ ‫أن من سيقوم بتطبيق الترشيع‬ ‫يتصور س ّيد قطب ّ‬ ‫ّ‬ ‫فهل‬
‫الترشيعات اإلهل ّية إىل قوانني دنيو ّية متداولة بني البرش؟‬

‫‪  24‬ـ عبد الرحمن بدوي‪ ،‬الحقيقة والوهم يف الحركات اإلسالم ّية املعارصة‪ ،‬ط‪ ،1‬مرص‪ ،‬دار الفكر للدراسات والنرش والتوزيع‪ ،1986،‬ص ص‪.145 ،144‬‬
‫‪ 25‬ـ سيّد قطب‪ ،‬هذا الدّين‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪  26‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪138‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫طوبى العدالة االجتامع ّية وعداء الديمقراطية يف فكر س ّيد قطب‬

‫السؤال الثاين هو‪ :‬كيف نح ّقق العدالة االجتامع ّية؟‬


‫الرشقي‪ ،‬والوطن ّية والقوم ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ومترسع للواقع أساسه اجلزم بفشل ّ‬
‫كل األنظمة الغرب ّية‪ ،‬واملعسكر‬ ‫ّ‬ ‫ينطلق س ّيد قطب من تشخيص جممل‬
‫وتصوراهتم وأوضاعهم وأنظمتهم‬ ‫ّ‬ ‫ولذلك فقد جاء دور اإلسالم لتأسيس أ ّمة ليست أرض ًا وال قوم ًا‪ ،‬وإنّام «مجاعة من البرش تنبثق حياهتم‬
‫اإلسالمي»‪ 27‬تبدأ بمرشوع بعث هلذه األ ّمة وتنتهي بتس ّلم قيادة البرش ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وقيمهم وموازينهم ك ّلها من املنهج‬

‫لقد فرض هذا الفهم عىل س ّيد قطب استعادة للحظة التارخي ّية التي ظهرت فيها الدّ عوة النبو ّية‪ .‬ولذلك فقد حاول تأسيس مرشوعه‬
‫أخص خصائص األلوه ّية‪ ،‬وهي احلاكم ّية التي تط ّبق‬
‫ّ‬ ‫عىل اعتبار العامل يعيش ك ّله يف جاهل ّية‪ 28‬تعتدي عىل سلطان اهلل يف األرض وعىل‬
‫اإلسالمي القادر عىل حترير الناس مجيع ًا من عبادة بعضهم لبعض بعبادة اهلل وحده والتل ّقي من اهلل وحده واخلضوع هلل وحده ‪.29‬‬
‫ّ‬ ‫املنهج‬

‫تأسس هذا املرشوع عىل قراءة متخ ّيلة لسرية الصحابة واعتبارهم ذوات ًا مقدّ سة تكاد ترتقي إىل منازل أنصاف اآلهلة الذين كانوا‬ ‫وقد ّ‬
‫قرآين أساسه العقيدة ور ّد أموال األغنياء عىل الفقراء وحتقيق توزيع‬ ‫ٍ‬
‫قرآين صاف مل تشبه الشوائب‪ .‬واعتقد يف وجود منهج‬ ‫ينهلون من نبع‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اعتقادي شامل ير ّد األمر ك ّله هلل‪ ،‬وبالعقيدة منحت املرأة حقوقها‪ .‬ويعترب ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫تصور‬
‫عادل للثروة‪ .‬فكانت العدالة االجتامع ّية منبثقة من ّ‬
‫سبيل القرآن لرتسيخ العقيدة خماطبة الفطرة اإلنسان ّية لتسلك منهج تفكري ر ّباين أصيل‪ .‬وقد سعى إىل إقامة صورة متخ ّيلة للمنهج الر ّباين‬
‫التصور الدّ عوة إىل اجلهاد‬
‫ّ‬ ‫اختص به اإلسالم‪ ،‬فألغى مجيع الفوارق العرق ّية والقوم ّية والطبق ّية‪ .‬فكانت النتيجة التي أفىض إليها هذا‬
‫ّ‬ ‫الذي‬
‫سمه «الواقع ّية احلرك ّية»‬‫والقوة واجلهاد من جهة أخرى إلزالة األنظمة والسلطات القائمة عليها ‪ .‬واإليامن بام ّ‬
‫‪30‬‬
‫ّ‬ ‫بالدّ عوة والبيان من جهة‬
‫التي هتدف إىل القضاء عىل الطواغيت من األرض مجيعها وتعبيد الناس هلل الواحد بعد حتطيم األنظمة السياس ّية احلاكمة أو قهرها حتّى‬
‫تدفع اجلزية وتعلن استسالمها والتخلية بني مجاهريها وهذه العقيدة‪ .31‬وهو يعترب أنّه ال تعارض بني سياسة املراحل وبني مقاصد حتقيق‬
‫ال بني الناس واإلسالم بتحطيم القوى السياس ّية املا ّدية التي حتول بني الناس وبني‬ ‫األهداف املرسومة‪ .‬ويدعو إىل قتال من يقف حائ ً‬
‫يقرها ‪ .‬فتطبيق الرشيعة اإلهل ّية التي سنّها اللّ رضورة‬
‫‪32‬‬ ‫الدين‪ .‬ويك ّفر ّ‬
‫كل من ال يط ّبق رشع اهلل وال يؤمن بمفاهيم العدالة االجتامع ّية التي ّ‬
‫جاهيل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إسالمي وجمتمع‬
‫ّ‬ ‫ملحة من أجل التنسيق بني حاجات اإلنسان الدنيو ّية واألخرو ّية‪ .‬والرشيعة هي معيار التمييز بني جمتمع‬ ‫ّ‬

‫‪ .6‬قسمة العالم‪ :‬الجاهل ّية واإلسالم‬


‫إسالمي أساسه األخالق‪ ،‬وجمتمعات جاهل ّية‬
‫ّ‬ ‫تصور مثا ّيل ملجتمع‬
‫إسالمي وآخر جاهيل تقود س ّيد قطب إىل ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إن قسمة العامل إىل جمتمع‬
‫الرذيلة‪ .‬وهي قسمة تقوم عىل معيار الرشيعة وتطبيق احلدود‪ .‬وينقسم العامل وفق‬ ‫ال أخالق هلا وال ع ّفة تستبيح أعراض النساء ّ‬
‫وتروج ّ‬

‫‪  27‬ـ سيد قطب‪ ،‬معامل يف الطريق‪ ،‬ص‪.6‬‬


‫كل مجتمع ال يخلص عبوديّته له وحده‪ .‬والجاهليّة ليست فرتة من الزمان‪ ،‬وإنّ ا‬
‫كل مجتمع غري املجتمع املسلم‪ ،‬وهو ّ‬
‫الجاهيل بأنّه ّ‬
‫ّ‬ ‫‪  28‬ـ يع ّرف سيّد قطب املجتمع‬
‫حالة من الحاالت تتك ّرر كلّام انحرف املجتمع عن نهج اإلسالم‪ ،‬يف املايض والحارض واملستقبل عىل السواء‪ .‬انظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪ 88‬وص ‪.167‬‬
‫‪  29‬ـ انظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.8‬‬
‫الحريك لإلسالم يف صورة الجهاد بالسيف إىل جانب الجهاد‬
‫ّ‬ ‫‪  30‬ـ يقول س ّيد قطب‪« :‬والذي يدرك طبيعة هذا الدّين عىل النحو املتقدّم يدرك معها حتم ّية االنطالق‬
‫بالبيان‪ ،‬ويدرك أ ّن ذلك مل يكن حركة دفاعيّة باملعنى الضيّق الذي يفهم اليوم من اصطالح «الحرب الدفاعيّة» كام يريد املهزومون أمام ضغط الواقع الحارض‪ ،‬وأ ّما‬
‫هجوم املسترشقني املاكر أن يص ّوروا حركة الجهاد يف اإلسالم إمنا كان حركة اندفاع وانطالق لتحرير اإلنسان يف األرض بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البرشي‪ ،‬ويف‬
‫مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها املتجددة‪ ».‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪  31‬ـ انظر‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.57‬‬
‫أوال واهمون‪ ،...‬وهم ثانياً‬
‫‪  32‬ـ يقول سيّد قطب‪« :‬إ ّن مصلحة البرش متض ّمنة يف رشع اللّه‪ ،...‬فإذا بدا للرش ذات يوم أن مصلحتهم يف مخالفة ما ّرشع الله لهم فهم ً‬
‫كافرون‪ ،»...‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.96‬‬

‫‪139‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫بنحمودة‬
‫ّ‬ ‫عمر‬
‫ّ‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫هذا املعنى إىل دار سلم وهي دار اإلسالم وما عداها دار حرب عالقة املسلم هبا إ ّما القتال وإ ّما املهادنة عىل عهد أمان‪ ،‬ولكنّها ليست دار‬
‫سالم وال والء بني أهلها وبني املسلمني‪ .‬وتفرتض الدولة اإلسالم ّية التي يسعى إىل تأسيسها أنّه «يمكن استخدامها يف تنفيذ وظائف‬
‫حيولوا آلة حكم الدّ ولة حني ال تستخدم للعنف‪ ،‬حمدّ دين بذلك ما‬ ‫معينة طبق ًا خليارات قادهتا وقراراهتم‪ .‬كام تفرتض ّ‬
‫أن بمقدور القادة أن ّ‬
‫املتأصلة يف القرآن‪ ،‬وتلك التي ح ّققها الرسول يف «دولته الصغرية» يف املدينة»‪.33‬‬‫ّ‬ ‫ستكون عليه الدولة‪ ... :‬إسالم ّية تط ّبق القيم واملثال ّيات‬

‫بأن املسلمني هم خري أ ّمة أخرجت للنّاس‪ .‬بل إنّه جيعل‬ ‫ونتيجة لذلك فقد قامت أطروحة س ّيد قطب عىل نظرة استعالئ ّية ويقني ّ‬
‫وكل أحد‪ ،‬االستعالء باإليامن وقيمه عىل مجيع القيم املنبثقة من أصل‬ ‫وكل قيمة ّ‬
‫وكل وضع ّ‬ ‫كل يشء ّ‬ ‫االستعالء رشط ًا لإليامن إزاء ّ‬
‫يتصور‬
‫ّ‬ ‫غري اإليامن‪ .34‬ولكنّه ال يفصل بني تطبيق العدالة االجتامع ّية وإقامة دولة اإلسالم عىل أنقاض دولة الطواغيت والكفر‪ -‬مثلام‬
‫الربط بني سياسة املال وسياسة احلكم‪ .‬فال يمكن تطبيق القوانني اإلسالم ّية للعدالة االجتامع ّية إال بقيام‬
‫ذلك‪ -‬إذ هو يدعو إىل رضورة ّ‬
‫الرشيعة سياسة للحكم‪.35‬‬

‫ال فصل يف فكر س ّيد قطب بني العدالة االجتامع ّية وتطبيق الرشيعة اإلسالم ّية ومبدأ احلاكم ّية‪ ،‬إذ يوجد تالزم بني الديني والسيايس‬
‫كل اإلشكال ّيات‪ .‬ومفهوم املجتمع املسلم هو ّ‬
‫احلل‬ ‫واالجتامعي‪ .‬فأسلمة املجتمع اجلاهيل هي الطريقة املثىل للقضاء عىل ّ‬
‫ّ‬ ‫واالقتصادي‬
‫ّ‬
‫كل الصعاب والقضاء عىل التخ ّلف والفقر والتفاوت الطبقي والعرقي واجلنيس‪.‬‬ ‫السحري الذي يقرتحه س ّيد قطب من أجل جتاوز ّ‬‫ّ‬

‫متطرف يو ّظف العنف ضدّ املجتمع اجلاهيل من‬ ‫ّ‬ ‫سلفي‬


‫ّ‬ ‫تظل املسؤولة عنى نشأة فكر‬ ‫إن مثل هذه احللول التي يقدّ مها سيد قطب ّ‬ ‫ّ‬
‫األول فيتم ّثل‬
‫سلبي مزدوج‪ .‬فأ ّما التأثري ّ‬
‫ّ‬ ‫أجل حتقيق العدالة املنشودة‪ .‬وهو بذلك هيدر طاقات املجتمع يف ّاتاه عدائ ّية للغرب هلا تأثري‬
‫احلل الذي يقيض عىل مجيع األزمات السياس ّية واالقتصاد ّية واالجتامع ّية كامن ًا يف قراءة تراث ّية حاملة باملجد الضائع‪ ،‬مقاصدها‬ ‫تصور ّ‬ ‫يف ّ‬
‫طوباوي ال يتح ّقق إال يف ذهن املؤمنني به لفقدانه األسس املنطق ّية واملقاربة الواقع ّية والعقالن ّية ملشاكل املجتمعات العرب ّية‬
‫ّ‬ ‫حتقيق نموذج‬
‫التطرف واإلرهاب ووسم اإلسالم بميسم الكراه ّية‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالم ّية‪ .‬وأ ّما التأثري الثاين فيتم ّثل يف توليد نزعة عدائ ّية كانت مسؤولة عن نشأة‬
‫تصورات‬ ‫لآلخر والعنف ضدّ ه‪ .‬وهو ما كان سبب ًا يف إقامة فصل صارم يف فكر بعض اجلامعات اإلسالم ّية التي ظ ّلت حمافظة عىل ّ‬
‫ففوتت عىل نفسها االستفادة من مكتسباته‪ .‬وحتّى‬ ‫اإلنساين ّ‬
‫ّ‬ ‫س ّيد قطب بني املنظومة اإلسالم ّية املنغلقة املؤمنة بتطبيق الرشيعة والفكر‬
‫يب ظ ّلت تثري ريبة األحزاب األخرى‬ ‫طورت فكرها وقبلت الحق ًا بالديمقراط ّية وانخرطت يف العمل احلز ّ‬ ‫اجلامعات اإلسالم ّية التي ّ‬
‫ثم سحبه من أمام األحزاب األخرى‪.‬‬ ‫التي كانت ختشى ر ّدة تلك اجلامعات إىل أصوهلا واختاذها الديمقراط ّية س ّل ًام للوصول إىل احلكم ّ‬
‫وبث ريبة يف نفوس خصومهم‬ ‫وقد سامهت كثري من املامرسات التي أقدم عليها اإلسالم ّيون زمن حكمهم يف تأكيد تلك الشكوك ّ‬
‫السياس ّيني‪.36‬‬

‫‪  33‬ـ وائل حالق‪ ،‬الدولة املستحيلة‪ ،‬اإلسالم والسياسة ومأزق الحداثة‪( ،‬ترجمة عمرو عثامن)‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ ،‬املركز العريب للدراسات واألبحاث‪ ،2014 ،‬ص ص ‪.276 ،275‬‬
‫‪  34‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.163‬‬
‫‪  35‬ـ انظر‪ :‬سيّد قطب‪ ،‬العدالة االجتامعيّة يف اإلسالم‪ ،‬ص ‪.75‬‬
‫مثال تجربة اإلسالميني يف تونس وعالقتهم باألحزاب األخرى التي بدأت عدائ ّية تستعمل الدين مط ّية لتأليب أنصارها ض ّد املعارضني‪ ،‬وقد قاد هذا التحريض‬
‫‪  36‬ـ انظر ً‬
‫اإلسالمي‪ ،‬أو االستعداء الذي أظهره اإلخوان املسلمون تجاه التيارات السياسيّة األخرى زمن‬
‫ّ‬ ‫إىل مقتل املناضل اليساري شكري بلعيد بعد أن كفّره أمئّة ينتمون إىل التيار‬
‫حكم الرئيس املعزول مح ّمد مريس‪ .‬وقد اعترب رفعت السعيد من قبل أ ّن «الفئات املتأسلمة تتح ّرك تحت أجنحة الظالم تارة مبا يس ّمونه التق ّية وتارة بإيهام الكالم‪،‬‬
‫أي إضفاء مرشوعيّة دينيّة عىل ادعائهم‪ ».‬وهو ما أكّدته تجاربهم السياسيّة عىل أرض الواقع‪ .‬رفعت السعيد‪ ،‬التأسلم فكر مسلّح‪ ،‬ط‪ ،1‬دمشق‪ ،‬دار الطليعة الجديدة‪،‬‬
‫‪ ،1996‬ص ‪.7‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪140‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫طوبى العدالة االجتامع ّية وعداء الديمقراطية يف فكر س ّيد قطب‬

‫أن املنتمي إىل اجلامعة هو أفضل من ّ‬


‫كل من هم خارج اجلامعة‪ .‬وهو‬ ‫تعني نزعة االستعالء التي أقام عليها س ّيد قطب نظرته اإلصالح ّية ّ‬
‫يفس النزعة العدوان ّية لدى هؤالء األعضاء إزاء اآلخرين من خارج‬ ‫يستعيل عليهم بإيامنه‪ .‬هو أقرب إىل اهلل وهو أكثر إيامن ًا‪ّ .‬‬
‫ولعل هذا ّ‬
‫أحط منه‪ .‬هو أكثر إيامن ًا وهم يف أحسن األحوال قليلو اإليامن‪ ،‬ومع ميض اخلط عىل استقامته هم كفرة ‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫اجلامعة‪ .‬فهو أفضل منهم وهم ّ‬

‫للتحوالت الكربى التي‬


‫ّ‬ ‫وتفيض هذه النزعة االستعالئ ّية والعدوان ّية إىل هروب من مواجهة الواقع الذي تع ّقدت مشاكله وجتاهل‬
‫يتأسس‬
‫عوض ما يمكن أن ّ‬ ‫شهدها العامل‪ .‬ومل يكن يف مكنة املسلمني مسايرهتا أو النسج عىل منواهلا‪ .‬فاالستعالء عالمة ضعف وهروب ّ‬
‫واالجتامعي الذي تعيشه مرص ويبحث اعتامد ًا عىل مكتسبات العلوم احلديثة عن حلول‬
‫ّ‬ ‫يشخص الواقع االقتصادي‬ ‫من خطاب نقدي ّ‬
‫ناجعة يمكن أن تتجاوز الفقر والتخ ّلف وانتشار اجلهل التي كانت من أهم آفات املجتمع املرصي‪ .‬ولك ّن س ّيد قطب أغلق عىل نفسه‬
‫اإلنساين قديمه (الفلسفة اإلسالم ّية وعلم الكالم)‬
‫ّ‬ ‫ال بني الفكر الذي دعا إليه وبني مكتسبات العقل‬ ‫باب املقدّ س‪ .‬بل إنّه أقام فص ً‬
‫يت الذي كان‬ ‫السائدة يف عرصه كعلم االقتصاد وعلم االجتامع‪ .)...‬ولذلك فقد كانت رؤيته تأسيس ًا لالنغالق الالهو ّ‬ ‫وحديثه (العلوم ّ‬
‫النواة األساس ّية للفكر األصو ّيل املتشدّ د املؤمن بخيار العنف واحلامل لشعارات اخلالفة واحلاكم ّية واحلرب املقدّ سة ضدّ جاهل ّية القرن‬
‫اجللد إىل ضح ّية‪ ،‬وأن جيعل ممّن يوقد نار العنف ّأول من‬ ‫حيول ّ‬
‫العرشين‪ .‬ولك ّن قدر العنف القائم عىل قانون املحاكاة أنّه يمكن أن ّ‬
‫يكتوي هبا‪.‬‬

‫الالهوتي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪ .7‬العدالة االجتماع ّية واالنغالق‬
‫يتحول يف الواقع إىل شكل من‬ ‫ّ‬ ‫إن الطابع الشمو ّيل الذي يضعه س ّيد قطب عنوان ًا بارز ًا لسياسة العدالة االجتامع ّية التي يدعو إليها قد‬ ‫ّ‬
‫يت تقف حدوده عند املنتمني إىل اجلامعة‪ .‬وهذا ما أثبتته الوقائع التارخي ّية من خالل حركة التضامن الداخيل التي شهدها‬ ‫االنغالق الالهو ّ‬
‫فضال عن مسارعتهم‬ ‫توزع عىل املنتمني إليهم ‪ً .‬‬
‫‪38‬‬
‫رسي ّ‬ ‫تنظيم اإلخوان املسلمني‪ .‬فقد كانت التربعات التي جيمعها أنصار احلزب بشكل ّ‬
‫إىل قانون التعويض الذي شمل أنصارهم بعد توليهم احلكم يف تونس‪ .‬ومل يراعوا ما كان يعيشه املجتمع من أزمات‪ ،‬بل ّإنم تل ّقوا تلك‬
‫ملحة إليها‪ .‬وسارعوا إىل شغل املناصب املختلفة داخل دواليب الدّ ولة عىل حساب من‬ ‫التعويضات وإن مل تكن هبم خصاصة أو حاجة ّ‬
‫أن عقل ّية االستعالء يمكن أن تؤول يف النهاية إىل نظرة فئو ّية ض ّيقة ال ترى‬‫كان يفوقهم كفاءة أو من كان أحوج إىل العمل منهم ‪ .‬فأثبتوا ّ‬
‫‪39‬‬

‫أن املقدّ س يمكن أن ينغلق عىل فرقة‬ ‫سوى مصلحة اإلخوان املنتمني إىل احلزب بدل أن تكون شمول ّية‪ .‬وقد أثبتت التجارب التارخي ّية ّ‬
‫ال حيتكر احلقيقة ويرمي سائر املختلفني بالكفر واملروق عن الدين‪ ،‬وما يقابل ذلك من فرض التهميش‬ ‫ربر سلطتها باعتامدها تأوي ً‬
‫ناجية ت ّ‬
‫والبطالة عىل غري املنتمني إىل مجاعتهم‪.‬‬

‫لقد كان للفالسفة نظرة نقد ّية تكشف ما يمكن أن يتوارى وراء املقدّ س من مصالح فرد ّية ومجاع ّية‪ .‬ولذلك فقد اعترب «كانط» (ت‬
‫يقرر اليشء‬
‫كل فرد ّ‬‫أن ّ‬
‫املوحدة كون ّي ًا انطالق ًا من قاعدة ّ‬
‫واملوحدة للجميع‪ ،‬أي إرادة الشعب ّ‬
‫ّ‬ ‫ال ّ‬
‫أن اإلرادة املنسجمة وحدها‬ ‫‪1804‬م) مث ً‬
‫وأن أعضاء جمتمع من هذا القبيل أي أعضاء‬ ‫ويقرر اجلميع اليشء نفسه ّ‬
‫لكل فرد‪ ،‬بإمكاهنا أن تكون مصدر الترشيع‪ّ .‬‬ ‫نفسه للجميع‪ّ ،‬‬

‫‪  37‬ـ رفعت السعيد‪ ،‬حسن البنا متى وكيف وملاذا؟‪ ،‬ط ‪ ،10‬دمشق‪ ،‬دار الطليعة الجديدة‪ ،1997 ،‬ص ص‪.227 ،226‬‬
‫رسي‪.‬‬
‫وخاصة األب املعيل فيها تو ّجه إليها مساعدات بشكل ّ‬
‫ّ‬ ‫‪  38‬ـ الزمت هذه العادة تنظيم اإلخوان املسلمني يف مرص وتونس فكانت األرس التي يعتقل أحد أفرادها‬
‫«اإلسالمي» يف تونس الذي سارع نوابه زمن حكمهم بفرض قانون التعويض الذي مكّن املنتمني إىل حزبهم من تعويضات مال ّية طائلة‬
‫ّ‬ ‫‪  39‬ـ عنينا هنا حزب النهضة‬
‫ومناصب مختلفة داخل دواليب الدولة املختنقة أصالً بكرثة اليد العاملة الحكوميّة‪ ،‬ونالوا الرتقيات االستثنائيّة‪ ،‬واحتسبوا سنوات االنقطاع باعتبارها سنوات عمل ملن‬
‫عزلوا عن مناصبهم‪ .‬ولك ّن تلك اإلجراءات كانت تتّخذ يف زمن تفاقمت فيه نسب البطالة والفقر وكرث عدد العاطلني عن العمل من الشباب الحاملني لشهادات جامع ّية‪،‬‬
‫ومل يكن «ضحاياهم» أثخن جراحاً من ضحايا البطالة والفقر والتهميش‪ ،‬فث ّمة يف املجتمع التونيس من كان أحوج إىل الشغل والتعويض منهم‪ .‬ولك ّنهم اختاروا أال يؤثروا‬
‫عىل أنفسهم ولو بغريهم خصاصة‪.‬‬

‫‪141‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫بنحمودة‬
‫ّ‬ ‫عمر‬
‫ّ‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ألي قانون ما عدا ذلك الذي وافق‬‫يسمون مواطنني‪ ،‬ويمنحون احلرية الرشعية التي ال جتعلهم خيضعون ّ‬ ‫موحدة من أجل الترشيع ّ‬ ‫دولة ّ‬
‫بأي سلطة عليا (من الشعب) إال تلك التي متلك السلطة األخالق ّية‬ ‫كل فرد ال يعرتف ّ‬ ‫عليه املواطن‪ .‬ويعيشون املساواة املدن ّية التي جتعل ّ‬
‫لتلتزم قانون ّي ًا بمن يستطيع إلزامها‪ ،‬وتكتسب صفة االستقالل ّية املدن ّية التي تكمن يف كون الفرد مدن ّي ًا يف وجوده واملحافظة عىل نفسه‪،...‬‬
‫كل ما يتع ّلق باحلكم‪.40‬‬
‫خيص ّ‬
‫أي استحالة أن يم ّثله أحد آخر فيام ّ‬

‫مسوق ًا هلا باعتبارها ّ‬


‫احلل‬ ‫السمة األساس ّية لفكر س ّيد قطب‪ ،‬فإ ّما أن يلتجئ إىل الرتاث مشيد ًا بالتجربة ّ‬
‫النبوية ّ‬ ‫لقد كان التّواكل ّ‬
‫السحري ّ‬
‫لكل مشاكل املجتمع دون تفعيل آلل ّيات عقالن ّية تربز كيف ّية تطبيق هذه النظر ّيات يف جمتمعات خمتلفة يف وضع ّيتها االقتصاد ّية‬
‫وتركيبتها العرق ّية والطبق ّية‪ ،‬وإ ّما أن حياول االستيالء االصطالحي عىل مكتسبات اآلخرين وطرائقهم يف عالج املشاكل االجتامع ّية‬
‫وجعلها إسالم ّية أصلية دون حماولة فهم أسسها النظر ّية أو تبيئتها‪ .41‬فعيب اإلطالق أنّه ال يدرك خصوص ّية املجتمعات التي حياول‬
‫تصوراته اإلصالح ّية‪.‬‬
‫البحث عن حلول ألزماهتا‪ ،‬وإنّام يرى بعني االنتقاء أو احلجب املرجع ّيات التي يستقي منها ّ‬

‫فكيف يمكن تطبيق مبدأ العدالة االجتامع ّية يف ّ‬


‫ظل جتاهل الدور العاملي الذي تضطلع به بعض الدّ ول أو املنظامت ذات النفوذ الواسع‬
‫السيايس‬
‫ّ‬ ‫نموها؟ وهل يمكن جتاهل طبيعة العامل التي انقسم اقتصاد ّي ًا إىل دول عظمى هلا نفوذها‬ ‫يف مساعدة دول أخرى أو عرقلة ّ‬
‫تصوره عىل أساس حرب‬ ‫واالقتصادي ودول ضعيفة تعيش تبع ّية اقتصاد ّية؟ كيف يمكن حتقيق العدالة االجتامع ّية وقد أقام س ّيد قطب ّ‬
‫ّ‬
‫ضدّ ّ‬
‫الكل من اجلاهليني الليرباليني والرأسامليني؟‬

‫تصورات حديثة صارت تؤمن‬ ‫قد تتعارض كثري من مفاهيم العدالة االجتامع ّية التي يرى فيها س ّيد قطب أنصع مظاهر العدل مع ّ‬
‫اإلنساين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وحتوالت الواقع‬
‫حرية املرأة عىل ضوء أسئلة عصور التنوير ّ‬
‫بحقوق اإلنسان بدل اسرتضاء اآلهلة‪ ،‬وتعيد طرح قض ّية ّ‬

‫يتصور س ّيد قطب العدالة االجتامع ّية يف تعدّ د الزوجات ألنّه يعترب األمر بالتعدّ د ر ّباني ًا غري قابل للنقد والتعديل ‪ .‬ولتحقيق ما ّ‬
‫سمه‬ ‫‪42‬‬
‫ّ‬
‫ربج حتّى ال تنطلق شياطني الفتنة واإلغراء مع املرأة‪ ،‬وكي ال ينزلق الزوج‬ ‫السالم البيتي (نسبة إىل البيت) كان النّهي عن االختالط والت ّ‬
‫بشم رائحته‪ ،‬ولذلك ال بدّ من حجبه عن‬ ‫شهي ال تسكن املعدة ّ‬ ‫ّ‬ ‫أو تنزلق الزوجة استجابة هلوى جديد‪ .‬فاملرأة يف نظر س ّيد قطب شواء‬
‫احلرية اإلنسان ّية وحقوق اإلنسان‪ .‬فاملرأة‬
‫قروسطي ما عاد يستجيب إىل مفاهيم ّ‬ ‫ّ‬ ‫تصور‬
‫األنظار وإخفائه كي ال يقع يف يد النهمني ‪ .‬وهو ّ‬
‫‪43‬‬

‫حلريتها أن تكون ندّ ًا للرجل هلا ما له وعليها ما عليه‪ ،‬وما عادت تقبل‬‫قادرة بفضل ما تكتسبه من علم ومعرفة وبقداسة القوانني الراعية ّ‬

‫‪ 40‬ـ انظر‪ :‬عزيز لزرق ومحمد الهاليل‪ ،‬الحق والعدالة‪ ،‬ط‪ ،1‬املغرب‪ ،‬دار توبقال‪ ،2014 ،‬ص ‪.39‬‬
‫كل أو جزيئ‪ .‬أ ّما‬
‫مايل تقوم به الدولة إلعانة من يعجزون عن العمل والكسب‪ ،‬لسبب من األسباب دائم أو مؤقت ّ‬
‫االجتامعي إجراء ّ‬
‫ّ‬ ‫‪  41‬ـ يقول سيّد قطب‪« :‬إ ّن الضامن‬
‫االجتامعي فجزء منه صغري وجانب منه ض ّيق‪ ،‬واملساعدات املال ّية التي تؤدّيها الدولة للعاجزين عن العمل والكسب‪ ،‬ليست سوى جانب‬
‫ّ‬ ‫االجتامعي والضامن‬
‫ّ‬ ‫التكافل‬
‫لكل فرد يف الجامعة اإلسالميّة‪ ».‬يف التّاريخ فكرة ومنهاج‪ ،‬ط‪ ،1‬مرص‪ ،‬دار الرشوق‪( ،‬د ت)‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫اإلسالمي ّ‬
‫ّ‬ ‫من املساعدات املاليّة التي يق ّررها النظام‬
‫‪  42‬ـ يقول س ّيد قطب‪ :‬إ ّن تعدّد الزوجات «موقف ال اختيار فيه‪ .‬فإ ّما هذا وإ ّما هذا‪ ،‬وال مجال لعواطف الشعراء‪ ،‬أو رغبات األفراد‪ ،‬أو الرثثرة الجوفاء‪ .‬إنّها رضورة‬
‫اجتامعيّة ورضورة روحيّة ورضورة حيويّة‪ ،‬ومواجهتها ينبغي أن تكون يف الحدود العمليّة الواقعيّة‪ ،‬ال بالخياالت واألحالم‪ .‬وقد بحثت أملانيا النرصانيّة التي يح ّرم دينها‬
‫الحل املناسب فلم تجد خريه إال ما اختاره اإلسالم‪ ،‬وهي ال تدين باإلسالم‪ ،‬وطالبت املرأة فيها بتعدّد الزوجات‪ ،‬ومل يجئ هذا الطلب من الرجال‪».‬‬
‫التعدّد‪ ...‬بحثت عن ّ‬
‫السالم العاملي واإلسالم‪ ،‬ط‪ ،14‬مرص‪ ،‬دار الرشوق‪ ،2006 ،‬ص ‪.87 ،86‬‬
‫‪  43‬ـ يقول س ّيد قطب يف سياق احتجاجه للفصل بني الجنسني‪« :‬إ ّن الدوافع الجسديّة من الق ّوة والعنف بحيث ال يطفئها ترصيف االختالط‪ ،‬وال حتّى ترصيف االرتواء‪.‬‬
‫فأنت ال تسكت جوعة املعدة بش ّم رائحة الشواء‪ ،‬بل تزيدها تش ّهياً‪ .‬وأنت ال تسكت هذه الجوعة كذلك باألكلة الدسمة املتخمة إال إىل حني‪ ،‬تفيق بعدها وهي أش ّد‬
‫تش ّهياً وأطلب لألكالت الدسمة» السالم العاملي واإلسالم‪ ،‬ص‪.72‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪142‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫طوبى العدالة االجتامع ّية وعداء الديمقراطية يف فكر س ّيد قطب‬

‫لقد كان مفهوم اجلاهل ّية تأكيد ًا الرهتان‬ ‫أن تكون شواء شه ّي ًا حيجبه الرجل عن أعني الطامعني فيه ليستأثر‬
‫الفكر اإلسالمي يف النصوص ّية‪ ،‬وتأكيد ًا‬ ‫به لنفسه‪.‬‬

‫العقالين الذي سنّه املعتزلة‬


‫ّ‬ ‫لتدمري املسار‬ ‫لقد ّ‬
‫ظل النظام الليربا ّيل نظام ًا قائ ًام عىل النقد الذايت‪ .‬ذلك ّ‬
‫أن‬
‫السني بشدّ ة‪ .‬ولذلك فقد كان‬
‫ّ‬ ‫وقاومه الفكر‬ ‫احلر واملتجدّ د‪.‬‬
‫األسس العقالن ّية التي قام عليها هي الفكر النقدّ ي ّ‬
‫املنطقي أن يظهر العداء بني أطروحة‬ ‫ّ‬ ‫من‬ ‫ولذلك فإنّه رغم األزمات التي يعيشها فإنّه يسعى باستمرار إىل‬

‫العقيل يف‬
‫ّ‬ ‫وكل ّاتاهات التفكري‬
‫س ّيد قطب ّ‬ ‫جتاوزها والبحث عن بدائل‪ ،‬فقد قدّ م «رولز»( (�‪John Raw‬‬
‫ال نظر ّية «العدالة بوصفها إنصاف ًا» حيث‬
‫‪( )ls‬ت ‪ 2002‬م) مث ً‬
‫الثقافة العرب ّية اإلسالم ّية أو يف ثقافة أوروبا‬ ‫مؤسسة‬‫عرض رؤية أخالق ّية أساسها عدالة دستور ّية تعاقد ّية ّ‬
‫عىل السواء‬ ‫عىل أخالق الواجب وغايتها جتاوز التفاوت الطبقي والطابع‬
‫النفعي الذي تنامى يف ّ‬
‫ظل األنظمة الليربال ّية‪ .44‬وخضعت نظر ّية‬
‫وحيق القول عىل الديمقراط ّية التي خضعت بدورها إىل‬ ‫ّ‬ ‫«رولز» بدورها إىل نقد «ساندال» ( ‪( )Michael J.Sandel‬ولد سنة ‪.45)1953‬‬
‫التصورات الدغامئ ّية ففي كوهنا تعتقد الكامل يف أطروحاهتا‬
‫ّ‬ ‫املدين تتجاوز نقائصها‪ .46‬أ ّما عيب‬
‫ّ‬ ‫قراءات نقد ّية و ّلدت شبكات يف املجتمع‬
‫وحتوالت الواقع‪.‬‬‫والشمول ّية يف رؤيتها‪ ،‬ولذلك فهي ال تنفتح عىل أسئلة النقد ّ‬

‫السياسي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪ .8‬عداء الديمقراط ّية في فكر س ّيد قطب وأثرها على اإلسالم‬
‫يتصورها‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي للديمقراط ّية‪ .‬وأسباب هذا الرفض قيام فكره عىل أساس احلاكم ّية اإلهل ّية التي‬ ‫ّ‬ ‫يم ّثل س ّيد قطب مرحلة العداء‬
‫اإلسالمي كام حتكمه الرشيعة اإلسالم ّية والنظام‬
‫ّ‬ ‫والتصور‬
‫ّ‬ ‫إسالمي حتكمه العقيدة اإلسالم ّية‬
‫ّ‬ ‫قائمة عىل «استئناف حياة سياس ّية يف جمتمع‬
‫العزة القوم ّية والعدالة االجتامع ّية وخت ّلصها من‬
‫اإلسالمي»‪ .47‬فلم يكن يبدو لس ّيد قطب سوى طريق واحدة هي القادرة عىل حتقيق ّ‬ ‫ّ‬
‫التصور إىل إعادة قراءة التّاريخ عىل‬ ‫ّ‬ ‫لكل مشاكل املسلمني‪ .‬وقد قاد هذا‬ ‫حري ّ‬‫الس ّ‬ ‫احلل ّ‬ ‫آثار االستعامر والطغيان والفساد‪ ،‬فهي مت ّثل ّ‬
‫ثم‬
‫ثم دراسة الدّ عوة ذاهتا إلدراك تفاعلها وصريورهتا وخطواهتا ورجاهلا ونظامها‪ّ ،‬‬ ‫أساس فهم للوضع الذي قامت فيه الدعوة النبو ّية‪ّ ،‬‬
‫واالجتامعي‪ ،‬أي من الناحية‬
‫ّ‬ ‫والفكري‬
‫ّ‬ ‫وحي‬
‫الر ّ‬
‫العسكري وحده ولكن من ناحية التأثري ّ‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬ال من ناحية الفتح‬
‫ّ‬ ‫تأيت مرحلة املدّ‬
‫اإلسالمي‪ .‬ولكن أليس راهن املسلمني أوىل بالدرس من ماضيهم مادامت الغاية‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسان ّية الشاملة ‪ .‬وأخري ًا دراسة مرحلة انحسار املدّ‬
‫‪48‬‬

‫االجتامعي؟‬
‫ّ‬ ‫تغيري واقعهم‬

‫ّ‬
‫املستقل عن األمم األخرى يفرض يف ذهن صاحبه مركز ّية‬ ‫أن اإلسالم حيتوي ما سبقه ّ‬
‫وأن له تارخيه‬ ‫إن هذه الرؤية التي يعتقد صاحبها ّ‬
‫ّ‬
‫اإلنساين وتفاعل احلضارات سبي ً‬
‫ال للتقدّ م يف جمال‬ ‫ّ‬ ‫ال للدور التّارخيي الذي اضطلعت به الشعوب األخرى يف سريورة التاريخ‬ ‫وجتاه ً‬

‫‪  44‬ـ انظر‪ :‬جون رولز‪ ،‬العدالة كإنصاف إعادة صياغة‪( ،‬ترجمة حاج إسامعيل)‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربيّة‪ /‬املنظّمة العربيّة للرتجمة‪.2009 ،‬‬
‫‪  45‬ـ انظر‪ :‬مايكل ج ساندل‪ ،‬الليربال ّية وحدود العدالة‪( ،‬ترجمة مح ّمد هناد)‪ ،‬ط‪ ،1‬مركز دراسات الوحدة العرب ّية‪ /‬املنظّمة العرب ّية للرتجمة‪.2009 ،‬‬
‫مثال تأسيس شبكة الفعل املبارش«‪ »DAN‬يف أمريكا‪ ،‬وقد كانت اتحادا ً كونفدراليّاً بني جامعات فوضويّة‪ ،‬وجامعات مناهضة للسلطويّة قام بغرض تنسيق‬
‫‪  46‬ـ انظر ً‬
‫العمل املبارش املتّصل مبناهضة منظمة التجارة العامل ّية يف ‪ .1999‬وتفكك بعد أحداث شهدتها سياتل‪ ،‬فشكلت بعض التنظيامت املكونة له شبكة جديدة عرفت باسم‬
‫الشبكة القا ّرية للعمل املبارش ‪ .CDAN‬انظر‪ :‬ديفيد غريري‪ ،‬مرشوع الدميقراطيّة‪ ،‬التاريخ‪ ،‬األزمة‪ ،‬الحركة (ترجمة أسامة الغزويل)‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد‬
‫‪ ،418‬نوفمرب ‪ ،2014‬ص‪.21‬‬
‫‪ 47‬ـ سيّد قطب‪ ،‬العدالة االجتامعيّة يف اإلسالم‪ ،‬ص ‪.182‬‬
‫‪  48‬ـ سيد قطب‪ ،‬يف التّاريخ فكرة ومنهاج ص‪.52‬‬

‫‪143‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫بنحمودة‬
‫ّ‬ ‫عمر‬
‫ّ‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ّارخيي تلك إىل حماولة عزل وتسييج احلضارة اإلسالم ّية وجتريدها من ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫املعرفة ويف العلوم الدين ّية ذاهتا‪ .‬وقد قادت عمل ّية العزل الت‬
‫مكتسبات احلضارات األخرى بام يف ذلك احلضارة الغرب ّية‪« .‬فاحلضارة احلديثة ‪ -‬ولو ّأنا قامت ابتداء عىل أسس االجتاهات التجريبية‬
‫اإلسالمي النابعة ابتداء من التوجيهات القرآن ّية لتد ّبر النواميس واستغالل‬
‫ّ‬ ‫العلم ّية التي اقتبستها أوروبا من األندلس ومن الرشق‬
‫الطاقات واملدخرات يف األرض‪ ،‬ومن روح اإلسالم الواقع ّية اإلنسان ّية ‪ -‬إال ّأنا حني انتقلت إىل أوروبا مل تنتقل بجذورها الفلسف ّية‪،‬‬
‫وإنّام انتقلت علوم ًا وطرق ًا فن ّية ومناهج جتريب ّية‪ .‬وصادفت ذلك الفصام النكد بني الدّ ين والنهضة احلضار ّية»‪.49‬‬

‫يصوره س ّيد قطب‪ .‬فالفصام النّكد بني النهضة احلضار ّية والدّ ين هو يف احلقيقة فطام فتح الباب للفكر‬ ‫قد يكون الواقع عكس ما ّ‬
‫وحرر العلم من التبع ّية للمقوالت الدين ّية التي قضت بأرسه يف عصور‬ ‫ّ‬ ‫تتحرر من قيود الرهبنة ورجال الدّ ين‪.‬‬
‫اإلنساين يف أورو ّبا كي ّ‬
‫ّ‬
‫التحرر من سلطة الكنيسة‪ .‬ولك ّن حماولة‬
‫ّ‬ ‫تأسست عىل‬ ‫الظلامت وأعاقت خطواته نحو التحديث‪ .‬ولذلك فحركة التنوير األوروب ّية ّ‬
‫اإلقناع بدور الدين يف هنضة العرب املسلمني قاد س ّيد قطب إىل قراءة ذات ّية تراعي مقاصده وال تستوعب حقيقة التحوالت التارخي ّية التي‬
‫تصور ًا زائف ًا للتاريخ األورو ّ‬
‫يب‪ ،‬وإنّام يف تقديم نموذج زائف لنهضة‬ ‫يب‪ .‬وليست خطورة هذا املوقف يف كونه يقدّ م ّ‬ ‫شهدها املجتمع األورو ّ‬
‫إسالم ّية منشودة‪ ،‬وتفويت الفرصة التارخي ّية عىل املسلمني كي يتبنّوا مراجعات نقد ّية للفكر الدّ يني يمكن أن حتدّ من سلطة رجال الدين‬
‫وتصوراهتم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي وحت ّطم مجود معارفهم‬
‫ّ‬ ‫والفقهاء عىل العقل‬

‫وكل ترشيعاته تنبثق من هذا األصل الكبري‪.‬‬ ‫أن هذا الدّ ين يقوم عىل قاعدة األلوه ّية الواحدة‪ .‬فكل تنظيامته ّ‬ ‫لقد اعترب س ّيد قطب ّ‬
‫ويتول شؤون البرش ّية‪ ،‬ولذلك «فال بدّ ّأوالً أن يقوم املجتمع املسلم الذي ّ‬
‫يقر عقيدة‪ :‬أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأال‬ ‫ّ‬ ‫ونظامه يتناول احلياة ك ّلها‪،‬‬
‫أي وضع ال يقوم عىل هذه القاعدة» ‪ .‬ومن هنا كان رفضه للديمقراط ّية باعتبارها‬
‫‪50‬‬
‫يقر باحلاكم ّية ألحد من دون اهلل‪ ،‬ويرفض رشع ّية ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلسالمي‪ .‬وما االقتداء بالديمقراط ّية أو بنظام املجتمعات الشيوع ّية‬
‫ّ‬ ‫ترشيع ًا إنسان ّي ًا قارص ًا عن إدراك احلقيقة اإلهل ّية الكامنة يف الترشيع‬
‫سوى حماولة تلبية وقت ّية لرغبات تنشئها اهلزيمة الداخل ّية‪ .‬فااللتجاء إىل سبل أخرى غري تطبيق الرشيعة اإلسالم ّية هو «وهم تُنشئه‬
‫كل رشع آخر غريه من ناحية‬ ‫إن القلوب جيب أن ختلص ّأوالً هلل‪ ،‬وتعلن عبود ّيتها له وحده‪ ،‬بقبول رشعه وحده‪ ،‬ورفض ّ‬ ‫العجلة‪ّ ،...‬‬
‫تصورهم سوى «اخلضوع حلكم من األحكام الفقه ّية‪.‬‬ ‫بأي تفصيل عن ذلك الرشع يرغب فيه » ‪ .‬وما الرشيعة يف ّ‬
‫‪51‬‬
‫املبدأ‪ ،‬قبل أن ختاطب ّ‬
‫ولو ترمجنا ذلك إىل لغة حديثة لرأينا أنّه يعني بالضبط رفض القانون الوضعي‪ ،‬أي رفض أن يكون اإلنسان مسؤوالً عن الترشيع‪ .‬وقد‬
‫ديني‪ ،‬ال واضعني لألحكام التي يصدروهنا‪ .‬هذه هي املغالطة التي وقعوا‬ ‫إهلي ّ‬
‫كان الفقهاء عرب التّاريخ يعتربون أنفسهم مستنبطني حلكم ّ‬
‫كل‬‫املؤسسات املجتمع ّية وعىل ّ‬‫كل ّ‬ ‫ألن وضعهم التّارخيي كان يقتيض إضفاء املرشوع ّية الدين ّية عىل ّ‬ ‫فيها‪ ،‬هم أنفسهم‪ ،‬عن حسن ن ّية‪ّ ،‬‬
‫اإلسالمي القائم عىل‬
‫ّ‬ ‫التصورات الباطلة‪ ،‬ولذلك فتسويق املرشوع‬ ‫ّ‬ ‫األفعال التي يأتيها النّاس» ‪ .52‬وأ ّما الديمقراط ّية فتصنّف من ضمن‬
‫اإلسالمي من أجل جتاوز‬
‫ّ‬ ‫أن الغرب ذاته يف حاجة إىل املرشوع‬ ‫جمرد ر ّد عىل التصورات الغرب ّية وإنّام هو تأكيد عىل ّ‬‫مبدأ احلاكم ّية ليس ّ‬
‫توجه الرضبات للقوى السياس ّية التي تُع ّبد الناس لغري اهلل‪ ،‬أي حتكمهم بغري رشيعة اهلل‬ ‫أزماته وإصالح أحواله ‪ .‬ودور هذه الدعوة أن ّ‬
‫‪53‬‬

‫وسلطانه‪.54‬‬

‫‪  49‬ـ سيّد قطب‪ ،‬اإلسالم ومشكالت الحضارة‪ ،‬ص ‪.111‬‬


‫‪  50‬ـ س ّيد قطب‪ ،‬معامل يف الطريق‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪ 51‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫السيايس‪ ،‬ص ص ‪.26 ،25‬‬
‫ّ‬ ‫‪  52‬ـ عبد املجيد الرشيف‪ ،‬مرجع ّيات اإلسالم‬
‫خاصة بالعرب‪ .‬إ ّن موضوعه هو اإلنسان‪ ،‬نوع اإلنسان‪ .‬ومجاله هو األرض»‪ .‬معامل‬ ‫‪  53‬ـ يقول سيّد قطب‪« :‬إ ّن هذا الدّين ليس إعالناً لتحرير اإلنسان ّ‬
‫العريب‪ ،‬وليس رسالة ّ‬
‫يف الطريق‪ ،‬ص ‪.62‬‬
‫‪  54‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.63‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪144‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫طوبى العدالة االجتامع ّية وعداء الديمقراطية يف فكر س ّيد قطب‬

‫العقالين الذي سنّه املعتزلة وقاومه‬


‫ّ‬ ‫لقد كان مفهوم اجلاهل ّية تأكيد ًا الرهتان الفكر اإلسالمي يف النصوص ّية‪ ،‬وتأكيد ًا لتدمري املسار‬
‫العقيل يف الثقافة العرب ّية‬
‫ّ‬ ‫وكل ّاتاهات التفكري‬
‫املنطقي أن يظهر العداء بني أطروحة س ّيد قطب ّ‬
‫ّ‬ ‫السني بشدّ ة‪ .‬ولذلك فقد كان من‬‫ّ‬ ‫الفكر‬
‫اإلسالم ّية أو يف ثقافة أوروبا عىل السواء ‪.‬‬
‫‪55‬‬

‫كل التأويالت العقل ّية قديمها وحديثها يف‬ ‫وضح ذلك نرص حامد أبو زيد‪ ،‬هو عداء ّ‬ ‫األول الذي قامت عليه احلاكم ّية‪ ،‬كام ّ‬
‫فاألساس ّ‬
‫ٍ‬
‫إطار البحث عن مصدر صاف للترشيع ال تشوبه شائبة افرتاق الفرق وال مبادئ احلضارة الغرب ّية‪ .‬أ ّما املبدأ الثاين فاالعتقاد يف وجود‬
‫مجة‪،‬‬
‫جزئي وحقائقها نسب ّية ومساوئها ّ‬ ‫ّ‬ ‫إهلي مستمدّ من روح الرشيعة اإلسالم ّية مقابل ترشيعات برش ّية قارصة وحمدودة طابعها‬ ‫ترشيع ّ‬
‫بام يف ذلك الديمقراط ّية التي تعطي احلكم للبرش وتستجيب لرغباهتم وأهوائهم بدل االستجابة لإلرادة اإلهل ّية العليا وتطبيق القوانني‬
‫واإلنساين يتجاهل حقيقة ها ّمة ثابتة يف طبيعة الوحي‬
‫ّ‬ ‫اإلهلي‬
‫ّ‬ ‫أقرهتا الرشيعة اإلسالم ّية‪« .‬ومثل هذا الفصل الكامل بني‬
‫الشاملة التي ّ‬
‫املتضمن‬
‫ّ‬ ‫اإلهلي‬
‫ّ‬ ‫واإلنساين‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ :‬إذا كان اخلطاب‬
‫ّ‬ ‫اإلهلي‬
‫ّ‬ ‫اإلهلي ذاته بوصفه تنزيالً‪ ،‬أي بوصفه حلقة وصل وخطاب ًا يتواصل به‬
‫ّ‬
‫ال بكلّ‬
‫اإلهلي تأوي ً‬
‫ّ‬ ‫اإلنساين يتواصل مع اخلطاب‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ال مع كل علمه وكامله وقدرته وحكمته‪ ،‬فإن العقل‬ ‫يتوسل بلغة اإلنسان تنزي ً‬
‫ملنهجه ّ‬
‫جهله ونقصه وضعفه وأهوائه‪ .‬لك ّن اخلطاب الديني يتجاهل هذه احلقيقة » ‪.‬‬
‫‪56‬‬

‫صح‬
‫اإلهلي مبارشة من البرش إىل اهلل‪ .‬ولو ّ‬
‫ّ‬ ‫يتأسس عليها مفهوم احلاكم ّية هي االعتقاد يف إمكان ّية بلوغ اخلطاب‬ ‫ّ‬
‫إن املغالطة الكربى التي ّ‬
‫يسميه قطب‬
‫يفس اختالف األديان وافرتاق الفرق ورصاع املسلمني فيام بينهم منذ عهد الصحابة؟ وكيف يمكن إدراك ما ّ‬ ‫ذلك فام الذي ّ‬
‫الرشيعة النق ّية من شوائب اخلالفات الكالم ّية واالختالفات الفلسف ّية؟ أليس هذا املوقف بدوره دخوالً إىل ساحة ّ‬
‫الصاع التأوييل عىل‬
‫احلقيقة الدين ّية يؤول إىل رؤية فقه ّية تدّ عي احتكار الفهم الصحيح ألحكام الكتاب والسنّة؟‬

‫إن خطورة مفهوم احلاكم ّية يف كونه يفرض قانون ًا يعتقد أصحابه بألوه ّيته‪ ،‬وهو يم ّثل يف الواقع خطر ًا مزدوج ًا‪ :‬يتم ّثل ّ‬
‫األول فيام‬ ‫ّ‬
‫فرضه هذا التأويل من انغالق يفيض إىل رفض احلوار بني الفرق واألديان‪ ،‬ويمكن أن ينزلق إىل عنف مقدّ س ضدّ املختلفني من الشيعة‬
‫جزائي قائم عىل أشكال قديمة كقطع اليد والرجم واجللد وغريها من‬ ‫ّ‬ ‫واملتصوفة واخلوارج باسم تطبيق الرشيعة وحكم اهلل‪ .‬وتبنّي نظام‬
‫ّ‬
‫احلدود التي صارت تنكرها مواثيق حقوق اإلنسان‪.‬‬

‫التطور والتحديث التي يمكن أن‬


‫ّ‬ ‫يت ورفض أشكال‬ ‫ويتم ّثل اخلطر الثاين يف وهم االعتقاد بالتّعايل الذي يقود إىل االنغالق الالهو ّ‬
‫تساعد البرش عىل جتاوز معضلة االستبداد وحسن إدارة الشأن العام وسياسة الدّ ول‪ .‬فخطاب س ّيد قطب يعني فتح دفرت واحد من تاريخ‬
‫الديمقراطي أو االستفادة من‬
‫ّ‬ ‫معريف آخر يمكن أن يكون ّبوابة للفكر‬
‫ّ‬ ‫أي رافد‬‫إسالمي متخ ّيل ليس فيه غري كتاب اهلل وسنّة نب ّيه‪ ،‬وإعدام ّ‬
‫ّ‬
‫جتارب شعوب أخرى يف العدالة االجتامع ّية‪.‬‬

‫فإن صدى احلاكم ّية ّ‬


‫يظل قائ ًام يف مجيع‬ ‫السيايس إىل القيام بمراجعة املوقف الرافض للديمقراطية ّ‬
‫ّ‬ ‫ولئن سعى املنتمون إىل ت ّيار اإلسالم‬
‫اللحقة‪ .‬ومن ضمن تلك التج ّليات حماولة تلوين الديمقراط ّية بالشورى رغم التباين الصارخ بني املفهومني‪ .‬فحسن الرتايب‬ ‫املواقف ّ‬
‫تقرره األد ّلة الفرع ّية من نصوص الرشع‪ .‬فمن‬ ‫أن الشورى يف اإلسالم حكم يصدر عن أصول الدّ ين وقواعده الكل ّية قبل أن ّ‬ ‫يعتقد ّ‬
‫بأن البرش سواسية‬ ‫كل سلطة إال بمقتىض اخلالفة والعطاء من اهلل واإليامن ّ‬‫عقيدة التّوحيد إسالم الربوب ّية واحلكم والسلطة هلل‪ ،‬وإنكار ّ‬
‫التحرر السيايس الذي يستلزمه نظام الشورى أو الديمقراط ّية‪ ،‬إذ يصبح الناس هم املستخلفون عىل سلطة‬ ‫ّ‬ ‫يف العبود ّية هلل‪ ،‬وبذلك حت ّقق‬

‫‪  55‬ـ انظر‪ :‬نرص حامد أبو زيد‪ ،‬نقد الخطاب الدّيني‪ ،‬ط‪ ،2‬مرص‪ ،‬دار سينا للنرش‪ ،1994 ،‬ص ‪.103‬‬
‫‪  56‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.104‬‬

‫‪145‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫بنحمودة‬
‫ّ‬ ‫عمر‬
‫ّ‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫الرسيوين ّ‬
‫أن‬ ‫املستحق من السلطة ‪ ،‬إىل اإليامن بديمقراط ّية أدات ّية مفرغة من الروح الفلسف ّية ‪ ،‬فقد اعترب ّ‬
‫‪58‬‬ ‫‪57‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولكل منهم نصيبه‬ ‫األرض‪،‬‬
‫الفلسفي‬
‫ّ‬ ‫األدايت واملضمون‬
‫ّ‬ ‫«الديمقراط ّية هي صيغ تنفيذ ّية وأشكال تنظيم ّية ملبدأ الشورى» ‪ .‬أ ّما راشد الغنويش فقد م ّيز بني البعد‬
‫‪59‬‬

‫الفلسفي املا ّدي فعمرها اإليامن ُع ّمرت بالتقوى‪ ،‬عندئذ نستطيع أن‬
‫ّ‬ ‫نحرر هذه األداة من املضمون‬‫للديقراط ّية بقوله‪« :‬إذا استطعنا أن ّ‬
‫الشورى يف اإلسالم ظ ّلت يف معظم عهوده قيمة أخالق ّية تصلح‬ ‫نقول ّ‬
‫إن الديمقراط ّية هي بضاعتنا التي ر ّدت إلينا‪ ،‬هي الشورى باعتبار ّ‬
‫سيايس » ‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫ّ‬ ‫وحوهلا إىل نظام‬
‫طور الشورى ّ‬ ‫أن الغرب قد ّ‬ ‫سيايس يف حني ّ‬
‫ّ‬ ‫تتحول إىل نظام‬
‫للوعظ واإلرشاد يف أ ّيام اجلمعة‪ ،‬ومل ّ‬

‫بأن الديمقراط ّية نابعة من الشورى اإلسالم ّية‪ ،‬وهو أمر‬ ‫اإلسالمي من اعتقاد ّ‬
‫ّ‬ ‫يكشف هذا الرأي ما أنتجته فكرة احلاكم ّية والتعايل‬
‫تعود لغة استعداء‬ ‫متلق ّ‬
‫أبعد ما يكون عن العلم ّية‪ ،‬ومنطلقاته إيديولوج ّية غايتها تلوين الديمقراط ّية بالشورى لتكون مستساغة لدى ٍّ‬
‫السالم الوصول إليه يف هناية كتابه «تفكيك العلامن ّية»‪ ،‬فاعترب ّ‬
‫أن «آل ّيات‬ ‫الديمقراط ّية وشيطنتها‪ .‬وهو املسار نفسه الذي حاول رفيق عبد ّ‬
‫وتغذت بشكل أو بآخر من املواريث اإلسالم ّية املعلمنة ضمن سياقات التجربة الغرب ّية‪ .‬ولك ّن هذا‬ ‫الديمقراط ّية إنّام نشأت يف بيئة ليربال ّية ّ‬
‫األصيل » ‪ .‬فاستبدل‬
‫‪61‬‬
‫ّ‬ ‫ال ينفي كوهنا قابلة للخروج من طور اخلصوص ّية للعامل ّية‪ ،‬واالنتقال إىل بيئة حضار ّية وثقاف ّية غري موطن الوالدة‬
‫أسلمة الديمقراط ّية بعدائها‪ .‬ويف احلالتني حترض الرغبة يف الفصل بدل الوصل واخلالف بدل التفاعل‪.‬‬

‫ملحة إىل عمل ّية حتويل قرسي إلفراغ الديمقراط ّية من جوهرها وأسلمتها حتّى تستجيب إىل حاجات نفس ّية راسخة يف‬ ‫تظل احلاجة ّ‬ ‫ّ‬
‫فثمة دوم ًا‬
‫كل التجارب األخرى بالنقص والدون ّية‪ّ .‬‬ ‫تظل هاجس ًا حيكم عىل ّ‬
‫اإلخواين‪ .‬فاحلاكم ّية اإلهل ّية ّ‬
‫ّ‬ ‫تصورات املنتمني إىل الفكر‬
‫ّ‬
‫اإلسالمي الذي ط ّبق رشيعة اهلل املقدّ سة‪ .‬ولكن تتفاوت درجات التلميح‬
‫ّ‬ ‫بأن خري نظام حيتكم له البرش هو النظام‬‫يقني معلن أو مضمر ّ‬
‫احلل السحري كامن ًا يف أسلمة الكون وسيادة املسلمني للعامل‪.‬‬‫ويظل ّ‬
‫ّ‬ ‫والترصيح بتلك احلقيقة‪،‬‬

‫ياسي‬
‫ّ‬ ‫والس‬
‫ّ‬ ‫الديني‬ ‫خاتمة‪ :‬نحو ّ‬
‫فك االشتباك بين ّ‬
‫تتحول إىل أداة يف يد البورجواز ّية ووسيلة نفع ّية حلفظ مصلحة‬ ‫ّ‬ ‫كل عرص إىل أخالق تعضدها كي ال‬ ‫السياسة حتتاج يف ّ‬‫أن ّ‬‫شك ّ‬ ‫ال ّ‬
‫املاركيس الذي و ّلد أنظمة شيوع ّية أثر ًا عميق ًا يف إجياد‬
‫ّ‬ ‫أن للنقد‬‫طبقة مع ّينة تستأثر بالثروة وتذر الباقني يف الفقر واألزمات‪ ،‬وال ريب يف ّ‬
‫تصورات أخرى سامهت يف نرش العدالة االجتامع ّية وتقليص الفوارق الطبق ّية بني األثرياء والفقراء‪ .‬وسامهت أيض ًا يف مراجعات نقد ّية‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫السيايس ظل فكرا متواكالً‪ ،‬هاجسه تلوين‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫مكّنت الفكر الليربا ّيل من تعديل نظامه باستمرار سعيا الحتواء أزماته‪ ،‬ولك ّن اإلسالم‬
‫اإلنساين حول مصري اإلنسان ّية‬‫ّ‬ ‫السياسة بالدين من أجل حتقيق أهداف نفع ّية هي الوصول إىل احلكم‪ .‬وهو فكر معزول عن ساحة اجلدل‬
‫أن أسلمة الدولة هي‬ ‫التارخيي يف السلطة ّ‬
‫ّ‬ ‫املشرتك ومشاكلها‪ .‬وقد كشفت التجارب التي مكّنت بعض األنظمة السياس ّية من حلمها‬
‫صي‬ ‫ظل واقع دو ّيل ّ‬ ‫كل حمتوى‪ .‬فال هي استطاعت تطبيق ما دعت إليه من حاكم ّية يف ّ‬ ‫يتحول إىل رؤية مفرغة من ّ‬‫ّ‬ ‫يف احلقيقة وهم قد‬
‫الديمقراط ّية عملة عامل ّية ال ُيقبل اإلسالميون دون تداوهلا‪ ،‬وال استطاعت تلك األنظمة حتقيق العدالة االجتامع ّية املنشودة‪ .‬فقد كانت‬
‫التارخيي‬
‫ّ‬ ‫عقالين يمكن أن حي ّقق احللم‬‫ّ‬ ‫تصور‬
‫كل ّ‬ ‫كل اعتبار‪ .‬وكانت جعبتهم السياس ّية مفرغة من ّ‬ ‫مصاحلهم الفئو ّية واحلزب ّية فوق ّ‬
‫وإن استعادة مرحلة التّأسيس هي‬ ‫يايس عىل ضفاف الواقع الذي كان خري اختبار ملقوالهتم‪ّ .‬‬ ‫الس ّ‬‫بالنهضة‪ .‬فقد حت ّطمت أوهام اإلسالم ّ‬

‫‪  57‬ـ حسن الرتايب‪ ،‬قضايا الح ّرية والوحدة والشورى والدميقراطيّة‪ ،‬ط‪ ،1‬السعوديّة‪ ،‬الدار السعوديّة للنرش والتوزيع‪ ،1987 ،‬ص ‪.54‬‬
‫‪  58‬ـ اعتمد هذه املصطلحات امحمد جربون يف دراسته‪ :‬اإلسالم ّيون يف طور تح ّول‪ :‬من الدميقراط ّية األدات ّية إىل الدميقراط ّية الفلسف ّية (حالة حزب العدالة والتنمية‬
‫املغريب)‪ ،‬ضمن كتاب‪ :‬اإلسالميون ونظام الحكم الدميقراطي اتجاهات وتجارب‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ ،‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسيات‪ ،2013 ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪  59‬ـ أحمد الرسيوين‪ ،‬الحركة اإلسالم ّية املغرب ّية‪ :‬صعود أم أفول‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البيضاء‪ ،‬منشورات ألوان مغرب ّية‪ ،2004 ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪  60‬ـ راشد الغ ّنويش‪ ،‬حوارات قيص صالح درويش‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البيضاء‪ ،‬منشورات الفرقان‪ /‬دار قرطبة‪ ،2012 ،‬ص‪.63‬‬
‫‪  61‬ـ رفيق عبد السالم‪ ،‬تفكيك يف الدين والدميقراط ّية‪ ،‬ط‪ ،1‬تونس‪ ،‬دار املجتهد‪ ،2011 ،‬ص ‪.233‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪146‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫طوبى العدالة االجتامع ّية وعداء الديمقراطية يف فكر س ّيد قطب‬

‫أهم األوهام التي أنتجها مسلمون‬ ‫السيايس‪ ،‬وحماولة للوقوف عند ّ‬


‫ّ‬ ‫تأسس عليها مفهوم اإلسالم‬
‫يف النّهاية بحث يف جذور األزمة التي ّ‬
‫يت ال دخل للدولة فيه‪ ،‬وال يمكن فرضه قرس ًا عىل املواطنني‪ .‬وقد كشفت التجارب‬ ‫مفجوعون بفقدان غلبة اإلسالم‪ .‬فالتد ّين شأن ذا ّ‬
‫أن أفضل النظم التي ساست البرش هي تلك التي تنجح يف حتقيق التنمية والسلم االجتامعيني وتو ّفر ملواطنيها حدّ ًا أقىص من‬ ‫السياس ّية ّ‬
‫احلر ّيات وحقوق اإلنسان‪ ،‬وإنّه ملن املفارقات أن تكون أكثر الدول انتهاك ًا حلقوق اإلنسان هي تلك التي ترفع شعار اإلسالم راية‬
‫لسياستها‪.‬‬

‫‪147‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫بنحمودة‬
‫ّ‬ ‫عمر‬
‫ّ‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫قائمة المصادر والمراجع‪:‬‬

‫املصادر‪:‬‬
‫_ قطب (س ّيد)‪ ،‬العدالة االجتامع ّية يف اإلسالم ‪،‬دار الرشوق ‪،‬مرص‪،‬ط‪.1993، 13‬‬
‫_ قطب (س ّيد)‪ ،‬معامل يف الطريق‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬مرص‪ ،‬ط‪.1977 ، 6‬‬
‫ومقوماته‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬مرص‪ ،‬ط‪( ،1‬د ت)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ّ‬ ‫_ قطب (س ّيد)‪ ،‬خصائص‬
‫_ قطب (س ّيد)‪ ،‬حقيقة اجل ّن يف ظالل القرآن‪ ،‬دار الفضيلة للنرش والتوزيع والتصدير‪ ،‬مرص‪،‬ط‪( ،1‬د ت)‪.‬‬
‫_ قطب (س ّيد)‪ ،‬دراسات إسالم ّية‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬مرص‪ ،‬ط‪.2006 ،11‬‬
‫_ قطب (س ّيد)‪ ،‬هذا الدّ ين‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬مرص‪ ،‬ط‪.2001،15‬‬
‫_ قطب (س ّيد)‪ ،‬يف التّاريخ فكرة ومنهاج‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬مرص‪ ،‬ط‪( ،1‬د ت)‪.‬‬
‫_ قطب (س ّيد)‪ ،‬السالم العاملي واإلسالم‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬مرص‪ ،‬ط‪.2006 ،14‬‬
‫_ قطب (س ّيد)‪ ،‬اإلسالم ومشكالت احلضارة‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬مرص‪ ،‬ط‪.2005 ،13‬‬

‫املراجع‪:‬‬
‫الساقي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.2009 ،1‬‬
‫يب‪ ،‬دار ّ‬‫_ سمري التنّري (سمري)‪ ،‬الفقر والفساد يف العامل العر ّ‬
‫_ أبو زيد (نرص حامد)‪ ،‬نقد اخلطاب الدّ يني‪ ،‬دار سينا للنرش‪ ،‬مرص‪،‬ط‪.1994 ،2‬‬
‫احلرية والوحدة والشورى والديمقراط ّية‪ ،‬الدار السعود ّية للنرش والتوزيع‪ ،‬السعود ّية‪ ،‬ط‪.1987 ،1‬‬ ‫_ الرتايب(حسن)‪ ،‬قضايا ّ‬
‫_ كتاب مجاعي‪ ،‬اإلسالميون ونظام احلكم الديمقراطي اجتاهات وجتارب‪ ،‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسيات‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ط‪.2013 ،1‬‬
‫_ الرسيوين (أمحد)‪ ،‬احلركة اإلسالم ّية املغرب ّية‪ :‬صعود أم أفول‪ ،‬منشورات ألوان مغرب ّية‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪.2004 ،1‬‬
‫_ الغنّويش (راشد)‪ ،‬حوارات قيص صالح درويش‪ ،‬منشورات الفرقان‪ /‬دار قرطبة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪.2012 ،1‬‬
‫_ عبد السالم (رفيق)‪ ،‬تفكيك يف الدين والديمقراط ّية‪ ،‬دار املجتهد‪ ،‬تونس‪ ،‬ط‪.2011 ،1‬‬
‫_ رولز (جون)‪ ،‬العدالة كإنصاف إعادة صياغة‪( ،‬ترمجة حاج إسامعيل)‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العرب ّية‪ /‬املن ّظمة العرب ّية للرتمجة‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪.2009 ،1‬‬
‫حممد هناد)‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العرب ّية‪ /‬املن ّظمة العرب ّية للرتمجة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫_ ج ساندل (مايكل)‪ ،‬الليربال ّية وحدود العدالة‪( ،‬ترمجة ّ‬
‫‪.2009‬‬
‫_ غريري (ديفيد)‪ ،‬مرشوع الديمقراط ّية‪ ،‬التاريخ‪ ،‬األزمة‪ ،‬احلركة (ترمجة أسامة الغزويل)‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد ‪،418‬‬
‫نوفمرب ‪.2014‬‬
‫_ حالق (وائل)‪ ،‬الدولة املستحيلة اإلسالم والسياسة ومأزق احلداثة‪( ،‬ترمجة عمرو عثامن)‪ ،‬املركز العريب للدراسات واألبحاث‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪.2014 ،1‬‬
‫_ السعيد (رفعت)‪ ،‬التأسلم فكر مس ّلح‪ ،‬دار الطليعة اجلديدة‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪.1996 ،1‬‬
‫_ السعيد (رفعت)‪ ،‬حسن البنا متى كيف وملاذا؟‪ ،‬دار الطليعة اجلديدة‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط ‪.1997 ،10‬‬
‫(حممد)‪ ،‬احلق والعدالة‪ ،‬دار توبقال‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪.2014 ،1‬‬ ‫_ الزرق (عزيز)‪ /‬اهلاليل ّ‬
‫_ العروي (عبد اهلل)‪ ،‬مفهوم الدولة‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ /‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪.2001 ،7‬‬
‫والسيايس يف اإلسالم ويف املاركس ّية‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.2005 ،1‬‬
‫ّ‬ ‫يني‬
‫(حممد)‪ ،‬الدّ ين واإليديولوجيا‪ ،‬جدل ّية الدّ ّ‬‫ـ الرمحوين ّ‬
‫اإلسالمي‪( ،‬ترمجة هاشم صالح)‪ ،‬مركز اإلنامء القومي‪ /‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ /‬الدار‬‫ّ‬ ‫أركون(حممد)‪ ،‬تارخي ّية الفكر العريب‬
‫ّ‬ ‫ـ‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪148‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫طوبى العدالة االجتامع ّية وعداء الديمقراطية يف فكر س ّيد قطب‬

‫البيضاء‪ ،‬ط‪.1998 ،3‬‬


‫يب حمدّ داته وجت ّلياته‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العرب ّية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.2000 ،4‬‬
‫السيايس العر ّ‬
‫ّ‬ ‫(حممد عابد)‪ ،‬العقل‬
‫ـ اجلابري ّ‬
‫الوهاب)‪ ،‬أوهام اإلسالم السيايس‪ ،‬دار النهار‪ ،‬بربوت‪ ،‬ط‪.2003 ،1‬‬ ‫ـ املؤ ّدب (عبد ّ‬
‫السيايس‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.2014 ،1‬‬
‫ّ‬ ‫ـ الرشيف (عبد املجيد)‪ ،‬اإلسالم‬
‫ـ بدوي (عبد الرمحان)‪ ،‬احلقيقة والوهم يف احلركات اإلسالم ّية املعارصة‪ ،‬دار الفكر للدراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬مرص‪ ،‬ط‪.1986 ،1‬‬

‫مراجع أجنب ّية‪:‬‬

‫‪- Milton (Rokeach), La Nature et la signification du dogmatisme: Archives des sciences sociales des reli-‬‬
‫‪gions. N. 32, 1971.‬‬

‫‪149‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫الديمقراط َّية الليبرال َّية‪ ،‬وموقف نظر َّية االعتراف‬

‫الزواوي بغوره*‬

‫ال هندف يف هذه املقالة إىل مناقشة الديمقراط َّية عىل وجه العموم‪ ،‬وال املقابلة بني خمتلف أشكاهلا‪ ،‬وإنَّام سنسعى للنظر يف نوع حمدَّ د‬
‫من الديمقراط َّية هو الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬بام هي نظام حكم خرج منترص ًا من احلرب الباردة‪ ،‬بحيث وصفه مشايعوه وأنصاره بـ‪:‬‬
‫(الديمقراط َّية الليربال َّية املنترصة)‪ .‬واستعاروا يف هذا السياق عبارة الفيلسوف الفرنيس جان بول سارتر القائلة‪( :‬املاركس َّية هي األفق‬
‫الذي ال يمكن جتاوزه)‪ ،‬واستبدلوها بعبارة‪( :‬الديمقراط َّية هي أفق اإلنسان َّية الذي ال يمكن جتاوزه)‪ .‬كام نعتها املفكر األمريكي من أصل‬
‫بأنا‪( :‬أفضل العوامل املمكنة)‪،‬‬‫ياباين فرنسيسكو فوكوياما‪ ،‬بنظام (هناية التاريخ)‪ .‬وخلص الفيلسوف النمساوي كارل بوبر إىل اإلقرار َّ‬
‫قياس ًا عىل مقولة ليبنتز امليتافيزيق َّية‪.‬‬

‫وإذا كانت الديمقراط َّية الليربال َّية قبل اهنيار االحتاد السوفيتي تتحدَّ د بغريها من الديمقراط َّيات‪ ،‬وبخاصة بتلك الديمقراط َّيات الشعب َّية‬
‫فإنا منذ بداية تسعينيات القرن العرشين قد أصبحت تتحدَّ د باجتاهاهتا وتياراهتا‪ ،‬بحيث انتقل‬ ‫املرتبطة بالنظم الشمول َّية واالستبداد َّية‪َّ ،‬‬
‫النقاش والبحث من حالة الديمقراط َّية يف عالقاهتا باألشكال اخلارج َّية عنها إىل عالقاهتا بأشكاهلا الداخل َّية‪ .‬فام املقصود بالديمقراط َّية‬
‫الليربال َّية؟ وما موقف نظرية االعرتاف منها؟‬

‫العامة للديمقراط َّية الليبرال َّية‬


‫َّ‬ ‫أو ً‬
‫ال‪ :‬في المميزات‬
‫أن هلذا املفهوم السيايس تارخيه الذي ال يمكن اختزاله‪ ،‬والذي جيب أخذه بعني االعتبار يف ِّ‬
‫كل نقاش‪ ،‬ولكن مع ذلك يمكن‬ ‫شك َّ‬
‫ال َّ‬
‫أن نشري إىل بعض مالحمه األساس َّية‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫‪ .1‬نوع من الفكر املؤسس للحداثة الغرب َّية القائم عىل فكرة احلر َّية‪ .‬فمن حر َّية الفكر نشأ العلم التجريبي احلديث‪ ،‬ومن حر َّية التبادل‬
‫نشأ االقتصاد الرأساميل والصناعي‪ ،‬ومن احلر َّية يف احلياة نشأت حقوق اإلنسان‪ ،‬ومن حر َّية األفراد ظهرت حتوالت أساس َّية وجوهر َّية‬
‫يف مفهوم العائلة واألرسة والفرد‪ ،‬ومن احلر َّية يف املشاركة والتنظيم نشأت الديمقراط َّية الليربال َّية‪.‬‬

‫‪ .2‬ظهرت الديمقراط َّية الليربال َّية يف القرن الثامن عرش يف جمتمعات حمدَّ دة هي‪ :‬بريطانيا وفرنسا وأمريكا‪ ،‬بوصفها حركة فكر َّية‬
‫معي للتقاليد‪/‬‬‫وسياس َّية ونقد َّية للبنيات االجتامع َّية القائمة عىل االمتيازات‪ ،‬أو حتديد ًا امتيازات بعض الفئات االجتامع َّية‪ ،‬وعىل فهم َّ‬
‫للرتاث‪ .‬وطالبت هذه احلركة بحر َّية أكثر يف املجاالت التي ذكرناها سابق ًا‪ :‬أي يف العلم‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬والتنظيم‪ ،‬واحلياة‪ ،‬والفرد‪ .‬وعملت‬
‫سيعب عنه الفكر الليربايل املغايل واملعروف بالفكر الليربتاين بـ(دولة احلد األدنى)‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫إمجاالً عىل احلدِّ من سلطة الدولة‪ .‬وهو ما‬

‫‪ .3‬من الناحية التارخي َّية‪َّ ،‬‬


‫فإن الديمقراط َّية الليربال َّية قد رفضت باسم حر َّية االقتصاد مبدأ تدخل الدولة‪ ،‬وسمحت بربوز املجتمع‬
‫املدين‪ ،‬وبفصل الدين عن السياسة‪ ،‬وبالتايل َّ‬
‫فإن املجتمع املدين هو نتيجة ألشكال احلكم اجلديدة التي ظهرت يف القرن الثامن عرش‬

‫* مفكر وأكادميي من الجزائر‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪150‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬وموقف نظر َّية االعرتاف‬

‫إذا كانت الديمقراط َّية الليربال َّية قبل اهنيار االحتاد‬ ‫بوصفها أشكاالً رضورية للحكم‪ ،‬بحيث أصبح من مهام الدولة‬
‫السوفيتي تتحدَّ د بغريها من الديمقراط َّيات‪،‬‬ ‫ضامن هذا املجتمع‪ ،‬وأصبحت احلر َّية عنرص ًا رضوري ًا يف احلكم‪،‬‬
‫ومبد ًأ إجرائ َّي ًا من الدرجة األوىل‪ ،‬وبذلك حتولت احلر َّية إىل مبدأ‬
‫وبخاصة بتلك الديمقراط َّيات الشعب َّية املرتبطة‬
‫للحدِّ من ُسلطة الدولة‪.1‬‬
‫فإنا منذ بداية‬ ‫بالنظم الشمول َّية واالستبداد َّية‪َّ ،‬‬
‫تسعينيات القرن العرشين قد أصبحت تتحدَّ د‬ ‫إن األساس الذي يقوم عليه هذا الشكل من احلكم هو َّ‬
‫أن‬ ‫‪َّ .4‬‬
‫باجتاهاهتا وتياراهتا‪ ،‬بحيث انتقل النقاش‬ ‫مزيد ًا من احلر َّية سيؤدي بالرضورة إىل جمتمع أكثر عدالة‪ ،‬وأكثر‬
‫تقدُّ م ًا‪ ،‬أو بتعبري آخر َّ‬
‫فإن املزيد من احلر َّية أو احلر َّيات‪ ،‬إذا أردنا‬
‫والبحث من حالة الديمقراط َّية يف عالقاهتا‬
‫الدقة‪ ،‬سيؤدي إىل جمتمع عادل ومتقدِّ م‪.‬‬
‫باألشكال اخلارج َّية عنها إىل عالقاهتا بأشكاهلا‬
‫الداخل َّية‬
‫‪ .5‬يعكس ما حدث يف تاريخ املجتمعات الغرب َّية خالل قرنني‬
‫أن هنالك نوع ًا من الرصاع والنزاع بني خمتلف أشكال‬ ‫من الزمن َّ‬
‫وبخاصة التفاوت ما بني احلر َّية واملساواة والعدالة بشكل‬
‫َّ‬ ‫هذه احلر َّيات‪َّ ،‬‬
‫وأن احلر َّيات ليست متعادلة مجيعها وفيام بينها بشكل عام‪،‬‬
‫خاص‪ .‬ويظهر هذا التفاوت يف ثالث نقاط أساس َّية هي‪:‬‬

‫‪ .1‬احلر َّية بام هي رفع لإلكراه قد تؤدي‪ ،‬من الناحية النظرية عىل األقل‪ ،‬إىل إكراه أكرب‪ ،‬بام َّأنا ستسمح للقوي بأن يستعبد‬
‫الضعيف‪.2‬‬

‫إن احلر َّية يف جمال االقتصاد قد تؤدي إىل االحتكار‪ ،‬وهي ظاهرة كام هو معروف مالزمة لالقتصاد الرأساميل‪ ،‬وقد تؤدي يف بعض‬ ‫‪َّ .2‬‬
‫األحيان إىل غياب املنافسة‪ .‬ولتفادي عدم الوقوع يف مثل هذه احلاالت ال بدَّ أن تكون هنالك مؤسسات قانون َّية وترشيع َّية قو َّية‪ .‬وبمعنى‬
‫آخر‪َّ ،‬‬
‫فإن عىل الدولة أن حتدَّ من احلر َّية االقتصاد َّية بقوانني ملزمة‪ ،‬حتى ال تسمح للحر َّية االقتصاد َّية بأن هتدم نفسها‪.‬‬

‫أن احلر َّية تتطلب فضا ًء من التسامح‪ ،‬ولكن ما العمل مع غري املتساحمني؟ بتعبري آخر‪ ،‬هل يمكن التسامح‬ ‫‪ .3‬مسألة التسامح‪ :‬الواقع َّ‬
‫أن عدم التسامح مع‬‫مع أفراد ومجاعات غري متساحمة؟ هذا ما تواجهه خمتلف املجتمعات‪ ،‬بام يف ذلك املجتمعات العرب َّية‪ .‬ومن الواضح َّ‬
‫غري املتساحمني باسم التسامح حيمل مفارقة ظاهرة‪ .‬واألمثلة عىل ذلك كثرية عىل رأسها العنرص َّية وخمتلف اجلامعات املتطرفة‪ ،‬بام يف ذلك‬
‫أن‪ :‬للمتساحمني احلق يف أن يكونوا غري متساحمني يف بعض الوضعيات‬ ‫فإن املبدأ املقدّ م يف هذه احلالة هو َّ‬
‫اجلامعات اإلسالمية‪ .‬وبالطبع‪َّ ،‬‬
‫احلا َّدة‪ ،‬وذلك هبدف احلفاظ عىل التسامح‪.‬‬

‫ال يمكن أن تؤدي حر َّية اإلعالم والتعبري إىل الدعاية للكراهية‬ ‫َّ‬
‫إن الديمقراطية الليربال َّية قد تؤدي إىل حاالت غري ديمقراط َّية‪ .‬فمث ً‬
‫ونرش أحكام خطرية وخاطئة‪ ،‬مثل ما حيصل لبعض اجلاليات واألقل َّيات‪ ،‬وملا يلحق بصورة اإلسالم واملسلمني يف السنوات األخرية‬
‫عىل سبيل املثال‪ .‬ينجم عن هذا كله‪ ،‬وجود نزاع أسايس داخل الديمقراط َّية الليربال َّية ما بني احلر َّية واملساواة والعدل‪ .‬وحول هذا‬

‫‪1  . Foucault, Michel, Naissance de la biopolitique, Paris, Gallimard&Seuil, 2004, p. 30.‬‬


‫‪ - 2‬ما يزال يشكل هذا املوضوع أحد هواجس الفكر العريب ومخاوفه‪ .‬يقول ناصيف نصار‪« :‬ومخترص هذه الح َّجة أ َّن إعالء شأن الحريَّة الفرديَّة‪ ،‬وفقاً لتوجهات النظرة‬
‫الليرباليَّة‪ ،‬يؤدي إىل إضعاف الروابط القرابيَّة‪ ،‬وإىل خلخلة نظامها التقليدي‪ ،‬املمتد من األرسة إىل القبيلة»‪ .‬ناصيف نصار‪ ،‬باب الحريَّة‪ ،‬انبثاق الوجود بالفعل‪ ،‬دار‬
‫الطليعة‪ ،‬بريوت ‪ -‬لبنان‪ 2003 ،‬ص ‪.71‬‬

‫‪151‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫الزواوي بغوره‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫اخلاصة‪ ،‬الرفع أو احلد أو التقليل من هذا النزاع‬


‫َّ‬ ‫النزاع تدور مجلة من النظريات السياس َّية والفلسف َّية التي حتاول‪ُّ ،‬‬
‫كل واحدة بطريقتها‬
‫قدر اإلمكان‪.‬‬

‫فإن فالسفة السياسة إمجاالً ال يميلون إىل الطرح الثوري‪،‬‬ ‫أن ما جتب مالحظته يف هذا السياق هو أنَّه رغم هذا النزاع والرصاع‪َّ ،‬‬ ‫عىل َّ‬
‫وال إىل التفسري األحادي والشمويل‪ ،‬وإنَّام أصبح احلديث يدور حول أفضل السبل لتحقيق الديمقراط َّية الليربال َّية‪ .‬وإذا كان هنالك اتفاق‬
‫قائم حول ما هو أفضل نظام قانوين ودستوري حلامية حقوق اإلنسان‪ ،‬ومراقبة النخب السياس َّية احلاكمة‪ّ ،‬‬
‫وحل النزاعات االجتامع َّية‬
‫فإن هنالك خالفات بني خمتلف التيارات حول مسائل معينة‪ ،‬ومنها‪ :‬احلر َّية ودرجة تدخل الدولة‪ ،‬املساواة وعالقتها‬ ‫والسياس َّية سلم َّي ًا‪َّ ،‬‬
‫فإن هنالك مسألة متعلقة بمصري الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬يمكن صياغتها يف سؤال مبارش وهو‪ :‬ما‬ ‫بالعدالة االجتامع َّية‪ ،‬وقبل هذا وذاك‪َّ ،‬‬
‫مصري الديمقراط َّية الليربال َّية؟ وحول هذه األسئلة وغريها يدور نقاش بني عدد من الفالسفة يمكن تصنيفهم إىل ثالثة ت َّيارات أساس َّية‪:‬‬
‫التيار الليربايل اإلجرائي‪ ،‬والتيار اجلمعايت‪ ،‬وتيار التعدُّ د َّية الثقاف َّية‪ .‬وال يتسع املجال هنا للتفصيل يف هذه النظريات‪ ،‬وال يف القضايا‬
‫املختلفة املطروحة عىل الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬إنَّام حسبي أن أنظر يف النظر َّية التي تدعو إىل سياسة االعرتاف( (�‪politique de la recon‬‬
‫‪ ،)naissance‬بام هي سياسة عادلة‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬في نظر َّية االعتراف‬


‫أن االستقالل الذي انتزعه األمريكان من اإلنكليز جعلهم ُيشكِّكون يف الدولة‬ ‫َّبي ألكيس دو توكفيل يف كتابه‪ :‬الديمقراط َّية يف أمريكا َّ‬
‫املركز َّية‪ ،‬لذا اختاروا النظام الفيدرايل‪ ،‬ودعموا اجلمعيات والكنائس بغرض احلفاظ عىل احلر َّية‪ .‬واعترب الكنديون َّ‬
‫أن املواطنة تتامشى‬
‫مع االنتامءات الدين َّية والثقاف َّية‪ .‬وعىل هذا األساس التارخيي‪ ،‬ظهر يف عامي ‪ 1970-1960‬يف أمريكا الشاملية خطاب االعرتاف الذي‬
‫وامللونون‪ .‬كام ظهر يف كندا من خالل سياسة قائمة عىل إجراءات للحدِّ من‬ ‫َّ‬ ‫تزعمته األقل َّيات املختلفة‪ ،‬وعىل رأسها الزنوج والنساء‬
‫خاصة حول قيمة اجلامعات والثقافات واهلو َّيات‬ ‫النزاع اللغوي بني الفرانكفون ّيني واإلنجلوسكسون‪ .‬وانطالق ًا من ممارسات نضال َّية َّ‬
‫يف املجال السيايس‪ ،‬ظهر تفكري سيايس جديد قائم عىل فكرة املوازنة بني احلر َّية واملساواة يف احلقوق‪ ،‬ورشع َّية اجلامعات يف احلفاظ عىل‬
‫خصوصيتها وقيمها؟ فام املعامل الكربى هلذا التفكري السيايس الذي يتَّخذ من سياسة االعرتاف شعار ًا؟‬

‫إن االعرتاف يف املجتمعات التي تعرف تعدُّ د ًا ثقافي ًا قد أصبح حاجة ُم َّ‬
‫لحة‪ ،‬وذلك للعالقة الرضور َّية ما بني االعرتاف واهلو َّية‪.3‬‬ ‫َّ‬
‫«إن هو َّيتنا تتشكَّل جزئي ًا باالعرتاف أو بغيابه‪ ،‬وكذلك‬
‫واألطروحة األساس َّية التي يتقدَّ م هبا هذا التيار‪ ،‬وعىل رأسهم شارل تايلور هي‪َّ :‬‬
‫املشوه يمكن أن ُيعدَّ ظل ًام‪ ،‬ويمكن‬‫َّ‬ ‫إن عدم االعرتاف أو االعرتاف‬ ‫باإلدراك اخلاطئ أو الس ِّيئ الذي يملكه اآلخرون عن هو َّيتنا»‪َّ .4‬‬
‫املشوه‪ ،‬أو‬
‫َّ‬ ‫أن ُيشكِّل نوع ًا من االضطهاد‪ ،‬وذلك ألنَّه يؤ ِّطر ويسجن شخص ًا ما أو جمموعة أشخاص يف نوع من الوجود اخلاطئ‪ ،‬أو‬
‫املختزل‪.‬‬

‫مشوهة عن نفسها‪ ،‬وعن هو َّيتها‪ .‬وقد استبطنت‬ ‫فمثالً‪ ،‬أثبتت بعض الدراسات النسو َّية َّ‬
‫أن املرأة يف املجتمع األبوي متلك صورة َّ‬
‫التحرر‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫فإنا مع ذلك تبقى عاجزة عن‬ ‫املرأة هذه الصورة الدون َّية‪ ،‬حتى أنَّه عندما ترتفع بعض العوائق واحلواجز يف وجه حر َّيتها‪َّ ،‬‬
‫مشوهة عن الزنوج مل يتمكنوا من‬
‫وينطبق األمر نفسه عىل الزنجي‪ ،‬وعن املست ْع َمر‪ ،‬وذلك ألنَّه منذ أجيال فرض اإلنسان األبيض صورة َّ‬

‫‪  3‬ـ االعرتاف مفهوم سيايس وأخالقي يحيل إىل معنيني‪ :‬األول يتصل مبطالب خاصة لجامعات اجتامعية معينة‪ ،‬والثاين يصف رشعية مختلف املطالب السياسية‬
‫واألخالقية‪ .‬استعمل املعنى األول تايلور‪ ،‬واستعمل املعنى الثاين أكسل هنيث‪ .‬ملزيد من التفصيل انظر كتابنا‪:‬‬
‫‪ -‬الزواوي بغوره‪ ،‬االعرتاف‪ ،‬من أجل مفهوم جديد للعدل‪ :‬دراسة يف الفلسفة االجتامعية‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت ـ لبنان‪.2012 ،‬‬
‫‪4 . Charles Taylor, Multiculturalisme, différence et démocratie, Paris, Flammarion, 1992, p.41.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪152‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬وموقف نظر َّية االعرتاف‬

‫مشوه بالفعل‪ ،‬هو السالح الناجع للقمع»‪ .5‬لذا‪َّ ،‬‬


‫فإن أول‬ ‫«التشوه الذايت‪ ،‬أي عندما يعتقد الزنجي أنَّه َّ‬
‫ُّ‬ ‫مقاومتها‪ .‬من هنا يرى تايلور َّ‬
‫أن‪:‬‬
‫مهمة ُملقاة عىل الزنجي أو من يامثله التخلص من هذه اهلو َّية املفروضة واهلدَّ امة يف الوقت نفسه‪ .6‬وهبذا املعنى‪َّ ،‬‬
‫فإن االعرتاف اخلاطئ ال‬ ‫َّ‬
‫َّ‬
‫يتعلق فقط بانعدام االعرتاف‪ ،‬وإنَّام األسوأ من ذلك هو أن تصبح الضح َّية كارهة لنفسها أو هلو َّيتها‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬فإن االعرتاف‬
‫ال ُيعترب مسألة شكل َّية‪ ،‬وإنَّام هو تعبري عن‪« :‬حاجة حيو َّية لإلنسان»‪.7‬‬

‫أن األقل َّية ال تعني دوم ًا قلة يف العدد‪ .‬يؤكد هذا ما تشري إليه‪،‬‬
‫فإن ما هو جدير بالتوضيح َّ‬
‫وإذا كان مفهوم االعرتاف يشري إىل األقل َّيات‪َّ ،‬‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬حالة النساء أو السود‪/‬الزنوج‪ .‬يقول الفيلسوف الفرنيس املعارص جيل دلوز‪َّ :‬‬
‫«إن األقل َّية واألغلب َّية ال تتميز بالعدد‪.‬‬
‫فإن األقل َّية تعني بالفعل وضع َّية أو حالة أو منزلة‪ .‬وليس املقصود‬ ‫فاألقل َّية يمكن أن تكون أكرب من األغلب َّية من حيث العدد‪ ،‬وبالتايل َّ‬
‫وضع َّية من هو قليل‪ ،‬وإنَّام وضع َّية الذي فرضت عليه وضع َّية القارص‪ ،‬وذلك وفق ًا ملفهوم كانط للقارص الذي ال يستطيع أن يقود نفسه‬
‫يتم توجيهه»‪ .8‬أي ذلك الشخص اخلاضع حلكم الوصاية‪.‬‬ ‫من دون أن َّ‬

‫فإن األقل َّية ليست شيئ ًا آخر‬


‫وبحر َّيته وبمسؤول َّيته‪ .‬وبتعبري آخر َّ‬
‫فإن األقل َّية تعني القارص الذي ال يعرتف باستقالله الذايت ُ‬ ‫وهبذا املعنى‪َّ ،‬‬
‫اخلاصة ونرفضها‪ ،‬وال نرتك‬ ‫َّ‬ ‫غري أولئك الذين ال نعرتف هلم يف أن يكون هلم احلق يف قيادة أنفسهم‪ ،‬وننكر عليهم أن تكون هلم هو َّيتهم‬
‫أن ما ُيدِّ د األغلب َّية ليس العدد والكم‪ ،‬وإنَّام النموذج الذي جيب التامثل‬ ‫هلم خيار ًا آخر غري خيار اكتساب هو َّية األغلب َّية‪ .‬ينتج عن هذا َّ‬
‫وأن األقل َّية هبذا املعنى هي التي تفتقد النموذج‪ ،‬أو ليس هلا نموذج‪ .‬وعليه جيب التسليم بوجود عالقة ما بني وضع َّية‬ ‫والتطابق معه‪َّ ،‬‬
‫هيمنة األغلب َّية‪ ،‬وبني املجموعات االجتامع َّية التي ُيصطلح عليها باألقل َّية التي تشكو من غياب االعرتاف هبا‪ ،‬أو غياب التقدير هلا من‬
‫قبل اآلخرين أو األغلب َّية‪.‬‬

‫وتقر َّ‬
‫بأن‬ ‫ويف حماولتها لدراسة موضوع األقل َّيات وحقوقها ترى سياسة االعرتاف رضورة االعرتاف باهلو َّيات يف جمتمع متعدِّ د‪ُّ ،‬‬
‫الديمقراط َّية الليربال َّية مل تنجح يف احلدِّ من التفاوت وعدم املساواة‪ .‬والسبب يف ذلك َّأنا تنظر إىل املجتمع بوصفه جمموعة من األفراد‬
‫أن املجتمع ليس حاصل جمموع أفراده‪ ،‬وإنَّام هو‬ ‫املستقلني الذين يتمتَّعون بمنزلة واحدة‪ ،‬وباستقالل تام عن قيمهم وانتامءاهتم‪ ،‬يف حني َّ‬
‫معي‪ ،‬أو هو باألحرى حاصل ثقافات ومراحل تارخي َّية متعدِّ دة‪.‬‬
‫حاصل ثقافة مع َّينة وتاريخ َّ‬

‫تقر بالتفاوت‪ ،‬إال َّأنا تشخصه عىل مستوى الفرد‪،‬‬ ‫أن الفكر الليربايل يف عمومه‪ ،‬والديمقراط َّية الليربال َّية عىل وجه التحديد ُّ‬ ‫صحيح َّ‬
‫أن التفاوت أو الظلم يصيب اجلامعات‪ ،‬وهو ما تؤكده‬ ‫أن الفرد فقط هو ضحية التفاوت أو عدم املساواة‪ ،‬يف حني َّ‬ ‫وذلك العتقادها َّ‬
‫أن الفكر الليربايل بام هو تفكري فردي‬ ‫املالحظة املبارشة لواقع املجتمعات الليربال َّية‪ .‬من هنا ختلص سياسة االعرتاف إىل نتيجة مؤداها َّ‬
‫يعاين من انفصال عن الواقع‪ ،‬فهو غري قادر عىل أن ينظر بواقع َّية ملسألة احلر َّية والعدالة‪ .‬باختصار مل تعد الليربال َّية بام هي فردية قادرة عىل‬
‫جمرد‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن هذا الفرد يوجد دائ ًام يف‬ ‫إن الفكر الليربايل ينظر إىل الفرد بشكل َّ‬ ‫فهم البعد اجلامعي لإلنسان وتعدُّ د قيمه‪ .‬وبتعبري آخر‪َّ :‬‬
‫فإن الفرد بقدر ما هو كائن ذايت يتمتع بقدرات شخص َّية‪ ،‬هو يف‬ ‫وضع َّية مع َّينة‪ ،‬وخيضع دائ ًام لتجربة ثقاف َّية متنح معنى لوجوده‪ .‬وعليه‪َّ ،‬‬
‫الوقت نفسه كائن موضوعي‪ ،‬ألنَّه عضو وعنرص يف مجاعة تعينه عىل تشكيل هو َّيته‪.‬‬

‫‪5 . Ibid. p.42.‬‬


‫‪  6‬ـ األمر نفسه بالنسبة إىل املجتمعات املستعمرة‪ ،‬حيث هيمنت الصورة النمطية لألهيل‪ .‬فلقد فرضت فرنسا عىل الجزائري هويَّة‪( :‬الجزائر الفرنسية)!‬
‫‪7 . Charles Taylor, Multiculturalisme, Op. cit. p.42.‬‬
‫‪8 . Gille Deleuze, Pourparlers, Paris, Minuit, 1996, p.234 - 235.‬‬

‫‪153‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫الزواوي بغوره‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫أن هذه الفكرة األساس َّية التي يتقاسمها عدد من الفالسفة منهم‪ :‬مكنتري‪ ،‬كيمليك‪ ،‬سندال‪ ،‬شارل تايلور‪ ،‬ويل‬ ‫وما جتدر مالحظته هو َّ‬
‫كيمليكا‪ ،‬ولكن بدرجات خمتلفة‪ ،‬ال تشكِّل نوع ًا من الرفض ملرشوع احلداثة السياس َّية الغرب َّية‪ ،‬بقدر ما هي حماولة إلجراء مراجعة نقد َّية‬
‫التنوع أو‬
‫لبعض مبادئ الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬وذلك بالنظر يف حدودها‪ ،‬وإمكان َّية إصالحها‪ ،‬من خالل انفتاح هذه الديمقراط َّية عىل ُّ‬
‫التعدُّ د الثقايف‪.‬‬

‫وأن اإلنسان بحكم هذا‬ ‫أن اإلنسان كائن اجتامعي وأخالقي يف الوقت نفسه‪َّ ،‬‬ ‫عىل سبيل املثال يرى الفيلسوف الكندي شارل تايلور َّ‬
‫الوضع ال يمكن له حتقيق السعادة خارج مجاعته الثقاف َّية‪ .‬وقد استند يف هذا الرأي عىل الفيلسوف األملاين هيغل الذي م َّيز بني أخالق‬
‫موضوع َّية‪ ،‬وهي جمموعة من املعايري والقيم املشرتكة جلامعة مع َّينة‪ ،‬وأخالق ذاتية‪ ،‬وهي تلك األخالق الفرد َّية التي يتَّبعها الفرد ويمكن‬
‫يتم خارج نظام اجتامعي وأخالقي‬ ‫أن بناء اهلو َّية الفردية‪/‬الذاتية ال يمكن أن َّ‬‫أن تكون ضدَّ مجاعته‪ .‬واستنتج تايلور من هذا التمييز‪َّ :‬‬
‫معي‪ .‬وحلل ذلك بإسهاب يف كتابه‪« :‬منابع الذات‪ ،‬تشكُّل اهلو َّية احلديثة»‪.9‬‬ ‫َّ‬

‫اخلاصة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫تتضمن اهلو َّية يف نظر هذا الفيلسوف عمليتني أساسيتني مها‪ :‬عملية اكتشاف الذات‪/‬األنا‪ ،‬أي قدرة الفرد عىل إدراك ذاته‬
‫ومن جهة أخرى هنالك عمل َّية االعرتاف بالذات‪/‬األنا من قبل اآلخر‪ ،‬أي ذلك املوقف الذي يؤمن للفرد وضع َّية ومنزلة ضمن بيئته‬
‫عب عنه جون جاك روسو بعبارة‪ :‬الشعور بالوجود‪ .‬واليشء األسايس يف نظر تايلور هو َّ‬
‫أن حتقيق احلر َّية يعني‬ ‫االجتامع َّية املعطاة‪ ،‬أو ما َّ‬
‫اإلقرار واألخذ بعني االعتبار للعمليتني املشكِّلتني للهو َّية الذات َّية أي‪ :‬إدراك الذات‪/‬األنا‪ ،‬واالعرتاف هبا ‪.‬‬
‫‪10‬‬

‫املتحررة واملنفصلة عن عاملها‪ ،‬ما يزال خيالطه‬


‫ّ‬ ‫التصور احلديث للذات الفرد َّية املستقلة واملنعتقة أو‬
‫ُّ‬ ‫يف هذا السياق‪ ،‬يرى تايلور َّ‬
‫أن‬
‫يمر حت ًام باجلامعة أو باآلخر‪،‬‬
‫أن تشكيل هذه الذات ُّ‬ ‫ألن جذور هذه الفرد َّية ما تزال تكمن يف اجلامعة‪ ،‬وبام َّ‬ ‫الكثري من الوهم‪َّ ،‬‬
‫أن اهلو َّية احلديثة تتشكل بطريقة حوار َّية (‪ ،)dialogique‬متَّبع ًا يف ذلك جمموعة من الفالسفة وعلامء االجتامع‬ ‫فقد خلص إىل َّ‬
‫املعارصين‪.11‬‬

‫وعىل الرغم من دراسته وتثمينه لظهور هذه اهلو َّية احلديثة‪ ،‬إال َّ‬
‫أن ذلك مل يمنعه من الوقوف عند سلبيات هذه اهلو َّية‪ ،‬وهو ما ب َّينه‬
‫يف كتابه‪« :‬قلق احلداثة»‪ ،1991‬حيث حلل النتائج التي أ َّدت إليها هذه الفرد َّية واألولو َّية املعطاة للعقل األدايت عىل حساب املجتمع‬
‫واإلنسان احلديث‪ .‬ومن بني املظاهر السلبية التي أ َّدت إليها هذه الذاتية‪ ،‬يمكن اإلشارة إىل العزلة املتزايدة لألفراد داخل املجتمع‪،‬‬
‫والتذرير(‪ )atomisme‬الذي أصاب املجتمعات احلديثة‪ ،‬واالهتامم املتزايد بالذات عىل حساب اجلامعة‪ ،‬واألولو َّية املعطاة لإلنتاج‬
‫تقوت بفعل التقنيات‪ ،‬وهو ما أ َّدى إىل تراجع يف قيم املجتمع‪.‬‬
‫وللفعال َّية التي َّ‬

‫‪  9‬ـ أنجز تايلور دراسة بعنوان‪ :‬هيغل واملجتمع الحديث‪.1979،‬‬


‫‪  10‬ـ من الناحية التاريخية‪ ،‬بدأت هذه الهويَّة الحديثة يف التشكل يف القرن الثامن عرش‪ ،‬وذلك نتيجة للفلسفة الديكارتية وفلسفة التنوير‪ ،‬حيث ت َّم وضع الفرد يف‬
‫مركز املجتمع‪ .‬ومل يعد الفرد مش َّكالً من الخارج من قبل نظم أخالقية أو قانونية بغرض تحقيق أهداف مقدَّسة‪ .‬ففي زمن الحداثة أصبح مصري اإلنسان يت ُّم التعبري عنه‬
‫باالعرتاف بالذات التي حققت استقاللها األخالقي‪ ،‬وبفرد انعتق من املعايري الجامع َّية ليق ّرر مصريه بنفسه‪.‬‬
‫‪  11‬ـ من هؤالء الفالسفة‪( :‬مارتن بوبر) يف كتابه‪ :‬أنا وأنت‪ ،‬وفرنسيس جاك يف كتابه‪ :‬النظريَّة الحواريَّة‪ ،‬بحوث منطقيَّة‪ ،‬وكارل أوتو ابل وهابرماس يف أعاملهام املتصلة‬
‫الخاصة باملنهج‪ ،‬بحيث تح َّول الحوار يف الثقافة املعارصة إىل منوذج إرشادي (‪ ،)paradigme‬ويف سياق موضوعنا فإ َّن الحوار‬
‫َّ‬ ‫بأخالق املحادثة‪ ،‬وإدغار موران يف موسوعته‬
‫يت ُّم مع العائلة واألصدقاء وجامعة االنتامء أو جامعة الغرباء‪ ،‬ويت ُّم معهم أو ضدَّهم‪ ،‬وبه تتشكل الفرديَّة أو الذاتيَّة‪ .‬ملزيد من االطالع انظر بحثنا‪ :‬الزواوي بغوره‪ ،‬منزلة‬
‫الحوار والتواصل يف الفلسفة املعارصة‪ ،‬يف مجلة‪ :‬الفلسفة والعرص‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مرص‪ ،‬العدد الخامس‪ ،2006‬ص ‪.161-145‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪154‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬وموقف نظر َّية االعرتاف‬

‫إن األقل َّية ليست شيئ ًا آخر غري أولئك الذين‬ ‫َّ‬ ‫يظهر هذا الرتاجع يف احلياة األخالق َّية‪ ،‬بحيث انحرصت‬
‫ال نعرتف هلم يف أن يكون هلم احلق يف قيادة‬ ‫الغاية األخالق َّية كلها يف الرفاهية املاد َّية‪ .‬كام يظهر هذا الرتاجع يف‬
‫جراء عزوف املواطنني عن‬ ‫وبخاصة احلر َّيات املدن َّية َّ‬
‫َّ‬ ‫احلر َّيات ذاهتا‪،‬‬
‫أنفسهم‪ ،‬وننكر عليهم أن تكون هلم هو َّيتهم‬
‫وبخاصة بعد تنامي دور الدولة البريوقراطي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫املشاركة السياس َّية‪،‬‬
‫اخلاصة ونرفضها‪ ،‬وال نرتك هلم خيار ًا آخر‬ ‫َّ‬ ‫وهو ما اصطلح عليه باالستبداد الناعم (‪.)despotisme doux‬‬
‫غري خيار اكتساب هو َّية األغلب َّية‬ ‫ولتجاوز هذه املظاهر السلب َّية يف الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬وجب يف‬
‫نظره إعادة االعتبار للجامعة وحتديد جديد للحر َّية واملساواة‪.‬‬

‫ألن الفرد ال يمكن له أن حيقق خمتلف رشوط استقالله الذايت إال بارتباطه‬ ‫من هنا ُّ‬
‫حيتل مفهوم اجلامعة يف هذا الت َّيار مكانة مركز َّية‪َّ ،‬‬
‫باجلامعة أو بجامعة معينة‪ ،‬مجاعة تستقبله‪ ،‬وتتحمله‪ ،‬وتعلمه اللغة والتفكري‪ ،‬وتسمح له ببناء مواقف أخالق َّية وشخص َّية‪ .‬وهذا هو‬
‫مصدر اإلعالء الذي يبديه هذا التيار لقيمة اجلامعة يف موضوع االنتامء وتشكيل اهلو َّية األخالق َّية‪ .‬ويسمح لنا بفهم أطروحة هذا التيار‬
‫وإن الفرد اإلنساين غري قادر عىل االكتفاء الذايت يف هذا‬ ‫إن اهلو َّية مرشوطة باالعرتاف‪ ،‬أو اهلو َّية ال تنفصل عن االعرتاف‪َّ ،‬‬ ‫القائلة‪َّ :‬‬
‫وبخاصة‬
‫َّ‬ ‫نتعرف عىل أنفسنا‪ ،‬فإنَّنا يف حاجة إىل نظرة اآلخر‪،‬‬‫املجال‪ .‬أو كام قال تايلور‪«:‬ال نستطيع أن نحدِّ د أنفسنا بأنفسنا» ‪ .‬فلكي َّ‬
‫‪12‬‬

‫وكل من‬‫سميه الرشيك الدال‪ ،‬الذي تربطنا به عالقة انتامء أو تضامن ضمن مجاعة حقيق َّية‪ ،‬كأفراد العائلة‪ ،‬واألصدقاء‪ ،‬والزمالء‪ّ ،‬‬ ‫ملا ُي ِّ‬
‫يامثلنا‪ ،‬وذلك من خالل النقاش املتبادل واللقاء واملصلحة‪.‬‬

‫وإذا كان الفكر الليربايل ُي ِّذرنا من خماطر اجلامعة‪ ،‬ومن تأثريها السلبي عىل الفرد‪ ،‬ومن قدرهتا عىل أن ُت ْلبِ َس ُه أخالق ًا نمط َّية وسلطو َّية‪،‬‬
‫ألن مثل هذه املقابلة تقوم عىل لبس يف مفهوم اختيار‬ ‫فإن الر َّد عىل ذلك هو بالقول إنَّه جيب ّأل نقابل احلر َّية باالنتامء إىل مجاعة ُمع َّينة‪ .‬ملاذا؟ َّ‬
‫َّ‬
‫أن القيم التي يعتنقها الفرد تكون حاصل اختيار حر‪،‬‬ ‫الفرد‪ .‬ويتمثل هذا اللبس يف طريقة االختيار ومضمون االختيار‪ .‬ومعنى ذلك َّ‬
‫أن الفرد اخرتع واكتشف هذه القيم الشخص َّية‪،‬‬ ‫فإن هذا ال يعني َّ‬ ‫وتتناسب وقناعاته احلقيق َّية‪ ،‬وهو أمر يف غاية األمه َّية‪ ،‬ولكن مع ذلك َّ‬
‫معي‪.‬‬
‫معي وتاريخ َّ‬ ‫وأنا ال تنتمي إال لشخصه‪ ،‬بام أنَّه يتقاسمها مع أشخاص كثريين‪ ،‬وتنتمي إىل ت َّيار فكري متأصل يف تراث َّ‬ ‫َّ‬

‫أن من اخلطأ النظر إىل االختيارات السياس َّية واألخالق َّية عىل َّأنا حصيلة إنجاز فردي‪ ،‬أو َّ‬
‫أن اهلو َّية األخالق َّية حصيلة عمل َّية‬ ‫يعني هذا َّ‬
‫ألن ذلك يؤ ِّدي إىل طرح هذا السؤال‪ :‬ما هي هذه القيمة‬ ‫واملقرر‪ .‬ملاذا؟ َّ‬
‫ِّ‬ ‫تتم يف سياق مغلق‪ ،‬حيث يكون الفرد املستقل هو الس ِّيد‬ ‫فرد َّية ُّ‬
‫التي ال قيمة هلا إال بالنسبة إىل الفرد‪ ،‬والتي ال يعرتف هبا أحد؟ من هو هذا الفرد الذي اخرتع بنفسه قيمة أخالق َّية؟ جييب تايلور عن هذا‬
‫السؤال بالقول‪« :‬إنَّنا نكون أصالء عندما نكون يف عالقة مع حقيقة عليا متتلك داللة مستقلة بالنسبة إلينا وإىل رغباتنا»‪ .13‬يعني هذا أنَّنا ال‬
‫نكتشف هو َّيتنا األخالق َّية من ال يشء‪ ،‬وإنَّام نكتشف هويتَّنا األخالق َّية من خالل نوع من االستكشاف الدائم واملستمر واملتقدِّ م لذواتنا‪.‬‬
‫يغذي هو َّيتنا األخالق َّية بأساليب خمتلفة‪ ،‬منها ما يتصل بالعادات والتقاليد‪ ،‬ومنها‬ ‫وأنَّنا نكرب وننمو يف حميط وضمن وسط إنساين خاص ِّ‬
‫ما يتصل باملؤسسات والترشيعات والقوانني‪ ،‬ومنها ما يتصل بالوسط البيئي واالجتامعي‪ .‬وباختصار‪ ،‬بنمط من احلياة‪/‬الوجود الذي‬
‫يصبح طبيعي ًا بالنسبة إلينا‪ ،‬ونألفه ونتعايش معه ونعيش فيه‪.‬‬

‫تصوراتنا حول اخلري‪ ،‬وضمنه أيض ًا تكون لنا مواقف حيال القضايا ذات األمه َّية‬
‫وضمن هذا الوسط نتعلم اللغة التي متكِّننا من صياغة ُّ‬
‫كل فرد يف حاجة إىل‬ ‫فإن َّ‬
‫بالنسبة إلينا‪ ،‬وتكون موضوع تفكري ومناقشة بيننا وبني غرينا‪ .‬يقول تايلور‪« :‬حتى يكتشف مضمون إنسان َّيته‪َّ ،‬‬

‫‪12 . Charles Taylor, Les sources de l’identité moderne, Québec, Sainte-Foy, PUL, 1996, p.350.‬‬
‫‪13 . Charles Taylor, Grandeur et misère de la modernité, trad. Charlotte Melancon, Montereal, Bellarmin, 1992, p.104.‬‬

‫‪155‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫الزواوي بغوره‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫أفق من الداللة‪ ،‬ال يمكن أن يعطى له إال من خالل نوع من االنتامء إىل مجاعة‪ ،‬وإىل تراث ثقايف‪ .‬هذا يعني أنَّه يف حاجة باملعنى العام إىل‬
‫لغة لكي يطرح أسئلته الكربى وجييب عنها»‪ .14‬فعندما أبحث عن معنى حليايت‪ ،‬فإنَّام أبحث عن ذلك ضمن القيم واألفكار املوجودة‬
‫والقائمة واحلارضة يف بيئتي الثقاف َّية‪.15‬‬

‫صممة عىل َّأنا حر َّية االستقالل الذايت‪ .‬وتقتيض هذه احلر َّية القدرة عىل االختيار‪ ،‬وعىل‬ ‫ثم َّ‬
‫إن احلر َّية يف املنظور الديمقراطي الليربايل ُم َّ‬
‫أقرر بنفيس َّ‬
‫كل ما يتعلق يب‪ ،‬بعيد ًا عن املؤثرات اخلارج َّية)‪ .‬ولكن لكي‬ ‫حر عندما ِّ‬‫التحقيق أو التنفيذ‪ ،‬وذلك وفق ًا للعبارة القائلة‪( :‬إنَّني ٌّ‬
‫حر ًا‪ ،‬جيب أن يتَّبع مثاالً أخالق َّي ًا‪ ،‬وأن يكون أصيالً‪ .‬فام املقصود باألصالة؟‬
‫يكون اإلنسان َّ‬

‫اخلاصة‪ .‬وعليه‪ ،‬فإنَّه من أجل أن يكون‬


‫َّ‬ ‫‪ .1‬تعني األصالة تلك احلالة أو الوضع َّية التي تعطي الفرد القدرة عىل أن يبحث عن حقيقته‬
‫حر ًا‪ ،‬عليه أن يكون قادر ًا عىل تعيني وحتديد ما ُي ِّ‬
‫كون و ُيشكِّل أصالته‪.‬‬ ‫اإلنسان َّ‬

‫‪ .2‬تقتيض األصالة قدرة الفرد عىل العيش بصدق سواء يف عالقته مع نفسه أو يف عالقته مع اآلخرين‪.‬‬

‫‪ .3‬أن يكون الفرد قادر ًا عىل تبنِّي معايري أخالق َّية تتناسب وذاته‪ ،‬رافض ًا يف الوقت نفسه ك َُّل أنواع الشكالن َّية أو األحاد َّية االجتامع َّية‪،‬‬
‫أن لك ُِّل إنسان طريقته يف احلياة‪/‬الوجود‪ ،‬وعليه أن يبحث عن شكل احلياة‬ ‫مثل تبنِّي نمط حياة اجتامعي مفروض من اخلارج‪ .‬بمعنى َّ‬
‫اخلاصة به‪ ،‬وأن جيد يف نفسه املنابع األخالق َّية لوجوده‪.‬‬‫َّ‬

‫يتم ذلك إال باالعرتاف هبذه االختالفات‪ .‬و ُيعدُّ‬


‫وتنوعهم‪ ،‬وال ُّ‬
‫كل األفراد عىل اختالفهم ُّ‬ ‫كل أصيل أن حيرتم َّ‬ ‫‪ .4‬تفرض األصالة عىل ِّ‬
‫حرية ك ُِّل فرد‪ .‬بمعنى‪َّ ،‬‬
‫أن احلر َّية تقتيض نوع ًا من األصالة التي تشرتط االعرتاف باالختالف‪.‬‬ ‫هذا بمثابة رشط َّأويل لتحقيق ِّ‬

‫أن ك َُّل فرد‬


‫أن اجلميع متشاهبون ومتامثلون‪ ،‬يف حني َّ‬‫ألن املساواة تفرتض َّ‬ ‫‪ .5‬جيب استبدال فكرة املساواة بفكرة العدل بام هو إنصاف‪َّ ،‬‬
‫خاصة تشكَّلت من خالل جتربة معاشة ضمن مجاعة واحدة أو جمموعة من مجاعات االنتامء‪ .‬فكيف يمكن أن ننظر إىل املساواة‬ ‫ُيشكِّل هو َّية َّ‬
‫إن مبدأ املساواة املط َّبق بحذافريه ينطلق من اعتبارات‬ ‫بني أفراد هلم هو َّيات خمتلفة‪ ،‬وعادات وأنامط عيش خاصة‪ ،‬عىل َّأنم ُمتساوون؟ َّ‬
‫أن مبدأ املساواة يعدُّ مبدأ غري ٍ‬
‫كاف أخالق َّي ًا‪ ،‬وجيب‪ ،‬بالتايل‪،‬‬ ‫جمردة‪ ،‬وينكر االختالفات بني األفراد‪ .‬من هنا يرى تايلور‪ ،‬عىل سبيل املثال‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ّ‬
‫إحالل مبدأ آخر حمله‪ ،‬هو مبدأ اإلنصاف الذي يأخذ بعني االعتبار الوضع َّيات واحلاالت اخلاصة‪ ،‬ويتجاوب مع املجتمعات املتعدِّ دة‬
‫الثقافات‪.‬‬

‫موجهة ضدَّ النموذج اجلمهوري‬


‫أن الدعوة إىل التعدُّ د الثقايف وسياسة االعرتاف دعوة َّ‬ ‫فإن ما جتدر اإلشارة إليه هو َّ‬
‫ويف هذا السياق‪َّ ،‬‬
‫ألن هذا النموذج‪ ،‬وفق ًا لعبارة تايلور‪« ،‬يسحق اهلو َّيات املختلفة باسم الوحدة الوطن َّية» ‪ .‬صحيح‬
‫‪16‬‬ ‫عموم ًا‪ ،‬والنموذج الفرنيس حتديد ًا‪َّ ،‬‬

‫‪14 . Charles Taylor, Rapprocher les solitudes : Ecrits sur le fédéralisme et le nationalisme au Canada, Sainte-Foy, PUL, 1992, p. 53.‬‬
‫كل يشء موضوع اختيار‪ ،‬وهذا غري متاح واقعياً‪ .‬ويطرح‬
‫‪ 15‬ـ كام ميكن الر ُّد عىل الطرح الليربايل الفردي بالقول‪ :‬إ َّن املطالبة بحريَّة فرديَّة كاملة يعني أنَّه يجب أن يكون ُّ‬
‫تايلور سؤاالً جديرا ً بالتمعن وهو‪ :‬ماذا ستفيدنا الحريَّة إذا كنا ال نرتبط ّ‬
‫بأي يشء؟ أو كام قال‪( :‬من غري هويَّة سابقة‪ ،‬فكيف يل أن أقدر عىل االختيار)؟ انظر‪:‬‬
‫‪- Charles Taylor, Foucault, la liberté, la vérité, in, Couzens Hoy David(Ed), Michel Foucault : Lectures critiques, trad. Jacques Colson,‬‬
‫‪Editions Universitaires, Paris, 1989, p.182.‬‬
‫‪16 . Charles Taylor, Multiculturalisme, Op. cit. p.57.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪156‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬وموقف نظر َّية االعرتاف‬

‫ُعب عنها الديمقراط َّية‬ ‫إن التعدُّ د َّية التي ت ِّ‬ ‫أن إرادة احلياد التي يبدهيا النظام اجلمهوري يف الفضاء العمومي‬ ‫َّ‬
‫هي بمثابة حتدٍّ حقيقي تواجهه املجتمعات‬ ‫كل املواطنني يتمتعون‬ ‫حتمل مقاصد إجياب َّية‪ ،‬بام َّأنا هتدف إىل جعل ِّ‬
‫تنوعت وتعدَّ دت‬ ‫باحلقوق نفسها‪ ،‬وباملساواة أمام القانون مهام َّ‬
‫احلديثة‪ ،‬وبه تتميز عن املجتمعات التقليد َّية‪.‬‬
‫حياهتم اخلاصة‪ ،‬ولك َّن هذا املسعى الذي يعود إىل فلسفة روسو‬
‫والرهان األكرب أل َّية ديمقراط َّية ليربال َّية‬ ‫يقوم عىل مغالطة مكشوفة‪ .‬ملاذا؟ َّ‬
‫ألن عدم االعرتاف باهلو َّيات‬
‫ناجحة يتمثل يف إجياد الطرق املناسبة لتسيري‬ ‫الثقاف َّية والعرق َّية والدين َّية يؤدي إىل وضعيات وحاالت من‬
‫نزاعاهتا‪ ،‬بحيث ال تؤدي التعدُّ د َّية إىل إحلاق‬ ‫الظلم والتفاوت املكشوف‪ .‬يؤكِّد هذا ما قامت به اإليديولوج َّية‬
‫اجلمهور َّية عرب تارخيها‪ ،‬وما فرضته من ثقافة مهيمنة‪ ،‬أدت إىل‬
‫الرضر أو املخاطرة بام ُيعترب سبب ًا يف وجود‬
‫فإن اإلنكار أو رفض االعرتاف‬ ‫سحق ثقافة األقل َّيات‪ .‬وعليه َّ‬
‫الديمقراط َّية‪ ،‬أال وهو احلر َّية والعدل‬ ‫يؤدي إىل حاالت من التعسف والقهر والظلم‪.‬‬

‫من هنا خيلص هذا التيار الناقد للديمقراط َّية الليربال َّية إىل القول باحلر َّية‪ ،‬ويف الوقت نفسه رفض االختالف ُيعدُّ موقف ًا غري متطابق‪،‬‬
‫فإنا يف الوقت نفسه ال متنع مثل هذه احلقوق‪ .‬ومبادئ الديمقراط َّية‬ ‫ألنَّه إذا كانت مبادئ الديمقراط َّية الليربال َّية حتدُّ من حقوق األقل َّيات‪َّ ،‬‬
‫يتم‬
‫الليربال َّية ليست فقط متوافقة مع إعطاء األقل َّيات العرق َّية والثقاف َّية مجلة من احلقوق‪ ،‬وإنَّام تعرتف بمثل هذه احلقوق‪ .‬وال يمكن أن َّ‬
‫تصور جديد للدولة واملواطنة تكون‬ ‫تصور الدولة املركز َّية األحاد َّية التي يتمتع فيها املواطنون بمنزلة قانون َّية واحدة‪ ،‬إىل ُّ‬
‫ذلك إال بتجاوز ُّ‬
‫فيهام مكانة للتعدُّ د الثقايف‪ ،‬سواء من خالل شكل من الدولة املركز َّية أو الدولة الفيدرال َّية‪.‬‬

‫وهنالك من ال يرى تعارض ًا بني الدعوة إىل مواطنة متعدِّ دة الثقافات‪17‬ومبادئ الليربال َّية‪َّ ،‬‬
‫وأن نظر َّية ليربال َّية يف التعدَّ د الثقايف ستضمن‬
‫العدالة لك ُِّل مواطن‪ ،‬وذلك بأن حتميه من جهة من املظامل التي قد ترتكبها اجلامعة املهيمنة‪ ،‬ومن جهة أخرى حتمي الفرد من املظامل التي‬
‫أن سياسة االعرتاف رغم نقدها‬ ‫فإن من األمه َّية بمكان التأكيد عىل َّ‬ ‫يقرتفها األفراد أو قادة اجلامعة التي ينتمي إليها‪ .18‬ويف هذا السياق‪َّ ،‬‬
‫فإنا تدعو إىل رضورة احرتام حقوق األفراد‪ ،‬وال تقابل مطلق ًا حقوق اجلامعة‬ ‫لنموذج الدولة‪-‬األ َّمة‪ ،‬ودفاعها عن سياسة االعرتاف‪َّ ،‬‬
‫بحقوق الفرد‪ ،‬وإنَّام جتعل من حقوق الفرد أحد األركان األساس َّية للمجتمع املتعدِّ د الثقافات‪.‬‬

‫ولكي تصبح اهلو َّيات اجلامع َّية والفرد َّية جزء ًا من املجال العام ال ُبدَّ من إعطاء أمه َّية كبرية للحوار أو ملبدأ احلوار َّية‪ ،‬كام سبقت اإلشارة‬
‫يتم بناء اهلو َّيات بواسطة احلوار السلمي بني خمتلف اجلامعات‪ ،‬فإنَّه من الطبيعي أن‬ ‫إىل ذلك‪ .‬وذلك استناد ًا إىل القاعدة القائلة‪ :‬حينام ُّ‬
‫يكون التشاور واحلوار واملناقشة يف املجال العام‪ ،‬وأن يتداول املواطنون عىل احلكم‪ .‬وهبذا املعنى لن تكون احلياة السياس َّية عبارة عن‬
‫مواجهة بني مواطنني هلم مصالح ماد َّية خمتلفة فقط‪ ،‬وإنَّام يكون هنالك إمكان َّية للمداولة والتشاور حول خمتلف سامت هو َّياهتم‪.‬‬

‫ألنا ستؤدي إىل تعميق االختالفات‪ ،‬أو‬ ‫ثمة خماطر عديدة يف معاجلة اخلصوص َّيات باالعرتاف هبا من غري حتديد‪َّ ،‬‬ ‫الشك فيه‪َّ ،‬‬
‫أن َّ‬ ‫َّ‬ ‫وممَّا‬
‫قد تزيد من وجودها‪ ،‬وهذا قد يؤدي إىل انفجار املجتمع‪ .‬لذلك فإنَّه ويف ِّ‬
‫ظل فضاء اجتامعي مع َّقد و ُمتعدِّ د الثقافات‪َّ ،‬‬
‫فإن هذه املشاكل‬
‫تتطلب تفكري ًا نقدي ًا‪ ،‬وحوار ًا مسؤوالً‪ ،‬وانفتاح ًا عىل اآلخر‪ ،‬وقدر ًا مع َّين ًا من التسامح‪ ،‬مع رضورة التمييز بني ما هو أسايس وعريض‪.‬‬

‫‪ 17‬ـ تعني املواطنة مجموعة من الخصائص؛ أه ُّمها أنّها منزلة قانونية تحدّد حقوقاً وواجبات للفرد‪ ،‬كام أنَّها تع ُّد مبدأ للرشع َّية السياس َّية‪ ،‬للتضامن االجتامعي ً‬
‫بدال من‬
‫عالقات النسب والدين‪ ،‬وهي ليست فكرة جوهريَّة‪ ،‬وإنَّ ا فكرة سياسيَّة وتاريخيَّة متطورة‪ ،‬تقتيض رضورة احرتام القانون‪.‬‬
‫‪18 . Will Kymlicka, La citoyenneté multiculturelle, une théorie libérale du droit des minorités, trad. Patrick Savidan, Paris, Editions la‬‬
‫‪Découverte, 2001, p.XII.‬‬

‫‪157‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫الزواوي بغوره‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫يعني هذا‪ ،‬عدم وجود معادلة جاهزة وقابلة للتطبيق عىل مجيع الوضع َّيات واحلاالت‪ ،‬وإنَّام هنالك مبادئ عامة وقيم مشرتكة‪ ،‬كام أنَّه ال‬
‫أن االختيارات ستكون صحيحة ودقيقة‪ .‬وهذا يعني‪ ،‬أنَّه جيب االعرتاف‬ ‫وجود إلجراءات قانون َّية صارمة سابقة يمكن أن تضمن سلف ًا َّ‬
‫باالختالفات ضمن روح املصاحلة والتسوية‪.19‬‬

‫فإن سياسة االعرتاف تُعترب حماولة لفتح الديمقراط َّية الليربال َّية عىل قضايا اجلامعات واألقل َّيات‪ ،‬وذلك باالستناد إىل مبدأ‬ ‫وإمجاالً‪َّ ،‬‬
‫أن اهلو َّية اإلنسان َّية تتشكل من عمليتني ذات َّية وموضوع َّية‪َّ ،‬‬
‫وأن احلوار ُيشكِّل حقيقة اهلو َّية‬ ‫احلر َّية والعدل وحقوق اإلنسان‪ ،‬وإىل فكرة َّ‬
‫وأن طبيعة املجتمعات احلديثة تقتيض سياسة يف االعرتاف تأخذ بعني االعتبار عاملني أساسيني مها‪ :‬التعدد الثقايف واألخالقي‬ ‫احلديثة‪َّ ،‬‬
‫للمجتمع احلديث‪ ،‬واهلجرة التي تطبع األلف َّية الثالثة‪.‬‬

‫ثم َّ‬
‫إن الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬شئنا أم أبينا‪ ،‬هي استجابة للتعدد َّية التي تطبع االجتامع اإلنساين‪ .‬وهذه التعدُّ د َّية التي حتاول الديمقراط َّية‬
‫ُعب عنها الديمقراط َّية هي بمثابة حتدٍّ حقيقي تواجهه املجتمعات‬ ‫الليربال َّية االستجابة هلا أو تسيريها يطبعها النزاع‪ .‬فالتعدُّ د َّية التي ت ِّ‬
‫احلديثة‪ ،‬وبه تتميز عن املجتمعات التقليد َّية‪ .‬والرهان األكرب أل َّية ديمقراط َّية ليربال َّية ناجحة يتمثل يف إجياد الطرق والوسائل املناسبة‬
‫لتسيري نزاعاهتا‪ ،‬بحيث ال تؤدي التعدُّ د َّية إىل إحلاق الرضر أو املخاطرة بام ُيعترب سبب ًا يف وجود الديمقراط َّية‪ ،‬أال وهو احلر َّية والعدل‪.‬‬

‫‪19 . Michel Metayer, La philosophie éthique : Enjeux et débats actuels, Editions du Renouveau Pédagogique, Canada, 1997, p.238.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪158‬‬
‫بريشة الفنان طارق عبيد من تونس‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫الديمقراط َّية بين مطلب العدالة وآلة العنف‬

‫حممد اخلراط *‬

‫مدخل‪:‬‬
‫مفصلة لقضية الديمقراط َّية ومطلب العدالة وصخب العنف أثناء الثورات‬ ‫ال تدَّ عي هذه الورقة تقديم دراسة أكاديم َّية ضافية أو َّ‬
‫املكونة للعنوان الذي وسمنا به عملنا فحسب‪ ،‬بل ألنَّنا نطرق موضوع ًا‬‫العرب َّية وبعدها‪ ،‬ال لصعوبة ترشيع الربط بني هذه املصطلحات ّ‬
‫ما زالت خيوطه تنسج يف الواقع الفعيل أيض ًا‪ ،‬بل ما زالت الذوات تتفاعل معه‪ ،‬ومل تنشأ مسافة زمنية ها َّمة تكفي ملقاربة يسعها من العمق‬
‫ما هي جديرة به‪ .‬فحسبنا إذن أن نتطلع إىل رؤية تطمح إىل التفكيك وتقنع باالسترشاف‪.‬‬

‫الديمقراط َّية بني مطلب العدالة وآلة العنف ليس عنوان ًا أو موضوع ًا راهن ًا فحسب‪ ،‬إنَّه‪ ،‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬سياق اجتامعي وسيايس‬
‫جيعلنا نتساءل‪ :‬ملاذا جتابه وترتبط الدعوة إىل الديمقراط َّية بالعنف سواء ممَّن يرفعون شعارها أو ممَّن ُيك ِّفرون دعاهتا؟ دعوات ترتى‬
‫نسمعها تُن ِّظر للديمقراط َّية والعدالة االجتامع َّية وتدين العنف‪ ،‬فلامذا يزداد العنف وتتَّسع رقعته يوم ًا وراء يوم وال نستشعر بداية حقيق َّية‬
‫عامدها تركيز أسس الفكر الديمقراطي وقواعد املامرسة الديمقراط َّية؟‬

‫سيكون منطلق تفكرينا يف املوضوع بشكل أسايس ما استوحيناه من التجربة التونس َّية انطالق ًا من خماض أحداث ‪ 17‬ديسمرب ‪2010‬‬
‫‪ 14 /‬جانفي ‪ ،2011‬دون أن نغفل عن جمموع األحداث اإلقليم َّية التي اكتنفت أو أعقبت ما ُس ِّمي عند بعضهم بالربيع العريب‪ ،‬وعند‬
‫عمن يعترب ما حدث انتفاضة ال ترتقي إىل مستوى‬ ‫ال َّ‬‫بعضهم اآلخر بالتسونامي العريب‪ ،‬وعند فريق ثالث بأنفلونزا السياسة العرب َّية‪ ،‬فض ً‬
‫احلدث الثوري‪ .‬وستحاول هذه الورقة أن تكون مقاربة بين َّية جتمع بني التحليل السوسيولوجي والتفكيك السيايس والتأ ُّمل الفلسفي‪.‬‬
‫ألن مقاربة علم َّية من هذا النوع تقتيض انفصاالً عن‬
‫ولسنا نزعم أنَّنا نُقدِّ م مقاربة علم َّية للموضوع باملعنى الوضعي للمصطلح‪ ،‬ال َّ‬
‫املوضوع ال يتاح لنا يف هذه القضية الراهنية فحسب‪ ،‬بل ألنَّنا نحاول أيض ًا أن نجعل عملنا أقرب ما يكون إىل اإلجراء الفينومينولوجي‪،‬‬
‫والفينومينولوجيا تعرتف بالوصف وال تدَّ عي التفسري‪.‬‬

‫هناك يف البدء جمموعة من املقدّ مات التي ال ُبدَّ من أخذها بعني االعتبار‪:‬‬

‫القوة النتهاك شخص َّية وإرغامها يف الفعل واملصري أو انتزاع حقوقها‬


‫أن العنف حالة لصيقة بالطبيعة البرش َّية‪ ،‬وأساسه استخدام َّ‬ ‫‪َّ -‬‬
‫وممتلكاهتا‪ ،‬وله أشكال مرئ َّية وأخرى غري مرئ َّية‪.‬‬

‫املكونني‬
‫أقل من غريه من األنظمة التي ابتدعها العقل البرشي جمموع املواطنني ّ‬ ‫أن الديمقراط َّية هي النظام السيايس الذي يستغل َّ‬ ‫‪َّ -‬‬
‫للدولة‪ ،‬بحيث صار هذا النظام مكسب ًا كون َّي ًا حتاول املجتمعات جاهدة أن ترتقي به إىل اإلجياب َّية الكاملة‪ ،‬وأساسه حتقيق املواطنة وترسيخ‬
‫مبدأ املساواة يف احلقوق والواجبات‪.‬‬

‫* أكادميي من تونس‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪160‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية بني مطلب العدالة وآلة العنف‬

‫أن وجود الديمقراط َّية وعراقتها يف بعض الدول مل يمنع انسياق هذه الدول إىل العنف‪ ،‬ممَّا جيعلنا نفكر يف مدى قدرة النظام‬ ‫‪َّ -‬‬
‫قوهتا وأساس َّياهتا أو خترتق يف نسيجها احلضاري‬ ‫ال حني ختترب هذه الشعوب يف َّ‬ ‫الديمقراطي عىل عصمة الشعوب من اإلرهاب‪ ،‬مث ً‬
‫ونموذجها املجتمعي‪ ،‬ويف مدى قدرتنا عىل حتقيق الديمقراط َّية والسلم االجتامعي يف البلدان التابعة اقتصادي ًا وعسكري ًا‪ ،‬واملرهتنة يف‬
‫سيادهتا‪.‬‬

‫‪ -‬أن نتساءل‪ :‬هل تستطيع الديموقراط َّية‪ ،‬بام هي آل َّية تنظيم سيايس‪ /‬اجتامعي من جهة وبام هي مقولة حقوق َّية من جهة ثانية‪ ،‬أن‬
‫تفجر الثورات العرب َّية شعور الناس وجدان َّي ًا وواقع َّي ًا بالظلم‪ .‬وعن هذا‬
‫أهم أسباب ُّ‬ ‫لعل من ِّ‬ ‫تضمن العدالة إلنسان عريب مقهور؟ َّ‬
‫اإلحساس بالقهر املتصاعد من جهة املحكوم واإلحساس بال رشع َّية االحتجاج من جهة احلاكم خيلق العنف‪ .‬يطلب األول العدالة كام‬
‫يتصورها‪ ،‬والعدالة عنده أفالطونية امللمح‪ ،‬وهي وضع ِّ‬
‫كل أمر يف نصابه‬ ‫ُّ‬ ‫فيتمرد ويزلزل هيبة الدولة‪ ،‬ويطلب الثاين العدالة كام‬
‫َّ‬ ‫يراها‬
‫املقدَّ ر له‪ ،‬وبالتايل رضورة الرضب عىل أيدي املارقني عن النظام‪.‬‬

‫بعد هذه املقدّ مات نتساءل‪ :‬إذا كانت غالب َّية الرشائح االجتامع َّية والتنظيامت احلزب َّية واملدن َّية تؤمن بقيمة الديمقراط َّية وأمهيتها‪ ،‬وتدين‬
‫العنف وتلعن أنصاره‪ ،‬فمن أين ينبعث العنف إذا استثنينا العنف الغريزي الذي حياول ترويضه القانون؟‬

‫ّ‬
‫والظاهرة للعنف‬ ‫األسباب المباشرة‬
‫ال وتعتربها بدعة غرب َّية‬ ‫أوالً‪ :‬يأيت العنف من بعض التنظيامت الطائف َّية أو السياس َّية أو الدين َّية التي ال تؤمن بالديمقراط َّية أص ً‬
‫املتطرفة التي تعلن‬
‫ِّ‬ ‫فتكرس نفسها ملحاربتها وترفع شعارات من شأهنا أن تثري العنف‪ ،‬شأن بعض احلركات اإلسالمو َّية‬ ‫مضلة‪ِّ ،‬‬
‫ولعل املرأة نموذج مثايل للعنف‬ ‫َّ‬ ‫شعائر تطبيق احلدود واجلهاد واألمر باملعروف والنهي عن املنكر وتلزم الناس بطاعة ويل األمر‪،‬‬
‫املسلط من قبل هذه اجلامعات يف قهرها جسد َّي ًا أو نفس َّي َا (الرضب‪ ،‬اللباس‪ ،‬اهلجر‪ .)...‬والديمقراط َّية عند هذه التنظيامت مرفوضة‪،‬‬
‫املتطرفة‬
‫ِّ‬ ‫أن هذه اجلامعات‬ ‫املتطرفة عقائد َّي ًا بحاكم َّية اهلل‪ ،‬واإلشكال َّ‬
‫ِّ‬ ‫يؤسس حلكم الشعب‪ ،‬بينام تؤمن التنظيامت‬‫ألنا نظام سيايس ِّ‬‫َّ‬
‫التصور‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تلتقي يف عنفها مع قواعد متصلبة ألحزاب دين َّية رس َّية أو معرتف هبا‪ ،‬وكلها تنتمي بشكل رصيح إىل جمتمع ذكوري بدوي‬
‫له استعداد للقتل يف سبيل ما يراه قض َّية نبيلة (‪ ،)Cause noble‬ويعلن اجلهاد واحلرب املقدَّ سة عىل «الطاغوت»‪ ،‬فهم أناس‬
‫متعصبون أخالق َّي ًا ال يؤمنون بفكر التسامح وقبول‬ ‫ِّ‬ ‫دوغامئ ُّيون معرف َّي ًا يعتقدون بامتالكهم احلقيقة واحتكارهم سبل اهلدى‪ ،‬وهم‬
‫املختلف‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬هناك عنف الدولة‪ ،‬وهو عنف حتاول بمقتضاه حماربة ما تضعه يف خانة اإلرهاب‪ ،‬فتجعل عنفها قانون َّي ًا رشع َّي ًا غايته فرض‬
‫حترك بدافعني‪:‬‬ ‫النظام‪ ،‬إال َّ‬
‫أن عنف الدولة بعد الثورات العرب َّية َّ‬

‫بقوة حتفظ السلم‬


‫واملتمردين عىل النظام َّ‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬دافع شعوري واع‪ ،‬هو االمتثال ملبادئ احلكم اجلمهوري ومواجهة املخالفني للقانون‬
‫االجتامعي‪.‬‬

‫‪ -‬دافع غري واع‪ ،‬لفرض هيبة الدولة بالعنف وعلو َّية السلطة الرسم َّية بالقهر اسرتجاع ًا لدور األمن يف دولة البوليس‪ ،‬والعهد هبا ليس‬
‫ببعيد‪.‬‬

‫مترد شعبي يرهق امتيازاهتا وهيدِّ د استقرارها االقتصادي‪،‬‬ ‫هذا العنف يلتقي بعنف بعض األوليغارشيات الرأسامل َّية التي ختشى من ِّ‬
‫كل ُّ‬
‫املهمشة‪ ،‬وختتار من بني من و َّظ َفتهم سابق ًا كجنود خفاء‪ ،‬أكباش الفداء‪.‬‬
‫فيكون مسلط ًا رأس ًا عىل الطبقات َّ‬

‫‪161‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد اخلراط‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫تترشب نسغ النظام الشمويل القديم‪ ،‬وهي أحزاب وتنظيامت اجتمعت من شظايا‬‫ثالث ًا‪ :‬هناك عنف األحزاب والتنظيامت التي مازالت َّ‬
‫النظام السابق وحتاول الدخول إىل اللعبة الديمقراط َّية بلباس يغ ِّطي سوءاهتا‪ ،‬وهي أحزاب وتنظيامت ترفع شعارات الديمقراط َّية يف‬
‫حرة ورس َّية يتساوى فيها املواطنون‪ ،‬حكم الشعب بالطريقة التمثيل َّية‪ ،‬حر َّية الرأي والتنظيم وإنشاء‬
‫أركاهنا الصور َّية املألوفة‪ :‬انتخابات َّ‬
‫األحزاب واجلمع َّيات‪ ،‬الفصل بني السلطات‪ ،‬واملطالبة باالنضواء حتت لواء املواطنة‪ ،‬وجعل العالقات احلقوق َّية بني األفراد والدولة‬
‫كل هذه القواعد تو ِّظفها‬ ‫وبني األفراد واألفراد العنرص الرئيس يف العيش املشرتك‪ ،‬واملناداة بالتداول عىل السلطة يف الفضاء العام‪ُّ ،...‬‬
‫لصاحلها من خالل تأكيد ح ِّقها يف اللعبة السياس َّية وإدانة اإلقصاء واإليامن بحر َّية الرأي واالعتقاد‪ ،‬وجعل صناديق االقرتاع هي الفيصل‬
‫أن اإلرهاب الذي متارسه يسترشي يف‬ ‫أن عنف هذه األحزاب والتنظيامت هو عنف إداري‪ ،‬بمعنى َّ‬ ‫يف احلكم هلا أو عليها‪ .‬واإلشكال َّ‬
‫شل حركتها أو تعطيلها‪ ،‬فهو من نوع العنف الالمرئي الذي ينهك قوى الدولة وقوى املواطنني‪.‬‬ ‫مفاصل الدولة‪ ،‬وله القدرة الصامتة عىل ِّ‬
‫ويتضخم بانضواء كثري من املارقني عن القانون واملجرمني السابقني حتت عباءة أحزاب سياس َّية‬‫َّ‬ ‫وعنف هذه األحزاب والتنظيامت يزداد‬
‫ماض نضايل ـ يا للسخرية! ـ يف مقاومة الفساد‪.‬‬‫ٍ‬ ‫معرتف هبا‪ ،‬بل يقدِّ م بعض هؤالء أنفسهم يف لبوس شخص َّيات جديدة هلا‬

‫كل أنواع‬‫يتضخم بتفكُّك أجهزة الدولة وخلخلة نسيجها الردعي واسترشاء التخريب وتفيش ِّ‬
‫َّ‬ ‫رابع ًا‪ :‬هناك العنف اإلجرامي الذي‬
‫عمن‬ ‫اجلريمة‪ ،‬ال س َّيام بعد فرار قطاع واسع من املساجني إ َّبان الثورات وخروج العديد منهم يف مناسبات عفو ورساح رشطي‪ ،‬فض ً‬
‫ال َّ‬
‫شمله العفو الترشيعي ومل يكن له يف النضال ناقة وال مجل‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬يف املجتمع الرأساميل حيث ال ّليربال َّية املتوحشة آخذة بنصيب وافر من مصائر الناس وحيواهتم تصبح القيمة العليا هي السوق‪،‬‬
‫ال للعرض والطلب والرتويج واالستهالك حتى اإلنسان‪ .‬وأكثر ما ينتهك يف اإلنسان جسده‪ .‬يميس اجلسد عرضة‬ ‫ويصبح ُّ‬
‫كل يشء قاب ً‬
‫لالنتهاك‪ ،‬بل يصري اجلسد ساحة استعراض فلكلوري لفنون االعتداء عليه والتمثيل به‪ .‬لقد تراجعت القيم العليا التي كانت مالذ الناس‬
‫املتوحش العائد‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وال مندوحة من إعادة االعتبار ِّ‬
‫لكل القيم النبيلة‪ ،‬القيم الدين َّية واألخالق َّية والقانون َّية واالجتامع َّية من أجل مقاومة‬
‫التطور املعريف والتكنولوجي رصاط ًا للهدم والقتل‬‫ُّ‬ ‫إنسان احلضارة‪ .‬أخطر ما تكون احلداثة حني تكون حتديث ًا بال حداثة‪ ،‬حينام يصبح‬
‫والفوىض‪ ،‬والس َّيام عندما تغيب الدولة وتضمر هيبتها‪ ،‬كام هو الشأن يف البالد التونس َّية إ َّبان الثورة‪.‬‬

‫األسباب العميقة للعنف‬


‫لعل من أول األسباب العميقة والبعيدة للعنف عجز األنظمة القانون َّية واألخالق َّية وامليتافيزيق َّية عن إجياد هيبة تستطيع كبح مجاح‬‫َّ‬
‫بأن دور األديان يف هذا الزمن تق َّلص أخالق َّي ًا وقيم َّي ًا‪،‬‬
‫العنف الغريزي والعنف احلضاري اجلديد عىل السواء‪ .‬وال ُبدَّ من أن نعرتف َّ‬
‫بحيث صارت الشحنة املعنو َّية السامية للمقدَّ س الديني غري قادرة عىل ترويض الناس وهتذيب السلوك يف أطر أخالق َّية كام كان األمر‬
‫حتولت مع تع ُّقد صور احلضارة إىل باعث من بواعث القتل واإلقصاء‪ .‬يصدق هذا أيض ًا عىل القوانني الوضع َّية‬ ‫يف السابق‪ ،‬بل َّ‬
‫إن األديان َّ‬
‫ألن هنم‬ ‫واإليديولوج َّيات األخالق َّية وفلسفات القيم التي مل جتد الصدى املرجو يف قلب الشخص اإلنساين اجلديد وال يف عقله‪َّ ،‬‬
‫احلضارة وتسارع مغرياهتا وقوة الرأسامل َّية املتوحشة‪ ،‬ك ُُّل ذلك حال دون خضوع اإلنسان ملنطق املعقول َّية اهلادئة التي تراعي توازنات‬
‫العرص‪.‬‬

‫كانت دولة االستبداد تعيق حتقق الديمقراط َّية يف البالد العرب َّية بحيث شكَّل التحالف بني األعامل (‪ )Business‬والسياسة نظام ًا فاش َّي ًا‬
‫ألن الثورات التي تطيح‬ ‫غري قابل لالخرتاق‪ ،‬وبعد الثورات العرب َّية سقطت األنظمة االستبداد َّية ومل ينشأ إصالح للدولة ومؤسساهتا‪َّ ،‬‬
‫ثمة جهد إصالحي وعمل تأسييس لنظام ديمقراطي بديل‪،‬‬ ‫تؤسس لديمقراط َّية إال إذا كان َّ‬ ‫بنظام أو بإيديولوجيا أو بحاكم مستبد ال ِّ‬
‫أن الثورات أسقطت أنظمة واستبدلت مكاهنا أنظمة أخرى غري قادرة عىل اإلصالح‪ ،‬فوجدت احلكومات‬ ‫أ َّما ما حصل يف الواقع فهو َّ‬
‫نفسها يف مواجهة عنف شعبي شبيه بذاك الذي أطاح بالنظام االستبدادي‪ ،‬واحتدم الرصاع السيايس بني األحزاب املتنافسة عىل احلكم‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪162‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية بني مطلب العدالة وآلة العنف‬

‫عندما اندلعت ثورات الربيع العريب كانت‬ ‫قبل تصفية اإلرث الدكتاتوري لألنظمة السابقة‪ ،‬فقد كان من‬
‫هناك دعوات لوقف الظلم ورصخات‬ ‫املفروض أن تتحالف القوى التقدم َّية للقضاء هنائ َّي ًا عىل تركة‬
‫الفساد‪ ،‬ثم تتواجه ديمقراط َّي ًا للتنافس عىل احلكم‪ ،‬لك َّن ذلك مل‬
‫ضدَّ االنتهاكات وأصوات مبحوحة تطلب‬
‫أن بعض األحزاب حتالفت مع رؤوس النظام‬ ‫حيصل‪ ،‬بل األنكى َّ‬
‫الشغل والكرامة والعدالة‪ ...‬والديموقراط َّية‬ ‫االستبدادي الفاسد لتمويل انتخاباهتا وهيكلة نظامها الداخيل‪،‬‬
‫رغم صعوبة حرص مفهومها يف كلامت فام‬ ‫فقوي الرصاع بني أنصار يوتوبيا املستقبل وأنصار يوتوبيا املايض‪،‬‬
‫هي إال جتسيد رمزي عىل املستوى السيايس‬ ‫واشتدَّ العنف بني أنصار عدالة القصاص وأنصار عدالة التجاوز‪.‬‬

‫لقيمة أخالق َّية ثابتة هي قيمة العدالة ومتثل‬


‫كان هناك أيض ًا عنف شعبي ناتج عن خيبة أمل مريرة يف دولة‬
‫حقوقي معني لقيمة احلر َّية‬ ‫االستقالل‪ ،‬هي ثورة شباب تعكس معاناته من تعليم مل يعد يمثل‬
‫وسيلة للرقي االجتامعي يف السلم الوظيفي‪ ،‬وثورة مواطن أهنكه‬
‫تتضخم وتوريث السلطة يتأ َّبد‪ ،‬ويرى خروق ًا خمزية حلقوق‬
‫َّ‬ ‫غالء املعيشة وقلة ذات اليد‪ ،‬وثورة فرد يرى الفساد َّ‬
‫يتفشى واملحسوب َّية‬
‫اإلنسان‪َّ .‬إنا ثورة خيبة أمل حقيق َّية يف دولة االستقالل التي بعد ما يربو عىل نصف قرن من البناء الوطني مازال أكثر من ربع الشعب‬
‫خط الفقر‪ ،‬فدولة البناء الوطني مل تكن دولة استبداد سيايس وغياب ديمقراطي فحسب‪َّ ،‬إنا أيض ًا دولة الفقر والتخ ُّلف‬
‫التونيس حتت ّ‬
‫والغالء والبطالة‪.‬‬

‫املهمشة‪ ،‬وهي أقاليم داخلية حمرومة من ُج ِّل مرافق احلياة العرص َّية‪ ،‬هو الشباب عينه الذي‬
‫إن الشباب الذي ثار يف املناطق التونس َّية َّ‬ ‫َّ‬
‫متزق‪ ،‬هناك ترييف للمدينة‪ ،‬هناك تفاوت يتعاظم‪ ،‬نظام تعليمي‬ ‫أضحى أكرب مصدر لإلرهاب يف تونس بعد الثورة‪ .‬هناك نسيج اجتامعي َّ‬
‫عمق محأة البطالة‪.‬‬
‫فاشل ما فتئ ُي ِّ‬

‫هذا األمر احلركي اجلديد اتَّصل بأمر مزمن يف البالد العرب َّية عموم ًا يرتبط بموضوع عالقة الفرد بالدولة القطر َّية منذ انبعاثها‪ .‬مل ينظر‬
‫هلذه العالقة يوم ًا بعني الرضا‪ ،‬ال من هذا الطرف وال من ذاك‪ .‬املجتمع يرى يف الدولة جهاز ًا مصطنع ًا ومسقط ًا وآلة العدوان والضيم‪،‬‬
‫املتمردين‪ ،‬وازداد األمر سوء ًا بعجز النظام الرأساميل الناشئ عن االضطالع بمها ِّمه‪ ،‬نتيجة‬ ‫ِّ‬ ‫والدولة ترى يف املجتمع رعاع ًا أو أنفار ًا من‬
‫كل ذلك إىل رصاع عميق بني الدولة‬ ‫فك ربقته‪ ،‬فأ َّدى ُّ‬
‫بأن الرأسامل َّية ليست إال الوجه اآلخر لالستعامر الذي بالكاد َّ‬ ‫إحساس املواطن َّ‬
‫واملجتمع‪ ،‬انتهى هبيمنة هذه الدولة عىل الشأن العام وحمارصهتا للشأن اخلاص‪.‬‬

‫ثار اجلميع ولكنَّهم مل جيدوا شيئ ًا ممَّا ثاروا عليه‪ .‬مل تقدِّ م هلم الدولة وال النخب املتصدِّ رة للمشهد السيايس البديل الذي بحثوا عنه‪،‬‬
‫وظهرت التنظيامت الدعو َّية واإلرهاب َّية لتحتضن هذا الشباب التائه واليائس‪ ،‬فقوي جنب العنف‪ ،‬بل وأمست البالد من أكرب البؤر‬
‫املصدِّ رة للشباب املتع ِّطش للقتل‪.‬‬

‫تارخيي ًا‪ ،‬عندما جاء اإلسالم حاول عن طريق مرشوع َّية السيادة العليا للدين أن حيارص العنف‪َّ ،‬‬
‫وعوض مفهوم العصب َّية القبل َّية بمفهوم‬
‫األخوة الدين َّية واأل َّمة اإلسالم َّية‪ .‬لك َّن هذه األخالق َّية الدين َّية بدأ يأخذ منها الوهن منذ تويف النبي‪ ،‬ومل تستطع أن متسك بعقال العنف‬
‫َّ‬
‫ّ‬
‫القوة وسيادة القانون‪ .‬وظلت الدولة تتحكَّم‬
‫القبيل الذي طفا إىل السطح من جديد‪ ،‬والتزمت الدولة الناشئة بضبط هذا العنف من خالل َّ‬
‫يف بواعث الفتنة والتوتُّر مادامت حتتفظ بسطوهتا أو باحرتامها لعهودها وللحدِّ األدنى من متط ّلبات االنسان‪ ،‬حتى إذا فقدت الدولة‬
‫مترد من هنا وانبعثت فتنة من هناك‪ ،‬واهتاجت ثورة من قريب أو‬ ‫قوهتا أو س ّلطت عىل الناس ظل ًام يفوق قدرهتم عىل االحتامل‪ ،‬نجم ُّ‬ ‫َّ‬
‫فاهتزت هيبة احلكم وسقطت سيادة املرشوع َّية‪ .‬كانت معظم الثورات واالنتفاضات خترج تعبري ًا عن اإلحساس‬ ‫َّ‬ ‫ظهر عصيان من بعيد‪،‬‬

‫‪163‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد اخلراط‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫والتمرد لرفع مظامل واملطالبة بحقوق‪ .‬عندما ثار الناس عىل اخلليفة الثالث عثامن بن عفان قال له أحد‬
‫ُّ‬ ‫بالظلم‪ .‬تنشأ حركات االحتجاج‬
‫الصحابة‪« :‬اعتزل إن مل تعتدل»‪.‬‬

‫عندما اندلعت ثورات الربيع العريب كانت هناك دعوات لوقف الظلم ورصخات ضدَّ االنتهاكات وأصوات مبحوحة تطلب الشغل‬
‫مر التاريخ كانت الثورات يف عمقها تعبري ًا عن رفض الظلم واالستعباد واحتكار اخلريات‬ ‫والكرامة والعدالة‪ .‬يف مجيع العصور وعىل ِّ‬
‫ونشدان ًا لإلنصاف واحلر َّية‪ .‬والديموقراط َّية رغم صعوبة حرص مفهومها يف كلامت فام هي إال جتسيد رمزي عىل املستوى السيايس لقيمة‬
‫أخالق َّية ثابتة هي قيمة العدالة ومتثل حقوقي معني لقيمة احلر َّية‪ .‬الديموقراط َّية املنشودة هي الشوق املتجدِّ د للعدالة واحلر َّية والكرامة‪،‬‬
‫وحني رفع الناس شعار الديموقراط َّية أثناء الثورات العرب َّية التبس املفهوم داخل األذهان بتلك القيم التي ترضب بعمق يف الوجدان‬
‫تتنوع يف دالالهتا األخالق َّية من املساواة يف املعاملة كقوله تعاىل‪« :‬ولن تستطيعوا أن تعدلوا بني‬ ‫والذاكرة‪ .‬والعدالة بمفهومها اإلسالمي َّ‬
‫النساء ولو حرصتم» (النساء‪ ،)129/‬إىل معنى العدل يف احلكم والقضاء كقوله تعاىل‪« :‬وإذا حكمتم بني الناس أن حتكموا بالعدل»‬
‫فإنا‬
‫(النساء‪ ،)58 /‬إىل معنى الصدق يف القول‪ ،‬شأن قوله تعاىل‪« :‬وإذا قلتم فاعدلوا» (األنعام‪ .)152/‬ومهام تباينت دالالت الكلمة َّ‬
‫كل ذي حق حقه‪ .‬وكام كان األمر يف جمتمع أفالطون‪َّ 1‬‬
‫فإن الثقافة العرب َّية اإلسالم َّية الكالسيك َّية إذا‬ ‫جتتمع يف النهاية عند معنى إعطاء ِّ‬
‫أقل شأن ًا من الرجل (الزواج‪،‬‬ ‫تصور تراتبي للمجتمع‪ ،‬حيث املرأة ُّ‬‫فإن ذلك يكون منسج ًام مع ُّ‬ ‫حق ح َّقه‪َّ ،‬‬ ‫كل ذي ٍّ‬‫دعت إىل إعطاء ّ‬
‫أن «سياق املفهوم التارخيي يف حينه هو تساوي األحرار مع‬ ‫الذمي ‪ ،...‬ذلك َّ‬ ‫واحلر قبل العبد‪ ،‬واملسلم أوىل من ِّ‬
‫ُّ‬ ‫املرياث‪ ،‬الشهادة‪،)....‬‬
‫ذاهتم‪ ،‬وتساوي العبيد مع ذاهتم‪ ،‬وليس تساوي العبيد واألحرار» ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫َّ‬
‫إن العدالة التي حتدَّ ثت عنها الثقافة اإلسالم َّية ذات بعد أخالقي وليست ذات بعد حقوقي‪ ،‬العدالة صفة لشخص وليست صفة لنظام‬
‫سيايس‪َّ ،‬إنا قيمة دين َّية أكثر ممَّا هي مبدأ تأسييس‪.‬‬

‫تصوره للعدالة وفق رؤيتني‪ :‬رؤية ترى العدالة يف حتقيق أكرب‬ ‫يوزع ُّ‬ ‫تأسس الفكر احلديث عىل تنظري فلسفي ِّ‬ ‫وعىل النقيض من ذلك‪َّ ،‬‬
‫أن أساس األخالق هو احلر َّية التي هبا يستقيم‬ ‫قدر ممكن من السعادة واملنفعة ألكرب عدد ممكن من الناس ( هيوم ‪ ،‬بنتام ‪ ،)...‬ورؤية ترى َّ‬
‫مبدأ الواجب األخالقي ( كانط)‪ .‬وفكرة العدالة هذه هي ذاهتا «التي تقوم عىل طاعة اإلنسان لقانون شارك يف سنِّه يف نظرية هوبز للعقد‬
‫يترصف وكأنَّه يس ُّن قانون ًا للمجتمع ككل‪ ،‬وهذا ما يمنع حالة احلرب ال‬ ‫أن االنسان األخالقي احلر عند كانط َّ‬ ‫االجتامعي‪ ،‬مع الفارق َّ‬
‫قمع الدولة املطلقة»‪ .3‬وسوف ينقيض زمن ال بأس به قبل أن تُصاغ فكرة العدالة عىل قواعد املساواة االجتامع َّية والطبيع َّية‪ ،‬ويتبلور‬
‫تصور العمل عىل تقليص التفاوت بني‬ ‫تصور العدالة منقطع ًا عن ُّ‬ ‫مفهوم احلقوق والواجبات توازن ًا بني احلر َّية واملنفعة‪ .‬واليوم ال يبدو ُّ‬
‫«إن املنافع التي تشكّل فيام بينها‬‫الطبقات والفئات والسهر عىل توزيع الفرص حسب الكفاءات واملؤهالت وبالتساوي بني اجلميع‪َّ .‬‬
‫أن العدالة تعرف يف املجتمع الديموقراطي قبل‬ ‫أقل عدالً‪ ،‬وأكثر أو ّ‬
‫أقل إنصاف ًا‪ ،‬عل ًام َّ‬ ‫الرفاه واهلناء هي إىل ذلك موضوع توزيع أكثر أو ّ‬
‫بأنا االعتناء بتوزيع الثروات املنتجة واملنافع املستهلكة يكون باستمرار أكثر إنصاف ًا»‪.4‬‬ ‫ّ‬
‫كل يشء َّ‬

‫كل فرد مبا هو موكول إليه يف املنزلة التي هو مخلوق فيها ولها بحسب مراتب النفس البرشيَّة‪ ،‬وذلك بشكل يكون فيه نظام‬
‫‪ 1‬ـ التص ُّور اإلغريقي للعدالة أساسه قيام ّ‬
‫النفس متسقاً مع نظام الكون ونظام الدولة‪ ،‬وهو نظام َّ‬
‫يتأسس يف جوهره عىل الالمساواة‪ ،‬فال املرأة مثل الرجل‪ ،‬وال العبد يف منزلة ال ُحر‪.‬‬
‫‪  2‬ـ عزمي بشارة‪ ،‬مداخلة بشأن العدالة‪ :‬سؤال يف السياق العريب املعارص‪ ،‬مجلة تبني العدد‪ 1‬املجلد الثاين‪ ،‬صيف ‪ 2013‬ص ‪.14‬‬
‫‪  3‬ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪4 . Robert Misrahi Existence et Démocratie PUF 1995 p.17.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪164‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية بني مطلب العدالة وآلة العنف‬

‫يقتيض اإليامن بالديموقراط َّية االعتقاد يف‬ ‫تتجسد‬‫َّ‬ ‫مل تكن هناك دعوات رصحية للحر َّية‪َّ ،‬‬
‫ألن هذه القيمة مل‬
‫مبدأ املساواة بني اجلميع والتشارك يف قيمة‬ ‫وألن الشعب مل يتمثل هذه القيمة باملعنى‬ ‫َّ‬ ‫يوم ًا كمفهوم حقوقي‪،‬‬
‫نضحي هبا يف‬ ‫ِّ‬ ‫املواطني‪ ،‬وإنَّام ظ ّلت دائ ًام من صنف القيم التي‬
‫املواطنة‪ ،‬بغض النظر عن الدين واجلنس‬
‫سبيل أن نقيم األود‪ ،‬ويف أحسن األحوال‪ ،‬متى ُخ ّينا بني احلر َّية‬
‫والتوجه اإليديولوجي‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫والعرق واألصل‬ ‫والعدالة اخرتنا العدالة‪ ،‬وإذا ُخ ّينا بني الديموقراط َّية مع الفوىض‬
‫وهذا االعتقاد سيكون طريق ًا شائكة بسبب‬ ‫واالستبداد مع األمن‪ ،‬اخرتنا الثاين عىل األوىل‪.‬‬
‫تصور‬
‫ُّ‬ ‫تصور تراثي للعدالة واحلر َّية‪ ،‬وهو‬ ‫ُّ‬
‫إنَّنا ال نتحدث عن احلر َّية الطبيع َّية التي كان من أشهر أصواهتا‬
‫يستلهم التعاليم الفقه َّية التي تتعارض‬
‫صوت الفاروق عمر حني قال‪« :‬متى استعبدتم الناس وقد‬
‫جوهر َّي ًا مع املواطنة يف مفهومها احلديث‬ ‫وعب عنها الشعراء بتحليق الطيور يف‬ ‫ولدهتم أمهاهتم أحرار ًا»؟ َّ‬
‫أعايل السامء‪ ،‬وإنَّام نحن نتحدث عن احلر َّية كوهنا قيمة تُكتسب‬
‫تطور الفكر ا ّلليربايل من الوجه اإلنيس مع فالسفة‬ ‫بالوعي وتُطبق سياس َّي ًا واجتامع َّي ًا‪ ،‬وهي القيمة التي نضجت يف الغرب عن طريق ُّ‬
‫النهضة إىل الوجه النضايل ضدَّ اإلقطاع واالستبداد‪ ،‬وقد «مجعت يف ذاهتا بني ديموقراط َّية روسو ونخبو َّية فولتري واستبداد َّية هوبس»‪ ،‬إىل‬
‫كل أشكال الدولة‪ .‬واليوم يتحدث املجتمع‬ ‫الوجه النقدي «للدولة العرص َّية املهيمنة عىل األفراد واجلامعات»‪ ،5‬إىل الوجه الفوضوي ضدَّ ِّ‬
‫وعي واجباته‪.‬‬‫الدويل عن احلر َّيات العا َّمة‪ ،‬وهو مفهوم سليل عرص األنوار ووليد مفهوم العقد االجتامعي الذي حدَّ د حر َّية االنسان َّ‬
‫خاصة‪ ،‬بل جيب أيض ًا عىل‬
‫«أن احلر َّية ال تكون جمدية إذا حتدَّ دت داخل اإلنسان الفرد يف املجتمع وأصبحت حر َّية َّ‬ ‫فاحلر َّيات العا َّمة تعني َّ‬
‫ألن املجتمعات املتوازنة تقوم عىل اتفاقات‬ ‫اخلاصة ويف حياته االجتامع َّية العا َّمة‪ ،‬وذلك َّ‬
‫َّ‬ ‫السلط محايتها بحامية الفرد يف حياته احلميم َّية‬
‫حر ًا يف جمتمعه‪ ،‬حتى يستطيع أن يتعاقد وخيضع‬ ‫وتعاقد ودساتري وقوانني‪ ،‬ومجيعها يتطلب كرشط أسايس ورضوري أن يكون اإلنسان َّ‬
‫تكوهنا»‪.6‬‬
‫للقوانني عن وعي واعتقاد بأنَّه طرف فيها ويف ُّ‬

‫َّ‬
‫إن احلر َّية التي نطمح إىل حتققها يف خاليا الوعي الفردي والنسيج املجتمعي ال تتعارض مع العدالة‪ ،‬وال تتناقض مع الشعور بالسعادة‬
‫املرشع الديموقراطي يف بلورة القاعدة الدستور َّية ملجتمع جديد فإنَّه بطبيعة احلال ال يعرتضه‬
‫واالمتالء بنسغ احلياة‪« ،‬فعندما يرغب ِّ‬
‫ارتباط احلر َّية بالسعادة فحسب‪ ،‬ولكن تعرتضه أيض ًا السعادة باعتبارها غاية تكون يف اآلن ذاته واضحة وحتم َّية ومستحقة» ‪.‬‬
‫َّ ‪7‬‬

‫إن هذه املفاهيم احلقوق َّية والقانون َّية مازالت غائبة عن عموم الشعب‪ ،‬وهي من صنف املطالب النخبو َّية‪ ،‬لذلك فأقىص ما يمكن أن‬ ‫َّ‬
‫حممد وقيدي «ال ُبعد الديموقراطي» الذي ينوس بني التحقق واإلرجاء وبني‬ ‫سمه الباحث َّ‬ ‫نتحدث عنه يف املجتمعات العرب َّية اليوم هو ما َّ‬
‫ألن «الرشوط اخلف َّية يف سريورة البناء الديموقراطي يف كثري من املجتمعات كانت تسري يف الغالب يف اجتاه امتناع حت ُّقق‬ ‫القبول واإلقصاء‪َّ ،‬‬
‫كثري من املجتمعات ذاهتا‬ ‫هذا البناء‪ ،‬عكس ما توحي به الرشوط املعلنة والظاهرة‪ .‬وهكذا بني الرغبة يف التحقيق ورشوط االمتناع جتد ٌ‬
‫أن بلدان الربيع العريب مل تكن أطر ًا مالئمة أو فضاءات مه َّيأة لتحقق‬ ‫اليوم يف وضع متناقض بالنسبة إىل بنائها الديموقراطي»‪ .8‬ورغم َّ‬
‫ُنجز وتصري جزء ًا من طموحاتنا وكينونتنا بالتدريج‪ .‬لن نقول ما كان ير ِّدده معظم الزعامء‬ ‫الديموقراط َّية َّ‬
‫فإن هذه الديموقراط َّية ال ُبدَّ أن ت َ‬
‫مؤهل بعد لتق ُّبل الفكر الديموقراطي‪ ،‬وإنَّام سنقول إنَّنا ال ُبدَّ أن نرشع يف ترسيخ قواعد االنتقال‬‫إن الشعب غري َّ‬ ‫العرب يف القرن املايض َّ‬

‫‪  5‬ـ عبد الله العروي‪ ،‬مفهوم الحريَّة‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الطبعة السادسة ‪ 1998‬ص ‪.40‬‬
‫‪  6‬ـ فتحي الرتيك‪ ،‬العقل والحريَّة‪ ،‬ترب الزمان ‪ 1998‬تونس ص ‪.104‬‬
‫‪7 . Robert Misrahi Existence et Démocratie p.14.‬‬
‫‪  8‬ـ محمد وقيدي‪ ،‬ال ُبعد الدميوقراطي‪ ،‬ص ‪.91‬‬

‫‪165‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد اخلراط‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ألن الديموقراطية «مثال تسعى كثري من املجتمعات اليوم إىل بلوغه» ‪ ،9‬وضمن هذا‬ ‫الديموقراطي ورشوطه‪ ،‬وهو سريورة ال تكتمل‪َّ ،‬‬
‫لح ًا اليوم فال ُبدَّ للمواطن من أن يتمثل‬ ‫السعي يكون جدل االمتناع والتح ّقق وجدل الفعل واإلقصاء‪ .‬وإذا كانت الديموقراط َّية مطلب ًا ُم َّ‬
‫األساس احلقوقي للحر َّية والعدالة‪ ،‬فاإليامن بالديموقراط َّية يقتيض االعتقاد يف مبدأ املساواة بني اجلميع والتشارك يف قيمة املواطنة‪ ،‬بغض‬
‫تصور تراثي للعدالة‬ ‫والتوجه اإليديولوجي‪ ،‬وهذا االعتقاد سيكون طريق ًا شائكة بسبب ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫النظر عن الدين واجلنس والعرق واألصل‬
‫تصور يستلهم التعاليم الفقه َّية التي تتعارض جوهر َّي ًا مع املواطنة يف مفهومها احلديث‪ ،‬وتفرتض التساؤل عن مقدار‬ ‫واحلر َّية‪ ،‬وهو ُّ‬
‫استعداد املواطن املسلم اليوم للتغايض عن رأي الفقه يف منزلة املرأة وحقوقها‪ ،‬ومنزلة غري املسلم وحقوقه‪ ،‬وإشكال َّيات النسب واملرياث‬
‫واخلاصة لإلنسان يف البالد العرب َّية‬
‫َّ‬ ‫واحلكم‪ ،‬وقدرته عىل إعادة تأويل النصوص الدين َّية التي يستند إليها الفقهاء يف رسم معامل احلياة العا َّمة‬
‫كل رضوب العنف التي نعاين منها اآلن‪.‬‬ ‫واإلسالم َّية‪ ،‬ألنَّه إن مل حيصل ذلك‪ ،‬ولو تدرجيي ًا‪ ،‬كان هذا عالمة الرفض املتبادل الذي خيلق َّ‬

‫يتأتَّى العنف إذن من رؤيتني للعامل وفلسفتني للحق ونمطني للمعرفة‪ ،‬وال مناص من العمل بجدٍّ وسالسة عىل االنتقال من ُس ّلم للقيم‬
‫لم للقيم مركّز عىل اإلنسان واحلياة‪ ،‬ومن املهم واحلال هذه أن تتحول احلر َّية والعدالة من سياق الطوبى والفكر‬ ‫مركّز عىل الغيب إىل ُس ّ‬
‫يتأسس عىل مجلة من احلقوق والواجبات التي تلزم املتعاقدين من أجل قيام دولة القانون‬ ‫األخالقي القديم إىل عقد اجتامعي وسيايس َّ‬
‫التي تقينا العنف والفوىض والظلم‪ .‬ما نشاهده من العنف يف البالد العرب َّية بعد الثورات هو إذن وليد وضع اجتامعي وتارخيي وسيايس‬
‫تصور‬
‫تصورات بعيدة يف الزمان واملكان وقع استحضارها وإحياؤها أيام الثورة‪ ،‬وهو إىل ذلك وليد ُّ‬ ‫واقتصادي وثقايف هجني‪ ،‬ونتيجة ُّ‬
‫ألن العنف يزداد وتتَّقد محأته عندما تصبح اهلو َّية ـ دين َّية كانت أو عرق َّية أو غريها‪ -‬معيار ًا للتصنيف‪ ،‬ذلك َّ‬
‫أن اهلو َّية يف‬ ‫خاص للهو َّية‪َّ ،‬‬
‫احلقيقة ليست مرآة صقيلة‪ ،‬وإنَّام هي ُمركَّبة وغن َّية‪ ،‬بل هي « ُمركَّب من العنارص املرجع َّية املاد َّية واالجتامع َّية والذات َّية املصطفاة التي‬
‫تسمح بتعريف خاص للفاعل االجتامعي»‪.10‬‬

‫لقد أثريت يف تونس ُبعيد الثورة قضية اهلو َّية‪ ،‬وبقطع النظر عن افتعال هذه القض َّية من عدمه وعن الدوافع اإليديولوج َّية والسياس َّية‬
‫تأجج نريان العنف اللفظي واملادي‪ ،‬وتعالت بسببها أصوات التكفري‬ ‫الضيقة إلثارهتا‪ ،‬فقد كانت من بني العوامل التي ساعدت عىل ُّ‬
‫والتخوين والتجهيل‪ .‬مل تكن املشكلة يف األديان وال يف اهلو َّيات وإنَّام يف توظيفها للحرب السياس َّية واملصالح الذات َّية‪ .‬وقد أشارت الباحثة‬
‫متزق العامل سببها اإلنسان‪ ،‬وليس الدين أو اهلو َّية‪ ،‬كام أشارت إىل ما أصاب‬ ‫أن الرصاعات التي ِّ‬‫اهلند َّية راما ماين (‪ )Rama Mani‬إىل َّ‬
‫املؤسسة للوحدة‪ ،‬فوقع تكريس التعدُّ د الذي أ َّدى إىل اإللغاء والقهر» ‪ .‬فإذا كان‬
‫‪11‬‬
‫تم « ُّيل عنق هذه الرسالة ّ‬
‫روح األديان من حتريف‪ ،‬فقد َّ‬
‫أن اهلو َّية متعدّ دة و ُمركَّبة وغن َّية‪« ،‬واالعرتاف باهلو َّيات املتعدّ دة يف العامل ك ّله‪،‬‬‫ال ُبدَّ من طرح قضية اهلو َّية فال مهرب من أن نربهن عىل َّ‬
‫والتي تتجاوز االنتامءات الدينية حتى بالنسبة إىل أناس شديدي التدين‪ ،‬يمكن ببساطة أن يغري من العامل املضطرب الذي نعيش فيه» ‪.‬‬
‫‪12‬‬

‫على سبيل الخاتمة‬


‫‪14‬‬ ‫‪13‬‬‫َّ‬
‫إن اإلنسان ذا البعد الواحد بتعبري هربرت ماركيوز هو عدو املجتمع املفتوح بتعبري بوبر‪ .‬حني يرهتن اإلنسان بالواحد َّية يف املنظور‬

‫‪  9‬ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.6‬‬


‫‪  10‬ـ هذا التعريف ألليكس ميكشسيل من كتابه «الهويَّة»‪ ،‬والشاهد مأخوذ من كتاب عيل الصالح موىل «الهويَّة‪...‬سؤال الوجود والعدم»‪ :‬دراسة تحليل َّية نقديَّة لعالقة‬
‫األنا باآلخر‪ .‬نرش كليَّة اآلداب والعلوم اإلنسانيَّة بصفاقس‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬جويلية ‪ 2006‬ص ‪.172‬‬
‫‪  11‬ـ املرجع السابق ‪ ،‬الهامش‪ 3‬ص‪.180‬‬
‫‪  12‬ـ مارتيا صن‪ ،‬الهويَّة والعنف‪ :‬وهم املصري الحتمي‪ ،‬ترجمة سحر توفيق‪ ،‬سلسلة عامل املعرفةعدد‪ 352‬يونيو ‪ 2008‬ص ‪87‬‬
‫‪13 . Herbert Marcuse L Homme Unidimensionnel Paris Gallimard1964.‬‬
‫‪14 . Karl Popper La Société Ouverte et ses Ennemis Seuil1979.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪166‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية بني مطلب العدالة وآلة العنف‬

‫واحلقيقة واهلو َّية واألهواء‪ ،‬حني نعتقد أنَّنا مل نقرتف ذنب ًا إذ نصنِّف الناس حسب هو َّيات أحاد َّية حمدَّ دة دين َّية أو فكر َّية أو عرق َّية أو‬
‫تصوراته وهو َّيته ومعايري إنِّيته‪ ،‬يف السياسة واملجتمع والثقافة والذوق‬ ‫جنس َّية‪ ،‬نسقط يف رشك العنف‪ .‬حقيقة اإلنسان أنَّه كائن األبعاد يف ُّ‬
‫وكل حماولة حلرص هذه الذات يف بوتقة ضيقة تنتهي إىل اإلقصاء فالعنف‪.‬‬ ‫تؤسس لذاته املتكثرة‪ُّ ،‬‬ ‫لكل امرئ عوامل خمتلفة ِّ‬ ‫واالقتصاد‪ِّ .‬‬
‫تأسسة عىل قيمة احلر َّية‪ ،‬حر َّية االعتقاد وحر َّية الضمري وحر َّية التعبري والعمل‪ ،‬وأعمق أعامقها الوقوف‬ ‫أعمق ما يف الديموقراط َّية َّأنا ُم ِّ‬
‫مجيع ًا عىل قدم املساواة أمام ما بنيناه سو َّي ًا‪ ،‬وهو القانون‪ .‬القانون الذي يدعم املواطنة وحي ّقق العدل‪ ،‬ال القانون الذي ديدنه تركيع الناس‬
‫وجتويع الناس وإذالل الناس‪ .‬حينام تتح ّقق املقاصد األبد َّية‪ ،‬وهي مقاصد خري اإلنسان وسعادة اإلنسان وأمن اإلنسان‪ ،‬ينتفي العنف‬
‫السلم اجلامعي‪.‬‬
‫ونطمئن إىل ِّ‬

‫يقول بوبر يف مقدمة الطبعة الفرنسية‪« :‬موضوع هذا الكتاب هو املساعدة عىل الدفاع عن الحريَّة والدميوقراط َّية‪ .‬لست أجهل شيئاً من صعوبات الدميوقراط َّية‬
‫يقل شيئاً عن رأيي يف أنَّها أملنا الوحيد‪ .‬كثري من األمثلة ُّ‬
‫يدل عىل أ َّن هذا األمل ليس عبثاً‪.‬‬ ‫وأخطارها املحايثة‪ ،‬ولكن هذا ال ّ‬

‫‪167‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫تص ُّور العدالة‪:‬‬


‫الشرط اإلجرائي والتأسيس األخالقي‬

‫منويب غباش*‬

‫قدمة‬
‫ُم ّ‬
‫كل أشكال الظلم واحليف واالستغالل والعدوان املالزمة‬ ‫لعل ما حي ِّفز الفكر لتناول مسألة العدالة هو نقيضها املتح ّقق عمل َّي ًا‪ ،‬أي ّ‬ ‫َّ‬
‫سوغه يف انعدام العدالة‪ .‬ال توجد عدالة عىل األرض وال يمكن أن توجد‪،‬‬ ‫إن التفكري يف رشوط إمكان حت ُّقق العدالة جيد ما ُي ِّ‬‫لواقع البرش‪َّ .‬‬
‫شك َّ‬
‫أن هذا املوقف ال قيمة له يف‬ ‫فالعدالة الوحيدة املمكنة هي عدالة السامء‪ ،‬وهي ال تتحقق إال يف عامل آخر كام يرى َّ‬
‫اللهوت ُّيون‪ ،‬وال َّ‬
‫كل حماولة لتحسني واقع اإلنسان‪.‬‬ ‫الواقع‪ ،‬ألنَّه ينكر فاعل َّية التاريخ‪ ،‬ويلغي الفكر‪ ،‬ويع ِّطل َّ‬

‫مهها تلك التي تتع َّلق باملرجع َّية التي‬ ‫إن أ ّية حماولة لتحديد معنى دقيق ومقبول للعدالة تقتيض مواجهة بعض املفارقات وح َّلها‪ّ ،‬‬
‫لعل أ َّ‬ ‫َّ‬
‫تدل وتتطابق مع الرشع َّية (القانون) أم مع‬ ‫باحلق؟ هل ُّ‬
‫انطالق ًا منها أو يف إطارها يمكن تعريف العدالة؛ هل تتحدَّ د العدالة بالواقع أم ّ‬
‫أن العدالة تتحدَّ د بقاعدة قانون َّية‪ ،‬فكيف يمكن التمييز بني العادل وغري العادل يف حالة انعدام تلك‬ ‫(احلق)؟ إذا افرتضنا َّ‬
‫ّ‬ ‫املرشوع َّية‬
‫أن العدالة يف املستوى‬ ‫يقل أمه َّية عن مفهوم العدالة‪ ،‬وهو اإلنصاف ‪ .‬إذا افرتضنا َّ‬
‫‪1‬‬ ‫القاعدة؟ قد يكون مفيد ًا هنا استعامل مفهوم آخر ال ُّ‬
‫العميل هي إنصاف‪ ،‬فهل يعني ذلك َّأنا مفهوم إجرائي خالص؟ هل يمكن فصل العدالة عن اخلري باعتباره غاية الفعل اإلنساين؟‬

‫تصور إجرائي‪ ،‬أي كربنامج أو كمرشوع لتنظيم الوجود االجتامعي اعتامد ًا عىل مؤسسات وأجهزة ُم َعدَّ ة‬ ‫يمكن فهم العدالة‪ ،‬بحسب ُّ‬
‫للغرض‪ .‬بحسب مثل هذا التصور تكون العدالة كإنصاف رضب ًا من رضوب املامرسة حتكمها رضورات الواقع‪ ،‬وأ َّما إذا أدرجنا العدالة‬
‫تصور أخالقي‪ ،‬أي إذا ربطناها باخلري كغاية‪ ،‬فإنَّنا بذلك سنعتربها قيمة ُمدِّ دة ملا جيب أن يكون‪ .‬يتعلق األمر بالبحث يف‬ ‫كإنصاف ضمن ُّ‬
‫جمرد إجراء يتع َّلق بتنظيم املجتمع؟ وهل باإلمكان فصلها عن اخلري وعن السعادة؟ وهل جيوز‬ ‫املعنى احلقيقي للعدالة‪ .‬هل تُعترب العدالة َّ‬
‫أن ننفي عنها الطابع املعياري فال نرى فيها قيمة كون َّية؟‬

‫كل ذي حق‬ ‫تدل عىل ما يتطابق مع احلـق‪ ،‬كام تعني إعطاء ِّ‬ ‫ُتيـل العدالة‪ ،‬حسب االشتقاق َّ‬
‫اللتيني إىل احلق ( ‪ ، )jus،juris‬وهي ُّ‬
‫ح َّقه‪ ،‬وهلذا يمكن اعتبارها فضيلة أو مبدأ للفضيلة‪ .‬وأ َّما يف استعامهلا احلديث فقد اقرتنت العدالة بتوزيع الثروات واملنافع االقتصادية‬
‫واخلريات االجتامعية‪ .‬قد تكون العودة إىل أرسطو مفيدة يف هذا السياق‪ .‬يم ِّيز أرسطو بني العدالة الكُل َّية والعدالة اجلزئ َّية‪ :‬األوىل‬
‫تعني املساواة وطاعة القوانني‪ ،‬والثانية تنقسم إىل نوعني‪ :‬عدالة توزيع َّية تظهر «عىل مستوى قسمة الرشف أو الثروات أو عىل مستوى‬

‫* أكادميي من تونس‬
‫معي من العدالة فإنَّه هو ذاته عادل( ‪ )...‬مث َّة إذن تطابق بني العادل واملنصف‪،‬‬
‫عي من العدالة‪ ،‬وهو «وإن كان أرفع من صنف َّ‬
‫‪  1‬ـ امل ُنصف عند أرسطو رضب ُم َّ‬
‫وكالهام حسن‪ ،‬وإن كان املنصف أفضلَهام»‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪Aristote, Éthique à Nicomaque, (trad.fr. J. Tricot, Vrin, Paris, 1990), 1138 a, p.268.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪168‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫تصور العدالة‪ :‬الرشط اإلجرائي والتأسيس األخالقي‬
‫ُّ‬

‫ختص أفراد املجموعة السياس َّية‪ ،‬وهي امتيازات قد تكون متساوية أو غري متساوية‪ .»2‬وعدالة تعويض ّية ترتبط‬ ‫االمتيازات األخرى التي ُّ‬
‫اخلاصة‪ ،‬وهي يف جزء منها إراد َّية ويف جزء آخر غري إراد َّية‪ .‬اإلراد َّية مثل‬ ‫َّ‬ ‫باملعامالت والعقود‪ .‬تتع َّلق العدالة التعويض َّية باملعامالت‬
‫ِرسي مثل الرسقة واخليانة والبغاء والقتل غيلة‪،‬‬ ‫البيع والرشاء والقرض والضامن واإليداع واالكرتاء‪ .‬وأ َّما املعامالت َّ‬
‫اللإرادية فبعضها ِّ‬
‫خاصة‪ ،4‬وهي تستمدُّ معناها‪ ،‬كام هو‬ ‫التصور األرسطي‪ ،‬فضيلة َّ‬ ‫ُّ‬ ‫إن العدالة‪ ،‬حسب‬ ‫وبعضها عنيف مثل اجلريمة والقتل واالحتجاز‪َّ .3‬‬
‫الشأن بالنسبة إىل الفضائل األخرى‪ ،‬من السياق التليولوجي‪ ،5‬بمعنى َّأنا فضيلة من أجل اخلري الذي هو كامل اإلنسان‪ .‬تقال العدالة عن‬
‫كل يشء‪.‬‬ ‫ألن الفضيلة هي وسط َّية ‪6‬واعتدال يف ِّ‬‫الفرد العادل الذي يأيت أعامالً معتدلة‪ ،‬وذلك َّ‬

‫يتم عىل مستوى الفرد وعىل مستوى املدينة‪.7‬‬ ‫ال خيتلف أفالطون عن أرسطو يف حدِّ العدالة باالنسجام واالعتدال‪ ،‬وحتديده هذا ُّ‬
‫القوتان مع ًا َّ‬
‫للقوة‬ ‫للقوة الغضب َّية‪ ،‬كام ختضع هاتان َّ‬ ‫العدالة يف الفرد تتم َّثل يف االنسجام بني قوى النفس‪ ،‬بحيث ختضع َّ‬
‫القوة الشهوان َّية َّ‬
‫بكل طبقة الوظيفة‬ ‫الناطقة‪ .‬وأ َّما بالنسبة إىل العدالة يف الدولة فهي تتم َّثل يف االنسجام والتوافق بني الطبقات املختلفة‪ ،‬بحيث تُـناط ِّ‬
‫القوة الغضب َّية) هي‬ ‫(جتسد َّ‬
‫احلراس ِّ‬ ‫ومهمة طبقة َّ‬
‫َّ‬ ‫القوة الشهوان َّية) هي العمل واإلنتاج‪،‬‬‫(جتسد َّ‬
‫العمل ِّ‬‫مهمة طبقة َّ‬
‫املالئمة لطبيعتها‪َّ .‬‬
‫التصور‬‫ُّ‬ ‫القوة الناطقة) هي احلكم وإدارة شؤون الدولة‪ .‬تتطابق العدالة حسب‬ ‫(جتسد َّ‬
‫محاية املدينة والدفاع عنها‪ .‬ووظيفة طبقة احلكَّام ِّ‬
‫اخلاصة ويف مستوى الوجود االجتامعي‪ ،‬وهي بالتايل ليست اتِّفاق ًا واصطناع ًا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫األفالطوين مع االلتزام بالقانون الطبيعي يف مستوى احلياة‬
‫احلق‪،‬‬ ‫يتوجب عىل اإلنسان التق ُّيد بمبادئها‪ .‬العدالة يف التقليد الفلسفي هي إذن مفهوم أخالقي وقيمة كون َّية تتطابق مع ّ‬ ‫ثمة عدالة طبيع َّية َّ‬
‫َّ‬
‫ُّ‬ ‫ِّ‬
‫وتتامهى مع قانون طبيعي يتعاىل عىل كُل اصطناع برشي‪ ،‬ولك َّن الداللة األخالق َّية للعدالة ال تنفي إمكان َّية حتققها يف الواقع العميل‪.‬‬

‫«صحة احلُكم فيام‬


‫َّ‬ ‫يعني اإلنصاف (‪ )aequitas‬الشعور العفوي‪ ،‬يف إطار حالة جزئ َّية وعين َّية‪ ،‬بام هو عادل أو غري عادل‪ .‬كام ُّ‬
‫يدل عىل‬
‫كل واحد»‪ .8‬إذا كانت العدالة‪ ،‬يف أحد معانيها‪ ،‬هي التق ُّيد وااللتزام بالقوانني‪َّ ،‬‬
‫فإن اإلنصاف ال يتحدَّ د بشكل‬ ‫حق ِّ‬‫يتع َّلق بام هو من ِّ‬
‫‪9‬‬ ‫معي‪ ،‬بل يتحدَّ د بشعور أو بحدس عفوي يم ّيز بني العادل وغري العادل‪ .‬وهكذا َّ‬
‫فإن اإلنصاف ال يقتيض املساواة‬ ‫أو بمضمون قانون َّ‬

‫‪2 . Aristote, Ethique à Nicomaque, Trad. J. Tricot, Vrin, Paris, 1990, 1131 a, p.225.‬‬
‫‪3 . Ibid. 1131a, p.225 -226.‬‬
‫‪4 . La justice « est une vertu complète au plus haut point, parce qu’elle est usage de la vertu complète, et elle est complète parce que l’homme‬‬
‫‪en possession de cette vertu est capable d’en user aussi à l’égard des autres et non seulement pour lui-même.» Ibid., 1130 a, p. 219‬‬
‫عم هو عادل‪ ،‬وحسب مثل هذا التص ُّور يعترب العدل مج َّرد وسيلة أو‬
‫‪  5‬ـ يتمثّل التص ّور التليولوجي يف تحديد الخري كغاية مطلقة‪ ،‬ويُع َّرف يف إطاره عىل نحو منفصل َّ‬
‫والخية مع اآلخر ومن أجله‪ .‬انظر‪:‬‬
‫طريق إىل الخري‪ .‬التص ُّور التليولوجي هو إذن تص ُّور إيتيقي‪ ،‬ألنَّه يرتبط بطلب الحياة الجيدة ِّ‬
‫‪Ricœur, Soi-même comme un autre, Édition du Seuil, Paris 1990 p. 211.‬‬
‫‪6 . La médiété « est égal, car en toute espèce d’action admettant le plus et le moins il y à aussi l’égal. Si donc l’injuste est inégal, le juste est‬‬
‫‪égal, et c’est là, sans autre raisonnement, une opinion unanime ». (Éthique à Nicomaque, op. cit., V, 6, 1131 a).‬‬
‫‪7 . Platon, La République, Plon, Paris, 1966, (liv. IV, 434c-435d).‬‬
‫‪8 .Lalande, Vocabulaires techniques et critiques de la philosophie, (Justice).‬‬
‫‪9 . Aristote, Ethique à Nicomaque, op.cit, 1137 b, p.266- 267: «En effet l’équitable, tout en étant supérieur à une certaine justice, est lui-‬‬
‫‪même juste, et ce n’est pas comme appartenant à un genre différent qu’il est supérieur au juste. Il ya donc bien identité bu juste et de‬‬
‫‪l’équitable, et tout deux sont bons, bien que l’équitable soit le meilleur des deux. Ce qui fait la difficulté, c’est que l’équitable, tout en étant‬‬
‫‪juste, n’est pas le juste selon la loi, mais un correctif de la justice légale. La raison en est que la loi est toujours quelque chose de général, et‬‬
‫‪qu’il y a des cas d’espèce pour lesquels il n’est pas possible de poser un énoncé général qui s’y applique avec rectitude».‬‬

‫‪169‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫منويب غباش‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫احلق لصاحبه‪ .‬ليست القوانني هي التي حتدِّ د معنى اإلنصاف‪،‬‬ ‫القانون َّية‪ ،‬ولكنَّه يقتيض َسدَ اد احلكم وصدْ ق الشعور فيام يتع ّلق بإسناد ِّ‬
‫اخلاصة التي ينبغي التعامل معها حسب مبادئ مع َّينة للعدالة‪ .‬هل يعني هذا أنَّه ال يمكن أن توجد قواعد حتكم‬ ‫َّ‬ ‫بل معطيات الوضع َّية‬
‫جمرد تقويم شخيص للعدل والظلم؟ لتجنُّب النسب َّية األخالق َّية املقرتنة باإلنصاف قد يكون من الرضوري‬ ‫اإلنصاف؟ وهل اإلنصاف هو َّ‬
‫ربط اإلنصاف بالعدالة باعتبارها معيار ًا كون َّي ًا وقيمة كُل َّية‪.‬‬

‫للتفكري يف مشكل العدالة من جهة مضموهنا األخالقي ومن جهة قابل َّيتها للتطبيق نقرتح اخل َّطة التالية‪ِّ :‬‬
‫سنبي‪ ،‬يف حلظة أوىل‪ ،‬مالمح‬
‫التصور اإلجرائي‪ ،‬إبراز‬
‫ُّ‬ ‫التصور اإلجرائي للعدالة من خالل «نظرية العدالة» لدى رولز‪ .‬وسنحاول‪ ،‬يف حلظة ثانية‪ ،‬وانطالق ًا من حدود‬
‫ُّ‬
‫أمه َّية األطروحة التي تقول َّ‬
‫إن العدالة ال تنفصل عن اخلري كقيمة كُل َّية‪ ،‬لنخلص بعد ذلك إىل النظر يف قيمة مفهوم «العدالة االجتامعية»‬
‫كمفهوم معياري وإجرائي يف الوقت نفسه‪.‬‬

‫تص ُّور العدالة اإلجرائي‪:‬‬


‫ولعل السؤال الذي ينبغي أن ُيطرح هنا هو التايل‪ :‬هل توجد‬ ‫ال يمكن التفكري يف العدالة دون أن نأخذ يف االعتبار إشكال َّية املساواة‪َّ .‬‬
‫اللمساواة‬ ‫أن َّ‬
‫ثمة مساواة أصل َّية أم ال مساواة أصل َّية؟ هناك اجتاهان بخصوص هذه املسألة‪ :‬اجتاه يثبت َّ‬ ‫مساواة بني البرش أصالً؟ هل َّ‬
‫بأن البرش متساوون من حيث هم‬ ‫يقر َّ‬
‫والتنوع املم ّيز للوجود البرشي‪ ،‬واجتاه ُّ‬
‫ُّ‬ ‫هي معطى طبيعي ال يمكن إنكاره عندما نعاين االختالف‬
‫برش‪ ،‬انطالق ًا من فكرة وجود إنسان َّية واحدة جامعة أو هو َّية إنسان َّية مشرتكة سابقة عىل ظهور التفاوتات واالختالفات بني األفراد‪ .‬يرى‬
‫أن األفراد خمتلفون طبيع َّي ًا يف القوى والقدرات واالستعدادات الذهن َّية واجلسد َّية‪ ،‬كام خيتلفون اجتامع َّي ًا من‬‫اللمساواة َّ‬‫املدافعون عن َّ‬
‫توجدَ مساواة‬ ‫فإن املساواة الوحيدة املمكنة هي مساواة قانون َّية أي اتفاقية من شأهنا أن ِ‬‫حيث االنتامء والثقافة والثروة والسلطة‪ .‬ولذلك َّ‬
‫املؤسسات االجتامعية‪ُ .‬يؤكِّد هذا االجتاه‪ ،‬إذن‪ ،‬عىل املساواة يف احلقوق املدن َّية والسياس َّية‪ ،‬وبالتَّايل يرفض العدالة‬ ‫يف الفرص ضمن َّ‬
‫التوزيع َّية‪ ،‬وال يقبل باملساواة إال يف مستوى احلر َّيات السياس َّية األساس َّية (التصور الليربايل)‪« .‬يف هذا االجتاه مع دووركن(‪)Dworkin‬‬
‫أن عىل املجتمع أن يعامل أعضاءه بطريقة متساوية عىل األقل يف نقاط‬ ‫كل نظرية معارصة يف العدالة ترى َّ‬ ‫أن َّ‬‫احلق عندما يذهب اىل اعتبار َّ‬
‫كل فرد يف املجتمع السيايس حر َّية التعبري‬ ‫يضمن ُّ‬
‫كل الوضعيات أن َ‬ ‫معينة‪ .‬وهكذا تتطلب املساواة املدنية والديمقراطية املشرتكة بني ِّ‬
‫واالجتامع والتنقل وحق االقرتاع واحلامية القانونية املتساوية من االحتجاز التعسفي واحلق يف حماكمة عادلة»‪.10‬‬

‫فإن املدافعني عن املساواة األصل َّية يؤكِّدون عىل َّ‬


‫أن التفاوتات هي اختالالت وانحرافات يف النظام الطبيعي لألشياء‬ ‫ويف املقابل َّ‬
‫وباإلمكان إلغاؤها بالعودة إىل مبدأ املساواة الطبيع َّية‪ .‬إذا كان البرش متساوين من حيث هم برش ُّ‬
‫فكل أشكال َّ‬
‫اللمساواة غري قابلة للتربير‬
‫أي غري مرشوعة‪.‬‬

‫يبي رولز يف كتابه «نظرية العدالة»‪ 11‬أنَّه ال يستخدم مفهوم العدالة يف دالالته األخالق َّية والفلسف َّية التقليد َّية‪ ،‬بل إنَّه يستعمله من‬
‫ِّ‬
‫معي للوجود االجتامعي‪ ،‬فهو يقول مثالً‪ « :‬بالنسبة إلينا‪ ،‬املوضوع األول للعدالة هو البنية األساس َّية للمجتمع‬ ‫جهة داللته عىل تنظيم َّ‬
‫املحصلة بالتعاون‬
‫َّ‬ ‫املؤسسات االجتامعية اهلا َّمة احلقوق والواجبات‪ ،‬وحتدِّ د توزيع املنافع‬ ‫َّ‬ ‫أو‪ ،‬بد َّقة أكثر‪ ،‬الطريقة التي هبا ّ‬
‫توزع‬
‫االجتامعي»‪.12‬‬

‫‪10 . Véronique Munoz-Dardé, La justice sociale: Le libéralisme égalitaire de John Rawls, NATHAN, Paris, 2000, p. 33.‬‬
‫‪11 . Rawls, Théorie de La justice, trad.fr. C. Audard, Paris, Éd. Du seuil, Paris, 1987.‬‬
‫‪12 . Ibid. liv.1.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪170‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫تصور العدالة‪ :‬الرشط اإلجرائي والتأسيس األخالقي‬
‫ُّ‬

‫التصور النفعي للعدالة‪ ،‬كام‬‫ُّ‬ ‫يرفض رولز‬ ‫يستند رولز إىل اإلطار املفهومي لنظر َّيات القرار (‪Théories de‬‬
‫التصور األفالطوين واألرسطي الذي‬‫ُّ‬ ‫يرفض‬ ‫‪ )décision‬التي بمقتضاها يتحدَّ د القرار العقالين بتأويج الفائدة‬
‫التحرر‬ ‫اخلاصة اعتامد ًا عىل احلساب واالستعالم ويف‬ ‫َّ‬ ‫واملصلحة‬
‫يربط العدالة بالفضيلة وبالكامل األخالقي‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫كل انفعال‪ .‬القرارات العقالن ّية هي حسابات واختيارات‬ ‫من ِّ‬
‫املؤسسات االجتامعية عنده‬‫إن مقياس عدالة َّ‬ ‫َّ‬ ‫بكل فرد‪َّ .‬إنا قرارات‬ ‫اخلاصة ِّ‬ ‫توجهــــها املصالح‬
‫َّ‬ ‫رتوية ِّ‬ ‫ُم ّ‬
‫يتحدَّ د بمصري املحرومني فيه‪ ،‬أي بمقدار ما‬ ‫التصور الكانطي‪ ،‬املبدأ الذايت للفعل‬ ‫ُّ‬ ‫براغامت َّية حيكمها‪ ،‬حسب‬
‫أقل ح َّظ ًا‬
‫يو ِّفر من منافع وخريات ملن هم ُّ‬ ‫ويوجهها األمر الرشطي‪ .‬ولك َّن القرارات التي تؤ ِّدي‪ ،‬يف نظر ِّية‬ ‫ِّ‬
‫رولز‪ ،‬إىل استنباط مبادئ العدالة هي قرارات عقالن َّية‪ ،‬ويمكن‬
‫أن األفراد يف «الوضع َّية األصل َّية» ال‬ ‫يتم من وراء «حجاب اجلهل»‪ ،‬ذلك َّ‬ ‫إن اختيار مبادئ العدالة ُّ‬ ‫أن تكون قطع َّية باملعنى الكانطي‪َّ .‬‬
‫اخلاصة التي يمكن أن خيتاروا املبادئ املناسبة هلا‪ .‬يمكن القول‪ ،‬يف هذا‬ ‫َّ‬ ‫ال ‪ ،‬ما املصلحة‬ ‫يعرفون خصائص وضع َّياهتم وال يدرون‪ ،‬مث ً‬
‫إن الذي خيتار مبادئ العدالة يف «الوضع َّية األصل َّية» ومن وراء «حجاب اجلهل» ليس فرد ًا ُمتَع َّين ًا‪ ،‬بل هو «ذات كون َّية ( �‪uni‬‬ ‫السياق‪َّ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫العميل اخلالص» ‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫ّ‬ ‫سمى لدى كانط كائن العقل‬
‫واخلاصة‪ ،‬وهو ما ُي َّ‬ ‫َّ‬ ‫‪ )sujet versel‬ال تبايل بالتحديدات الكُل َّية الفرد َّية‬

‫أن نظر َّية العقد االجتامعي‬ ‫إن مبادئ العدالة عند رولز هي حصيلة عقد اجتامعي افرتايض‪ .14‬يف مقدّ مة «نظر َّية العدالة» يعلن رولز عن َّ‬ ‫َّ‬
‫أهم من ذلك الذي يوجد يف التقليد النفعي‪ .‬فهذه النظر َّية حتتوي عىل عنارص املداولة األخالق َّية التي‬ ‫متضمنة لتحليل للعدالة ّ‬ ‫ِّ‬ ‫تبدو له‬
‫التصور النفعي‪ .‬فإذا‬
‫ُّ‬ ‫التصور التعاقدي للمجتمع وتبتعد عن‬ ‫ُّ‬ ‫إن نظر َّيته يف العدالة تندرج ضمن‬ ‫تتامشى متام ًا مع املجتمع الديمقراطي‪َّ .‬‬
‫والرتوي واحلساب العقالين‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫كانت النفع َّية تنطلق من خاص َّية إحساس الفرد باللذة واألمل‪َّ ،‬‬
‫فإن التعاقد َّية تركِّز عىل قدرة الفرد عىل التقييم‬
‫التصور التعاقدي عىل‬ ‫ُّ‬ ‫إن النفع َّية ال تعطي قيمة للقيم وا ُمل ُثل العليا كاحلر َّية واخلري واملساواة إال بمقدار ما تسمح بتأويج املنفعة‪ .‬ينبني‬ ‫َّ‬
‫أن السياسات‬ ‫واملحصالت‪ .‬ومعنى ذلك َّ‬ ‫ِّ‬ ‫مبادئ َق ْبل َّية للعدالة كاحلر َّية واملساواة بني اجلميع‪ ،‬أ َّما النفع َّية فهي مذهب يركِّز عىل النتائج‬
‫واملؤسسات االجتامع َّية ال تُق َّيم بالنظر إىل مبادئ وقواعد موضوعة مس َّبق ًا‪ ،‬بل بالنظر إىل نتائجـها (تأويج حاصل املنافع)‪.‬‬ ‫َّ‬

‫تؤول كإنصاف‪َّ .)fairness ( 15‬إنا تتع َّلق بتوزيع اخلريات‬


‫تصور رولز إذن فضيلة شخص َّية‪ ،‬وإنَّام هي عدالة سياس َّية َّ‬‫ليست العدالة يف ُّ‬
‫األول َّية‪ ،‬وهي تقوم عىل مبدأين أساس َّيني‪:‬‬

‫الكل للحر َّيات األساس َّية املتاحة للجميع‪.‬‬ ‫ٍ‬


‫متساو يف النسق ِّ‬ ‫بحق‬ ‫َّأوالً‪ :‬ينبغي أن يتمتَّع ُّ‬
‫كل شخص ٍّ‬

‫ثاني ًا‪ :‬ينبغي أن تُن َّظم َّ‬


‫اللمساواة اإلجتامع َّية واالقتصاد َّية بحــيث‪:‬‬

‫‪ .1‬تضمن‪ ،‬يف حدود مبدأ توفري عادل‪ ،‬أكرب فائدة ممكنة للمحرومني‪.‬‬
‫‪ .2‬تكون الالمساواة مرتبطة باملراتب والوظائف التي يفرتض أن تكون يف متناول اجلميع انطالق ًا من تكافؤ الفرص‪.‬‬

‫‪13 . Otfried Höffe, Etat et justice, Paris, Vrin, 1988, p.89.‬‬


‫‪14 . Will Kymlika, Les théories de la justice, traduit de l’anglais par Marc Saint- Upéry, la découverte, Paris, 1999, p.66.‬‬
‫املؤسسة عادلة أو منصفة أي أن تحرتم مبدأي العدالة‪ .‬وثانياً يُ َ‬
‫شتط أن يكون‬ ‫املؤسسة‪ .‬أ ّو ًال يُشرتط أن تكون ّ‬
‫‪  15‬ـ يعني مبدأ اإلنصاف أ َّن كل شخص ُملزم بطاعة قواعد َّ‬
‫مبؤسسات غري عادلة‪ .‬انظر‪:‬‬
‫قد قبل ب ُحريَّة الفوائد واملنافع التي توفّرها‪ ،‬وهكذا فمبدأ اإلنصاف ال ميكن أن يربط الفرد َّ‬
‫‪Théorie de la justice, trad.fr. C. Audard Éd., du seuil, Paris, 1987 ,p. 142,‬‬

‫‪171‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫منويب غباش‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫األول هو مبدأ احلر َّية‪ ،‬وهو يقيض باملساواة التا َّمة يف احلر َّيات األساس َّية‪ ،‬وأ ّما املبدأ الثاين فهو يتع ّلق باملساواة‪ ،‬ولكن ليس‬
‫املبدأ َّ‬
‫املؤسسات االجتامعية‪ .‬جلأ رولز إىل نحت جمموعة من املفاهيم إلسناد‬ ‫بمعنى املساواة التا َّمة‪ ،‬بل بمعنى التكافؤ يف الفرص يف إطار َّ‬
‫ِ‬
‫نظر َّيته يف العدالة بام هي إنصاف مثل «حجاب اجلهل» و«الوضع َّية األصل َّية» و«ال ُبنية القاعد َّية للمجتمع»‪ .‬تُعادل الوضع َّية األصل َّية‬
‫َفرض َّية احلالة الطبيع َّية يف التقليد التعاقدي‪ ،‬وهي‪ ،‬كام هو معروف‪ ،‬عبارة عن صورة خيال َّية ملجتم ٍع بال دولة‪ ،‬اهلدف من ورائها هو‬
‫تربير طرح السؤال املتع ِّلق بشكل الدولة املناسب الذي يكون يف الوقت نفسه مرشوع ًا وعادالً‪ .‬يكون األفراد‪ ،‬يف الوضع َّية األصل َّية‪،16‬‬
‫عب‬ ‫جاهلني بمالبسات وضع َّيتهم بحيث َّإنم ال يستطيعون أن خيتاروا املبادئ التي من شأهنا أن تُفيض إىل حتقيق العدالة‪ .‬هذه احلالة َّ‬
‫يتم االتفاق عليها من خالل املداولة واحلوار يف إطار الوضع َّية األصل َّية‬ ‫عنها رولز بمفهوم «حجاب اجلهل»‪ .‬تتم َّيز مبادئ العدالة التي ُّ‬
‫كل الناس أن يطيعوا الس ِّيد زيد)‪ ،‬وهي‬ ‫يتم التعبري عنها بأسامء األعالم (مثل‪ :‬عىل ِّ‬ ‫بكوهنا عا َّمة‪ ،‬من حيث صياغتها‪ ،‬فهي ال تُصاغ وال ُّ‬
‫كُل َّية من حيث تطبيقها‪ ،‬بمعنى َّأنا صاحلة للجميع‪ ،‬فال ُت ِّيز بني األشخاص عىل أساس اجلنس أو اخلصائص الثقاف َّية أو االجتامع َّية‪.‬‬
‫فإن لديه معرفة باخلريات الرضور َّية لتحقيق‬ ‫كل فرد يف الوضع َّية األصل َّية ظروف ومالبسات وجوده اخلاص‪ ،‬ومع ذلك َّ‬ ‫جيهل ُّ‬
‫بمؤسسات اجتامع َّية قاعد َّية الزمة لتح ُّققها‪ .‬يستعمل رولز مفهوم «البنية‬ ‫ِ‬
‫بغض النظر عن َذ ْوقه وقناعاته‪ .‬هذه اخلريات ترتبط‬ ‫أهدافه ِّ‬
‫َّ‬
‫املؤسسات احلقوق والواجبات األساس َّية واملنافع‬ ‫َّ‬ ‫ُوزع تلك‬
‫املؤسسات األساس َّية‪ ،‬وعىل الطريقة التي هبا ت ِّ‬ ‫َّ‬ ‫القاعد َّية» للداللة عىل‬
‫مؤسسات البنية القاعد َّية للمجتمع إىل صنفني‪:‬‬ ‫االجتامع َّية‪ .‬هذه البنية القاعد َّية هي النظام السيايس واالجتامعي واالقتصادي‪ .‬تنقسم َّ‬
‫ْتص بتوزيع اخلريات االجتامعية واالقتصادية‪ .‬يقول‬ ‫ومؤسسات َت ُّ‬
‫َّ‬ ‫ختص النسق االجتامعي الذي ُيدِّ د احلر َّيات األساس َّية‪،‬‬ ‫مؤسسات ُّ‬ ‫َّ‬
‫َّ‬
‫املجتمع بمثابة رشكة تعاونية رهاهنا حتقيق املنافع املشرتكة‪ .‬إن البنية القاعد َّية هي نسق‬ ‫َ‬ ‫رب نظرية العدالة بام هي إنصاف‬ ‫رولز‪« :‬تَعت ُ‬
‫عمومي من القواعد التي ُتدِّ د أشكال النشاط الذي يقود الناس إىل التعاون من أجل إنتاج أكرب حصيلة من املنافع‪ ،‬وهي تعرتف‬
‫إن ما يقوم به شخص ما يرتبط بحقوقه املحدَّ َدة بالقواعد العمومية‪ ،‬وهذه احلقوق نفسها‬ ‫تم إنتاجه‪َّ .‬‬
‫كل واحد يف جزء ممَّا َّ‬ ‫بحقوق ِّ‬
‫تم حتديدها بفضل ما يقوم به األشخاص عىل ضوء االنتظارات املرشوعة‪.‬‬ ‫ترتبط بام يقوم به‪ .‬وينتج التوزيع عن حتقيق املطالب التي َّ‬
‫تقتيض هذه االعتبارات اعتبار التوزيع مسألة عدالة إجرائية حمضة» ‪ .‬العدالة كإنصاف هي إذن إجراء يتع َّلق بتوزيع املنافع واخلريات‬
‫‪17‬‬

‫االجتامعية بطريقة منصفة‪ .‬ورولز نفسه يطلق عليها اسم «عدالة إجرائ َّية»‪َّ .18‬إنا ال تعني املساواة‪ ،‬كام ال يمكننا أن نقول عنها َّإنا‬
‫شكل من أشكال املساواة االجتامعية‪.‬‬

‫‪  16‬ـ ُّ‬
‫يدل مفهوم الوضع َّية األصل َّية عىل حياة اجتامع َّية ممكنة‪ .‬تتم َّيز هذه الوضع َّية بوجود أفراد يتعايشون يف زمان ومكان ما‪ ،‬وبكون قدراتهم الطبيع َّية والذهن َّية‬
‫متفاوتة‪ ،‬ومبحدوديَّة املوارد‪ ،‬وبرضورة العمل من أجل التغلُّب عىل مشكل الندرة‪.‬‬
‫‪17 . «La théorie de la justice comme équité considère la société comme une entreprise de coopération en vue d’avantages mutuels. La‬‬
‫‪structure de base est un système public de règles qui définit des formes d’activité conduisant les hommes à coopérer afin de produire une‬‬
‫‪plus grande somme d’avantages et reconnaît à chacun des droits sur une partie de ce qui a été produit. Ce que fait une personne dépend‬‬
‫‪de ses droits définis par les règles publiques, et ces mêmes droits dépendent de ce qu’elle fait. La répartition résulte de la satisfaction des‬‬
‫‪revendications qui ont été déterminées grâce à ce que les personnes entreprennent à la lumière de ces attentes légitimes. Ces considérations‬‬
‫‪suggèrent que l’on traite la répartition comme une question de justice procédurale pure». (Rawls, Théorie de la justice, trad.fr. C. Audard,‬‬
‫‪Éd. du Seuil, Paris, 1987, p.116).‬‬
‫‪18 . «Donc , pour appliquer à la répartition la notion de justice procédurale pure, il est nécessaire de créer un système d’institutions qui‬‬
‫‪soit juste (just) et de l’administrer impartialement. La juste procédure qui est donc nécessaire n’existe que si, à l’arrière- plan, la structure‬‬
‫‪de base est elle-même juste, ce qui inclut la justice de la constitution politique et la justice de l’organisation des institutions socio-‬‬
‫‪économiques». Théorie de la justice, p.118.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪172‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫تصور العدالة‪ :‬الرشط اإلجرائي والتأسيس األخالقي‬
‫ُّ‬

‫تصور‬‫تصور أوسع للتعاون االجتامعي املثايل‪ ،‬إنَّه ُّ‬‫تصور رولز للعدالة ال يم ِّثل نموذج ًا اجتامع َّي ًا مكتمالً‪ ،‬وإن كان مشت َّق ًا من ُّ‬
‫إن ُّ‬ ‫َّ‬
‫تصور‪ 20‬ديونطولوجي (‪ )déontologique‬وليس تليولوج َّي ًا (‪ ،21)téléologique‬بمعنى أنَّه‬ ‫حمدود بال ُبنية القاعد َّية للمجتمع ‪ .‬إنَّه ُّ‬
‫‪19‬‬

‫تصور‬ ‫حرة ومستق َّلة‪ ،‬وبالتايل قادرة عىل ُّ‬


‫إن مبادئ العدالة ناجتة عن اختيار ذات َّ‬‫ال حيدِّ د العدالة انطالق ًا من تعريف َق ْب ٍّيل للخري‪ ،‬بل َّ‬
‫تصور «أدب َّيات الواجب األخالقي» (‪ )la conception déontologique‬ليست الغايات التي نختارها‪،‬‬ ‫الغـايات‪« .‬ما هو أسايس يف ُّ‬
‫أن مفهوم العادل سابق عىل مفهوم‬ ‫تكمن يف الذات» ‪ .‬يرى رولز َّ‬
‫‪22‬‬
‫خاصة ُ‬
‫كل غاية َّ‬ ‫السابقة عىل ِّ‬ ‫بل ُقدرتنا عىل اختيارها‪ ،‬وهذه القدرة َّ‬
‫اخلري‪ .‬فحسب «نظر َّية العدالة» ُتَدُّ رغبات وتط ُّلعات األفراد‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬بمبادئ العدالة التي ُتدِّ د أنساق غاياهتم‪ .23‬يف هذا السياق‬
‫التصور األفالطوين واألرسطي‪ 24‬الذي يربط العدالة بالفضيلة وبالكامل األخالقي‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫التصور النفعي للعدالة‪ ،‬كام يرفض‬
‫ُّ‬ ‫يرفض رولز‬
‫املؤسسات االجتامعية عنده يتحدَّ د بمصري املحرومني فيه‪ ،‬أي بمقدار ما يو ِّفر من منافع وخريات ملن هم ُّ‬
‫أقل ح َّظ ًا‪.‬‬ ‫إن مقياس عدالة َّ‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫متساو‬ ‫حق‬‫(لكل شخص ٌّ‬ ‫األول للعدالة هو مبدأ احلر َّية ِّ‬ ‫التفاوتات‪َّ .‬‬
‫إن املبدأ َّ‬ ‫ُ‬ ‫يكون نظام ما غري عادل عندما ال يستفيد املحرومون فيه من‬
‫التجمع والتن ِّظيم‪ ...،‬إلخ)‪ .‬ولك َّن‬ ‫ُّ‬ ‫يف جمموعة متكاملة من احلر َّيات األساس َّية املتساوية بني اجلميع‪ ،‬وهي حر َّية الفكر والوعي وحر َّية‬
‫التفاوتات ينبغي أن تكون مفيدة للجميع‪ ،‬أي أن تَنتُج عنها فوائد ومزايا‬ ‫ُ‬ ‫العدالة ال تتطابق مع املساواة‪ ،‬وال تتناقض مع االختالفات‪َّ .‬‬
‫إن‬
‫أن ُت ِّقق أكرب قدر من الفائدة‬ ‫اللمساواة بوظائف ومراتب تكون يف متناول اجلميع‪ .‬ب) ّ‬ ‫ملن هم ُّ‬
‫أقل ح َّظ ًا‪ ،‬وذلك بـ‪( :‬أ) أن ترتبط َّ‬
‫لألعضاء األكثر حرمان ًا يف املجتمع‪ .‬املبدأ األول هو مبدأ املساواة بمعنى اإلنصاف وتكافؤ الفرص‪ ،‬والثاين هو مبدأ االختالف‪ .‬هيدف‬
‫إن هذا‬ ‫أن التفاوتات الطبيع َّية واالجتامع َّية غري ُمستَح ّقة‪ ،‬وبالتايل جيب احلدُّ منها‪ ،‬وذلك لفائدة ّ‬
‫األقل ح َّظ ًا‪َّ .25‬‬ ‫مبدأ االختالف إىل إثبات َّ‬
‫سيتحملون عبء من‬ ‫َّ‬ ‫أن بعض األشخاص‬ ‫اللإراد َّية والتفاوتات االختيارية‪ .‬وقد ينتج عن تطبيق هذا املبدأ َّ‬
‫املبدأ ال ُيم ّيز بني التفاوتات َّ‬
‫عي‪.26‬‬‫أقل ح َّظ ًا يف مستوى الدخل بسبب اختيارهم لنمط حياة ُم َّ‬ ‫هم ُّ‬

‫أن العدالة التوزيعية التي يدافع عنها رولز استناد ًا إىل مبدأ االختالف ال تقوم عىل رؤية تارخي َّية‬ ‫يرى روبرت نوزيك(‪َّ )Nozick‬‬
‫يتم االعرتاف باحلقوق التارخي َّية لألفراد‪ :‬حقوق ملك َّية الذات وملك َّية اجلسد واخلريات‪ .‬وهكذا يكون توزيع اخلريات بطريقة‬ ‫بموجبها ُّ‬
‫األقل ح َّظ ًا انتهاك ًا حلقوق الكثريين‪ .‬هتدف العدالة التوزيعية‪ ،‬حسب نوزيك‪ ،‬إىل إصالح التفاوتات الناجتة عن احلظوظ‬ ‫يستفيد منها ُّ‬
‫(‪ )Loterie‬والظروف الطبيع َّية واالجتامع َّية العارضة‪ ،‬وهذا يف نظره أمر يتامثل مع توزيع شبك َّيات عيون املبرصين عىل غري املبرصين‪.‬‬
‫ثمة تعارض ًا بني املبدأين اللذين بنى عليهام رولز نظر َّيته‪.‬‬ ‫فإن نوزيك يرى َّ‬
‫أن َّ‬ ‫العدالة التوزيع َّية تتعارض إذن مع مبدأ احلر َّية‪ ،‬وهلذا َّ‬

‫‪19 . Véronique Munoz-Dardé, La justice sociale, p. 80.‬‬


‫‪20 . Rawls, Théorie de la justice, p.55.‬‬
‫‪  21‬ـ يجب أن نفهم عبارة «دينطولوجي» للداللة عىل األخالقي‪ ،‬وعبارة «تليولوجي» للداللة عىل اإليتيقي‪ .‬األخالق ‪ُّ Morale‬‬
‫تدل عىل معايري كُل َّية ومطلقة‪ ،‬وأ َّما‬
‫اإليتيقا ‪ Éthique‬فتتعلَّق بالتو ُّجه نحو تحقيق حياة جيّدة ومكتملة‪ .‬ميكن العودة إىل كتاب بول ريكور‪ :‬الذات عينها كآخر‪ ،‬ترجمة جورج زينايت‪ ،‬املنظمة العربية‬
‫للرتجمة‪ ،‬بريوت‪.2005 ،‬‬
‫‪«On reconnaitra aisément dans la distinction entre visée et norme l’opposition entre deux héritages, un héritage aristotélicien, où l’éthique‬‬
‫‪est caractérisée par sa perspective téléologique, et un héritage kantien, où la morale est définie par le caractère d’obligation de la norme,‬‬
‫‪donc par un point de vue déontologique.» Cf. Ricœur, Soi-même comme un autre, Éd. Du Seuil, Paris, 1990, p.200.‬‬
‫‪22 . Michael Sandel, Le Libéralisme et Limites de la Justice, trad. Fr. J.F.Spitz, Éd. Du Seuil, Paris1999 p.30.‬‬
‫‪23 . Ibid, p. 57.‬‬
‫‪24 . Aristote, Éthique à Nicomaque, trad. Tricot, Vrin, Paris, 1990, 1130 a, p.219.‬‬
‫‪25 . W. Kymlika, Les Théories de la justice, op.cit. p.86.‬‬
‫‪26 . Ibid, P.90.‬‬

‫‪173‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫منويب غباش‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫يضع نوزيك‪ 27‬مبدأين للعدالة بديلني عن مبدأي رولز من حيث َّإنام يتَّفقان مع مبدأ احلر َّية الفرد َّية‪ .‬املبدأ األول هو مبدأ التم ُّلك‬
‫كل واحد ما ال ينتمي ألحد‪ ،‬ولكن برشط أن يبقى ما يكفي لآلخرين‪،‬‬ ‫األصيل (‪ ، )appropriation originelle‬ويقيض بأن يتم َّلك ُّ‬
‫وهو الرشط نفسه الذي وضعه جون لوك( ‪ )John Locke‬لكي تكون امللك َّية الفرد َّية مرشوعة‪ .‬املبدأ الثاين هو مبدأ نقل امللك َّية الذي‬
‫جيعل امللك َّية الفرد َّية مرشوع ًة انطالق ًا من حتصيلها بواسطة تبادل إرادي بني الفاعلني‪ .‬يضيف نوزيك مبدأ ثالث ًا يتم َّثل يف اإلصالح أو‬
‫التعديل‪ :‬إصالح اخلروقات التي يمكن أن تلحق باملبدأين السابقني‪ .‬ينقد نوزيك مبدأ االختالف لدى رولس انطالق ًا من فردان َّية‬
‫أن النفع ّية تبدو نزعة فرد َّية (فردان َّية)‪ ،‬ولكنَّها ال تأخذ يف االعتبار‪،‬‬‫جذر َّية تسمح له بتوجيه اهتام رولز للنفع َّية إىل رولز نفسه‪ .‬يرى رولز َّ‬
‫ألنا تط ِّبق عىل املجتمع مبدأ االختيار الذي ينطبق عىل الفرد فقط (خيتار الفرد دائ ًام ما يتوافق‬ ‫بصورة جد َّية‪ ،‬اخلصائص املم ِّيزة لألفراد‪َّ ،‬‬
‫التصور الذي ال يقبل به نوزيك‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ال للتوزيع‪ ،‬وهو‬ ‫اخلاصة)‪ .‬مت ِّثل املوارد الطبيع َّية واملاد َّية‪ ،‬يف نظر رولز‪ ،‬رصيد ًا مشرتك ًا وقاب ً‬
‫َّ‬ ‫مع مصلحته‬
‫بحجة حتقيق‬ ‫َّ‬ ‫ألنَّه يتجاهل حقيقة كون املوارد املاد َّية تنتمي حرص َّي ًا إىل األفراد‪ ،‬وبالتايل ليس من املرشوع سلبهم ملك َّياهتم وخرياهتم‬
‫العدالة االجتامعية‪.‬‬

‫واملتنوع‬
‫ّ‬ ‫عىل الرغم من أمه َّية نظر َّية رولز يف العدالة‪ ،‬األمه َّية التي جت َّلت يف النقاش الفكري والسجال النظري املتعدِّ د املشارب‬
‫ٍ‬
‫جانب من ذلك النقاش‪َّ .‬‬
‫لعل بإمكاننا هنا أن نربز النقاط‬ ‫فإنا مل تكن يف منأى عن النقد‪ ،‬وما نقد روبرت نوزيك سوى‬ ‫التوجهات‪َّ ،‬‬
‫ُّ‬
‫األساس َّية يف ذلك النقد‪:‬‬

‫يتصوروا مبادئ العدالة‪ .‬فإذا كانوا ال يعلمون شيئ ًا عن خصائصهم الشخص َّية وال عن‬
‫َّ‬ ‫‪ .1‬ليس بإمكان األفراد يف الوضع َّية األصل َّية أن‬
‫تصور مبادئ حمدَّ دة للعدالة‪ .‬كيف‬
‫ألي يشء‪ ،‬ولن يكون بإمكاهنم ُّ‬ ‫وضع َّيتهم االجتامع َّية والثقاف َّية‪ ،‬فلن يكون بإمكاهنم أن يعطوا قيمة ِّ‬
‫إن األفراد يف «الوضع َّية األصل َّية» ومن وراء «حجاب اجلهل» يستنبطون مبادئ العدالة؟ ال يمكن لإلنسان أن يفكِّر‪،‬‬ ‫يمكن القول إذن َّ‬
‫وأن يضع مبادئ للمامرسة خارج السياق االجتامعي والتارخيي‪.‬‬

‫تصور جزئي أو خاص للحياة اجل ِّيدة‪ ،‬ال يمكن أن تُقبل إال يف أفق ليربايل‬ ‫إن الوضعية األصلية‪ ،‬وبالرغم من أنا تبدو م ِ‬
‫ستبعدة َّ‬ ‫‪َّ .2‬‬
‫كل ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫يتناغم مع فكرة ِح َياد الدولة‪ ،28‬وتلك الفكرة تفرتض رضور ًة استبعاد العدالة التوزيع َّية‪.‬‬

‫املوجهة ضمن َّي ًا الستنباط مبادئ العدالة آثار سلب َّية‪ ،‬كأن تؤ ِّدي إىل رفض عالقات التعاون أو إنكار‬ ‫‪ .3‬من املمكن أن تكون للفردان َّية ِّ‬
‫كل مبدأ أخالقي أسايس‪ .‬يعني استنباط مبادئ العدالة من وراء حجاب اجلهل وبصورة فرد َّية أنَّه ليس هناك افرتاض ألفق معياري‬ ‫ِّ‬
‫موضوعي يمكن أن يكون أرض َّية مشرتكة بني األفراد الستنباط مبادئ العدالة‪ .‬يرى كوهن( ‪ ) G. A. Cohen‬يف هذا السياق َّ‬
‫أن نظر َّية‬
‫ألن مبدأ االختالف الذي يقيض بأن تكون التفاوتات مفيدة ملن هم ُّ‬
‫أقل ح ّظ ًا يستند إىل دوافع‬ ‫رولز ال تتطابق متام ًا مع فكرة املساواة‪َّ ،‬‬
‫ُـتجم العدالة‬ ‫توجه أعامل األفراد وحتدِّ د اختياراهتم‪ .‬جيب أن ت َ‬
‫نفع َّية فردان َّية‪ .‬ال بدَّ حسب كوهن من وجود « إيتيقا اجتامع َّية مساوات َّية » ِّ‬
‫يف إتيقا اجتامع َّية ُمساوات َّية تتطابق معها املامرسات الفرد َّية‪ ،29‬بمعنى أن يكون الوعي األخالقي برضورة حتسني أوضاع املحرومني هو‬
‫املوجه ألعامل األفراد ال الدافع النفعي الشخيص‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫‪27 . Nozick Robert, Anarchie, Etat et Utopie, tard. fr. E .d’Auzac de Lamartine, Puf, Paris, 1988.‬‬
‫‪28 . Véronique Munoz-Dardé, La justice sociale, Op. cit. p.110.‬‬
‫‪29 . Ibid, p.107.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪174‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫تصور العدالة‪ :‬الرشط اإلجرائي والتأسيس األخالقي‬
‫ُّ‬

‫جمرد إجراء حتكمه اعتبارات سياس َّية واقتصاد َّية تارخي َّية؟‬‫يصح اعتبار العدالة إنصاف ًا‪ ،‬باملعنى الذي يعطيه رولز هلذا املفهوم‪ ،‬أي َّ‬
‫ُّ‬ ‫هل‬
‫وهل من املرشوع أن نفصل العدالة احلقيق َّية عن األفق األخالقي أي عن معايري أخالقية كُل َّية؟ نحن نستعيد هنا السؤال الذي طرحه‬
‫أن هدف رولز هو‬ ‫بتصور إجرائي هلا؟ يرى ريكور َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ريكور يف كتابه‪« :‬العادل» هل يمكن أن نستعيض عن التأسيس األخالقي للعدالة‬
‫املؤسسات عىل نحو عادل‪ .‬ولك َّن العدالة احلقيق َّية ترتبط باحلقيقة‬ ‫ِ‬ ‫تقديم ٍّ‬
‫حل إجرائي ملسألة العادل‪ ،‬أي بلورة إجراء ُمنصف لتنظيم َّ‬
‫إن «املسافة بني مرشوع‬ ‫التصور اإلجرائي للعدالة‪ .‬يف هذا السياق يقول ريكور‪َّ :‬‬
‫ُّ‬ ‫قيمتَني كون َّيتني‪ .‬وهذا ُّ‬
‫يدل عىل حدود‬ ‫وباخلري باعتبارمها َ‬
‫تظل مسافة كبرية» ‪.‬‬
‫‪30‬‬ ‫ومرتوية‪ُّ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫ينشدُ التسويغ‪ ،‬أي تسوية اخلالفات بطريقة ُمتع ِّقلة‬
‫يرمي إىل حتقيق املساواة‪ ،‬أي احلدّ من اهليمنة‪ ،‬ومرشوع ُ‬
‫ذلك هو رهان مرشوع رولز يف «نظرية العدالة»‪ :‬تسوية اخلالفات يف جمتمع طبقي يتهدَّ ده االنقسام واالضطراب‪.‬‬

‫تص ُّور العدالة اإليتيقي‪:‬‬


‫خاصة‬ ‫تم نقد نظر َّية رولز من قبل جمموعة من ا ُملفكِّرين‪ ،‬أطلق عليهم اسم «اجلامعت ُّيون» (‪ ، )communautariens‬ونذكر منهم َّ‬ ‫لقد َّ‬
‫ميكل صندل (‪ )Michael Sandel‬وألسدير ماكنتري (‪ )Alasdair McIntyre‬وميكل فلزر(‪ .)M. Walzer‬ولئن كانوا ال ُيشكِّلون‬
‫فإن تفكريهم‬ ‫توجه فكري حموره فكرة «اجلامعة» باملعنى العرقي واالجتامعي والثقايف‪ .‬ومن هذا املنطلق َّ‬ ‫فإن ما جيمع بينهم هو ُّ‬ ‫مدرسة َّ‬
‫أن نقائص النظر َّيات الليربال َّية تعود إىل َّأنا تُعطي ْأولو َّية للعادل‪ ،‬أو للقواعد الصور َّية‬ ‫يتعارض جذر َّي ًا مع الليربال َّية‪ .‬يرى اجلامعت ُّيون َّ‬
‫مقارنة بالقيم االجتامع ّية األخرى‪ ،‬لذلك هي ال تبحث يف رشوط إمكان جمتمع أفضل‪ .‬يف هذا السياق يرى «ميكل صندل»‬ ‫للعدالة َ‬
‫ألن تفكُّك الروابط الشخص َّية وحت ُّل ُل العالقات املدن َّية‬‫(أن احرتام القواعد الصور َّية للعدالة ال جيعل املجتمع أفضل‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫‪31‬‬
‫(‪)M.Sandel‬‬
‫إن العدالة التوزيع َّية كام‬ ‫األخوة ُي َعدُّ خسارة ال يمكن تعويضها بتحقيق العدالة‪ ،‬أي بتوزيع اخلريات املاد َّية بطريقة منصفة‪َّ .‬‬ ‫َّ‬ ‫وانعدام‬
‫تصورها رولز حمكومة بدوافع ذات َّية نفعــ َّية (تأويج اخلري الشخيص أو استجالب أكرب قدر من ال َّلذة واستبعاد األمل)‪ .‬يرى اجلامعت ُّيون أنَّه‬ ‫َّ‬
‫عوض هذه النزعة الفردان َّية الكامنة وراء مبادئ العدالة التوزيع َّية ينبغي أن تسود روح اجلامعة التي تُعدُّ نوازع األثرة (اإليثار) أحسن‬
‫ثمة قيم اجتامع َّية أخرى ينبغي أن تُؤخذ يف االعتبار‪،‬‬ ‫للمؤسسات االجتامعية‪َّ .‬‬
‫َّ‬ ‫تعبري عنها‪ .‬ال يمكن إذن اعتبار العدالة هي الفضيلة األوىل‬
‫ألي مجاعة برش َّية‪.‬‬
‫ألنا الزمة للوجود األفضل ِّ‬ ‫َّ‬

‫يطرح صندل السؤال األسايس وهو‪ :‬هل هناك أسبق َّية للعادل عىل اخلري؟ ويؤكِّد عىل ارتباط العدالة باخلري‪ ،‬وهذا موقف يتعارض مع‬
‫كل قيمة موضوع َّية (اخلري) من شأهنا أن حتدِّ د ما جيب عىل الفرد فعله‪ ،‬وبالتايل َتُدُّ من حر َّيته‪ .‬يرى صندل‬ ‫التصور الليربايل الذي يرفض َّ‬
‫ُّ‬
‫التصور اجلامع َّيتي‪ .‬تَستمدُّ مبادئ العدالة خصائصها األخالق َّية‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ثمة طريقتني للربط بني العدالة واخلري‪ :‬الطريقة األوىل مت ِّثل جوهر‬ ‫َّ‬
‫أن َّ‬
‫أن العدل يتحدَّ د بالنظر إىل اخلري كام تتم ّث ُل ُه تلك اجلامعة‪ .‬طبع ًا من‬ ‫التصور‪ ،‬من بعض القيم التي تتبنَّاها مجاعة مع َّينة‪ ،‬أي َّ‬
‫ُّ‬ ‫حسب ذلك‬
‫فإنا تكون فاقدة ِّ‬
‫لكل قيمة كون َّية‪ .‬وأ َّما‬ ‫اجتامعي‪ ،‬وبالتايل َّ‬
‫ّ‬ ‫التصور ليست سوى اصطناع أو اتِّفاق‬ ‫ُّ‬ ‫أن العدالة حسب هذا‬ ‫اليسري استنتاج َّ‬
‫بتصور اخلري فهي تقوم عىل إثبات مبادئ العدالة بربطها بالقيمة األخالق َّية أو باخلري َّية الداخل َّية للغايات التي‬ ‫ُّ‬ ‫الطريقة الثانية لربط العدالة‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫احلق حيرت ُم أو يساعد عىل حتقيق خري إنساين‬ ‫تم توضيح َّ‬
‫أن هذا َّ‬ ‫بحق إال إذا َّ‬
‫عرتف ٍّ‬
‫ُ‬ ‫التصور ال ُي‬
‫ُّ‬ ‫من أجلها ُوضعت تلك املبادئ‪ .‬يف هذا‬
‫لتصور عالقة العدالة باخلري‪ .‬اخلري يف نظره ليس خري مجاعة برش َّية مع َّينة‬ ‫ُّ‬ ‫التوجه اجلامعتي‬
‫ُّ‬ ‫أن صندل خيتلف عن‬ ‫عا ٍّم‪ .32‬من الواضح إذن َّ‬
‫الكل أو املطلق باعتباره غاية يف حدِّ ذاته‪ .‬يف هذا األمر يعود صندل إىل أرسطو وكانط‪ ،‬وحتديد ًا إىل‬ ‫عي‪ ،‬ولكنَّه اخلري ُّ‬‫يف ظرف تارخيي ُم َّ‬

‫‪  30‬ـ انظر‪ :‬بول ريكور‪ ،‬العادل‪ ،‬ترجمة منري كشو ومنرية بن مصطفى‪ ،‬نرش بيت الحكمة‪ ،‬تونس‪.‬‬
‫‪  31‬ـ يقول ميكل صندل يف كتابه «الليرباليَّة وحدود العدالة» موضِّ حاً موقفه من الوصف الذي عادة ما يلصق به وهو أنَّه «جامعتي» ‪ communautarien‬عىل غرار ٍّ‬
‫كل‬
‫من ألسدير مكنتري (‪ )Alasdair McIntyr‬وتشارلز تيلور (‪ )Charles Taylor‬وميكل فلزر (‪ ،)M.Walzer‬يقول‪« :‬لست دامئاً يف صف الجامعت ّيني»‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪Le Libéralisme et les Limites de La Justice, trad. fr. J.F.Spitz, Éd. Du Seuil, Paris, 1999, p.12.‬‬
‫‪32 . Ibid, p.14.‬‬

‫‪175‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫منويب غباش‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫اخلية كغاية‪ ،‬كرشط لالتِّفاق عىل احلقوق الفرد َّية‪ ،‬ولوضع الدستور الالزم للتنظيم‬ ‫فكرة الغاية‪ :‬جيب تعريف اخلري األسمى أو احلياة ِّ‬
‫يتم اختيارها‪،‬‬ ‫تصور ًا تليولوج َّي ًا (‪ ،)téléologique‬بمعنى أنَّه ُيؤكِّد عىل الغايات التي ُّ‬‫تصور صندل للعدالة ُّ‬ ‫السيايس ‪ .‬يمكن اعتبار ُّ‬
‫‪33‬‬

‫التصورين السائدين‪ ،‬أي‬ ‫ُّ‬ ‫وانطالق ًا منها ُيدَّ ُد ما هو عادل‪ ،‬ال عىل قدرة اإلنسان كذات أخالق َّية عىل االختيار‪ .34‬وهو بذلك يتجاوز‬
‫حل َجج التي‬ ‫كل مرجع َّية أخالق َّية أو الهوت َّية‪ ،‬كام َّ‬
‫أن ا ُ‬ ‫أن ُتدَّ َد بمعزل عن ِّ‬
‫أن احلقوق ينبغي ْ‬
‫الليربايل واجلامعتي‪ ،‬فالليربال ُّيون يعتربون َّ‬
‫أي مذهب أخالقي أو ديني‪ .‬وأ َّما‬ ‫ُعب أو تستند إىل ِّ‬ ‫يمكن إيرادها إلثبات تلك احلقوق ينبغي أن تكون ذات طابع حيادي‪ ،‬أي َّأل ت ِّ‬
‫التصورين يشرتكان‬ ‫ُّ‬ ‫البي َّ‬
‫فإن هذين‬ ‫تتأسس عىل القيم االجتامعية السائدة‪ .‬وعىل الرغم من اختالفهام ِّ‬ ‫أن احلقوق َّ‬‫اجلامعت ُّيون فهم يرون َّ‬
‫يف استبعاد الغايات القصوى أو القيم الكُل ِّية التي من شأهنا ال أن ُتدّ د احلقوق فقط‪ ،‬بل أيض ًا الوجود اإلنساين‪.‬‬

‫اخلية وبالغايات القصوى لإلنسان‪،‬‬ ‫تصوراتنا املتع ِّلقة باحلياة ِّ‬


‫فصل تفكرينا يف العدالة‪ ،‬من جهة كوهنا مسألة فلسف َّية‪ ،‬عن ُّ‬ ‫يمكن أن ُي َ‬
‫تعب عنها‬ ‫تصورات اخلري التي ِّ‬ ‫يتطور دون الرجوع إىل ُّ‬ ‫ولك َّن التداول حول العدالة واحلقوق‪ ،‬من حيث إنَّه مسألة سياس َّية‪ ،‬ال يمك ُن أن َّ‬
‫التصور السيايس للعدالة‪ ،‬ومن بينهم رولز‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫التداول‪ .35‬يقول الليربال ُّيون املدافعون عن‬
‫ُ‬ ‫يتم ذلك‬
‫متنوعة‪ ،‬يف إطارها ُّ‬ ‫ثقافات وتقاليد ِّ‬
‫تصورات األفراد املتع ِّلقة باخلري وبامهية‬ ‫وتنوع ُّ‬ ‫بأسبق ِّية العدالة عىل اخلري‪ ،‬انطالق ًا من اإلقرار َّ‬
‫بأن املجتمعات الديمقراط َّية تتم َّيز بتعدُّ د ُّ‬
‫عي للخري يكون ُمدِّ د ًا ملبادئ‬ ‫تصور ُم َّ‬
‫وتنوع اجتاهاهتم الفلسف َّية والدين َّية‪ ،‬ولذلك ال يمكن االتفاق حول ُّ‬ ‫اخلية‪ ،‬حسب اختالف ُّ‬ ‫احلياة ِّ‬
‫العدالة‪ .‬ما هو قابل للتح ُّقق هو االتفاق عىل بعض املبادئ األساس َّية للعدالة التي عىل ضوئها ُيمكن ضامن حقوق مجيع األفراد واحرتام‬
‫«التصور الدينطولوجي» للعدالة (‪ ، )conception déontologique de la justice‬ولكن إذا قبلنا بتعدُّ د‬ ‫ُّ‬ ‫حرياهتم‪ .‬هذا هو معنى‬ ‫ِّ‬
‫توجه ممارسات األفراد وحتدِّ د نمط حياهتم‪ ،‬فلامذا ال نقبل أيض ًا بتعدُّ د َّية معقولة يف‬ ‫التصورات األخالق َّية والدين َّية التي من شأهنا أن ِّ‬‫ُّ‬
‫أي من مبادئ العدالة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫والتصورات املتعلقة بالعدالة؟ وإذا كان ذلك ممكنا فسيكون صحيحا اإلقرار بعدم إمكان َّية االتفاق عىل ٍّ‬ ‫ُّ‬ ‫املسائل‬

‫وخاصة اخلري واحلر َّية واملساواة والكرامة‪ .‬ال خترج نظر َّية رولز يف العدالة‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إن العدالة احلقيق َّية ال تنفصل عن منظومة القيم الكون َّية‪،‬‬
‫اللمساواة وال إىل احلدِّ من التفاوتات االقتصادية واالجتامعية‪ .‬ينبغي إذن جتذير‬ ‫التصور الذي ال هيدف إىل إلغاء َّ‬
‫ُّ‬ ‫التصور الليربايل‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫عن‬
‫التفكري يف مسألة العدالة احلقيق َّية وبشكل خاص يف العدالة االجتامعية‪.‬‬

‫العدالة االجتماعية‪:‬‬
‫ال تعني العدالة املساواة التا َّمة والكُل َّية بني أفراد املجتمع الواحد‪ ،‬ولكنَّها تتم َّثل يف التوزيع املنصف للخريات االجتامعية التي هي‬
‫واخلدْ مات داخل املجتمع الواحد‪ ،‬بحيث ال ترتكَّز‬ ‫ثمرة التعاون والعمل االجتامعي‪ .‬كام يمكن أن نعني هبا التوزيع العادل للثروات ِ‬
‫تلك اخلريات لدى طبقة أو بني أيدي فئة مع َّينة‪ ،‬كام هو احلال يف النظام الرأساميل‪ .‬العدالة االجتامعية هي إذن عدالة توزيع َّية يف إطار‬
‫يصح اعتبار العدالة‬
‫جمتمع ال يتساوى أعضاؤه يف القدرات واملواهب واالستعدادات الطبيع َّية‪ .‬بام أنَّه ال مساواة طبيع َّية بني األفراد فقد ُّ‬
‫ِ‬
‫بمجرد حدْ سه‪ ،‬أو لكونه‬ ‫أن مفهوم العدالة ال يتح َّقق‬‫اللمساواة‪ .‬معنى هذا َّ‬ ‫االجتامعية تعويض ًا أو إصالح ًا أو عىل ّ‬
‫األقل للحدِّ من هذه َّ‬
‫َّ‬
‫مؤسسات وأجهزة اجتامع َّية‪ ،‬وهذا ما أكَّد عليه رولز‬ ‫حدس ًا أخالق َّي ًا كام ترى النزعة احلدس َّية (‪ ،) intuitionnisme‬بل ال بدَّ من وجود َّ‬
‫إن العدالة االجتامعية هي التوزيع املنصف‬ ‫املؤسسات االجتامعية‪ .‬نستطيع القول إذن َّ‬ ‫يف «نظر َّية العدالة»‪ ،‬فالعدالة كإنصاف هي فضيلة َّ‬
‫للخريات والثروات واخلدمات بني أفراد املجتمع وفئاته‪ ،‬بحيث ال ُيرم فرد أو فئة أو طبقة من اخلريات االجتامعية الرضور َّية‪ ،‬ومن‬
‫إن العدالة االجتامعية ليست سوى جتسيد‬ ‫الرشوط املاد َّية لوجود الئق باإلنسان كغاية يف حدِّ ذاته‪ .‬حسب هذا املعنى يمكن القول َّ‬

‫‪33 . Ibid, p.14.‬‬


‫‪34 . Ibid, p.30.‬‬
‫‪35 . Ibid, pp. 269 - 270.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪176‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫تصور العدالة‪ :‬الرشط اإلجرائي والتأسيس األخالقي‬
‫ُّ‬

‫الديمقراط َّية هي الرشط السيايس للمواطنة‬ ‫احلقوق األساس َّية للشخص‪ .‬ونحن ال نقصد باحلقوق الشخص َّية‬
‫االجتامع َّية وللعدالة االجتامع َّية‪ .‬ولكن جيب‬ ‫هنا ما يفهمه ال ِّليربال ُّيون من عبارة «احلقوق»‪ ،‬أي حر َّية الفعل‬

‫َّأل نفهم الديمقراط َّية هنا يف معنى التمثيل‬ ‫وحق التعبري والنرش واالجتامع واالقرتاع ‪...‬إلخ‪ ،‬بل املقصود‬
‫وحق‬
‫ِّ‬ ‫احلق يف التعليم‬
‫احلقوق االجتامعية واالقتصادية؛ مثل ِّ‬
‫السيايس املتناغم مع مركز َّية السلطة السياسية‬ ‫وحق احلصول عىل الوسائل املاد َّية‬
‫السكن ِّ‬
‫وحق ّ‬
‫الرعاية الصح َّية ِّ‬
‫تصور‬‫وانفصاهلا عن املجتمع‪ ،‬وذلك ضمن ُّ‬ ‫للعيش‪ .‬ال يمكن أن تتح َّقق العدالة االجتامعية من دون الرشط‬
‫سياسوي للسياسة‪ ،‬بل علينا أن نحدِّ د‬ ‫ٍّ‬ ‫يتوجب طرحه هنا هو‪ :‬ما النظام‬‫السيايس‪ .‬وهلذا فالسؤال الذي َّ‬ ‫ِّ‬
‫أي حدٍّ يستجيب النظام‬
‫السيايس املالئم للعدالة االجتامعية؟ وإىل ِّ‬
‫الديمقراطية باعتبارها الشكل الذي تكون‬
‫الديمقراطي ملطلب العدالة االجتامعية؟‬
‫اجتامعي ُتدِّ ده قيم‬ ‫ٍ‬
‫وجود‬ ‫فيه السياسة َ‬
‫نمط‬
‫ٍّ‬
‫موضوع َّية وغايات كُل َّية‬ ‫ينطلق ال ِّليربال ُّيون يف دفاعهم عن احلر َّيات واحلقوق الفرد َّية‪،‬‬
‫حق املِ ْلكية‪ ،‬من مس َّل ِ‬
‫مة أسبق َّية احلر َّية الفرد َّية عىل القيم‬ ‫وخاصة ّ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫األخرى‪ .‬فاحلر َّية لدهيم هي رشط احلصول عىل احلقوق األخرى‪ ،‬وبالتايل فإن كل تدخل للدولة بواسطة إجراءات مع َّينة هتدف إىل حتقيق‬
‫املساواة االقتصادية أو العدالـــة االجتامعية (توزيع اخلريات بشكل منصف بحيث يستفيد َمن ُهم ُّ‬
‫أقل ح َّظ ًا‪ ،‬أو من هم أكثر حرمان ًا)‬
‫اخلاصة‪ .‬ولكن هل يمكن الفصل بني احلقوق املدن َّية والسياس َّية من جهة‪ ،‬واحلقوق‬ ‫َّ‬ ‫هو انتهاك للحر َّية الفرد َّية واعتداء عىل امللك َّية‬
‫االقتصادية واالجتامعية من جهة ثانية؟ وبصيغة أخرى‪ :‬هل يمكن املفاضلة بني احلقوق‪ -‬احلر َّيات (‪ )droits/libertés‬واحلقوق‪-‬‬
‫القدرات (‪ )capacités/droits‬؟‬

‫شك‬ ‫إن إيالء احلر َّية أولو َّية مقارنة بالقيم األخرى فكرة يصعب تسويغها‪ .‬فام الذي يمنع من إسناد األسبق َّية أل َّية قيمة مهام كانت؟ ال َّ‬ ‫َّ‬
‫يسوغ إنكار أو إمهال القيم األخرى أو اعتبارها‬ ‫أن احلر َّية قيمة أساس ّية ورضور َّية بالنسبة إىل وجود الكائن اإلنساين‪ ،‬ولكن ذلك ال ِّ‬ ‫يف َّ‬
‫وحق ممارسة أسلوب العيش‬ ‫وحق السفر ُّ‬ ‫(احلق يف التفكري ويف التعبري عن الرأي ويف النرش ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫إن احلقوق‪ -‬احلر َّيات‬ ‫ثانو َّية مقارنة باحلر َّية‪َّ .‬‬
‫سمها ماركس‪ .‬ال بدَّ إذن من‬ ‫جمرد حقوق صور َّية كام َّ‬‫بحر َّية) هي مجيعها حقوق تقتيض وسائل لكي تتح ّقق فعل َّي ًا‪َّ .‬إنا يف غياب الوسائل َّ‬
‫أن هذا التعارض بني صنفي احلقوق ُييل إىل تعارض بني نظر َّيتني‬ ‫التأليف بني احلقوق‪ -‬احلر ّيات واحلقوق‪ -‬القدرات‪ .‬من املعروف َّ‬
‫أساس َّيتني م َّيزتا الفكر السيايس احلديث واملعارص‪ ،‬نقصد الليربال َّية واالشرتاك َّية‪ .‬يف املجتمع الليربايل يكون مجيع األفراد متساوين نظر َّي ًا‬
‫فإن مجيع األفراد يتمتًّعون باخلريات املاد َّية‬ ‫يف احلقوق‪ ،‬ولكن يف الواقع يتمتَّع البعض فقط بحقوق فعل َّية‪ .‬وأ َّما يف املجتمع االشرتاكي َّ‬
‫إن الفرد يف املجتمع الليربايل‬ ‫واالجتامع َّية (حقوق قدرات)‪ ،‬ولكنَّهم ال يتمتَّعون بحقوق احلر َّيات أو احلر َّيات األساس َّية‪ .‬هل لنا أن نقول َّ‬
‫هو املواطن احلقيقي أو الفاعل‪ ،‬ما دام قادر ًا عىل محاية حقوقه الطبيع َّية من خالل مشاركته يف إدارة الشؤون العا َّمة عن طريق التمثيل‬
‫السيايس؟ وهل لنا أن نعترب الفرد يف املجتمع االشرتاكي‪ ،‬الذي ال حقوق سياس َّية له ولكنَّه يتمتَّع بخريات وخدمات اجتامع َّية‪ ،‬مواطن ًا‬
‫منفعالً؟‪36‬هل يمكننا التأليف بني احلر َّية الفرد َّية (الليربال َّية) واملساواة (االشرتاك َّية) يف مفهوم املواطنة االجتامع َّية؟‬

‫خيتص بحقوق طبيع َّية يصبو‬


‫ُّ‬ ‫لعل اخلاص َّية املم ِّيزة للمواطنة االجتامعية هي َّأنا ال ُتتزل يف البعد السيايس‪ .‬ليس املواطن َّ‬
‫جمرد فرد‬ ‫َّ‬
‫التصور التعاقدي للوجود‬
‫ُّ‬ ‫إىل تكريسها من خالل املشاركة يف السلطة السياسية بشكل غري مبارش‪ ،‬أي عن طريق التمثيل‪ ،‬وهو جوهر‬

‫‪  36‬ـ هذا التمييز بني املواطن الفاعل واملواطن املنفعل نجده لدى كانط‪ ،‬وتحديدا ً يف كتابه‪« :‬نقد العقل العميل»‪ .‬املواطن الفاعل هو عضو يف الدولة‪ ،‬وهو يشارك يف‬
‫الشؤون العامة نظرا ً لكونه مالكاً‪ ،‬وأ َّما املواطن املنفعل فهو مج َّرد جزء من الدولة‪ ،‬وليس له تبعاً لذلك ُّ‬
‫حق االقرتاع‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪A. Philonenko, Théorie et Praxis dans la pensée morale et politique de Kant et de Fichte en 1793, Vrin, Paris, 1976, p.66.‬‬

‫‪177‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫منويب غباش‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫َّ‬
‫ويتجل ذلك‬ ‫التصور التعاقدي‪ ،‬داللة سياس َّية رصفة‪ .‬ليس املواطن هو ساكن املدينة‪ ،‬بل هو جزء منها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫السيايس‪ .‬تأخذ املواطنة‪ ،‬حسب‬
‫اخلاصة‪َّ .‬‬
‫إن التَّحديد السيايس‬ ‫َّ‬ ‫من خالل مشاركته يف الشؤون العا َّمة اعتبار ًا للمصلحة العا َّمة التي هي الرشط الرضوري لتح ُّقق املصالح‬
‫وحق تق ُّلد الوظائف السياس َّية) ويستبعد احلقوق االجتامعية‬ ‫ُّ‬ ‫للمواطنة جيعل حقوق املواطنة حقوق ًا سياس َّية ال غري ُّ‬
‫(حق االقرتاع‪،‬‬
‫(احلقوق املتع ِّلقة بالرشوط املاد َّية للوجود وباخلريات االجتامعية الرضور َّية حلياة إنسان َّية الئقة)‪.‬‬

‫ُّ‬
‫حتتل احلقوق الفرد َّية والقيم االقتصاد َّية يف املجتمع الليربايل املكانة األرفع مقارنة باحلقوق والقيم األخرى‪ ،‬بل َّ‬
‫إن االقتصاد هو الذي‬
‫احلق‪ ،‬فاحلر ُّية الفرد َّية التي يتغنَّى هبا الليربال ُّيون تؤول إىل حر َّية امللك َّية وما يرتبط هبا من حقوق التبادل واالستهالك‪ .‬صارت‬ ‫حيدِّ د َّ‬
‫كل احلقوق املنسوبة إىل الفرد ال قيمة هلا إذا‬ ‫إن َّ‬
‫يتم الرصاع من أجلها‪َّ .‬‬ ‫ظل املجتمع الرأساميل هي الغايات التي ُّ‬ ‫الوسائل املاد َّية (املال) يف ِّ‬
‫مل تتو َّفر الوسائل املاد َّية لتحقيقها‪ ،‬فحتَّى الكرامة اإلنسان َّية صارت مرشوطة باحلصول عىل هذه الوسائل‪ .‬حسب منظومة القيم السائدة‬
‫اخلاصة‪ ،‬حر َّية العمل والتبادل واالستهالك‪ ،‬امللك َّية‪ ،‬املنفعة‪ ،‬املردود َّية‪ ،‬املنافسة) َف َقدَ مفهوم حقوق‬
‫َّ‬ ‫ذات الطابع االقتصادي (املصلحة‬
‫اإلنسان داللته املوضوع َّية واحلقيق َّية فأصبح ُييل إىل إيديولوجيا تربير املصالح الطبق َّية والسلطو َّية‪.‬‬

‫وغائي‪ ،‬أي إنَّه‬


‫ٌّ‬ ‫معياري‬
‫ٌّ‬ ‫ليست العدالة االجتامع َّية مفهوم ًا إجرائ َّيا خالص ًا‪ ،‬باملعنى الذي وضعه رولز يف «نظر ّية العدالة»‪َّ ،‬إنا مفهوم‬
‫املؤسسات السياس َّية واالجتامع َّية املناسبة‪.‬‬‫اللزمة لذلك‪ ،‬أي َّ‬ ‫يرتبط باخلري وباملصلحة العا َّمة‪ ،‬وهو قابل للتطبيق عندما تتو َّفر الرشوط َّ‬
‫املؤسسات‪،‬‬ ‫إن العدالة خاص َّية من خاص َّيات ك ُِّل َّ‬ ‫لتدل عىل عدالة التقسيم والتوزيع فقط‪َّ .‬‬ ‫جيب عدم اختزال العدالة يف الداللة االقتصادية َّ‬
‫املؤسسات هي التي تن ِّظم تقسيم األدوار واالمتيازات وسحب االمتيازات بني أعضاء املجتمع الواحد‪ .37‬هلذا يعترب‬ ‫باعتبار َّ‬
‫أن هذه َّ‬
‫أن احلقيقة هي فضيلة أنساق التفكري ‪ .‬وباإلضافة إىل ذلك ال بدَّ من‬
‫‪38‬‬ ‫املؤسسات االجتامع َّية‪ ،‬مثلام َّ‬
‫أن العدالة كإنصاف هي فضيلة َّ‬ ‫رولز َّ‬
‫كل من مفهوم «املجتمع املدين الديمقراطي»‬ ‫تو ُّفر رشط آخر وهو وجود جمتمع مدين ديمقراطي يكون جماالً للمواطنة االجتامع َّية‪ُ .‬ييل ٌّ‬
‫التصور التعاقدي الذي‬ ‫ُّ‬ ‫ومفهوم «املواطنة االجتامع َّية» إىل براديغم وجود سيايس مغاير متام ًا للرباديغم الليربايل‪ ،‬وبالتايل فهو ال يستند إىل‬
‫ال هنائ َّي ًا‪ .‬تتحدَّ د حقيقة املجتمع‬‫يؤسس السيادة عىل تنازل الذوات الفرد َّية‪ ،‬ويفصل بذلك بني املجتمع املدين والسلطة السياس َّية فص ً‬ ‫ِّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫املدين الديمقراطي من جهة عالقته بالدولة‪ ،‬فالدولة ال تثل سلطة مركز َّية هتيمن عليه وتتحكَّم فيه حت ُّكام صارما‪ .‬هذا املجتمع هو جمال‬
‫للتعايش بني مواطنني أحرار يديرون شؤون حياهتم بأنفسهم‪ ،‬وهم متساوون أمام القانون‪ ،‬كام هم متساوون يف اخلريات االجتامعية‬
‫األساس َّية التي هي ثمرة التعاون االجتامعي‪ .‬الديمقراط َّية هي إذن الرشط السيايس للمواطنة االجتامع َّية وللعدالة االجتامع َّية‪ .‬ولكن‬
‫جيب َّأل نفهم الديمقراط َّية هنا يف معنى التمثيل السيايس املتناغم مع مركز َّية السلطة السياسية وانفصاهلا عن املجتمع‪ ،‬وذلك ضمن‬
‫اجتامعي ُتدِّ ده قيم‬ ‫ٍ‬
‫وجود‬ ‫سياسوي للسياسة‪ ،‬بل علينا أن نحدِّ د الديمقراطية باعتبارها الشكل الذي تكون فيه السياسة َ‬
‫نمط‬ ‫تصور‬
‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُّ‬
‫موضوع َّية وغايات كُل َّية‪.‬‬

‫‪37 . Ricœur, Soi-même comme un autre, Paris, Édition du Seuil, 1990, pp. 232 -234.‬‬
‫‪38 . Rawls, Théorie de la justice, Op. cit. p.29.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪178‬‬
‫ العدالة والديمقراطية‬:‫ملف العدد‬ ‫ الرشط اإلجرائي والتأسيس األخالقي‬:‫تصور العدالة‬
ُّ

:‫المصادر والمراجع‬

- Aristote, Ethique à Nicomaque, trad.fr. J. Tricot, Vrin, Paris, 1990.


- Platon, La République, Paris, Plon, 1966.
-Lalande, Vocabulaires techniques et critiques de la philosophie, Puf /Delta, Paris, 1996.
-Véronique Munoz-Dardé, La justice sociale : Le libéralisme égalitaire de John Rawls, NATHAN, Paris,
2000, p. 33
-Rawls, Théorie de La justice, tr ad.fr. C. Audard, Paris, Éd. du Seuil, Paris, 1987.
-Otfried Höffe, État et justice, Vrin, Paris, 1988.
- Will Kymlika, Les théories de la justice, traduit de l’anglais par Marc Saint- Upéry, la découverte, Paris,
1999.
-Michael Sandel, Le Libéralisme et Limites de la Justice, trad. Fr. J.F.Spitz, Éd. du Seuil, Paris, 1999.
-Nozick Robert, Anarchie, Etat et Utopie, tard. fr. E .d’Auzac de Lamartine, Puf, Paris, 1988.
-A. Philonenko, Théorie et Praxis dans la pensée morale et politique de Kant et de Fichte en 1793, Vrin,
Paris1976.
- Paul Ricœur, Soi-même comme un autre, Édition du Seuil, Paris, 1990.

179 2017 )10( ‫العدد‬


‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫التعدد َّية الليبرال َّية‪:‬‬


‫ّ‬ ‫مفارقات‬
‫أو كيف يكون التعايش ممكنًا في وضعيات التفاوت؟‬

‫مصطفى بن متسك*‬

‫مـة‬
‫قد َ‬
‫الم ِّ‬
‫ُ‬
‫حترر ًا تارخيي ًا من براديغامت الواحد واملثال‬
‫بقدر ما كان انتقال اإلنسانية إىل مرحلة التعدُّ د َّية السياسية والثقافية والعرقية والدينية‪ُّ ،‬‬
‫واجلوهر واملاهية واألرخي (األصل) واأليقوين‪ ،‬بقدر ما وجلت إىل إشكاليات مستحدثة رافقت صريورة تشكُّل الفسيفساء التعدُّ د َّية‬
‫للمجتمعات الديمقراطية احلديثة‪.‬‬

‫مهها عىل اإلطالق هو كيفية املالئمة وخلق التوازنات الرضورية بني ِّ‬
‫كل هذه‬ ‫لقد محلت التعدُّ ديات املشار إليها مشكالت جديدة‪ ،‬لعل أ َّ‬
‫األطياف واالختالفات‪ ،‬وجتنب نزعات اإلقصاء والتفاضل والتمييز ِّ‬
‫بكل أشكاله‪ ،‬حتى يكون العيش املشرتك ممكن ًا ودائ ًام بني الفرقاء‬
‫املختلفني املتواجدين يف فضاء مشرتك‪.‬‬

‫ومؤسستية‬
‫َّ‬ ‫تلكم هي اإلشكالية الكربى التي ما تزال املجتمعات املنخرطة يف األفق الديمقراطي تبحث هلا عن خمارج وحلول ترشيعية‬
‫وسياسية‪ ،‬ختتلف حت ًام من بلد إىل آخر‪ .‬وبإمكاننا رصد أبرز املخارج التي أمجعت عليها املجتمعات الديمقراطية الغربية‪ ،‬وتتمثل يف‬
‫ُّ‬
‫(فكل‬ ‫اإلقرار بمبدأ املساواة بني ِّ‬
‫كل األطياف االجتامعية وعدم التفرقة بني املواطنني عىل خلفيات لونية أو مذهبية أو دينية أو سياسية‬
‫املواطنني يولدون أحرار ًا بطبعهم)‪ ،‬ما يسمح بتساوي حظوظهم اجتامعي ًا وسياسي ًا واقتصادي ًا‪ .‬فيصبح مبدأ التداول عىل السلطة حق ًا‬
‫ال عن إقرار قيم املواطنة بام تعنيه من تساوي احلقوق والواجبات‪ ،‬تلتزم أجهزة الدولة باحلياد املطلق عن‬ ‫دستوري ًا متاح ًا للجميع‪ .‬وفض ً‬
‫الرصاعات وامليوالت الفردية واجلامعية‪ ،‬فال تتدخل لنرصة طرف عىل آخر أو إيديولوجيا عىل أخرى‪ ،‬بل تسهر عىل تأمني حسن إنفاذ‬
‫القوانني ومحاية احلريات الفردية يف حدود القانون وردع املخالفني‪.‬‬

‫تلكم هي رشوط استمرار التعايش السلمي بني املواطنني األحرار يف جمتمع ديمقراطي‪ .‬ولكن هل حتقق هذا املنوال بالشكل املثايل‬
‫ال من الدولة كيان ًا فوق مجيع‬ ‫الذي وصفناه؟ وبعبارة أوضح‪ :‬هل حتققت «اجلَنَّة» التعدُّ دية والديمقراطية بالشكل الذي جيعل فع ً‬
‫تتحول التعدُّ د َّية يف تطبيقاهتا إىل‬ ‫بكل حقوقه ويقوم ِّ‬
‫بكل واجباته جتاه الدولة واملجتمع؟ أمل ْ َّ‬ ‫حر ًا ينعم ِّ‬
‫الطبقات؟ وجيعل املواطن كائن ًا َّ‬
‫جمرد آليات وإجراءات شكل َّية توهم بالديمقراطية‪ ،‬بينام تستبطن رضب ًا خف َّي ًا ومسترت ًا من «اهليمنة الناعمة» عىل مقدرات املجتمع وقواه‬ ‫َّ‬
‫احل َّية؟‬

‫التعدد‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬في البدء كان‬
‫مل يكن التعدُّ د (‪ )Pluralité‬مأثرة اإلنسان‪ ،‬بل «قانون األرض» ‪ ،‬كام تقول حنا أرنت‪ .‬إنَّه التنوع والتكاثر والتناسل ُّ‬
‫وكل البدايات‬ ‫‪1‬‬

‫* أكادميي من تونس‬
‫‪1 . Hannah Arendt, La vie d`esprit: la pensée, PUF, Paris, 1981, p.34.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪180‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫مفارقات التعدّ د َّية الليربال َّية‪ :‬أو كيف يكون التعايش ممكن ًا يف وضعيات التفاوت؟‬

‫املتجددة للكائنات‪ .‬ليس اإلنسان سوى إحدى تعبرياته وجتلياته‪َّ .‬‬


‫إن التعدُّ د الذي خيصنا هو هذا الظهور واالحتجاب‪ ،‬وهذا الكون‬
‫العال الذي حيتضننا‪.‬‬‫والفساد املتعاقبان بال هوادة وال انقطاع‪ .‬إنَّه إذن ماه َّية هذا َ‬

‫واملتكررة‪ .‬تكمن‬
‫ِّ‬ ‫العال باستقالل عن إرادة اإلنسان‪ ،‬وهو يعمل منذ األزل بمقتىض قوانني مادته الداخلية وحتمياته املنتظمة‬‫ُوجد هذا َ‬
‫أمهية َ‬
‫العال بالنسبة إلينا يف كونه فضا ًء زمني ًا وجغرافي ًا حتقق فيه «الوضع» الطبيعي للكائن‪ .‬مل يكن اإلنسان خارج لوغوس التعدُّ د أو قبله‪،‬‬
‫بأي حال فصل املاه َّية اجلزئية‬‫بل هو «املوجود يف العامل» و«بمعيته» (‪ ، )La co-existence‬إنَّه إذن الوجود يف الكثرة ومعها‪ ،‬وال يمكن ِّ‬
‫‪2‬‬

‫عن املاه َّية الكُل َّية‪.‬‬

‫ونتجسد وننخرط‬
‫َّ‬ ‫نقر عىل إثر مرلوبونتي بأنَّه «حلم العامل»‪َّ .‬‬
‫إن هذا العامل الذي فيه نوجد‬ ‫إن كيفية انغراس اإلنسان يف العامل جتعلنا ُّ‬‫َّ‬
‫ٍ‬
‫كتاب ريايض (قالييل)‪ ،‬بل هو ذواتنا‬ ‫جمرد‬
‫جمرد مادة ممتدَّ ة وعاطلة منزوعة الغرابة (ديكارت)‪ ،‬وليس َّ‬ ‫ونقصد ليس حمايد ًا‪ ،‬وليس َّ‬
‫وأجسادنا امللتحمة به‪.‬‬

‫ؤسس‬
‫كرس منطق االثنينية الديكاريت الذي فصل املادة املمتدَّ ة عن اجلوهر املفكر‪ ،‬وهو فصل ُي ِّ‬ ‫َّ‬
‫إن القول بحياديته وال مباالته ُي ِّ‬
‫متأصلة يف املثاليات الفلسفية القديمة‪.‬‬
‫لتفاضلية أخالقية ماهو َّية ِّ‬

‫تنتهي بنا فينومينولوجيا «الوجود كام هو موجود» (بلغة القدامى) إىل جماوزة الثنائيات امليتافيزيقية واإلقرار باحتاد اجلسد بالعامل‪،‬‬
‫املعقول باملحسوس واملنظور بالال‪-‬منظور‪ ،‬لكون بنيتنا اجلسدية ُمعدَّ ة بكيفية جتعلها يف وفاق مع املنظومات املورفولوجية املختلفة للعامل‪.‬‬

‫قل استنباط للكُل َّيات حيث‬‫أن واقعة التعدُّ د التي تناسل منها اإلنسان ذاته‪ ،‬ستصطدم بمقتضيات املعرفة من حيث هي إدراك أو ْ‬
‫بيد َّ‬
‫«ال علم إال بالكُّيل» (أرسطو)‪ ،‬لك َّن اجلزئي وحده هو املوجود‪ .‬سوف تقع التضحية باجلزئيات (املحسوسات) لفائدة معقوالت كُل َّية‬
‫متنح الفيلسوف سلطة رمزية عىل عامل احلركة املتمرد‪.‬‬

‫والتنوع حتدي ًا معرفي ًا ضخ ًام بالنسبة إىل الفالسفة األول‪ .‬كانت وقائع احلركة املوضوعية عنوان‬
‫ُّ‬ ‫لقد شكَّل التعدُّ د يف معنى التك ُّثر‬
‫فكل ما يظهر هو حقيقة جزئية‬ ‫الفوىض واالضطراب وجمال انتعاش الريبية السوفسطائية والعامية‪ :‬فبام أنَّه ال يشء يمكث عىل حاله‪ُّ ،‬‬
‫وباللنمطية أي بالصخب واهليجان‬ ‫َّ‬ ‫رسعان ما تزول‪ ،‬وال يمكن بالتايل قيام مرجعيات موضوعية تقويمية‪ .‬اقرتن التعدُّ د إذن بالفوىض‬
‫َّ‬
‫وكأن نظام الطبيعة وقوانينها القائمة عىل توازنات اجلزئيات املتناهية الصغر واملتعاظمة الكرب ال تتالءم‬ ‫و«التمرد الديونيزويس» (نيتشه)‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ونظام املدينة الذي نروم تأسيسه وفق نواميس النظام والتصنيف والرتتيب والثبات والنهائ َّية‪ .‬من هنا انبثقت أوىل املواجهات بني نظام‬
‫الطبيعة القائم عىل التعدُّ د املعطى ونظام املدينة القائم عىل التجانس والوحدة والطاعة‪.‬‬

‫ما يزال هذا التحويل لوجهة الكثرة الطبيعية من جماهلا احليوي إىل جمال التفكُّر والتد ُّبر أسلوب ًا لاللتواء عىل قوانني احلياة‪ ،‬ومن َّ‬
‫ثمة‬
‫ِ‬
‫النومني‪،‬‬ ‫عدم االعرتاف باحلقيقة حني تقع يف حمل اجلزئي والفردي‪ ،‬أو حني نريد أن نربزها عىل السطح بدل العمق‪ ،‬يف الفينومني بدل‬
‫يف املواطن بدل القوة والسيادة‪ ،‬أو يف املجنون بدل العاقل‪ .‬أليس إنكار واقع التعدُّ ديات كام تبدو ماثلة يف أنظمة الكون وطبقات الوجود‬
‫هو بداية الرشوع يف تنميط أنظمة احلياة املشرتكة بالشكل الذي جيعل من الذاتية مرجعية الترشيع املطلقة؟ أال ُيعدُّ إفراغ الكون من‬
‫واقعية التنوع والتكثر كام متليه علينا مقتضيات احلقيقة العلمية وكام متليه رشوط إمكان القول العلمي استعاضة عن احلقائق الالمتناهية‬

‫‪2 . Jean-Luc Nancy, Être singulier pluriel, Paris, Galilée, 1995, p.48- 51.‬‬

‫‪181‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫مصطفى بن متسك‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫املنمطة واملنمذجة‪ ،‬تلك التي تسمح بتداوهلا وتوثيقها وتعليمها؟ أليست التعدُّ د َّية قبل أن يبارشها العقل اختزاالً وتصنيف ًا‬
‫بـ«احلقيقة» َّ‬
‫وتنميط ًا هي هذه احلركة املتدفقة لألشياء‪ ،‬املستعصية عن اإلمساك‪ ،‬املتمردة عىل سلطان اخلطاب؟ أليست التعدُّ د َّية هي يف أصلها هذا‬
‫إن نظام املدينة يتخىل هنائي ًا عن‬
‫التعدُّ د وهذا التكثر الطبيعيان قبل أن تتدخل فيهام آليات االختزال واإلنشاء والتنميط؟ هل يمكن القول َّ‬
‫واقعة التعدُّ د الطبيعي املوصوفة بالفوىض واحلركية السالبة لصالح تعدُّ د َّية إنشائية تدافع عن الثبات والتوازن وتقاطع املصالح والطبقات؟‬

‫التعدد َّية االصطناع َّية‬


‫ُّ‬ ‫التعدد الطبيعي إلى‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬من‬
‫إن وجه التباين بينهام هو ذلك الذي يفصل بالتحديد جمال الطبيعة عن جمال الثقافة‪ ،‬أي‬ ‫فإن التعدُّ د َّية مستحدثة‪َّ .‬‬
‫إذا كان التعدُّ د معطى‪َّ ،‬‬
‫احلق الطبيعي عن احلق الوضعي‪ .‬متدُّ نا اإلنثروبولوجيا التارخيية بمفتاح تفسري النقلة النوعية الضخمة من حالة الطبيعة إىل حالة املدنية‪،‬‬
‫والترصف يف السلطة‪.‬‬‫ُّ‬ ‫وبمختلف صيغ احلكم‬

‫التعدُّ د َّية يف مفتتح دالالهتا هي مفهوم جديد للسلطة وللمرشوعية السياسية‪ .‬ال تستمدُّ هذه املرشوعية نفوذها من التقاليد أو من‬
‫مبدأ احلق الطبيعي أو احلق اإلهلي‪ ،‬بل من الوفاق واحلق املدنيني‪َّ .‬إنا ال تُفهم إال يف عالقتها العضوية بالسلطة وبمختلف التحوالت‬
‫التارخيية اجلذرية التي طرأت عليها‪ .‬ال تنفصل احلداثة السياسية عن التفكري التعدُّ دي الذي اقرتن باهنيار اجلامعات املغلقة والرتاتبيات‬
‫وكل أنامط السلطة الشمولية والكليانية‬ ‫األنطولوجية (نظرية الطبائع الثابتة) اجلاهزة والقبلية وأشكال احلكم الفردية النزوية املطلقة‪ّ ،‬‬
‫بكل أثقاله وأوزاره‪ ،‬ستشهد احلداثة عموم ًا‬‫املستمدَّ ة إيديولوجي ًا سواء من َو ْه ٍم عرقي أو ديني أو قومي‪ .‬ويف مقابل أفول العامل القديم ِّ‬
‫احلرة والذاتية املعتدَّ ة بنفسها‪ ،‬كام رسمتها لنا نامذج الكوجيتو املختلفة‪.‬‬
‫تصور الذات َّ‬ ‫نقالت ضخمة يف ِّ‬
‫كل نواحي احلياة‪ ،‬وال س َّيام يف ُّ‬

‫أن حرص التفكري التعدُّ دي يف إجرائيات توزيع السلطات وتقاطع املصالح وتوازن هيئات املجتمع‪ ،‬إنَّام يطمس الرهان‬ ‫ويتبني حينئذ َّ‬
‫األول الثاوي خلف هذه اآلل َّيات‪ ،‬ونعني به تأمني حرية املجتمع املدين املتكون من أفراد ومجاعات ومجعيات ومنتديات ونزعات‬ ‫َّ‬
‫إن «واقع التعدُّ د َّية» (ونحن نستعري هنا املصطلح الرولزي املعروف) ليس مذهب ًا‬‫وتلوينات‪ ،‬من تعدِّ يات ونزوات السلطة الشمولية‪َّ .‬‬
‫تنوع اآلراء واملصالح واجلامعات يف جمتمع مدين‪ ،‬وجيعل من التعدُّ د‬
‫كرس ُّ‬ ‫«تصور واقعي لنظام سيايس وحقوقي ُي ِّ‬
‫ُّ‬ ‫قائم الذات‪ ،‬بل هو‬
‫الرشط الضامن للحر َّية» ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫ُبش فلسفة التعدُّ د َّية بنهاية عصور «الوحدنة» (‪ )Monisme‬و«الشملنة» (‪ ، )Holisme‬وبالتايل تش ِّظي احلقائق وتبعثر الفرديات‬ ‫ت ِّ‬
‫و«أفول األصنام» (نيتشه)‪ .‬وبالرضورة هناية املقادير ا ُملس َّلطة عىل البرش واأليادي اخلفية التي تعمل خلف ظهورهم (أفالطون)‪َّ .‬إنا‬
‫احلاكمية وقد اسرت َّدها اإلنسان ليضفي عليها إنسانيته اقتسام ًا ومشورة ونقاش ًا ُيدِّ د عىل إثرها معايري أخرى للحق واحلق املضاد‪.‬‬

‫نلج مع التعددية عامل اإلنسان بامتياز‪ ،‬وتتعطل بذلك االمتدادات والتربيرات األسطورية والطبيعانية للسلطة‪ ،‬بل تفقد السلطة بريقها‬
‫األسطوري واإلمرباطوري‪ ،‬و«يتطاول» عليها من شاءها باسم احلق واملساواة فيه‪ .‬وهكذا فحني تسقط األصنام وتنكشف التربيرات‬
‫تتحرر اإلرادات الفردية من جحيم «اللفياثان» الكلياين‪،‬‬ ‫وتستقر فكرة املساواة واالستقاللية الفردية يف األذهان‪َّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫اإليديولوجية للحكم‬
‫وبالتايل تتح َّيد الدولة عن التدخل يف حتديد مفاهيم «احلياة الط ِّيبة» (‪ .) La Vie bonne‬هبذا املعنى ترتدُّ التعدُّ دية إىل فلسفة االختالف‬
‫ويستقر هذا احلق يف مدلول واسع للمواطنة يطلق عليه البعض «املواطنة االختالفية» ( ‪،4)Citoyenneté différenciée‬‬ ‫ُّ‬ ‫وحق االختالف‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫‪3 . P.Bo, «Pluralisme», in Dictionnaire constitutionnelle, PUF, 1992, pp. 756- 759.‬‬
‫‪4 . Genevieve Nootens, «Multiculturalsime et tolérance: penser le pluralisme culturel», in Paul Dumouchel et Bjarne Melkevik, Tolérance,‬‬
‫‪Pluralisme et Histoire, Harmattan, 1998, p.153.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪182‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫مفارقات التعدّ د َّية الليربال َّية‪ :‬أو كيف يكون التعايش ممكن ًا يف وضعيات التفاوت؟‬

‫فإن التعدُّ دية مستحدثة‪.‬‬


‫إذا كان التعدد معطى‪َّ ،‬‬ ‫وكل أشكال التمييز‬ ‫حيث تتالشى منه الوالءات ما قبل املدنية ُّ‬
‫إن وجه التباين بينهام هو ذلك الذي يفصل‬ ‫العنرصي والديني بني البرش‪ ،‬وال يمكث يف جمتمع تعددي‪-‬‬
‫حقوقي سوى مفهوم صوري وكيل ملواطن رشيك يكون تارة حاك ًام‬
‫بالتحديد جمال الطبيعة عن جمال الثقافة‪،‬‬
‫يرشع التداول‬ ‫وطور ًا حمكوم ًا‪َّ .‬‬
‫إن التعدُّ دية هي االختالف الذي ِّ‬
‫أي احلق الطبيعي عن احلق الوضعي‪ .‬متدنا‬ ‫عىل احلكم وتفتيته ومراقبته و«معارضة السلطة باألخرى»‪ ،‬كام َّبي‬
‫اإلنثروبولوجيا التارخيية بمفتاح تفسري النقلة‬ ‫ذلك مونتسكيو يف روح القوانني‪.5‬‬
‫النوعية الضخمة من حالة الطبيعة إىل حالة‬
‫َّ‬
‫إن رهان التعدُّ د َّية هو إلغاء األصول واملركز َّيات املاورائية‬
‫املدينة‪ ،‬وبمختلف صيغ احلكم والترصف يف‬
‫للسلطة الوضعية وتوزيعها عىل خمتلف اهليئات املدنية بالتساوي‬
‫السلطة‬ ‫وبالتداول يف مسعى لتأمني سيولة احلريات الفردية من خالل‬
‫إرساء إتيقا تفاوضية وحوارية لطرائق مستحدثة للعيش املشرتك‪.‬‬

‫التعدد َّية الليبرال َّية وإدارة العيش المشترك‬


‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫اقتضت وضعنة السلطة السياسية ومركزة اإلنسان يف الكون بدل الوجود تغيريات جذرية يف توزيعية مراكز النفوذ والقرار‪ .‬باتت‬
‫السلطة تداوالً بني أفراد أحرار يتنافسون ديمقراطي ًا عىل االستئامن عليها‪ ،‬واستعامهلا كأداة للعدالة واإلنصاف بني أطياف املجتمع‬
‫الديمقراطي‪.‬‬

‫اقرتنت التعدُّ د َّية منذ البدء بتصور مجاعي وديمقراطي للسلطة‪ ،‬ك َّفت فيه أن تكون حكر ًا عىل طبقة أو حاكم فردي مطلق النزوات‪،‬‬
‫بالتحرر الفردي واحلقوق الفرد َّية‪ .‬لقد أضحى احلق السيايس يف التداول عىل السلطة لدى عموم املواطنني من أبرز‬
‫ُّ‬ ‫بعد أن اقرتنت‬
‫بشت هبا احلداثة السياسية‪.‬‬ ‫احلقوق التي َّ‬

‫املتحرر من ِّ‬
‫كل الوصايا‪ ،‬حتى غدت متشظية ومتكثرة ومرنة وغري ثابتة ونسبية مثله‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫تشكلت السلطة السياسية عىل صورة الفرد‬

‫مل تعد هذه السلطة مصدر ًا للخوف والرهبة‪ ،‬بعد أن فقدت مصادراهتا املاورائية واملتعالية‪ ،‬وأصبحت بمقتىض العقد االجتامعي‬
‫اجلديد شأن ًا عا َّم ًا يشرتك فيه اجلميع عىل قدر املساواة يف إدارة مرافقها العا َّمة‪.‬‬

‫أضحى العيش املشرتك ممكن ًا يف كنف التعدُّ دية الفكرية والعقائدية والسياسية والعرقية واللغوية‪ ،‬واتفق القوم املختلفون عىل قبول‬
‫اختالفاهتم واإلبقاء عليها‪ ،‬وعدم التنازل عنها لفائدة دولة قوية أو حاكم مستبد‪ ،‬بل فقط اإلبقاء عليها ضمن الفضاءات اخلاصة عىل‬
‫غرار العائلة واجلامعة اخلصوصية واملعابد واألحياء‪ ،‬ونعني هبا األقليات العرقية سواء منها أقليات أرض الوطن أو تلكم القادمة بطريق‬
‫اهلجرة عىل غرار األقليات العربية املسلمة أو اآلسيوية أو اإلفريقية إىل الغرب األورويب واألمريكي‪.‬‬

‫ويف مقابل االعرتاف باخلصوصيات الثقافية ومحاية وجودها داخل أفضيتها اخلاصة‪ ،‬وضامن عدم إقصائها من الفضاء العام‪ ،‬أو‬
‫استئصاهلا ألسباب إيديولوجية أو دينية‪ ،‬بات يتعني عىل اهلو َّيات اخلصوصية املتواجدة يف الفضاء التعدُّ دي الغريب األورويب واألمريكي‬
‫حتديد ًا‪ ،‬االنخراط يف قيم املواطنة باعتبارها الضامنة لرشوط العيش املشرتك وملعايري اإلنصاف االجتامعي‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن فضاء املواطنة هو‬

‫‪5 . Montesquieu, De l’esprit des lois, vol 1, Garnier-Flamarion, 1979, p.294 et 293.‬‬

‫‪183‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫مصطفى بن متسك‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫الكفيل بالتخيل «مؤقت ًا» عن االنتامءات ما قبل املدنية أو ما قبل‪ -‬املواطنية‪ ،‬واالكتفاء بمامرستها يف األفضية اخلاصة التي تؤ ِّمنها الدولة‪،‬‬
‫املحرضة عىل‬
‫التجرد عن الوالءات اهلوو َّية ِّ‬
‫ُّ‬ ‫أ َّما الوجود املواطني املشرتك فقد بات يتطلب من اجلميع‪ ،‬بام يف ذلك مواطنو الدولة‪ -‬األ َّمة‪،‬‬
‫والتعصب وكره اآلخر‪-‬املختلف‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫االنغالق‬

‫كل هذه األطياف اهلوو َّية هو فقط انتامؤها لقيم املواطنة‪ ،‬بام تعنيه من مساواة أمام القانون الذي ال يميز مواطن عن آخر‬‫إن ما جيمع َّ‬
‫َّ‬
‫عىل خلفية االنتامء الديني أو العرقي أو القومي‪ ،‬بل فقط عىل خلفية احرتام القانون ومؤسسات الدولة أو التعدي عليهام‪ .‬وهبذا مل تعد‬
‫يعزز هذا املكسب هو حتييد أجهزة الدولة عن والءات األفراد‬ ‫االنتامءات الرمزية معيار ًا للحكم عىل املواطنني يف الفضاء املشرتك‪ .‬وما ِّ‬
‫وميوالهتم الفكرية‪ .‬وبموجب ذلك تصبح الدولة هيئة حمايدة ال يسمح هلا بالتدخل ملنارصة رؤية إيديولوجية أو قومية أو دينية أو تربوية‬
‫ما‪ ،‬مكتفية بتحديد قواعد العدالة الشكلية وتأمني سيالهنا دون االنحراف هبا إىل «حرب اآلهلة»‪ .‬يقول جون رولز‪« :‬ال تقوم اجلامعة عىل‬
‫تصور للخري كالذي كان فيام مىض ُيستمدُّ من الدين أو من مذهب فلسفي شائع‪ ،‬بل تقوم عىل مفهوم مشرتك للعدالة يف صلتها بالتصور‬ ‫ُّ‬
‫الذي يتمثل املواطنني داخل دولة ديمقراطية ما كأشخاص أحرار ومتساوين» ‪.‬‬
‫‪6‬‬

‫حققت التعدُّ دية الليربالية رضب ًا من اإلنصاف ‪ -‬الذي خيتلف جوهري ًا عن العدالة رغم تناسله منها‪ -‬وسنبني ذلك‪َّ :‬ملا كانت العدالة‬
‫قيمة مطلقة ومفهوم ًا كُل َّي ًا غائ ًام وفضفاض ًا‪ ،‬فهي ُّ‬
‫تظل إىل األبد غري قابلة للتحقق‪ ،‬ور َّبام حتيلنا تطبيقاهتا املعيارية إىل السجل الديني‪،‬‬
‫ألنا شأن إهلي بامتياز‪ .‬وربام ندرك اآلن‬
‫بأن «العدالة املطلقة» غري ممكنة عىل األرض‪ ،‬بل ستكون يف السامء‪َّ ،‬‬ ‫كل األديان َّ‬ ‫تبشنا ُّ‬
‫حيث ِّ‬
‫تتجسد إال‬
‫َّ‬ ‫ملاذا ظلت العدالة عىل َم ِّر تاريخ اإلنسانية يف عداد ا ُملثل املنشودة عىل غرار احلر َّية والسعادة واملساواة‪ ...،‬إلخ‪ ،‬ومل يسعها أن‬
‫يف اليوتوبيات الشهرية‪ :‬املدن الفاضلة (أفالطون‪ ،‬الفارايب) واملجتمع الشيوعي املنشود (ماركس‪ ،‬لينني)‪ .‬وتلكم هي أقىص ما حققته‬
‫املخيلة البرشية‪ ،‬وهي ُت ِّول حلم العدالة املطلقة من السجل املاورائي إىل السجل األريض‪.‬‬

‫تتجسد‬
‫َّ‬ ‫أن هناك جزء ًا من اإلنسانية أدرك أخري ًا استحالة املواصلة يف التضليل بعدالة معيارية ال يمكنها أن‬ ‫ألمر كهذا‪ ،‬نعتقد َّ‬
‫ظل االختالفات املعطاة‪ ،‬والتي ليست فقط من طبيعة طبقية‪ ،‬بل أيض ًا ثقافية وحضارية ورمزية‪ .‬هلذا متكَّنت من اخرتاع فكرة‬ ‫يف ِّ‬
‫«اإلنصاف» (‪ 7)Equité‬الذي يعني يف مضامر التعدُّ د َّية السياسية متكني الطبقات األقل حظ ًا يف املجتمع الليربايل من متثيلية «مرشفة»‬
‫عرف «بالتمثيل النسبي»‪ .‬ويعني يف مضامر التعدُّ د َّية الثقافية االعرتاف باالختالفات اهلوو َّية وتأمينها‬
‫يف مؤسسات الدولة‪ ،‬وهو ما ُي َ‬
‫يتصل األمر بالشأن‬ ‫ُّ‬ ‫لكل مجاعة‪ ،‬مع السعي إىل االندماج والفاعلية داخل الفضاء املواطني املشرتك‪ ،‬عندما‬ ‫داخل األفضية اخلاصة ِّ‬
‫العام‪.‬‬

‫ألن البرش حسب رولز ليسوا مسؤولني عن‬ ‫كل أشكال التفاوت بني البرش‪ ،‬بل التخفيف منها‪َّ ،‬‬ ‫ال يدَّ عي براديغم اإلنصاف القضاء عىل ِّ‬
‫وضعية التفاوت الطبقي واالختالف الرمزي والثقايف التي جيدون أنفسهم عليها‪ ،‬لكن يف املقابل عليهم َّأل يستسلموا هلذه القدرية‪ ،‬وأن‬
‫يعملوا مع ًا ضمن جمتمع املواطنني األحرار عىل حلحلة هذه األقدار وتغيري املواقع الطبقية يف إطار ما توفره مبادئ العدالة كإنصاف من‬
‫فرص للمنافسة بينهم من أجل تنمية حقوقهم يف «احلياة الطيبة»‪.8‬‬

‫‪6 . John Rawls,«Les libertés de base et leur priorité», in André Berten, Pablo Da Silveira et Hervé Pourtois, Libéraux et communautariens,‬‬
‫‪Paris, PUF1997, p. 185.‬‬
‫‪7 . Rawls,«La structure de base comme objet», in Justice et démocratie, Trad .fr. Catherine Audard, Paris, Seuil 1993, p.37- 38.‬‬
‫‪8 . Rawls,» La structure de base comme objet «, in Justice et démocratie, op.cit., p. 52.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪184‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫مفارقات التعدّ د َّية الليربال َّية‪ :‬أو كيف يكون التعايش ممكن ًا يف وضعيات التفاوت؟‬

‫التعدد َّية الليبرال َّية من المنظور الجماعتي‬


‫ُّ‬ ‫‪ -‬حدود‬
‫النسبوية الفردية وهناية املشرتكات اجلامعية‬
‫تعرضت أطروحته إىل نقد‬ ‫رغم وجاهة املخارج التي اقرتحها جون رولز إلنقاذ الليربالية الكالسيكية من مآزقها التي تر َّدت فيها‪َّ ،‬‬
‫رهط جديد من الفالسفة ُعرفوا لدى خصومهم باجلامعتيني (‪ ، )Communautariens‬ومن أبرزهم تشارلز تايلور ومايكل ساندال‬
‫كل هؤالء إىل املدرسة األنغلوسكسونية‪ .‬تتحدَّ د مظاهر اخلصومة بني الفريقني يف اعتبار ّأيام األسبق‬ ‫ومايكل فالزر وماك أنتاير‪ ،‬وينتمي ُّ‬
‫يف الوجود االجتامعي‪ :‬الفرد أم املجتمع؟ فإذا أجبنا‪ :‬الفرد واعتربناه‪ ،‬كام يقول رولز‪« ،‬سابق ًا لك ُِّل غاية»‪ ،9‬فنحن رولز ُّيون أو «نيو‪-‬‬
‫ليربال ُّيون»‪ .‬وإذا ما اخرتنا أولوية اجلامعة واعتربنا «املدينة سابقة عىل الفرد»‪ 10‬فنحن أرسط ُّيون جدد‪ ،‬أي إنَّنا مجاعت ُّيون بالرضورة‪.‬‬

‫تتمحور املطارحات النظرية يف العامل األنغلوسكسوين حول طريقة متثل الفرد يف املجتمعات الليربالية‪ ،‬فالليرباليون اجلدد يؤكِّدون‬
‫عىل مبدأ احلريات الفردية وحيادية املؤسسات‪ ،‬وال س َّيام مؤسسة الدولة‪ ،‬عن التدخل يف حتديد نموذج «احلياة الطيبة» كام يرتئيها ُّ‬
‫كل فرد‬
‫ألنا قد تتصادم مع قيم املواطنة‬
‫لنفسه‪ .‬وبناء عليه ال يعريون أمهية لالنتامءات االجتامعية والدينية والثقافية واللغوية املحددة هلو َّية الفرد‪َّ ،‬‬
‫واملجتمع املدين القائمة أساس ًا عىل احليادية والصورية واإلجرائية والربغامتية‪.‬‬

‫أن اإلقرار هبذه االنتامءات هو رشط رضوري من شأنه أن يو ِّطن احلريات الفردية داخل أفق الدالالت‬ ‫أ َّما اجلامعت ُّيون فيعتربون َّ‬
‫فالتصورات الفردية للخري مطالبة بأن‬
‫ُّ‬ ‫املشرتكة‪ ،‬بحيث لن ترتد إىل رضب من النسبوية والتقوقع حول مفهوم أحادي وفردي للخري‪،‬‬
‫التصور اجلامعي وتتامهى به‪ ،‬واجلزء مطالب بأن يتناغم مع الكل‪ ،‬وهذا هو رشط استقرار احلياة السياسية اجلامعية‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫تنحو صوب‬

‫أن التعدُّ دية الرولزية ُبنيت عىل مبدأ إطالق احلريات الفردية وحتريرها من ِّ‬
‫كل تبعية للوالءات اجلامعية‪ ،‬وهو ما من‬ ‫يعترب اجلامعت ُّيون َّ‬
‫توحد املواطنني حول مشرتكات‬‫كل فرد مقياس ذاته‪ ،‬وبالتايل ال يتقاطع األفراد حول دالالت مشرتكة من شأهنا أن ِّ‬ ‫شأنه أن جيعل من ِّ‬
‫مجاعية‪ .‬وبالنتيجة تزدهر «النسبوية الناعمة» (‪.11)Relativisme doux‬‬

‫كل األفراد‪ ،‬بموجب احرتام احلق يف االختالف وتعزيز جمال احلقوق الفردية واستقاللية اإلرادة‪ ،‬غري‬ ‫أن َّ‬
‫تفيد «النسبوية الناعمة» َّ‬
‫ملزمني أو مكرهني عىل االعتقاد يف ثقافة «احلس املشرتك»‪ ،‬أو حتى إظهار االنتامء إىل الثقافة اجلامعية‪ ،‬بام يف ذلك األخالقيات العامة أو‬
‫املعتقدات الدينية والتقليدية للمجتمع‪.‬‬

‫يف املجتمعات التعدُّ د َّية يتخىل املجتمع عن دوره األبوي باعتباره مصدر هو َّية األفراد‪ ،‬بحيث يمنحهم منسوب ًا عالي ًا من احلر َّيات يصل إىل‬
‫سمى‬ ‫التمش ضمن صريورة حترر َّية طويلة‪ ،‬تعترب َّ‬
‫أن ما ُي َّ‬ ‫ِّ‬ ‫كل فرد مسؤولية نحت هويته الفرد َّية بمقدراته الذات َّية‪ .‬يندرج هذا‬ ‫درجة حتميل ِّ‬
‫بوالء األفراد لألطر املرجعية الكربى (املجتمع‪ ،‬التاريخ‪ ،‬األلوهية‪ ،‬الدولة) هي تعبريات سلطة ختفي يف طياهتا إرادة قوة مس َّلطة باإلكراه‬
‫لتحرر األفراد‪ ،‬وهي األطروحة التي كان قد صاغها نيتشه‪ ،‬ثم أفاض يف بياهنا النيتشيون اجلدد (فوكو‪ -‬دلوز‪ -‬دريدا)‪.‬‬ ‫عىل املجتمع ومعيقة ُّ‬

‫مل يعد غريب ًا يف املجتمعات التعدُّ د َّية أن َّ‬


‫يتحرر األفراد من والءاهتم للمجتمع وللدولة األبوية وللمعتقدات الدينية‪ ،‬لكوهنا تعبريات‬
‫تس ُّلطية مارست عليهم عنف ًا مادي ًا ورمزي ًا أعاق طوي ً‬
‫ال عقوهلم وأجسادهم‪ ،‬لك َّن اخلطورة تكمن هنا يف تش ِّظي احلقائق وتكثرها بحسب‬

‫‪9 . Rawls, Théorie de Justice, tr, Catherine Audard, Paris, Seuil, 1987, p.560.‬‬
‫‪ 10. Aristote, Politique, 1253 à 18.‬‬
‫‪11 . Charles Taylor, Malaise de la modernité, Edition du Cerf, Paris1994, p. 46.‬‬

‫‪185‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫مصطفى بن متسك‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫كل فرد‪ ،‬وهو ما يذكِّرنا باملشهد اليوناين حني كان السفسطائي بروتاغوراس يتباهى بذاتية احلقيقة وارتباطها بقائلها‪ ،‬وبعدم قدرة‬ ‫ِّ‬
‫كل احلقائق متساوية يف الصالحية والوجود‪ .‬يف حني‬ ‫أن َّ‬
‫اآلخر صاحب احلقيقة الذاتية املغايرة بدوره عىل دحضها أو نفيها‪ ،‬باعتبار َّ‬
‫كان أفالطون وأرسطو ينافحان عن الوجود «املوضوعي» للحقيقة‪ ،‬سواء أكانت جاهزة ومتعالية ومثالية (أفالطون) أو تأليفية ولسانية‬
‫ومفهومية (أرسطو)‪ .‬ويف كلتا احلالتني ال ُبدَّ من اإلقرار بوجود «موضوعي» للحقائق باعتبارها كُل َّيات إنشائية باملنطوق األرسطي‪،‬‬
‫تيس التواصل اللغوي واللساين وأيض ًا ُتكِّن من تأسيس املعرفة باألشياء السائلة واملتكثرة والعرضية‪ .‬ويفيدنا الدرس اإلغريقي الذي‬ ‫ِّ‬
‫كل فرد‪ ،‬إنَّام ُيع ِّطل قيام معرفة مشرتكة وموضوعية بالعامل‪،‬‬ ‫أن تك ُّثر احلقائق بحسب إرادة ِّ‬
‫تستعيده الذاتية الليربالية اليوم بشكل آخر‪َّ ،‬‬
‫كل فرد يف «عتامت قلبه اخلاص» كام يقول توكفيل‪ ،‬ال س َّيام بعد أن فقد َّ‬
‫كل السندات اهلوو َّية‬ ‫كام يع ِّطل التواصل بشأنه‪ ،‬والنتيجة أن يتيه ُّ‬
‫احلاضنة‪.‬‬

‫لك َّن التداعيات اخلطرية ال تقف عند حدود العطالة املعرفية والتواصلية والتيه الفردي يف عامل أصبح «مرعب ًا» من شدَّ ة انفتاحه عىل‬
‫الال‪-‬متناهي كام وصفه باسكال منذ القرن السابع عرش‪ ،‬بل نراها متتدُّ إىل سيكولوجيا األفراد «األحرار»‪ ،‬هؤالء الذين ُت ُّوهلم «احلرية‬
‫السلبية» (إسحق برلني) إىل جمرد «زبائن» للدولة ومؤسساهتا (هابرماس)‪ ،‬يدفعون الرضائب و ُيدْ َعون إىل االقرتاع‪ ،‬ويف املقابل حيصلون‬
‫عىل بعض املغانم‪ ،‬ويتعاطون مع ِّ‬
‫الكل تعاطي ًا أداتي ًا ونفعي ًا رصف ًا‪ .‬وإذ يكتفون هبذه األدوار يكون يف وسع احلكومات أن تنفرد بمراكز‬
‫اهلوة اتساع ًا عندما يصاب املواطنون‬‫السلطة والقرار وتضعها حتت ترصف النخب التكنوقراطية املعزولة عن مشاغل الشعب‪ .‬وتزداد َّ‬
‫اخلاصة‪ ،‬حيث ينغمسون يف إشباع الرغبات‬ ‫َّ‬ ‫بخيبة أمل يف سياس ِّييهم وقادهتم‪ ،‬فينسحبون أفراد ًا ومجاعات من الشأن العام إىل األفضية‬
‫فيضمر اإلحساس بالوطنية‬ ‫ُ‬ ‫االستهالكية واأليروسية (ماركيوز)‪ .‬ومن شأن مثل هذا الوضع أن ُيفقد الدولة والوطن والءات املواطنني‪،‬‬
‫واالنتامء‪ ،‬و ُيستعاض عن املواطنني باملرتزقة حني يتعلق األمر بالدفاع عن مناعة الوطن ضدَّ األعداء (تايلور‪ ،‬ماك أنتاير)‪ .‬وهو‪ ،‬لعمري‪،‬‬
‫أخطر ما تؤول إليه «ديمقراطيات النخب» احلاكمة‪.‬‬

‫ـ نزوع التعدد َّية إلى الواحد َّية والنمذجة‬


‫التحرر االجتامعي والسيايس والثقايف‪ ،‬بقدر‬
‫ُّ‬ ‫بقدر ما تكون فكرة التعدُّ د والتعدد َّية جذابة عىل املستوى النظري‪ ،‬وعالمة من عالمات‬
‫ما تكون عىل صعيد التطبيق غري قابلة للسيطرة واإلخضاع‪ .‬فالترشيعات القانونية واملناهج العلمية والعلوم السياسية وعلوم اإلحصاء‬
‫وغريها إنَّام تشتغل بطريقة النمذجة العلمية والصورية للوقائع‪ ،‬وتقوم هذه اإلجرائية عىل اختزال الكثرة الظواهرية يف نموذج أو نامذج‬
‫اختصارية وتقريبية من شأهنا أن ختتزل «السيالن األبدي» للظواهر يف بعض املعادالت الرياضية البسيطة (وهو ما أنجزه عىل سبيل املثال‬
‫وحد قوانني األرض والسامء‪ ،‬أو ريامن ولوباتشفسكي يف جمال اهلندسة اخليالية‪ ...،‬إلخ)‪ .‬ظلت‬ ‫نيوتن يف جمال الفيزياء الرياضية حني َّ‬
‫مقضة للمعرفة وغري قابلة للتواصل‪ ،‬وحتتاج إىل ترويض واستنباط عقليني‪.‬‬ ‫الكثرة والتعدُّ د منذ اخلصومة السفسطائية‪-‬األفالطونية َّ‬
‫ال يف الوقت نفسه إىل االختزال الذي سيمنح العقل االستنباطي سلطة غري‬ ‫فكانت حيلة اخرتاع الكُل َّيات مع أرسطو خمرج ًا ومدخ ً‬
‫فاألول هو الذات احلديثة املتحررة‬
‫َّ‬ ‫حمدودة عىل الوقائع‪ .‬هذه السلطة سيرتمجها كانط يف القرن الثامن عرش يف جماز القايض والتلميذ‪،‬‬
‫لتوها والتي باتت يف موقع «القايض» الذي يطرح السؤال عىل الطبيعة ويرغمها عىل اإلجابة عن أسئلته‪ ،‬والثاين الطبيعة وقد باتت يف‬ ‫ِّ‬
‫ً‪12‬‬
‫منزلة «التلميذ» الذي يستجيب إلرادة املعلم‪ ،‬فيتق َّبل منه املعرفة تق ُّب ً‬
‫ال سلبيا ‪.‬‬

‫‪  12‬ـ يقول كانط‪ « :‬ينبغي أن يتقدَّم العقل إىل الطبيعة‪ ،‬ماسكاً بيد مبادئه التي تستطيع هي وحدها أن متنح الظواهر املتطابقة سلطة القوانني‪ ،‬وباليد األخرى‬
‫كل ما يحلو له قوله‪ ،‬بل عىل العكس من ذلك كالقايض‬
‫التجريب الذي تخيله وفق تلك املبادئ‪ ،‬حتى يتعلم من الطبيعة ال محالة‪ ،‬لكن ال كتلميذ يدع املعلم يقول َّ‬
‫عم يُطرح عليهم من األسئلة»‪.‬‬
‫يجلس للقضاء‪ ،‬فيحمل الشهود عىل اإلجابة َّ‬
‫‪Kant, Critique de la Raison Pure, Paris, PUF, 1968, pp.17- 78‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪186‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫مفارقات التعدّ د َّية الليربال َّية‪ :‬أو كيف يكون التعايش ممكن ًا يف وضعيات التفاوت؟‬

‫إن رهان التعددية هو إلغاء األصول واملركزيات‬ ‫‪ -‬مغالطات التجانس السياسي والطبقي‬
‫املاورائية للسلطة الوضعية وتوزيعها عىل‬ ‫رغم املغانم التي ح َّققها منهج االختزال والتوحيد يف جمال‬

‫خمتلف اهليئات املدنية بالتساوي وبالتداول‬ ‫العلوم الرياضية والتجريبية‪ ،‬إال أنَّه مل يكن جمدي ًا حيال ُّ‬
‫تنوع‬
‫الظواهر اإلنسانية واختالفها املذهل‪.‬‬
‫يف مسعى لتأمني سيولة احلريات الفردية من‬
‫خالل إرساء إتيقا تفاوضية وحوارية لطرائق‬ ‫التعسفي يف تطبيقاهتا االجتامعية‬
‫ُّ‬ ‫انتهت رهانات التوحيد‬
‫مستحدثة للعيش املشرتك‬ ‫والسياسية واالقتصادية والثقافية إىل الدخول يف تناقض داخيل مع‬
‫بشت هبا الربجوازية الصاعدة يف بداياهتا‪.‬‬‫الرهانات التعدُّ د َّية كام َّ‬
‫إذ كيف يمكن التوفيق من جهة بني مطلب «اخلضوع املتد ّبر» والعقالين لسلطة قوانني ومؤسسات صورية تزعم التعاطي مع رعاياها‬
‫بمطلق املساواة التي يضمنها الدستور‪ ،‬ومن جهة أخرى َت ُّمل أعباء التفاوت الطبقي‪ ،‬أي الالمساواة االقتصادية وقبوهلا باعتبارها «قدر ًا‬
‫كتب حتت ستار جهلنا به» ويف غفلة منَّا (وفق نظرية ستار اجلهل الرولزية)‪ ،‬أي قبل أن نوجد يف هذا العامل؟ بعبارة أخرى‪ :‬كيف تتالزم‬
‫ربر املساواة والال مساواة مع ًا؟‬
‫أي دستور بإمكانه أن ي ِّ‬
‫املساواة السياسية والالمساواة االقتصادية؟ ّ‬

‫ي ُّل هذا التناقض إال إذا أزحنا َو ْه َم «املساواة السياسية» التي تزعمها الليربالية لتخفي من ورائها تفاوتات اقتصادية وطبقية مذهلة‪.‬‬
‫ال ُ َ‬
‫كل فئات املجتمع‪ ،‬بل نخبه‪.‬‬‫أن دستور الدولة الليربالية ومؤسساهتا ال يمثل َّ‬ ‫ويف هذه احلالة علينا أن نقبل َّ‬

‫إن مضامني هذا الدستور الذي يدَّ عي ضامن «املساواة» إنَّام يعكس باألساس مصالح النخب املالية والتكنوقراطية والسياسية التي‬ ‫َّ‬
‫صنعته عىل قياسها‪ .‬ولنفرتض وجود هذا الدستور املزعوم‪ ،‬لسائل أن يسأل متى اتفقت اجلامعات الكربى واملوسعة (ال أقصد اجلامعات‬
‫أو األحزاب السياسية الضيقة التي تزعم بدورها َّأنا متثل املجتمع ككل) عىل صياغة دستور يستجيب بالفعل لتنوع كياناهتا وتقاليدها‪،‬‬
‫وال يرغمها عىل اخلضوع القرسي لسلطة األغلبية املزعومة؟ هل يكون هذا االتفاق افرتاضي ًا فحسب عىل شاكلة العقد االجتامعي‬
‫أي مدى‬ ‫املتخ َّيل؟ أليست االفرتاضات شك ً‬
‫ال من أشكال التربير اإليديولوجي‪ ،‬ال س َّيام عندما يتعلق األمر باخليارات السياسية؟ وإىل ِّ‬
‫ُرسخ قواعد اللعبة الديمقراطية عىل خلفية بعض االفرتاضات اخليالية من قبيل «العقد االجتامعي» و«الوضعية البدئية»‬ ‫يصح أن ن ِّ‬
‫ُّ‬
‫و«ستار اجلهل»؟‬

‫ُرشع هلا األنظمة الديمقراطية تبدو غري ممكنة عملي ًا النخرام التوازن االقتصادي بني األفراد واجلامعات‪ .‬إذ كيف‬ ‫إن التعدُّ دية التي ت ِّ‬ ‫َّ‬
‫واملهمشني أن ينخرطوا‬
‫ّ‬ ‫يمكن أن تنجح التعدُّ د َّية الديمقراطية يف إطار من التفاوتات االقتصادية الصارخة؟ وهل بإمكان اجلائعني والعراة‬
‫يف لعبة التعدُّ د َّية الليربال َّية؟ أمل ْ يعد العمل السيايس وقف ًا عىل تقنيي املال والسياسة؟‬

‫أن التعدُّ د َّية الليربالية العاجزة بنيوي ًا عن حمو الفوارق االقتصادية بشكل جذري‪ ،‬إنَّام متارس تعدُّ د َّية ألواهنا‪ ،‬وتصنع من‬
‫يبدو إذن َّ‬
‫تنوع ًا‪ ،‬تومهنا بأنَّه تناقض واختالف‪ ،‬يف حني تعمل باسم حق «االختالف» نفسه عىل طمس التعدُّ د َّيات احلقيقية التي‬ ‫تناقضاهتا الداخلية ُّ‬
‫املكونة للنسيج االجتامعي‪ ،‬بل أيض ًا ُت ِّرر العملية‬
‫املرتسب يف أعامق اجلامعات ِّ‬
‫ِّ‬ ‫من شأهنا ليس فقط أن تفتح آفاقنا عىل الزخم التكويني‬
‫اإلنتاجية واالستهالكية من هشاشتهام ومتنحهام آفاق ًا أرحب‪.‬‬

‫جسدته حركة التوحيد الكربى ملختلف فروع العلوم املتنافرة فيام مىض‪ ،‬وال س َّيام العلوم الرياضية‬ ‫من الواضح َّ‬
‫أن الفتح العلمي الذي َّ‬
‫والتجريبية‪ ،‬والذي نتج عنه توحيد املادة األرضية باملادة الساموية‪ ،‬وجتاوز نظرية االنشطار األرسطي إىل عاملني متفاضلني بالقيمة‬
‫غي جذري ًا رؤية اإلنسان احلديث لنفسه وللكون‪ .‬فالثنائيات املتفاضلة واجلامدة يف سالمل قيمية وأنطولوجية ثابتة ُر َّدت‬ ‫وباملاهية‪ ،‬قد َّ‬

‫‪187‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫مصطفى بن متسك‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫بفضل بعض املهارات االختزالية املنطقية إىل العلم ليقوهلا بلغته الرمزية يف بعض السالسل الرياضية‪ ،‬واقتحمت بالتايل جمال البداهة‬
‫والوضوح الذهنيني‪ .‬استهدفت هذه احلركة التوحيدية واالختزالية للبنية التكوينية للكون حتييد الطبيعة عن مشاعر اإلنسان وصفاته‬
‫جمرد مادة ممتدَّ ة‪ ،‬عاطلة‬
‫(نقد النزعة األنثروبومورفية)‪ ،‬وبالتايل تربير سلطانه املرتقب عليها‪ ،‬لكوهنا مل تعد مستودع أرساره ومشاعره‪ ،‬بل َّ‬
‫ودون أعامق‪ ،‬أي أصبحت موضوع ًا لالستثامر والتأليه وحسب‪.‬‬

‫رهان التوحيد والتحييد الطبيعيني هذا توحيدات وحتييدات أخرى يف املستويات السياسية واالجتامعية واألخالقية‬
‫َ‬ ‫سيرتتَّب عن‬
‫عب عنه بالدعوة إىل جتاوز مجيع أشكال الوالءات ما قبل املدنية‪ ،‬والدخول يف منظومة املواطنة‬
‫واالقتصادية‪ :‬فالتوحيد يف املستوى األول َّ‬
‫تتوحد حتت رايتها العالقات الدموية والعرقية والدينية‪ .‬وهنا سيضطلع التوحيد بدور التحييد‪ ،‬بمعنى َّ‬
‫أن العالقات الدموية لن‬ ‫التي َّ‬
‫تتدخل من هنا فصاعد ًا يف فضاء املواطنة‪.‬‬

‫أ َّما يف املستوى الثاين فالتوحيد يتمثل يف الدعوات الليربالية إىل التخيل عن «حرب املعاين» ورصاع اإليديولوجيات لفسح املجال‬
‫إليديولوجيا أحادية من شأهنا أن تقود املجتمع إىل التجانس «املعايش» واألخالقي الذي «ستقفل» به الليربالية الغربية واألمريكية‬
‫التاريخ حسب زعم فرانسيس فوكوياما‪.13‬‬

‫أ َّما التحييد فقد حتقق بالفعل عىل أرض الواقع من خالل نظرية «حيادية الدولة» عن التدخل يف االختيارات الفردية لنمط احلياة‬
‫اجليدة‪ .‬يتمثل التوحيد والتحييد يف املستوى االقتصادي أخري ًا يف املركزة العالية والقطبية والتكتل التي شهدهتا حرك َّية األموال واألرباح‬
‫إن نتيجة ر ِّد ك ُِّل العقول واملعقوالت إىل العقل احلسايب وإلغاء ما عداه‪ ،‬هو مركزة املال والنفوذ بيد النخبة املالية والتكنوقراطية‪.‬‬
‫واملصالح‪َّ .‬‬

‫تعمل هذه النخب عىل صبغ ألوان املجتمع الذي تديره بلوهنا األحادي الذي ِّ‬
‫تلخصه ثنائية اإلنتاج واالستهالك‪ ،‬كام ال تفتأ يف التبشري‬
‫تفرده‬
‫حل بحلول قيم جمتمع العمل واالستهالك‪ .‬يف هذا املستوى حقق العقل الذاتوي ُّ‬ ‫بأن عهد السعادة اجلامعية والرفاهية الدائمة قد َّ‬
‫َّ‬
‫ثمة إلغاء الرتاتب‬‫بتعميم االقتصادي – كنشاط ‪ -‬عىل مجيع الطبقات ووقف السيايس ـ كنشاط ‪ -‬عىل النخب التقنية والقانونية‪ .‬ومن َّ‬
‫القديم بني حياة العمل وحياة الدير والتأ ُّمل‪.‬‬

‫ظل احتكار آليات احلكم ومركزة‬ ‫جتانست الطبقات االجتامعية يف احلياة االقتصادية‪ ،‬ومل تتجانس يف مستوى احلياة السياسية‪ ،‬بل َّ‬
‫دواليبه يف األنظمة الديمقراطية كام يف األنظمة االستبدادية واقعة مل تتغري إال أشكاهلا‪ .‬وقد أطلق علامء االجتامع السيايس عىل هذه‬
‫أن أسباب الرفاهية املادية مل تعد حكر ًا عىل الطبقات األرستقراطية البائدة‪ ،‬بل‬
‫الظاهرة اصطالح «املثلنة» االستهالكية‪ .‬ويعني هذا َّ‬
‫كل واحد‪ ،‬وأن يسعى بمفرده ويبتكر‬ ‫أضحت إمكانات متوفرة للجميع دون متييز طبقي أو عرقي أو ديني أو عنرصي‪ ،‬رشيطة أن يعمل ُّ‬
‫احللول التي متكنه من استجالب هذه الرفاهية‪.‬‬

‫أن الشكل «الكتلوي» (‪ )Massive‬للتعايش االجتامعي يف ظاهره عنوان الوحدة والتامسك االجتامعيني بامتياز‪ .‬لك َّن الغريب‬ ‫يبدو إذن َّ‬
‫ُفس هذه املفارقة؟‬
‫أن شكل الرفاهية الكتلوي هذا خيفي يف مضامينه الواقعية نزعة فردانية موغلة يف فردانيتها‪ :‬كيف ن ِّ‬‫َّ‬

‫ترضب هذه املفارقة بجذورها يف عمق الفلسفة الليربالية‪ ،‬وبالتحديد يف متثلها لصورة الفرد وملختلف ارتباطاته باجلسم االجتامعي‬
‫والتارخيي والسيايس‪ .‬ال تكمن هذه املفارقة البنيوية كام يذهب إىل ذلك التحليل املاركيس يف التناقض املميت بني الطابع الفردي‬

‫‪`histoire et le dernier homme, Flammarion, Paris, 1992.‬ـ‪13 . Fukuyama, Francis, La fin de l‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪188‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫مفارقات التعدّ د َّية الليربال َّية‪ :‬أو كيف يكون التعايش ممكن ًا يف وضعيات التفاوت؟‬

‫مل يعد غريبا يف املجتمعات التعددية أن يتحرر‬ ‫للملكية والطابع االجتامعي لإلنتاج ـ وإن كان هذا العامل حاس ًام‬
‫األفراد من والءاهتم للمجتمع وللدولة األبوية‬ ‫يف مستوى التشخيص االقتصادي‪ ،‬بل وبشكل أكثر عمومية يف‬
‫نكران التعدُّ د َّية الطبيعية ‪ -‬التكوينية للحياة‪ ،‬والتعاطي معها‬
‫وللمعتقدات الدينية‪ ،‬لكوهنا تعبريات تسلطية‬
‫بشكل انتقائي ونفعي وفردي‪.‬‬
‫مارست عليهم عنف ًا مادي ًا ورمزي ًا أعاق طوي ً‬
‫ال‬
‫عقوهلم وأجسادهم‪ ،‬لكن اخلطورة تكمن هنا‬ ‫تعاين الفلسفة الليربالية من أزمة بنيوية عميقة‪ ،‬تتصل ليس‬
‫يف تشظي احلقائق وتكثرها بحسب كل فرد‬ ‫فقط باجلوانب االقتصادية والسياسية‪ ،‬بل ترضب بجذورها يف‬
‫االختيارات األنطولوجية‪ .‬لكن ألسنا هنا عىل شفري تناقض غري‬
‫مترد ًا عىل ك ُِّل األنطولوجيات اجلاهزة‪ ،‬تلك التي تُفرض عىل املجتمعات‬ ‫مستساغ بني «الليربالية» «واألنطولوجيا»؟ أليست الليربالية ُّ‬
‫بوصفها رؤية ثابتة ويف بعض األحيان مقدَّ سة للعامل؟ بىل‪ ،‬قد يكون هذا التسويغ يف عدم رشعية الوصل بني هاتني الرؤيتني للعامل وجيه ًا‬
‫أن الليربالية تستبطن بوعي أو بغري وعي تصور ًا أنطولوجي ًا وضعي ًا‬
‫من منظور وضعي رصف‪ ،‬لكنَّه قد حيظى بمعقولية معينة حني نعلم َّ‬
‫متعال وغري ملزم لإلنسان الوضعي‪ .‬لك َّن مفكرهيا خيشون اخلوض جمدد ًا يف هذه األرضية‪ ،‬ويفضلون «تعليق احلكم» حول‬ ‫ٍ‬ ‫بمعنى غري‬
‫هذا املبحث املوغل يف امليتافيزيقا‪.‬‬

‫أن الروح الوضعية هي التي تتحكم يف مناهج البحث الليربايل‪ ،‬وهي التي ُتدِّ د جماالت االهتامم يف عالقاهتا بام هو قابل‬ ‫وعليه ندرك َّ‬
‫وحمل خالف دائم‪ ،‬فهي لن جتد‬ ‫أن مباحث األنطولوجيا وامليتافيزيقا أضحت موضوعات كيفية ومتعالية َّ‬ ‫للتقول والتعبري والتكميم‪ .‬وبام َّ‬
‫ُّ‬
‫هلا موطأ قدم يف الرصح الفكري الليربايل‪.‬‬

‫هلذا ال جيد جون رولز حرج ًا يف االشتغال عىل مصادرات جاهزة من قبيل «ستار اجلهل» (‪ )Voile d`ignorance‬و«الوضعية البدئية»‬
‫(‪ )Position originelle‬و«العقد االجتامعي»‪ ،14‬من أجل تسويغ وضعيات التفاوت التي ُرسمت لنا يف العامل «الالمرئي»‪.‬‬

‫‪ -‬طغيان النزعة «الصور ّية»‬


‫تويل «النزعة الصور ّية» املط َّبقة سواء يف جمال املعرفة أو اإلتيقا أو فقه القضاء َّ‬
‫كل األمه َّية للقواعد العا َّمة وللمعايري وللقوانني التي‬
‫متتص أكثر ما يمكن من احلاالت القابلة ألن تكون حتت طائلة هذه القاعدة أو ذلك القانون أو ذلك املعيار‪ .‬وتبع ًا لذلك ال‬ ‫بإمكاهنا أن َّ‬
‫ألنا تقوم عىل الكُل َّية والشمولية‪.‬‬
‫كل حالة عىل حدة‪َّ ،‬‬ ‫هتتم بمضمون ِّ‬‫ُّ‬

‫التنوع والتعدُّ د وتنترص للشكالنية دون املضمون‪ .‬تنتهي النزعة‬


‫تطمس هذه الطريقة االستداللية القائمة عىل العمومية والتجريد ُّ‬
‫املفرطة يف«النزعة الصورية» إىل تكريس املثلنة‪ ،‬وال س َّيام يف املجال اإلتيقي واالقتصادي والسيايس‪.‬‬

‫أسسها ديكارت‪ ،‬تقوم أساس ًا عىل العناية‬


‫«النزعة الصورية»(‪ )Procéduralisme‬بالتعريف هي طريقة استدالل عقلية رصف‪َّ ،‬‬
‫‪15‬‬

‫بطريقة التفكري وشكله بقطع النظر عن مضامينه‪.‬‬

‫‪14 -John Rawls, La structure de base comme objet «, in Justice et démocratie, o.cit. p. 55 et J. 18. Rawls, Théorie de la justice, Trad .fr.‬‬
‫‪Catherine Audard, Paris, Seuil, 1987, p. 38.‬‬
‫‪15 . Charles Taylor, Les Sources du moi, la formation de l›identité moderne, par Charlotte Melançon, Paris, Seuil1998 .p.121.‬‬

‫‪189‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫مصطفى بن متسك‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ُيعترب الرباديغم الترشيعي األخالقي الكانطي املثال الذي استوحت منه الليربالية املعارصة والس َّيام هابرماس ورولز طرائقهام الصور َّية‪.‬‬
‫املرشع‬
‫مهمة ِّ‬
‫احلل األمثل حلرب املعاين التي كانت تغذهيا أخالقيات السعادة املتناحرة‪ ،‬بحيث مل تعد َّ‬ ‫لقد مثلت القواعد الرشطية والكُل َّية َّ‬
‫حتديد نمط أخالقي مجاعي ملزم للسعادة كام كان يفعل من قبل‪ ،‬بل اقترص دوره عىل وضع ترشيعات وقواعد عا َّمة تتعاىل عىل الزمان‬
‫ال غري ملزم للعمل‪ .‬وبقدر ما اقرتبت من النمط الترشيعي احلقوقي‬ ‫واملكان وعىل امليوالت الفردية الظرفية‪ .‬باتت األخالق املعارصة دلي ً‬
‫وعاضدته‪ ،‬بقدر ما تناءت عن أسلوب الترشيع الديني والفلسفي املوسوم بالنسقية واإللزامية‪ ،‬والذي منه استقت األنظمة األوتوقراطية‬
‫والكليانية إيديولوجياهتا اهليمنية‪.‬‬

‫أن الطريقة التي تعمل وفقها النزعة الصور َّية السياسية واإلتيقية بمنحها اإلجراء سلطة القانون الكيل الذي ختضع حتت‬ ‫من الواضح َّ‬
‫كل األوضاع‪ ،‬هي ذاهتا الطريقة املتوخاة يف خمتلف العقالنيات التجريبية والرياضية‪ .‬وتُعرف هذه الطريقة‬ ‫كل اجلزئيات ويف ِّ‬‫طائلته ُّ‬
‫بـ«األكسمة»‪ .‬وهي تفيد هنا منح بعض البدهيات واملصادرات الرياضية املتفق عليها دون حجاج سلطة منهجية عىل خمتلف مراحل‬
‫أن العلوم السياسية واإلتيقية مل تفلت بدورها من تأثريات العلوم الطبيعية‪ ،‬وال س َّيام يف‬ ‫التميش احلجاجي‪ .‬يكشف هذا كام ب َّينا سابق ًا َّ‬
‫فإن اإلجرائيات اإلبستمولوجية املتوخاة يف العلوم الطبيعية وأعني هبا‪ :‬التعميم َّية‬ ‫مستوى اإلجرائيات اإلبستمولوجية‪ .‬وكام نالحظ َّ‬
‫واالختزال َّية والنزعة الصور َّية واألكسيوم َّية‪ ،‬هي بذاهتا املط َّبقة عىل العلوم السياس َّية‪ ،‬وخاصة األنغلوسكسون َّية (حالة الواليات املتحدة‬
‫وكندا)‪ ،‬حيث هتيمن املدارس الوظيفية والسلوكية واإلحصائية والتحليلية عىل خمتلف العلوم اإلنسانية واالجتامعية‪.‬‬

‫من أبرز تداعيات هذه اهليمنة هو التفكك الذي تعاين منه النظرية الليربالية بني الشكل واملضمون‪ .‬وهو تفكك يمنح بموجبه الشكل‬
‫إن املضمون املتنازع عليه ال خيرج عن إطار ما هو إتيقي وسيايس‪ ،‬فقد بات حتييد هذين‬ ‫أي اإلجراء مطلق النفوذ عىل املضمون‪ .‬وحيث َّ‬
‫الرهان الليربايل بات منص َّب ًا عىل إفراغ‬ ‫املبحثني‪ ،‬بل وفصلهام عن بعضهام بعض ًا‪ ،‬من مستلزمات الطريقة الصور َّية‪ .‬ويفهم من هذا َّ‬
‫أن ِّ‬
‫السيايس واإلتيقي من داللتهام التحريضية والثورية بحجة وضع حدٍّ «حلرب اآلهلة»‪ .‬وقد ُط ِّبق هذا الرهان عىل مرحلتني‪ :‬تعلقت َّ‬
‫مهة‬
‫حترر مطلق لقوانني السوق‬ ‫األوىل بفصل اإلتيقي عن السيايس‪ ،‬وتعلقت الثانية بفك رباط السيايس عن االقتصادي وما أعقبه من ُّ‬
‫وهيمنة قيم اإلنتاج واالستهالك‪ ،‬وما ترتَّب عنه من تراجع السيايس وأفول املجال العمومي للمناقشة‪.‬‬

‫أي جمال لإلتيقي والسيايس‪ .‬لذلك انسحب األول إىل داخلية كل قلب عىل‬ ‫واخلاصة َّ‬
‫َّ‬ ‫مل ترتك إمربيالية االقتصادي عىل احلياة العا َّمة‬
‫حدة‪ .‬ونطلق عىل هذا االنسحاب «التذييت اإلتيقي»‪ .‬أ َّما مصري السيايس فهو ليس أفضل حاالً‪ ،‬ألنَّه سقط بأيدي النخب التكنوقراطية‪،‬‬
‫وكأن‬
‫ِّ‬ ‫فتحولت القرارات السياسية بموجب ذلك إىل ترشيعات فوقية ال تفتأ يف تعزيز احلرية الفوضوية لقوانني السوق الرأساملية‪.‬‬ ‫َّ‬
‫بالسيايس (الرجل) مل يعد له من دور سوى أن يكون اخلادم الويف لس ِّيده وويل نعمته االقتصادي (أي من يمتلك املال)‪ ،‬ونطلق عىل هذا‬
‫السقوط «التقننة» السياسية‪.‬‬

‫الخاتمـة‬
‫منذ قيامها ما تزال الليربالية الكالسيكية واجلديدة تعاين من تناقضات بنيوية ال يمكنها اخلالص منها سوى بإلغاء ذاهتا وإعالن موهتا‬
‫أي بديل جمتمعي قادر عىل إدارة التنوع واالختالف الالمتناهي لشعوب األرض؟ هل الرباديغم الليربايل َقدَ ٌر ال يمكننا‬ ‫الطوعي‪ .‬ولك ْن ُّ‬
‫اخلالص منه‪ ،‬بل فقط تعديله وجتديده يف أقىص احلاالت حتى يتالءم مع صريورات احلركة العاملية؟ هل يمكننا أن نصدِّ ق َّ‬
‫أن تاريخ‬
‫اإلنسانية سي ُقفل مع التشكيلة الليربالية الراهنة مثلام زعم هيغل ثم فوكوياما؟‬

‫شك َّ‬
‫أن اإلنسانية قادرة عىل جتاوز هذا العقم النظري والسيايس واالقتصادي الذي تر َّدت فيه بفعل االنبعاثات املتكررة للنظام‬ ‫ال َّ‬
‫الرأساميل من رماده‪ ،‬ويف املقابل «موت» منافسيه وأفول وعودهم يف حتقيق جمتمع اشرتاكي ثم شيوعي أكثر عدالً وإنسانية‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪190‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫مفارقات التعدّ د َّية الليربال َّية‪ :‬أو كيف يكون التعايش ممكن ًا يف وضعيات التفاوت؟‬

‫تفردت منذ بداية‬


‫بكل مراحلها يف الوصول بالبرشية إىل حلظة اكتامهلا‪ ،‬وبدأت يف إهناء ذاهتا بذاهتا‪ ،‬بعد أن َّ‬ ‫لقد نجحت الرأساملية ِّ‬
‫سمى «العوملة» أو «النظام العاملي اجلديد»‪ .‬لك َّن هذا لن يكون انبعاث ًا لطائر الفنيق من رماده‪،‬‬
‫تسعينات القرن املايض بإدارة العامل حتت ُم َّ‬
‫روج له دعاة الليربالية اجلديدة أو العوملة‪ ،‬لن ينتهي‬
‫بل هو استكامل الوجود واخلروج من التاريخ إىل متحف العاديات‪ ،‬وعىل عكس ما ُي ِّ‬
‫ألن اإلنسانية املتضامنة هي التي ستنُهي هذا النظام اجلائر بالعبور إىل براديغم تعاوين وتضامني أكثر‬ ‫تاريخ اإلنسانية عند هذه العتبة‪َّ ،‬‬
‫إنصاف ًا بني شعوب األرض املضطهدة‪.‬‬

‫‪191‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫العدالة والديمقراطية بين المودودي وس ِّيد قطب‬

‫غيضان السيد عيل*‬

‫اعتادت الدراسات ا ُملقارنة يف معظم املجاالت املعرف َّية عىل أن تقارن بني موقفني متباينني أو بني ُمفكِّرين ينطلقان من منطلقات‬
‫أن هذه املقالة تتناول موقف اثنني من املفكرين ينتميان ملدرسة واحدة وانطلقا من فكرة واحدة؛ حيث ُيعدُّ األول‬ ‫خمتلفة ومتعارضة‪ .‬إال َّ‬
‫ال منهام قد انتهى هناية خمتلفة عن‬ ‫بمثابة األستاذ ا ُمل ِلهم للثاين‪ ،‬وكالمها انطلق من فكرة «احلاكم َّية» واعتمد عليها يف بناء فكره‪ .‬إال َّ‬
‫أن ُك ً‬
‫كل منهام؛ حيث يأخذ الثاين الفكرة من‬ ‫املحرك األسايس ألفكار ٍّ‬
‫ِّ‬ ‫اآلخر‪ ،‬وهنا تكمن الطرافة؛ حيث تبدو لعبة اإليديولوجيات هي‬
‫تغي الظروف السياس َّية واألحوال اإلقليم َّية‪ ،‬يف حني يتشبث الثاين هبا َأ َّيام تش ُّبث حتى النهاية‪.‬‬ ‫األول‪ ،‬ويتنازل األول عن فكرته بعد ُّ‬
‫فإذا كان أبو األعىل املودودي (‪ )1979 -1903‬قد قال بجاهلية املجتمع وشاركه يف ذلك س ّيد قطب (‪ ،)1966-1906‬كام شاركه يف َّ‬
‫أن‬
‫أن املودودي تراجع عن موقفه‬ ‫املبادئ السياس َّية الغرب َّية لن حتقق العدالة املنشودة‪ ،‬وإنَّام تتحقق بالرشائع الساموية وحاكم َّية اهلل‪ ،‬إال َّ‬
‫أن اإلسالم بإرسائه مبدأ الشورى هو دي ٌن ديمقراطي‪ ،...‬وأعلن حتالفه مع (فاطمة جناح)‬ ‫بعد استقالل باكستان عام ‪ ،1947‬ورأى َّ‬
‫أخت الرئيس الباكستاين السابق يف الكتلة الربملان َّية املعارضة ضدَّ احلكم العسكري‪ ،‬بل قام برتشيحه هلذه املرأة حلكم باكستان‪ ،‬وقبوله‬
‫بالتحالف مع العلامنيني من خالل انضامم حزبه إىل «جبهة الدفاع عن باكستان الديمقراطية» والتي تطالب باحلكم الديمقراطي ورفض‬
‫كل ذلك يؤكد دعوته إىل رضورة إعطاء الديمقراطية ‪ -‬كآلية لتحقيق العدالة ‪ -‬فرصة للتك ُّيف والنجاح‬ ‫احلكم العسكري االستبدادي‪ُّ .‬‬
‫يف البلدان اإلسالمية‪ ،‬رشيطة أن ختضع ملفهوم التوحيد وال ختالف ثوابت الرشيعة ومقاصدها‪ .‬يف حني رفض س ّيد قطب مصطلح‬
‫الديمقراطية قلب ًا وقالب ًا‪ ،‬معلن ًا فشله يف الغرب فكيف له أن ينجح يف بالدنا؟‬

‫وخاصة فيام يتعلق بمصطلحي‬ ‫َّ‬ ‫ولك َّن األمر ليس هبذه البساطة‪ ،‬وإنَّام حيتاج لرسد الكثري من التفاصيل التي متنع االلتباس والغموض‪،‬‬
‫أسس املودودي «اجلامعة اإلسالمية» يف اهلند‬ ‫أهم من ِّظري مجاعات اإلسالم السيايس عىل اإلطالق؛ فقد َّ‬ ‫العدالة والديمقراطية عند اثنني من ِّ‬
‫عام ‪1941‬م‪َّ ،‬‬
‫وظل يقودها ما يزيد عن ثالثني عام ًا‪ ،‬وتُعدُّ هذه اجلامعة أكرب مجاعات اإلسالم السيايس بعد مجاعة اإلخوان املسلمني‪ .‬بينام ُيعدُّ‬
‫جل اجلامعات اإلسالمية يف مرص وخارجها‪.‬‬ ‫إن عىل أفكاره قامت ُّ‬
‫س ّيد قطب املن ِّظر األول جلامعة اإلخوان املسلمني‪ ،...‬بل يمكن القول َّ‬

‫إن العدال ُة كانت‪ ،‬وما زالت‪َّ ،‬‬


‫أهم القيم األخالق َّية يف حياة اإلنسان االجتامع َّية قاطبة‪ ،‬كام َّأنا ما تزال املوضوع األبرز واجلوهري‬ ‫َّ‬
‫ولعل تلك األمهية نابعة من إدراك ا ُملصلحني ورجال الدين والفالسفة وا ُملفكّرين بل والساسة‬ ‫كل الفلسفات السياس َّية املعارصة‪َّ ،‬‬
‫يف ِّ‬
‫كل هؤالء‬ ‫أيض ًا َّأنا املطلب األسايس لكي توجد جمتمعات آمنة ومستقرة تستطيع أن تبني حضارةً‪ ،‬وحتقق رفاهية اإلنسان‪ .‬فقد َو َعى ُّ‬
‫مستمرة يفتك‬ ‫ٍ‬
‫بحياة مطمئنة؛ إذ كانوا يف حالة حرب‬ ‫أن العدال َة هي األصل يف قيام املجتمعات‪َّ ،‬‬
‫وأن األفراد يف حالتهم البدائ َّية مل ينعموا‬ ‫َّ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫فيها بعضهم ببعض‪ ،‬وينهب فيها بعضهم بعض ًا دون واز ٍع وال ضابط ‪ .‬ثم أرادوا السالم فتهادنوا عىل جمتمع يقيم بينهم ميزان العدالة‪،‬‬
‫جتب العزيز‪ ،‬واملحكوم‬
‫فيحفظ األرواح واألموال واألعراض‪ ،‬وحيمي الضعيف من طغيان القوي‪ ،‬والصغري من كرب الكبري‪ ،‬والذليل من ُّ‬
‫من تس ُّلط احلاكم ‪ ،...‬فال حياة للجامعة إال إذا ُروعيت العدالة بني أفرادها‪.1‬‬

‫* أكادميي من مرص‬
‫‪ - 1‬غيضان السيد عيل‪ ،‬العدالة بني الرشائع الساموية والقوانني الوضعية‪ ،‬مجلة الثقافة الجديدة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة العا َّمة لقصور الثقافة‪ ،‬العدد ‪ ،311‬أغسطس‪ ،2016‬ص ‪.127‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪192‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫العدالة والديمقراطية بني املودودي وس ِّيد قطب‬

‫أهم اآلل َّيات التي شهدها تاريخ البرشية لتحقيق العدالة‪ ،‬وقد نالت من الشهرة واالنتشار ما مل ينله نظام‬
‫أ َّما الديمقراطية فهي إحدى ِّ‬
‫آخر‪ ،‬وقد القت شيوع ًا و ُاختذت شعار ًا ألنظمة يف احلكم ختتلف فيام بينها اختالف ًا شديد ًا من حيث الشكل واألسلوب؛ فامللك َّية يف‬
‫كل هذه األشكال‬ ‫بريطانيا‪ ،‬واجلمهور َّية يف الواليات املتحدة‪ ،‬والشيوع َّية يف االحتاد السوفيتي‪ ،‬وحكم الفرد يف مجهورية فرنسا اخلامسة‪ُّ ،‬‬
‫إن الديمقراطية أصبحت اليوم شعار مجيع‬ ‫املختلفة ألنظمة احلكم‪ ،‬وغريها من األنظمة املثيلة‪ ،‬تتخذ الديمقراطية واجهة وشعار ًا‪ .‬بل َّ‬
‫ال ما‪ ،‬أو قرار ًا أو نظام ًا هو ديمقراطي ليكون ذلك حافز ًا إىل حسن تق ُّبله والرضا عنه‪.‬‬ ‫دول العامل بال استثناء‪ ،‬ويكفي أن تقول َّ‬
‫إن عم ً‬
‫أن الديمقراط َّية تعدَّ ت النظام السيايس لتغطي كثري ًا من جماالت النشاط البرشي‪ .‬فرجال االقتصاد ُيدِّ ثونك عن رضورة حتقيق‬ ‫كام َّ‬
‫أن «الديمقراطية االجتامعية» أساس ركني من أسس‬ ‫«الديمقراطية االقتصادية» بني أبناء الشعب الواحد‪ ،‬وعلامء االجتامع يرون َّ‬
‫إن فالن ًا من الناس ديمقراطي النزعة‪ ،‬وهو يقصد أنَّه‪ ،‬برصف النظر عن مركزه وثرائه‪ ،‬نبيل‬ ‫املجتمع الصالح‪ ،‬والرجل العادي يقول لك َّ‬
‫األخالق‪ ،‬ودود‪ ،‬رسيع االختالط بالناس عىل اختالف أنامطهم ونامذجهم ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫أهم املن ِّظرين السياسيني‬


‫كل من أيب األعىل املودودي وس ّيد قطب باعتبارمها من ِّ‬‫فام هي العدالة؟ وما هي الديمقراطية؟ وكيف نظر إليهام ٌّ‬
‫يف الفكر اإلسالمي احلديث واملعارص؟ وحيث َّ‬
‫إن ُك ً‬
‫ال منهام قدَّ م رؤية وإن اتفقت يف البدايات إال َّأنا اختلفت يف النهايات‪ ،‬األمر الذي‬
‫وجه أنظار الباحثني إىل إعادة دراسة الفكر اإلسالمي املعارص يف ضوء اإليديولوجيات والظروف املحايثة لوجوده‪ .‬وكيف تتأسس‬ ‫ُي ِّ‬
‫اإليديولوجيات التي تقدِّ م نفسها عىل َّأنا حتمل احلقيقة املطلقة؟ وما حقيقة املوقف اإلسالمي املعارص من الديمقراطية كآل َّية من آليات‬
‫تم هتميش وجهة نظر املودودي وموقفه األخري لصالح موقف س ّيد قطب الذي تبنَّى اهلجوم عىل الديمقراط َّية؟‬ ‫حتقيق العدالة؟ وكيف َّ‬
‫غذى اجلامعات واحلركات اإلسالمية عىل طول العامل اإلسالمي وعرضه؟ فقد‬ ‫أن رؤية س ّيد قطب كانت بمثابة ا َملعني الذي َّ‬
‫وكيف َّ‬
‫صارت نقطة حمورية يف الفهم السيايس اإلسالمي‪.‬‬

‫والعدالة لغ ًة من العدل‪ ،‬والعدل هو اإلنصاف؛ وهو إعطاء املرء ما له وأخذ ما عليه‪ .‬والعدالة هي إحدى الفضائل التي قال هبا‬
‫الفالسفة منذ القديم‪ ،‬وهي الشجاعة‪ ،‬والع َّفة‪ ،‬والعدالة‪ . 3‬والعدالة هي االعتدال واالستقامة وامليل إىل احلق‪ ،4‬وعند أهل الرشع هي‬
‫االنزجار عن املحظورات الدينية؛ وعند الفالسفة هي ملكة يف النفس متنعها من الرذائل؛ وهي املبدأ الطبيعي أو املثايل أو الوضعي الذي‬
‫ُيدِّ د معنى احلق‪ ،‬فإذا كان تعلقها باليشء املطابق للحق دلت عىل املساواة‪ ،‬وإذا كانت متعلقة بالفعل كانت من الفضائل‪ ،‬ويف العدالة‬
‫التوسط بني اإلفراط والتفريط‪ ،‬وأساسها املساواة‪ ،‬وجوهرها االعتدال والتوازن‪ .‬والعدالة يف‬ ‫ُّ‬ ‫كل الفضائل‪ .5‬وقيل العدالة هي‬‫تتمثل ُّ‬
‫االقتصاد هي عدالة املعاوضة وتتعلق بتبادل املنافع؛ وهي عدالة التوزيع‪ ،‬وهي من مطالب العدالة االجتامعية‪ ،‬وهي املعن َّية باملساواة بني‬
‫املواطنني أمام القانون‪ ،‬وإتاحة فرص التعليم والعالج واإلسكان والتقايض والتوظيف للجميع؛ وهي الضامن للحر َّيات وللحدِّ من‬
‫الفوارق االجتامعية‪. 6‬‬

‫تم تعريبها من كلمة (‪ ،)Democracy‬وهي كلمة أصلها يوناين‪ ،‬ومؤلفة من كلمتني‪« :‬ديموس‬ ‫أ َّما الديمقراط َّية فهي كلمة أعجم َّية َّ‬
‫(‪ )Δήμος‬أو (‪)Demos‬وتعني الشعب»‪ ،‬والثانية «كراتوس(‪ )cratos‬أو (‪ )Κρατία‬أو (‪ )kratia‬وتعني السلطة أو احلكم»‪ ،‬ومؤداها‬
‫أن الشعب يتوىل حكم نفسه‪ ،‬وأنَّه مصدر السلطات‪ ،‬و َّملا كان يتعذر عىل الشعب أن يامرس احلكم مبارشة‪َّ ،‬‬
‫فإن سلطته تتجىل يف انتخاب‬ ‫َّ‬

‫‪ - 2‬عبدالفتاح حسنني العدوي‪ ،‬الدميقراطية وفكرة الدولة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،2011 ،‬ص ‪.18-17‬‬
‫‪ - 3‬املعجم الوجيز‪ ،‬مجمع اللغة العربية‪ ،‬تصدير إبراهيم مدكور‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة العامة لشؤون املطابع األمريية‪ ،2005 ،‬ص ‪.409‬‬
‫‪ - 4‬مراد وهبة‪ ،‬املعجم الفلسفي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار قباء للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،1998 ،‬ص‪.444‬‬
‫‪ -5‬عبد املنعم الحفني‪ ،‬املعجم الشامل ملصطلحات الفلسفة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة مدبويل‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،2000 ،‬ص ‪.522‬‬
‫‪ - 6‬املرجع السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪193‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫غيضان السيد عيل‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫الرسي‪ ،‬ويف فرتات زمنية حمدَّ دة‪ ،‬ليتولوا مزاولة احلكم خالل مدَّ ة معينة‪ ،‬وفق ًا ألحكام الدستور‪ .‬عىل أن يراقبهم‬ ‫ممثلني له باالقرتاع العام ِّ‬
‫فإن حكومة الشعب‬ ‫أن إمجاع الشعب مستحيل‪ ،‬خاصة يف القضايا السياس َّية‪َّ ،‬‬ ‫بعد اختيارهم‪ ،‬وال س َّيام من يقوم منهم بالترشيع؛ وبام َّ‬
‫أهم التعريفات وأشهرها َّأنا «نسق سيايس قائم عىل مبدأ ممارسة احلكم من خالل‬ ‫أصبحت تعني علمي ًا «حكومة األغلبية» ‪ .‬ومن ِّ‬
‫‪7‬‬

‫أن احلكومة تستمدُّ رشعيتها ـ بصورة مبارشة أو غري مبارشة‪ -‬من إرادة غالبية أعضاء املجتمع أو من‬ ‫موافقة املحكومني وتقبلهم له‪ ،‬ذلك َّ‬
‫املجتمع بأكمله»‪ .8‬بحيث يتمكَّن املواطنون بالدولة من املشاركة بحر َّية يف القرارات التي تؤثر يف حياهتم الفرد َّية واجلامع َّية‪.‬‬

‫العدالة عند المودودي‬


‫إن العدالة ال يمكن أن تقوم عىل أساس القوانني الوضع َّية التي صاغها البرش‪َّ ،‬‬
‫وإن التعاليم السامو َّية مل ترتك‬ ‫ذهب املودودي إىل القول َّ‬
‫كبرية وال صغرية إال أحصتها‪ ،‬فاهلل عليم بأرسار الفطرة البرش َّية فال ختفى عليه خافية من رشور الناس وأهوائهم‪ ،‬وقد بسط للناس‬
‫تعاليمه‪ ،‬وال ُب ْعدُ عن هذه التعاليم الر َّبان َّية هو ما ُيولد الظلم والرش؛ حيث يقول‪« :‬وإذا نظرت إىل املجتمع اإلسالمي من هذه الوجهة‪،‬‬
‫أن منبع الرشور والفساد احلقيقي إنَّام هو «ألوه َّية الناس عىل الناس»‪ ،‬إ َّما مبارشة وإ َّما بواسطة‪ ،‬وهذه هي النظر َّية‬ ‫استيقنت نفسك َّ‬
‫كل مكان»‪ .9‬وهكذا صارت ألوه َّية الناس عىل‬ ‫الرش اليوم يف ِّ‬
‫مرة‪ ،‬وهي ما تزال تنفجر منها عيون ِّ‬ ‫املشؤومة التي تولد الرش منها أول َّ‬
‫كل املصائب‬ ‫«إن ألوه َّية الناس عىل الناس إنَّام هي أصل ِّ‬
‫كل رش وظلم‪ .‬يقول املودودي‪َّ :‬‬ ‫الناس بدالً من ألوه َّية اهلل عىل العباد هي مصدر ِّ‬
‫والدمار‪ ،‬وهي أصل مجيع ما ُمنَي به البرش اليوم من البؤس والشقاء‪ ،‬وهذا هو الداء الذي أفسد أخالق البرش وروحانيتهم وقواهم‬
‫العلم َّية والفكر َّية»‪.10‬‬

‫كل ظلم واستبداد قد حييط بالبرشية‪ ،‬وهذا الظلم الذي يمأل العامل هنا أو هناك هو نتيجة النتشار‬ ‫ثم يصبح تأليه البرش هو رأس ِّ‬ ‫ومن َّ‬
‫رب العاملني‪ .‬ولذلك يصبح الدواء هو أن يكفر اإلنسان‬ ‫األرباب واآلهلة البرش َّية يف ُج ِّل األقطار بدالً من اإلقرار بالوحدانية هلل ِّ‬
‫وخيصه باأللوه َّية والربوب َّية‪ .‬وأن تُنزع مجيع سلطات األمر والترشيع من أيدي‬‫ّ‬ ‫بالطواغيت مجيع ًا‪ ،‬ويؤمن باهلل العزيز الذي ال إله إال هو‪،‬‬
‫البرش منفردين وجمتمعني‪ ،‬وال يؤذن ألحد منهم أن ينفذ أمره يف برش مثله فيطيعوه‪ ،‬أو ليس َّن قانون ًا هلم فينقادوا له ويتبعوه‪َّ ،‬‬
‫فإن ذلك أمر‬
‫خمتص باهلل وحده‪ ،‬ال يشاركه فيه أحد غريه‪.11‬‬ ‫ٌّ‬

‫أن احلاكم َّية (‪ )Sovereignty‬هلل وحده‪ ،‬وبيده الترشيع وليس ألحد‪،...‬‬ ‫وهكذا ترتسم معامل العدالة عند املودودي‪ ،‬والتي تتمثل يف َّ‬
‫فليس لفرد أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنني يف الدولة نصيب من احلاكمية‪ ،‬وليس ألحد من دون اهلل يشء من أمر الترشيع‪ ،‬واملسلمون‬
‫رشعوا قانون ًا واحد ًا‪ ،‬وال يقدروا أن يغريوا شيئ ًا ممَّا رشع اهلل هلم‪َّ ،‬‬
‫وأن الدولة‬ ‫مجيع ًا‪ ،‬ولو كان بعضهم لبعض ظهري ًا‪ ،‬ال يستطيعون أن ُي ِّ‬
‫كل ظلم؛‬‫كل عدل وخيتفي ُّ‬ ‫املرشع من قبل اهلل تعاىل‪ .‬وإنَّه بتطبيق الرشيعة الر َّبان َّية يتحقق ُّ‬‫ؤسس بنياهنا إال عىل القانون َّ‬ ‫اإلسالمية ال ُي َّ‬
‫ولذلك بعث اهلل الرسل ليقيموا يف العامل نظام العدالة االجتامعية (‪ )Social Justice‬عىل أساس ما أنزله عليهم من البينات‪ ،‬وما أنعم‬
‫عليهم من كتابه من امليزان‪ ،‬أي نظام احلياة اإلنسان َّية العادل‪.12‬‬

‫‪ - 7‬قاموس املصطلحات السياسية‪ ،‬تقديم سامح فوزي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،2012 ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪ - 8‬محمد عيل محمد‪ ،‬عيل عبد املعطي محمد‪ ،‬السياسة بني النظرية والتطبيق‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار املعرفة الجامعية‪ ،1997 ،‬ص ‪.328‬‬
‫‪ - 9‬أبو األعىل املودودي‪ ،‬نظرية اإلسالم السياسية‪ ،‬تقديم محمد عاصم الحداد‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،1967 ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪ - 10‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪ - 11‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪ - 12‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.40‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪194‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫العدالة والديمقراطية بني املودودي وس ِّيد قطب‬

‫إن العدالة ال يمكن‬ ‫ذهب املودودي إىل القول َّ‬ ‫ثم تصبح غاية الدولة عند املودودي هي العدالة التي تتمثل‬ ‫ومن َّ‬
‫وإن‬
‫أن تقوم عىل أساس القوانني الوضع َّية ‪َّ ،‬‬ ‫يف منع العدوان بني الناس‪ ،‬واحلفاظ عىل حريتهم‪ ،‬والدفاع عن‬
‫الوطن وحتقيق نظام العدالة االجتامع َّية‪ ،‬والنهي عن كافة املنكرات‬
‫التعاليم السامو َّية مل ترتك كبرية وال صغرية إال‬
‫الرش من جذورها‪ ،‬والدعوة إىل التعاون عىل‬ ‫واجتثاث شجرة ِّ‬
‫أحصتها‪ ،‬فاهلل عليم بأرسار الفطرة البرش َّية وال‬ ‫رب والتقوى‪ .‬والتأكيد عىل احلر َّية الفرد َّية‪ ،‬والبعد عن االستبداد‬
‫ال ِّ‬
‫ختفى عليه أهواء الناس ورشورهم‪ ،‬وقد بسط‬ ‫والطغيان بكافة صوره وأشكاله‪.‬‬
‫للناس تعاليمه‪ ،‬وال ُب ْعدُ عن هذه التعاليم هو ما‬
‫العدالة عند س ِّيد قطب‬
‫ُيولد الظلم والرش‬
‫التصور‬
‫ُّ‬ ‫أ َّما سيد قطب فقد نظر إىل قض َّية العدالة من خالل‬
‫اإلسالمي الشامل‪ ،‬عن اإللوه َّية والكون واحلياة واإلنسان‪،‬‬
‫التصور الشامل؛ فاإلسالم حينام توىل تنظيم مناحي احلياة اإلنسان َّية‪ ،‬كام يقول سيد قطب‬ ‫ُّ‬ ‫ورفض أن تُعالج بطريقة مفارقة بعيدة عن هذا‬
‫تصور ًا كُل َّي ًا متكام ً‬
‫ال عن األلوه َّية والكون واحلياة واإلنسان؛ ُير ُّد إليه‬ ‫«مل يعالج نواحيها جزاف ًا‪ ،‬ومل يتناوهلا أجزاء وتفاريق‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن له ُّ‬
‫كافة الفروع والتفصيالت؛ ويربط إليه نظرياته مجيع ًا وترشيعاته وحدوده‪ ،‬وعباداته ومعامالته؛ فيصدر فيها كلها عن هذا التصور الشامل‬
‫كل مشكلة وحدها يف عزلة عن سائر املشكالت»‪.13‬‬ ‫لكل حالة؛ وال يعالج ّ‬
‫املتكامل‪ ،‬وال يرجتل الرأي ِّ‬

‫أن اإلسالم قد فرض قواعد العدالة االجتامعية‪ ،‬فاملسلم ليس‬ ‫التصور الشامل ُيقدِّ م سيد قطب تصوره عن العدالة؛ فريى َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ومن هذا‬
‫بحاجة إىل أن يناضل من أجلها شأن غريه من التصورات الشيوع َّية والقوم َّية‪ ،‬فقد ضمن اإلسالم حقوق الفقراء يف أموال األغنياء‪،‬‬
‫لكل جوانب احلياة ومقوماهتا‪،‬‬‫كل يشء عدالة إنسانية ِّ‬
‫ثم يقول قطب‪« :‬فالعدالة يف اإلسالم هي قبل ِّ‬ ‫واعتنى بكافة صور العدالة‪ .‬ومن َّ‬
‫جمرد عدالة اقتصادية حمدودة‪ .‬وهي إذن تتناول مجيع مظاهر احلياة وجوانب النشاط فيها‪ ،‬كام تتناول الشعور والسلوك‪ ،‬والضامئر‬ ‫وليست َّ‬
‫والوجدانات‪ .‬والقيم التي تتناوهلا هذه العدالة ليست القيم االقتصادية وحدها‪ ،‬وليست القيم املادية عىل وجه العموم‪ ،‬إنَّام هي هذه‬
‫ممتزجة هبا القيم املعنو َّية والروح َّية مجيع ًا»‪.14‬‬

‫بتحرر اإلنسان من الطواغيت‪ ،‬واالنصياع للتعاليم التي‬ ‫تتم ُّ‬ ‫إذن؛ فالعدالة يف اإلسالم عدالة شاملة؛ اجتامع َّية‪ ،‬ودول َّية‪ ،‬وقانون َّية‪ُّ ،‬‬
‫جاءت هبا الرشيعة السامو َّية‪ .‬فمن بغى وظلم وجانب العدل فقد خالف كلمة اهلل وعىل املسلمني أن يقاتلوا إلعالء كلمة اهلل‪ ،‬وأن ير ُّدوا‬
‫الشاردين عنها إليها‪ ،‬حتى لو امتشقوا احلسام يف وجوه الباغني‪ .‬فالعدل املطلق ور ُّد البغي والعدوان هو كلمة اهلل التي جيب أن تعلو يف‬
‫فبدال من نضال اجلامهري الكادحة املحرومة من أجل قضية العدالة االجتامعية‪ ،‬جيب عليها النضال من‬ ‫ثم ً‬ ‫كل مكان ‪ .‬ومن َّ‬
‫‪15‬‬ ‫كل حال ويف ِّ‬‫ِّ‬
‫ثم يعلن ثورته عىل األوضاع‬‫أجل العودة إىل «احلاكم َّية هلل»‪ ،‬وعندها لن تنال هذه اجلامهري عدالة واحدة ولكن ستنال عدالة شاملة‪ .‬ومن َّ‬
‫«إن اإلسالم ليرصخ يف وجه الظلم االجتامعي واالسرتقاق اإلقطاعي ويمدُّ املكافحني هلذه‬ ‫القائمة وعىل نظام احلكم القائم؛ فيقول‪َّ :‬‬
‫بقوة ضخمة للكفاح والرصاع‪ .‬وما من وضع اجتامعي هو أبعد عن روح اإلسالم من أوضاعنا القائمة» ‪ .‬فاإلسالم ـ عند‬
‫‪16‬‬
‫األوضاع َّ‬
‫سيد قطب ـ حرب عىل األوضاع الظاملة والسلطات الغاشمة‪ ،‬ودعوة لتلك اجلامهري الكادحة املحرومة املغبونة يف قضيتها أن تتوىل‬
‫قضيتها بأيدهيا فال تركن إىل املحرتفني من رجال الدين الذين يقومون بتغرير اجلامهري وختديرها‪ ،‬وال إىل املستهرتين واملنحلني فهم ال‬

‫‪ - 13‬سيد قطب‪ ،‬العدالة االجتامعية يف اإلسالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الرشوق‪ ،1995 ،‬ص ‪.20‬‬
‫‪ - 14‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪ - 15‬سيد قطب‪ ،‬السالم العاملي واإلسالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬الطبعة الثالثة عرشة ‪/2001‬الطبعة الرابعة عرشة‪ ،2006 ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪ - 16‬سيد قطب‪ ،‬معركة اإلسالم والرأساملية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬الطبعة الثالثة عرشة‪ ،1993 ،‬ص ‪.22‬‬

‫‪195‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫غيضان السيد عيل‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫وأن عدم‬‫شوهون صورة احلكم اإلسالمي ويعملون عىل انقسام العامل إىل كتلتني‪َّ ،‬‬ ‫يقدمون وال يؤخرون‪ ،‬وال إىل الشيوعيني الذين ُي ِّ‬
‫االنضامم إىل الرشق يقوي من نفوذ الغرب‪ .‬واحلقيقة َّ‬
‫أن اإلسالم نظام مستقل ال ينحاز إىل كتلة وال ينضم إىل معسكر‪ .‬فال بدَّ لإلسالم أن‬
‫حيكم‪ ،‬هذا هو الطريق‪ ،‬هذا هو الطريق‪ .17‬لينتهي إىل هدفه املنشود وهو تقويض مرشوع َّية احلكم النارصي بمرشوع َّية أكرب هي مرشوع َّية‬
‫الدين‪ ،‬حيث تظهر االشرتاك َّية العرب َّية يف مواجهة اإلسالم‪ ،‬ويستبدل قطب العدالة االجتامع َّية التي قام هبا عبد النارص يف اإلصالح‬
‫الزراعي والقضاء عىل اإلقطاع وجمانية التعليم ‪...‬إلخ‪ ،‬بعدالة شاملة تشمل مجيع املجاالت تتحقق فور سيادة احلاكم َّية‪ ،‬فال حكم إال هلل‪.‬‬
‫التمرد عىل احلكم اهلندوكي‪.‬‬
‫َّإنا اإليديولوج َّية نفسها التي انطلق منها سلفه املودودي يف ُّ‬

‫الديمقراط َّية عند المودودي‬


‫مرت هذه الفكرة بمنعطفني راديكاليني‪ ،‬يتمثل املنعطف األول يف الرفض‬ ‫احتلت الديمقراطية مساحة واسعة يف فكر املودودي؛ وقد َّ‬
‫وأنا عىل تعارض تا ٍّم مع اإلسالم‪ .‬ويف الثانية القبول والدعوة إلعطائها فرصة حقيق َّية لتتكيف داخل البيئة اإلسالم َّية‪،‬‬ ‫التام للديمقراط َّية‪َّ ،‬‬
‫وبدأ يتغنى متباهي ًا وفخور ًا بالديمقراط َّية اإلسالم َّية‪.‬‬

‫والديمقراط َّية عنده «عبارة عن منهاج للحكم‪ ،‬تكون السلطة فيه للشعب مجيع ًا‪ ،‬فال ُت َغ َّي فيه القوانني وال تُبدَّ ل إال برأي اجلمهور‪،‬‬
‫وكل ما مل تسوغه عقوهلم يرضب به ُعرض‬ ‫وال تُس ُّن إال حسب ما توحي إليهم عقوهلم‪ .‬فال يتغري فيه من القانون إال ما ارتضته أنفسهم ُّ‬
‫احلائط وخيرج من الدستور»‪.18‬‬

‫يصح إطالق كلمة‬ ‫ُّ‬ ‫أن هذه الديمقراط َّية هبذا املعنى وتلك اخلصوصية ليست من اإلسالم يف يشء‪ ،‬وال‬ ‫ثم خيلص إىل َّ‬ ‫ومن َّ‬
‫الديمقراط َّية عىل نظام الدولة اإلسالم َّية‪« .‬فقد رأى املودودي َّ‬
‫أن احلاكم َّية البرش َّية التي تثمرها الديمقراط َّية واالنتخابات النياب َّية‬
‫أن الديمقراط َّية نقيض لإلسالم» ‪.‬‬
‫‪19‬‬ ‫حرم االنتخابات‪ ،‬ورأى َّ‬ ‫هي كارثة عىل اإلسالم واملسلمني بشبه القارة اهلند َّية‪ ،‬ولذلك فقد َّ‬
‫سوغ أسباب ُبعد الديمقراط َّية عن اإلسالم‪ ،‬فقال‪« :‬فقوانني البالد ومبادئها وأنظمتها يف األخالق أو املدن َّية أو‬ ‫وراح املودودي ُي ِّ‬
‫االجتامع أو السياسة تأخذ صفة احلق وتصري صحيحة ما دامت تؤيد رغبات أكثرية األ َّمة‪ ،‬وتأخذ صفة الباطل وتصري خطأ ما‬
‫دامت جتايف هذه الرغبات التي تتبع أهواء النفوس ومتيل معها‪ .‬وهلذه األكثر َّية أن ت َِسن من القوانني ما تشاء وتلغي ما تشاء‪ ،‬وعىل‬
‫فكل ما ساير أهواء األكثر َّية وماألها كان‬ ‫احلكومة التي متثلها أن تركز مجيع إمكانياهتا لتحقيق األماين القوم َّية‪ .‬وخالصة القول‪ُّ :‬‬
‫وكل ما جانب تلك األهواء وجافاها كان حمض رش‪ ،‬ولو كان فيه اخلري‬ ‫خري ًا وحق ًا وعدالً ولو كان يف الواقع رش ًا وباط ً‬
‫ال وظل ًام‪ُّ ،‬‬
‫العميم»‪.20‬‬

‫فتغي فيها ما تشاء وتبدِّ ل منها وفق األهواء والرغبات ال‬ ‫وهكذا تتالعب األكثر َّية ‪ -‬من وجهة نظر املودودي‪ -‬بالقوانني واألنظمة‪ِّ ،‬‬
‫وفق قواعد احلق الثابت التي ال تتغري وال تتبدل‪ .‬و ُيعدُّ هذا جمافي ًا متام ًا لروح اإلسالم الذي به ثوابت ال تتغري ‪ ،...‬فامذا لو اجتمع رأي‬
‫األكثر َّية عىل إباحة الزنى؟ ففي الدولة الديمقراط َّية يصبح مباح ًا‪ .‬لك َّن حتريم الزنى ثابت يف الرشيعة اإلسالم َّية وال خيضع ألهواء أو‬
‫ألن للديمقراط َّية قيود ًا‬
‫وأن هذا الفهم ُيعدُّ مغلوط ًا؛ َّ‬
‫ميول البرش أو لعدد املؤيدين أو املعارضني‪ .‬ولك َّن هذا يف احلقيقة ُيعدُّ جمافي ًا للحقيقة‪َّ ،‬‬

‫‪ - 17‬حسن حنفي‪ ،‬الدين والثورة ج ‪ ،5‬الحركات الدينية املعارصة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة مدبويل‪ ،1988 ،‬ص ‪.203‬‬
‫‪ - 18‬املودودي‪ ،‬نظرية اإلسالم السياسية‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫‪ - 19‬حاتم صادق‪ ،‬أبو األعىل املودودي األب ال ُّروحي للجامعات اإلسالمية‪ ،‬مجلة الثقافة الجديدة‪ ،‬الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬العدد‪ 289‬أكتوبر ‪ ،2014‬ص ‪.40‬‬
‫‪ - 20‬أبو األعىل املودودي‪ ،‬اإلسالم واملدنية الحديثة‪ ،‬منرب التوحيد والجهاد‪ ،‬ص ‪ .10-9‬عىل الرابط اإللكرتوين التايل‪:‬‬
‫‪-http://3almnow.blogspot.com.eg/201510//blog-post_5746.html‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪196‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫العدالة والديمقراطية بني املودودي وس ِّيد قطب‬

‫أن احلكومة مقيدة أخالقي ًا بالعمل لصالح األ َّمة‪ .‬فاملبادئ األخالق َّية قيد ال سبيل إىل‬
‫من أمهها املحافظة عىل املطالب األخالق َّية‪ ،‬بمعنى َّ‬
‫إنكاره عىل سيادة القانون‪.21‬‬

‫«إن أقول للمسلمني برصاحة َّ‬


‫إن الديمقراط َّية القوم َّية العلامن َّية‬ ‫ومع ذلك َّ‬
‫فإن أهم ما ُي ِّ‬
‫لخص موقف املودودي يف هذه الفرتة قوله‪ِّ :‬‬
‫تعارض ما تعتنقون من دين وعقيدة‪ ،‬وإذا استسلمتم هلا فكأنَّام تركتم كتاب اهلل وراء ظهوركم‪ ،...‬وال انسجام بينهام يف أمر مهام كان‬
‫ألنام عىل طريف نقيض‪ .‬فحيث يوجد هذا النظام فإنَّنا ال نعترب اإلسالم موجود ًا‪ ،‬وحيث ُوجد اإلسالم فال وجود هلذا النظام»‪.22‬‬‫تافه ًا‪َّ ،‬‬

‫وتغي الوضع بعد ما كان املسلمون أقل َّية ال تتعدى نسبتهم‬ ‫ولكن بعد أن استقلت باكستان وأصبحت دولة ذات سيادة إسالم َّية‪َّ ،‬‬
‫ُّ‬
‫يشك‬ ‫‪ %25‬من السكان‪ ،‬وكانت احلاكم َّية البرش َّية يف ذلك الوقت إ َّما سلطة االستعامر اإلنجليزي أو السلطة اهلندوك َّية التي ال‬
‫تغي املوقف من الديمقراط َّية‪ ،‬وساهم املودودي يف االنتخابات النياب َّية؛‬‫املودودي يف كفرمها مع ًا‪ ،‬ففي باكستان ذات األغلب َّية املسلمة َّ‬
‫ألن احلاكم َّية البرش َّية هنا ستكون حمكومة بحدود الرشيعة اإلسالم َّية وثوابتها ومقاصدها‪ ،‬وبدأ املودودي يف هذا الواقع اجلديد‬ ‫َّ‬
‫يتحدَّ ث عن «الديمقراط َّية اإلسالم َّية»‪ ،‬ويتغنَّى متباهي ًا وفخور ًا بـ«ديمقراطيتنا العريقة»‪ ،‬وأكدَّ أنَّه ليس هناك عاقل يعارض هذه‬
‫الديمقراط َّية‪.23‬‬

‫تغي املوقف متام ًا من الزعم بأنَّه ال يصح إطالق كلمة الديمقراط َّية عىل نظام الدولة اإلسالم َّية‪ ،‬إىل القول بالديمقراط َّية‬ ‫ومن هنا َّ‬
‫وأن إقامة الدولة اإلسالم َّية تكون فقط عن طريق اخليار الديمقراطي‪ ،‬وعن طريق االنتخابات العا َّمة‪ ،‬ولذلك يدعو‬ ‫اإلسالم َّية‪َّ ،‬‬
‫املودودي احلكَّام إىل مراجعة أنفسهم وانتهاج الديمقراط َّية االنتخاب َّية منهج ًا يف احلكم ‪.‬‬
‫‪24‬‬

‫ولكنَّه قطع ًا ال يقصد الديمقراط َّية الليربال َّية‪ ،‬وإنَّام يعني الديمقراط َّية االنتخاب َّية التي تفرز اخليار الشعبي املطلوب‪ ،‬بمعنى‪ :‬ما هي‬
‫إن املودودي كان ينظر إىل الديمقراط َّية عىل َّأنا الطريق الفضىل إلدارة الرصاع‬ ‫هو َّية الدولة التي يريدها الشعب؟ من هنا يمكن القول‪َّ :‬‬
‫الداخيل والفصل بني القوى املتنازعة يف كثري من الدول اإلسالمية حول هو َّية الدولة وخياراهتا السياس َّية واالجتامع َّية‪ ،‬لكنَّه يميز‬
‫الدولة اإلسالم َّية عىل َّأنا هلا سامت خمتلفة عن الصورة الديمقراط َّية السائدة يف الغرب‪ ،‬ويرفض تلك الصورة ويعتربها من الصور‬
‫اجلاهل َّية‪.25‬‬

‫حتول املودودي من فكرة الرفض التام إىل قبول الديمقراط َّية يف صورهتا التي تتالءم مع املجتمعات والبيئات اإلسالم َّية‪ ،‬تلك‬
‫وهكذا َّ‬
‫الصورة من الديمقراط َّية التي تنتج من خالل تربية الرأي العام يف البالد‪ ،‬وتغيري مقاييس الناس يف انتخاهبم ملمثليهم‪ ،‬وإصالح طرق‬
‫االنتخابات وتطهريها من اللصوص َّية والغش والتزوير‪ ،‬ثم تسليم مقاليد احلكم والسلطة إىل رجال صاحلني‪ ،‬حي ُّبون أن ينهضوا بنظام‬
‫البالد عىل أسس اإلسالم اخلالص‪.26‬‬

‫‪ - 21‬عبد الفتاح حسنني العدوي‪ ،‬الدميقراطية وفكرة الدولة‪ ،‬ص‪.25‬‬


‫‪ - 22‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪ - 23‬حاتم صادق‪ ،‬أبو األعىل املودودي األب الروحي للجامعات اإلسالمية‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪ - 24‬محمد سليامن‪ ،‬التغيري السيايس عند املودودي ‪ ،5/4‬عىل الرابط االلكرتوين‪:‬‬
‫‪http://alasr.me/articles/view/4854‬‬
‫‪ - 25‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪ - 26‬املودودي‪ ،‬بني يدي الشباب‪ ،‬الرياض‪ ،‬مكتبة الرشيد‪ ،‬ط‪ ،1983 ،2‬ص ‪.25‬‬

‫‪197‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫غيضان السيد عيل‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫الديمقراط َّية عند س ِّيد قطب‬


‫ِ‬
‫رفض سيد قطب ما انتهى إليه أستاذه ا ُمللهم املودودي‪ ،‬فال يوجد يشء اسمه ديمقراط َّية اإلسالم‪َّ .‬‬
‫وقرر َّ‬
‫أن اإلسالم والديمقراط َّية‬
‫عىل طريف نقيض‪ ،‬إ َّما حكم اهلل وإ َّما حكم اجلاهل َّية‪ .‬فتربز قضية «احلاكم َّية هلل» لتطبع الفكر السيايس كله عند س ّيد قطب بطابعها املميز‪.‬‬

‫واحلاكم َّية عند س ّيد قطب كفكرة استلهمها من املودودي‪ ،‬عقب الفتنة التي حدثت بني اإلخوان املسلمني ورجال الثورة‪ ،‬وتشكلت‬
‫معاملها يف السجن احلريب؛ وقد وجد س ّيد قطب يف مفهوم احلاكم َّية «اخلالص إذا أحسن استعامله واستخدامه إلدارة الرصاع بني اجلامعة‬
‫وخصومها‪ ،‬وتثوير املجتمع وجتييشه حلسم الرصاع لصالح الطرح اإلسالمي ضدَّ الطرح النارصي القومي‪ .‬وبالفعل متكَّن قطب من‬
‫إعادة صياغة مفهوم احلاكم َّية حتى جعله منهج ًا عقد َّي ًا وشعار ًا سياس َّي ًا‪ ،‬واستطاع الرجل أن يضفي الطابع العقدي عىل املفهوم ليكون‬
‫مرادف ًا لكلمة التوحيد وأصل اإليامن»‪.27‬‬

‫بأنا «الثورة الشاملة عىل‬


‫عرف احلاكمية َّ‬ ‫وقد بلور قطب مفهومه للحاكم َّية بحيث يتناقض متام التناقض مع الديمقراط َّية؛ فهو ُي ِّ‬
‫كل وضع يف أرجاء األرض احلكم فيه للبرش بصورة‬ ‫والتمرد الكامل عىل ِّ‬
‫ُّ‬ ‫كل صورها وأشكاهلا وأنظمتها وأوضاعها‪،‬‬ ‫حاكم َّية البرش يف ِّ‬
‫ألن احلكم الذي مر ُّد األمر فيه إىل البرش‪ ،‬ومصدر السلطات فيه هم البرش‪ ،‬هو تأليه للبرش‪ ،‬جيعل بعضهم لبعض أرباب ًا من‬ ‫من الصور‪َّ ،‬‬
‫إن هذا اإلعالن معناه انتزاع سلطان املغتصب ور ّده إىل اهلل‪ ،‬وطرد املغتصبني له‪ ،‬الذين حيكمون الناس برشائع من عند أنفسهم‪،‬‬ ‫دون اهلل‪َّ .‬‬
‫إن هذا معناه حتطيم مملكة البرش إلقامة مملكة اهلل يف األرض» ‪.‬‬
‫‪28‬‬ ‫فيقومون منهم مقام األرباب ويقوم الناس منهم مكان العبيد‪َّ ،‬‬

‫كل األنظمة البرش َية بوصفها تأليه ًا للبرش‪ ،‬وينعتها باخلرافة‪ ،‬بل إنَّه يقول‪َ « :‬د ْعك من تلك اخلرافة التي تتحدث‬ ‫ثم يرفض َّ‬ ‫ومن َّ‬
‫عن «األ َّمة مصدر السلطات»‪ ،‬وعن حق االنتخاب وحر َّية االختيار‪َّ ،‬إنا خرافة ال تستحق املناقشة» ‪َّ .‬‬
‫وإن الديمقراط َّية وقوانينها‬ ‫‪29‬‬

‫الوضع َّية كانت املالذ الوحيد لألوروبيني عندما مل جيدوا يف املسيح َّية ترشيع ًا للحياة‪ ،‬وإنَّنا إذا قلدناهم يف ذلك فإنَّنا أشبه ما نكون‬
‫ألن اإلسالم قد صاغ نفسه يف عقيدة تتمثل يف رشيعة‪ ،‬ورشيعة هي تفسري وحتقيق هلذه العقيدة‪ ،‬ووحدة‬ ‫بالقرود الذين يقلدون بغري فهم؛ َّ‬
‫شعورية ترشيع َّية‪ ،‬تتألف منها حياة واقعة‪ ،‬ممثلة يف العقيدة والسلوك‪ ،‬ويف العبادات واملعامالت‪ ،‬ويف الرسائر واجلوارح‪ ،‬ويف األفراد‬
‫واجلامعات‪.30‬‬

‫محل قطب َّ‬


‫كل املهاترات التي ارتكبها النظام النارصي من تعذيب وقتل واغتصاب للديمقراط َّية‪ ،‬أمل تكن هي النظام حيث‬ ‫وقد َّ‬
‫كل هذه الكوارث واملآيس؟‬ ‫ُارتكبت يف ظ ِّلها ُّ‬

‫ألن «اجلاهلية هي عبودية الناس للناس‪ :‬بترشيع بعض الناس‬ ‫درب من دروب اجلاهل َّية؛ َّ‬ ‫ثم َّقرر س ِّيد قطب َّ‬
‫أن الديمقراطية ٌ‬ ‫ومن َّ‬
‫يتم هبا هذا الترشيع‪ .‬واإلسالم هو عبود َّية الناس هلل وحده بتلقيهم منه وحده‬ ‫للناس ما مل يأذن به اهلل‪ ،‬كائنة ما كانت الصورة التي ُّ‬
‫والتحرر من عبود َّية العبيد» ‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫ُّ‬ ‫تصوراهتم وعقائدهم ورشائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم‬

‫‪ - 27‬حاتم صادق‪ ،‬أبو األعىل املودودي‪ ،‬األب الروحي للجامعات اإلسالمية‪ ،‬ص‪.39‬‬
‫‪ - 28‬سيد قطب‪ :‬معامل يف الطريق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬الطبعة الرشعية السادسة‪ ،1979 ،‬ص ‪.60-59‬‬
‫‪ - 29‬سيد قطب‪ :‬معركة اإلسالم والرأسامل َّية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬الطبعة الثالثة عرشة‪ ،1993 ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ - 30‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.57‬‬
‫‪ - 31‬س َّيد قطب‪ :‬معامل يف الطريق‪ ،‬ص ‪.149‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪198‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫العدالة والديمقراطية بني املودودي وس ِّيد قطب‬

‫الس للدخول إىل َ‬


‫عال‬ ‫إن احلاكم َّية هي كلمة ِّ‬ ‫َّ‬ ‫وهكذا فاإلسالم ال حيتمل أنصاف احللول‪ ،‬فإ َّما إسالم وإ َّما‬
‫كل من أيب األعىل املودودي وس ِّيد قطب؛ فعىل‬ ‫ٍّ‬ ‫جاهل َّية‪ ،‬الديمقراط َّية جاهل َّية يرفضها اإلسالم وال تستقيم معه‪.‬‬
‫فهناك أمران ال ثالث هلام؛ إ َّما االستجابة هلل والرسول‪ ،‬وإ َّما اتِّباع‬
‫أساس احلاكم َّية حكم الرجالن عىل املجتمع‬
‫اهلوى‪ .‬إ َّما حكم اهلل وإ َّما حكم اجلاهلية‪ .‬إ َّما احلكم بام أنزل اهلل‬
‫باجلاهل َّية‪ ،‬وعىل أساسها وصام املجتمعات‬ ‫أهم مهام اإلسالم‬ ‫ثم يصبح ُّ‬ ‫عم أنزل اهلل‪ .‬ومن َّ‬ ‫كله وإ َّما الفتنة َّ‬
‫اإلسالم َّية بالكفر خلروجها عن تلك احلاكم َّية‬ ‫إقصاء اجلاهل َّية عن البرش َّية‪ ،‬وتُعدُّ الديمقراط َّية إحدى دعائم هذه‬
‫اإلهل َّية‪ ،‬وعىل أساسها خاصم الرجالن‬ ‫اجلاهل َّية‪ .‬وهذا هو املوقف النهائي لس َّيد قطب من الديمقراط َّية‪.‬‬

‫تصور ًا للعدالة بعيد ًا عن‬


‫الديمقراط َّية‪ ،‬وبنيا ُّ‬ ‫خاتمة‬
‫الديمقراط َّية‬ ‫مهمة‪ ،‬من خالل بحث‬ ‫وهكذا ينتهي بنا املطاف إىل نتائج َّ‬
‫موضوع العدالة والديمقراط َّية بني املودودي وس ِّيد قطب‪ ،‬منها‪:‬‬
‫ُل من املودودي وس ِّيد قطب قد انطلقا يف بحث موضوعي العدالة والديمقراط َّية من منطلقات إيديولوج َّية بحتة؛ فاملودودي‬ ‫إن ك َّ ً‬
‫َّ‬
‫كان لزام ًا عليه أن يلجأ للحاكم َّية اإلهل َّية يف مواجهة احلاكم َّية البرش َّية يف اهلند‪ ،‬ومل يكن لديه طريق أخرى‪ ،‬فالعدالة غائبة حيث ُيعامل‬
‫ُعب عن رأي األكثر َّية لن تأيت إال بالسلطة‬ ‫املسلمون يف شبه القارة اهلند َّية باضطهاد وعنرص َّية وعدم مساواة‪ .‬والديمقراط َّية التي ت ِّ‬
‫ثم تصبح احلاكم َّية البرش َّية التي تثمرها الديمقراط َّية واالنتخابات‬ ‫اهلندوك َّية‪ ،‬فاملسلمون أقل َّية عدد َّية مقارنة باألكثر َّية اهلندوك َّية‪ ،‬ومن َّ‬
‫وكل حكم‪ ،‬فقد كان طبيعي ًا وطبق ًا ملصالح املجتمع املسلم اإليديولوج َّية أن ُ َت َّرم‬ ‫كل سلطة ِّ‬ ‫النياب َّية أداة فعل َّية إلبعاد املسلمني عن ِّ‬
‫تم مع س ِّيد قطب‪ ،‬فكيف يتصدى لالشرتاك َّية العرب َّية التي تبنَّاها النظام النارصي الذي‬ ‫الديمقراط َّية و ُت َقدَّ م كنقيض لإلسالم‪ .‬األمر ذاته َّ‬
‫احلب‬
‫كل صور الظلم واالستبداد؟ وكيف يستطيع أن يرصف َّ‬ ‫أقىص اإلخوان عن املشهد متام ًا‪ ،‬وأودعهم السجون‪ ،‬وارتكب يف حقهم َّ‬
‫اجلامهريي للنظام النارصي من قلوب اجلامهري الغفرية عقب اإلصالح الزراعي والقضاء عىل اإلقطاع وجمانية التعليم وتكافؤ الفرص‬
‫التحرر؟ فكانت احلاكم َّية هي الوسيلة ا ُملثىل لتقويض االشرتاك َّية العرب َّية النارص َّية‪.‬‬‫ُّ‬ ‫بني اجلميع‪ ،‬ومساعدة الشعوب العربية الشقيقة عىل‬
‫جمرد إيديولوج َّية ملواجهة الديمقراط َّية‬‫فكام بدت العدالة عند س ِّيد قطب إيديولوج َّية ملجاهبة املاركس َّية وبيان سوءاهتا‪ ،‬كانت احلاكم َّية َّ‬
‫تغيت الظروف واستقلت باكستان عن شبه القارة اهلند َّية تراجع املودودي عن رأيه‬ ‫واالشرتاك َّية العرب َّية النارص َّية‪ .‬ومصداق ذلك أنَّه َّملا َّ‬
‫يف احلاكم َّية ونادى بالديمقراط َّية وتغنَّى هبا‪ ،‬بل حتدَّ ث عن ديمقراط َّية إسالم َّية كوسيلة ُمثىل لتحقيق العدالة‪ .‬بينام مل تتغري الظروف مع‬
‫تم التصالح مع اإلخوان لكان بإمكاننا أن نرى س ِّيد قطب آخر حيمل‬ ‫وظل رهني حمبسه حتى إعدامه‪ .‬ولذلك نقول إنَّه لو َّ‬ ‫س ِّيد قطب‪َّ ،‬‬
‫آراء أخرى‪ ،...‬وليس ذلك ببعيد‪ ،‬فجامعات اإلسالم السيايس التي تش َّبعت بآراء املودودي وس ِّيد قطب يف احلاكم َّية وجدناها مجيع ًا‬
‫تشارك يف استفتاء تعديالت دستور مارس ‪ ،2011‬وتدعو إليه حتت مظلة ديمقراط َّية‪.‬‬

‫كل من أيب األعىل املودودي وس ِّيد قطب؛ فعىل أساس احلاكم َّية حكم الرجالن عىل‬ ‫عال ٍّ‬
‫الس للدخول إىل َ‬ ‫إن احلاكم َّية هي كلمة ِّ‬ ‫َّ‬
‫املجتمع باجلاهل َّية‪ ،‬وعىل أساسها وصام املجتمعات اإلسالم َّية بالكفر خلروجها عن تلك احلاكم َّية اإلهل َّية‪ ،‬وعىل أساسها خاصم الرجالن‬
‫تصور ًا للعدالة بعيد ًا عن الديمقراط َّية‪.‬‬
‫الديمقراط َّية‪ ،‬وبنيا ُّ‬

‫خيص مفهوم احلاكم َّية‪ ،‬فقد استلهمت‬ ‫كل من املودودي وس ِّيد قطب فيام ُّ‬ ‫تأثرت اجلامعات اإلسالم َّية يف جمملها وسوادها األعظم بآراء ٍّ‬
‫مجاعة التكفري واهلجرة عن طريق زعيمها شكري مصطفى فكرة احلاكم َّية يف احلكم بجاهلية املجتمع‪ ،‬كذلك األمر مع مجاعة اجلهاد‪ ،‬فقد رأى‬
‫وسيوا عليها‬‫أن األحكام التي حيتكم إليها املسلمون يف الوقت احلارض هي أحكام الكفار الذين وضعوها َّ‬ ‫حممد عبد السالم فرج َّ‬
‫زعيمها َّ‬
‫املسلمني‪ .‬وكذلك فعلت مجاعة الناجني من النار يف استخدام مفهوم احلاكم َّية لتكفري املجتمع حكَّام ًا وحمكومني واعتباره جمتمع ًا جاهلي ًا‪،...‬‬
‫أن املودودي صاحب احلاكمية تراجع عنها بعد استقالل باكستان‪.‬‬ ‫وما زالت بعض اجلامعات املتطرفة تتبنَّى هذا الفهم‪ ،‬ومل يدرك هؤالء َّ‬

‫‪199‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫غيضان السيد عيل‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫إن االستخدام اإليديولوجي لفكرة احلاكم َّية يف مواجهة اخلصم السيايس‪ ،‬هو الذي منع املودودي يف بداياته وس ِّيد قطب حتى هناياته‪،‬‬ ‫َّ‬
‫من أن ينتبها إىل أنَّه يمكن التوفيق بني الديمقراط َّية واإلسالم‪ ،‬وكذلك منعت العديد من اجلامعات اإلسالم َّية التي انطلقت فكر َّي ًا من‬
‫وأن من يرفضها باسم اإلسالم فإنَّه يكون بعيد ًا إىل حدٍّ ما عن روح اإلسالم؛‬ ‫أن الديمقراطية قد ُت ِّثل جوهر اإلسالم‪َّ ،‬‬ ‫احلاكم ّية أن ترى َّ‬
‫أمل يصبح الفصل بني السلطات أمر ًا رضور َّي ًا للحدِّ من جور احلكام واستفرادهم بالسلطة بشكل مطلق؟ واملجالس الترشيع َّية ما هي‬
‫احلل والعقد‪ ،‬كذلك أصبحت النقابات وسائر املنجزات الديمقراط َّية يف هذا املجال من األمور األساس َّية‬ ‫إال الشكل املعارص ألهل ِّ‬
‫القادرة عىل ختليص األ َّمة من الطغاة واملستبدِّ ين‪ ،‬واإلتيان باحلاكم العادل الذي يستطيع إقامة دولة العدل واملساواة وتطبيق الرشيعة‪،‬‬
‫ويقره‪ .‬وهو ما فطن إىل بعضه املودودي الذي‬ ‫أن الدين اإلسالمي حيرتم االختالف ُّ‬ ‫وأصبحت التعدد َّية السياس َّية أمر ًا مباح ًا عىل اعتبار َّ‬
‫أن س ِّيد قطب‬ ‫ختل عن االستخدام اإليديولوجي للحاكم َّية‪ ،...‬كام يزداد هذا األمر تأكيد ًا إذا أخذنا يف االعتبار َّ‬ ‫بدا مفكر ًا مرن ًا بعد أن َّ‬
‫ألنا كانت قبل املحنة وقبل جتربة االعتقال وقبل «معامل يف الطريق»‪ ،‬وقبل تبلور فكرة‬ ‫مل يك ِّفر من خالف أفكاره يف العدالة االجتامع َّية؛ َّ‬
‫وج َّه َّل من خالف أفكاره يف احلاكم َّية‪ ،‬أو قال بالديمقراط َّية الغرب َّية‪ ،‬واعتربها تأليه ًا للبرش‬
‫احلاكم َّية كإيديولوج َّية سياس َّية‪ ،‬ولكنَّه ك َّفر َ‬
‫من دون اهلل‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪200‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫العدالة والديمقراطية بني املودودي وس ِّيد قطب‬

‫أهم المصادر والمراجع‬


‫ُّ‬

‫أوالً‪ :‬املصادر واملراجع‬


‫‪ .1‬أبو األعىل املودودي‪ ،‬نظر َّية اإلسالم السياس َّية‪ ،‬تقديم حممد عاصم احلداد‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬الطبعة الثالثة‪.1967 ،‬‬
‫‪ .2‬أبو األعىل املودودي‪ ،‬بني يدي الشباب‪ ،‬الرياض‪ ،‬مكتبة الرشيد‪ ،‬ط‪.1983 ،2‬‬
‫‪ .3‬حسن حنفي‪ ،‬الدين والثورة‪ ،‬ج ‪ ،5‬احلركات الدينية املعارصة‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬مكتبة مدبويل‪.1988 ،‬‬
‫‪ .4‬سيد قطب‪ :‬معامل يف الطريق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬الطبعة الرشعية السادسة‪.1979 ،‬‬
‫‪ .5‬سيد قطب‪ ،‬معركة اإلسالم والرأساملية‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة عرشة‪.1993 ،‬‬
‫‪ .6‬سيد قطب‪ :‬معركة اإلسالم والرأساملية‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة عرشة‪.1993 ،‬‬
‫‪ .7‬سيد قطب‪ ،‬العدالة االجتامعية يف اإلسالم‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬القاهرة‪.1995 ،‬‬
‫‪ .8‬سيد قطب‪ ،‬السالم العاملي واإلسالم‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة عرشة ‪/2001‬الطبعة الرابعة عرشة‪.2006 ،‬‬
‫‪ .9‬عبد الفتاح حسنني العدوي‪ ،‬الديمقراطية وفكرة الدولة‪ ،‬اهليئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪.2011 ،‬‬
‫‪ .10‬حممد عيل حممد‪ ،‬عيل عبد املعطي حممد‪ ،‬السياسة بني النظرية والتطبيق‪ ،‬دار املعرفة اجلامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪.1997،‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬املعاجم واملجالت‬


‫‪ .1‬املعجم الوجيز‪ ،‬جممع اللغة العربية‪ ،‬تصدير إبراهيم مدكور‪ ،‬القاهرة‪ ،‬اهليئة العامة لشؤون املطابع األمريية‪.2005 ،‬‬
‫‪ .2‬عبد املنعم احلفني‪ ،‬املعجم الشامل ملصطلحات الفلسفة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة مدبويل‪ ،‬الطبعة الثالثة‪.2000 ،‬‬
‫‪ .3‬غيضان السيد عيل‪ ،‬العدالة بني الرشائع الساموية والقوانني الوضعية‪ ،‬جملة الثقافة اجلديدة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬اهليئة العامة لقصور الثقافة‪،‬‬
‫العدد ‪ ،311‬أغسطس‪.2016‬‬
‫‪ .4‬قاموس املصطلحات السياسية‪ ،‬تقديم سامح فوزي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬اهليئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2012 ،‬‬
‫‪ .5‬مراد وهبة‪ ،‬املعجم الفلسفي‪ ،‬دار قباء للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪.1998 ،‬‬
‫‪ .6‬حاتم صادق‪ ،‬أبو األعىل املودودي األب الروحي للجامعات اإلسالمية‪ ،‬جملة الثقافة اجلديدة‪ ،‬اهليئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫العدد‪ 289‬أكتوبر ‪.2014‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬املواقع اإللكرتونية‬


‫‪ .1‬أبو األعىل املودودي‪ ،‬اإلسالم واملدنية احلديثة‪ ،‬منرب التوحيد واجلهاد‪ ،‬ص ‪ .10-9‬عىل الرابط اإللكرتوين التايل‪:‬‬
‫‪http://3almnow.blogspot.com.eg/2015/10/blog-post_5746.html.‬‬

‫‪ .2‬حممد سليامن‪ ،‬التغيري السيايس عند املودودي ‪ ،5/4‬عىل الرابط االلكرتوين‪:‬‬


‫‪http://alasr.me/articles/view/4854‬‬

‫‪201‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ُ‬
‫الكفر بالديمقراط َّية والعدالة في زمن ما بعد الربيع العربي‪:‬‬
‫بحث في المفاهيم التي دارت على غير معانيها‬

‫صابرة بالفالح*‬

‫مقدمة‬
‫ّ‬
‫يظل السؤال عن عالقة الديمقراط َّية بالعدالة ووجوه التالقي بني املفهومني من أكثر املباحث إحلاح ًا عىل الفكر العريب املعارص الذي‬ ‫ُّ‬
‫أهم‬
‫يرنو إىل حتقيق الديمقراط َّية والعدالة باعتبارمها من مكاسب اخلطاب الكوين القائم عىل احرتام حقوق اإلنسان‪ ،‬وباعتبارمها من ّ‬
‫املتمسكة بالنموذج السلطوي الرعوي‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫مطالب الواقع العريب اجلديد الذي يسعى جاهد ًا إىل جتاوز النظم السياس َّية الكالسيك َّية‬

‫أن الدولة العرب َّية بدء ًا من االستقالل إىل الوضع الراهن مل تستطع وضع رؤية واضحة فيام يتعلق‬‫وقد ب َّينت ثورات الربيع العريب َّ‬
‫بالديمقراط َّية والعدالة الس َّيام االجتامع َّية‪ ،‬وهو ما ّ‬
‫جتل يف دوران الشعارات األساس َّية للربيع العريب حول هذين املفهومني‪.‬‬

‫أن نعالج القضايا املتصلة باملفهو َمني انطالق ًا من النظر يف دالالت الدّ يمقراط َّية والعدالة‪ ،‬وهدفنا من خالل‬
‫وقد ارتأينا يف بحثنا هذا ْ‬
‫النظر يف العالقات التي جتمع بني هذا الزوج الكشف عن حدود الوعي العريب املعارص بمتطلبات الديمقراط َّية والعدالة يف احلياة‬
‫االجتامع َّية والسياس َّية والدين َّية للفرد واجلامعة‪.‬‬

‫تتنزل عالقة الديمقراط َّية بالعدالة منزلة الوجه والقفا؟ وهل املساواة هي العدالة؟ وهل استطاعت ثورات الربيع العريب تغيري بنية‬ ‫هل َّ‬
‫الفكر العريب يف تناوله لقضايا الديمقراط َّية والعدالة االجتامع َّية؟‬

‫األول إىل‬
‫نتطرق يف َّ‬‫تبي واقع العامل العريب املعارص بعد الربيع العريب‪ ،‬وذلك يف عنرصين؛ َّ‬ ‫مفاهيم نسعى من خالل البحث فيها ُّ‬
‫َّ‬
‫املحك واملرجع َّية الرئيسة التي حتتكم إليها النخب املثقفة يف العامل‬ ‫عالقة الديمقراط َّية بالعدالة يف الفكر الغريب احلديث واملعارص باعتباره‬
‫العريب يف تناوهلا إلشكاليات عالقة الديمقراط َّية بالعدالة االجتامع َّية‪ .‬يف حني نعالج يف العنرص الثاين واقع تلك العالقة يف بلدان الربيع‬
‫العريب (تونس‪ ،‬مرص) وما انتهى إليه ذلك الواقع من آفاق مسدودة توحي َّ‬
‫بأن عالقة الديمقراط َّية بالعدالة يف بالدنا العربية ما زالت غري‬
‫واضحة املعامل‪.‬‬

‫‪ .1‬في دائرة المساواة والعدالة والديمقراط َّية في الفكر الغربي‬


‫أ ‪ .‬حدود املفاهيم وجماالت اشتغاهلا‬
‫تبي ماه َّية الديمقراط َّية(‪ )La démocratie‬اخلروج من دائرة املرجع َّيات الكالسيك َّية التي‬ ‫مل تستطع أغلب التعريفات التي رامت ُّ‬
‫تتكون من لفظني مها «ديموس»( ‪)Demos δῆμος‬‬ ‫عولت عىل التعريف اللغوي الذي يذهب إىل القول َّ‬
‫إن «الديمقراط َّية كلمة إغريق َّية َّ‬ ‫َّ‬
‫أي الشعب أو اجلامعة و«كراتوس» (‪ )Kratos κράτος‬أي السلطة والسيادة‪ .‬فإذا بالديمقراط َّية تفيد سيادة الشعب وسلطته‪ ،‬وحتيل‬

‫* أكادمي َّية من تونس‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪202‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الكُفر بالديمقراط َّية والعدالة يف زمن ما بعد الربيع العريب‬

‫أن تكون‬‫العدالة يف املفهوم العام ال تعدو ْ‬ ‫عىل نوع النظام السيايس الذي جيعل الشعب صاحب السلطة دون‬
‫حق حقه‪ ،‬وهي يف الفكر‬ ‫كل ذي ٍّ‬ ‫إعطاء ِّ‬ ‫متييز بني أفراد الشعب‪ ،‬ويف ذلك إشارة واضحة إىل رضورة حمو‬
‫خمتلف أشكال التمييز والتصنيف بني اجلامعات واألفراد‪ ،‬سواء‬
‫الفلسفي اليوناين من الفضائل األربع‬
‫تعلق األمر باألعراق أو باالنتامءات املذهب َّية والدين َّية أو باللون أو‬
‫(احلكمة والشجاعة واالستقامة والعدالة)‪،‬‬ ‫باجلنس أو باالنتامء اجلغرايف‪ .‬أ َّما يف مستوى الشكل‪ ،‬فالديمقراط َّية‬
‫وهو ما جيعل الديمقراط َّية والعدالة من‬ ‫تعني تنازل األفراد عن حقوق وحر َّيات طبيع َّية للمؤسسة السياس َّية‬
‫ال من‬‫متطلبات االجتامع البرشي وشك ً‬ ‫تعب عن تطلعاهتم وآماهلم‪.‬‬
‫التي متسك بزمام السلطة التي ِّ‬

‫أشكال التواصل بني اجلامعة التي تنتمي إىل‬ ‫ومن هذا املنظور َّ‬
‫فإن التنازل عن تلك احلقوق واحلر َّيات ال‬
‫فضاء جغرايف وثقايف واحد‬ ‫َ‬
‫املنتخبة من‬ ‫يعني التخيل عنها أو فقداهنا بقدر ما يعني منح السلطة‬
‫قبل األفراد تلك احلقوق‪ ،‬وهبذا الشكل تقوم الديمقراط َّية عىل مبدأ‬
‫التفويض‪ ،‬فاملواطن إذ يعطي للمؤسسة السياس َّية نفوذ ًا فلكي ِّ‬
‫حيملها مسؤول َّية السهر عىل أمن اجلميع ومحايتهم واإلبقاء عىل حقوقهم‪.‬‬

‫تعب نتائجها عن وعي املواطن بمدى التزام السلطة القائمة‬ ‫وبنا ًء عىل ذلك َّ‬
‫فإن االنتخاب بام هو حدث سيايس دوري يكتيس قيمة رمز َّية ّ‬
‫يظل يعيد عرب صندوق االنتخاب توزيع األوراق من جديد‪.‬‬ ‫ببنود االتفاق السابق‪ ،‬ويف ضوء تلك املعطيات يتحدَّ د موقف املواطن الذي ُّ‬

‫تصور غري دقيق عىل النحو الذي سنب ّينه بعد حني ‪ -‬وهو‬
‫قمة املامرسة الديمقراط َّية‪ - ،‬وهو ُّ‬
‫ويف هذا السياق عدَّ السياسيون االنتخابات َّ‬
‫ما جيعل منها غاية وهدف ًا عند البعض‪ ،‬وآل َّية من آليات احلكم الديمقراطي عند البعض اآلخر ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫كل ذلك َّ‬


‫أن الديمقراط َّية تقوم عىل مبدأ املساواة (‪ )L’égalité‬الذي يمنح األفراد احلقوق نفسها‪ ،‬ويطلب منهم الواجبات‬ ‫وما يعنيننا من ّ‬
‫حق املشاركة يف احلكم‪.‬‬
‫ويتفرع عن مبدأ املساواة جماالت عديدة منها االجتامعي ومنها الثقايف‪ ،‬وهي تؤكُّد تساوي مجيع األفراد يف ّ‬
‫َّ‬ ‫نفسها‪.‬‬

‫أن هذه املساواة هي اخلط الفاصل بني األنظمة السياس َّية الديمقراط َّية واألنظمة السياس َّية‬ ‫وقد ألفنا من الدراسات املعارصة التأكيد عىل َّ‬
‫االستبداد َّية والنظم التقليد َّية القائمة عىل سلطة الالهوت أو األنظمة الوراث َّية (اخلالفة‪.)... ،‬‬

‫تتوزع عىل فروع وأصناف؛ منها الديمقراط َّية السياسية التي جتعل الشعب حيكم نفسه بنفسه وذلك بانتخاب من‬ ‫َّ‬
‫إن الديمقراط َّية َّ‬
‫يسي شؤون الدولة واملجتمع اعتامد ًا عىل السلطة املمنوحة له‪ ،‬ومنها الديمقراط َّية االجتامع َّية والثقاف َّية والدين َّية (حر َّية االعتقاد‪ ،‬حر َّية‬ ‫ّ‬
‫العمل وتكبح مجاح االستغالل‪ .‬أ َّما العدالة فهي‬ ‫التعبري عن الرأي‪ )... ،‬والديمقراط َّية االقتصاد َّية التي تن ّظم اإلنتاج وحتافظ عىل حقوق َّ‬
‫أن تكون‬ ‫مفهوم شديد التقاطع مع املساواة‪ ،2‬وذلك بالنظر إىل تعدُّ د مستويات مشاكلة األوىل للثانية‪ ،‬فالعدالة يف املفهوم العام ال تعدو ْ‬

‫‪  1‬ـ نشري إىل أ ّن الدميقراطية ال تكتسب أي قيمة يف ذاتها ألنّها ال متثّل هدفاً بقدر ما هي أداة تحقق من خاللها الدولة غاياتها املتمثلة باألساس يف تخليص اإلنسان من‬
‫شهواته‪ .‬راجع سبينوزا‪ ،‬باروخ (‪1632‬م ‪1677 -‬م) (‪ :)Baruch Spinoza‬رسالة يف الالهوت والسياسة‪ ،‬ترجمة حسن حنفي مراجعة فؤاد زكريا‪ ،‬دار التنوير للطباعة‬
‫والنرش والتوزيع‪ ،‬ط ‪ ،1‬القاهرة مرص‪ ،2005 ،‬ص ص ‪.375 - 373‬‬
‫حق حقه‪ .‬وثانياً املساواة ‪)L’égalité( ‬‬
‫كل ذي ّ‬
‫‪ 2‬ـ ال ب َّد من اإلشارة يف هذا السياق إىل رضورة التمييز بني ثالثة مفاهيم‪ ،‬وهي‪ :‬أوالً‪ :‬العدالة (‪ )La justice‬مبا هي إعطاء ّ‬
‫باعتبارها محوا ً ملختلف أشكال التمييز بني الجنسني واألعراق والفئات االجتامعية عىل أساس املساواة أمام القانون‪ .‬وثالثاً اإلنصاف (‪ :)L’équité‬الذي يتمثّل يف سعي‬
‫القانون إىل إرجاع الحقوق ألصحابها‪.‬‬

‫‪203‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫صابرة بالفالح‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫حق حقه‪ ،‬وهي يف الفكر الفلسفي اليوناين من الفضائل األربع (احلكمة والشجاعة واالستقامة والعدالة) ‪ ،‬وهو ما جيعل‬
‫كل ذي ٍّ‬ ‫إعطاء ِّ‬
‫الديمقراط َّية والعدالة من متطلبات االجتامع البرشي وشك ً‬
‫ال من أشكال التواصل بني اجلامعة التي تنتمي إىل فضاء جغرايف وثقايف واحد‪.‬‬

‫ب ‪ .‬يف دالالت اختالف الفكر الغريب يف حتديد ماه َّية العدالة والديمقراط َّية‬
‫أن الثابت هو َّ‬
‫أن مسألة العدالة هي مسألة أخالق َّية‪ ،‬ويعود ذلك‬ ‫طغت منزلة العدالة يف احلياة االقتصاد َّية واملاد َّية عىل بقية األبعاد‪ ،‬بيد َّ‬
‫إىل كون العالقة بني الناس هي باألساس مرتبطة بمدلوالت الفضيلة وفق التصور األرسطي‪.3‬‬

‫أن قضية العدالة تؤ ّطرها‬ ‫وقد حدَّ د دافيد هيوم (‪1711‬م ـ ‪1776‬م) يف «مبحث يف مبادئ األخالق»‪ 4‬العالقة بني العدالة واملنفعة‪ ،‬مؤكد ًا َّ‬
‫أن الثورة الصناع َّية التي جعلت من اإلنتاج أساس احلياة‬ ‫عوامل خمصوصة تتصل بالوضع َّية التي يوجد فيها الناس‪ ،5‬ويف ذلك إشارة إىل َّ‬
‫االقتصاد َّية واالجتامع َّية تنطوي عىل دعوة واضحة إىل إعادة التفكري يف ماه َّية العدل ودالالته األخالق َّية‪ .‬فالقيمة املنفع َّية للعدالة يف تقدير‬
‫تصور مل يستطع الصمود أمام املقاربات املعارصة التي عملت عىل إعادة‬ ‫هيوم ال تتحقق إال يف جمتمع مدين يعرتف بامللك َّية اخلاصة‪ ،‬وهو ُّ‬
‫فهم العالقة بني العدالة واملجتمع‪.‬‬

‫التصور التقليدي نذكر قراءة فريديريك نيتشه (‪1844‬م ‪1900 -‬م) ‪ ،‬فقد حرص يف‬ ‫ُّ‬ ‫أهم املقاربات التي عملت عىل زعزعة‬‫ومن ّ‬
‫تبي ماهية العدالة يقتيض معاجلتها ضمن‬ ‫«جينيالوجيا األخالق» عىل إبراز أصل املعرفة والقيم والدوافع الكامنة وراءها‪ ،‬مؤكّد ًا َّ‬
‫أن ُّ‬
‫ثنائ َّية العبيد والسادة‪ ،‬فالشعور بالواجب وااللتزام الشخيص ضاربان يف القدم متعلقان بأقدم العالقات (التعاقد‪ ،)..،‬ويف مقدّ متها‬
‫للمرة األوىل يف مواجهة شخص آخر‪ ،‬وهو ما جيعله‬ ‫عالقة الشاري بالبائع وعالقة الدائن باملدين‪ ،‬وهي عالقات يقف فيها الشخص َّ‬
‫يشعر بحدود الذات‪.6‬‬

‫أن مت ُّثل مسألة العدالة الس َّيام يف املستوى االقتصادي‬


‫فإن الواضح للعيان َّ‬
‫ونحن إذا ما جتاوزنا حماوالت حتديد أصل فكرة العدالة‪َّ ،‬‬
‫مهها السؤال عن مدى رضورة موافقة العدالة ملصلحة الفرد‬ ‫مسألة معقدة‪ ،‬وذلك ملا يرتتب عىل البحث يف جتلياهتا من اختالفات‪َّ ،‬‬
‫لعل أ َّ‬
‫أن السؤال يبقى حول موافقة العدالة‬ ‫حق يكفله املجتمع‪ ،‬عىل َّ‬ ‫انطالق ًا من موقعه ونشاطه‪ ،‬إذ ترتبط العدالة بفكرة ّ‬
‫حق الفرد‪ ،‬وهو ّ‬
‫ملهارات الفرد‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ وزّع أرسطوطاليس العدالة إىل صنفني‪ ،‬وهام العدالة التوزيع ّية والعدالة التعويض ّية ‪ .‬فاألوىل تتمثل يف توزيع الخريات واألموال حسب االستحقاق‪ .‬أما الثانية فتفيد‬
‫تعويض املظلوم من الظامل يف البيع والرشاء ‪ ، ....‬عىل أساس قاعدة املساواة الرياضية‪.‬‬
‫‪Aristote (384- 322 avant Jésus- Christ), Ethique à Nicomaque, Traduit par Jules Tricot (1883- 1963), Collection Biblio Textes‬‬
‫‪Philosophiques, éd Vrin, Paris, 1994, p. 224.‬‬
‫‪4 . Hume, David ; Enquête sur les principes de la morale, traduit par Philippe Saltel et Philippe Baranger, Collection G F, Flammarion,‬‬
‫‪Paris, 1991 «De la justice».‬‬
‫‪  5‬ـ تتعدد مستويات املساواة االجتامع َّية والسياسية‪ ،‬وهي تتجىل يف أبعاد عديدة أه ّمها التبادالت االقتصاديَّة والقانون َّية واألخالق َّية‪.‬‬
‫‪6 . Nietzsche, Friedrich; Généalogie de la morale, Traduit de l’allemand par Isabelle Hildenbrand et Jean Gratien,Collection Folio Essais,‬‬
‫‪Gallimard, Paris,1991, p. 75.‬‬
‫راجع أيضاً‪ :‬نيتشه‪ ،‬فريدريك‪« ،‬يف جينالوجيا األخالق»‪ ،‬ترجمة فتحي املسكيني‪ ،‬مراجعة مح َّمد محجوب‪ ،‬املركز الوطني للرتجمة ودار سيناترا‪ ،‬تونس‪ ،2010 ،‬ص ص‬
‫‪98-97‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪204‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الكُفر بالديمقراط َّية والعدالة يف زمن ما بعد الربيع العريب‬

‫أهم أشكال العدالة ومظاهرها َّ‬


‫فإن‬ ‫احلق يف العمل من ّ‬
‫ويف هذا السياق أعاد الفكر الغريب التساؤل يف ثنائ َّية العدالة والنَّجاعة‪ ،‬فلئن كان ُّ‬
‫املصلحة هي مدار العالقات االجتامع َّية‪ ،‬ومن شأن التفريط يف العدل طلب ًا للنجاعة أن يؤ ّدي إىل تقويض االثنني «العدالة والنجاعة»‪،‬‬
‫عىل النحو الذي ن َّبه إليه إيريك فايل (‪1904‬م ‪1977-‬م) (‪.)Éric Weil‬‬

‫فاملواطن باعتباره عضو ًا يف املجتمع‪ ،‬جمتمع العمل‪ ،‬فإنَّه يطالب بجزء عادل من اإلنتاج أي الثروة‪ ،‬ومن شأن جتاهل ذلك املطلب ْ‬
‫أن‬
‫التمرد واملقاومة السلب َّية الناجتة عن اليأس‪ .7‬وهذا يعني‬
‫تتحمل وحدها وطأة احليف والظلم‪ ،‬وهو ما يدفعها إىل ُّ‬
‫َّ‬ ‫جيعل األطراف املحرومة‬
‫َّ‬
‫أن وحدة املجتمع ومتاسكه مسألتان ال سبيل إىل حتقيقهام ما مل نعمد إىل القضاء عىل خمتلف أشكال الضيم‪.‬‬

‫فالليربال َّية ربطت ربط ًا آل َّي ًا بني مفهوم الدولة ونموذج اإلنسان الفرد الذي يكون يف استقالل تام عن ّ‬
‫كل مرجع َّية‪ ،‬سواء أكانت دين َّية‬
‫التصور الذي طبع النظم السياس َّية املوسومة بالديمقراط َّية يف املستوى السيايس واالقتصادي‪ .‬فالقانون يم ّثل امتداد ًا‬
‫ُّ‬ ‫أم أخالق َّية‪ ،...‬وهو‬
‫لألفراد‪ .‬أ َّما السلطة فهي رضورة من رضورات احلياة االجتامع َّية‪.‬‬

‫وهو ما دفع هبنري برغسون (‪1859‬م ‪1941 -‬م) إىل القول َّ‬
‫إن الديمقراط َّية هي من نتاج العصور املتأخرة‪ .‬فديمقراط َّية املدن القديمة‬
‫(أثينا القرن السابع قبل امليالد) هي ديمقراط َّية النخبة (املواطن)‪ .‬وهي تفرتض وجود إنسان مثايل حيرتم اآلخرين مثلام حيرتم نفسه‬
‫وخيضع لواجبات يعدُّ ها مطلقة‪ .8‬فلئن كانت عالقة األفراد ببعضهم بعض ًا تُعدُّ مصدر ًا جلملة من اإلشكال َّيات الدالة عىل عدم التوافق‬
‫فإن ذلك يؤكّد رضورة وجود تنظيم سيايس يسعى إىل جتاوز ذلك التضارب‪.‬‬ ‫بني املصالح (األفراد)‪َّ ،‬‬

‫ج ‪ .‬الفكر الغريب املعارص والبحث عن معنى جديد للديمقراط َّية والعدالة‪ :‬جون رولز نموذج ًا‬
‫أهم ن َّقاد النظريات الكالسيك َّية التي مل تعد قادرة عىل إيفاء الواقع ح َّقه‪.‬‬
‫ُيعدُّ املفكّر األمريكي «جون رولز» (‪1921‬م ‪ 2002 -‬م) من ّ‬
‫بأن النظام الرأساميل والفكر ال ّليربايل يف صيغتهام القديمة‬
‫وقد انطلق «جون رولز» يف تأسيسه ملبادئ العقد االجتامعي اجلديد من اإلقرار َّ‬
‫تتوزع فيه الثروة بطريقة منصفة‪ ،‬فالرأسامل َّية أ َّدت إىل تقسيم املجتمعات إىل طبقة غن َّية وأخرى‬
‫عاجزان عن بناء نظام اجتامعي عادل‪َّ 9‬‬
‫فقرية هي السواد األعظم من املجتمع‪ ،‬وهو ما يو ّلد عندها شعور ًا بالقهر والظلم‪.‬‬

‫‪7 . Weil, Eric; Philosophie politique, Collection Problèmes et controverses, 5em éd, Librairie Philosophique J. Vrin, Paris, 1989, P183  «Que‬‬
‫‪la justice n’est rien sans l’efficacité et l’efficacité rien sans la justice, qu’ un système injuste se défait par la volonté de sa propre divinité‬‬
‫‪tutélaire qu’ est l’efficacité, et que tous les sermons, fussent- ils des plus nobles et des plus vrais dans leur abstraction, n’ont jamais contribué‬‬
‫‪à la création d’un système plus juste, aussi longtemps qu’ils ne se sont pas abaissés à prendre en considération les exigences de la réalité, de‬‬
‫‪l’intérêt, de l’organisation,du calcul rationnel».‬‬
‫‪8 . Bergson, Henri; Les deux sources de la morale et de la religion, Collection Grande textes10 édition Quadrige/PUF,Paris, 2008, P 299 «On‬‬
‫‪comprend donc que l’humanité ne soit venue à la démocratie que sur le tard (car ce furent de fausses démocraties que les cités antiques,‬‬
‫‪bâties sur l’esclavage, débarrassées par cette iniquité fondamentale des plus gros et des plus angoissants problèmes). De toutes les conceptions‬‬
‫‪politiques c’est en effet la plus éloignée de la nature, la seul qui transcende, en intention au moins, les conditions de la société close».‬‬
‫وتحقق لهم االحرتام املتبادل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪  9‬ـ و َّجه «رولز» نقدا ً الذعاً للنفع َّية الكالسيك َّية‪ ،‬مؤكدا ً أ َّن العدالة تهدف إىل تحقيق االندماح االجتامعي‪،‬‬

‫‪205‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫صابرة بالفالح‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫وحر َّية السوق أ َّدى إىل إمهال احلقوق االجتامع َّية لألفراد‪ .‬ويف املقابل مل يرت َّدد «رولز» يف نقد‬
‫اخلاصة ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إن اهتامم النظام الرأساميل بامللك َّية‬
‫الرؤية االشرتاك َّية التي وقعت‪ ،‬من حيث ال تدري‪ ،‬يف مفاضلة بني العدالة والنجاعة ‪ ،10‬وللخروج من هذه املفارقة القائمة عىل املفاضلة‬
‫بحق احلر َّية للجميع دون أن يؤ ّدي ذلك‬ ‫بني العدالة االجتامع َّية ومبادئ الرأسامل َّية يرى رضورة وضع صيغة جديدة للعدالة تنادي ّ‬
‫أن حتقق ظواهر‬ ‫احلق ذاته الذي ال يمكن إلغاؤه [‪ ...‬و] (ب) جيب ْ‬ ‫لكل شخص ُّ‬ ‫إىل حمو الفروق‪ ،‬فالعدالة هلا مبدآن يتمثالن يف‪(« :‬أ) ّ‬
‫اللمساواة جيب أن تتعلق بالوظائف واملراكز التي تكون مفتوحة للجميع يف‬ ‫أن َّ‬ ‫اللمساواة االجتامع َّية واالقتصاد َّية رشطني‪َّ :‬أوهلام يفيد َّ‬‫َّ‬
‫اللمساواة حمققة أكرب مصلحة ألعضاء املجتمع الذين هم ُّ‬
‫األقل مركز ًا‬ ‫أن تكون ظواهر َّ‬ ‫رشوط مساواة منصفة للفرص‪ ،‬وثانيهام يقتيض ْ‬
‫(وهذا هو مبدأ الفرق) »‪.11‬‬

‫وبناء عىل ذلك َّ‬


‫فإن العدالة ليست بالقيمة املطلقة‪ ،‬وإنَّام هي مرتبطة أشدَّ االرتباط بالنجاعة املاد َّية‪ ،‬وهي إىل جانب ذلك تقوم عىل‬
‫اللمتساوية»‪ 12‬التي جتعل من «مبادئ العدالة [‪ ]...‬تعيين ًا للرشوط املنصفة للتعاون االجتامعي» من جهة‪ ،13‬وأضحت العدالة‬ ‫«املساواة َّ‬
‫أن اعتبار «العدالة كإنصاف [هو] من أجل الديمقراط َّية يف املقام‬‫املكون الرئيس لـ«الديمقراط َّية التشاور َّية» من جهة أخرى‪ ،‬ذلك َّ‬
‫‪14‬‬
‫ِّ‬
‫ألن مبادئ العدالة تتطلب نظام ًا سياسي ًا ديمقراطيا» ‪.‬‬
‫ً ‪15‬‬ ‫األول‪َّ ،‬‬

‫ظل نظرية جون رولز متطلبات املنفعة ليصبح اإلنصاف العمود الفقري الذي تبنَّى نظرية العدالة بام هي نظرية‬ ‫لقد جتاوزت العدالة يف ّ‬
‫أن مفاهيم عديدة مثل العقد واالتفاق وامليثاق‬‫تقارب مستويات العدالة وآليات حتقيقها يف النسيج االجتامعي‪ .‬وقد الحظ «جون رولز» َّ‬
‫جتعل من العدالة ومبادئها اختيار ًا عقالني ًا‪.16‬‬

‫إن املراجعات املعارصة يف سعيها إىل جتاوز نقائص القراءات املؤدجلة‪ ،‬وباخلصوص النموذج الليربايل والنموذج االشرتاكي‪ ،‬انتبهت‬ ‫َّ‬
‫ظل جمتمع مدين ويف أحضان دولة‬‫إىل رضورة وجود عالقة جدل َّية بني العدالة االجتامع َّية واحرتام حقوق اإلنسان والديمقراط َّية يف ّ‬
‫‪17‬‬

‫‪ 10‬ـ رولز‪ ،‬جون‪ :‬العدالة كإنصاف‪ ،‬ترجمة حيدر حاج إسامعيل‪ ،‬مراجعة ربيع شلهوب‪ ،‬املنظمة العربيَّة للرتجمة‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪ ،2009 ،‬ص ‪ 358‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪148‬‬
‫‪ 12‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪  13‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪95‬‬
‫‪  14‬ـ فرميان‪ ،‬صموئيل‪ ،‬وآخرون‪ :‬اتجاهات معارصة يف فلسفة العدالة‪ ،‬جون رولز منوذجاً‪ ،‬ترجمة فاضل جتكر‪ ،‬مراجعة معني رومية‪ ،‬املركز العريب لألبحاث ودراسة‬
‫السياسات‪ ،‬سلسلة ترجامن‪ ،‬ط ‪ ،1‬الدوحة قطر‪ ،2015 ،‬ص ‪.134‬‬
‫وال يفوتنا يف هذا املقام اإلشارة إىل أ َّن هذا التصور قد راهن عليه يورغن هابرماس (‪1929‬م‪ ).... -‬الذي يُعترب من أه ّم منظري الدميقراطيَّة التشاوريَّة التي تُع ّد امتدادا ً‬
‫لنظرية هابرماس يف الفعل التواصيل‪ .‬وقد بنى‪ ‬هابرماس نظريته يف شأن «الدميقراط َّية التواصل َّية» عىل أنقاض نقده للرأسامل َّية‪ ،‬مؤكّدا ً أ َّن الفعل التواصيل يقتيض اإلقرار‬
‫بوجود اآلخر‪.‬‬
‫‪Habermas Jürgen L›espace public Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société bourgeoise, traduit par Marc de‬‬
‫‪Launay, Payot, Collection Critique de la politique, Paris, 1988.‬‬
‫‪Ferrarese, Estelle, Éthique et politique de l›espace public Jürgen Habermas et la discussion, Vrin, Collection La vie morale, Paris, 2015‬‬
‫‪ 15‬ـ رولز‪ ،‬جون‪ :‬العدالة كإنصاف‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.123‬‬
‫والسلطة والرأي العام‪ .‬ويرتتب عىل ذلك نشأة النقاش العقالين‬
‫‪ 16‬ـ ذهب هابرماس إىل القول إ ّن النموذج الدميقراطي يقوم عىل مفاهيم ثالثة أساسية‪ ،‬وهي العقالن ّية ّ‬
‫ُعب عن الرأي العام واإلرادة السياسيَّة للمواطنني‪.‬‬
‫والتداول الف ّعال بني املتحاورين يف ظل الدميقراطيَّة التشاوريَّة التي ت ّ‬
‫‪17 . Rawls, John ; Justice et démocratie, trduit par Catherine Audard, Seuil, Paris, 1993‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪206‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الكُفر بالديمقراط َّية والعدالة يف زمن ما بعد الربيع العريب‬

‫إن املراجعات املعارصة يف سعيها إىل جتاوز‬ ‫َّ‬ ‫القانون واملؤسسات‪ .‬وال جمال إىل حتقيق تلك العالقة إال باملحافظة‬
‫نقائص القراءات املؤدجلة‪ ،‬وباخلصوص‬ ‫عىل الفضاء العمومي املستقل‪ ،‬بام يؤ ّدي إىل توزيع عادل للثروة‪،‬‬
‫ويعزز اندماج األفراد يف جمتمع واحد ومتكافل‪ .‬فالتنظيم اإلداري‬ ‫ّ‬
‫النموذج الليربايل والنموذج االشرتاكي‪،‬‬
‫العقالين يؤ ِّدي إىل تغيري بنية املجتمع وفق قاعدة التفاعل البنَّاء بني‬
‫انتبهت إىل رضورة وجود عالقة جدل َّية بني‬ ‫األفراد يف تشكيل دولة احلق‪.‬‬
‫العدالة االجتامع َّية واحرتام حقوق اإلنسان‬
‫ظل جمتمع مدين ويف أحضان‬ ‫والديمقراط َّية يف ّ‬ ‫‪ .2‬العدالة والديمقراط َّية وإشكال َّية المفاهيم التي تدور‬
‫على غير دالالتها في واقع الربيع العربي‬
‫دولة القانون واملؤسسات‬
‫أ ‪ .‬بناء الدولة الوطن َّية واملفاضلة بني العدالة والديمقراط َّية‬
‫سوغت القوى االستعامرية لوجودها يف البالد العربية بطرق‬ ‫َّ‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫مهها قدومها النتشال العرب من التخلف والرجعية واالنغالق‪ ،‬واألخذ بيدهم نحو احلداثة والتمدُّ ن‪ ،‬ويف املقابل فإن احلركات‬ ‫خمتلفة؛ أ ُّ‬
‫الوطنية ‪-‬عىل اختالف درجاهتا وأنواعها‪ -‬اعتمدت يف بناء خطاهبا املقاوم لالستعامر عىل ُبعدين‪ ،‬وذلك حسب طبيعة املخاطبِني‬
‫املوجه ألبناء الوطن‪ ،‬ويكفي اإلشارة إىل‬‫وأوضاعهم؛ فالبعد األول مت ّثل يف ِّاتاذ حترير بالد اإلسالم من دنس النّصارى ل َّب ًا للخطاب َّ‬
‫حرض عىل عدم دفن التونس ّيني الذين كانوا حيملون جنس َّية‬ ‫أن أكثر زعامء املقاومة الوطن َّية علامن ًّي ًة يف تونس‪ ،‬ونعني به احلبيب بورقيبة‪َّ ،‬‬‫َّ‬
‫فرنس َّية يف مقابر املسلمني (‪1932‬م) رغم «تر ُّدد بعض مشايخ الزيتونة يف مساندته»‪.18‬‬

‫انفك يو ّظفه دعاة االستقالل يف مجيع مراحل العمل الوطني‪ ،‬فاملسألة الدين َّية وقضية اهلو َّية العرب َّية اإلسالم َّية هي‬
‫وهو موقف ما َّ‬
‫أهم «دعائم احلركة القوم َّية» التي حرصت عىل قطع الطريق أمام دعاة االندماج يف الدولة الفرنس َّية‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫إحدى ّ‬

‫ِ‬
‫املستعمر‪.‬‬ ‫وال خيفى عىل أحد ما لعبته املؤسسات الدين َّية (الزيتونة‪ ،‬األزهر‪ ).. ،‬والنخب الدين َّية يف البالد العرب َّية يف تعبئة العا َّمة ضد‬
‫املوجه إىل النخب املثقفة يف البلدان االستعامر َّية‪ ،‬ومدار هذا اخلطاب التذكري باملفارقة القائمة بني‬ ‫أ َّما البعد الثاين فقد مت ّثل يف اخلطاب َّ‬
‫وحق الشعوب يف تقرير‬ ‫ال من أشكال االستغالل‪ ،‬وما نادت به املواثيق الدول َّية القاضية باملساواة بني البرش ّ‬ ‫االستعامر باعتباره شك ً‬
‫مصريها (اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان ‪ 10‬ديسمرب ‪1948‬م)‪.‬‬

‫بأن حصول احلركات الوطن َّية عىل االستقالل قد أ َّدى إىل تغيري بنية اخلطاب الذي أصبح يدور‬ ‫وال بدَّ يف هذا املقام من التذكري َّ‬
‫باألساس حول مرشوع بناء الدولة الوطن َّية‪ ،‬وباتت مقاومة اجلهل واألم َّية ورفع مستوى العيش وحتقيق املساواة االجتامع َّية اهلدف‬
‫الرئيس للدولة الوطن َّية ومؤسساهتا‪.‬‬

‫حتول‬
‫بسبل النجاة دون غريه من الرجال‪ ،‬وقد ترتب عىل ذلك ُّ‬ ‫التمش تشكَّلت «صورة الزعيم املنقذ» العارف ُ‬ ‫ِّ‬ ‫وبالتوازي هلذا‬
‫«صورة الزعيم» من صورة الراعي لالستقالل إىل صورة اإلله املعبود ‪ -‬مجال عبد النارص (‪1970-1918‬م)‪ ،‬احلبيب بورقيبة (‪-1903‬‬
‫‪2000‬م)‪ .-...،‬وهو ما أنتج أنظمة كليان َّية شمول َّية ُتتزل فيها الدولة يف شخص الزعيم الذي بدونه يكون األبناء كاأليتام عىل مائدة‬

‫‪  18‬ـ راجع يف شأن ذلك ما كتبه الدكتور سعد غراب يف كتابه «العامل الدّيني والهويّة التّونس ّية» سلسلة موافقات‪ ،‬الدار التونس َّية للنرش‪ ،‬ط ‪ ،2‬تونس‪ ،1990 ،‬ص ص‬
‫‪.21 - 20‬‬
‫‪  19‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.20‬‬

‫‪207‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫صابرة بالفالح‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫يتغي‪ ،‬ففي تونس ما بعد الثورة عمدت وسائل اإلعالم التي تدعم الرئيس الباجي قايد السبيس (‪1926‬‬
‫اللئام ‪ .‬ولعل الوضع مل َّ‬
‫‪20‬‬
‫م ‪ ).... -‬إىل تقديم م َّ ِ‬
‫وحمرر املرأة»‪.21‬وهي بذلك كانت حتيي يف نفوس قسم كبري من‬ ‫رشحها باعتباره امتداد ًا لـ«صانع تونس احلديثة ّ‬ ‫ُ‬
‫التونسيني والتونس َّيات احللم باسرتجاع املايض اجلميل (الزعيم احلبيب بورقيبة)‪ .‬وقد ب َّينت اإلحصائ َّيات التي تلت الدور الثاين من‬
‫أهم الفئات التي منحت السيد الباجي قايد السبيس أصواهتا‪.‬‬ ‫انتخابات الرئاسة التونس َّية َّ‬
‫أن املرأة واملتقدِّ مني يف السن من ِّ‬

‫ب ‪ .‬تونس بني أحالم الثورة وواقعها‬


‫عندما نجح الشعب التونيس يف إزاحة نظام دولة اجلنرال زين العابدين بن عيل (‪1936‬م ‪ ).... -‬عمدت التيارات السياس َّية واألحزاب‬
‫املعروفة (حركة النهضة‪ ،‬احلزب الشيوعي‪ ،‬حزب العمل‪ ،‬حزب التكتل‪ ،‬حزب املؤمتر‪ ،‬احلزب االشرتاكي التقدُّ مي‪ )... ،‬إىل عرض‬
‫تصوراهتا ملرحلة ما بعد الثورة باعتبارها املرحلة التي يتجاوز فيها الشعب التونيس طور الديكتاتور َّية إىل طور الديمقراط َّية‪ .‬وقد وضعت‬
‫ُّ‬
‫تلك التيارات براجمها السياس َّية لتحقيق «االنتقال الديمقراطي»‪ .‬وكان حتقيق العدالة القاعدة الرئيسة التي دارت حوهلا الربامج السياس َّية‬
‫وعقدت من أجلها التحالفات والتكتُّالت السياس َّية‪.‬‬

‫ظل اخلطاب املتحكِّم يف األحزاب اليسار َّية يدور يف‬ ‫إن مل نقل مجيعها‪ -‬عن آفاق االنتامء اإليديولوجي‪ ،‬فقد َّ‬ ‫ومل خترج أغلب الرؤى ‪ْ -‬‬
‫جتل يف الدعوات إىل رفع األجور‬ ‫والفلح والطبقات املحرومة‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫َّ‬ ‫بحق العامل‬
‫فلك العدالة االشرتاك َّية ومفاهيمها الثور َّية التي حتتفي ِّ‬
‫ظل ن َفس ثوري يقوم باألساس عىل توزيع عادل للثروة ‪.‬‬
‫‪22‬‬ ‫وحتقيق العدالة بني اجلهات (املناطق الداخل َّية ‪/‬املناطق الساحل َّية)‪ ،‬وذلك يف ِّ‬
‫التوجه اإلسالمي (حزب حركة النهضة) إىل تقديم نفسها باعتبارها امتداد ًا للمرشوع اإلصالحي‬ ‫ُّ‬ ‫ويف املقابل عمدت األحزاب ذات‬
‫التونيس (خري الدين باشا ‪1890 - 1820‬م‪ )... ،‬من ناحية‪ ،‬ومن ناحية ثانية اختذت من التجربة الرتك َّية املعارصة املتمثلة يف «حزب العدالة‬
‫التصور اإلسالمي‪.24‬‬
‫ُّ‬ ‫والتنمية»‪23‬نموذج ًا هلا يف اخلطاب ومرجع ًا حترص عىل حماكاته واتباعه قصد بلوغ التنمية وحتقيق العدالة وفق‬

‫أن حزب حركة النهضة مل ِ‬


‫يناد بشعارات ألفناها يف الفكر اإلخواين مثل «اإلسالم هو احلل»‪ ،...‬وغري ذلك من‬ ‫وما يلفت االنتباه َّ‬
‫الشعارات‪ .‬وإنَّام عمد إىل تذويب املفاهيم اإلسالم َّية يف دالالت معارصة (الشورى= الديمقراط َّية‪ ،‬اإلنصاف= العدالة‪ ،)...،‬وهو بذلك‬

‫آماال يف‬
‫‪  20‬ـ خري مثال عىل ذلك التجربة املرصيَّة بعد ثورة الضبّاط األحرار‪ ،‬ثورة يوليو ‪ ،1952‬التي وضعت قانون اإلصالح الزراعي وأعطت مبوجبه لصغار الفالحني ً‬
‫وحسنت أوضاع صغار املوظفني‪ ،‬وبنت املساكن االجتامع َّية ملحدودي الدخل‪ ،‬ولك ّنها يف املقابل حلّت عام ‪ 1954‬األحزاب‬
‫الحياة‪ ،‬ورفعت من مستوى أجور العامل‪َّ ،‬‬
‫السياسية واعتُقل املعارضون للسلطة ونُكّل بهم‪ ،‬وهو ما اعتُرب تراجعاً عن مكاسب سياسيَّة متتّع بها املرصيون زمن حكم امللك فاروق (‪ 1920‬م‪ 1965 -‬م) املمتدَّة من‬
‫‪1937‬إىل ‪1952‬م‪.‬‬
‫‪  21‬ـ هذه الكلامت هي الكلامت املد ّونة عىل قرب الرئيس األ َّول للجمهورية التونسيَّة الحبيب بورقيبة‪.‬‬
‫‪  22‬ـ اعتربت املاركس َّية أ َّن العدالة ترتبط بوجود الدولة التي تنمو فيها العالقات اإلنتاج َّية املعقّدة‪ ،‬وهو ما يفرز تفاوتاً واضحاً بني الطبقات املشكلة للمجتمع‪ ،‬يرتتب‬
‫عليه ظهور أشكال ومامرسات اجتامعيَّة ّ‬
‫(الرق‪ ،‬اإلقطاعيَّة‪ ،‬الرأسامليَّة‪.)... ،‬‬
‫تأسس حزب العدالة والتنمية الرتيك سنة ‪2001‬م عىل أنقاض حزب الفضيلة الذي كان نجم الدين أربكان زعيمه‪ .‬وقد استطاع حزب العدالة والتنمية تصدُّر املشهد‬
‫‪  23‬ـ َّ‬
‫السيايس الرتيك باعتامده خطاباً سياسياً معتدالً يدغدغ يف األتراك أحالم اسرتجاعهم ألمجاد اإلمرباطوريَّة العثامنيَّة‪ ،‬وهو ما دفع باملتابعني السياسيني إىل القول إ َّن حزب‬
‫العدالة والتنمية بقيادة رجب ط ّيب أردوغان هو حزب «العثامنيني الجدد»‪.‬‬
‫‪  24‬ـ نشري إىل محاكاة جملة من األحزاب يف البالد العربيَّة للمثال الرتيك‪ ،‬ففي تونس واملغرب نشأت أحزاب تحمل االسم نفسه «حزب العدالة والتنمية» (حزب العدالة‬
‫والتنمية يف املغرب تأسس ‪1997‬م‪ ،‬أي قبل حزب العدالة والتنمية يف تركيا)‪ .‬وقد تصدَّر يف املغرب األقىص مع عبد اإلله بنكريان (‪ 1954‬م ‪ )... -‬املشهد السيايس يف أكرث‬
‫من مناسبة آخرها االنتخابات الترشيعية األخرية (أكتوبر ‪ .)2016‬وما يلفت االنتباه هو أ َّن التجربة الرتكيَّة قد جمعت يف خطابها بني بعدين هام‪ :‬البعد الديني والبعد‬
‫اطوري العثامن َّية)‪ ،‬يف حني ركّزت األحزاب العرب َّية عىل ال ُبعد األول يف أغلب األحيان‪.‬‬
‫َّ‬ ‫القومي (اإلمرب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪208‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الكُفر بالديمقراط َّية والعدالة يف زمن ما بعد الربيع العريب‬

‫مل تكتسب النظم السياس َّية رشع َّية وجودها‬ ‫سار ضدَّ التيار اإلسالمي(‪ )Islamique‬واإلسالموي(‪)Islamiste‬‬
‫من طرق توليها احلكم (االنتخاب‪،‬‬ ‫الذي يعمد دائ ًام وأبد ًا إىل إعطاء املفاهيم املعارصة دالالت إسالم َّية‬
‫كي يؤكِّد وجودها يف اإلسالم ونصوصه الفقه َّية واألصول َّية‪.‬‬
‫االنقالب‪ )....،‬فحسب‪ ،‬وإنَّام أيض ًا من‬
‫قدرهتا عىل إقرار مبادئ العدالة بني أفراد‬ ‫ظل يدوران يف فلك‬ ‫إن التيار التقدُّ مي والتيار اإلسالمي َّ‬ ‫َّ‬
‫املجتمع‪ ،‬بدء ًا من العدالة االجتامع َّية وصوالً‬ ‫املرجع َّيات التقليد َّية يف معاجلتهام للعدالة يف بعدها االجتامعي‬
‫إىل حتقيق العدالة يف مؤرشات احلياة (التعليم‪،‬‬ ‫والسيايس‪ ،‬فكانت عندمها العدالة والديمقراط َّية صنوين‪ ،‬أو من‬
‫املرتادفات التي يفيد احلديث عن إحدامها احلديث عن األخرى‬
‫الصحة‪ )... ،‬والرفاهية‬
‫من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى ض َّيقت تلك املقاربات دائرة العدالة‬
‫أن التونسيني‬‫واختزلتها يف إعطاء اجلياع خبز ًا‪ ،‬ونيس اجلميع َّ‬
‫ينتظرون من الطبقة السياس َّية (احلاكمة واملعارضة) أكثر من الوعود‪ ،‬فالتونسيون ما انفكُّوا ينادون قبل الثورة‪« :‬خبز و َما (ماء) وبن‬
‫عيل ال»‪.‬‬

‫أن التونيس يبحث عن آفاق جديدة حتقق له الرخاء واحلر َّية‬ ‫ويف هذا الشعار الثوري وغريه من شعارات الثورة التونس َّية تأكيد عىل َّ‬
‫ثمة مسافة فاصلة بني اخلطاب السيايس املنغلق عىل اإليديولوج َّيات‬ ‫(الثقاف َّية‪ ،‬الدين َّية‪ ).... ،‬والثروة‪ ،‬ويف ذلك إشارة واضحة إىل َّ‬
‫أن َّ‬
‫عب عنه الشارع التونيس‬ ‫الكالسيك َّية‪ ،‬وخطاب الشارع املنفتح عىل الواقع والعامل واملتط ّلع إىل ما هو أبعد من وعود السياس ّيني‪ ،‬وهو ما َّ‬
‫يف انتخابات (‪ 2014‬م)‪ ،‬فالذين فازوا يف األوىل (انتخابات املجلس الوطني التأسييس ‪ 2011‬م) تراجعوا تراجع ًا واضحا يف الثانية‬
‫ً‪25‬‬

‫(االنتخابات الترشيع َّية والرئاس َّية ‪ 2014‬م)‪ ،‬وال نستبعد تراجع الفائزين يف الثانية يف االنتخابات القادمة‪.‬‬

‫جاء الربيع العريب ليضع أمام الباحث يف علم االجتامع نمطني من العالقة بني الديمقراط َّية والعدالة‪ ،‬فالتجربة التونس َّية ْ‬
‫وإن‬
‫فإن املامرسة تكشف عن مفارقات عديدة‪،‬‬ ‫أومهت بتحقيقها بعض مطالب ثورهتا التي دارت عىل ثنائ َّية «احلر َّية والكرامة» َّ‬
‫أن احلق يف االنتخاب ْ‬
‫وإن‬ ‫فالديمقراط َّية التي تبنى عليها مسارات العدالة االنتقال َّية انتهت إىل عودة قو َّية لـ«الثورة املضا َّدة»‪ .‬ذلك َّ‬
‫ال من أشكال العدالة واملساواة بني األفراد واجلهات فإنَّه يف التجربة التونس َّية أعاد للواجهة ركائز النظام االستبدادي القديم‬ ‫ُعدَّ شك ً‬
‫وأحيا الدولة العميقة‪.‬‬

‫فإن الواقع خيرب عن بون شاسع بني اخلطاب‬ ‫ونحن إذا ما بحثنا يف مستويات العدالة االجتامع َّية يف تونس ما بعد ثورة ‪2011‬م َّ‬
‫تغي ًا ُينبِئ بوجود إرادة سياس َّية للخروج من نفاق التخيري بني «الديمقراط َّية أو‬
‫واملامرسة‪ ،‬فالعدالة االجتامع َّية والثقاف َّية مل تشهد ُّ‬
‫العدالة»‪.‬‬

‫بأن احلزب النازي بقيادة أدولف هتلر (‪1889‬ـ ‪1945‬م) يف أملانيا اعتىل احلكم بعد انتخابات مبارشة ونزهية‬ ‫فالتاريخ خيربنا َّ‬
‫ال من أشكال ممارسة‬ ‫يدل داللة قاطعة عىل َّ‬
‫أن الرهان عىل املامرسة االنتخاب َّية باعتبارها شك ً‬ ‫شارك فيها األملان بكثافة‪ ،‬وهو ما ُّ‬
‫حتقق العدالة أو املساواة‪ .‬وهو ما ُيعيد إىل األذهان السؤال عن حدود العدالة ومستوياهتا‪ ،‬ففي‬ ‫الديمقراط َّية ال يعني بالرضورة ُّ‬
‫ظل انتشار «األم َّية السياس َّية» يف املجتمعات العرب َّية اإلسالم َّية ُيعدُّ منح االنتخاب للجميع خطر ًا عىل الديمقراط َّية‪ ،‬وليس ّ‬
‫أدل‬ ‫ِّ‬

‫‪  25‬ـ تراجع حزب املؤمتر من أجل الجمهوريَّة من ‪ 29‬مقعدا ً يف انتخابات ‪2011‬م‪ ،‬إىل ‪ 4‬مقاعد يف انتخابات ‪2014‬م‪ .‬أ َّما التكتل الدميقراطي من أجل العمل والحريات‬
‫بأي مقعد يف انتخابات ‪ 2014‬بعد أ ْن كان له ‪ 20‬مقعدا ً يف انتخابات ‪ ،2011‬وخرس حزب حركة النهضة اإلسالمي عرشين مقعدا ً يف مجلس ن ّواب الشعب‪.‬‬
‫فلم يحظ ّ‬

‫‪209‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫صابرة بالفالح‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫عىل ذلك من التهم التي رافقت احلمالت االنتخاب َّية الربملان َّية والرئاس َّية يف تونس (‪ 2014‬م) من استعامل للامل السيايس يف رشاء‬
‫األصوات‪.‬‬

‫أن العدالة يف املامرسة السياس َّية تتطلب من صاحب احلق وعي ًا سياسي ًا وشعور ًا باملسؤول َّية اجلامع َّية التي تقوم باألساس‬ ‫وما مل نستوعب َّ‬
‫ِ‬ ‫عىل دحض املصالح الذات َّية َّ‬
‫فإن الواقع العريب سواء أتى الربيع أم مل يأت يبقى معت ًام ‪.‬‬
‫‪26‬‬

‫ج ‪ .‬قراءة يف ثنائ َّية العدالة والديمقراط َّية يف التجربة املرص َّية‬


‫أن اإلسالم هو ُّ‬
‫احلل الذي يتيح لأل َّمة اخلروج من‬ ‫ما انفكَّت التيارات اإلسالم َّية عىل اختالف مذاهبها (السلف َّية‪ ،‬اإلخوان‪ )... ،‬تؤكِّد َّ‬
‫وضعها املرت ِّدي‪ ،‬وهو خطاب يقوم عىل اعتبارين متداخلني؛ يتمثل األول يف رضورة استعادة حلظة تارخي َّية و ّلت وانقضت‪ ،‬وهي حلظة‬
‫حولتها إىل فرتة مثالية‪ .‬أ َّما االعتبار الثاين فيتجىل يف إثبات قدرة املفاهيم‬‫اخلالفة الراشدة التي نسج حوهلا املتخ ّيل اإلسالمي رؤى عديدة َّ‬
‫اإلسالم َّية (الشورى‪ )... ،‬عىل استيعاب واقع املسلمني‪ .‬وقد نتج عن ذلك وعي جديد رأى يف االبتعاد عن أصول اإلسالم فساد ًا من‬
‫حمل أخرى (الشعب‪ ،‬الدولة)‪.‬‬ ‫جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى ح ّلت مفاهيم مع َّينة (األ َّمة‪ ،‬اخلالفة‪َّ )... ،‬‬

‫الرؤية مل تكن من ثوابت اخلطاب اإلسالمي‪ ،‬فمنذ تأسيس اإلخوان املسلمني (‪1928‬م)‬ ‫أن هذه ُّ‬ ‫ويف ما يتَّصل هبذه املسألة نشري إىل َّ‬
‫حتوالت واضحة تأرجح فيها اخلطاب بني االنفتاح‬ ‫عىل يد «حسن البنَّا» (‪1906‬م ‪1949 -‬م) إىل اليوم عرف الفكر اإلخواين يف مرص ُّ‬
‫والتشدُّ د‪ ،‬وقد سامهت النكسات التي عرفتها مرص (‪1967‬م) وإقدام القيادة املرص َّية سنة ‪1978‬م عىل إبرام معاهدة سالم مع إرسائيل‬
‫حتوالت اجتامع َّية واقتصاد َّية متثلت يف االنفتاح عىل اقتصاد السوق واتباع‬
‫(معاهدة كامب ديفيد) (‪ ،)Camp David‬وما تبعها من ُّ‬
‫فسحقت الطبقة الوسطى‪ ،‬واتَّسعت‬ ‫عمق الفجوة االجتامع َّية بني الطبقات الغن َّية والطبقات الفقرية املحرومة‪ُ ،‬‬ ‫النمط الليربايل‪ ،‬وهو ما َّ‬
‫قاعدة الفقراء‪ ،‬وتفاقمت اآلفات االجتامع َّية‪.‬‬

‫ظل هذا الوضع ساد املشهد العام الشعور باليأس الذي جعل من الثورة املرص َّية ثورة اليائسني الذين يبحثون عن أمل جديد يبعث‬‫ويف ِّ‬
‫يفس االنخراط التلقائي من أغلب طبقات املجتمع املرصي يف‬ ‫يف األرواح امليتة احلياة وينتشل األجيال القادمة من املجهول‪ .‬وذلك ما ّ‬
‫ثورة ‪ 25‬يناير ‪ 2011‬م‪.‬‬

‫وقد م ّثلت حلظة الثورة حلظة البحث عن البديل الذي حي ّقق أحالم اجلامعة الطاحمة إىل العدالة واحلر َّية‪ ،‬وهي رغبة جعلت املرصيني‬
‫واملرصيات يعطون ثقتهم لإلخوان املسلمني باعتبارهم اجلامعة السياس َّية الوحيدة التي مل متارس احلكم ومل يثبت فسادها‪ ،‬وبالنظر إىل‬
‫ما حيمله خطاهبا من أحالم ورد َّية تَعدهم بالغد السعيد‪ .‬ويف املقابل اختذت املؤسسة العسكر َّية (عبد الفتّاح السييس (‪1954‬م ‪)... -‬‬
‫حجة هلا يف إزاحة اإلخوان املسلمني الذين م ّثلوا يف تقدير السلطة العسكر َّية خطر ًا عىل الديقراط َّية وسلطة‬ ‫من تصحيح مسار الثورة َّ‬
‫سوغ النظام املرصي القائم‬ ‫القرار السيايس الوطني‪ ،‬وباسم محاية الديمقراط َّية واملحافظة عىل مكاسب الدولة الوطن َّية وقيم احلداثة َّ‬
‫قوض حلم املرصيني‬ ‫حممد مريس (‪1951‬م ‪ ،)... -‬أ َّما اإلخوان فقد عدُّ وا ما قامت به املؤسسة العسكر َّية انقالب ًا ُي ِّ‬
‫إزاحته للرئيس السابق َّ‬
‫بالديمقراط َّية‪ .‬فاإلخوان يف مرص ما زالوا يطالبون بإعادة الوضع إىل ما كان عليه احرتام ًا إلرادة الشعب املرصي‪ ،‬وبني هذا وذاك ضاع‬
‫احلديث عن العدالة االجتامع َّية التي مل تعد اهلدف الذي حيرص النظام السيايس عىل حتقيقه‪.‬‬

‫‪  26‬ـ راجع بشارة‪ ،‬عزمي وآخرون‪ :‬ما العدالة‪ ،‬معالجات يف السياق العريب‪ ،‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬ط ‪ ،1‬الدوحة قطر ‪« 2014‬الفصل الثامن ملراد ِدياين‬
‫ص ‪ ،325‬الفصل التاسع ملح ّمد الحداد ص ‪ ،371‬الفصل الثاين عرش لعبد الكريم داود‪ .‬ص ‪.»477‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪210‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الكُفر بالديمقراط َّية والعدالة يف زمن ما بعد الربيع العريب‬

‫يفس امليل الدائم إىل حرص العدالة يف ُبعد واحد‪،‬‬ ‫أهم سامت االجتامع البرشي الس َّيام املعارص‪ ،‬وهو ما ِّ‬
‫تُعترب العدالة وقضاياها من ّ‬
‫وهو ال ُبعد االجتامعي «العدالة االجتامع َّية»‪ .‬وعادة ما يقرتن احلديث عن العدالة بمطالب الثورات واستحقاقاهتا‪ ،‬إذ ال نكاد نظفر بثورة‬
‫من الثورات القديمة أو املعارصة مل تتخذ من العدالة شعار ًا هلا‪ .‬وهو ما يعني بالرضورة َّ‬
‫أن العدالة هي من أهم أبعاد احلر َّية‪ ،‬فهي الوجه‬
‫أن املناداة بالعدالة ترتبط ارتباط ًا وثيق ًا بشعور السواد األعظم من الشعب‪ /‬املجتمع بالقهر‪َّ ،‬‬
‫وبأن حقوقه‬ ‫اآلخر حلقوق اإلنسان‪ ،‬ذلك َّ‬
‫وبأن النظام القائم هو نظام جائر ينترص لفئة عىل حساب أخرى‪.‬‬ ‫مغتصبة‪َّ ،‬‬
‫َ‬

‫واملبسط للعدالة ودورها يف قيام الثورات دفعنا إىل التساؤل‪ :‬كيف جت ّلت عالقة الديمقراط َّية بالعدالة يف بلدان‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إن هذا الفهم املوجز‬
‫الربيع العريب؟‬

‫أن العرب اختزلوا واقعهم‬ ‫واجلزر‪ ،‬فإذا بالعدالة الغائب األكرب‪ .‬ذلك َّ‬ ‫ْ‬ ‫لقد ب َّينا َّ‬
‫أن العالقة بني الديمقراط َّية والعدالة قامت عىل املدّ‬
‫أن النظم السياس َّية مل تكتسب رشع َّية وجودها من طرق توليها احلكم (االنتخاب‪،‬‬ ‫يف مدى قدرهتم عىل إقرار نظام ديمقراطي‪ ،‬واحلال َّ‬
‫االنقالب‪ ).... ،‬فحسب‪ ،‬وإنَّام أيض ًا من قدرهتا عىل إقرار مبادئ العدالة بني أفراد املجتمع‪ ،‬بدء ًا من العدالة االجتامع َّية وصوالً إىل حتقيق‬
‫العدالة يف مؤرشات احلياة (التعليم‪ ،‬الصحة‪ )... ،‬والرفاهية‪.‬‬

‫وخيها بني العدالة االجتامع َّية والديمقراط َّية‪ ،‬فـ« َبعد‬ ‫ويكشف هذا الوضع عن وجود بنية النظام االستبدادي الذي قايض الشعوب َّ‬
‫التطورات الرتاجيد َّية للربيع العريب يف بعض البلدان العرب َّية‪ ،‬من املستحسن استعامل التقابل بني «الربيع العريب» و«ما بعد الربيع العريب»‪،‬‬
‫فقد نجح الربيع العريب يف حتطيم هياكل االستبداد املقنَّع لبعض األنظمة العرب َّية‪ ،‬إال أنَّه مل يستطع حلد اآلن أن يقوم ببناء هياكل بديلة‬
‫لألنظمة املنهارة‪ ،‬قائمة عىل مبادئ التوافق واحلوار‪ ،‬ضمن رؤية العدالة االنتقال َّية‪ .‬هبذا‪ ،‬يكون «الربيع العريب» وكأنَّه قد أخلف موعده‬
‫حتول الربيع السيايس من مقام «ال َف َر ِج بعد ال ُغ َّمة»‪ ،‬إىل مقام «ال ُغ َّمة يف ال ُغ َّمة»‪. 27‬‬
‫مع التاريخ‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪َّ ،‬‬

‫وهبذا املعنى كانت أزمة العدالة والديمقراط َّية يف العامل العريب‪ ،‬أزمة مفاهيم وقيم «تدور عىل غري معانيها»‪ ،‬وهي مفاهيم ظ ّلت دالالهتا‬
‫التحول الديمقراطي يف بلدان الربيع‬
‫ُّ‬ ‫ولعل يف ذلك داللة واضحة عىل َّ‬
‫أن‬ ‫حرب ًا عىل ورق‪ ،‬فإذا بالعدالة والكرامة شعارات ال وجود هلا‪َّ .28‬‬
‫العريب استطاع توسعة دائرة املشاركة السياس َّية‪ ،‬ولكنَّه عجز عن تغيري بنية املجتمع والثقافة‪.‬‬

‫‪  27‬ـ حوار مع الدكتور محمد املصباحي‪ :‬يف قضايا الفلسفة اإلسالميَّة وأسئلتها الراهنة‪ ،‬حاوره عبد النبي الحري‪ ،‬منشور عىل موقع مؤسسة مؤمنون بال حدود‪ ،‬بتاريخ‬
‫‪ 21‬نوفمرب ‪.2013‬‬
‫‪  28‬ـ نشري عىل سبيل املثال إىل أ َّن الدستور التونيس ‪ -‬منشورات البوصلة‪ ،‬تونس‪ 2014- ،‬أق َّر يف الفصل الرابع من الباب األول املبادئ العا َّمة بأ ّن «شعار الجمهورية‬
‫التونس َّية هو ‪ :‬حريَّة‪ ،‬كرامة‪ ،‬عدالة‪ ،‬نظام»‪ ،‬ورغم ذلك فإ َّن شعار الجمهورية التونس َّية املعتمد يف الوثائق اإلداريَّة واملؤسسات السياديَّة (قرص الرئاسة‪ )... ،‬هو الشعار‬
‫القديم (شعار االستقالل) املك ّون من الثالوث‪ :‬نظام‪ ،‬عدالة‪ ،‬حريَّة‪ ،‬فهل يعني ذلك أ َّن الثالوث القديم مل يتحقق‪ ،‬أم أ َّن الكرامة مج َّرد رمز ال فائدة من إدراجه يف شعار‬
‫الجمهوريَّة؟‬

‫‪211‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫صابرة بالفالح‬ ‫ العدالة والديمقراطية‬:‫ملف العدد‬

‫قائمة المراجع المعتمدة في البحث‬

‫املراجع العرب َّية‬


،1‫ ط‬،‫ الدوحة قطر‬،‫ املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‬،‫ معاجلات يف السياق العريب‬،‫ ما العدالة‬:‫ عزمي وآخرون‬،‫ـ بشارة‬
.2014
.2014 ،‫ تونس‬،‫ منشورات البوصلة‬،‫ـ دستور اجلمهورية التونسية‬
،1‫ ط‬،‫ بريوت لبنان‬،‫ املنظمة العرب َّية للرتمجة‬،‫ مراجعة ربيع شلهوب‬،‫ ترمجة حيدر حاج إسامعيل‬،‫ العدالة كإنصاف‬،‫ جون‬،‫ـ رولز‬
.2009
،‫ دار التنوير للطباعة والنرش والتوزيع‬،‫ مراجعة فؤاد زكريا‬،‫ ترمجة حسن حنفي‬،‫ رسالة يف الالهوت والسياسة‬،‫ باروخ‬،‫ـ سبينوزا‬
.2005 ،1 ‫ ط‬،‫القاهرة مرص‬
.1990 ،2 ‫ ط‬،‫ تونس‬،‫ الدار التونس َّية للنرش‬،‫ سلسلة موافقات‬،‫ العامل الدّ يني واهلو َّية التّونس َّية‬:‫ سعد‬،‫ـ غراب‬
‫ املركز‬،‫ مراجعة معني رومية‬،‫ ترمجة فاضل جتكر‬،‫ اجتاهات معارصة يف فلسفة العدالة جون رولز نموذج ًا‬:‫ صموئيل وآخرون‬،‫ـ فريامن‬
.2015 ،1 ‫ ط‬،‫ الدوحة قطر‬،‫ سلسلة ترمجان‬،‫العريب لألبحاث ودراسة السياسات‬
‫ منشور عىل موقع مؤسسة مؤمنون بال‬،‫ حاوره عبد النبي احلري‬،‫ يف قضايا الفلسفة اإلسالم َّية وأسئلتها الراهنة‬:‫حممد‬ َّ ،‫ـ املصباحي‬
.2013 ‫ نوفمرب‬21 ‫ بتاريخ‬،‫حدود‬
،‫ املركز الوطني للرتمجة ودار سيناترا‬،‫حممد حمجوب‬ َّ ‫ مراجعة‬،‫ ترمجة فتحي املسكيني‬،‫ يف جينالوجيا األخالق‬،‫ فريدريك‬،‫ـ نيتشه‬
.2010 ،‫تونس‬

‫املراجع األعجم َّية‬


- Aristote, Ethique à Nicomaque, Traduit par Jules Tricot (1883- 1963), Collection Biblio Textes
Philosophiques, éd Vrin, Paris, 1994.
- Bergson, Henri; les deux sources de la morale et de la religion, Collection Grande textes, 10 e édition
Quadrige / P U F, Paris, 2008.
- Ferrarese, Estelle, Éthique et politique de l’espace public Jürgen Habermas et la discussion, Vrin, Collection 
La vie morale, Paris, 2015.
- Habermas, Jürgen L’espace public Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société
bourgeoise, traduit par Marc de Launay, Payot, Collection Critique de la politique, Paris, 1988.
- Hume, David ; Enquête sur les principes de la morale, traduit par Philippe Saltel et Philippe Baranger,
Collection G F, Flammarion, Paris.
- Kant, Emmanuel ; Théorie et pratique, section II, traduit par Proust, Collection GF, Flammarion, 1994.
- Nietzsche, Friedrich; Généalogie de la morale, Traduit de l’allemand par Isabelle Hildenbrand et Jean Gra-
tien, Collection Folio Essais, Gallimard, Paris, 1991.
- Rawls, John ; Justice et démocratie, trduit par Catherine Audard, Seuil, Paris, 1993.
- Weil, Eric ; Philosophie politique, Collection Problèmes et controverses, 5em éd, Librairie Philosophique
J. Vrin, Paris, 1989.

2017 )10( ‫العدد‬


212
‫بريشة الفنان طارق عبيد من تونس‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫الديمقراط َّية باعتبارها استدال ً‬


‫ال عموم َّيا *‬

‫أمارتيا صن‬
‫تقديم وترمجة‪ :‬مصطفى العارف**‬

‫أمارتيا صن (‪ )Amartya Sen‬مفكر اقتصادي حاصل عىل جائزة نوبل‪ ،‬ساهم بقدر مهم يف إغناء النقاش السيايس املعارص حول‬
‫أن تنظريه هذا‬ ‫أهم منظري فكرة «العدالة» يف الفكر املعارص بعد جون رولز‪ ،‬ب ْيد َّ‬‫العدالة والديمقراط َّية واحلر َّية والتنمية‪.‬وهو ُيعدُّ من ّ‬
‫ال يتلحف حلاف األ ْم َث َلة والتنظري بمفهومه الفلسفي‪ ،‬مثلام نلفي األمر عند رولز مثالً‪ ،‬بل نجد الرجل ال يريد لكتابه «فكرة العدالة» أن‬
‫يكون مصنف ًا يف نظرية العدالة وال يف مفاهيمها املتشعبة‪ ،‬بل فقط يف فكرهتا؛ أي يف ما يتناسل من جتربتنا املعيشة معها‪ ،‬بعيد ًا َّ‬
‫عم تُلحقه‬
‫هبا النظر َّية واملفهوم من َأ ْم َث َلة‪.‬‬

‫لتصورمها النظري‪ ،‬فهو ال يقحم نفسه داخل إطار‬ ‫ُّ‬ ‫ال يستقيم احلديث عن العدالة والديمقراط َّية عند أمارتيا صن دونام نقد جذري‬
‫جمرد عن العدالة والديمقراط َّية‪ ،‬وإنَّام غرضه وغايته إجرائ َّية املفهومني وما يتلومها من مفاهيم‬
‫تصور فلسفي َّ‬
‫نظري حمض‪ ،‬وال يريد بناء ُّ‬
‫حمايثة هلام‪.‬‬

‫متعمد‪ ،‬لكونه يفكِّك فكرة‬


‫َّ‬ ‫مل يكن اختيار ترمجة هذا الفصل من كتاب «فكرة العدالة» اعتباطي ًا‪ ،‬وال كان عشوائي ًا‪ ،‬بل هو اختيار‬
‫«الديمقراط َّية الغرب َّية» بكل جتلياهتا؛ ال يتبنى أمارتيا أطروحة َّ‬
‫أن الديمقراط َّية غرب َّية النشأة‪ ،‬حتى وإن كان مهدها هو اليونان القديمة‪،‬‬
‫َفس تارخيي طويل يف الكشف عن متظهرات الديمقراط َّية عرب تاريخ األمم‪ .‬ال جدال يف َّ‬
‫أن فكرة‬ ‫بل حياول تفكيك األطروحة مستعين ًا بن ٍ‬
‫ظل نظام تشاوري حواري ينهج فكرة النقاش العمومي‪ ،‬لك َّن هذا ال‬ ‫تطورت ونمت يف ّ‬ ‫الديمقراط َّية يونان َّية النشأة‪ ،‬وال جدال يف َّأنا َّ‬
‫أن الديمقراط َّية غرب َّية النسب‪ ،‬وال َّأنا قدَ ر غريب‪ ،‬عالوة عىل َّ‬
‫أن التاريخ ال يشري إىل تأثري هذه التجربة عىل باقي البلدان‬ ‫يفيد بالرضورة َّ‬
‫إن الديمقراط َّية قيمة كون َّية‪ ،‬قد حترض يف الغرب كام قد تغيب عنه‪ ،‬وقد تنبت يف بيئات غري‬ ‫ِ‬
‫املجاورة هلا مثل‪ :‬فرنسا وأملانيا وإيطاليا‪ .‬لنقل َّ‬
‫غرب َّية مغايرة متام ًا‪.‬‬

‫‪ -‬اإلحاالت املرقّمة هي لكاتب املقال‪ ،‬أ ّما املشار إليها بعالمة * فهي للمرتجم‪.‬‬
‫استفادت هذه الرتجمة من مالحظات وتوجيهات األستاذ محمد هاشمي املختص يف فلسفة جون رولز‪ ،‬واألستاذ خالد العارف املختص يف الدراسات اإلنجليزيَّة‬
‫والكولونياليَّة‪.‬‬
‫‪ -‬نبيل فازيو‪ ،‬العدالة مبا هي رهان عمومي‪ ،‬أمارتيا صن ضد جون رولز‪ ،‬مجلة الفكر العريب املعارص‪ ،‬عدد‪ .161-160 ،‬ملزيد من اإليضاحات حول نظريَّة جون رولز يف‬
‫العدالة انظر دراسة متينة للباحث محمد هاشمي‪ ،‬نظرية العدالة عند جون رولز نحو تعاقد اجتامعي مغاير‪ ،‬دار توبقال للنرش ‪  .2014 ،‬‬
‫‪* AMARTYA SEN, Democracy as Public Reason, pp. 321 - 335, in. The Idea of Justice, Harvard University Press Cambridge,‬‬
‫‪Massachusetts, 2009.‬‬
‫** باحث ومرتجم من املغرب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪214‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية باعتبارها استدالالً عموم َّي ًا‬

‫الديمقراط َّية قيمة كون َّية‪ ،‬قد حترض يف الغرب‬ ‫التصورات الفلسف َّية املن ّظرة‬
‫ُّ‬ ‫تصور الرجل هذا ال يستقيم ّ‬
‫وجل‬ ‫ُّ‬
‫كام قد تغيب عنه‪ ،‬وقد تنبت يف بيئات غري غرب َّية‬ ‫لفكرة الديمقراط َّية‪ ،‬حسبها َّأنا أمهلت مسألة الديمقراط َّية يف‬
‫البلدان غري الغرب َّية‪ ،‬إ َّما عمد ًا أو جهالة‪ ،‬وهو بذلك يزيح النقاش‬
‫مغايرة متام ًا‬
‫إن الديمقراط َّية‬ ‫السيايس املعارص بدرجات كبرية‪ ،‬فامذا يعني القول َّ‬
‫قدَ ر غريب؟ إنَّه قول متهافت يف نظر أمارتيا صن‪ ،‬ووهم ال ُّ‬
‫ينفك‬
‫إن «الديمقراط َّية نتاج خالص للقرن‬ ‫الفكر الغريب أن يتخلص منه‪ .‬يكتب الرجل يف مقالة بعنوان‪« :‬الديمقراط َّية باعتبارها قيمة كون َّية» َّ‬
‫‪1‬‬

‫لتطور طبيعي ألشكال احلكم عرب التاريخ»‪ ،‬وههنا يستدل‬ ‫العرشين‪ ،‬لكن ال يفيد هذا القول َّإنا نتاج غريب بالرضورة‪ ،‬بل ْقل َّإنا نتاج ُّ‬
‫مهها‪ ،‬عىل‬ ‫تطور فكرة الديمقراط َّية‪ ،‬من أ ُّ‬
‫أمارتيا صن بمجموعة من األحداث التارخي َّية التي سامهت‪ ،‬وإن عن مسافة تارخي َّية مهمة‪ ،‬يف ُّ‬
‫يؤسس يف القرن الثالث قبل امليالد قواعد النقاش‬ ‫سبيل املثال‪ ،‬التجربة اهلند َّية من خالل اإلمرباطور آشوكا (‪ )Ashoka‬الذي راح ّ‬
‫العمومي‪ ،‬وكانت بعض املدن اآلسيو َّية س َّباقة يف مطارحة بعض أنواع احلكم العام التشاوري الديمقراطي؛ ـ إيران وباكرتيا باهلند‪ -‬يف‬
‫حكم البلديات خالل القرون التي تلت ازدهار ديمقراط َّية أثينا‪ ،‬فكان ملدينة شوشان أو سوسة ( شوش اليوم) مثالً‪ ،‬جنوب غريب إيران‪،‬‬
‫جملس شورى منتخب‪ ،‬وجملس للعموم‪ ،‬ووالة منتخبون من طرف هذا األخري‪ ،...‬ومل يكن العامل اإلسالمي استثناء يف هذا الباب‪ ،‬فعىل‬
‫فإن ُحكمنا هذا سيكون جمانب ًا للصواب إن نحن‬ ‫الرغم من االنتقادات واملالحظات التي يمكن أن نكيلها ألنظمة احلكم اإلسالمي قدي ًام‪َّ ،‬‬
‫فخ التعميم والتسفيه واالبتذال‪ ،‬فقد كانت‪ ،‬حسب أمارتيا صن‪ ،‬نامذج حكم عريب‪ -‬إسالمي مستنرية‪ ،‬خصوص ًا يف األندلس‪،‬‬ ‫سقطنا يف ّ‬
‫حافظت عىل حلمة املجتمع واندماج األقل َّيات الدين َّية واإلثن َّية‪ ،‬وحافظت عىل حقوقها كاملة‪ ،‬بل ومن داخل بالط السلطة السياس َّية‬
‫أحيان ًا‪ .‬وعىل الرغم ممَّا يمكن مالحظته عىل الرجل من فقر يف معرفته بتاريخ العامل العريب اإلسالمي لدرجة أنَّه يسقط يف أخطاء تارخي َّية‬
‫فادحة‪ ،‬إال أنَّه اجتهد بام يكفي يف بلورة أطروحته األساس َّية‪ ،‬حسبه أنَّه ال هيتم باألحداث التارخي َّية إال باعتبارها ذريعة ملجاوزة فكرة َّ‬
‫أن‬
‫«الديمقراط َّية غرب َّية املنشأ»‪.‬‬

‫مهمة إزاحة املركز َّية الغرب َّية لفكرة‬


‫املهمة؛ َّ‬
‫َّ‬ ‫ليس املجال ههنا لبسط التجارب الديمقراط َّية القديمة‪ ،‬فالكاتب أقدر عىل هذه‬
‫التصور‬
‫ُّ‬ ‫الديمقراط َّية‪ ،‬ومنه تفكيك بنيتها اإلجرائ َّية‪ .‬ال يكتفي أمارتيا صن بنقد املركز َّية الغرب َّية لفكرة الديمقراط َّية‪ ،‬بل يتجاوز كذلك‬
‫أن هلذين اإلجراءين أمه َّية عىل مستوى أشكال احلكم‪ ،‬ب ْيد َّأنام ال يرتقيان‬ ‫القائم عىل ارتباطها الوثيق باالنتخابات والتصويت‪ .‬صحيح َّ‬
‫أن بعض التجارب االنتخاب َّية أفرزت حكَّام ًا مستبدّ ين وديكتاتور ّيني‪ ،‬وقد تكون العملية االنتخاب َّية نزهية وشفافة‬ ‫ليكونا مركز َّيني‪ ،‬ذلك َّ‬
‫والتست عىل‬
‫ُّ‬ ‫ترجح ك َّفة عىل أخرى‪ ،‬مثل‪ :‬قمع اإلعالم‪،‬‬ ‫إجرائ َّي ًا‪ ،‬لكن يف عمقها تتسرت عىل جمموعة من اإلجراءات التعسف َّية التي ّ‬
‫حق التعبري‪ ،‬ونرش الرتهيب والتخويف بطرق عدَّ ة‪.‬‬ ‫املعلومة‪ ،‬ورضب ّ‬

‫تستند الديمقراط َّية أساس ًا عىل احلوار والنقاش العمومي‪ ،‬والتشاور‪ ،‬واحلكم التشاركي‪ ،‬ليس باملعنى الض ّيق الذي يفيد مشاركة‬
‫أن هذا ال يعني احتكارها بام ينتج عنه س ّن قوانني حسب اهلوى بداعي‬ ‫اجلميع يف السلطة‪ ،‬فمن الرضوري وجود تفاوت يف السلطة‪ ،‬ب ْيد َّ‬
‫إن األمر يرتكز عىل مشاورة سياس َّية بني مجيع األطراف يف تدبري الشأن العمومي‪ .‬تلك هي نقطة ضعف الرشع َّية‬ ‫الرشع َّية االنتخاب َّية‪ ،‬بل َّ‬
‫االنتخاب َّية‪ ،‬فهي وإن كانت تستجيب لألصوات الشعب َّية يف التعبري عن اختياراهتا بك ُّل حر َّية‪َّ ،‬‬
‫فإنا باملقابل قد ختلق جو ًا من الطغيان‬
‫واالستبداد «املرشوعني» اللذين قد يفضيان إىل رضب صميم الديمقراط َّية‪ ،‬بام هي «حكم بالنقاش العمومي»‪.‬‬

‫‪1 . Amartya Sen, Democracy as a Universal Value, Journal of Democracy 10.3 (1999), pp. 3 - 17.‬‬

‫‪215‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫أمارتيا صن ‪ /‬تقديم وترمجة‪ :‬مصطفى العارف‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫المترجم‬
‫َ‬ ‫النص‬
‫ُّ‬
‫قد تكون فصول هذا الكتاب سامهت يف توضيح أمهية االستدالل العمومي* لفهم العدالة‪ .‬جيرنا هذا األمر إىل إدراك الصلة بني فكرة‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫العدالة وممارسة الديمقراط َّية‪ ،‬خصوص ًا إذا ما استحرضنا التأييد الواسع لفكرة الفلسفة السياس َّية املعارصة التي مفادها أن الديمقراط َّية‬
‫َّ‬
‫هي‪ :‬احلكم عن طريق النقاش‪.‬‬

‫لعل وولرت باجهوت (‪)Walter Bagehot‬كان َّأول من صاغ هذه الفكرة‪ ،‬لك َّن مسامهة جون ستيوارت ميل (‪) John Stuart Mill‬‬
‫لعبت دور ًا كبري ًا يف تقريب هذه الفكرة للفهم والدفاع عنها‪.2‬‬

‫يوجد بطبيعة احلال املنظور األقدم واألكثر رسم َّية للديمقراط َّية‪ ،‬الذي يتم َّيز أساس ًا بداللة االنتخابات واألصوات‪ ،‬وليس باملنظور‬
‫توسع فيام بعد يف الفلسفة السياس َّية املعارصة بشكل كبري‪ ،‬لدرجة مل يعد ُينظر إليها‬
‫األوسع كحكم بالنقاش‪ .‬لك َّن فهم الديمقراط َّية َّ‬
‫سميه جون رولز‪« :‬ممارسة االستدالل العمومي»‪ .‬وهذا ما‬ ‫انطالق ًا من عالقتها بمطالب التصويت العام‪ ،‬بل بشكل أكثر رحابة؛ بام ُي ّ‬
‫حصل فعالً‪ ،‬فقد أحدثت أعامل رولز‪ 3‬وهابرماس‪ 4‬واألدب َّيات السياس َّية التي نرشت مؤخر ًا يف هذا املوضوع‪ ،‬ومن بينها إسهامات‬

‫* يعتمد أمارتيا صن عىل مفهوم جون رولز االستدالل العمومي (‪)Public reason‬الذي ال يفيد القول املرسل أو الربهان أو األمر‪ ،‬وإنّ ا تسويغ القول انطالقاً من مبادئ‬
‫يت ُّم التوافق حولها‪ .‬االستدالل العمومي هو االستعامل العمومي للعقل بتجريد؛ مبعنى مساهمة فيلسوف السياسة يف إرساء مبادئ عا َّمة ومج َّردة للنقاش العمومي‪،‬‬
‫وعليه يكون النقاش العمومي مبثابة التداول العام الذي قد تشرتك فيه أطياف سياس َّية متعددة‪ ،‬بينام يحيل االستدالل العمومي عىل األفكار واملبادئ املج َّردة التي ميكن‬
‫أن تساعد وتساهم يف تأسيس النقاش العمومي‪ ،‬لذلك يتنزل االستدالل العمومي منزلة التجريد‪ ،‬بينام يحيل النقاش العمومي إىل املشاركة السياسيَّة عامة‪ .‬يقول جون‬
‫رولز‪« :‬تختص فكرة االستدالل العمومي يف العمق بالقيم األخالق َّية والسياس َّية األساس َّية التي مبوجبها تتحدد العالقة الدستوريَّة الدميقراط َّية بني الحكومة ومواطنيها‬
‫وعالقة هؤالء فيام بينهم (‪ )...‬إ َّن فكرة االستدالل العمومي لها بنية محددة من خالل خمسة مظاهر‪- 1 :‬املسائل السياسيَّة األساسيَّة التي تطبق عليها‪- 2 .‬األشخاص‬
‫الذين تطبق عليهم (الحكومة الرسم َّية واملرشحني للعمل الحكومي) ‪- 3‬محتواها كام متنحنا إيَّاه مجموعة من املفاهيم السياس َّية املعقولة ملفهوم العدالة‪- 4 .‬تطبيق‬
‫هذه املفاهيم يف النقاشات حول املعايري اإللزاميَّة التي سيتم إعاملها وترشيعها يف قالب قانون رشعي لشعب دميقراطي‪- 5 .‬الضبط الذي يضطلع به املواطنون يف كون‬
‫املبادئ املستقاة من مفهومهم للعدالة تستجيب ملعيار التبادلية»‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪- J. Rawls, The Idea of Public Reason Revisited, The University of Chicago Law Review, Vol. 64, No. 3 (Summer 1997). P. 767.‬‬
‫‪ - 2‬يستحرض كليمونت أتيل ( ‪ )Clement Attlee‬الوصف الخاص للدميقراط َّية الذي يعترب خطاباً شهريا ً ال يستحق الشهرة‪ ،‬ألقاه يف أكسفورد يف يونيو ‪ 1957‬عندما مل‬
‫يتاملك نفسه يف قول نكتة صغرية‪ -‬أعتربها مرحة عندما ت ُسمع ألول م َّرة‪ -‬حول موضوع ذي أهمية‪ ،‬إذ قال‪« :‬تعني الدميقراطيَّة الحكم بالنقاش‪ ،‬لك َّنها ال تكون فعالة إال‬
‫إذا استطاعت إسكات الناس»‪ .‬عن مجلة الزمن‪15 ،‬يونيو ‪.1957‬‬
‫‪ - 3‬انظر عىل وجه خاص كتابه‪ :‬نظرية العدالة والليرباليَّة السياسيَّة‪.1993 ،‬‬
‫‪4  - Jürgen Habermas , The Structural Transformation of the Public Sphere (Cambridge, MA: MIT Press, 1989); The Theory of‬‬
‫‪Communicative Action (Boston,MA: Beacon Press, 1984), and Moral Consciousness and Communicative‬‬
‫‪Action (Cambridge, MA: MIT Press, 1990).‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪216‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية باعتبارها استدالالً عموم َّي ًا‬

‫كل من بروس آكرمان‪ )Bruce Ackerman( 5‬وسيال بن حبيب‪ )Seyla Benhabib( 6‬وجوشوا كوهن‪ )Joshua Cohen( 7‬ورونالد‬ ‫ٍّ‬
‫حتوالً كبري ًا يف فهم الديمقراط َّية‪ .‬تأويل مشابه للديمقراط َّية جيء به من طرف‬
‫دفوركن (‪ ) Ronald Dworkin‬وآخرين‪ ،‬أحدثت ُّ‬
‫‪8‬‬

‫كتابات من ِّظر «اخليار االجتامعي» جيمس بوكانان‪. )James Buchanan(9‬‬

‫رصح جون رولز بشكل واضح يف كتابه «نظرية يف العدالة» قائالً‪َّ :‬‬
‫«إن الفكرة النهائ َّية للديمقراط َّية التشاور َّية هي فكرة التشاور‬ ‫ُي ّ‬
‫فإنام يتبادالن وجهات النظر‪ ،‬ويتجادالن حول األسباب املساندة لتلك األفكار املتعلقة‬ ‫نفسها‪ .‬فحينام يتشاور مواطنان فيام بينهام‪َّ ،‬‬
‫بمسائل السياسة العا َّمة»‪.10‬‬

‫يرصح بذلك رولز نفسه‪ .11‬لقد‬ ‫يوسع من مقاربته لالستدالل العمومي من ٍ‬


‫نواح عدة‪ ،‬مقارنة بمقاربة رولز‪ ،‬كام ّ‬ ‫يف حني َّ‬
‫أن هابرماس ِّ‬
‫أعطى هابرماس للديمقراط َّية ُبعد ًا إجرائ َّي ًا مقارنة باملقاربات األخرى‪ ،‬منها مقاربة جون رولز‪ ،‬عىل الرغم من تباين مقاربتهام للسامت‬
‫ال بعض اليشء‪ .‬لك َّن هابرماس جاء مع ذلك بمسامهة‬ ‫اإلجرائ َّية يف توصيف عملية وحصيلة االستدالل العمومي الذي قد يبدو مض ّل ً‬
‫حاسمة يف توضيح األثر البعيد لالستدالل العمومي‪ ،‬خصوص ًا ازدواج َّية اخلطاب السيايس فيام يتعلق باملسائل األخالق َّية للعدالة‬
‫واملسائل الذرائع َّية للسلطة والقهر‪.12‬‬

‫الرغم من ذلك مازال هناك قدر كبري من سوء الفهم املشرتك يف النقاشات اجلارية حول توصيف طبيعة االستدالل العمومي‬ ‫وعىل َّ‬
‫وحصيلته‪ .‬مثال ذلك مالحظة هابرماس عىل نظرية رولز بكوهنا تعطي أولو َّية للحقوق الليربال َّية تبخس من مكانة العمل َّية الديمقراط َّية‪،‬‬

‫‪ - 5‬كان بروس آكرمان قد دافع عن النظريَّة الليربال َّية يف االستدالل العمومي‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪Social Justice in the Liberal State (New Haven: Yale University Press, 1980). («Why Dialogue?» Journal of Philosophy, 86 (1989).‬‬
‫‪6 - Seyla Benhabib, Another Cosmopolitanism (New York: Oxford University) Press, 2006.‬‬
‫انظر كذلك املطارحة مع‪:‬‬
‫‪Bonnie Honig, Will Kymlicka and Jeremy Waldron. Seyla Benhabib (ed.), Democracy and Difference (Princeton, NJ: Princeton University‬‬
‫‪Press, 1996). On related matters; Elizabeth Anderson, Value in Ethics and Economics (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1993).‬‬
‫‪7 - Joshua Cohen and Joel Rogers (eds), On Democracy, London: Penguin1983 Associations and Democracy (London: Verso, 1995).‬‬
‫‪8 - Ronald Dworkin, Is Democracy Possible Here? Principles for a New Political Debate (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2006).‬‬
‫‪9 - James Buchanan, ‘Social Choice, Democracy and Free Markets’, Journal of Political Economy, 62 (1954); James Buchanan and Gordon‬‬
‫‪Tullock, The Calculus of Consent (Ann Arbor, MI: University of Michigan Press, 1962).‬‬
‫‪10  -John Rawls, Collected Papers (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1999), pp. 579–80; A Theory of Justice (1971), Political‬‬
‫‪Liberalism. (1993), and Justice as Fairness: A Restatement (2001).‬‬
‫‪11 - John Rawls, ‘Reply to Habermas’, Journal of Philosophy, 92 (March1995).‬‬
‫‪ -  12‬علق هابرماس عىل الفوارق بني املقاربات العا َّمة املختلفة يف املفهوم وفكرة االستدالل العمومي‪ .‬حيث يقارن بني تص ُّوره « التشاور اإلجرايئ» مبا يصفه باآلراء‬
‫الليربال َّية والجمهوريَّة‪ .‬انظر دراسته‪:‬‬
‫‪Three Normative Models of Democracy’, in Seyla Benhabib (ed.), Democracy and Difference: Contesting the Boundaries of the Political‬‬
‫‪(Princeton, NJ: Princeton University Press, 1996)). Seyla Benhabib, ‘Introduction:‬‬
‫‪The Democratic Moment and the Problem of Difference’, in Democracy and Difference (1996), Amy Gutmann and Dennis Thompson,‬‬
‫‪Why Deliberative Democracy? (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2004).‬‬

‫‪217‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫أمارتيا صن ‪ /‬تقديم وترمجة‪ :‬مصطفى العارف‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫ويدرج يف الئحة احلقوق التي يطالب هبا الليربال ُّيون «حر َّية االعتقاد والضمري‪ ،‬ومحاية احلياة‪ ،‬واحلر َّية الشخص َّية‪ ،‬وحق امللك َّية»‪ .13‬ب ْيد َّ‬
‫أن‬
‫أي عمل من أعامله‪.14‬‬ ‫إدراج حق امللك َّية ههنا ال يتامشى مع موقف جون رولز‪ ،‬كونه‪ ،‬فيام أعرف‪ ،‬مل يدافع حقيقة عن احلق العام يف امللك َّية يف ِّ‬

‫من الواضح جد ًا الفوارق الكثرية يف السبل املختلفة التي يمكن من خالهلا النظر إىل دور االستدالل العمومي يف السياسة‬
‫بأي حال من األحوال األطروحة التي أحاول تطويرها هنا‪ .‬من املهم اإلشارة إىل َّ‬
‫أن‬ ‫‪ِ 15‬‬
‫واألخالق اخلطاب َّية‪ .‬لك َّن هذه الفوارق ال هتدّ د ّ‬
‫تصور عام مفاده َّ‬
‫أن املسائل املركز َّية يف املفهوم الواسع للديمقراط َّية هي املشاركة السياس َّية‪،‬‬ ‫جممل هذه املسامهات اجلديدة ساعدت يف بناء ُّ‬
‫أن الدور احلاسم لالستدالل العمومي يف ممارسة الديمقراط َّية جيعل موضوعها ككل ذا صلة باملوضوع‬ ‫واحلوار‪ ،‬والتفاعل العمومي‪ .‬كام َّ‬
‫األسايس هلذا العمل؛ أعني العدالة‪ .‬إذا كانت متطلبات العدالة يمكن تقييمها فقط بمساعدة االستدالل العمومي‪ ،‬وإذا كان هذا األخري‬
‫فإن العالقة بني الديمقراط َّية والعدالة ستكون متينة‪ ،‬لكوهنام تشرتكان يف سامت ِخطاب َّية‪.‬‬
‫مرتبط ًا بشكل وثيق بفكرة الديمقراط َّية‪َّ ،‬‬

‫تبقى فكرة الديمقراط َّية كحكم بالنقاش يف بعض األحيان‪ ،‬وهي فكرة مقبولة متام ًا بشكل كبري يف الفلسفة السياس َّية اليوم (وإن كان األمر‬
‫ّ‬
‫واألقل مرونة‬ ‫خالف ذلك لدى أنصار املؤسسات السياس َّية)‪ ،‬مثار توتر يف النقاشات املعارصة حول الديمقراط َّية ودورها بمعناها القديم ‪-‬‬
‫التوجه النيتي(‪، )*niti‬الذي يعتمد عىل داللة األصوات واالنتخابات‪ ،‬ليس تقليدي ًا فحسب‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫إن الفهم املؤسسايت ذا‬ ‫من الناحية التنظيم َّية‪َّ .‬‬
‫«إن االنتخابات‬‫الرشاح السياسيني املعارصين من بينهم صامويل هنتينغتون( ‪ ، )SamuelHuntington‬حيث يقول‪َّ :‬‬ ‫بل تبنَّاه العديد من َّ‬
‫التحول العام يف الفهم املبدئي للديمقراط َّية‬
‫ُّ‬ ‫احلرة واملفتوحة والنزهية هي جوهر الديمقراط َّية‪ ،‬والرشط الالزم الذي ال حميد عنه» ‪ .‬ورغم‬
‫‪16‬‬
‫َّ‬
‫فإن تاريخ الديمقراط َّية يرتبط غالب ًا باملسائل التنظيم َّية الضيقة‪ ،‬التي تركّز بشكل خاص عىل االقرتاع واالنتخابات‪.‬‬
‫يف الفلسفة السياس َّية‪َّ ،‬‬

‫يبقى لألصوات االنتخاب َّية دور هام يف التعبري عن فعال َّية عمل َّية االستدالل العمومي‪ ،‬لكنَّها ليست هي العنرص األهم‪ ،‬بل يمكن‬
‫مهم جدَّ ًا وال حميد عنه‪ -‬يف طريقة اشتغال االستدالل العمومي يف املجتمع الديمقراطي‪ .‬تعتمد أمه َّية التصويت‬
‫اعتبارها جزء ًا فحسب ـ َّ‬
‫أن التصويت وحده قد يبدو غري مالئم للغاية‪ ،‬مثلام‬‫وحق االختالف‪ .17‬ب ْيد َّ‬
‫بالفعل عىل تبعاته مثل حر َّية التعبري‪ ،‬والوصول إىل املعلومة ّ‬

‫‪13  - Jürgen Habermas, Reconciliation through the Public Use of Reason: Remarks on John Rawls’s Political Liberalism’, Journal of‬‬
‫‪Philosophy, 92 (1995), pp. 127–8‬‬
‫حق امللكية دورا ً ذرائع َّياً ها َّماً‪ .‬يف حني أ َّن رولز يقبل التفاوت يف إجراءاته‬
‫‪ -14‬رمبا تأثر هابرماس يف مقاربته بحقيقة مفادها أ َّن رولز ال يعطي مكاناً للحوافز‪ ،‬األمر الذي قد مينح ّ‬
‫تحسن هذه املكتسبات حالة األفقر حاالً‪ .‬ناقشت ذلك يف الفصل الثاين‪« :‬رولز وما بعده» عندما انتقدت جي إيه كوهن‪ ،‬يف كتابه‪:‬‬
‫العداليَّة ألسباب تتعلق بالحوافز عندما ِّ‬
‫‪ Rescuing Justice and Equality, 2008‬هذه الخاص َّية ملبدأي رولز يف العدالة أن نقبل أو نرفض التفاوتات ألسباب لها عالقة بالحوافز فإ َّن األمر ليس له أ ُّي دور فيام يزعم هو‬
‫أنَّه مجتمع عادل‪ ،‬لك َّن املهم هو أن ندرك أ َّن رولز ال يؤيّد حقوق امللكيَّة بإطالق كجزء من حريَّة اإلرادة كام يعترب روبريت نوزيك‪Anarchy , State and Utopia, 1974 :‬‬
‫‪15  - Joshua Cohen, ‘Deliberative Democracy and Democratic Legitimacy’, in Alan Hamlin and Philip Pettit (eds), The Good Polity‬‬
‫‪(Oxford: Blackwell, 1989); Jon Elster (ed.), Deliberative Democracy (Cambridge: Cambridge University Press, 1998); Amy Gutmann and‬‬
‫‪Dennis Thompson, Why Deliberative Democracy? (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2004); James Bohman and William Rehg,‬‬
‫‪Deliberative Democracy (Cambridge, MA: MIT Press, 1997).‬‬
‫* تشري إىل فن الحكم عموما ‪ ،‬وتنسب إىل املفكر السيايس الهندي(‪ 275 - 350 )Vishnugupta Chânakya‬قبل امليالد‪ ،‬له العديد من الكتب املفقودة باللغة‬
‫السنسكريتية حول فنون الحكم‪ ،‬يعتربه بعض مفكري السياسة مبثابة ماكيافييل عرصه‪.‬‬
‫‪16- Samuel Huntington, the Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century (Norman, OK, and London: University of‬‬
‫‪Oklahoma Press1991), p. 9.‬‬
‫‪ - 17‬حول أهم َّية حريَّة التعبري والنقاشات املتعلقة بها يف الواليات املتحدة األمريك َّية انظر‪:‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪218‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية باعتبارها استدالالً عموم َّي ًا‬

‫إذا كانت متطلبات العدالة يمكن تقييمها فقط‬ ‫هو األمر يف االنتصارات االنتخاب َّية الكبرية للحاكمني الطغاة‬
‫بمساعدة االستدالل العمومي‪ ،‬وإذا كان هذا‬ ‫داخل األنظمة التسلط َّية ماضي ًا وحارض ًا‪ ،‬مثال ذلك كوريا‬
‫الشاملية حال َّي ًا‪ .‬ال تكمن الصعوبة فقط يف الضغط السيايس‬
‫األخري مرتبط ًا بشكل وثيق بفكرة الديمقراط َّية‪،‬‬
‫والعقايب املامرس عىل املقرتعني يف عملية االقرتاع نفسها‪ ،‬بل ويف‬
‫فإن العالقة بني الديمقراط َّية والعدالة ستكون‬ ‫َّ‬ ‫طريقة التعتيم رقابي ًا عىل آراء اجلمهور‪ ،‬وحجب املعلومات عن‬
‫متينة‪ ،‬لكوهنام تشرتكان يف سامت ِخطاب َّية‬ ‫الناس‪ ،‬وزرع اخلوف وقمع املعارضة وعدم استقالل َّية وسائل‬
‫اإلعالم‪ ،‬وغياب حقوق اإلنسان األساس َّية واحلر َّيات الفرد َّية‬
‫كل هذه املعطيات جتعل من السهل جد ًا عىل السلطات احلاكمة استخدام َّ‬
‫القوة املفرطة لضامن تطابق تام يف عملية التصويت‪.‬‬ ‫السياس َّية‪ُّ .‬‬
‫أي إكراه خالل عملية التصويت‪،‬‬‫ال بالنسبة إىل بعض الطغاة الذين حققوا انتصارات انتخاب َّية مدو َّية حتى دون استعامل ّ‬ ‫هذا ما حصل فع ً‬
‫جو من القلق واخلوف‪.‬‬ ‫من خالل قمع النقاش العمومي وحر َّية اإلعالم وخلق ٍّ‬

‫التقليد المحدود للديمقراط َّية‬


‫بأن الديمقراط َّية بمفهومها الصحيح مرتبطة ارتباط ًا وثيق ًا بالعدالة عىل خطى حتليل هذا الكتاب‪ ،‬فإنَّه سيكون من الصعب‬ ‫إذا قبلنا َّ‬
‫التفكري جد َّي ًا يف فكرة العدالة باعتبارها فكرة منترشة وحتظى باهتامم الناس‪ ،‬عىل َّأنا باألساس فكرة «غرب َّية» تتخذ غطاء الديمقراط َّية‪.‬‬
‫حيق لنا أن نتساءل ههنا‪ :‬أولسنا نركِّز يف هذا التحليل عىل السمة الغرب َّية الرصفة للتنظيم السيايس ملقاربة عا َّمة للعدل والعدالة يف العامل؟‬
‫مهم ملامرسة العدالة‪ ،‬فهل يمكننا التفكري يف العدالة يف العامل عندما يكون ف ُّن االستدالل العمومي باعتباره‬ ‫وإذا كان االستدالل العمومي َّ ً‬
‫بأن الديمقراط َّية هي يف األساس مفهوم‬ ‫أن االعتقاد َّ‬
‫جزء ًا من الديمقراط َّية يبدو‪ ،‬كام يرى االجتاه العام‪ ،‬أساس ًا غرب َّي ًا وحمدود ًا حمل َّي ًا؟ ذلك َّ‬
‫غريب ذو أصول أوروب َّية وأمريك َّية اعتقاد شائع‪ ،‬ويتو َّفر عىل قدر من املعقول َّية‪ ،‬لكنَّه يف جوهره مغلوط وسطحي‪.‬‬

‫متحمسني للعدالة العامل َّية يف غياب الدولة العامل َّية السياد َّية‪ ،‬ولكن أليست‬
‫ِّ‬ ‫قد يكون جون رولز وتوماس ناجل (‪)Nagel Thomas‬غري‬
‫حماولة الرفع من شأن العدالة العامل َّية من خالل النقاش العمومي تقوم هبا شعوب العامل نفسها بنفسها ولصاحلها عسرية هي األخرى؟ سبق‬
‫أن رشوط احلياد‬ ‫أن أرشنا يف الفصل اخلامس من هذا الكتاب‪« :‬احلياد واملوضوع َّية» والفصل السادس‪ :‬احلياد املغلق واحلياد املفتوح ‪ ،‬إىل َّ‬
‫كل بقاع العامل املعارص‪ .‬إن كان هذا صحيح ًا‪ ،‬أفال تكون تلك الرضورة‬ ‫املفتوح ُتيس يف املنظور العاملي رضور َّية ملقاربة العدالة عا َّمة يف ّ‬
‫أن العامل منقسم انقسام ًا كبري ًا إىل مجاعات من الصعب جدَّ ًا إقناع الكثري منها باالستدالل العمومي؟ إنَّه تساؤل كبري‬ ‫مستحيلة إذا علمنا َّ‬
‫جدَّ ًا‪ ،‬ومن الصعب جتاهله‪ ،‬عىل الرغم من صالته الواقع َّية الوشيجة مع هذا العمل يف نظر َّية العدالة‪ .‬ومنه فمن األمه َّية بمكان دراسة ما‬
‫إذا كان تقليد الديمقراط َّية‪ ،‬سواء بمعناها التنظيمي باعتبارها تصويت ًا وانتخابات‪ ،‬أم باعتبارها «حك ًام بالنقاش» أساس ًا‪ ،‬غربي ًا كان أم ال‪.‬‬

‫عندما تعترب الديمقراط َّية يف املنظور املحدود استدالالً عموم َّي ًا يتجاوز السامت املؤسسات َّية النوع َّية التي نشأت قو َّية يف أوروبا وأمريكا‬
‫فإن علينا تقييم التاريخ الفكري للحكم التشاركي يف مناطق كثرية من العامل‪ -‬ليس يف أوروبا وأمريكا‬ ‫يف القرون القليلة املاضية‪َّ ،‬‬
‫الشاملية فحسب‪ .18-‬غالب ًا ما تشري حركات االنفصال الثقايف التي تنتقد كون الديمقراط َّية قيمة كون َّية‪ ،‬إىل الدور الفريد لليونان القديمة‪،‬‬
‫خصوص ًا أثينا‪ ،‬حيث برز التصويت بشكل خاص يف القرن السادس قبل امليالد‪.‬‬

‫‪Anthony Lewis, Freedom for the Thought That We Hate: A Biography of the First Amendment (New York: Basic Books, 2007).‬‬
‫‪ -  18‬ناقشت هذه العالقات يف مقااليت‪:‬‬
‫;‪Democracy as a Universal Value, Journal of Democracy, 10 (1999); Democracy and Its Global Roots, New Republic, 6 October 2003‬‬
‫‪Identity and Violence: The Illusion of Destiny (New York: W. W. Norton & Co., and London and Delhi: Penguin, 2006), pp. 51–5.‬‬

‫‪219‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫أمارتيا صن ‪ /‬تقديم وترمجة‪ :‬مصطفى العارف‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫األصول العالم َّية للديمقراط َّية‬


‫ً‪19‬‬
‫مهمة يف شكل وفهم مضمون الديمقراط َّية‪ .‬لك َّن النظر إىل‬ ‫وخاصة جدَّ ا ‪ .‬بحيث كانت مسامهتها َّ‬ ‫َّ‬ ‫شكَّلت اليونان بالفعل حالة فريدة‬
‫أن الديمقراط َّية هي يف األساس فكرة «أوروب َّية» أو «غرب َّية» يتطلب منَّا تدقيق ًا كبري ًا لقبول األمر كام هو‪.‬‬ ‫ال عىل َّ‬
‫هذه التجربة باعتبارها دلي ً‬
‫جو ًا من النقاش العمومي املفتوح‪ ،‬وليس التصويت فحسب‪ ،‬وعىل الرغم‬ ‫أن نجاح الديمقراط َّية يف أثينا كان قد أنتج َّ‬ ‫املهم جدَّ ًا إدراك َّ‬
‫من ّ‬
‫أن تقليد النقاش العمومي (الذي كان كبري ًا جدَّ ًا بأثينا واليونان القديمة) له تاريخ قديم جد ًا‪.‬‬ ‫أن التصويت بدأ بالتأكيد يف أثينا‪ ،‬إال َّ‬ ‫من َّ‬

‫مسوغ للرأي االنفصايل ثقافي ًا يف أصول االنتخابات بأوروبا يتطلب‬ ‫فإن البحث عن ّ‬ ‫وحتى إن نحن فكَّرنا يف عملية التصويت فقط‪َّ ،‬‬
‫مجة يف تعريف احلضارات انطالق ًا ممَّا هو إقليمي‪ ،‬وليس انطالق ًا من التاريخ الدقيق لألفكار‬ ‫قدر ًا كبري ًا من املالحظة‪ .‬هناك َّأوالً صعوبات َّ‬
‫واألفعال‪ ،‬كأن ننسبها بشكل فج إىل منطقة كاملة فنقول «أوروب َّية» أو «غرب َّية»‪ .‬هبذا الشكل يف النظر للفئات احلضار َّية‪ ،‬ال مانع ولن نجد‬
‫ال من الفايكينغ والقوط الغربيني ورثة أصليني للتقليد االنتخايب اليوناين القديم (كوهنم جزء ًا من الساللة‬ ‫صعوبة يف اعتبار املنحدرين مث ً‬
‫أن اليونان القدامى‪ ،‬الذين كانوا منخرطني جد ًا يف التبادل الثقايف مع احلضارات القديمة األخرى رشقي وجنويب‬ ‫األوروب َّية)‪ ،‬بالرغم من َّ‬
‫أي اهتامم للتو ُّدد إىل القوط الرشقيني أو الغربيني‪.‬‬‫اليونان (خصوص ًا إيران واهلند ومرص)‪ ،‬مل يكونوا يعريون َّ‬

‫رواد ًا يف تدشني التصويت‪ ،‬كانت هناك مناطق‬ ‫تتعلق املشكلة الثانية بام ييل التجربة اليونانية املبكرة يف التصويت‪ .‬فبينام كان األثينيون َّ‬
‫أن التجربة اليونانية يف احلكم‬ ‫آسيو َّية كثرية اعتمدت التصويت يف القرون الالحقة‪ ،‬والتي تأثرت باليونان‪ .‬ليس هناك ما يشري إىل َّ‬
‫االنتخايب كان هلا أثر مبارش عىل بلدان غريب اليونان وروما فيام يعرف اليوم بفرنسا وأملانيا وبريطانيا‪ .‬عكس ذلك متام ًا كانت لبعض املدن‬
‫اآلسيو َّية ـ إيران وباكرتيا باهلند‪ -‬بعض عنارص الديمقراط َّية يف حكم البلديات خالل القرون التي تلت ازدهار الديمقراط َّية األثين َّية‪،‬‬
‫فكان ملدينة شوشان أو سوسة (شوش اليوم) مثالً‪ ،‬جنوب غريب إيران‪ ،‬جملس شورى منتخب‪ ،‬وجملس للعموم‪ ،‬ووالة منتخبون من‬
‫طرف هذا األخري‪.20‬‬

‫تعززت املامرسة الديمقراط َّية املحل َّية يف اهلند جيد ًا‪ ،‬وقد كان سيدين كوارلز (‪ ) Sidney Quarles‬يشري إىل ذلك وهو يتجاذب أطراف‬
‫َّ‬
‫احلديث مع راشيل( ‪ ،)Rachel‬باعتبارها موضوع ًا لدراسته الومه َّية بلندن‪ ،‬لدرجة كان يقتبس أسامء كُتاب هلم صلة باملوضوع ‪ .‬كان‬
‫‪21‬‬

‫آمبيدكار( ‪ )Ambedkar‬الذي كان يشغل رئيس جلنة صياغة الدستور اهلندي اجلديد لطرحه عىل املجلس التأسييس بعد االستقالل سنة‬
‫موسعة يف اهلند‬
‫موسع حول هذه الصلة بني جتارب اهلند القديمة يف الديمقراط َّية املحل َّية وبني غاية بناء ديمقراط َّية َّ‬
‫‪ ،1947‬قد كتب بشكل َّ‬
‫احلديثة‪.22‬‬

‫‪ -  19‬كان ظهور اإلجراءات الدميقراطيَّة يف اليونان بسبب مجموعة من الظروف االستثنائيَّة التي جعلت األمر ممكناً ومستم َّرا ً‪ .‬وقد َّبي جون دان يف كتابه العميق عن‬
‫تاريخ الدميقراط َّية أ َّن الحكم الدميقراطي بدأ مرتجالً نتيجة صعوبة يونان َّية محل َّية قبل ألفني وخمسامئة سنة‪ ،‬ثم ازدهر بعد ذلك خالل مرحلة وجيزة‪ ،‬لك َّنه تراجع بعد‬
‫ذلك يف كل مكان تقريباً نحو ألفي سنة ‪ Democracy: A History (2005), pp. 13–14‬رغم أنَّني أرى أ َّن الدميقراطيَّة مبعناها الواسع كسجال عمومي مل تتط َّور ومل‬
‫تندحر بهذه الرسعة‪ ،‬فإ َّن رأي دان ينطبق دومنا ّ‬
‫شك عىل املؤسسات الدميقراط َّية الرسم َّية التي ظهرت يف اليونان القدمية‪ ،‬وانترشت بعد ذلك يف عدد من البلدان كإيران‬
‫والهند‪ ،‬تحت تأثري التجربة اليونانية‪ ،‬لك َّنها لن تعاود الظهور إىل عهد قريب ج َّدا ً يف أيامنا هذه‪.‬‬
‫‪ -  20‬لالطالع أكرث عىل بعض التجارب الهنديَّة يف الحكم الدميقراطي املحيل ميكن العودة إىل‪:‬‬
‫‪Radhakumud Mookerji, Local Government in Ancient India (1919) (Delhi: Motilal Banarsidas, 1958).‬‬
‫يتبي ذلك من خالل الكتب التي يوردها‬
‫‪ -  21‬كان ألدو هاكسيل (‪)Aldous Huxley‬عىل اطالع واسع بأدبيات التجارب الهنديَّة القدمية يف الدميقراط َّية الحرضيَّة‪َّ ،‬‬
‫سيدين كوارلز لزوجه كمواضيع لدراسته خالل زيارته التي كان ينوي القيام بها إىل مكتبة املتحف الربيطاين‪.‬‬
‫‪ - 22‬مل يجد آمبيدكار خالل دراسته لتاريخ الدميقراط َّية املحل َّية يف الهند القدمية أيَّة قيمة تذكر يف االعتامد عىل هذه التجارب املحل َّية القدمية من أجل وضع دستور‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪220‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية باعتبارها استدالالً عموم َّي ًا‬

‫أن النظرة األوسع للديمقراط َّية باعتبارها استدالالً عموم َّي ًا هي‬‫لقد كان ملامرسة االنتخابات تاريخ مهم يف املجتمعات غري الغرب َّية‪ ،‬ب ْيد َّ‬
‫مهم وممتاز ًا يف النقاش العمومي‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫ً‬
‫سجال ًَّ‬ ‫سبب فشل االنتقاد الثقايف للديمقراط َّية كظاهرة إقليم َّية خالصة‪ .23‬وعىل الرغم من َّ‬
‫أن ألثينا‬
‫أن من بني أقدم االجتامعات املفتوحة التي كانت هتدف‬ ‫التشاور املفتوح كان قد ازدهر بشكل كبري يف عدَّ ة حضارات قديمة أخرى؛ ذلك َّ‬
‫حل اخلالفات بني خمتلف وجهات النظر‪ ،‬يف املسائل االجتامع َّية والدين َّية‪ ،‬كانت قد جرت يف اهلند من خالل املجالس البوذ َّية‪ ،‬حيث‬ ‫إىل ِّ‬
‫كان جيلس أصحاب وجهات النظر املختلفة ملناقشة خالفاهتم‪ ،‬ابتداء من القرن السادس قبل امليالد‪ .‬كانت أوىل هذه املجالس قد انعقدت‬
‫يف راجاغريا (‪( )Rajagriha‬راجغري ‪ Rajgir‬حالي ًا) عىل إثر وفاة غوتاما بوذا (‪َّ ،)Gautama Buddha‬‬
‫ثم انعقد الثاين بعد حوايل مائة سنة‬
‫يف فيسايل (‪ ،)Vaisali‬أ َّما آخرها فقد كان يف القرن الثاين للميالد بكشمري (‪.)Kashmir‬‬

‫اإلمرباطور آشوكا ( ‪ )Ashoka‬الذي استضاف املجلس البوذي الثالث واألكرب يف القرن الثالث قبل امليالد يف باتنا (‪ )Patna‬عاصمة‬
‫(املسمة آنذاك باتاليبوترا (‪)Pataliputra‬حاول نرش بعض أقدم صيغ قواعد النقاش العمومي (شبيهة بنسخة قديمة‬ ‫َّ‬ ‫اإلمرباطورية اهلند َّية‬
‫من قواعد نظام روبرت * (‪ )Robert‬لإلجراءات الربملان َّية يف القرن التاسع عرش) ‪ .‬ويف اليابان وضع األمري البوذي شوتوكو (‪)Shotoku‬‬
‫‪24‬‬

‫يلح‪ ،‬بشكل‬ ‫ويص عرش أ َّمه‪ ،‬اإلمرباطورة سويكو (‪ ، )Suiko‬ما ُس ّمي «دستور املواد السبع عرشة»‪ ،‬سنة ‪ 604‬للميالد‪ .‬كان هذا الدستور ُّ‬
‫يشبه كثري ًا روح امليثاق األعظم** التي ُعقدت بعده بستة قرون سنة ‪ ،1215‬عىل‪« :‬عدم اختاذ القرارات يف املسائل اهلا َّمة من طرف شخص‬
‫أن دستور القرن السابع املستوحى من البوذ َّية خطوة أوىل لليابان من أجل‬ ‫واحد‪ ،‬بل جيب أن تناقش مع أناس كثريين»‪ .25‬اعترب البعض َّ‬
‫فلكل امرئ قلب‪ِّ ،‬‬
‫ولكل‬ ‫االرتقاء التدرجيي إىل الديمقراط َّية‪ .26‬وأسهب هذا الدستور يف القول‪ :‬جيب َّأل نغضب الختالف اآلخرين معنا‪ِّ ،‬‬
‫يتكرر يف تاريخ الكثري من البلدان غري الغرب َّية‪.‬‬
‫إن موضوع النقاش العمومي َّ‬‫أن صواهبم خطؤنا‪ ،‬وصوابنا خطؤهم‪َّ .‬‬ ‫قلب هوى‪ .‬ذلك َّ‬

‫للدميقراط َّية الهنديَّة الحديثة‪ .‬معتربا ً أ َّن مسألة «املحل َّية» أنتجت أفقاً ضيقاً ومنغلقاً‪ ،‬كام أشار إىل أ َّن جمهوريات األرياف كانت سبباً يف خراب الهند‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪The Essential Writings of B. R. Ambedkar, edited by Valerian Rodrigues (Delhi: Oxford University Press, 2002), particularly essay 32: ‘Basic‬‬
‫‪Features of the Indian Constitution’.‬‬
‫‪ -23‬عالجت هذه املسائل يف كتايب‪:‬‬
‫‪The Argumentative Indian (London and Delhi: Penguin, and New York: Farrar, Straus and Giroux, 2005), and Identity and Violence: The‬‬
‫‪Illusion of Destiny (New York: W. W. Norton & Co., and London: Penguin, 2006).‬‬
‫ *(‪ 1923 - 1873 )Henry Martyn Robert‬كان لواء يف الجيش األمرييك تكلف بوضع قواعد إجرائية للعمل الربملاين‪ ،‬كان هدفه صياغة كراسة ال تتجاوز خمسني‬
‫صفحة‪ ،‬لك َّنه ط َّورها لتصبح كتاباً يناهز ‪ 176‬صفحة‪ ،‬وبعد نرشه َّ‬
‫توصل برسائل عديدة من قرائه تطالبه بإيضاح ما استغلق يف بعض قواعده اإلجرائيَّة‪ .‬مل ميهله املوت‬
‫لتطوير عمله فأوىص زوجه وأبناءه باستكامل الكتاب‪.‬‬
‫**امليثاق األعظم أو ما يصطلح عليه املاكنا كارطا (‪ ،)MagnaCarta‬هو وثيقة‪ ‬إنجليزيَّة‪ ‬صدرت ألول م َّرة عام ‪1215‬م‪ .‬ث َّم صدرت م َّرة أخرى يف القرن‪ ‬الثالث عرش‬
‫ولكن بأحكام أقل‪ ،‬حيث ألغيت بعض األحكام املؤقتة املوجودة يف النسخة األوىل‪ ،‬خصوصاً تلك التي تو ّجه تهديدات رصيحة إىل سلطة‪ ‬الحاكم‪ ،‬وقد اعتمدت‬
‫هذه‪ ‬الوثيقة‪ ‬قانوناً عام ‪1225‬م وما تزال النسخة التي صدرت عام ‪1297‬م ضمن كتب لوائح األنظمة الداخليَّة إلنجلرتا‪ ‬وبالد الغال حتى اآلن‪ .‬يحتوي ميثاق عام ‪1215‬م‬
‫عىل أمور عدَّة‪ ،‬منها‪ :‬مطالبة امللك بأن مينح حريَّات محدَّدة‪ ،‬وأن يقبل بأ َّن حريته لن تكون مطلقة‪ ،‬وأن يوافق علناً عىل عدم معاقبة ّ‬
‫أي «رجل حر» إال مبوجب قانون‬
‫الدولة‪ ،‬وهذا الحق مازال قامئاً حتى اليوم يف هذه الدول‪.‬‬
‫‪ - 24‬انظر الفصل الثالث من هذا الكتاب‪ :‬املؤسسات واألشخاص‪ ،‬وكذلك كتايب‪2005:‬‬
‫‪The Argumentative Indian.‬‬
‫‪ - 25‬من أجل مناقشة مستفيضة ملسألة التقاليد أحيل عىل كتايب‪ ،The Argumentative Indian 2005 :‬ث َّم كتايب‪.Identity and Violence 2006 :‬‬
‫‪26  - Nakamura Hajime, ‘Basic Features of the Legal, Political, and Economic Thought of Japan’, in Charles A. Moore (ed.), the Japanese‬‬
‫‪Mind: Essentials of Japanese Philosophy and Culture (Tokyo: Tuttle, 1973), p.144.‬‬

‫‪221‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫أمارتيا صن ‪ /‬تقديم وترمجة‪ :‬مصطفى العارف‬ ‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬

‫أي افرتاض ضمني لصيق بالتاريخ ال ينفلت منه‪ ،‬لذلك فاالبتعاد عن املايض مطلوب دوم ًا‬ ‫ال تكمن صلة هذا التاريخ العاملي يف ِّ‬
‫بأشكال خمتلفة‪ .‬وليس علينا أن نُولد ببلد له تاريخ طويل يف الديمقراط َّية الختيار تلك الطريق اليوم‪ .‬تكمن أمه َّية هذا التاريخ يف إدراك‬
‫تظل تؤثر عىل أفكار الناس‪ ،‬ويمكنها أن تُلهم أو تشكِّل عائق ًا‪ ،‬وجيب أخذها بعني االعتبار سواء أكانت تدفعنا إن‬ ‫أن التقاليد الراسخة ُّ‬
‫َّ‬
‫كنا خاضعني هلا‪ ،‬ونريد جتاوزها‪ ،‬أو(كام قال الشاعر اهلندي رابندراناذ (‪ )Rabindranath‬بوضوح) نريد معاينة ونقد ما نو ُّد أخذه ونبذه‬
‫من املايض‪ ،‬عىل ضوء اهتامماتنا وأولوياتنا املعارصة‪.27‬‬

‫ليس مفاجأة إن لعب الوعي بالتاريخ املحيل والعاملي دور ًا عظيم الشأن يف معركة الديمقراط َّية بزعامة سياسيني بواسل وذوي رؤية‬
‫ثاقبة يف خمتلف أنحاء العامل )مثال ذلك سن يات ‪ -‬صن(‪ )SunYat-sen‬وجواهر الل هنرو(‪ )Jawaharlal Nehru‬ونلسون مانديال‬
‫ومارتن لوثر كينغ وآنغ سان سوكي(‪ .) Ang San Suu Kyi‬يقول مانديال يف كتابه‪« :‬الطريق الطويل إىل احلر َّية» واصف ًا انفعاله وتأثره‬
‫عندما كان يافع ًا لرؤية الطبيعة الديمقراط َّية لألحداث االجتامع َّية املحل َّية التي كانت تُعقد ببيت املدرس(‪:)Mqhekezweni‬‬

‫«كان اجلميع يمكنه احلديث‪ .‬وكانت تلك هي الديمقراط َّية يف أهبى صورها‪ .‬ر َّبام كان هناك تسلسل ألمه َّية املتحدّ ثني‪ ،‬لك َّن صوت‬
‫تم سامعه‪ ،‬الرئيس واملرؤوس‪ ،‬واملحارب والطبيب‪ ،‬والبائع واملزارع‪ ،‬صاحب األرض واألجري‪ ،...‬كان أساس احلكم الذايت هو‬ ‫اجلميع َّ‬
‫أن يكون اجلميع أحرار ًا يف إبداء آرائهم‪ ،‬ومتساوين يف القيمة باعتبارهم مواطنني» ‪.‬‬
‫‪28‬‬

‫مل يساهم فهم مانديال للديمقراط َّية كثري ًا يف املامرسة السياس َّية التي كان يرى من حوله من دولة التمييز العنرصي التي كان ّ‬
‫يسيها‬
‫بأنم «بِيض» فقط‪ ،‬مع ما يكون هلذا الوصف ههنا من صواب‪ ،‬بل انطالق ًا من مفهوم‬ ‫أناس من أصل أورويب‪ ،‬يصفون أنفسهم‪ ،‬ليس َّ‬
‫ثقايف كوهنم أوروب ّيني أيض ًا‪ .‬مل تُسهم بريتوريا عاصمة جنوب إفريقيا يف فهم مانديال للديمقراط َّية‪ ،‬ذلك َّ‬
‫أن وعيه بالديمقراط َّية‪ ،‬كام‬
‫ستشف من مذكراته‪ ،‬جاء نتيجة أفكاره العا َّمة يف املساواة السياس َّية واالجتامع َّية ذات اجلذور العامل َّية‪ ،‬وانطالق ًا أيض ًا من مالحظته‬
‫ُّ‬ ‫ُي‬
‫ملامرسة النقاش العمومي التشاركي ببلدته املحل َّية‪.‬‬

‫استثناء؟‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫يشكل الشرق األوسط‬ ‫هل‬
‫مرة أخرى معاجلة األرض َّية التارخي َّية للسامت الديمقراط َّية‪ ،‬فإنَّه من الرضوري إعادة تقييم تاريخ الرشق األوسط‪ ،‬بسبب‬ ‫إذا أردنا َّ‬
‫إن هذه اإلدانة املتداولة دائ ًام تيسء إىل‬‫ألن هذه الكتلة من البلدان كانت دائ ًام معادية للديمقراط َّية‪َّ .‬‬ ‫واملتداول عىل األلسن‪َّ ،‬‬‫َ‬ ‫االعتقاد السائد‬
‫مؤسسات َّي ًا‬
‫أن الديمقراط َّية بصفتها نظام ًا ّ‬‫فإنا ال معنى هلا‪ .‬صحيح َّ‬ ‫املناضلني يف سبيل الديمقراط َّية يف العامل العريب‪ ،‬ولكوهنا تعمي ًام تارخي َّي ًا َّ‬
‫مل تكن حارضة يف مايض الرشق األوسط‪ ،‬لك َّن الديمقراط َّية املؤسسات َّية هي يف الواقع ظاهرة جديدة متام ًا يف معظم أنحاء العامل‪.‬‬

‫فإن الرشق األوسط‬ ‫إذا نحن بحثنا ج ِّيد ًا بمنأى عن االستدالل العمومي والتسامح مع الرأي املخالف‪ ،‬باملعنى الواسع للديمقراط َّية‪َّ ،‬‬
‫سيكون له باع طويل يف األمر‪ .‬جيب َّأل نخلط ههنا بني التاريخ الض ّيق للرصاعات اإلسالم َّية وبني التاريخ الكبري للشعب املسلم وتقليد‬
‫احلكم السيايس للحكام املسلمني‪ .‬عندما ُأجرب الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون عىل اهلجرة إىل إسبانيا (املسلمة) يف القرن الثاين‬
‫حل حمل أنظمة احلكم اإلسالمي املتساحمة نظام آخر ّ‬
‫أقل تساحم ًا) مل يلجأ إىل أوروبا‪ ،‬بل إىل مملكة إسالم َّية متساحمة يف العامل‬ ‫عرش (عندما َّ‬
‫أن صالح الدين كان مسل ًام قو َّي ًا‪،‬‬ ‫شك يف َّ‬
‫العريب‪ ،‬حيث منحته وظيفة رشف َّية ذات شأن يف بالط اإلمرباطور صالح الدين بالقاهرة‪ .‬ال َّ‬

‫‪27  - Ramachandra Guha, ‘Arguments with Sen: Arguments about India’, Economic and Political Weekly, 40 (2005), and Amartya Sen, ‘Our‬‬
‫‪Past and Our Present’, Economic and Political Weekly, 41 (2006).‬‬
‫‪28  - Nelson Mandela, Long Walk to Freedom (Boston, MA, and London: Little, Brown & Co., 1994), p. 21.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪222‬‬
‫ملف العدد‪ :‬العدالة والديمقراطية‬ ‫الديمقراط َّية باعتبارها استدالالً عموم َّي ًا‬

‫فقد حارب ريتشارد يف سبيل اإلسالم وأبىل بالء عظي ًام يف احلروب الصليب َّية‪ ،‬وكان ريتشارد قلب األسد أحد أكرب خصومه‪ .‬لك َّن موسى‬
‫مستقره يف مملكة صالح الدين ومتتَّع بحر َّية رأي كبرية‪َّ .‬‬
‫إن التسامح مع الرأي اآلخر أمر مركزي ههنا ملامرسة االستدالل‬ ‫َّ‬ ‫بن ميمون وجد‬
‫العمومي‪ ،‬وقد منحت أنظمة احلكم اإلسالمي خالل جمدها حر َّية كانت أوروبا حتارهبا من خالل حماكم التفتيش (حتى عىل العلامء‬
‫والفالسفة)‪.‬‬

‫أن العامل املعارص مثقل بالرصاع بني اليهود واملسلمني‪ ،‬إال َّ‬
‫أن نظام احلكم اإلسالمي يف‬ ‫مل تكن جتربة موسى بن ميمون استثناء‪ .‬فرغم َّ‬
‫حر َّياهتم‬
‫اح ُتمت ّ‬‫العامل العريب وإسبانيا العصور الوسطى كان له باع وتاريخ طويل يف استيعاب اليهود بأمان داخل نسيج املجتمع‪ ،‬حيث ْ‬
‫الفرد َّية بل وأدوارهم القياد َّية أيض ًا‪ .29‬تورد ماريا روزا مينوثال(‪ )Maria Rosa Menocal‬يف كتاهبا «زينة العامل» (‪The ornament‬‬
‫أن إنجاز قرطبة يف إسبانيا املسلمة يف القرن العارش أضحى منافس ًا وندَّ ًا لبغداد‪ ،‬حتى تكون أكثر بقاع العامل حترض ًا‪،‬‬
‫‪َّ )of the world‬‬
‫حيث يعود فضل هذا اإلنجاز إىل التأثري املشرتك للخليفة عبد الرمحن الثالث (‪ 961 - 912‬م) ووزيره اليهودي أيب يوسف حسداي بن‬
‫شربوط‪.30‬‬

‫توجد الكثري من الروايات حول النقاش العمومي واملشاركة السياس َّية عن طريق احلوار يف تاريخ الرشق األوسط واملسلمني‪ .‬نلفي‬
‫يف املاملك اإلسالم َّية التي قامت حول القاهرة وبغداد وإسطنبول أو إيران أو اهلند أو األندلس الكثري من أبطال النقاش العمومي‪.‬‬
‫أن هذا التسامح يف تعدد َّية الرأي كان استثنائي ًا مقارنة بأوروبا‪ .‬ففي الوقت الذي كان فيه اإلمرباطور املغويل العظيم أكرب يصدر‬
‫ب ْيد َّ‬
‫بيانات يف اهلند حول احلاجة إىل التسامح الديني والسيايس سنة ‪ ،1590‬منهمك ًا يف تنظيم حوارات بني أتباع الديانات املختلفة (هندوس‬
‫ومسلمني ومسيحيني وفارسيني وجينيني وهيود بل وملحدين)‪ ،‬كانت حماكم التفتيش نشطة جد ًا يف أوروبا‪ ،‬حيث ُأحرق الفيلسوف‬
‫جيوردانو برونو (‪ )Giordano Bruno‬ح َّي ًا يف روما بتهمة اهلرطقة حوايل سنة ‪ ،1600‬وظلت نشيطة حتى حينام كان اإلمرباطور أكرب‬
‫يلقي حمارضات بأغرا (‪ )Agra‬حول التسامح واحلاجة إىل احلوار الديني واإلثني‪.‬‬

‫أن الفحص التقييمي ألسباب‬ ‫سمى ببساطة مفرطة «العامل اإلسالمي» كبرية‪ ،‬غري َّ‬ ‫قد تكون املشكالت احلال َّية للرشق األوسط وما ُي َّ‬
‫هذه املشكالت حيتاج‪ ،‬كام قلت يف كتايب «اهلو َّية والعنف»‪ ،‬فه ًام مستفيض ًا لطبيعة ودينام َّية سياسات اهلو َّية‪ .‬األمر الذي يتط ّلب اعرتاف ًا‬
‫وأن هذه االنتامءات قد تكون متفاوتة بني األولو َّيات الدنيو َّية واملصلحة السياس َّية‬ ‫باالنتامءات املتعدِّ دة للناس‪ ،‬ماعدا االنتامء الديني‪َّ ،‬‬
‫يتوجب علينا أيض ًا االلتفات إىل املواجهة اجلدل َّية للرشق األوسط مع ماضيه األمربيايل وحارضه‬ ‫َّ‬ ‫يف استغالل االختالفات الدين َّية‪.‬‬
‫اللديمقراطي للرشق‬ ‫إن وهم القدر َّ‬ ‫االضطهادي الذي فرضته عليه هيمنة الغرب األمربيايل‪ ،‬وهي هيمنة ماتزال حارضة إىل اليوم‪َّ .‬‬
‫األوسط الذي ال مناص منه‪ ،‬ما هو إال تشويش مض ِّلل وخطري جدَّ ًا‪ ،‬باعتباره منهج ًا للتفكري يف السياسة الدول َّية أو العدالة العامل َّية اليوم‪.‬‬

‫‪ -  29‬من املهم أن ندرك يف هذا السياق كيف أثر الرتاث الفكري اإلسالمي عىل نهوض الثقافة األوروبية وظهور معامل كثرية تُربط اليوم بالحضارة الغربية‪ ،‬انظر حول هذا‬
‫املوضوع‪:‬‬
‫‪David Levering Lewis, God’s Crucible: Islam and the Making of Europe, 570–1215 (New York: W. W. Norton & Co., 2008).‬‬
‫‪30  - Maria Rosa Menocal, The Ornament of the World: How Muslims, Jews, and Christians Created a Culture of Tolerance in Medieval‬‬
‫‪Spain (Boston, MA, and London: Little, Brown & Co., 2002), p. 86.‬‬

‫‪223‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حوارات‬

‫هايدغر والفكر العربي‬


‫الم ِّ‬
‫فكر اللبناني مشير باسيل عون‬ ‫حوار مع ُ‬

‫حاوره‪ :‬املهدي مستقيم*‬

‫خاصة بعد مرور املرحلة التي كان ينظر فيها إىل فيلسوف الكينونة‬
‫حمل نقاش مستمر‪َّ ،‬‬ ‫مازالت مسألة تلقي الفكر اهلايدغري يف الثقافة العرب َّية َّ‬
‫والزمان نظرة سلب َّية‪ ،‬باعتباره أحد رموز الفكر النازي واملضاد للنزعة اإلنسان َّية وداعية هناية الفلسفة‪ ،‬وحرص أطروحاته األنطولوج َّية يف نطاق‬
‫ضيق داخل الفلسفة الوجود َّية املعارصة يف صيغتها األملان َّية‪.‬‬

‫لكن هناك جمموعة من األسامء التي بدأت تنظر إىل مارتن هايدغر نظرة جديدة‪ ،‬ومع إعادة النظر يف كثري من اآلراء واألفكار السلب َّية انطالق ًا‬
‫َّ‬
‫من قراءة جديدة لنصوصه وإعادة ترمجتها‪ .‬وقد بدأ هذه العمل َّية يف الرشق حممود رجب‪ ،‬وفؤاد كامل‪ ،‬وعبد الرمحن بدوي‪ ،‬وعبد الغفار‬
‫أن كوكبة املغاربة لعبت وتلعب دور ًا كبري ًا يف استئناف‬ ‫وبسام حجار‪ ،‬وفؤاد رفقة‪ ،‬ومشري باسيل عون‪ .‬كام َّ‬
‫مكاوي‪ ،‬وجماهد عبد املنعم جماهد‪َّ ،‬‬
‫التفكري يف القضايا التي طرحها مارتن هايدغر من منطلق االنفتاح عىل الكوين دون إمهال اخلصويص‪ ،‬نذكر من بني تلك األسامء عىل سبيل‬
‫السالم بنعبد العايل‪ ،‬وحممد‬ ‫املثال وليس احلرص‪ :‬فتحي املسكيني‪ ،‬وعيل الفريوي‪ ،‬وحممد املزوغي‪ ،‬وإسامعيل مهنانة‪ ،‬وحممد سبيال‪ ،‬وعبد َّ‬
‫الشيخ‪ ،‬وإسامعيل املصدق‪ ،‬وعبد اهلادي مفتاح‪ ،‬وأمحد العلمي‪ ،‬وحممد الشيكر‪ ،‬وحممد طواع‪ ،‬وحممد مزيان‪...‬‬

‫وقد أثمر ذلك ترمجة سبعة عرش عم ً‬


‫ال هلايدغر إىل لغة الضاد‪ ،‬جاءت مرتبة عىل الشكل التايل‪:‬‬
‫• مارتن هايدغر‪ ،‬العودة إىل أساس امليتافيزيقا‪ ،‬ترمجة حممود رجب‪ ،‬مرص ‪.1949‬‬
‫• مارتن هايدغر‪ ،‬ما امليتافيزيقا؟ ترمجة فؤاد كامل‪ ،‬مرص ‪.1964‬‬
‫• مارتن هايدغر‪ ،‬ما الفلسفة؟ ترمجة حممود رجب‪ ،‬مرص ‪.1964‬‬
‫• مارتن هايدغر‪ ،‬ماهية احلقيقة ـ نظر َّية أفالطون عن احلقيقة‪ -‬أليثيا‪ ،‬ترمجة عبد الغفار مكاوي‪ ،‬القاهرة ‪.1977‬‬
‫• مارتن هايدغر‪ ،‬نظر َّية أفالطون يف احلقيقة ‪-‬حول جوهر احلقيقة‪ ،‬ترمجة شهاب الدين اللعالعي‪ ،‬تونس ‪.1984‬‬
‫بسام حجار‪ .‬الدار البيضاء‪ -‬بريوت ‪.1994‬‬ ‫• مارتن هايدجر «إنشاد املنادى‪ ،‬قراءة يف شعر هولدرلن وتراكل»‪ ،‬ترمجة َّ‬
‫• مارتن هايدغر‪ ،‬التقنية ـ احلقيقة ‪ -‬الوجود‪ ،‬ترمجة حممد سبيال وعبد اهلادي مفتاح‪ ،‬الدار البيضاء ‪.1995‬‬
‫• مارتن هايدغر‪ ،‬مبدأ العلة‪ ،‬ترمجة نظري جاهل (بريوت)‪.‬‬
‫• مارتن هايدغر‪ ،‬أصل العمل الفني‪ ،‬ترمجة أبو العيد دودو‪( ،‬اجلزائر ‪.)2001‬‬
‫• مارتن هايدغر‪« ،‬منبع األثر الفني»‪ ،‬ترمجة وحترير إسامعيل املصدق‪ ،‬ضمن «كتابات أساس َّية» املرشوع‪ ،‬القاهرة‪.2003 ،‬‬

‫*باحث من املغرب‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪224‬‬
‫حوارات‬ ‫حوار مع ا ُملفكِّر اللبناين مشري باسيل عون‬

‫• مارتن هايدغر‪ ،‬السؤال عن اليشء‪ ،‬حول نظر َّية املبادئ الرتنسندنتال َّية عند كانت‪ ،‬ترمجة إسامعيل املصدق‪ ،‬بريوت ‪.2012‬‬
‫مارتن هايدغر‪ ،‬الكينونة والزمان‪ ،‬ترمجة فتحي املسكيني‪ ،‬بريوت ‪• .2012‬‬
‫• رسائل مارتن هايدغر وحنة آرندت‪ ،‬ترمجة محيد لشهب ‪ ،2014‬لبنان‪.‬‬
‫• مارتن هايدغر‪ ،‬مدخل إىل امليتافيزيقا‪ ،‬ترمجة عامد نبيل‪ ،‬بريوت ‪. 2015‬‬
‫• مارتن هايدغر‪ ،‬األنطولوجيا هرمينوطيقا الواقعان َّية‪ ،‬ترمجة عامرة النارص‪ ،‬بريوت ‪.2015‬‬
‫ومهمة التفكري‪ ،‬ترمجة وعد عيل الرحية‪ ،‬دمشق ‪.2016‬‬ ‫َّ‬ ‫• مارتن هايدغر‪ ،‬هناية الفلسفة‬
‫• مارتن هايدغر‪ ،‬الفلسفة ‪-‬اهلو َّية والذات‪ ،‬ترمجة حممد مزيان‪ ،‬لبنان ‪.2016‬‬

‫ُخصص هذا الركن ألحد األقالم التي خاضت يف الدروب اهلايدغر َّية‪ ،‬ومت َّيزت بالدّ قة والتفكري الرصني بعيد ًا عن اخلطابات التبجيل َّية‪.‬‬ ‫ن ّ‬
‫يتعلق األمر باملفكر اللبناين مشري باسيل عون‪ ،‬صاحب كتاب‪« :‬هايدغر والفكر العريب» الصادر باللغة الفرنس َّية عن دار الرماتان الفرنس َّية‪،‬‬
‫والذي عرف مؤخر ًا طريقه إىل لغة الضاد عن طريق األستاذ إييل أنيس نجم‪ ،‬عن املركز العريب لألبحاث والدراسات‪.‬‬
‫ُيعدُّ الربوفيسور مشري باسيل عون ‪-‬أستاذ تاريخ الفلسفة األملان َّية واهلرمينوطيقا يف اجلامعة اللبنان َّية‪ -‬من األسامء العرب َّية البارزة التي تغني‬
‫تدل عىل مقدرة عالية عىل مستوى البحث واإلنجاز‪ .‬ومن بني الدراسات التي أقدم عىل‬ ‫املشهد الثقايف العريب والعاملي بدراساهتا التي ُّ‬
‫إصدارها باللغتني العرب َّية والفرنس َّية‪:‬‬

‫بالعرب َّية‪:‬‬
‫• بني املسيح َّية واإلسالم‪ٌ .‬‬
‫بحث يف املفاهيم األساس َّية (املكتبة البولس َّية‪ ،‬جونية‪ ،‬لبنان‪.)1997 ،‬‬
‫مقاالت الهوت َّية يف سبيل احلوار (املكتبة البولس َّية‪ ،‬جونية‪ ،‬لبنان‪.)1997 ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫•‬
‫األول (املكتبة البولس َّية‪ ،‬جونية‪ ،‬لبنان‪.)2000 ،‬‬
‫• علم األصول الالهوت َّية‪ .‬يف فلسفة الدين‪ ،‬باالشرتاك مع عادل تيودور خوري‪ ،‬اجلزء َّ‬
‫• علم األصول الالهوت َّية‪ .‬يف قضايا اإليامن‪ ،‬باالشرتاك مع عادل تيودور خوري‪ ،‬اجلزء الثاين (املكتبة البولس َّية‪ ،‬جونية‪ ،‬لبنان‪.)2002 ،‬‬
‫• جوهر املسيح َّية ومفارقاهتا‪ .‬املسيح َّية عىل مشارف األلف الثالث‪ ،‬باالشرتاك مع كري ّلس سليم بسرتس (املكتبة البولس َّية‪ ،‬جونية‪ ،‬لبنان‪.)2001 ،‬‬
‫نظرات يف اإلحلاد املعارص (دار اهلادي‪ ،‬بريوت‪.)2003 ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫• بني الدين والفلسفة‪.‬‬
‫األسس الالهوت َّية يف بناء حوار املسيح َّية واإلسالم (جامعة القدّ يس يوسف‪ ،‬دار املرشق‪ ،‬بريوت‪.)2003 ،‬‬ ‫• ُ‬
‫الغريب (دار املرشق‪ ،‬بريوت‪.)2004 ،‬‬ ‫الفلسفي‬ ‫بحث يف تاريخ علم التفسري‬ ‫الفسارة الفلسف َّية‪ٌ .‬‬ ‫• ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املسيحي (دار املرشق‪ ،‬بريوت‪.)2005 ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الديني‬
‫ّ‬ ‫ومساءالت يف الفكر‬
‫ٌ‬ ‫اجتهادات‬
‫ٌ‬ ‫• حمن ُة اإليامن‪.‬‬
‫املسيحي‪ .‬مقتضيات النهوض والتجديد واملعارصة (دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪.)2007 ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الديني‬
‫ّ‬ ‫العريب‬
‫ّ‬ ‫• الفكر‬
‫• بني اجلامعة والسياسة (منشورات جامعة الروح القدس‪ ،‬الكسليك‪ ،‬جونية‪ ،‬لبنان‪.)2007 ،‬‬
‫• النور واملصابيح‪ .‬التعدُّ د َّية الدين َّية يف جرأة املساءلة الالهوت َّية املسيح َّية (منشورات جامعة البلمند‪ ،‬لبنان‪.)2008 ،‬‬
‫اللبناين (دار النهار‪ ،‬بريوت‪.)2008 ،‬‬
‫ّ‬ ‫النظري وواقعه‬
‫ّ‬ ‫املسيحي يف بنائه‬
‫ّ‬ ‫السيايس‬
‫ّ‬ ‫• بني الدين والسياسة‪ .‬الفكر‬
‫تصورات املسيح َّية واإلسالم (املكتبة البولس َّية‪ ،‬جونية‪ ،‬لبنان‪.)2010 ،‬‬ ‫• بني االبن واخلليفة‪ .‬اإلنسان يف ُّ‬
‫العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬بريوت‪.)2015 ،‬‬ ‫ّ‬ ‫العريب (تعريب إييل نجم‪ ،‬املركز‬ ‫ّ‬ ‫• هايدغر والفكر‬
‫البنيوي يف الذات اللبنان َّية (دار سائر املرشق‪ ،‬بريوت‪.)2016 ،‬‬
‫ّ‬ ‫• أهؤالء هم اللبنان ُّيون؟ عوارض االضطراب‬

‫بالفرنس َّية‬
‫‪•La cité humaine dans la pensée de Martin Heidegger. Lieu de réconciliation de l’être et du politique, 2e éd.,‬‬
‫‪Paris, L›Harmattan, 2016.‬‬

‫‪225‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫املهدي مستقيم‬ ‫حوارات‬

‫‪•Frédéric Gentz. De la paix perpétuelle, Thesaurus de philosophie du droit, Centre de philosophie du droit,‬‬
‫‪Paris, Vrin, 1997.‬‬
‫‪•Heidegger et la pensée arabe, Paris, L’Harmattan, 2011.‬‬
‫‪•Pour une pensée arabe humaniste contemporaine. Paul Khoury et les promesses de l’incomplétude humaine,‬‬
‫‪Paris, L’Harmattan, 2012.‬‬
‫‪•Fils et Vicaire. Pour une anthropologie islamo-chrétienne comparée, trad. par Fadi Abdelnour, Paris, L›Har-‬‬
‫‪mattan, 2015.‬‬
‫‪•Le Christ arabe. Pour une théologie arabe chrétienne de la convivialité, Paris, Cerf, 2016.‬‬
‫‪Anthropologies croisées. Essai sur l›interculturalité arabe (à paraître).‬‬

‫تنجر عن انفتاح الفكر العريب عىل املرشوع اهلايدغري‪ ،‬وذلك انطالق ًا من كونه‬ ‫يبسط مشري باسيل عون جمموع الفوائد التي يمكن أن َّ‬
‫مرشوع ًا قد يتيح لنا إمكانات التفكُّر يف كينونتنا بشكل يضمن حيو َّية نقد َّية استثنائ َّية‪ ،‬وذلك بوقوفنا بأنفسنا عىل إمكانات حمتملة متكننا‬
‫يتوجب علينا الرشوع يف أقلمة املنهج‬
‫من بلوغ االختبار اخلاص بثقافتنا العرب َّية يف عمق مسعاها التارخيي اخلصويص‪ .‬ومن أجل ذلك َّ‬
‫الفنومينولوجي يف الفضاء الثقايف العائد إىل العامل العريب احلايل‪ .‬كام يؤكّد مؤلف الكتاب عىل رضورة أن يتخذ هذا االنفتاح شكل املساءلة‬
‫النقد َّية املتيقظة دون اإلرساف يف املديح والتم ّلق ملا خ َّطه فيلسوف الكينونة‪.‬‬

‫إن االلتزام باملساءلة األنطولوج َّية اهلايدغر َّية وما تتيحه من إمكانات مساءلة الذات عىل ضوء مسألة الكينونة تعترب حسب باسيل عون‬ ‫َّ‬
‫استمرار ًا للجهود التي بذلتها النخب الثقاف َّية العرب َّية‪ ،‬سواء تلك التي أخذت لبوس ًا ماركسي َا اشرتاكي ًا‪ ،‬أو التي أخذت لبوس ًا وجودي ًا‬
‫بحق الوجود التارخيي للبرش من دون الوقوع يف املقابل يف فخ‬ ‫شخصاني ًا‪ .‬فاهلدف واحد وهو حترير املجتمع العريب من الظلم الذي ارتُكب ّ‬
‫اإليديولوجيا‪ ،‬وختليص النفس العرب َّية من االنحرافات واألمراض التي ابتليت هبا عىل نحو مرير من دون االنعزال باملقابل يف األنا اآلرسة‪،‬‬
‫اجلوان َّية اهلانئة‪.‬‬
‫األنا َّ‬

‫تنجر عن مثل هذا االنفتاح‪،‬‬


‫قبل الرشوع يف حتليل واستنطاق إمكانات انفتاح الفكر العريب عىل الفكر اهلايدغري وبيان املزايا التي يمكن أن َّ‬
‫أن دراسة استقبال الفكر‬
‫كل فكر عىل حدة‪ ،‬مع رصد نقط االنفصال والتالقي بني الفكرين‪ .‬ذلك َّ‬ ‫آثر مشري باسل عون الوقوف عند خصائص ّ‬
‫مقومات الفكرين مع ًا‪ ،‬واستنطاق طبيعة العامل الذي نشأ فيه ُّ‬
‫كل واحد منهام‪.‬‬ ‫العريب للفكر اهلايدغري ـ كام يرى ـ تفرتض بالرضورة دراسة ّ‬

‫أن املشكالت التي واجهها العامل والفكر الغرب َّيان التي‬ ‫خيتلف العامل الذي ظهر فيه هايدغر عن العامل الذي نشأ فيه الفكر العريب‪ ،‬وهذا يعني َّ‬
‫استدعت قيام الفكر اهلايدغري‪ ،‬ختتلف جوهري ًا عن املشكالت التي واجهها الفكر والعامل العرب َّيان‪ ،‬والتي حتكم الفكر العريب املعارص يف نشأته‬
‫وتكونه‪ .‬فمن جهة الغرب حداثة مفرطة‪ ،‬ومن جهة العرب حداثة معطلة‪ ،‬وفيام تثري احلداثة املفرطة يف الغرب ر َّدة فعل تتمثل يف احلنني إىل‬ ‫ُّ‬
‫التحرر واإلصالح‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫األصول والعودة إليها‪ ،‬تساهم الفاقة والركود القائمتان يف العامل العريب يف شحذ اإلرادات شحذ ًا راديكالي ًا‪ ،‬ودفعها باجتاه‬

‫وحيركه حرص ًا الكشف عن حقيقة الكون والكائن‪ ،‬بموجب‬ ‫إذا كان الفكر اهلايدغري ذا طابع أنطولوجي ملغز تتصارع حوله التأويالت‪ّ ،‬‬
‫فإن الفكر العريب يفتقر إىل منظومة متجانسة‬ ‫اإلقبال اخلاص بالوجود األصيل غري امليتافيزيقي‪ ،‬وهو الوجود الذي يمتنع هايدغر عن تسميته‪َّ ،‬‬
‫ومتناسقة ذات قاسم مشرتك قابل إلدارة جممل جتليات هذا الفكر إلنجازاته‪ ،‬وذلك راجع لتعدُّ د مصادر الفكر العريب‪ ،‬وتغلغل نزعاته‬
‫يظل اإلسالم‬ ‫اإليديولوج َّية‪ ،‬باإلضافة إىل العامل الالهويت أو الكالمي‪ ،‬فالقض َّية اإلهل َّية تسكن الفكر العريب وخترتقه جدل َّية العقل والنقل‪ ،‬إذ ُّ‬
‫يف قلب املسألة العرب َّية‪ ،‬إسالم يطبع املجتمع العريب يف العمق بطابعه اخلاص‪ ،‬ويشغل ّ‬
‫كل األبعاد الروح َّية والزمن َّية املالزمة للحياة البرش َّية‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪226‬‬
‫حوارات‬ ‫حوار مع ا ُملفكِّر اللبناين مشري باسيل عون‬

‫تم جتاوز هذا الوضع لظهر الفكر العريب للعيان يف شكل صورة متناسقة تطرح فيها بإحكام متامسك ومنطقي‪ ،‬املشكالت‬ ‫الفرد َّية واجلامع َّية‪ .‬لو َّ‬
‫الفعل َّية التي يواجهها العامل العريب‪ ،‬وأنامط االستدالل والتحليل التي تالئم بالضبط طبيعة هذه املشكالت الفعل َّية التي يواجهها العامل العريب‪،‬‬
‫تكون النسيج‬‫واحللول النظر َّية والعمل َّية القادرة عىل مداواة النواقص اخلطرية التي حتول دون تفتُّح الكائن البرشي يف خمتلف املجتمعات التي ّ‬
‫احلي هلذا العامل‪.‬‬

‫رغم التجريد املفهومي اهلايدغري املفرط والعيص عىل الفهم‪ ،‬وما يلحقه من التباسات دالل َّية راجعة إىل االختالفات املفهوم َّية واالصطالح َّية‬
‫ظل انبجاس جمهود مستمر يسعى اىل التجديد والتكييف‪ ،‬ويعيد‬ ‫املوجودة داخل الفكرين‪ ،‬إال أنَّه ال يلغي إمكانيات االنفتاح والتك ُّيف‪ ،‬يف ّ‬
‫النظر يف‪:‬‬

‫ـ هزال استقبال الفكر اهلايدغري‪.‬‬


‫ـ هزال الرتمجات‪.‬‬
‫ـ غياب جمموعات عمل تؤقلم اجلهاز املفهومي اهلايدغري مع املجال التداويل العريب‪.‬‬

‫تقابل نقط االختالف واالنفصال القائمة بني الفكر العريب والفكر اهلايدغري نقط التقاء واتصال‪ ،‬يمكن أن نجملها فيام ييل‪:‬‬

‫كل من الفكرين أن يكشف‪ ،‬عىل طريقته‬ ‫ـ الفكران كالمها افتتنا بالغرب‪ ،‬وأثار استنكارمها (انحالل‪/‬أفول‪ ،‬هنضة‪/‬أصالة)‪ ،‬وعليه يعتزم ٌّ‬
‫اخلاصة‪ ،‬عن إشارات اخلالص التي تظهر يف الضالل املالزم للذات َّية العائدة إىل األزمنة احلديثة‪ ،‬وهي الذات َّية التي اقتلعت من جذورها وأطلق‬
‫هلا العنان‪ .‬وتوصيف فرص االستفاقة التي ترتسم مالحمها يف أفق النفور التقني احلديث‪ ،‬وإجراء العالجات التي تصون الفكر البرشي وتعيد‬
‫احتامءه هبدف تصحيح مساره‪.‬‬

‫ـ يتناول الفكر اهلايدغري حركة الفكر الغريب اإلمجال َّية عىل َّأنا انبساط شبه حمتم للودائع األوىل التي آلت إلينا من الفالسفة الذين سبقوا‬
‫كل استذكار للحقبات‬ ‫سقراط‪ ،‬والتي أملتها عليهم الدينام َّية املوسومة بسمة اللعب‪ ،‬واخلاصة بحقيقة الكون (الكشف واحلجب)‪ .‬يرسم ُّ‬
‫ثمة فليس بإمكان الفكر البرشي أن يتمثل ذاته إال بام‬ ‫ال من أشكال تكشف هذه احلقيقة عينها‪ .‬ومن َّ‬ ‫الزمان َّية العائدة إىل هذا البدء التدشيني شك ً‬
‫كان استذكار ًا يتملك بموجبه االنفراجات التي تتبدَّ ى لنظرة اإلنسان ّ‬
‫املتبصة‪ .‬باملوازاة مع ذلك يظهر الفكر العريب مسكون ًا هبم االستمرار َّية‪،‬‬
‫فالعودة إىل املايض ومت ُّلكه هي بالنسبة إىل الفكر العريب مرادفة للوفاء اخلالق واألصالة اخلالص َّية‪.‬‬

‫يتضمن غنى وطاقة جتعالنه وعاء‬ ‫َّ‬ ‫كل مقاربة تتناول حقيقة الكون‪ .‬باعتباره‬ ‫ـ تركّز املقاربة اهلايدغر َّية عىل كشف املكانة العامل َّية ل ّلسان يف ّ‬
‫الكون أو بيئته‪ .‬فبإمكان اإلنسان أن يشعر يف لسانه بقربه امللحوظ من حقيقة الكون‪َّ ،‬ملا كان اإلنسان حيمل معنى يف كيانه اخلاص‪ ،‬فإنَّه يستطيع‬
‫إذن أن يدرك معاين األشياء والوجود‪ .‬وباملوازاة مع ذلك يرى الفكر العريب يف لسانه الوديعة الرئيسة للعقل واهلو َّية العربيني‪ .‬إذ يستند اللسان‬
‫املدونة يف النص القرآين‪ ،‬ويعتربه املرجع التأوييل هلذا النص‪ .‬وبالتايل يغدو اللسان العريب عنرص ًا ّ‬
‫مكون ًا للرؤية‬ ‫العريب إىل العبارات والدالالت َّ‬
‫يبجل فيه بعض العرب لساهنم حتى يصبح غاية يف ذاهتا‪ ،‬فينأون بأنفسهم عن العامل الفعيل‪،‬‬ ‫العرب َّية الدين َّية والثقاف َّية للعامل‪ .‬إىل احلدّ الذي ّ‬
‫وجيهدون يف إحالل الكلامت َّ‬
‫حمل األشياء‪.‬‬

‫األمة‪.‬‬
‫ـ الفكران كالمها يركِّزان عىل أمه َّية مفهوم َّ‬

‫‪227‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫املهدي مستقيم‬ ‫حوارات‬

‫خمتلف الرتاثات‬ ‫ُ‬ ‫استحسان َّية تَعمرها الق َي ُم الروح َّية التي تنادي هبا‬ ‫* كيف تُقدِّ م نفسك ل ُق َّرائك؟‬
‫قيم تزدان‬ ‫املجان َّية‪ ...،‬إلخ)‪ ،‬وهي ٌ‬ ‫الدين َّية (التغافر‪ ،‬التضحية‪ّ ،‬‬
‫هبا إنسان َّية اإلنسان وتغتني أ َّيام اغتناء‪ .‬أ َّما الدائرة الثالثة فهي‬ ‫أنا أستاذ الفلسفة األملان َّية يف اجلامعة اللبنان َّية (قسم الفلسفة‪،‬‬
‫قات الالهوت َّية الغيب َّية الصوف َّية‬ ‫التذو ُ‬ ‫ُّ‬ ‫استنساب َّية ذات َّية تستوطنها‬ ‫ُك ّل َّية اآلداب والعلوم اإلنسان َّية‪ ،‬الفرع الثاين)‪ .‬من مواليد البقاع‬
‫التي يركن إليها املؤمنون يف سعيهم إىل املطلق‪ ،‬ومنها ُينشئون‬ ‫ودرست يف لبنان حتَّى مرحلة الدراسات‬ ‫ُ‬ ‫نشأت‬
‫ُ‬ ‫اللبناين (‪.)1964‬‬
‫ّ‬
‫وتصوراهتم الالهوت َّية وعقائدهم الدين َّية‬ ‫ُّ‬ ‫أنظوماهتم الدين َّية‬ ‫انتقلت إىل أورو َّبا (فرنسا‪ ،‬أملانيا) إلعداد‬ ‫ُ‬ ‫ثم‪،‬‬
‫العليا‪ .‬ومن َّ‬
‫سات اختبار َّية وجود َّية‬ ‫حتس ٌ‬ ‫قات هذه ُّ‬ ‫والتذو ُ‬
‫ُّ‬ ‫وأحكامهم الفقه َّية‪.‬‬ ‫تناولت‬
‫ُ‬ ‫الدكتوراه يف الفلسفة‪ ،‬وقد حصلت عليها يف عام ‪.1994‬‬
‫حر ٌة منعتقة من أ َّية إلزامات عقل َّية رصفة‪ ،‬ال ترسي إليها‬ ‫إيامن ًّية َّ‬ ‫وأسسها يف فكر‬ ‫يف أطروحة الدكتوراه مسألة املدينة اإلنسان َّية ُ‬
‫مقوالت االستقامة والضالل طاملا َّأنا‪ ،‬يف تد ُّبرها‬ ‫ُ‬ ‫وال تُصيبها‬ ‫مارتن هايدغر‪ .‬ونُرشت األطروحة َّأوالً يف أملانيا (‪ ،)1996‬ومن‬
‫للحياة اإلنسان َّية الفرد َّية واجلامع َّية‪ ،‬ال تع ّطل مبادئ الدائرة األوىل‬ ‫بعد ذلك يف فرنسا (الطبعة الثانية‪ .)2016 ،‬من بعد إقامة طويلة يف‬
‫الكوين‬
‫ّ‬ ‫قيم الدائرة الثانية‪ .‬ال سبيل‪ ،‬يف نظري‪ ،‬إىل التسامل‬ ‫وال تَصدُّ َ‬ ‫اجلامعي والبحث‬ ‫ّ‬ ‫وانخرطت يف التعليم‬ ‫ُ‬ ‫عدت إىل لبنان‬ ‫ُ‬ ‫أورو َّبا‪،‬‬
‫والثقافات‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫واألديان‬ ‫ُ‬
‫والدول‬ ‫واملجتمعات‬
‫ُ‬ ‫الناس‬
‫ُ‬ ‫ما مل يتق َّيد‬ ‫ال فلسف ًّي ًا‪،‬‬‫الفكري‪ُ .‬أعنى اليوم بتأصيل التعدُّ د َّية الكون َّية تأصي ً‬ ‫ّ‬
‫اخلاليص بني الدوائر الثالث‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واحلضارات بمثل هذا التمييز‬ ‫ُ‬ ‫اإلنساين‬
‫ّ‬ ‫االستفساري‬
‫ّ‬ ‫وأبحث عن مراتب املعنى يف أفق املسعى‬
‫فيجمعون عىل صون حقوق اإلنسان‪ ،‬ويتسابقون عىل خريات‬ ‫تناولت فيها‪ ،‬إ َّبان احلقبة األوىل‬ ‫ُ‬ ‫األرحب‪ .‬كتبي تناهز الثالثني‪،‬‬
‫الق َيم الروح َّية‪ ،‬ويبتهجون بعقائد عامراهتم الالهوت َّية من غري أن‬ ‫الديني‪ ،‬والس َّيام يف ش َّقيه‬ ‫ّ‬ ‫مسائل الفكر‬ ‫َ‬ ‫من مسرييت الفكر َّية‪،‬‬
‫فلكل‬ ‫للحق يفرضونه عىل الناس أمجعني‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ينصبوها أساس ًا وحيد ًا‬ ‫ّ‬ ‫ابتعدت عن هذه القضايا ابتعا َد‬ ‫ُ‬ ‫ثم‪،‬‬‫واإلسالمي‪ .‬ومن َّ‬
‫ّ‬ ‫املسيحي‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫وتذوق جتلياته‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وحتسس آثاره‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫احلق يف التَّوق إىل املطلق‪،‬‬ ‫إنسان ُّ‬ ‫التحول عن املوضوع نفسه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫اجلذري يف التناول ال ابتعا َد‬ ‫ّ‬ ‫التحول‬
‫ُّ‬
‫التذوقات الصوف َّية يف حدود رحابة‬ ‫مثل هذه‬ ‫سوا ٌء انعقدت ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأخذت أخوض يف مسائل الفسارة الفلسف َّية (اهلرمنوطيقا)‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬
‫انعتاقي‬
‫ّ‬ ‫بعضهم من خروج‬ ‫يتصوره ُ‬ ‫ُّ‬ ‫الكون الشاسعة‪ ،‬أو يف ما‬ ‫الفلسفي املحض للتعدُّ د َّية الكون َّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ومسائل التأصيل‬
‫إهلي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تافيزيقي ّ‬‫ّ‬ ‫ورائي م‬
‫ّ‬ ‫غيبي ما‬
‫يتجاوز هذه الرحابة إىل أفق ّ‬
‫رحت أنادي بإنس َّية كون َّية تتجاوز االنتامءات‬ ‫ُ‬ ‫لذلك‬
‫* كيف يمكن االستفادة من فلسفة مارتن هايدغر لنقد الثقافة‬ ‫اإليديولوج َّية الض ّيقة‪ ،‬من سياس َّية ودين َّية‪ ،‬وتستند إىل مؤالفة‬
‫واملجتمع العرب َّيني اليوم؟‬ ‫يب‬
‫الرشقي العر ّ‬
‫ّ‬ ‫جريئة بني عقالن َّية احلداثة الغرب َّية‪ ،‬ور َّقة الوجدان‬
‫متوجات‬ ‫احلديس‪ ،‬وهناء السكون َّية اآلسيو َّية الوديعة املتناغمة مع ُّ‬‫ّ‬
‫مارتن هايدغر هو مفكّر البساطة الك ّل َّية التي أفصح عنها يف لغة‬ ‫الطبيعة احلاضنة‪َّ .‬إنا إنس َّية اجلمع اللطيف بني مكتسبات هذه‬
‫أملان َّية عسرية املنال‪ .‬بساطة فكره منبثقة من إرصاره عىل التفكُّر‬ ‫اإلنساين الرامي إىل‬
‫ّ‬ ‫الكتَل احلضار َّية الكربى يف بوتقة املسعى‬
‫يف معنى الكينونة‪ ،‬وذلك بمعزل عن حقائق الكائنات املنترشة‬ ‫احلر َّية‬
‫ترسيخ املع َّية الكون َّية املنفتحة املناضلة يف سبيل قيم ّ‬
‫مهه الوحيد أن يرعى تفتُّحات‬ ‫يف تضاعيف الكون والتاريخ‪ُّ .‬‬ ‫أن هذه القيم يستتبع‬ ‫واألخوة‪ .‬ويف اعتقادي َّ‬ ‫َّ‬ ‫واإلنصاف والتسامل‬
‫احلرة‪ ،‬وأن يصون هذه التفتُّحات من هيمنة العقالن َّية‬ ‫الكينونة َّ‬ ‫أخوة من دون تسامل‪ ،‬وما من تسامل من‬ ‫بعضها بعض ًا‪ ،‬إذ ما من َّ‬
‫أن الفلسفة مل تستطع‪ ،‬يف نظره‪ ،‬أن تتأ َّمل‬ ‫احلسابة‪ .‬ذلك َّ‬ ‫الغرب َّية َّ‬ ‫فاحلر َّية عندي هي‬
‫ّ‬ ‫حر َّية‪.‬‬
‫دون إنصاف‪ ،‬وما من إنصاف من دون ّ‬
‫األقل منذ االنحراف الذي أصاهبا عىل‬ ‫ّ‬ ‫يف ماه َّية الكينونة‪ ،‬عىل‬ ‫خاصة يف بناء املع َّية اإلنسان َّية الكون َّية عىل‬‫َّ‬ ‫األصل‪ .‬ويل نظر َّية‬
‫أن أفضل تناول للكينونة اكتسبته‬ ‫يد أفالطون وأرسطو‪ .‬يف ظنّه َّ‬ ‫التمييز النبيه بني ثالث من الدوائر الوجود َّية املستقطبة للمعنى‬
‫اإلنسان َّي ُة يف زمن املفكّرين اإلغريق األوائل الذين سبقوا سقراط‪.‬‬ ‫اإلنساين األقىص‪ .‬الدائر ُة األوىل إلزام َّية‪ ،‬تتأ ّلف من املبادئ‬ ‫ّ‬
‫احلر َّية الذات َّية التي تنعم هبا الكينونة‬
‫هم استطاعوا أن يتب َّينوا عمق ّ‬ ‫اإلنسان َّية األساس َّية التي ينبغي جلميع الناس االعتصام هبا (رشعة‬
‫حني تنكشف وتنحجب وفق ًا إليقا ٍع لصيق بطبيعتها القدَ ر َّية‪.‬‬ ‫حقوق اإلنسان الكون َّية)‪ ،‬وذلك بالرغم من التباين يف تأويل‬
‫فاألشياء تظهر عىل حقيقتها حني تصون يف ذاهتا ُبعد ًا جلي ً‬
‫ال‬ ‫بعض مضامني هذه املبادئ و ُمستتبعاهتا القانون َّية‪ .‬الدائرة الثانية‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪228‬‬
‫حوارات‬ ‫حوار مع ا ُملفكِّر اللبناين مشري باسيل عون‬

‫مولوجي التي يمكنها أن‬‫* ما أهم العوائق ذات الطابع اإلبيستِ‬ ‫احلساب‪ .‬ال بدَّ إذ ًا من لغة‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫املرتصد َّ‬
‫ّ‬ ‫ينحجب عن أنظار اإلنسان‬
‫اهلايدغري؟‬
‫ّ‬ ‫العريب للفكر‬
‫ّ‬ ‫تُعيق استقبال الفكر‬ ‫الفكر‬
‫ُ‬ ‫جديدة ترعى جت ّليات الكينونة وانحجاباهتا حتَّى يفوز‬
‫اجلوادة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫املقبل بإقامة هن َّية يف استضافة الكينونة َّ‬
‫يب الراهن إىل استقبال الوعود‬ ‫دفع الفكر العر ّ‬ ‫املهمت ُ‬ ‫من أصعب َّ‬
‫الت هايدغر يف الكينونة ويف‬ ‫اخلالص َّية التي تنطوي عليها تأ ُّم ُ‬ ‫يب املعارص مها يف سياق‬ ‫الثقافة العرب َّية املعارصة واملجتمع العر ّ‬
‫احلقيقة ويف اللغة ويف الوجود ويف اإلنسان‪ .‬أنا ال أحتدُّ ث عن أهل‬ ‫اهلايدغري‪ .‬وليس يف مستطاع الفكر‬ ‫ّ‬ ‫الفكري‬
‫ّ‬ ‫اهلم‬
‫خمتلف عن ّ‬
‫الصفاء من املفكّرين العرب املعارصين الذين يستلهمون هايدغر‬ ‫يب‪ ،‬يف اللحظة التارخي َّية الراهنة‪ ،‬أن يتأ َّمل يف ُمنجزات الفكر‬ ‫العر ّ‬
‫يب املعارص يف حقائق الكينونة وحقائق‬ ‫إلخصاب التفكّر العر ّ‬ ‫النقدي يف مرسى الرتاكامت‬ ‫ّ‬ ‫اهلايدغري ما مل يعمد إىل النظر‬ ‫ّ‬
‫اإلنساين‪ ،‬وهم ك ُثر‪ ،‬جيتهدون اجتهاد املناضلني األحرار يف‬ ‫ّ‬ ‫الوجود‬ ‫ّ‬
‫التارخي َّية التي عطلت نشاطه منذ سقوط العقالن َّية الرشد َّية‪،‬‬
‫يب‬
‫يغيوا يف الواقع العر ّ‬‫الني‪ .‬هؤالء ال يملكون أن ّ‬ ‫صوامع فكرهم ّ‬ ‫احلر َّيات السياس َّية واالجتامع َّية‪ ،‬وتس ّلط ذهن َّية التعانف‬ ‫وتضاؤل ّ‬
‫أن هايدغر ال يفرتض يف الفكر األصيل أ َّية‬ ‫شيئ ًا‪ .‬واملأساة العظمى َّ‬ ‫املجتمعات‬
‫ُ‬ ‫األبدي بني القبائل التي تتأ ّلف منها‬ ‫ّ‬ ‫واالحرتاب‬
‫املجان َّية‬ ‫ِ‬
‫العرب َّية‪ .‬الثقافة العرب َّية هي ثقاف ٌة متافيزيق َّي ٌة بحسب املعنى‬
‫فكر َّ‬
‫فكر الكينونة هو ُ‬‫السيايس املبارش‪ُ .‬‬
‫ّ‬ ‫قدرة عىل التغيري‬ ‫العنفي‬
‫ّ‬
‫املطلقة والزهد الشامل‪ ،‬يستلزم انكفاء اإلنسان إىل مقام اإلصغاء‬ ‫الذي استخلصه هايدغر من معايناته النقد َّية‪َّ .‬إنا ثقافة األخذ‬
‫اخلشوعي؟‬
‫ّ‬ ‫يب املعارص من هذا املقام‬ ‫الورع‪ .‬فأين الفكر العر ّ‬ ‫بالقوة‪ ،‬ولئن اختربت لدى بعض مبدعيها شيئ ًا من الصوف َّية‬ ‫َّ‬
‫املساملة اخللقة‪ .‬وهذه الثقافة تناقض‪ ،‬يف أغلب مطاحمها‪ ،‬املسعى‬ ‫ّ‬
‫ناشئ من تباين اخللف َّيات الفكر َّية‬ ‫العائق اإلبيستِ‬
‫األول ٌ‬ ‫مولوجي َّ‬
‫ّ‬ ‫السلمي يف فكر مارتن هايدغر‪ ،‬والس َّيام يف تأ ُّمالته التي ساقها‬ ‫ّ‬
‫األملاين‪ ،‬ولئن ا َّدعى‬ ‫ّ‬ ‫والفكر‬
‫ُ‬ ‫يب‬
‫الفكر العر ّ‬‫ُ‬ ‫الرتاث َّية التي ينتمي إليها‬ ‫احلر يف منفسحات الرعاية اإلنسان َّية‬ ‫للتجل ّ‬‫ّ‬ ‫يف قابل َّيات الكينونة‬
‫الفلسفي املعارص‪ ،‬غرب ًّي ًا كان أم عرب ًّي ًا‪ ،‬هو ُبر َّمته‬
‫َّ‬ ‫أن الفكر‬ ‫هايدغر َّ‬ ‫يب يفتقر إىل مثل هذه املنفسحات‬ ‫أن املجتمع العر ّ‬ ‫األصيلة‪ .‬واحلال َّ‬
‫وتفرعاهتا الوسيط َّية واحلديثة‪ .‬أعني‬ ‫ِ‬ ‫احلرة‪ ،‬وال يني يغرق يف مستنقعات التص ّلب واإلكراه واهليمنة عىل‬
‫أسري املتافيزيقا األفالطون َّية ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وجودي‬
‫ّ‬ ‫لغوي‬
‫ّ‬ ‫يب إىل اختبار‬ ‫الفكري انتساب الفكر العر ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالتباين‬ ‫الرحيب‪.‬‬ ‫الكائنات اإلنسان َّية وعىل األشياء التي تستوطن الكون َّ‬
‫الوجودي‬
‫َّ‬ ‫اللغوي‬
‫َّ‬ ‫األملاين‬
‫َّ‬ ‫حضاري خيالف االختبار‬ ‫ّ‬ ‫تارخيي‬
‫ّ‬
‫إبيستمولوجي‬
‫ٌّ‬ ‫احلضاري‪ .‬يف هذا التباين استعصا ٌء‬ ‫َّ‬ ‫التارخيي‬
‫َّ‬ ‫أن املجتمعات العرب َّية حت ُّن إىل عقالن َّية‬ ‫املفارقة يف ذلك ك ّله َّ‬
‫اختباري‬ ‫ّ‬ ‫خطري‪ ،‬ألن االصطالحات اهلايدغر َّية تنتسب إىل فضاء‬ ‫َّ‬ ‫املعتزلة وعقالن َّية ابن رشد وواقع َّية ابن خلدون‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن‬
‫يب‪ ،‬لذلك نشأت معضلة كأداء يف‬ ‫االختباري العر ّ‬
‫ّ‬ ‫مغاير للفضاء‬ ‫هايدغر يضع هذه اإلسهامات ك ّلها يف موضع اخلضوع لألنظومة‬
‫تعريب اصطالحات هايدغر األملان َّية واألوضاع اللغو َّية التي‬ ‫يب العريق‪،‬‬ ‫ِ‬
‫النساءة‪ .‬قد يعثر املر ُء يف الرتاث العر ّ‬ ‫املتافيزيق َّية َّ‬
‫أهل الفلسفة يف‬ ‫استحدثها‪ .‬فبالرغم من اجلهود اجل َّبارة التي بذهلا ُ‬ ‫واإلسالمي‪ ،‬عىل التامسات صوف َّية إرشاق َّية‬‫ّ‬ ‫واملسيحي‬
‫ّ‬ ‫اليهودي‬
‫ّ‬
‫يب‪ ،‬ما فتئت النصوص اهلايدغر َّية‬ ‫يب ويف املغرب العر ّ‬ ‫املرشق العر ّ‬ ‫تدنو من حقيقة األشياء عىل النحو الذي يعتمده هايدغر يف عودته‬
‫املعربة ال تُنطق نطق ًا عرب َّي ًا صافي ًا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫احلنين َّية إىل اإلغريق األوائل وانذهاله بإبداعات الشعراء الذين‬
‫استسلموا‪ ،‬يف مجيع األزمنة ويف مجيع احلضارات‪ ،‬إىل إحياءات‬
‫آت من صور َّية املضامني التي‬ ‫العائق اإلبيستِمولوجي الثاين ٍ‬ ‫الكينونة اللطيفة‪ ،‬فأنشدوا فيها وهلا أهبى العبارات االستذكار َّية‪.‬‬
‫ّ‬
‫اهلايدغري‪ .‬وهي صور َّية ختالف ما ّد َّية القضايا التي‬
‫ّ‬ ‫الفكر‬
‫ُ‬ ‫حيملها‬ ‫أن السؤال األخطر يتناول حاجة املجتمعات العرب َّية إىل‬ ‫بيد َّ‬
‫يب‪ .‬أعني بصور َّية املضامني إغراق الفكر‬ ‫الفكر العر ّ‬
‫ُ‬ ‫ينادي هبا‬ ‫البنيوي‬
‫ّ‬ ‫الشعر َّيات والوجدان َّيات والصوف َّيات يف زمن االنعطاب‬
‫اإلنساين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اهلايدغري يف استجالء البنى اخللف َّية الناظمة للتفكُّر‬ ‫ّ‬ ‫أن شيئ ًا من‬‫يب املعارص َّ‬ ‫الراهن‪ .‬يقني أهل االستنارة يف العامل العر ّ‬
‫يب‪ ،‬والس َّيام يف ش ّقه احلديث‬
‫جترؤ الفكر العر ّ‬ ‫وأعني بام ّد َّية القضايا ُّ‬ ‫خليق بإنقاذ جمتمعاهتم من اهلالك‪.‬‬ ‫العقالن َّية واملوضوع َّية والعلم َّية ٌ‬
‫اإلنساين‬
‫ّ‬ ‫حيملها للوعي‬ ‫واملعارص‪ ،‬عىل تسمية املضامني التي ّ‬ ‫ولكن كيف السبيل إىل مثل هذه الق َيم احلديثة من غري السقوط يف‬
‫التحرر‬
‫ُّ‬ ‫يب احلديث واملعارص يروم‬ ‫واجلامعي‪ .‬فالفكر العر ُّ‬
‫ّ‬ ‫الفردي‬
‫ّ‬ ‫حمنة األنظومة املِتافيزيق َّية التي ينتقدها هايدغر أشدَّ االنتقاد؟‬

‫‪229‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫املهدي مستقيم‬ ‫حوارات‬

‫لست أرى ت َّيار ًا عرب َّي ًا جارف ًا حيمل راية هذا التبدُّ ل‪ .‬وهيهات‬ ‫ُ‬ ‫ويمجد‬‫ّ‬ ‫احلقيقي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفكري‬
‫ّ‬ ‫من االستعامر‪ ،‬ويصبو إىل االستقالل‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أن يكفي العرب هنوض فيلسوف من املرشق وفيلسوف من‬ ‫العزة القوم َّية‪ ،‬ويستطيب االشرتاك َّية العادلة‪ ،‬ويكدح يف سبيل‬ ‫َّ‬
‫نولوجي اهلورس ّيل‬ ‫الف ِ‬
‫نوم‬ ‫املغرب يناديان باستدخال املنهج ِ‬ ‫إصالح البنى الرتبو َّية واإلدار َّية واالقتصاد َّية‪ ،‬ويف سبيل التقدُّ م‬
‫ّ‬
‫واهلايدغري حتَّى تستقيم س ُب ُل االستقبال والتق ُّبل واالقتبال‪ .‬يف‬ ‫ّ‬ ‫الطليعي‪ ،‬وما إىل ذلك من قضايا تارخي َّية مصري َّية ال‬ ‫ّ‬ ‫العلمي‬
‫ّ‬
‫ال ما مل‬ ‫ً‬
‫بعضها إىل بعض نفوذا فاع ً‬ ‫أن احلضارات ال ينفذ ُ‬ ‫يقيني َّ‬ ‫يب باستخراج رشوطها املعرف َّية النظر َّية املحضة‪،‬‬ ‫الفكر العر ُّ‬
‫ُ‬ ‫يكتفي‬
‫شعوبا وأفرا ُدها اختالط ًا سلم َّي ًا مقرون ًا باملقاصد اإلنسان َّية‬
‫ُ‬ ‫خيتلط‬ ‫ضمة من املضامني واملعاين واملرامي‪ .‬أ َّما الفكر‬ ‫يعي هلا َّ‬ ‫بل ّ‬
‫النبيلة‪ .‬أ َّما القهر واإلذالل واهليمنة فك ّلها س ُب ٌل رديئ ٌة تُفيض إىل‬ ‫تبي الروابط النظر َّية‬ ‫ٌ‬
‫موغل حتَّى اإلرساف يف ُّ‬ ‫اهلايدغري فهو‬
‫ّ‬
‫التعانف والتحارب واإلفناء‪.‬‬ ‫املجردة التي تنعقد بني الكينونة واللغة‪ ،‬وبني مراسيم الكينونة‬ ‫َّ‬
‫العفوي‬
‫ّ‬ ‫وحدَ ثان التاريخ‪ ،‬وبني العمل الفن ّّي وانبساط األشياء‬ ‫َ‬
‫بعض الدراسات‪ ،‬ومنها دراسة الصديق الربوفسور‬ ‫تذهب ُ‬ ‫الوجد ّية التي ُترج اإلنسان إىل ذاته ومآالت‬‫ْ‬ ‫فيه‪ ،‬وبني البنى‬
‫نادر البزري (اجلامعة األمريك َّية‪ ،‬بريوت)‪ ،‬إىل افرتاض تشابه‬ ‫الفكر‬
‫ُ‬ ‫جراء هذا التجريد املغايل‪ ،‬ينكفئ‬‫العالقات اإلنسان َّية‪ .‬من َّ‬
‫جدير باالعتناء بني منهج هايدغر ومنهج ابن سينا يف اعتامد الس ُبل‬ ‫يب‬
‫احلر‪ ،‬فيام الفكر العر ُّ‬
‫اين ّ‬‫املج ّ‬
‫اهلايدغري إىل مناسك التأ ُّمل َّ‬
‫ّ‬
‫للتبص يف حقيقة الكينونة وللفوز بحقائق الوجود‬ ‫ِ ِ‬
‫الفنومنولوج ّية ُّ‬ ‫املصريي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الوجودي‬
‫ّ‬ ‫منخرط يف الرصاع‬
‫نولوجي بني ابن سينا وهايدغر‪ ،‬جامعة‬ ‫الف ِ‬
‫نوم‬ ‫القصوى (املسعى ِ‬
‫ّ‬
‫أبحاث أخرى تربط فكر هايدغر بفكر‬ ‫ٌ‬ ‫وثمة‬ ‫العائق اإلبيستِ‬
‫بنغهامتون‪َّ .)2000 ،‬‬ ‫صادر من االختالف احلا ّد‬ ‫ٌ‬ ‫مولوجي الثالث‬
‫ّ‬
‫وإن ال‬
‫املل صدرا وفكر غريه من اإلرشاق ّيني العرب واملسلمني‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫املبني عىل ِمتافيزيقا األخذ‬ ‫ّ‬ ‫يب‬
‫الذي يرضب بني الفكر العر ّ‬
‫طلب دكتوراه الفلسفة يف املعهد العايل للدكتوراه‬ ‫حض ّ‬ ‫أتر َّدد يف ِّ‬ ‫احلر‬
‫اهلايدغري املستند إىل االعتالن ّ‬‫ّ‬ ‫بالقوة وأنطولوجيا الفكر‬ ‫َّ‬
‫(اجلامعة اللبنان َّية‪ ،‬بريوت) عىل إنشاء املقارنات املمكنة بني‬ ‫بالقوة ناشب ٌة‬ ‫أن متافيزيقا األخذ‬‫ِ‬ ‫للكينونة يف الكائنات‪ .‬ويبدو َّ‬
‫َّ‬
‫يب القديم واحلديث واملعارص لع ّلهم‬ ‫هايدغر ونُبهاء الفكر العر ّ‬ ‫يب تضبط له تد ُّبراته النظر َّية وإيقاعاته‬ ‫يف عمق أعامق الوعي العر ّ‬
‫أهل‬‫فذة مل يفطن هلا ُ‬ ‫يعثرون عىل مواضع مبتكرة أو خترجيات ّ‬ ‫التارخي َّية ومسلك َّياته العمل َّية‪ .‬وهي تناقض ما يأنس إليه هايدغر‬
‫التخصص يف كال احلقلني‪ .‬وقد سبق لبعض الفالسفة اللبنان ّيني‬ ‫ُّ‬ ‫هني لنداءات الكينونة‪ ،‬ورعاية رقيقة النسياباهتا‬ ‫من استسالم ّ‬
‫املعارصين‪ ،‬ومنهم عىل سبيل املثال شارل مالك وبولس اخلوري‪،‬‬ ‫تصوره‬‫ُّ‬ ‫احلرة يف تضاعيف الوجود‪ .‬فاإلنسان الراعي الذي‬ ‫َّ‬
‫نولوجي‬ ‫الف ِ‬
‫نوم‬ ‫أن تدبروا يف ابتكار فريد مستلزمات املنهج ِ‬ ‫األنطولوجيا اهلايدغر َّية يناقض مناقضة كاملة اإلنسان الس ّيد‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫يت لوقائع الوجود‬ ‫وآل َّيات تطبيقه يف تنويع مدارك الفهم احليا ّ‬ ‫تتعشقه املِتافيزيقا العرب َّية‪ ،‬وإليه ترنو يف حنينها العضال‬ ‫الذي َّ‬
‫التارخيي‪ .‬وال ُبدَّ من التنويه باجلهد الرصني الذي بذله‬
‫ّ‬ ‫اإلنساين‬
‫ّ‬ ‫الذكوري يف اجلزيرة العرب َّية وزمن الفتح‬ ‫ّ‬ ‫البدوي‬
‫ّ‬ ‫إىل زمن التس ُّيد‬
‫أستا ُذ الفلسفة الالمع يف اجلامعة اللبنان َّية الربوفسور أنطوان‬ ‫األول يف بدايات الدعوة اإلسالم َّية‪ .‬حتَّى يف زمن احلداثة‪ ،‬يز َّين‬ ‫َّ‬
‫خوري حني عكف يف كتابه (مدخل إىل الظاهرات َّية‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫يب أن الفوز باإلصالح الشامل للمجتمعات العرب َّية ال‬ ‫َّ‬ ‫للوعي العر ّ‬
‫الف ِ‬
‫نومنولوجيا اهلورسل َّية واإلفصاح عنها‬ ‫‪ )1984‬عىل مت ّثل أصول ِ‬ ‫تتعزز ق َيم السيادة العقل َّية عىل املوجودات‬ ‫يتح ّقق َّإل عىل قدر ما َّ‬
‫بلغة عرب َّية أنيقة ومؤاتية‪.‬‬ ‫وعىل األحوال وعىل املصائر‪.‬‬

‫يب املعارص باعتامد املنهج‬ ‫أ َّما ربط فالح الفكر العر ّ‬ ‫العريب للمرشوع‬
‫ّ‬ ‫إن نجاعة استقبال الفكر‬ ‫* هل يمكن القول َّ‬
‫محال ُة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أن الفنومنولوجيا ّ‬ ‫نظر‪ .‬ذلك َّ‬ ‫الف ِ‬
‫ِ‬ ‫نولوجي يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اهلايدغري ترتبط بالرضورة بمدى أقلمة املنهج الفنوم‬
‫نولوجي‪ ،‬فمسألة فيها ٌ‬
‫ّ‬ ‫نوم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الف ِ‬
‫نومنولوجيا التي‬ ‫أن ِ‬
‫أوجه حتَّى يف بيئتها األصل َّية‪ .‬انطباعي َّ‬ ‫العريب؟‬ ‫الثقايف العائد إىل العامل‬ ‫الفضاء‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نومنولوجيا التي تستهدي هايدغر‪.‬‬ ‫الف ِ‬‫تستلهم هورسل هي غري ِ‬
‫لتصور الكينونة‬
‫ُّ‬ ‫فاألوىل تُفيض إىل تنصيب األنا املتعالية مصدر ًا‬ ‫أن جتاوز هذه العوائق اإلبيستِمولوج َّية يستتيل تبدُّ الً‬ ‫يته ّيأ يل َّ‬
‫يف الكائنات‪ ،‬ومصدر ًا الرتسام عالمات التدليل عىل الكائنات‪،‬‬ ‫يب‪ .‬ولكنَّني‬ ‫خطري ًا يف البنية الذهن َّية العرب َّية وبنية التفكري العر ّ‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪230‬‬
‫حوارات‬ ‫حوار مع ا ُملفكِّر اللبناين مشري باسيل عون‬

‫يب‪ .‬أ َّما هايدغر فكان‬ ‫اإلنسان َّية التي كانت تستقطب العامل الغر ّ‬ ‫يت أن يتناوهلا من مناظري‬‫وهي العالمات التي تتيح للوعي الذا ّ‬
‫أن بناء اإلنسان واملجتمع والدولة باالستناد‬ ‫يعتقد اعتقاد ًا راسخ ًا َّ‬ ‫نومنولوجيا ال يوائم األصول التي نشأ‬ ‫الف ِ‬
‫شتَّى‪ .‬هذا الرضب من ِ‬
‫إىل موارد العقالن َّية الغرب َّية احلديثة يع ّطل اعتالن الكينونة‪ ،‬أي‬ ‫تافيزيقي الذي ارتىض أن ترتسم كينونة‬ ‫الرتاث العريب املِ‬
‫ُ‬ ‫عليها‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫احلقيقة اجلوهر َّية القصوى يف كائنات العامل وأشياء الوجود ووقائع‬ ‫اإلنساين بحسب‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫العقل‬ ‫الكائنات بمحض إرادة علو َّية يعقلها‬
‫تافيزيقي عىل املِتافيزيقا األفالطون َّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫انقالب ِم‬
‫ٌ‬ ‫التاريخ‪ .‬فاملاركس َّية‬ ‫مراتب شتَّى حتدَّ ث عنها فالسفة العرب األوائل‪ .‬وإذا ما أعرض‬
‫املؤسسايت‬
‫املجتمعي َّ‬
‫ّ‬ ‫أنرتوبولوجي عىل الطغيان‬
‫ٌّ‬ ‫انقالب‬
‫ٌ‬ ‫والوجود َّية‬ ‫بعض أهل الرتاث عن العقالن َّية املِتافيزيق َّية‪ ،‬عىل غرار ما صنعه‬
‫وعىل العبث َّية التارخي َّية املغ ّفلة‪ .‬كال املنهجني‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ال‬ ‫املتعرجة‬
‫الغزايل‪ ،‬فاإلعراض ال ُيفيض إىل إيثار الكينونة ومراقيها ّ‬
‫جيعالن اإلنسان يفوز بحقيقة الوجود التي يعاينها هايدغر منطوية‬ ‫َ‬
‫اإلنسان بر َّمته يف دائرة النور‬ ‫يف االنكشاف واالنحجاب‪ ،‬بل يولج‬
‫احلرة املنعتقة من ّ‬
‫كل‬ ‫ومرشوطة يف اعتالن األشياء وفاق ًا لسج َّيتها َّ‬ ‫الصويف‬
‫ّ‬ ‫الديني‬
‫ّ‬ ‫اإلهلي املنقذف يف صدر املرتدّ املهتدي‪ .‬والسبيل‬ ‫ّ‬
‫قيود املفاهيم واملقوالت والقوالب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اإلرشاقي هذا إنَّام يرسم السبيل الثالث يف موازاة سبيل املتافيزيقا‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النساءة والفنومنولوجيا األنطولوج َّية اهلايدغر َّية‬ ‫األفالطون َّية َّ‬
‫املجتمعات العرب َّية أن تنهض من عثارها‪ ،‬فلها‬ ‫ُ‬ ‫فإذا أرادت‬ ‫نومنولوجيا هايدغر هذه هي أنطولوج َّية عىل وجه‬ ‫املستذكرة‪ .‬فِ ِ‬
‫ات‬ ‫أن ختتار إ َّما النهوض امللتبس الناقص الذي تضمنه القوم َّي ُ‬ ‫أصل القابل َّيات التي‬‫ألنا تفرتض يف الكينونة عينها َ‬ ‫االمتياز‪َّ ،‬‬
‫السلمي‬
‫ّ‬ ‫ات‪ ،‬وإ َّما الركون‬ ‫ات والدين َّي ُ‬ ‫ات والوجود َّي ُ‬ ‫واالشرتاك َّي ُ‬ ‫االعتالين‪ .‬فالكائنات تعتلن‬ ‫ّ‬ ‫الكائنات يف مسعاها‬
‫ُ‬ ‫تنطوي عليها‬
‫إىل االنبساطات العفو َّية التي تُفرج عنها الكينونة يف اعتالناهتا‬ ‫عىل قدر مؤانستها ملراسيم الكينونة احلاكمة بأمرها‪ .‬يف كتايب‬
‫اهلايدغري‬
‫َّ‬ ‫أن السبيل‬ ‫املضيئة وانحجاباهتا املربكة‪ .‬معنى ذلك َّ‬ ‫أن مثل هذه الكينونة احلاكمة‬ ‫أرشت إىل َّ‬
‫ُ‬ ‫يب)‬
‫(هايدغر والفكر العر ّ‬
‫األول‬ ‫أن إرهاق َّ‬ ‫يب إرهاق ًا فوق إرهاق‪ .‬ذلك َّ‬ ‫ُيرهق الوعي العر َّ‬ ‫يب‬
‫بأمرها تُشبه‪ ،‬إىل حدٍّ بعيد‪ ،‬احلاكم َّية اإلهل َّية يف الرتاث العر ّ‬
‫الثقايف‪ ،‬أ َّما‬‫ّ‬ ‫السيايس‬
‫ّ‬ ‫االقتصادي‬
‫ّ‬ ‫االجتامعي‬
‫ّ‬ ‫ناجم عن خت ّلفه‬ ‫ٌ‬ ‫اإلسالمي‪ .‬فكام تستنهض الكينونة الكائنات لالستواء يف‬ ‫ّ‬ ‫الديني‬
‫ّ‬
‫اإلرهاق الثاين فقد يأتيه من اضطراره إىل االعتصام بالسكون‬ ‫منارات اعتالناهتا وانحجاباهتا‪ ،‬كذلك تستخلف األلوهة اإلنسانَ‬
‫والرت ّقب والرعاية اخلفرة للموجودات العرب َّية‪ ،‬بحسب ما‬ ‫أن الشبه ينحرص يف‬ ‫والترصف بمواردها‪ .‬غري َّ‬
‫ُّ‬ ‫الستعامر األرض‬
‫يب يسكنه‪ ،‬عىل وجه‬ ‫فأي إنسان عر ّ‬ ‫اهلايدغري‪ُّ .‬‬
‫ّ‬ ‫النص‬
‫ُيمليه عليه ُّ‬ ‫شاسع بني‬
‫ٌ‬ ‫ثمة ٌ‬
‫بون‬ ‫البنية الصور َّية‪ ،‬فال يتعدَّ اها إىل املضمون‪ ،‬إذ َّ‬
‫ري‪،‬‬ ‫الكياين وخنو ُغ االستسالم القدَ ّ‬ ‫ّ‬ ‫املفارقة‪ ،‬مح َّيا االنتفاض‬ ‫ماه َّية الكينونة وطبيعة األلوهة‪ ،‬أو بني مراسيم الكينونة وأحكام‬
‫الفكري‬‫ّ‬ ‫سيهنأ بام يقرتحه له هايدغر من انزواء يف صوامع التأ ُّمل‬ ‫الرشيعة اإلهل َّية‪.‬‬
‫املزاجي التي تز ّفها إليه الكينونة‬ ‫ّ‬ ‫االستذكاري يف وعود اإلرشاق‬ ‫ّ‬
‫يب املعارص‬ ‫ُ‬
‫يف صميم حقيقتها اخللبة؟ هل يستطيع اإلنسان العر ُّ‬ ‫ّ‬ ‫* هل يمكن أن نعترب املساءلة األنطولوج َّية اهلايدغر َّية للرتاث‬
‫الصحراوي يف بدايات اإلفصاح‬ ‫ّ‬ ‫أن يعود إىل اختبارات التأ ُّمل‬ ‫العريب استمرار ًا للجهود النهضو َّية التي بذلتها النُّخب الثقاف َّية‬
‫ّ‬
‫الشعري عن معاين الوجود حني كان حييا يف ترحال دائم بني‬ ‫ّ‬ ‫الشخصاين؟‬
‫ّ‬ ‫والوجودي‬
‫ّ‬ ‫االشرتاكي‬
‫ّ‬ ‫املاركيس‬
‫ّ‬ ‫العرب َّية ذات املنحى‬
‫ثمة من يفرتض شيئ ًا من األصالة‬ ‫املراعي والكثبان والوديان؟ َّ‬
‫األول قبل إغراق‬ ‫اإلنشادي َّ‬
‫ّ‬ ‫العرب َّية املتج ّلية يف مثل هذا االختبار‬ ‫أن مجيع هذه املذاهب الفكر َّية (اإلنس َّيات‬ ‫يف عرف هايدغر َّ‬
‫يب بمكتسبات العلوم اليونان َّية والفارس َّية واهلند َّية‪ ،‬أي‬ ‫الوعي العر ّ‬ ‫املعارصة) هتمل الكينونة وتُغلق عليها يف غياهب النسيان‪.‬‬
‫التحسسات األوىل للوجود واحلياة‪ ،‬حيث كانت التعدُّ د َّية‬ ‫يف زمن‬ ‫ضم هذه اإلكراهات‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫نفسها حيلو هلا أن تنحجب يف خ ّ‬ ‫والكينونة ُ‬
‫اجلامعي عىل‬ ‫ّ‬ ‫يب‬
‫االستطالعي للوعي العر ّ‬ ‫َّ‬ ‫الدين َّية ترسم األفق‬ ‫الثقايف‬
‫َّ‬ ‫زلت أعتقد َّ‬
‫أن السياق‬ ‫واالستيالءات املنهج َّية القاهرة‪ .‬ما ُ‬
‫العفوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشفهي والتواصل‬ ‫ّ‬ ‫امتداد القرون األوىل لإلبالغ‬ ‫املعريف‬
‫ّ‬ ‫يب احلديث واملعارص خيتلف اختالف ًا ب ّين ًا عن السياق‬ ‫العر َّ‬
‫أهل النهضة العرب َّية يف‬‫الذي تنتسب إليه األنطولوجيا اهلايدغر َّية‪ُ .‬‬
‫يتبص يف البؤس الناجم عن‬ ‫اهلايدغري َّ‬
‫َّ‬ ‫انطباعي َّ‬
‫أن الفكر‬ ‫وتوسلوا‬ ‫املرشق ويف املغرب أرادوا بناء اإلنسان واملجتمع والدولة‪َّ ،‬‬
‫اإلنساين الناجم‬
‫ّ‬ ‫نسيان الكينونة‪ ،‬وال طاقة له عىل معاجلة البؤس‬ ‫املذاهب‬
‫ُ‬ ‫يف سبيل ذلك بالعالجات النظر َّية التي انطوت عليها‬

‫‪231‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫املهدي مستقيم‬ ‫حوارات‬

‫يب‬
‫مؤرخي الفكر العر ّ‬ ‫مجيع ّ‬‫هذه األنساق الثالثة حتدَّ ث عنها ُ‬ ‫السيايس‪ .‬يقني الفكر‬ ‫ّ‬ ‫االقتصادي‬
‫ّ‬ ‫االجتامعي‬
‫ّ‬ ‫عن التخ ّلف‬
‫احلديث واملعارص‪ .‬ومل أضف شيئ ًا جديد ًا يف هذه املسألة‪ .‬أ َّما‬ ‫أن يف خالص الكينونة الذي حيمله إلينا اإلل ُه األخري‬ ‫اهلايدغري َّ‬
‫ّ‬
‫نظر‪.‬‬ ‫فأمر فيه ٌ‬
‫اهلايدغري يف فلك هذه األنساق ٌ‬ ‫ّ‬ ‫دوران الفكر‬ ‫خالص ًا لإلنسان ولإلنسان َّية قاطبة‪ .‬ولك َّن الرضورات العرب َّية‬
‫ً‬
‫أن األنساق الثالثة ك ّلها ال تطيق استضافة االنقالب‬ ‫أعتقد َّ‬ ‫كل يشء َّتو ًا‬ ‫يب أن ُيمل َّ‬ ‫التارخي َّية القاهرة ال تتيح لإلنسان العر ّ‬
‫يت ال حيتمل‬ ‫ولكل نسق أسبا ُبه الذات َّية‪ .‬النسق الالهو ّ‬ ‫ّ‬ ‫اهلايدغري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يعرجه يش ٌء عىل‬ ‫الصويف امللهمة ال ّ‬
‫ّ‬ ‫ويقصد مناسك االنكفاء‬
‫كل سطوة غيب َّية‪ ،‬عىل نحو ما ينادي به هايدغر‬ ‫إعتاق الكينونة من ّ‬ ‫اإلطالق‪ ،‬وال تثنيه حاجة وجود َّية مهام اشتدَّ ت إلزام َّيتُها احليات َّية‪.‬‬
‫يف وضوح شديد اجلرأة واالستفزاز‪ .‬فال سبيل عند هايدغر‬ ‫صالح لزمن ما بعد احلداثة الغرب َّية أو لزمن ما قبل‬
‫ٌ‬ ‫فكر هايدغر‬
‫السببي بني الكينونة واهلل‪ ،‬عىل غرار ما فعلته األنظومة‬ ‫ّ‬ ‫للجمع‬ ‫احلداثة الغرب َّية‪ .‬ولكنَّه‪ ،‬عىل وجه اليقني‪ ،‬ليس صاحل ًا لزمن‬
‫للسمو‬ ‫الدين َّية املتافيزيق َّية األفالطون َّية التي أخضعت الكينونة‬‫ِ‬ ‫يب املتلكّئ لولوج احلداثة التي ينتبذها هايدغر‬
‫ّ‬ ‫االستعداد العر ّ‬
‫اإلهلي‪ ،‬فجعلت اهلل كائن ًا أعىل‪ ،‬وحبست عىل الكينونة يف مبدأ‬ ‫ّ‬ ‫انتباذ ًا قاطع ًا‪.‬‬
‫احلر مقام الصدارة‪،‬‬ ‫لامين ُيفرد لإلنسان ّ‬ ‫الع ّل َّية املتسامية‪ .‬النسق ال َع ّ‬
‫ويضعه يف أعىل املراتب الكيان َّية يف الوجود‪ .‬فال سبيل عند هايدغر‬ ‫أي سبيل ينتهج‪ .‬فإذا ما أراد‬ ‫يب ّ‬‫ثم‪ ،‬حيار اإلنسان العر ُّ‬ ‫ومن َّ‬
‫ألن املرسى الذي ينسلك فيه‬ ‫اإلنساين َّ‬
‫ّ‬ ‫لالعرتاف بصدارة املقام‬ ‫إصالح جمتمعاته املتهالكة كان يف وسعه استلهام املعاجلة‬
‫يبي لنا ذلك بوضوح‬ ‫بحثه هو مرسى الكينونة وحسب‪ ،‬عىل ما ّ‬ ‫يت‪ ،‬كان يف مستطاعه‬ ‫املاركس َّية‪ ،‬وإذا ما انتوى تقويم الوعي الذا ّ‬
‫التوفيقي‪ ،‬فيعيب عليه هايدغر‬‫ّ‬ ‫يف رسالته يف اإلنس َّية‪ .‬أ َّما النسق‬ ‫االسرتشاد بنصائح الشخصان َّية والفرويد َّية واليونغ َّية‬
‫تافيزيقي الذي منه ينبثق‬ ‫ِ‬ ‫تالزم الضالالن فيه؛ ضالل الرتاث امل‬ ‫النفيس‪ .‬وإذا‬ ‫والالكان َّية‪ ،‬وما إىل ذلك من مذاهب االسرتداد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫وضالل احلداثة العقالن َّية التي إليها يرنو‪.‬‬ ‫يب‬
‫الفكر العر ّ‬ ‫ُ‬ ‫ما شاء تد ُّبر املع َّية اإلنسان َّية‪ ،‬كان يف قدرته االئتامر بتوجيهات‬
‫الوجود َّيات املزدهرة يف الغرب‪ .‬وإذا ما عزم عىل ضبط‬
‫اهلايدغري‬
‫ّ‬ ‫* ما رأيك يف تلك املقاربات التي تستثمر الفكر‬ ‫انسيابات اللسان‪ ،‬كان يف مكنته استثامر املناهج األلسن َّية الناشطة‬
‫ألن أحد‬
‫وتتَّخده ذريعة حديثة لرفض احلداثة ورفض رشورها‪َّ ،‬‬ ‫يف مذاهب الغرب ّيني‪ .‬أ َّما إذا اسرتهب سؤال هايدغر عن املعنى‬
‫الغريب‪ ،‬وبالتحديد هايدغر‪ ،‬قد سلك هذه‬
‫ّ‬ ‫أهم وجوه الفكر‬ ‫ّ‬ ‫ال آخر ُيبعده عن‬ ‫األبسط واألشمل للكائنات‪ ،‬فله أن خيتار سبي ً‬
‫الطريق اخلالص َّية؟‬ ‫هذه املعاجلات املوضع َّية‪ .‬هذا السبيل املتط ّلب يضعه يف قربى‬
‫اإلصغاء إىل مهسات اإلغناء التي تُفصح عنها الكينونة يف حياء‬
‫انتقادات‬
‫ُ‬ ‫قد ينجذب املرء إىل املوهبة الفائقة التي اتَّسمت هبا‬ ‫عظيم‪ .‬ولكنَّه إذا ما أصغى إصغا ًء هايدغر َّي ًا‪ ،‬فهل يقوى عىل‬
‫أن انتقاد احلداثة الغرب َّية ال يستقيم‬ ‫هايدغر للحداثة الغرب َّية‪ .‬غري َّ‬ ‫الصمود أمام اجتياحات اهليمنة التقن َّية واأليديولوج َّية التي‬
‫واحلر َّية الفكر َّية واملقام‬
‫ّ‬ ‫املحاجة العقل َّية‬
‫َّ‬ ‫من دون االستناد إىل‬ ‫وصوب؟‬ ‫كل َحدب َ‬ ‫ُتدق به من ِّ‬
‫املستقل‪ .‬وهذه من ُمس ّلامت احلداثة ومن وعودها‬ ‫ّ‬ ‫اإلنساين‬
‫ّ‬
‫يب)‪ ،‬امتدحت الفتوحات‬ ‫الزاهية‪ .‬يف كتايب (هايدغر والفكر العر ّ‬ ‫أن هناك‬ ‫* أوضحت يف كتابك الق ّيم «هايدغر والفكر العريب» َّ‬
‫الفكر َّية الو ّثابة الواعدة التي أنجزها هايدغر‪ ،‬ولكنَّني يف الوقت‬ ‫األول يرتبط‬ ‫العريب املعارص‪َّ :‬‬
‫ّ‬ ‫ثالثة أنساق تتعايش داخل الفكر‬
‫اهلايدغري عن‬
‫ّ‬ ‫أبرزت بعض املثالب التي تُظهر عجز الفكر‬ ‫ُ‬ ‫نفسه‬ ‫اإلسالمي)‪ ،‬الثاين ينتمي إىل‬
‫ّ‬ ‫بالالهوت أو علم الكالم (الفكر‬
‫العقالين املسؤول‪ .‬فانتقاد العاقل َّية‬‫ّ‬ ‫االضطالع بتحدّ يات التفكّر‬ ‫توفيقي أمني‬
‫ّ‬ ‫الغريب‪ ،‬الثالث‬
‫ّ‬ ‫العلامن َّية ويؤثر الدوران يف فلك الفكر‬
‫بح َّجة جنوح العقل إىل التس ّلط عىل الكائنات ال جييز‬ ‫اإلنسان َّية ُ‬ ‫أن هذه األنساق ال تقترص‬ ‫منفتح عىل احلداثة‪ .‬كام ب َّينت َّ‬
‫ٌ‬ ‫للرتاث‬
‫يت للوجود‪ .‬أ َّما‬ ‫العقالين الذا ّ‬
‫ّ‬ ‫كل ملكات التد ُّبر‬ ‫جتريد اإلنسان من ّ‬ ‫الفلسفي فقط‪ ،‬بل تتعدَّ اه إىل علم االجتامع والتاريخ‬ ‫ّ‬ ‫عىل الفكر‬
‫ثمة من‬ ‫واإلسالمي‪ ،‬فاألمور تنحو منحى آخر‪َّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫يب‬
‫يف العامل العر ّ‬ ‫إن استقبال‬ ‫والشعر والرواية والعلوم السياس َّية‪ .‬هل يمكن القول َّ‬
‫اإلسالمي احلداثة الغرب َّية ملناقضتها‬
‫ّ‬ ‫يب والعامل‬
‫ينتقد يف العامل العر ّ‬ ‫ويتم تأويله‬
‫اهلايدغري يدور يف فلك هذه األنساق الثالثة‪ُّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفكر‬
‫الديني‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫الرتاث‬ ‫مبادئ املِتافيزيقا األنطو‪-‬الهوت َّية التي يقوم عليها‬ ‫وفق أسسها ومنطلقاهتا؟‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪232‬‬
‫حوارات‬ ‫حوار مع ا ُملفكِّر اللبناين مشري باسيل عون‬

‫فكر اإلنسان اخلليفة يف املجتمعات العرب َّية التي تنتسب‬‫هيمن ُ‬ ‫وثمة من ينتقد هذه احلداثة ملخالفتها ق َيم االجتامع‬ ‫اإلسالمي‪َّ .‬‬
‫ُّ‬
‫فكر‬
‫اهلايدغري ُ‬
‫ُّ‬ ‫الفكر‬
‫ُ‬ ‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الديني‬
‫ّ‬ ‫يف معظمها إىل الرتاث‬ ‫وثمة من ينتقدها ملا علق هبا من ابتداعات‬ ‫واإلسالمي‪َّ .‬‬
‫ّ‬ ‫يب‬
‫العر ّ‬
‫اإلنسان الراعي‪ ،‬املستذكر‪ ،‬املتأ ّمل‪ ،‬املصاحب ملراسيم الكينونة‬ ‫مسلك َّية ينعتها املحافظون العرب باالنحرافات األخالق َّية‬
‫التي تُفصح عن مشيئتها يف انسيابات الطبيعة العفو َّية وتفتّح‬ ‫يب‬
‫وثمة من ينتقدها ملا استتلته يف سياسات العامل الغر ّ‬ ‫اخلطرية‪َّ .‬‬
‫يت‪.‬‬
‫التلقائي وازدهار املوجودات الذا ّ‬
‫ّ‬ ‫الكائنات‬ ‫من هيمنة استبداد َّية خارج أسوار املجتمعات الغرب َّية‪ .‬واحلقيقة‬
‫أن النقد الذي يصوغه هايدغر يسلك مسلك ًا خمالف ًا‪ ،‬ألنَّه يعيب‬ ‫َّ‬
‫الفكرين تلغي إمكانات‬ ‫* هل هذه االختالفات القائمة بني‬ ‫ِ‬
‫عىل احلداثة انتام َءها إىل املتافيزيقا األفالطون َّية التي ينبني عليها‬
‫َ‬
‫التالقي والتواجه والتبادل؟‬ ‫اإلسالمي‪ .‬لذلك أعجب من املحافظني‬ ‫ُّ‬ ‫والفكر‬
‫ُ‬ ‫يب‬‫الفكر العر ُّ‬
‫ُ‬
‫اهلايدغري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اإلسالم ّيني والعروب ّيني الذين يستطيبون النقد‬
‫ثمة سبيالن إىل التقابس بني البيئات الفكر َّية‪ :‬إ َّما النظر يف‬ ‫َّ‬ ‫يقوضون مباين احلداثة الغرب َّية‪ .‬غري َّأنم‪ ،‬حني‬ ‫ويف ظنّهم َّأنم ّ‬
‫اإلرادي‪ .‬يف احلالة‬ ‫ُّ‬ ‫القابل َّيات الذات َّية البنيو َّية‪ ،‬وإ َّما االستدخال‬ ‫يقوضون املباين النظر َّية‬ ‫يتبي هلم َّأنم ّ‬ ‫يتفكَّرون التفكُّر السليم‪َّ ،‬‬
‫الدخيل‬‫َ‬ ‫الزرع‬
‫َ‬ ‫يب‬
‫الفكر العر ُّ‬ ‫ُ‬ ‫األوىل‪ ،‬قد ينضج اللقاح ويستهضم‬ ‫اإلسالمي‪ .‬فالذين‬ ‫ُّ‬ ‫يب والرتاث‬‫التي يقوم عليها الرتاث العر ُّ‬
‫تكونه‬ ‫أسايس من عنارص ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويضمه إليه كعنرص‬ ‫ّ‬ ‫الوافد‪ ،‬فيستسيغه‬ ‫اهلايدغري للحداثة جيب عليهم أن يستعدّ وا‬ ‫ّ‬ ‫يبتهجون بالنقد‬
‫يب‬‫الفكر العر َّ‬‫َ‬ ‫تؤهل‬‫التارخيي‪ .‬وينجم هذا ك ّله من قابل َّية ذات َّية ّ‬ ‫ّ‬ ‫االستعداد اجلريء الصادق إلعادة بناء العامرة النظر َّية الرتاث َّية‬
‫اهلايدغري‪ .‬أ َّما يف حالة االستدخال‬ ‫ّ‬ ‫لالغتناء بإسهامات الفكر‬ ‫التي ُتضع الكينونة لأللوهة‪ ،‬وجتعل الزمان حاضن ًا إلمالءات‬
‫اإلرادي‪ ،‬فالزرع الدخيل قد يربك العامرة الفكر َّية العرب َّية‬ ‫ّ‬ ‫وحتول التاريخ خادم ًا للمشيئة اإلهل َّية‪ ،‬وتستخلف‬ ‫ُّ‬ ‫الغيب‪،‬‬
‫االنغالقي املتشنّج‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يضطرها إىل انتباذ اللقاح والتقوقع‬ ‫ُّ‬ ‫إرباك ًا‬ ‫اإلنسان يف عامرة األرض وتس ّلطه س ّيد ًا عىل الكائنات‪ .‬ويف‬
‫إن املجتمعات العرب َّية يعوزها‬ ‫ُ‬
‫القول َّ‬ ‫يب‬
‫الفكر العر َّ‬
‫َ‬ ‫وال ُيسعف‬ ‫صادق يف االستدالل عىل هندسة وجود َّية‬ ‫ٌ‬ ‫إعادة الرتتيب اجتها ٌد‬
‫رفيع كاإلسهام الذي أتى به هايدغر‪ .‬قاهلا املفكّرون‬ ‫فكري ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫إسها ٌم‬ ‫تليق بكرامة اإلنسان وبمقتضيات وعيه املتط ّلب يف مطالع القرن‬
‫العرب يف زمن النهضة العرب َّية األوىل‪ ،‬وير ّددوهنا يف زمن النهضة‬ ‫احلادي والعرشين‪.‬‬
‫اللبناين‬
‫ّ‬ ‫العرب َّية الثانية التي ينادي هبا‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬الفيلسوف‬
‫اإلرادي كثري ٌة يف‬ ‫والعرب من إخفاق االستدخال‬ ‫ناصيف نصار‪ِ .‬‬ ‫اهلايدغري عن الفكر‬ ‫* ما أبرز النقاط التي تفصل الفكر‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫النخب العرب َّية أن‬ ‫ُ‬ ‫يب احلديث واملعارص‪ .‬فقد أرادت‬ ‫الزمن العر ّ‬ ‫العريب؟‬
‫ّ‬
‫تُصلح جمتمعاهتا‪ ،‬فطفقت تنادي بمذاهب فلسف َّية غرب َّية شتَّى‪،‬‬
‫الفلسفي الرصني يف‬ ‫ّ‬ ‫صاغتها يف إتقان نادر كوكبة من أهل التفكّر‬ ‫تافيزيقي‪ ،‬فيام الفكر‬ ‫ّ‬ ‫فكر ِم‬
‫يب هو ٌ‬ ‫إن الفكر العر َّ‬ ‫أوجز فأقول َّ‬
‫يتكرر من جيل إىل جيل‪ :‬هل‬ ‫املجتمعات الغرب َّية‪ .‬فإذا بالسؤال عينه َّ‬ ‫اإلنشادي‬
‫َّ‬ ‫أنطولوجي يستلهم االستذكار‬ ‫ٌّ‬ ‫فكر‬
‫اهلايدغري هو ٌ‬
‫ّ‬
‫يب املاركس ّي َة استدخاالً جعلها عنرص ًا تكوين َّي ًا‬ ‫الفكر العر ُّ‬‫ُ‬ ‫استدخل‬ ‫الذي انطوت عليه أقوال اإلغريق األوائل الذين أتَوا قبل‬ ‫ُ‬
‫يب‪ ،‬عىل النحو عينه‪،‬‬ ‫الفكر العر ُّ‬ ‫ُ‬ ‫يف عامرته الذات َّية؟ وهل استدخل‬ ‫فكر االئتامر باملبادرة اإلهل َّية الغيب َّية‪.‬‬ ‫يب ُ‬ ‫سقراط‪ .‬الفكر العر ّ‬
‫الوجود َّية والشخصان َّية والتأويل َّية والتارخيان َّية والوضع َّية املنطق َّية‬ ‫فكر االستهداء باملبادرة التي حتملها الكينونة‬ ‫اهلايدغري ُ‬
‫ُّ‬ ‫الفكر‬
‫نومنولوجيا‪،‬‬ ‫والف ِ‬ ‫والعقالنية النقدية والتحليلية الداللية والبنيوية ِ‬ ‫القصدي يف‬ ‫اإلرادي‬ ‫فكر اإلصالح‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يب ُ‬ ‫إىل اإلنسان‪ .‬الفكر العر ُّ‬
‫ُنصب العقل حك ًام يف تفقهّ‬ ‫وما إىل ذلك من سائر اإلنس َّيات التي ت ّ‬ ‫فكر الزهد‬ ‫اهلايدغري ُ‬
‫ُّ‬ ‫القوم َّيات والوجود َّيات والدين َّيات‪ .‬الفكر‬
‫املوضوعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫احلر َّي َة نرباس ًا للبحث‬ ‫معاين الوجود‪ ،‬وتستهدي ّ‬ ‫فكر التوفيق بني‬ ‫يب ُ‬ ‫التغيريي املبارش‪ .‬الفكر العر ُّ‬ ‫ّ‬ ‫باإلصالح وباألثر‬
‫املتنوعة يف نطاق املدينة‬ ‫سبيل إىل تد ُّبر املع َّية ّ‬ ‫وتعتمد ال َعلامن َّية اهلن َّية ً‬ ‫احلل‬‫وفكر ّ‬ ‫ُ‬ ‫اهلايدغري فكر التط ّلب األقىص‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫العقل والنقل‪ .‬الفكر‬
‫اإلنسان َّية؟ والسؤال األخطر هو‪ :‬هل أفلحت املجتمعات العرب َّية‬ ‫احلسابة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫النساءة والعقالن َّية َّ‬ ‫اجلذري يف اإلعراض عن املتافيزيقا َّ‬ ‫ّ‬
‫والرقي من بعد أن استوعبت مطالب هذه اإلسهامات‬ ‫ّ‬ ‫يف التقدُّ م‬ ‫فكر اإلنسان‬ ‫يب ُ‬ ‫الفكر العر ُّ‬
‫ُ‬ ‫وفكر النقد واهلدم وإعادة البناء‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الفكر َّية؟‬ ‫وفكر االبن الوريث يف املسيح َّية‪ ،‬ولئن‬ ‫ُ‬ ‫اخلليفة يف اإلسالم‬

‫‪233‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫املهدي مستقيم‬ ‫حوارات‬

‫اإلنسان إىل اإلصغاء اخلاشع لنداءات الكينونة واإلعراض عن‬ ‫أ َّما السبيل األضمن للنظر يف هذه املسألة‪ ،‬فيقيض بالعودة‬
‫تصور ماه َّية اإلنسان منغرسة‬ ‫االستبدادي‪ ،‬وإيثاره ُّ‬
‫ّ‬ ‫العقيل‬
‫ّ‬ ‫القبض‬ ‫الفكر‬
‫َ‬ ‫قل يل‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كيف حتدّ د‬ ‫إىل األصول املعرف َّية‪ْ .‬‬
‫يف العامل‪ ،‬منغ ّلة يف الزمان‪ ،‬ناشبة يف التاريخ‪ ،‬وركونه إىل فعل‬ ‫أقل لك هل‬ ‫تعي له هو ّيته؟ ْ‬ ‫يب وكيف ترسم معامله وكيف ّ‬ ‫العر َّ‬
‫التجل األبرز‬ ‫ّ‬ ‫يت‪ ،‬جيعل املدينة اإلنسان َّية موضع‬ ‫وي إنصا ّ‬ ‫سيايس َت َق ّ‬
‫ّ‬ ‫اهلايدغري وهل يمكنه إنجاز االستدخال‬ ‫ّ‬ ‫يمكنه مالقاة الفكر‬
‫حلقيقة الكائنات واألشياء واألحداث‪ ،‬ووثوقه باعتالن وشيك‬ ‫اإلرادي واهلضم واالستساغة واالغتناء‪ .‬فال يكفي أن أقول‬ ‫ّ‬
‫حيوي (‪ )das Geviert‬يقرن املائتني باآلهلة‬ ‫ّ‬ ‫رباعي‬
‫ّ‬ ‫الشتباك‬ ‫يب حتّى يتح ّقق‬ ‫برضورة استدخال هايدغر أو سواه عىل الفكر العر ّ‬
‫تافيزيقي رسال َة‬ ‫ِ‬
‫واألرض بالسامء‪ ،‬و ُيسند إىل اإلله األخري الالم‬ ‫يل ما أردت‪ .‬يمكنني أن أذكر فيلسوف ًا لبنان َّي ًا آخر يطوي أ َّيامه‬
‫ّ‬
‫الكوين‪ .‬يف هذه‬ ‫ّ‬ ‫الرفق بتعدُّ د التج ّليات اإلهل َّية يف ثنايا الوجود‬ ‫األخرية‪ ،‬وهو عىل مشارف السنة السادسة والتسعني من عمره‪،‬‬
‫اهلايدغري املحتمل‬ ‫ّ‬ ‫عاينت ما يشبه االستنهاض‬ ‫ُ‬ ‫املواضع اإلهلام َّية‬ ‫عنيت به بولس اخلوري (‪ )Paul Khoury‬الذي أنشأ عرشات‬ ‫ُ‬
‫يب املعارص وللمجتمعات العرب َّية املعارصة‪ .‬ولكنَّني‬ ‫للفكر العر ّ‬ ‫األبحاث الرصينة يف فلسفة املحدود َّية التارخي َّية‪ ،‬ويف فلسفة‬
‫قلت قولتي هذه‪ ،‬ويف ذهني خشية من السقوط يف جتريدات نظر َّية‬ ‫ُ‬ ‫اإلسالمي‪ .‬وهو‬
‫ّ‬ ‫املسيحي‬
‫ّ‬ ‫واحلواري‬
‫ّ‬ ‫الدين‪ ،‬ويف الرتاث اجلدا ّيل‬
‫يب‬
‫يب يف عمق أصوله‪ ،‬وثوابت الوعي العر ّ‬ ‫ختالف مباين الفكر العر ّ‬ ‫وتعرفت بفضله إىل فكر هايدغر‪.‬‬ ‫درست عىل يده الفلسفة َّ‬ ‫ُ‬ ‫الذي‬
‫أدق مستلزماته‪ ،‬وطبائع الشخص َّية العرب َّية يف صميم ذات َّيتها‪.‬‬ ‫يف ّ‬ ‫الفلسفي يعرفون مقام بولس اخلوري‬ ‫ّ‬ ‫التخصص‬
‫ُّ‬ ‫ندر ٌة من أهل‬
‫الفكري يف املرشق ويف املغرب‪ .‬هو قال بإمكان التوفيق بني‬ ‫ّ‬
‫نولوجي لألنطولوجيا عند هايدغر هيدف‬ ‫الف ِ‬
‫نوم‬ ‫إن التقويض ِ‬ ‫* َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرتاث واحلداثة‪ ،‬واستند يف ذلك إىل مقاربة فنومنولوج َّية لكلتا‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫إىل إعادة النظر يف كامل مسار املتافيزيقا لبلوغ طالئع الفكر الذي‬ ‫جوهره‪ ،‬فعاينه‬ ‫اإلسالمي‬ ‫يب‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫العامرتني‪ .‬فاستخرج من الرتاث العر ّ‬
‫طواه النسيان‪ .‬هل يمكن هلذا التقويض أن ينطبق عىل الرتاث‬ ‫يف مقولة التسامي أو التجاوز‪ .‬واستخرج من احلداثة جوهرها‪،‬‬
‫االسالمي؟‬
‫ّ‬ ‫العريب‬
‫ّ‬ ‫البنيوي‬
‫ّ‬ ‫وأكب يستطلع أبعاد التقارب‬ ‫َّ‬ ‫فعاينها يف مقولة النقد‪.‬‬
‫أن مقولة‬ ‫بني مقولة التجاوز ومقولة النقد‪ .‬فإذا به خيلص إىل َّ‬
‫اهلايدغري بوحدة املِتافيزيقا يف مجيع تش ُّعباهتا‬ ‫ّ‬ ‫إذا اعتمدنا القول‬ ‫كل ما ُينجزه‬ ‫جتاوز ّ‬
‫َ‬ ‫التسامي تستوجب‪ ،‬عىل غرار مقولة النقد‪،‬‬
‫نولوجي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتفرعاهتا‪ ،‬وجب علينا أن نربط مصائر التقويض الفنوم‬ ‫التارخيي‪ .‬فكلتا املقولتَني تستلزمان‬ ‫الناس يف مستوى التح ّقق‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫يب بمآالت التقويض عينه يف الرتاث‬ ‫الفكري الغر ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف الرتاث‬ ‫أن التوفيق بني الرتاث‬ ‫التقويم والنقد والتجاوز‪ .‬لذلك اعترب ّ‬
‫الكشفي‪.‬‬ ‫يظل حمدو َد األثر‬ ‫أن هذا الربط ُّ‬ ‫يب املعارص‪َّ .‬إل َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫العر ّ‬ ‫نولوجي‬
‫ّ‬ ‫يب واحلداثة الغرب َّية ممك ٌن بفضل االستخراج الفنوم‬ ‫العر ّ‬
‫اإلصالحي؛‬ ‫ّ‬ ‫يب ينعم برضبني من اإلسعاف‬ ‫الفكري الغر ُّ‬
‫ُّ‬ ‫فالرتاث‬ ‫للجوهرين الناظمني هلاتني العامرتني‪.‬‬
‫فهو َّأوالً ينطوي عىل قابل َّيات ذات َّية تتيح له استضافة مجيع رضوب‬
‫املراجعة والنقد واهلدم والتقويض والرتميم وإعادة البناء‪ ،‬وهو‬ ‫الفلسفي ّ‬
‫الفذ يف البنى‬ ‫ّ‬ ‫أسأل اليوم عن مصري هذا االجتهاد‬
‫ثاني ًا حيظى بقرائن اجتامع َّية واقتصاد َّية وسياس َّية تُعينه عىل جتاوز‬ ‫وعي اإلنسان‬ ‫ُ‬ ‫الذهن َّية والفكر َّية واالجتامع َّية التي هبا يتبلور‬
‫النامذج املعرف َّية‬
‫ُ‬ ‫التشنُّجات والتص ّلبات واإلرباكات التي تستثريها‬ ‫حاولت‬
‫ُ‬ ‫يب املعارص‪ .‬أجل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الفعل العر ُّ‬ ‫يب املعارص‪ ،‬وهبا ينتظم‬‫العر ّ‬
‫اإلسالمي‬
‫َّ‬ ‫يب‬
‫أن الرتاث العر َّ‬ ‫السائدة يف حقبة من احلقب‪ .‬اعتقادي َّ‬ ‫يب أن أشري بخ َفر ٍّ‬
‫وتأن إىل إمكانات‬ ‫يف كتايب هايدغر والفكر العر ّ‬
‫اإلصالحي‪ .‬سندي يف هذا‬ ‫ّ‬ ‫ال ينعم هبذين الرضبني من اإلسعاف‬ ‫يب املعارص أن يسترشفها يف‬ ‫اإلغنائي التي جيدر بالفكر العر ّ‬ ‫ّ‬ ‫اللقاح‬
‫اإلسالمي املهيمن‬ ‫ّ‬ ‫الديني‬
‫ّ‬ ‫أن القابل َّيات الذات َّية يف الرتاث‬‫القول َّ‬ ‫لست متي ّقن ًا من َّ‬
‫أن ما اقرتحتُه يف كتايب‬ ‫إسهامات هايدغر‪ .‬ولكنّي ُ‬
‫الديني‬ ‫ّ‬ ‫يف املجتمعات العرب َّية هي غري القابل َّيات الذات َّية يف الرتاث‬ ‫يب سوا ٌء يف اجتهادات الفالسفة العرب‬ ‫سيلقى الصدى اإلجيا َّ‬
‫حق املعرفة َّ‬
‫أن‬ ‫املسيحي املهيمن يف املجتمعات الغرب َّية‪ .‬أعرف َّ‬ ‫ّ‬ ‫التحوالت البنيو َّية التي قد تطرأ عىل‬ ‫ُّ‬ ‫املعارصين أو يف مرسى‬
‫يب‪.‬‬ ‫يستفز كثري ًا من أهل املعرفة يف العامل العر ّ‬ ‫ُّ‬ ‫مثل هذا القول‬ ‫الذهن َّية العرب َّية السائدة يف املجتمعات العرب َّية‪ .‬يف الفصل الرابع‬
‫األول مرتبط بام‬ ‫ولكنّي أميل إىل اعتامده لسببني اثنني‪ :‬السبب َّ‬ ‫أبنت بعض املواضع التي قد تستثري‬ ‫األول من كتايب ُ‬ ‫من القسم َّ‬
‫استخرجتُه من متايز بني صورة االبن الوارث يف املسيح َّية وصورة‬ ‫يب واملجتمعات العرب َّية‪ ،‬ومنها دعوة هايدغر‬ ‫اهتامم الفكر العر ّ‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪234‬‬
‫حوارات‬ ‫حوار مع ا ُملفكِّر اللبناين مشري باسيل عون‬

‫يب‪ ،‬ال يف مستوى االقتصاد وال يف مستوى السياسة وال يف‬ ‫العر ُّ‬ ‫اخلليفة املد ّبر يف اإلسالم‪ .‬فاخللف َّيتان األنرتوبولوج َّيتان هت ّيئان‪،‬‬
‫مستوى االجتامع‪ .‬هذا االختالف يف القرائن ليس من احلتم َّيات‬ ‫عىل نحو متباين ويف مقادير شتّى‪ ،‬مسالك املراجعة النقد َّية الذات َّية‬
‫الصيني‬
‫ّ‬ ‫يب‪ ،‬وشأنه يف ذلك شأن العامل‬ ‫التارخي َّية‪ .‬فالعامل العر ُّ‬ ‫واهلدم والرتميم وإعادة البناء يف البنى والذهن َّيات والترشيعات‬
‫التحوالت‬
‫ُّ‬ ‫اهلندي‪ ،‬قد خيترب رضوب ًا شتَّى من‬‫ّ‬ ‫الياباين أو‬
‫ّ‬ ‫أو‬ ‫فمقرتن بام أعاينه من اختالف يف‬ ‫ٌ‬ ‫والتنظيامت‪ .‬أ َّما السبب الثاين‬
‫االقتصاد َّية والسياس َّية واالجتامع َّية تُفيض به إىل إدراك التقويض‬ ‫تصور مستندات احلقيقة‪ .‬فاإلسالم يعاين احلقيقة متج ّلية يف‬ ‫ُّ‬
‫نولوجي الذي استثارته األنطولوجيا اهلايدغر َّية يف سياق‬ ‫الف ِ‬
‫نوم‬ ‫ِ‬ ‫القرآين‪ ،‬فيام املسيح َّية تعاين احلقيقة متج ّلية يف شخص‬ ‫النص‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يب الراهن‪،‬‬ ‫يب املعارص‪ .‬أ َّما يف الزمن العر ّ‬‫قرائن االجتامع الغر ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اإلنجييل شاهدا أمينا لسريته وفكره‬ ‫ُّ‬ ‫النص‬
‫يسوع املسيح الذي أتى ُّ‬
‫فالتمخضات العسرية التي تنتاب املجتمعات العرب َّية ما فتئت‬ ‫ُّ‬ ‫منزالً‬ ‫احلق عينه َّ‬‫الديني الذي ينطوي عىل ّ‬ ‫ُّ‬ ‫فالنص‬‫ُّ‬ ‫وأقواله وأفعاله‪.‬‬
‫أي منقلب‬ ‫والتموج والتناثر‪ .‬ولست أدري ّ‬ ‫ُّ‬ ‫يف طور التذبذب‬ ‫الديني الذي ينطوي عىل شهادة‬ ‫ّ‬ ‫النص‬‫إنزال هو غري ّ‬ ‫تنزيل أو ً‬ ‫ً‬
‫أحوال املجتمعات العرب َّية يف املقبل من األ َّيام‪ .‬يقيني‬ ‫ُ‬ ‫ستنقلب إليه‬ ‫يب‬
‫الرسل يف شخص الس ّيد املسيح‪ .‬لذلك نشأت يف الرتاث العر ّ‬
‫فكري عميق يستلزم هذين الرضبني من اإلسعاف‬ ‫ّ‬ ‫كل تقويض‬ ‫أن َّ‬ ‫َّ‬ ‫القرآين ختتلف عن األنظومة‬ ‫ّ‬ ‫للنص‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي أنظوم ٌة تفسري َّية‬
‫ّ‬
‫عنيت هبام القابل َّيات الذات َّية ومؤاتاة القرائن‬ ‫ُ‬ ‫اإلصالحي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أن األنظومة التأويل َّية‬ ‫التفسري َّية التي نشأت يف املسيح َّية‪ .‬اعتقادي َّ‬
‫االجتامع َّية والسياس َّية واالقتصاد َّية‪ .‬يف مسألة القابل َّيات الذات َّية‪،‬‬ ‫اإلنساين هي‬
‫ّ‬ ‫ال من إدراك حقائق الوجود‬ ‫اإلسالم َّية تستتيل س ُب ً‬
‫األسايس الناشب بني مقام‬ ‫ّ‬ ‫ال ُبدَّ من االعرتاف باالختالف‬ ‫غري الس ُبل التي تستتليها األنظومة التأويل َّية املسيح َّية‪ .‬ويف هذا‬
‫النص‬ ‫االبن يف املسيح َّية ومقام اخلليفة يف اإلسالم‪ ،‬وبني مقام ّ‬ ‫يب‪ّ .‬إل‬ ‫كثري من أهل املعرفة يف العامل العر ّ‬ ‫القول أيض ًا خيالفني ٌ‬
‫أي انتقاص لكال‬ ‫اإلنجييل‪ .‬وليس يف ذلك ُّ‬ ‫ّ‬ ‫النص‬‫القرآين ومقام ّ‬ ‫ّ‬ ‫النص‬ ‫ّ‬ ‫تصور مقام‬ ‫ُّ‬ ‫تصور مقام اإلنسان ويف‬ ‫ُّ‬ ‫أن االختالف يف‬ ‫َّ‬
‫احلضاري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫القيمي أو التفضيل‬ ‫ّ‬ ‫ولست يف مقام احلكم‬ ‫ُ‬ ‫املقامني‪.‬‬ ‫التحوالت السياس َّية واالقتصاد َّية‬ ‫ُّ‬ ‫الديني‪ ،‬إذا ما ُقرن بسياقات‬ ‫ّ‬
‫املمهدات الثقاف َّية‬ ‫ّ‬ ‫املوضوعي يف‬
‫ّ‬ ‫كالمي يأيت يف سياق النظر‬ ‫خاص ًا يف البيئتني الغرب َّية‬ ‫َّ‬ ‫واالجتامع َّية والثقاف َّية‪ ،‬يو ّلد وعي ًا‬
‫البنيو َّية التي هت ّيئ البيئة االجتامع َّية لتق ُّبل مكتسبات احلداثة‬ ‫يصوروا‬ ‫والعرب َّية‪ ،‬إليه يستند الناس يف فاعل َّيتهم التارخي َّية لكي ّ‬
‫الغرب َّية‪ ،‬ومنها الديمقراط َّية يف مجيع وجوهها ورضوب تك ُّيفها‪.‬‬ ‫هيئة العامل الذي يستطيبون اإلقامة فيه واالنطالق منه ملعاينة‬
‫املمهدات الثقاف َّية البنيو َّية‬
‫وإن أدرك العالقة اجلدل َّية الناشبة بني ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن األنظومة التأويل َّية‬ ‫حق املعرفة َّ‬ ‫وإن أعرف َّ‬ ‫العوامل األخرى‪ّ .‬‬
‫واألحوال السياس َّية واالقتصاد َّية واالجتامع ًّية‪ ،‬حيث تنشط‬ ‫اإلسالم َّية اختربت حيو َّي ًة فائق ًة يف التفسري املبتكر والتكييف‬
‫ات شتَّى من التأ ّثر والتأثري قد تُفيض إىل تبدُّ الت خطرية يف‬ ‫كيف َّي ٌ‬ ‫وأن األنظومة التأويل َّية املسيح َّية خضعت خضوع ًا مديد‬ ‫اخللق‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫املمهدات وقطب األحوال‪.‬‬ ‫عنيت هبام قطب ّ‬ ‫ُ‬ ‫هيئة هذين القطبني؛‬ ‫أن احلداثة حني أزف‬ ‫املؤسسة الكنس َّية‪ّ .‬إل َّ‬ ‫ّ‬ ‫الزمن إلمالءات‬
‫أن االبن الوارث تُسند إليه املسيح َّي ُة رضوب ًا شتَّى من‬ ‫جل األمر َّ‬ ‫ُّ‬ ‫زمانا يف الغرب صارعتها املسيح َّية يف بداية األمر‪ ،‬وانتهت إىل‬ ‫ُ‬
‫احلر َّية الترشيع َّية ال ُيسندها اإلسال ُم إىل اإلنسان اخلليفة‪ ،‬ولئن‬ ‫ّ‬ ‫مصاحلتها واعتامدها واستدخاهلا يف بنيتها املعرف َّية واملسلك َّية‪ .‬أ َّما‬
‫انطوى مقا ُم اخلليفة عىل مسؤول َّية كون َّية جليلة الشأن‪ ،‬عظيمة‬ ‫يب‪ ،‬فاحلداثة أط ّلت من اخلارج‪ ،‬ال من الداخل‬ ‫يف الرشق العر ّ‬
‫باملمهدات الفكر َّية التي‬ ‫ّ‬ ‫األثر‪ ،‬شاسعة املدى‪ .‬املسألة ك ُّلها متَّصلة‬ ‫الرتاثي املتشنّج املأسور بقرون من‬ ‫ُّ‬ ‫الديني‬
‫ُّ‬ ‫يت‪ .‬فجاهبها الوعي‬
‫الذا ّ‬
‫هت ّيئ حلضارة من احلضارات أو جمتمع من املجتمعات أن يستوي‬ ‫تعس ًا بنيو َّي ًا يف‬
‫أن هناك ُّ‬ ‫وتبي يل َّ‬‫واخلارجي‪َّ .‬‬
‫ّ‬ ‫يت‬
‫االستبداد الذا ّ‬
‫املستقل ومسؤوالً عن أعامله‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حر ًا قائ ًام يف كيانه‬
‫اإلنسان فيه فرد ًا َّ‬
‫ُ‬ ‫جمرد اعتبار هذه احلداثة من صنيعة‬ ‫تق ُّبل احلداثة الغرب َّية يتجاوز َّ‬
‫أن مجيع احلضارات اإلنسان َّية ال هت ّيئ لإلنسان البلوغ إىل‬ ‫الواضح َّ‬ ‫يلح علينا يف االستدالل عىل‬ ‫الغرب املستعمر‪ .‬ويبقى السؤال ُّ‬
‫مقام الفرد الذي بلغ إليه يف احلداثة الغرب َّية عىل النحو الذي ه َّيأته‬ ‫أسباب انعدام احلداثة العرب َّية املنشأ‪ .‬فأين حداثة العرب املنبثقة‬
‫املسيح َّية له‪ ،‬وذلك بالرغم من املشا َّدات الدمو َّية التي نشأت بني‬ ‫من ذات َّيتهم اللصيقة برتاثهم؟‬
‫الكنيسة الغرب َّية واملجتمعات الغرب َّية يف زمن اإلصالح وزمن‬
‫النهضة وزمن األنوار وزمن احلداثة حتّى مطالع القرن العرشين‪،‬‬ ‫هذا يف القابل َّيات الذات َّية يف املسيح َّية ويف اإلسالم‪ .‬أ َّما يف‬
‫الديني‬
‫ّ‬ ‫حيث استعادت املسيح َّية الكاثوليك َّي ُة استعاد ًة نقد َّية ترا َثها‬ ‫حتوالت خطرية مل خيتربها العامل‬ ‫يب اخترب ُّ‬ ‫القرائن‪َّ ،‬‬
‫فإن العامل الغر َّ‬

‫‪235‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫املهدي مستقيم‬ ‫حوارات‬

‫يب يف القرون الوسطى‪ .‬واجلميع يعلم‬ ‫التي اختربها العامل العر ُّ‬ ‫واستخرجت منه أسباب املصاحلة السلم َّية مع مطالب احلداثة‬
‫األكويني يف االعتامد عىل‬ ‫ّ‬ ‫أن جرأة ابن رشد جتاوزت جرأة توما‬ ‫َّ‬ ‫الغرب َّية‪ .‬حتَّى البيئات احلضار َّية اآلسيو َّية ال تعتمد مقام اإلنسان‬
‫ال عن‬ ‫العقل لتفسري النصوص الدين َّية امللتبسة املعاين‪ .‬ومل أكن غاف ً‬ ‫تصو ٌر يتاميز‬
‫ُّ‬ ‫الفرد عىل نحو ما تعتمده احلداثة الغرب َّية‪ .‬فلها‬
‫االجتهادات الرصينة التي أتى هبا املعتزلة يف بناء أنظومة تأويل َّية‬ ‫تصور الفردان َّية الغرب َّية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬بلغت بعض‬ ‫متايز ًا جل َّي ًا عن ُّ‬
‫القرآين‪ .‬ولست أجهل االجتهادات الرصينة‬ ‫ّ‬ ‫النص‬
‫حديثة لتفسري ّ‬ ‫املجتمعات اآلسيو َّية هنضة علم َّية وهنضة فكر َّية تالئم ما انعقد‬
‫النقدي يف املجتمعات العرب َّية‬ ‫ّ‬ ‫الديني‬
‫ّ‬ ‫أهل الفكر‬‫التي أفرج عنها ُ‬ ‫عليه ترا ُثها من عنارص االستثارة والتحفيز والتطوير والرت ّقي‪.‬‬
‫حممد أركون الذي‬ ‫األملعي َّ‬
‫ّ‬ ‫املعارصة‪ ،‬ومنهم عىل سبيل املثال املفكّر‬
‫يب‪،‬‬ ‫الف ِ‬ ‫ألن التقويض ِ‬ ‫عت يف اإلجابة َّ‬
‫وقف نفسه من أجل تطوير العلوم اإلسالم َّية وهنضة الفكر العر ّ‬ ‫اهلايدغري‬
‫ّ‬ ‫نولوجي‬
‫ّ‬ ‫نوم‬ ‫توس ُ‬ ‫َّ‬
‫حيث املجتمعات العرب َّية عىل‬ ‫الديني‪ .‬فها هو ذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫والس َّيام يف ش ّقه‬ ‫تصور آخر للكينونة ولأللوهة وللوجود وللكون‬ ‫ُّ‬ ‫ُيفيض إىل‬
‫اإلسالمي تناول نقد َّي ًا باالستناد إىل أحدث العلوم‬ ‫ّ‬ ‫تناول الرتاث‬ ‫وللتاريخ ولإلنسان وللفكر وللثقافة‪ .‬فالكينونة عند هايدغر‬
‫اللغو َّية والتارخي َّية واالجتامع َّية والنفس َّية واألنرتوبولوج َّية والبنيو َّية‬ ‫حيو َّية فائقة يف االنكشاف واالنحجاب‪ ،‬وليست قوام ًا صلب ًا جيد‬
‫فلسفي شامل‬ ‫ثم‪ ،‬إىل النهوض بتقويم‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫والتحليل َّية‪ .‬ويدعوها‪ ،‬من َّ‬ ‫جنبات‬ ‫كامله يف هيئة األلوهة‪ .‬واأللوهة عنده منار ٌة خفر ٌة تيضء‬
‫لنتائج هذا التناول وخالصاته‪ ،‬واستصفاء العنارص الرتاث َّية املغنية‬ ‫اإلنساين من غري أن تستقيم كيان ًا متعالي ًا‬ ‫ّ‬ ‫منكفئة من الباطن‬
‫(من أخالق َّية وروح َّية)‪ ،‬واعتامد النامذج املعرف َّية الغرب َّية العلم َّية‬ ‫رسمد َّي ًا مس ّلط ًا عىل الكينونة وعىل الكائنات من خارج رحابة‬
‫يب املقبل الذي ال طاقة ألحد عىل‬ ‫الفكري العر ّ‬
‫ّ‬ ‫الفتَّاحة يف البنيان‬ ‫حلر َّية إقبال الكينونة إىل الكائنات‬ ‫مرادف ّ‬
‫ٌ‬ ‫الكينونة عينها‪ .‬واحلقيقة‬
‫املهمة املعرف َّية اخلطرية‪.‬‬
‫استرشاف هيئته قبل إنجاز هذه َّ‬ ‫أو إدبارها وانكفائها‪ ،‬وليست هي مطابقة األعيان ملا يف األذهان‪،‬‬
‫وليست قوالً فلسف َّي ًا أو علم َّي ًا أو الهوت َّي ًا جيب عىل مجيع الناس أن‬
‫هو نفسه يأسف النسحاق نظر َّية املعتزلة عن القرآن املخلوق‬ ‫يأمتروا به‪ .‬واإلنسان عنده هو راعي الكينونة املتواضع الوديع‪،‬‬
‫واضمحالهلا‪ ،‬وهيمنة النظر َّية احلنبل َّية يف القرآن غري املخلوق‪.‬‬ ‫املرشع احلاكم املطلق عىل الكائنات‪ .‬والتاريخ هو‬ ‫وليس هو الس ّيد ّ‬
‫غني به‬ ‫نص ٌّ‬ ‫فالقرآن هو كالم اهلل بالنسبة إىل املسلمني‪ ،‬ولكنَّه ٌّ‬ ‫موضع اعتالن مراسيم الكينونة يف تعاقب جت ّلياهتا وانحجاباهتا‪،‬‬
‫النص من قيود التل ّقي‬ ‫حيرر َّ‬ ‫ماس ٌة إىل التأويل‪ .‬والتأويل ّ‬ ‫حاج ٌة َّ‬ ‫وليس مرسح ًا لتح ُّقق املشيئة اإلهل َّية أو إلنجاز مرسى الروح‬
‫ويرشعه عىل وعود خالص َّية زاهية‪ .‬وهذا ما فعلته املسيح َّي ُة‬ ‫األول‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫خاشع الستدعاءات الكينونة‪ ،‬وأهبى‬ ‫ٌ‬ ‫العلوي‪ .‬والفكر هو إصغا ٌء‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫الغرب َّية عندما استثارهتا األبحاث النقد َّية التارخي َّية‪ ،‬فأخذت عىل‬ ‫ّ‬
‫اخلفر الذي هو تقوى الفكر‪ .‬هذا كله يستتليه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ما فيه السؤال‬
‫حممل اجلدّ القطيعة املعرف َّية التي أنشأهتا احلداثة الغرب َّية يف بنى‬ ‫اهلايدغري‪ .‬وهذا ك ُّله ال ُيطيقه اآلن‬ ‫نولوجي‬ ‫ِ‬
‫الفنوم‬ ‫التقويض ِ‬‫ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أسلفت القول‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫التفكري واملسلك‪ .‬وأسعفها يف ذلك‪ ،‬عىل نحو ما‬ ‫املجتمعات العرب َّية املعارصة‪ .‬فكالمها‬
‫ُ‬ ‫يب املعارص وال‬ ‫الفكر العر ُّ‬ ‫ُ‬
‫األنرتوبولوجي الذي حيظى به اإلنسان يف الالهوت‬ ‫ّ‬ ‫طبيعة املقام‬ ‫َعارض‬ ‫ما برحا يف طور البحث عن الذات العرب َّية املقبلة‪ .‬وما ت ُ‬
‫اإلنجييل‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫النص‬
‫التأوييل الذي ينتسب إليه ُّ‬
‫ّ‬ ‫املسيحي وطبيعة املقام‬
‫ّ‬ ‫أهل الفكر‬ ‫واالجتامعي التي ينادي هبا ُ‬
‫ّ‬ ‫الفكري‬
‫ّ‬ ‫مشاريع اإلصالح‬
‫أ َّما يف اإلسالم‪ ،‬واملجتمعات العرب َّية تدين بمعظمها به‪ ،‬ما خال‬ ‫أن املجتمعات العرب َّية ما فتئت يف‬ ‫يب املعارص إال الدليل عىل َّ‬ ‫العر ّ‬
‫بعض األق ّل َّيات املسيح َّية وبعض األفراد ال َعلامن ّيني املنكفئني‬ ‫التفور واملخاض والته ُّيؤ العسري‪.‬‬ ‫حالة ُّ‬
‫مقرتن هبيمنة‬ ‫ٌ‬ ‫الديني السائد‬
‫َّ‬ ‫التصور‬
‫ُّ‬ ‫إىل مناسكهم الفكر َّية‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫الديني يف‬ ‫النص‬ ‫ِ ِ‬
‫يب‪ .‬ذلك‬ ‫السيايس العر ّ‬
‫ّ‬ ‫التقليدي واستبداد اجلهاز‬
‫ّ‬ ‫الديني‬
‫ّ‬ ‫اخلطاب‬ ‫ّ‬ ‫أي حدٍّ يمكن أن نتحدَّ ث عن هرمنوطيقا ّ‬ ‫* إىل ّ‬
‫غائب‬
‫ٌ‬ ‫أن مفهوم الوساطة التارخي َّية يف التل ّقي والتفسري واإلبالغ‬ ‫َّ‬ ‫اخلاصة ببلداننا؟‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫ظل الرشوط البنيو َّية املجتمع َّية‬
‫الديني‪ ،‬ما خال بعض االلتامعات‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫حتَّى اآلن يف الفكر‬
‫القديمة‪ ،‬عىل نحو ما انتهت إليه دراسة الصديق الربوفسور‬ ‫كل ما‬ ‫ال يمكن اإلجابة عن هذا السؤال ّإل باالستناد إىل ّ‬
‫الديني يف اإلسالم‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الفارايب‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫(النص‬
‫ُّ‬ ‫وجيه قانصو‬ ‫النص‬ ‫أنشأت املقارنة بني مقام اإلنسان ومقام ّ‬
‫ُ‬ ‫سبق ذكره‪ .‬عندما‬
‫يتبسط‬
‫الطبعة الثانية‪ .)2016 ،‬من هذه االلتامعات القديمة التي َّ‬ ‫الديني بني املسيح َّية واإلسالم‪ ،‬مل أكن غاف ً‬
‫ال عن احليو َّية الفكر َّية‬ ‫ّ‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪236‬‬
‫حوارات‬ ‫حوار مع ا ُملفكِّر اللبناين مشري باسيل عون‬

‫بأن الدعوة إىل النهوض‬ ‫ولكنَّنا نحن‪ ،‬ـ معرش املفكّرين ـ نشعر َّ‬ ‫َ‬
‫الرسول‬ ‫فيها الربوفسور قانصو ُ‬
‫قول اجلويني َّ‬
‫إن جربيل أفهم‬
‫تتجاوزنا بمقادير مرعبة‪ .‬فمن نحن حتَّى نفرض عىل املجتمعات‬ ‫ُ‬
‫وقول ابن‬ ‫القرآين «من غري نقل لذات الكالم»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫معاين الوحي‬
‫والتطور واالرتقاء؟‬
‫ُّ‬ ‫العرب َّية الصحوة والنهضة واإلقدام واالبتكار‬ ‫الزماين‬
‫ّ‬ ‫كلب َّ‬
‫إن كالم اهلل واحدٌ ‪ ،‬ولكنَّه حني خيرج إىل الفضاء‬ ‫ّ‬
‫أهل هذه املجتمعات الذين‬ ‫ومن نحن حتَّى نأمل أن ُيصغي إلينا ُ‬ ‫ويتجل يف نصوص متعدّ دة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واملكاين‪ ،‬يتَّخذ أشكاالً خمتلفة‬
‫ّ‬
‫ما انفكُّوا ينظرون إلينا نظرة الريبة واحلذر واالستهتار؟ كيف‬ ‫َّ‬
‫اجلويني‪ ،‬يعترب عبد الرمحن بدوي أن التنزيل هو‬
‫ّ‬ ‫وتعليق ًا عىل كالم‬
‫أن النصوص املنرية التي‬ ‫يب املعارص طاملا َّ‬
‫نغي الوعي العر َّ‬
‫لنا أن ّ‬ ‫فتح‬
‫تنزيل للمعاين الرشيفة‪ ،‬ال لأللفاظ بعينها‪ .‬وهذا‪ ،‬لعمري‪ٌ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫أهل احلداثة يف الغرب مل تُفصح بعدُ عن مضامينها يف قول‬ ‫أبدعها ُ‬ ‫يب املعارص من هذه‬
‫الديني العر ُّ‬
‫ُّ‬ ‫تأوييل مبني‪ .‬ولكن أين هو الفكر‬
‫ٌّ‬
‫أن أعامل كبار الفالسفة‬ ‫يب مكني؟ أفيعجب املر ُء حينئذ من َّ‬ ‫عر ّ‬ ‫الفتوحات التأويل َّية القديمة؟‬
‫ُعرب بعد مرور‬ ‫الغرب ّيني‪ ،‬من أمثال هيغل ونيتشه وهايدغر‪ ،‬مل ت َّ‬
‫ما يقارب املئة عام عىل صدورها؟ فكيف هلذه األفكار أن ّ‬
‫تنغل‬ ‫يب مل يقطع قطيعة معرف َّية جل َّية حاسمة‬ ‫أن العامل العر َّ‬ ‫إحسايس َّ‬
‫ال يف امتحانات‬ ‫يب؟ هل ُيسأل عن هايدغر مث ً‬ ‫يف نسيج الوعي العر ّ‬ ‫جل األمر أنَّه استعذب بعض االلتامعات‬ ‫مع القرون الوسطى‪ُّ .‬‬
‫الثانو َّية الرسم َّية (البكالوريا)؟ وهل يقرأ املث ّقفون العرب‪ ،‬من‬ ‫الفكر َّية احلديثة‪ ،‬واعتمد بعض املعارف العلم َّية يف سطح َّيتها‬
‫قضاة وحمامني وساسة وإدار ّيني وصحاف ّيني وأط َّباء ومهندسني‬ ‫املعريف احلديث الذي انبنت‬ ‫ّ‬ ‫الرتيبة‪ ،‬من غري أن يتأ ّثر بالنموذج‬
‫األملاين؟ وهل يتد َّبرون معانيها‬ ‫ّ‬ ‫وأدباء‪ ،‬نصوص هذا الفيلسوف‬ ‫يب بني اعتامده عىل علوم‬ ‫مريض يف الوعي العر ّ‬‫ٌّ‬ ‫فثمة فصا ٌم‬
‫عليه‪َّ .‬‬
‫االنقالب َّية؟ وما نسبة القراءة يف املجتمعات العرب َّية عىل وجه‬ ‫الغرب الوضع َّية وانحباسه يف أنظومة القرون الوسطى الفكر َّية‪،‬‬
‫اإلطالق؟ يته ّيأ يل يف بعض األحيان أنّنا‪ ،‬نحن معرش الفالسفة‪،‬‬ ‫اللمعة‪ .‬هناك‬ ‫ما خال بعض الشطحات الصوف َّية واألدب َّية َّ‬
‫ونعزي بعضنا بعض ًا عىل قدر ما يقرأ ُ‬
‫بعضنا‬ ‫إنَّام نحادث أنفسنا ّ‬ ‫األيديولوجي للهو َّية الثقاف َّية العرب َّية‬
‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ُّ‬ ‫شاسع بني‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫فرق‬
‫الفكري الرفيع‪ .‬ويف هذا‬ ‫ّ‬ ‫أعامل بعضنا اآلخر يف و ّد التضامن‬ ‫التارخيي املنبثق‬
‫ّ‬ ‫العقالين‬
‫ّ‬ ‫اإلنساين املنفتح‬
‫ّ‬ ‫التصور‬
‫ُّ‬ ‫اإلسالم َّية وبني‬
‫أقىص أمنيات التغيري املرتقب حتَّى اآلن‪.‬‬ ‫من آفاق احلداثة غري املكتملة‪.‬‬

‫السلفي هبذا‬
‫ّ‬ ‫أن انتشار الفكر‬
‫* هل تتّفق مع القول الذي يرى َّ‬ ‫يب‬‫ال بدَّ إذ ًا من قراءة نقد َّية تارخي َّية مسؤولة للرتاث العر ّ‬
‫العريب هو بمثابة مكر للتاريخ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الشكل املريع بعد ما ُس ّمي بالربيع‬ ‫يب أن يبني عالقة‬ ‫اإلسالمي بر َّمته‪ ،‬لكي يتسنَّى لإلنسان العر ّ‬
‫ّ‬
‫بحيث لفظ هذا األخري أحشاءه ليتخ ّلص منها مستقبالً؟‬ ‫اإلهلي تأوي ً‬
‫ال‬ ‫ّ‬ ‫جديدة بينه وبني اهلل تساعده عىل تأويل التوحيد‬
‫ِ‬
‫حيرر اإلنسان وجيعله مبدع ًا إلنسان َّيته عىل غري ما ألفته األنظومة‬ ‫ّ‬
‫السلفي أسبابه البنيو َّية االجتامع َّية والسياس َّية‬ ‫ّ‬ ‫لنشوء الفكر‬ ‫السيايس‪ .‬هذا كلهّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الرتاث َّية املتلكّئة املتعثرة املتواطئة مع السلطان‬
‫ِ‬
‫واالقتصاد َّية‪ .‬فهو مل يأت من عدم‪ .‬من األسباب الذات َّية الداخل َّية‬ ‫فذ ًا‬
‫أن املجتمعات العرب َّية جيب عليها أن حتيي إحيا ًء َّ‬ ‫إنَّام يعني َّ‬
‫وتعظيم الذات العرب َّية والذات‬
‫ُ‬ ‫اجرتار املقوالت الدين َّية الرتاث َّية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫خلق ًا‬‫الصلة التارخي َّية النقد َّية بالرتاث‪ ،‬وأن تستدرك استدراك ًا ّ‬
‫واالستهتار بالغري َّية‬
‫ُ‬ ‫يت املتط ّلب‪،‬‬ ‫اإلسالم َّية‪ ،‬ونبذ النقد الذا ّ‬ ‫التأخر الذي بينها وبني احلداثة الغرب َّية والذي قد يمتدُّ إىل أربعة‬ ‫ُّ‬
‫املختلفة واملخالفة‪ ،‬وهيمنة الذهن َّية االستبداد َّية البطريرك َّية‬ ‫منظرهيم‬
‫ّ‬ ‫بعض‬
‫العرب إىل انتقاد ما يظنّه ُ‬
‫ُ‬ ‫هيب‬
‫قرون‪ .‬وقبل أن َّ‬
‫العداوات املتعاقبة بني الرشق‬
‫ُ‬ ‫الذكور َّية‪ .‬من األسباب اخلارج َّية‬ ‫املتشنّجني من انحرافات مسلك َّية تشوب عرص ما بعد احلداثة‬
‫يب احلديث ومواطأته أنظمة االستبداد‬ ‫واالستعامر الغر ُّ‬
‫ُ‬ ‫والغرب‪،‬‬ ‫ومن خواءات اجتامع َّية ترضب يف بناه‪ ،‬ينبغي هلم أن هيضموا‬
‫الصهيوين الظامل‪ .‬ال بدَّ من تذكري اجلميع َّ‬
‫بأن‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫واالستيطان‬ ‫يب‪،‬‬ ‫العر ّ‬ ‫مطالب احلداثة يف ما تنطوي عليه من بناءات واعدة لكرامة‬
‫االستعامر مسألة نسب َّية‪ .‬فاجلميع استعمر اجلميع يف إ َّبان العرص‬ ‫ثم ينارصون أهل‬ ‫وحر َّيته ومسؤول َّيته الذات َّية‪ .‬ومن َّ‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان‬
‫الذهبي للهيمنة العسكر َّية املتن ّقلة من صقع إىل صقع‪ .‬منهم من‬ ‫ّ‬ ‫احلداثة الغرب َّية عىل اجتناب الثغرات البنيو َّية والفراغات املنهج َّية‬
‫ً‬
‫اخلارجي فتحا باسم‬ ‫َّ‬ ‫التوسع‬
‫ُّ‬ ‫وجيمل ويتعاىل‪ ،‬فريى‬ ‫ّ‬ ‫يالطف‬ ‫وااللتواءات املسلك َّية التي أصابت املجتمعات الغرب َّية من شدَّ ة‬
‫الدين‪ ،‬أو غزو ًا لطلب االستثامر‪ ،‬أو انبساط ًا لنرش احلقيقة والعلم‬ ‫اإلغراق يف األمانة القصوى ملطالب الفردان َّية واالستقالل َّية‪.‬‬

‫‪237‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫املهدي مستقيم‬ ‫حوارات‬

‫املتحجرة‪ ،‬بل هي مرسى‬


‫ّ‬ ‫مرتاصة من العنارص األصل َّية اجلامدة‬
‫َّ‬ ‫أن أمثوالت التاريخ تُظهر زيف هذه اال ّدعاءات‪،‬‬ ‫واهلداية‪ .‬غري َّ‬
‫حيوي من التفاعل والتقابس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتُظهر أيض ًا جسامة األذى الذي أنزله الفاحتون بالشعوب املقهورة‬
‫عىل تراخي السنني‪ .‬أ َّما السلف َّية اإلسالم َّية املعارصة‪ ،‬فليست‬
‫أعود هنا إىل هايدغر ألستوضح السبيل الذي انتهجه يف‬ ‫ات أخرى قتلت‬ ‫ثمة أصول َّي ٌ‬
‫هي وحدها التي تقتل باسم الدين‪َّ .‬‬
‫مقابساته املمتعة مع أهل اإلغريق األوائل ومع عظامء الفكر‬ ‫باسم الدين‪ .‬املسيح َّية اختربت األصول َّية يف الغابر من األزمان‪،‬‬
‫الفلسفي‪ .‬أجل‪ ،‬لقد عاد هايدغر إىل األصول‪ ،‬فاستنطق أناشيد‬ ‫ّ‬ ‫ولكنَّها عادت فتابت‪ ،‬واستصفحت اإلنسان َّي َة يف أهبى ما يكون‬
‫اإلغريق األوائل وقصائد الشعراء امللهمني ونصوص الفالسفة‬ ‫االستصفاح‪ ،‬ونأت بنفسها عن سياسات املجتمعات الغرب َّية‬
‫الغرب ّيني النبهاء‪ .‬فكان أصول َّي ًا يف املعنى الرفيع للعبارة‪ .‬ولكنَّه‬ ‫االستعامر َّية‪ .‬اليهود َّية ختترب األصول َّية يف الزمن احلديث واملعارص‪،‬‬
‫أيض ًا كان جمدّ د ًا مبتكر ًا فتّاح ًا‪ .‬حاور بارمنيدس وهرياقليطس‬ ‫وما من دليل حاسم عىل رغبتها يف التوبة اجلامع َّية‪ .‬املسلمون‬
‫أهل الفلسفة يف الغرب ويف الرشق‪ .‬حاور‬ ‫يف غري ما حاورمها ُ‬ ‫املعنوي‬
‫ّ‬ ‫األصفياء يعانون اليوم أتعس رضوب اليأس واإلذالل‬
‫األكويني ومايسرت إكهارت يف غري ما حاورهم‬ ‫ّ‬ ‫ُأغسطينُس وتوما‬ ‫حني يعاينون السلف ّيني يفتكون باألبرياء باسم اإلسالم‪ .‬لذلك ال بدَّ‬
‫الفالسفة اآلخرون‪ .‬عىل هذا املنوال أيض ًا حاور ديكارت وكانط‬ ‫كل‬ ‫اإلسالمي َّ‬
‫ّ‬ ‫من صحوة إسالم َّية حضار َّية شاملة تنتبذ من الرتاث‬
‫وهيغل ونيتشه‪ ،‬واستمتع بمحاورته هولدرلني وريلكه وبول‬ ‫ترشع العنف عىل وجه‬ ‫النصوص واالجتهادات واملستندات التي ّ‬
‫أكب‬
‫الفذة‪َّ ،‬‬‫ِسالن‪ .‬يف مجيع هذه املحاورات الفلسف َّية األصول َّية َّ‬ ‫اإلطالق‪ ،‬سواء أكان العنف عنف ًا دين ّي ًا إلذاعة حقائق اإلسالم‪،‬‬
‫هايدغر عىل استنطاق النصوص الفلسف َّية األصل َّية يف ما تنطوي‬ ‫أم عنف ًا ثقاف َّي ًا لتأييد اخلصوص َّية االجتامع َّية العرب َّية واإلسالم َّية‪،‬‬
‫عليه من قابل َّيات للقول مل يتف ّطن هلا أحدٌ سواه‪ .‬فنجح يف استنباط‬ ‫إن العنف‬ ‫أم عنف ًا سياس َّي ًا لنرصة النظام احلاكم‪ .‬خالصة القول َّ‬
‫ما مل يفكّر فيه اآلخرون إىل اآلن‪ ،‬أو يف االستدالل عىل ما ال‬ ‫ال يمكنه أن يضحي هو الفيصل يف جالء املسائل الشائكة بني‬
‫يمكن التفكري فيه يف حدود الرشوط املعرف َّية السائدة يف األنظومة‬ ‫الشعوب وح ّلها واالرتقاء هبا إىل مستوى اجلدل َّية التارخي َّية املغنية‪.‬‬
‫املِتافيزيق َّية الغرب َّية املهيمنة‪ .‬فأين أصول َّية السلف ّيني الدين ّيني‬
‫اهلايدغري ألمهات النصوص الفكر َّية‬ ‫ّ‬ ‫من أصول َّية االستنطاق‬ ‫جتمل لنا مرسى األحداث‪ ،‬وتزرع‬ ‫فإنا ّ‬
‫أ َّما مقولة مكر التاريخ َّ‬
‫خمضبة بدماء الكراهية‪،‬‬ ‫واألدب َّية العامل َّية؟ تلك أصول َّية سلف َّية َّ‬ ‫ترسمه هيغل‬ ‫روحي جديد‪ ،‬عىل نحو ما َّ‬ ‫ّ‬ ‫فينا األمل بانبثاق طور‬
‫وهذه أصول َّي ٌة خصب ٌة بالفتوحات الفكر َّية‪.‬‬ ‫أن اخلوف الذي يتم ّلكني هو يف انغالق‬ ‫يف جدل َّيته املثال َّية‪ .‬غري َّ‬
‫يب عىل تشنُّجات اهلو َّية الفتَّاكة يف األقوام واألديان‬ ‫التاريخ العر ّ‬
‫ما خال لبنان واملغرب وتونس‪ ،‬ال أرى اليوم أفق ًا عرب َّي ًا جدير ًا‬ ‫لست أفهم إىل اليوم كيف انفجر‬ ‫ُ‬ ‫واملذاهب واإليديولوج َّيات‪.‬‬
‫املعذب‪ .‬املجتمعات‬ ‫يب ّ‬ ‫اخلاليص لإلنسان العر ّ‬
‫ّ‬ ‫باحتضان الرجاء‬ ‫التامس‬
‫ّ‬ ‫السنَّة والشيعة عىل طول خطوط‬ ‫املذهبي بني ُ‬
‫ُّ‬ ‫الرصاع‬
‫العرب َّية مصابة مجيعها بمحنة التمكُّث يف املايض املندثر‪ .‬يف هذه‬ ‫أهل االستنارة يف‬ ‫رصاع مل جيرؤ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫العرب َّية واإلسالم َّية‪ .‬وهو‬
‫تفور ًا واعد ًا لالجتهاد‬ ‫املجتمعات الثالثة يعاين املرء‪ ،‬مع ذلك‪ُّ ،‬‬ ‫املجتمعات العرب َّية واإلسالم َّية عىل ط ّيه تارخي َّي ًا وجتاوزه معرف َّي ًا‪.‬‬
‫والتحول‬
‫ُّ‬ ‫االجتامعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السيايس‪ ،‬والتك ُّيف‬
‫ّ‬ ‫الفكري‪ ،‬والتد ُّبر‬
‫ّ‬ ‫العنفي يف‬‫ّ‬ ‫السلفي‬
‫ّ‬ ‫لذلك لست أرى من الالزم اجتياز الطور‬
‫َّ‬
‫املتدرج‪ .‬ظنّي أن يف االختبارات املؤملة التي ابتليت هبا‬ ‫ّ‬ ‫الكياين‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي املعارص من أجل البلوغ إىل نضج الوعي‬ ‫ّ‬ ‫التاريخ‬
‫هذه املجتمعات العرب َّية الثالثة ينطوي يش ٌء من التح ُّفز البطيء‬ ‫ثمة س ُب ٌل أخرى يمكنها أن تساعد الشعوب اإلسالم َّية‬ ‫اجلامعي‪َّ .‬‬
‫ّ‬
‫للنهوض الواعد‪.‬‬ ‫عىل االنتقال من طور القرون الوسطى إىل طور احلداثة والعرصنة‬
‫من غري أن جتتاز طور املعانفة الفتَّاكة‪ .‬من هذه الس ُبل املقابسة‬
‫* هل من دور اليوم للفلسفة يف الثقافة العرب َّية املعارصة؟‬ ‫الفكر َّية الشاملة مع حضارات أورو َّبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا‪.‬‬
‫ولن تفوز هذه املجتمعات العرب َّية واإلسالم َّية بإمتاع هذه املقابسة‬
‫حتدَّ ثت فلسف َّي ًا‪ ،‬ولكنّي َّ‬
‫عرجت عىل الدين َّيات والالهوت َّيات‬ ‫للتخل عن يشء من عتيق ذات َّيتها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ما مل تستعدّ االستعداد احلسن‬
‫فلسفي‬
‫ٌّ‬ ‫ألن املجتمعات العرب َّية متد ّينة بالفطرة‪ ،‬وال يستقيم ٌ‬
‫قول‬ ‫َّ‬ ‫أن اهلو َّية ليست كتلة‬ ‫واعتناق يشء من جديد غري َّيتها‪ .‬ذلك َّ‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪238‬‬
‫حوارات‬ ‫حوار مع ا ُملفكِّر اللبناين مشري باسيل عون‬

‫اإلنساين‬
‫ّ‬ ‫يت‪ ،‬وتقويم املسلك‬ ‫اخلي عىل شحذ الوعي الذا ّ‬ ‫الرصني ّ‬ ‫يب ال‬ ‫أن مراعاة التد ُّين العر ّ‬‫إذا ما انتبذ الدين انتباذ ًا قاطع ًا‪ .‬غري َّ‬
‫واجلامعي‪ .‬فالفلسفة قادر ٌة عىل اقرتاح سبيل من احلكمة‬ ‫ّ‬ ‫الفردي‬
‫ّ‬ ‫لكل رضوب األحكام الدين َّية التي تروم فرضها‬ ‫يعني اخلضوع ّ‬
‫يتخ ّطى معاثر اإليديولوجيات الدين َّية والسياس َّية‪ ،‬ألن احلكمة‬
‫َّ‬ ‫املؤسسة الفقه َّية‪ .‬حتدَّ ثت فلسف َّي ًا‪ ،‬ولكنَّني تناولت أيض ًا املسائل‬ ‫َّ‬
‫التي تقرتحها الفلسفة ال ترمي إىل التس ّلط واهليمنة‪ ،‬بل تصبو‬ ‫يب من اضطرابات والتواءات‪.‬‬ ‫السياس َّية يف ما تو ّلده يف الوعي العر ّ‬
‫أن الفلسفة‬ ‫احلقيقي‪ .‬ومع َّ‬
‫ّ‬ ‫الداخيل‬
‫ّ‬ ‫يف صميم متط ّلباهتا إىل التسامل‬ ‫يب ال جيوز أن ُتمل‬ ‫أن الفلسفة يف العامل العر ّ‬ ‫واليقني يف هذا ك ّله َّ‬
‫أي انخراط رسا ّيل‬ ‫تنأى بنفسها‪ ،‬يف نظر الكثريين من أهلها‪ ،‬عن ّ‬ ‫يب‬
‫هذين احلقلني األساس َّيني الناشطني يف توجيه الوعي العر ّ‬
‫يب املعارص‬ ‫أن الواقع العر َّ‬ ‫مبارش يف معرتك احلياة اإلنسان َّية‪ّ ،‬إل َّ‬ ‫واجلامعي‪ .‬لذلك أعاين للفلسفة مقام ًا خطري ًا يف تقويم‬ ‫ّ‬ ‫الفردي‬
‫ّ‬
‫يستنجد الفلسفة استنجا َده بسبيل النجاة األخري‪ .‬فالفلسفة تز ّين‬ ‫اعوجاجات اإليديولوجيات الدين َّية والسياس َّية يف املجتمعات‬
‫املعريف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النظري‪ ،‬والوضوح‬
‫ّ‬ ‫البرشي بصفات اجلالء‬ ‫ّ‬ ‫الكائن‬ ‫نصار‬ ‫العرب َّية كا َّفة (راجع النقد الصائب الذي أنشأه ناصيف َّ‬
‫اخللق‪ ،‬والصرب‬ ‫الذهني‪ ،‬واجلرأة النقد َّية‪ ،‬واالبتكار ّ‬ ‫ّ‬ ‫والصفاء‬ ‫وعبد اهلل العروي يف افتضاح معايب اإليديولوجيا)‪ .‬فالفيلسوف‬
‫اإلنساين‬
‫ّ‬ ‫صفات البناء‬
‫ُ‬ ‫الكياين‪ .‬وهذه ك ّلها‬
‫ّ‬ ‫الوديع‪ ،‬والتواضع‬ ‫يب يتحتَّم عليه أن جيبه استبداد األنظومتني الدين َّية والسياس َّية‬ ‫العر ُّ‬
‫يب‬
‫مسلك اإلنسان العر ّ‬ ‫ُ‬ ‫السليم الذي ينبغي أن ينهض عليه‬ ‫ويفضح تواطؤمها املشني‪ .‬الفلسفة العرب َّية املقبلة لن تقوم عىل‬
‫املعارص‪.‬‬ ‫األول تس ّلطت‬ ‫ألن خمتربات العامل َّ‬ ‫الكوين‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫اإلبيستمولوجي‬
‫ّ‬ ‫الفتح‬
‫املتطورة‪.‬‬‫ّ‬ ‫يف ما يشبه االحتكار عىل مصادر املعرفة العلم َّية‬
‫أن الفلسفة هي وحدها التي‬ ‫املجتمعات العرب َّية َّ‬
‫ُ‬ ‫إذا أدركت‬ ‫أسس القوم َّيات امللتبسة‪،‬‬ ‫والفلسفة العرب َّية املقبلة لن تنهض عىل ُ‬
‫يب اخلطري‪ ،‬أفردت هلا‬ ‫املسلكي العر ّ‬
‫ّ‬ ‫تستطيع تقويم االعوجاج‬ ‫القومي كحافز‬‫ّ‬ ‫ألن املجتمعات البرش َّية املعارصة ال تثق باالنتامء‬ ‫َّ‬
‫مقام ًا خليق ًا برسالتها اإلصالح َّية‪ ،‬وأقبلت إليها تستنطقها عن‬ ‫األخوة اإلنسان َّية‬
‫َّ‬ ‫الثقايف‪ ،‬وطفقت تنحو اليوم منحى‬‫ّ‬ ‫لإلبداع‬
‫التارخيي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أفضل الس ُبل التي تُفيض هبا إىل تغيري وقائع وجودها‬ ‫الكون َّية التي تتجاوز حدود العرق واملنبت واللغة واملذهب‪.‬‬
‫فال العلوم وحدها‪ ،‬والعرب ال تصيب منها ّإل النزر اليسري‪،‬‬ ‫الفلسفة العرب َّية جيب يف بداية األمر أن تتم ّثل إسهامات الفلسفة‬
‫املتطرفة املهيمنة‪ ،‬وقد ذهبت بالعرب مذهب ًا قص َّي ًا‬ ‫ّ‬ ‫وال الدين َّيات‬ ‫يب األرحب‪ .‬يف ذلك‬ ‫الكون َّية وتك ُّيفها يف قرائن االنتامء العر ّ‬
‫يف التعانف الفتّاك‪ ،‬وال السياس َّيات االستبداد َّية االنتهاز َّية‪ ،‬وقد‬ ‫ال للفلسفة يف املجتمعات العرب َّية يتجاوز‬‫أسترشف مقام ًا جلي ً‬
‫كل طاقة فيهم عىل االنتفاض والصحوة‬ ‫أهلكت يف العرب َّ‬ ‫جمرد التم ّثل واهلضم‪.‬‬‫َّ‬
‫والنهضة‪ ،‬تستطيع أن تساعد املجتمعات العرب َّية عىل اخلروج‬
‫من املحنة الوجود َّية التي تصيبها يف أعمق أعامق كياهنا‪ .‬وحدها‬ ‫أن املجتمعات العرب َّية املعارصة ختتزن بعض ًا من‬ ‫حقيقة األمر َّ‬
‫األخالقي البنَّاء‪ ،‬تستطيع‬
‫ّ‬ ‫الفلسفة‪ ،‬وقد انتهجت منهج التفكّر‬ ‫احلكمة اإلنسان َّية الرفيعة ُدفنت يف مطاوي النصوص العرب َّية‬
‫اإلنساين‬
‫ّ‬ ‫أن متنح املجتمعات العرب َّية الطاقة السليمة عىل التفاعل‬ ‫الرتاث َّية وبعض النصوص العرب َّية احلديثة‪ ،‬ورست أيض ًا يف‬
‫واحلر َّية الذات َّية والعدالة والتضامن‬
‫ّ‬ ‫املستند إىل ق َيم الكرامة الفرد َّية‬ ‫اختبارات األفراد واجلامعات التي تقطن األرض العرب َّية‪ .‬يف‬
‫واألخوة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يستشف املرء أبعاد ًا أخالق َّية سن َّية‬
‫ُّ‬ ‫ثنايا هذه احلكمة اإلنسان َّية‬
‫جيدر بالفلسفة أن تُعمل الفكر فيها‪ ،‬وتستخرج منها أصوهلا‬
‫عالو ًة عىل ذلك‪َّ ،‬‬
‫فإن الفلسفة تنشئ يف الذات اإلنسان َّية كفاء ًة‬ ‫املعريف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النظري‬
‫َّ‬ ‫األنرتوبولوج َّية القصوى‪ ،‬وترسم هلا نطاقها‬
‫أهل‬‫نقد َّي ًة وجود َّي ًة هي غري الكفاءة العلم َّية التي يبحث عنها ُ‬ ‫أن الفلسفة العرب َّية املقبلة هي فلسفة وجود َّية حكْم َّية‬ ‫اعتقادي َّ‬
‫املجتمعات العرب َّية‪ ،‬والس َّيام الش َّبان والشا َّبات‪ ،‬لالنعتاق من‬ ‫يب وللمجتمعات‬ ‫أخالق َّية عمل َّية تستطيع أن تنهج لإلنسان العر ّ‬
‫ٍ‬
‫نجوة‬ ‫مظامل الدهر واكتساب املناصب اإلدار َّية التي تضعهم يف‬ ‫واالقتصادي‪.‬‬ ‫والسيايس‬ ‫االجتامعي‬ ‫سبيل اإلصالح‬‫َ‬ ‫العرب َّية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هتذب الكيان‬ ‫أن الكفاءة العلم َّية املحضة ال ّ‬
‫من العوز‪ .‬واحلال َّ‬ ‫ألن العرب تستكره بالسليقة التجريدات‬ ‫أقول هذا القول َّ‬
‫ضم ًة من املعلومات والتقنيات‬ ‫تزوده َّ‬‫الفردي‪ ،‬بل ّ‬
‫َّ‬ ‫اإلنساين‬
‫َّ‬ ‫ثم‪،‬‬ ‫الواقعي‪ .‬من َّ‬‫ّ‬ ‫احلس‬
‫التبص ّ َّ‬ ‫ُّ‬ ‫النظر َّية املاورائ َّية‪ ،‬وتستحسن‬
‫الذهني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلدراكي‬
‫ّ‬ ‫التفوق‬
‫ُّ‬ ‫واملهارات التي جتعله يف موقع‬ ‫ّ‬
‫احلث‬ ‫يب املعارص‬ ‫فإن من ألزم واجبات الفلسفة يف العامل العر ّ‬ ‫َّ‬

‫‪239‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫املهدي مستقيم‬ ‫حوارات‬

‫* هل هناك أزمة هو َّية عند العرب واملسلمني اليوم؟‬ ‫أ َّما الكفاءة النقد َّية الوجود َّية التي تزرعها الفلسفة يف الوعي‬
‫للتبص احلكيم يف أحوال‬ ‫ُّ‬ ‫يب‬
‫تؤهل اإلنسان العر َّ‬
‫فإنا ّ‬ ‫اإلنساين‪َّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ألن اإلسالم تستلهمه‬ ‫دعني أحتدَّ ث عن العرب وحدهم‪َّ ،‬‬ ‫واجلامعي‪ ،‬ومتكّنه من التمييز‬
‫ّ‬ ‫الفردي‬
‫ّ‬ ‫الزمان وحتدّ يات التاريخ‬
‫شعوب وأقوا ٌم تنتمي إىل بيئات وجمتمعات قد خيتلف بعضها عن‬ ‫ٌ‬ ‫احلصيف واحلكم الصائب عىل وقائع املستجدّ ات الطارئة عىل‬
‫الفاريس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يب هو غري اإلسالم‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بعض اختالفا جل َّيا‪ .‬فاإلسالم العر ُّ‬ ‫يب‬
‫حياته‪ .‬وحدها الفلسفة الوجود َّية األخالق َّية هت ّيئ لإلنسان العر ّ‬
‫األندونييس‪ ،‬واإلسالم‬
‫ّ‬ ‫األفغاين هو غري اإلسالم‬ ‫ُّ‬ ‫واإلسالم‬ ‫الكياين األشمل الستثامر طاقات وجوده يف بناء فرد َّية‬ ‫َّ‬ ‫اإلمكان‬
‫األفريقي‪ .‬أنا أعرف العرب‬ ‫ّ‬ ‫واهلندي هو غري اإلسالم‬‫ُّ‬ ‫الصيني‬
‫ُّ‬ ‫ذات َّية واعية مسؤولة مستقيمة مساملة متعاطفة تُفيض بالذات َّيات‬
‫اللبناين ينتمي إىل البيئة العرب َّية‪ ،‬وقد‬‫ّ‬ ‫معرف ًة قريب ًة َّ‬
‫ألن االجتامع‬ ‫الفرد َّية العرب َّية املتقابلة إىل مع َّية متكاملة متضامنة يف سبيل خري‬
‫ُأخذت يف أوسع مدلول هلا‪ ،‬ولئن ا َّدثرت بناه الثقاف َّية واالجتامع َّية‬ ‫اإلنساين األرحب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االجتامع‬
‫والسياس َّية برداءات منسوجة يف عمق مفارقات الذات اللبنان َّية‪.‬‬
‫ألنم‬ ‫أن العرب‪ ،‬حتَّى اليوم‪ ،‬يسرتهبون الغري َّية َّ‬ ‫أنا أعلم َّ‬ ‫أن واقع الفلسفة الراهن يف املجتمعات العرب َّية ال‬ ‫بيد َّ‬
‫يسرتهبون الذات َّية‪ ،‬أي يسرتهبون ما تنطوي عليه ذات َّيتُهم من‬ ‫مقبل ال حمالة عىل اعتامد السبيل‬ ‫يب ٌ‬ ‫يدل عىل َّ‬
‫أن اإلنسان العر َّ‬ ‫ُّ‬
‫والتطور‪ .‬لذلك أعاينهم عىل الدوام‬ ‫ُّ‬ ‫قابل َّيات لالنتفاض والتجديد‬ ‫التبص يف حقائق وجوده‬ ‫ُّ‬ ‫الفلسفي يف اكتساب مهارات‬ ‫ّ‬
‫أهل‬ ‫يف موضع التق ّلب امل ّطرد بني الذات واآلخر‪ .‬وقد وصفهم ُ‬ ‫التارخيي‪ .‬واألسباب شتَّى‪ .‬منها ما يتَّصل بأزمة اهلو َّية العرب َّية‪،‬‬‫ّ‬
‫املعرفة فيهم‪ ،‬وهم ك ُثر (هشام جعيط‪ ،‬أزمة الثقافة اإلسالم َّية‪،‬‬ ‫ومنها ما يتَّصل بإغواءات اليقين َّيات الدين َّية اجلاهزة‪ ،‬ومنها ما‬
‫بأنم يف وضع الضياع ال يفقهون‬ ‫بريوت‪ ،‬دار الطليعة‪َّ ،)2000 ،‬‬ ‫املتوهجة بوعود‬ ‫ّ‬ ‫يتَّصل بإغراءات اإليديولوج َّيات السياس َّية‬
‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫احلنيني بالعرص‬
‫ّ‬ ‫من احلداثة سوى استعادة االرتباط‬ ‫الفالح والتس ّلط‪ ،‬ومنها ما يتَّصل أيض ًا بمقام الفلسفة يف‬
‫الذهبي‪ ،‬فيام احلداثة هي يف عمق متط ّلباهتا قطيعة معرف َّية شامل ٌة‬ ‫ّ‬ ‫يب املعطوب‪ .‬ال بدَّ ‪ ،‬إذ ًا‪،‬‬ ‫الكوين ويف الزمن العر ّ‬
‫ّ‬ ‫زمن العوملة‬
‫مع املايض‪.‬‬ ‫من التد ُّبر الصبور ملواجهة هذه األسباب التي تعيق ازدهار‬
‫الفلسفة يف املجتمعات العرب َّية املعارصة‪ .‬فالفلسفة ال حتمل‬
‫التأزم يف املجتمعات العرب َّية الضياع بني الرتاث‬ ‫من عالمات ّ‬ ‫اخللبة‪ ،‬وال تذيع استباقات األوطوب َّيات‬ ‫الديني ّ‬
‫ّ‬ ‫وعود الرجاء‬
‫إبداعات‬
‫ُ‬ ‫واحلداثة‪ .‬فالناس يف املجتمعات العرب َّية تستهوهيم‬ ‫السياس َّية املثال ّية املتأللئة‪ ،‬وال تقبض عىل مقاليد الفتوحات‬
‫مقتضياتا يف نطاق‬
‫ُ‬ ‫احلداثة يف جماالت العلوم والتقانة‪ ،‬وختيفهم‬ ‫العلم َّية التقن َّية الزاهية‪ .‬هي أفقر العلوم قاطب ًة‪ ،‬ولكنَّها ُ‬
‫أفعل‬
‫العلوم اإلنسان َّية‪ ،‬والس َّيام الدين َّية منها‪ .‬يف القرون اخلمسة األخرية‬ ‫الس ُبل يف حترير الذات اإلنسان َّية من أوهام السعادة الزائفة‪،‬‬
‫العرب آل ًة علم َّي ًة واحد ًة ذات منفعة كون َّية‪ ،‬ومل يكتبوا‬ ‫ُ‬ ‫مل خيرتع‬ ‫والفالح امللتوي‪ ،‬واإلنجاز الرديء‪.‬‬
‫هز املشاعر‬ ‫نبي جربان خليل جربان‪َّ ،‬‬ ‫كتاب ًا واحد ًا‪ ،‬يف ما خال ّ‬
‫الناس يف مجيع أصقاع األرض‪ .‬وهم ما‬ ‫ُ‬ ‫وحرك الضامئر وقرأه‬ ‫َّ‬ ‫الوجودي‬
‫ّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ّ‬ ‫ال ينقذ املجتمعات العرب َّية ّإل التفكُّر‬
‫كل هو َّية ثقاف َّية هي يف ذاهتا‬‫الفذة‪ُّ .‬‬
‫فتئوا يتحدَّ ثون عن هو َّيتهم ّ‬ ‫خضم األزمة‬ ‫ّ‬ ‫النقدي البنّاء‪ .‬هذا يقيني الثابت يف‬ ‫ّ‬ ‫األخالقي‬
‫ّ‬
‫فذة إذا ما استطاعت أن تُفصح عن ذاهتا من غري أن تُلغي اهلو َّيات‬ ‫ّ‬ ‫الكيان َّية التي تعصف باملجتمعات العرب َّية‪ .‬وال ينفعنا اهلروب‬
‫األخرى‪ ،‬وإذا ما هت َّيأ هلا أن تُغني البرش َّية بقيمها الرفيعة‪ .‬أفال‬ ‫املرتهلة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إىل حلول ومه َّية نستخرجها إ َّما من أنظوماتنا الدين َّية‬
‫يليق بنا‪ ،‬واحلال هذه‪ ،‬أن نتواضع وأن نسائل أنفسنا عن أسباب‬ ‫املتفسخة‪ ،‬وإ َّما من اسرتاتيج َّياتنا‬ ‫ّ‬ ‫وإ َّما من أيديولوجياتنا القوم َّية‬
‫الضحل؟ املعادلة شديدة‬ ‫ْ‬ ‫يب‬
‫الثقايف املريع يف هذا الزمن العر ّ‬‫ّ‬ ‫عقمنا‬ ‫السياس َّية العقيمة‪ .‬مثل هذه الفلسفة تتناول املكانز احلكْم َّية التي‬
‫نفسه باالستناد إىل ثوابت‬ ‫يب َ‬ ‫عرف اإلنسان العر ُّ‬ ‫اإلرباك‪ .‬فإذا َّ‬ ‫املجتمعات العرب َّية يف قاع تراثاهتا‪ ،‬فتستخرج منها ق َيم‬ ‫ُ‬ ‫ختتزهنا‬
‫تراثه‪ ،‬أوشك أن خيرج من احلداثة ويناصبها العداء‪ .‬وإذا أقبل إىل‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫األصالة الراقية وعنارص اإلغناء الرفيع التي حيتاج إليها‬
‫استثامر مكتسبات احلداثة املعرف َّية يف التعريف بنفسه‪ ،‬استشعر يف‬ ‫يب القادرة‬ ‫التارخيي العر ّ‬
‫ّ‬ ‫يب املعارص يف استنباط معاين الوجود‬ ‫العر ُّ‬
‫يت واخليانة احلضار َّية‪ .‬األخطر يف ذلك‬ ‫باطنه شيئ ًا من التنكُّر الذا ّ‬ ‫اإلنساين القويم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عىل إهلام املسلك‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪240‬‬
‫حوارات‬ ‫حوار مع ا ُملفكِّر اللبناين مشري باسيل عون‬

‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سبيل إىل مداناة الذات العرب َّية من غري اعتبار األصل‬ ‫أن املجتمعات العرب َّية ال تستطيع اآلن أن تُفصح عن نفسها ال‬ ‫ك ّله َّ‬
‫مقوالت اهلو َّية‬
‫ُ‬ ‫اإلسالمي ال ُيطيق أن تُنسب إليه‬
‫َّ‬ ‫أن األصل‬ ‫غري َّ‬ ‫الفكري الراقي‪ ،‬وال يف اخلروج من سياق احلداثة‬ ‫ّ‬ ‫يف هدأة التأ ُّمل‬
‫بعضهم َّ‬
‫أن‬ ‫التي ابتدعتها العقالن َّية الغرب َّية احلديثة‪ .‬لذلك يظ ّن ُ‬ ‫وأسئلتها اجلارفة‪ .‬مجيع االجتهادات العرب َّية يف اإلفصاح عن هو َّية‬
‫يتصور هو َّيته بمعزل‬ ‫َّ‬ ‫يب ال يستطيع عىل اإلطالق أن‬ ‫اإلنسان العر َّ‬ ‫الذات اجلامع َّية أتت يف سياق التشنُّج واملواجهة واالحرتاب‪.‬‬
‫أن املسألة تقوم يف تعيني هو َّية اإلسالم‪ .‬عن‬ ‫عن إسالمه‪ .‬غري َّ‬ ‫خضم معاداة‬‫ّ‬ ‫أن العرب اعتادوا املجاهرة باهلو َّية الذات َّية يف‬ ‫ذلك َّ‬
‫أي إسالم يتحدَّ ث السلف ُّيون املنادون بأصالة اهلو َّية اإلسالم َّية‬ ‫ّ‬ ‫اآلخرين‪ ،‬أو حتَّى باالستناد إىل نفي اآلخرين‪ .‬فليس من إثبات‬
‫الديني‬
‫ُّ‬ ‫الفكر‬
‫ُ‬ ‫أي إسالم يتحدَّ ث‬ ‫يف مواجهة الغرب؟ وعن ّ‬ ‫للذات العرب َّية من دون استحضار الغري َّية اآلثمة وحماكمتها‪.‬‬
‫اإلحيائي الراغب يف تشذيب املجتمعات اإلسالم َّية‬ ‫ُّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫ُّ‬ ‫أقدر الناس‬ ‫إن العرب ُ‬ ‫وقد قال نبهاء الفكر يف الذات العرب َّية‪َّ :‬‬
‫تصور الدين احلنيف؟ وعن‬ ‫من رواسب االنحطاط والشطط يف ُّ‬ ‫يف املجاهبة وأعجز الناس يف اإلبداع‪ .‬أفال يستطيع العرب أن‬
‫أي إسالم يتحدَّ ث املسلمون العلامن ُّيون املعارصون‪ ،‬عىل ق ّلتهم‬ ‫ّ‬ ‫التعرض‬ ‫ُّ‬ ‫يعرفوا أنفسهم من دون‬ ‫يتحدَّ ثوا عن ذات َّيتهم وأن ّ‬
‫احلر ودائرة التدبري‬ ‫وضعفهم‪ ،‬حني يفصلون بني دائرة اإليامن ّ‬ ‫لآلخرين ومقاضاهتم وإدانتهم؟‬
‫يب املعارص؟‬
‫املدين يف نطاق االجتامع العر ّ‬
‫ّ‬
‫التأزم أيض ًا انبثاث قيم البداوة العرب َّية يف‬ ‫ُّ‬ ‫ومن عالمات‬
‫هذه األسئلة وغريها هي التي ينبغي التصدّ ي هلا حني يتحدَّ ث‬ ‫وعي املجتمعات العرب َّية املعارصة‪ .‬فالعصب َّية واملروءة والرشف‬
‫اإلنسان عن أزمة اهلو َّية يف املجتمعات العرب َّية املعارصة‪ .‬وحني‬ ‫رواسب ثاوية‬
‫ُ‬ ‫واملكابرة احلرب َّية اجلهاد َّية واالستبداد‪ ،‬هذه ك ّلها‬
‫يقارن املرء بني املجتمعات العرب َّية واملجتمعات الغرب َّية (أورو ّبا‬ ‫واجلامعي‪ .‬وليس من سبيل‬ ‫ّ‬ ‫الفردي‬
‫ّ‬ ‫يب‬
‫يف أعمق أعامق الوعي العر ّ‬
‫أن التدبري‬ ‫يتبي له َّ‬ ‫والواليات املتَّحدة وكندا وأسرتاليا)‪َّ ،‬‬ ‫يب حيدّ د هو َّيته باالستناد‬ ‫أن اإلنسان العر َّ‬‫إىل االنعتاق منها طاملا َّ‬
‫احلضاري الذي أفىض هبذا الغرب إىل التمييز بني دائرة اإليامن‬ ‫َّ‬ ‫إىل هذه الرواسب اهلدَّ امة‪ .‬وإذا ما تناول املرء املجتمعات الغرب َّية‬
‫االجتامعي هو الذي نحت للمجتمعات‬ ‫ّ‬ ‫الفردي ودائرة االنتامء‬
‫ّ‬ ‫يب بقيم احلداثة الغرب َّية وقيم ما بعد‬ ‫وقارن فيها ق َيم التقليد الغر ّ‬
‫الغرب َّية مالمح خصوص َّيتها الثقاف َّية بعد سقوط الدولة الدين َّية‬ ‫أن قيمة اخلضوع يف‬ ‫احلداثة الغرب َّية‪ ،‬وجد‪ ،‬عىل سبيل املثال‪َّ ،‬‬
‫يب يف التمييز بني‬ ‫املسيح َّية فيها‪ .‬فهل جيوز اعتامد املثال الغر ّ‬ ‫يت يف‬ ‫األنظومة التقليد َّية الغرب َّية ناهضتها قيمة االنعتاق الذا ّ‬
‫كثري من‬ ‫الدين َّيات واملدن َّيات يف فضاء الثقافة العرب َّية املعارصة؟ ٌ‬ ‫األنظومة احلديثة الغرب َّية‪ ،‬وما لبثت أنظومة ما بعد احلداثة أن‬
‫الفكري الرصني يعتربون هذا املسعى من املستحيالت‬ ‫ّ‬ ‫أهل التد ُّبر‬ ‫مثال عىل‬ ‫يت‪ .‬هذا ٌ‬ ‫عارضت القيمتَني بقيمة التش ّظي أو التبعثر الذا ّ‬
‫ألن املجتمعات اإلسالم َّية ال تعرف يف أصل‬ ‫احلضار َّية القصوى‪َّ ،‬‬ ‫اجلدل َّية احل َّية التي ترسي يف رشايني املجتمعات الغرب َّية املعارصة‬
‫اإلسالمي‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وألن الوعي‬ ‫نشأهتا متييز ًا واضح احلدود بني املجالني‪،‬‬ ‫احلاملة يف وعيها ملآثر هذه األنظومات الثالث‪ .‬أ َّما يف املجتمعات‬
‫اجتامعي‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي كنمط حياة‬
‫َّ‬ ‫واجلامعي خيترب الدين‬
‫َّ‬ ‫الفردي‬
‫َّ‬ ‫العرب َّية فالتنازع عىل أشدّ ه بني اخلصوص َّية الذات َّية والغري َّيات‬
‫سيايس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ثقايف‬
‫ّ‬ ‫اإلتيان بمثال جد ّيل‬‫ُ‬ ‫املطبقة من اخلارج‪ .‬وقد يكون يف املستطاع‬
‫يب املذكور‪ .‬فالعصب َّية خت ّفف من غلوائها يف‬ ‫يب شبيه باملثال الغر ّ‬
‫عر ّ‬
‫كيف يمكن إذ ًا أن تتفاعل املجتمعات العرب َّية هي‬ ‫العييل بني أبناء‬
‫ّ‬ ‫االجتامعي قيم ُة التامسك والتضامن‬ ‫ّ‬ ‫يب‬
‫الوعي العر ّ‬
‫واستنهاضات احلداثة الغرب َّية التي تضع الدين يف موضع االختبار‬ ‫أن هذا ك ّله ينبغي أن يستقيم يف مرسى من‬ ‫األرسة الواحدة‪ .‬غري َّ‬
‫ثمة س ُب ٌل كثرية؛ منها أن يعمد ُ‬
‫أهل‬ ‫احلر؟ َّ‬‫الفردي ّ‬
‫ّ‬ ‫يت‬
‫الوجداين الذا ّ‬
‫ّ‬ ‫املراجعة النقد َّية الذات َّية الرصينة املوضوع َّية النزهية‪ .‬وهذا ما تفتقر‬
‫املجتمعات العرب َّية إىل ابتكار حداثة إسالم َّية لصيقة بالرتاث‬ ‫محى انتفاضاهتا العنف َّية اهلدَّ امة‪.‬‬ ‫املجتمعات العرب َّية يف َّ‬
‫ُ‬ ‫إليه‬
‫يب‪ ،‬عىل نحو ما جيتهد يف بنائه طه عبد الرمحن يف كثري من‬ ‫العر ّ‬
‫العناء واإلسقاط واملغاالة (روح احلداثة‪ .‬املدخل إىل تأسيس‬ ‫جمرد‬ ‫أن أزمة اهلو َّية يف املجتمعات العرب َّية تتجاوز َّ‬‫شك يف َّ‬
‫ال َّ‬
‫يب‬
‫احلداثة اإلسالم َّية)‪ .‬ومنها أن حيفر املرء يف حتت َّيات الرتاث العر ّ‬ ‫التحوالت التي طرأت عىل األنظومة الثقاف َّية التقليد َّية‬
‫ُّ‬ ‫التحري عن‬
‫ّ‬
‫اإلسالمي ليستخرج منه قابل َّيات ذات َّية ملؤاتاة احلداثة الغرب َّية‬
‫ّ‬ ‫خطري بني اهلو َّية واإلسالم‪ ،‬إذ ال‬ ‫ٌ‬ ‫مزج‬
‫يب ٌ‬‫العرب َّية‪ .‬يف الوعي العر ّ‬

‫‪241‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫املهدي مستقيم‬ ‫حوارات‬

‫تتمسك به وتفرضه عىل‬


‫يليق بشعوب القرن احلادي والعرشين أن َّ‬ ‫حممد أركون يف كثري من اجلرأة‬ ‫السائدة‪ ،‬عىل نحو ما يذهب إليه َّ‬
‫سبب‬
‫أن هذا املكتسب هو ٌ‬‫الذات اجلامع َّية وعىل اآلخرين إذا ثبت َّ‬ ‫اإلسالمي‪ .‬نحو اخلروج من‬ ‫ّ‬ ‫واحلصافة واإلبداع (حترير الوعي‬
‫الدموي الفتّاك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مبارش لالقتتال‬
‫ٌ‬ ‫يب‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان العر ُّ‬ ‫السياجات الدوغامئ َّية املغلقة)‪ .‬ومنها أن يكتفي‬
‫الديني وينهل منها أسباب‬ ‫ّ‬ ‫بموارد التفكّر التي ينطوي عليها تراثه‬
‫الثقايف الوحيد الذي فيه‬ ‫ُّ‬ ‫سياق احلداثة الغرب َّية هو السياق‬ ‫الديني‬
‫ّ‬ ‫منعته وفالحه وسعادته‪ ،‬عىل نحو ما يدّ عيه ُ‬
‫أهل الفكر‬
‫التجديدي يف وعي الشعوب‬ ‫ّ‬ ‫مجيع مساعي االجتهاد‬ ‫ُ‬ ‫تنخرط‬ ‫السلفي املعارص يف كثري من التل ُّبد والرتاخي واالستسهال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يب‬
‫العر ّ‬
‫كل رضوب‬ ‫واألمم واملجتمعات املعارصة‪ ،‬وفيه أيض ًا تنسلك ُّ‬ ‫يب يف هو َّيتهم‬‫أصحاب الفكر العر ّ‬
‫ُ‬ ‫يف مجيع هذه احلاالت‪ ،‬ينظر‬
‫أن القرائن‬ ‫املواجهات احلضار َّية اإلجياب َّية والسلب َّية‪ .‬يف اعتقادي َّ‬ ‫العرب َّية‪ ،‬شاؤوا أم أ َبوا‪ ،‬نظر ًة مق ّيد ًة بام أنتجته احلداثة الغرب َّية من‬
‫ألي شعب من‬ ‫الثقاف َّية والسياس َّية واالقتصاد َّية الكون َّية ال تتيح ِّ‬ ‫تصورات ومفاهيم ومقوالت تبني الذات الفرد َّية واجلامع َّية عىل‬ ‫ُّ‬
‫الشعوب أو أل َّية مجاعة من اجلامعات أن تنعزل عن هذا السياق‬ ‫الوعي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أصول ثابتة يطمئ ُّن إليها‬
‫أرشت‬
‫ُ‬ ‫املهيمن‪ .‬ال بدَّ إذ ًا من العودة إىل نظر َّية الدوائر التي‬
‫إليها يف حديثي‪ .‬للعرب ح ُّقهم يف صوغ هو َّيتهم باالستناد إىل‬ ‫إن أزمة اهلو َّية العرب َّية واإلسالم َّية نامجة عن‬ ‫أعود فأقول َّ‬
‫ما يستصفونه من جوهر َّملاع يف إسالمهم‪ .‬وللغرب أيض ًا ُّ‬
‫احلق‬ ‫األديان التوحيد َّية‪ ،‬والس َّيام‬ ‫ُ‬ ‫خلف َّية املفاضلة التي تنتظم فيها‬
‫يف ابتكار صياغة جديدة هلو َّيته‪ .‬وكذلك األمر يف املجتمعات‬ ‫ٍ‬
‫اليهود َّية واإلسالم‪ ،‬واملسيح َّية أيض ًا ولكن يف قدر يتضاءل‬
‫أن صوغ اهلو َّيات ال جيوز‬ ‫اآلسيو َّية واألفريق َّية والالتين َّية‪ .‬بيد َّ‬ ‫أثره شيئ ًا فشيئ ًا من األنظومة الالهوت َّية‪ .‬فاجلامعات الدين َّية التي‬ ‫ُ‬
‫أن ُيفيض بالبرش إىل تشييد جدران االنعزال والكراهية‪ .‬فاألرض‬ ‫اإلبراهيمي ال تقوى عىل االنعتاق من ذهن َّية‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫الرتاث‬ ‫تستلهم‬
‫واحد ٌة عىل اختالف رسومها اجلغراف َّية‪ ،‬تعاين أشدَّ رضوب‬ ‫االستعالء واالستكبار‪ ،‬ولئن غ ّلفت هذا ك َّله بمضامني اهلداية‪،‬‬
‫تنوع األردية الثقاف َّية التي يتد ّثر‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واإلنسان واحدٌ عىل ُّ‬ ‫االستنزاف‪.‬‬ ‫الروحي‪ ،‬والفوز‬ ‫ّ‬ ‫الرقي‬
‫ّ‬ ‫رسالة‬ ‫هداية األمم األخرى‪ ،‬والرسالة‪،‬‬
‫الوجودي‪ .‬والكينونة واحد ٌة عىل‬ ‫هبا‪ ،‬يعاين أقسى ألوان العذاب‬ ‫واحلق‬ ‫مجيع األمم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫بالسعادة‪ ،‬سعادة اإلنسان وسعادة اإلنسان َّية‪ُ .‬‬
‫أمر أنواع اإلمهال والتشويه‪.‬‬ ‫تعاقب جت ّلياهتا وانحجاباهتا‪ ،‬تعاين َّ‬ ‫عنارص شتّى من اهلداية والرسالة وا ّدعاء‬ ‫َ‬ ‫ُيقال‪ ،‬حتتضن يف وعيها‬
‫التفوق‪.‬‬‫التفوق‪ ،‬وليس للغرب أن يدَّ عي ُّ‬ ‫ليس للعرب أن يدَّ عوا ُّ‬ ‫أن مجيع األمم ال تستعيل عىل اآلخرين‬ ‫الفوز بالسعادة‪ .‬بيد َّ‬
‫تنوع انتامءاهتم‪ ،‬هي إىل التصايف والرتاحم‬ ‫حاجة الناس‪ ،‬عىل ُّ‬ ‫كل عنارص اجلدَّ ة‬ ‫تنقض عليهم لتُبطل هلم يف حضاراهتم َّ‬ ‫وال ُّ‬
‫صميم الذات اإلنسان َّية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫استبطنت‬
‫َ‬ ‫والتحاب والتضامن‪ .‬فإذا‬
‫ّ‬ ‫والفرادة والتاميز‪ .‬مشكلة اهلو َّية اإلسالم َّية ناشبة يف هذه اخللف َّية‬
‫اإلنساين يروم الفوز بيشء من اهلناء والسعادة‬ ‫َّ‬ ‫وجدت َّ‬
‫أن الكائن‬ ‫َ‬ ‫أن املجتمعات العرب َّية واإلسالم َّية تنظر إىل‬ ‫االستعالئ َّية‪ .‬فطاملا َّ‬
‫فلننهض مجيع ًا‪ ،‬معتصمني بأهبى ما‬ ‫ْ‬ ‫التارخيي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يف غضون وجوده‬ ‫ستتعمق وتتفاقم‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫فإن أزمتها‬‫ذاهتا نظر َة استعالء عىل اآلخرين‪َّ ،‬‬
‫كوين يرقى بنا‬‫ٍّ‬ ‫إنساين‬
‫ٍّ‬ ‫تزخر به مستودعاتُنا احلكْم َّية‪ ،‬إىل مرشوع‬ ‫أن كثري ًا من األمم اآلسيو َّية التي ال تنتمي إىل تراث‬ ‫يف حني َّ‬
‫يضج يف خاليانا‪.‬‬ ‫إىل مستوى الوعي الذي ُّ‬ ‫الشعب املختار واأل َّمة املصطفاة تدرك خصوص َّياهتا إدراك ًا هن َّي ًا‬
‫ال جيعلها فوق األمم األخرى وال حتت األمم األخرى‪ .‬فام الذي‬
‫يسوغ للعرب وللمسلمني أن يتعالوا عىل اآلخرين؟ التاميز ليس‬ ‫ّ‬
‫يت وحسب‪.‬‬ ‫احلضاري الذا ّ‬
‫ّ‬ ‫مهامز لالبتهاج‬
‫ٌ‬ ‫سبب ًا لالستعالء‪ ،‬بل هو‬
‫حني يتع ّلم العرب واملسلمون فضيلة التواضع والتساوي مع‬
‫حيرروا أنفسهم من أزمة اهلو َّية الذات َّية‪ .‬وال‬ ‫اآلخرين‪ ،‬يمكنهم أن ّ‬
‫تتصور متايزها وخصوص َّياهتا‬ ‫َّ‬ ‫أن األمم ك ّلها ُيعوزها أن‬ ‫شك يف َّ‬ ‫َّ‬
‫النسبي القابل‬
‫ّ‬ ‫التارخيي‬
‫ّ‬ ‫احلضاري‬
‫ّ‬ ‫وفراداهتا يف صورة االكتساب‬
‫للمساكنة اهلن َّية مع اكتسابات األمم األخرى والقابل للمراجعة‬
‫حضاري‪ ،‬مهام عال شأنُه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الذات َّية النقد َّية َّ‬
‫اخللقة‪ .‬وما من مكتسب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪242‬‬
‫بريشة الفنان طارق عبيد من تونس‬
‫حوارات‬

‫حوار مع الناقد واألكاديمي‬


‫المغربي سعيد يقطين‬

‫إعداد‪ :‬عيل صديقي*‬

‫أهم جمدّ دي‬


‫أهم رموز الدرس النقدي الرسدي احلديث باملغرب‪ ،‬وأحد ّ‬ ‫ُيعدُّ الناقد والباحث األكاديمي الدكتور سعيد يقطني أحد ّ‬
‫هذا الدرس‪ ،‬وذلك من خالل الدراسات واألبحاث األكاديم َّية الرصينة التي أنجزها‪ ،‬والتي تندرج ضمن مرشوع رسدي طموح‪ ،‬يروم‬
‫تصور نظري متكامل يتجاوز‬
‫إغناء مكتبة نقد الرسد باملغرب والعامل العريب‪ ،‬وهيدف إىل تطويره عرب تطوير أدواته املنهج َّية‪ ،‬وعرب تقديم ُّ‬
‫املقاربات التبسيط َّية والتجزيئ َّية التي ال تستند إىل أ َّية مرجع َّية‪.‬‬

‫إن املرشوع النقدي الذي يمتلكه سعيد يقطني ممتدٌ زمني َا؛ فهو يشمل عدد ًا من الدراسات واألبحاث التي صدرت خالل أكثر من ثالثة‬ ‫َّ‬
‫أهله لتحقيق ذلك عمق تكوينه املعريف‪ ،‬وسعة ثقافته‬ ‫رحب معرف َّي ًا؛ ألنَّه يصل احلارض األجنبي باملايض األهيل‪ ،‬وقد َّ‬
‫ٌ‬ ‫عقود من الزمن‪،‬‬
‫وتنوع اهتامماته البحث َّية‪ ،‬وطول مدارسته النصوص الرسد َّية العرب َّية واألجنب َّية‪ ،‬احلديثة والقديمة‪.‬‬
‫املنهج َّية‪ُّ ،‬‬

‫لقد قدَّ م يقطني قراءات نظر َّية وتطبيق َّية جا َّدة لعدد من النصوص اإلبداع َّية الرسد َّية‪ ،‬القديمة واحلديثة‪ ،‬وأصدر عدد ًا من الدراسات‬
‫النقد َّية‪ ،‬منها عىل سبيل املثال ال احلرص‪ :‬حتليل اخلطاب الروائي (الزمن ـ الرسد ـ التبئري) (‪ ،)1989‬انفتاح النص الروائي‪ :‬النص ‪ -‬السياق‬
‫(‪ ،)1989‬الرواية والرتاث الرسدي‪ ،‬من أجل وعي جديد بالرتاث (‪ ،)1992‬ذخرية العجائب العرب َّية‪ :‬سيف بن ذي يزن (‪ ،)1994‬الكالم‬
‫واخلرب‪ :‬مقدّ مة للرسد العريب (‪ ،)1997‬قال الراوي‪ :‬البنيات احلكائ َّية يف السرية الشعب َّية (‪ ،)1997‬الرسد العريب‪ :‬مفاهيم وجتليات (‪.)2006‬‬

‫إن الباحث مل يفته أن يتفاعل مع الثورة املعلومات َّية والتقن َّية التي يشهدها العامل املعارص‪ ،‬فأصدر يف جمال الرقم َّيات كتابني رائدين‪،‬‬
‫ثم َّ‬
‫مها‪ :‬من النص إىل النص املرتابط‪ ،‬مدخل إىل مجال َّيات اإلبداع التفاعيل (‪ ،)2005‬والنص املرتابط ومستقبل الثقافة العرب َّية (نحو كتابة عرب َّية‬
‫رقم َّية) (‪.)2008‬‬

‫من هنا ارتأت جملة يتفكَّرون إجراء هذا احلوار مع الناقد والباحث األكاديمي الدكتور سعيد يقطني‪ ،‬فمرحب ًا به‪ ،‬وله الشكر اجلزيل‬
‫أوالً وآخر ًا‪.‬‬

‫*****‬

‫* أكادميي من املغرب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪244‬‬
‫حوارات‬ ‫حوار مع الناقد واألكاديمي املغريب سعيد يقطني‬

‫التاريخ ومع الرتاث‪ .‬لك َّن التعامل اجلديد مع الرتاث يف الرواية‬ ‫أن املشهد‬
‫ثمة شبه إمجاع بني نقاد الروا َّية باملغرب‪ ،‬عىل َّ‬‫* َّ‬
‫اجلديدة متصل اتصاالً وثيق ًا بالتجريب‪ .‬فكام حاول صنع اهلل‬ ‫أن الرواية املغرب َّية قد شهدت‪،‬‬ ‫تطور‪ ،‬وعىل َّ‬
‫الروائي باملغرب قد َّ‬
‫إبراهيم (نجمة أغسطس) مث ً‬
‫ال اخلروج عىل النمط التقليدي يف‬ ‫ابتداء من سنوات التسعني من القرن املايض‪ ،‬عدَّ ة حتوالت‪،‬‬
‫الرواية الواقع َّية‪ ،‬رام الغيطاين (الزيني بركات) القصد نفسه يف‬ ‫أبرزها ظهور نمط جديد من الكتابة الروائ َّية‪ ،‬هو نمط الرواية‬
‫كتابة رواية تارخي َّية جديدة‪ ،‬تقيم صورة أخرى من صور التعامل‬ ‫تطورت؟ وهل‬ ‫أن الرواية املغرب َّية قد َّ‬
‫الرتاث َّية‪ .‬فهل ترى مع هؤالء َّ‬
‫مع الرتاث‪.‬‬ ‫مرحلتي التقليد والتجريب إىل مرحلة التأصيل؟‬ ‫ْ‬ ‫انتقلنا فع ً‬
‫ال من‬
‫وماذا قدَّ م الرتاث الرسدي العريب‪ ،‬العامل والشعبي‪ ،‬للرواية املغرب َّية‬
‫مناهج خمتلفة ومقاربات‬
‫ُ‬ ‫* جتاذبت نقا َد الرسد احلديث باملغرب‬ ‫ثم‪ ،‬باملقابل‪ ،‬ما الذي قدَّ مه الرسد العريب‬ ‫ال ومضمون ًا؟ َّ‬ ‫شك ً‬
‫رواد نقد الرسد باملغرب‪ ،‬إىل املنهج‬
‫متباينة‪ ،‬فمن املنهج التارخيي مع َّ‬ ‫احلديث للموروث الرسدي العريب؟‬
‫ثم املنهج البنيوي‪ ،‬واألسلويب‪ ...،‬وغريها‪ .‬كيف‬ ‫السوسيولوجي‪َّ ،‬‬
‫تنظر إىل هذا التعدُّ د املنهجي الذي طبع نقد الرسد باملغرب؟ وما‬ ‫أن سؤالك يتمحور حول العالقة بني الرواية والرتاث‬ ‫أرى َّ‬
‫رأيك يف ظاهرة «التكامل املنهجي» التي دعا إليها كثري من النقاد‬ ‫إمجاالً‪ .‬وأبدأ‪ ،‬جواب ًا عن هذا السؤال‪ ،‬بالتأكيد عىل َّ‬
‫أن الرواية‬
‫املغاربة؟‬ ‫ال عىل مستوى الكم‪ .‬لقد تزايد االهتامم هبا‬ ‫تطورت فع ً‬
‫املغرب َّية َّ‬
‫إبداع ًا وقراءة‪ ،‬إىل درجة َّأنا أصبحت بمثابة الرجز للشعر‪ِّ ،‬‬
‫وكأن‬
‫تعدُّ د املناهج يف جتربة ثقاف َّية مع َّينة دليل عىل الغنى والتنوع‪.‬‬ ‫هبا باتت «رجز» النثر‪ .‬لكن هذا ال يعني َّأنا مالت بكاملها نحو‬
‫ولست ممَّن يفاضلون بني املناهج إذا كانت تستعمل بشكل مالئم‬ ‫الرتاث‪ .‬صحيح صار الرتاث بعض ًا من العوامل التي ترتادها‪،‬‬
‫ودقيق‪ .‬أ َّما إذا كانت غري ذلك فال يمكننا احلديث عن عمل‬ ‫وليس ذلك إىل احلدّ الذي يمكن معه اعتبار تبلور نوع روائي‬
‫منهجي‪ ،‬وإن تل َّبس ببعض مالمح أو إجراءات بعض املناهج‪.‬‬ ‫جديد‪ ،‬يمكن أن نسميه «الرواية الرتاث َّية»‪ .‬قد نتحدّ ث‪ ،‬مثالً‪ ،‬عن‬
‫لكل منها خصائصها‬ ‫لك َّن التعدُّ د يعني أنَّنا أمام مناهج خمتلفة ٍّ‬ ‫«الرواية العرفان َّية» التي ابتدعها الكاتب عبد اإلله بنعرفة‪ ،‬لكن‬
‫املميزة‪ ،‬ومقدّ ماهتا ومبادئها ومقاصدها‪ .‬فكيف يمكن اجلمع بني‬ ‫كل ذلك ال عالقة له بـ«تأصيل» الرواية‪ .‬فال عالقة يف رأيي بني‬ ‫ّ‬
‫إن أكرب أسطورة «منهج َّية» يف الوطن العريب هي‬ ‫عدَّ ة مناهج؟ َّ‬ ‫التقليد والتجريب والتأصيل‪ ،‬والنظر النقدي العريب الذي يربط‬
‫القول بـ«التكامل املنهجي»‪ .‬لقد ْأز َرت هذه األسطورة بالنقد‬ ‫تأصلت الرواية العرب َّية منذ‬ ‫بينها أسري فهم «تقليدي» للرواية‪ .‬لقد َّ‬
‫العريب‪ ،‬ومل جتعله خيرج عن دائرهتا‪َّ ،‬‬
‫فظل يدور يف حلقة مفرغة‪.‬‬ ‫أن صارت نوع ًا رسدي ًا ينتج فيه الكتاب‪ ،‬ويتعامل معه َّ‬
‫القراء‪ .‬أ َّما‬
‫فكل من يكتب كتاب ًا يسهل عليه ا ّدعاء «التكامل املنهجي»‬ ‫ُّ‬ ‫إن الرواية‬ ‫القول بالتأصيل فقد جاء ر َّد فعل عىل الذين يقولون َّ‬
‫النص األديب الذي هو‬ ‫بحجة أنَّه ال منهج يستطيع التعامل مع ّ‬ ‫َّ‬ ‫نوع دخيل جاءنا عن طريق الغرب‪ .‬ولذلك عُدَّ ت الرواية التي‬
‫كل من ال يريد وجع‬ ‫متعدّ د الدالالت‪ ،...‬إنَّه منفذ يسلك منه ُّ‬ ‫وكأنا تسعى إىل جتاوز «هتمة» تقليد اآلخر عن‬ ‫تنهل من الرتاث‪َّ ،‬‬
‫إن املنهج الواحد‬‫الرأس‪ ،‬أو املحاسبة عىل االشتغال بمنهج حمدَّ د‪َّ .‬‬ ‫أن الرواية نوع رسدي ارتبط‬ ‫طريق «تأصيل» الرواية‪ .‬يف حني َّ‬
‫يستدعي االنطالق من علم حمدَّ د‪ .‬وغياب االشتغال يف نطاق أحد‬ ‫بتحوالت ورشوط تارخي َّية واجتامع َّية وثقاف َّية‪ .‬أ َّما التقليد فإنَّه‬
‫ُّ‬
‫علوم األدب املعروفة يف الغرب ال يمكنه إال أن ُيسلم إىل األخذ‬ ‫يتصل بالتجربة الروائ َّية التي ارتبطت بالواقع َّية‪ ،‬ومل تغدُ هذه‬
‫باملناهج املتعدّ دة املتنافرة‪ .‬هناك فرق بني «املنهج التكاميل» وتعدُّ د‬ ‫الرواية «تقليد َّية» أو كالسيك َّية إال مع ظهور الرواية اجلديدة يف‬
‫األول يعني اهلجانة‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫االختصاصات وتداخلها‪ .‬فإذا كان َّ‬ ‫فرنسا َّأول األمر‪ .‬والتجريب الذي ظهر يف الرواية العرب َّية يف‬
‫يتم االنفتاح‬
‫الثاين يستدعي توظيف منهج منطلق‪ ،‬ومن خالله ُّ‬ ‫السبعينيات أتى ليقدّ م جتربة روائ َّية خمتلفة عن الرواية التي أرسى‬
‫عىل املناهج األخرى‪.‬‬ ‫أن هذه املفاهيم‪ ،‬ال‬ ‫دعائمها حمفوظ يف الثالث َّية‪ .‬هكذا يبدو لنا َّ‬
‫يمكن إال أن نتعامل معها تعامال يراعي خصوصيتها يف سياقاهتا‬
‫* ارتباط النقد األديب ‪ -‬مناهج ومفاهيم‪ -‬بالفلسفة ال ختفى‬ ‫املختلفة‪ .‬أ َّما استغالل الرتاث العريب يف الكتابة الروائ َّية العرب َّية‬
‫أن قراءاتك يف جمال‬
‫مه َّيته عىل أحد‪ ،‬وقد ذكرت يف حوار لك َّ‬
‫أ ِّ‬ ‫فهو ليس وليد اليوم؛ فالروايات األوىل حاولت إقامة عالقة مع‬

‫‪245‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫عيل صديقي‬ ‫حوارات‬

‫كتطوير ملفهوم النص‪ ،‬ال يمكن إال أن يسلمني إىل االنتقال إىل‬ ‫عمقت لديك اإليامن بقيمة املنهج‪،‬‬ ‫الفلسفة والعلوم اإلنسان َّية قد َّ‬
‫«النص املرتابط»‪ ،‬باعتباره تطوير ًا للنص مع ظهور الوسائط‬ ‫ووجهتك نحو االهتامم بطريقة التفكري والكتابة بدل االكتفاء‬ ‫َّ‬
‫حتوالً من جمال إىل آخر‪ ،‬كام فعل‬ ‫املتفاعلة‪ .‬لذلك فليس األمر ُّ‬ ‫بالوقوف عىل املضامني‪ .‬فام الذي يمكن للفلسفة أن تقدِّ مه لإلبداع‬
‫بعض الدارسني العرب الذين ط َّلقوا ممارسة نقد َّية اشتغلوا هبا‬ ‫خاصة؟‬
‫وللرواية َّ‬
‫عامة‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫أن عليهم إهناءها‪ ،‬واخلروج منها إىل ممارسة‬ ‫مدة‪ ،‬ثم ارتأوا َّ‬
‫حتول‬
‫إن ما قمت به ُّ‬ ‫عم كانوا يشتغلون به‪َّ .‬‬ ‫ختتلف جذري ًا َّ‬ ‫أي عمل فكري أو ثقايف أو اجتامعي ال ُبدَّ له من‬ ‫َّ‬
‫إن َّ‬
‫طبيعي يواكب التغريات وينخرط فيها هبدف توسيع املرشوع‬ ‫االنطالق من فلسفة مع َّينة‪ ،‬ومن رؤية حمدَّ دة للعامل ولألشياء‪.‬‬
‫الذي ابتدأت به منذ القراءة والتجربة (‪ .)1985‬ولعل ما جعلني‬ ‫والعمل األديب ليس نشاز ًا يف هذا النطاق‪ .‬فمختلف النظريات‬
‫بالسديات‪ .‬ولو مل‬‫بالرقميات هو اشتغايل َّ‬ ‫أنتهي إىل االهتامم َّ‬ ‫تتأسس عىل قاعدة فكر َّية أو فلسف َّية‪ ،‬وهي التي تضمن‬ ‫واملناهج َّ‬
‫بالسديات‪ ،‬باعتبارها عل ًام‪ ،‬ما كنت أسعى إىل تطوير‬‫أكن مهت ًام َّ‬ ‫مكوناته وعالقاته الداخل َّية‬
‫ّ‬ ‫قراءة النص باإلحاطة بمختلف‬
‫بـ«السديات‬
‫َّ‬ ‫السديات‪ ،‬بجعلها منفتحة عىل ما يمكن تسميته‬ ‫َّ‬ ‫ومع العامل اخلارجي‪ ،‬أي َّأنا متكِّننا من ممارسة قراءة مالئمة‬
‫السديات النَّصية)‪ ،‬إىل النص‬‫الرقمية»‪ .‬فمن النص (موضوع َّ‬ ‫تتأسس عىل خلف َّية إبستيمولوج َّية جتنّبنا االنزالق وراء األهواء‬‫َّ‬
‫الرقمية» بشكل طبيعي بال إكراه‬ ‫«السديات َّ‬ ‫املرتابط‪ ،‬ننتقل إىل َّ‬ ‫ّ‬
‫واالنطباعات‪ ،‬وما شاكل ذلك من األمور التي يتعثر فيها النقد‬
‫وال تبديل‪.‬‬ ‫أن املبدع أو الروائي ال ُبدَّ له من االنطالق من رؤية‬ ‫العريب‪ .‬كام َّ‬
‫مع َّينة للعامل‪ ،‬وإال فهو سارد قصص هبدف تزجية الوقت‪ ،‬بال‬
‫ثت يف كتابك النص املرتابط ومستقبل الثقافة العرب َّية‬
‫* حتدَّ َ‬ ‫مقاصد وال غايات‪.‬‬
‫إن الرتقيم ُيعدُّ مرحلة‬ ‫عن عالقة التحقيق بالرتقيم‪ ،‬وقلت َّ‬
‫متقدّ مة بالقياس إىل التحقيق‪ ،‬ودعوت إىل علم حتقيق جديد‪،‬‬ ‫* عرف القارئ العريب الدكتور سعيد يقطني باحث ًا متميز ًا يف‬
‫وأي مستقبل له؟‬
‫سميته الرتقيم‪ ،‬فام مالمح هذا العلم؟ ّ‬
‫َّ‬ ‫السد قديمه وحديثه‪ ،‬يمتلك مرشوع ًا طموح ًا يتَّسم بام‬ ‫جمال َّ‬
‫تتَّسم به املشاريع عادة من انتظام واستمرار َّية يف اإلنتاج‪ ،‬ومن‬
‫تلق هذه الدعوة االستجابة املالئمة‪ ،‬لسبب‬ ‫لألسف الشديد مل َ‬ ‫وحدة يف املنهج واملوضوع واهلدف‪ ،‬ومزج بني التنظري والتطبيق‪،‬‬
‫بسيط هو أنَّنا مل ندخل بعد املرحلة الرقم َّية‪ ،‬رغم توظيفنا للوسائل‬ ‫وقابل َّية لإلغناء والتطوير؛ ومن مظاهر ذلك ما قدَّ مته من قراءات‬
‫الرقم َّية اجلديدة‪ .‬فإذا كانت الطباعة جعلت إمكانية حتويل النص‬ ‫جا َّدة‪ ،‬نظر َّية وتطبيق َّية‪ ،‬يف املنجز الرسدي العريب القديم واحلديث‪.‬‬
‫املخطوط ممكنة عن طريق ظهور علم التحقيق الذي يقارن بني‬ ‫حتولت الحق ًا من جمال الرسد إىل جمال الكتابة‬ ‫أن اهتامماتك َّ‬ ‫غري َّ‬
‫النسخ‪ ،‬ويقدّ م النص األقرب إىل الصيغة األصل َّية‪ ،‬مع استخدام‬ ‫الرقم َّية واإلبداع التفاعيل‪ ،‬وأصدرت يف هذا السياق دراسات‬
‫تسهل عملية قراءة النص املخطوط‪،‬‬ ‫اهلوامش والفهارس التي ّ‬ ‫أهلتك لتكون أبرز من ّظري الكتابة الرقم َّية والنص‬ ‫رائدة وجا َّدة َّ‬
‫فإن الرقامة‪ ،‬وهي تتيح لنا إمكانية التعامل مع النص املطبوع‬ ‫َّ‬ ‫السديات إىل‬ ‫التحول من َّ‬
‫ُّ‬ ‫رس هذا‬
‫املرتابط يف العامل العريب‪ .‬فام ُّ‬
‫بشكل يتالءم مع الشاشة‪ ،‬تتطلب علم الرتقيم الذي جيعل إمكانية‬ ‫الرقميات؟ وهل من عالقة تربط بني املرشوعني؟‬ ‫َّ‬
‫إن صيغة‬ ‫حتويل ذلك النص ممكنة لكي تتالءم مع الوسيط اجلديد‪َّ .‬‬
‫(‪ )PDF‬ليست سوى نسخ للكتاب املطبوع وتقديمه كام هو‪ .‬لك َّن‬ ‫ال اعترب بعض الباحثني والكتَّاب تأليفي لكتاب «من‬ ‫فع ً‬
‫علم الرتقيم يستدعي اعتامد النص املرتابط الذي يتالءم مع‬ ‫الرقميات‪،‬‬ ‫حتوالً من َّ‬
‫السديات إىل َّ‬ ‫النص إىل النص املرتابط» ُّ‬
‫الوسيط اجلديد‪ .‬وهذا العلم يتط َّلب معرفة بالنص‪ ،‬وبالتحقيق‪،‬‬ ‫وكأن بذلك ط َّلقت الرسد‪ ،‬ودخلت جماالً ال عالقة له‬ ‫ِّ‬
‫تسهل عملية قراءة النص املطبوع بشكل‬ ‫وبالتقنيات اجلديدة التي ّ‬ ‫إن اهتاممي‬‫لكن العكس هو الصحيح‪َّ .‬‬‫باألدب‪ ،‬وال بالرسد‪َّ .‬‬
‫مناسب للوسيط‪ .‬كيف يمكننا قراءة لسان العرب أو املوسوعات‬ ‫بـ«اخلطاب»‪ ،‬يف حتليل اخلطاب الروائي (‪ ،)1989‬وتوسيعي‬
‫العرب َّية القديمة بدون حتويل هذا النص من خالل عملية الرتقيم‪،‬‬ ‫له باستعامل النص يف انفتاح النص الروائي (‪ ،)1989‬واشتغايل‬
‫نص مرتابط؟‬ ‫إىل ٍّ‬ ‫بـ«التفاعل النيص» يف الرواية والرتاث الرسدي (‪،)1992‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪246‬‬
‫حوارات‬ ‫حوار مع الناقد واألكاديمي املغريب سعيد يقطني‬

‫أن «أسطورتك» الشخص َّية الكربى هي‬


‫* ذكرت يف حوار لك َّ‬
‫إنجاز حتليل رسدي للقرآن الكريم‪ ،‬فام هي بعض تفاصيل هذه‬
‫«األسطورة»؟‬

‫تبي يل من خالل قراءات متعدّ دة لكثري من النصوص األدب َّية‬ ‫َّ‬


‫وغريها‪ ،‬ومن االطالع عىل الكثري من النصوص الدين َّية التوحيد َّية‬
‫كل‬‫أي نص يف ِّ‬ ‫أن القرآن الكريم ال يمكن أن يعلو عليه ُّ‬ ‫وغريها‪َّ ،‬‬
‫وأن الرسد القرآين ال يكاد يضاهيه أي رسد‪ .‬لذلك‬ ‫تاريخ البرشية‪َّ .‬‬
‫لدي من اطالع عىل النظريات واملناهج‬ ‫فكَّرت‪ ،‬بناء عىل ما تراكم َّ‬
‫أن القرآن الكريم جدير بأن نشتغل به بطريقة‬ ‫الرسد َّية املختلفة‪َّ ،‬‬
‫جديدة‪ ،‬مستفيدين يف ذلك من خمتلف القراءات والتفسريات‬
‫القديمة واحلديثة‪ ،‬مقدِّ مني بذلك قراءة خمتلفة‪.‬‬

‫* هل يمكن أن تقدّ م لنا فكرة عن مشاريعك املستقبل َّية‬


‫األخرى؟‬

‫هناك أعامل كثرية؛ بعضها شبه جاهز وال يتط َّلب سوى وقت‬
‫عيل استخراجه من التزامات كثرية ومتعدّ دة إلهنائه‬ ‫مناسب‪َّ ،‬‬
‫ال للنرش‪ ،‬وبعضها اآلخر ما يزال ينضج عىل نار هادئة‪.‬‬ ‫وجعله قاب ً‬
‫وهذه األعامل تتَّصل بام هو ثقايف‪ ،‬ورسدي‪ ،‬ورقمي‪.‬‬

‫‪247‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫مقاالت‬

‫ابن رشد‪ :‬فيلسوف الفصل‬

‫عبد السالم بنعبد العايل*‬


‫َّ‬

‫«ال ُبدَّ مع ذلك أن يسمع اإلنسان أقاويل املختلفني يف ِّ‬


‫كل يشء يفحص عنه‪ ،‬إن كان جيب أن يكون من أهل احلق»‪.‬‬
‫أبو الوليد بن رشد‬ ‫ ‬

‫وعىل رغم ذلك فليس هناك تعارض حقيقي بني املجالني‪،‬‬ ‫إن ابن رشد فيلسوف «الفصل» بال منازع‪.‬‬ ‫نستطيع أن نقول َّ‬
‫ومهمة الفيلسوف هي رفع هذا‬ ‫َّ‬ ‫جمرد تعارض ظاهري‪.‬‬ ‫بل هو َّ‬ ‫«شخصيتني ثقاف َّيتني» متاميزتني‪:‬‬
‫َّ‬ ‫فهو يرى َّأوالً يف شخصه‬
‫أن َّ‬
‫كل ما أ َّدى‬ ‫التعارض عن طريق التأويل‪ :‬و«نحن نقطع قطع ًا َّ‬ ‫ثم هو ينادي بالفصل بني ما للعلامء «أهل‬ ‫الفيلسوف والفقيه‪َّ ،‬‬
‫أن ذلك الظاهر يقبل التأويل‬ ‫إليه الربهان وخالفه ظاهر الرشع‪َّ ،‬‬ ‫الفطر الفائقة»‪ ،‬وما للعا َّمة‪ ،‬وأخري ًا فهو يدعو إىل الفصل بني هذه‬
‫يشك فيها مسلم»‪ .‬إنَّنا‬‫عىل قانون التأويل العريب‪ ،‬وهذه قض َّية ال ُّ‬ ‫العا َّمة‪ ،‬وبني اخلوض يف املسائل الكالم َّية‪.‬‬
‫بأن نظرة أهل الفلسفة إىل صناعتهم ال تكفي‬ ‫إذ ًا أمام فقيه يشعر َّ‬
‫لتعطيها الرشع َّية‪ ،‬لذا فهو يلجأ إىل إصدار فتوى يف املسألة و«بيان‬ ‫أن صاحب «فصل املقال»‬ ‫خيص النقطة األوىل‪ ،‬نحن نعلم َّ‬ ‫فيام ُّ‬
‫أن الدين يوجب النظر‬ ‫حكم الرشع يف علوم األوائل»‪ ،‬ليؤكد َّ‬ ‫متفردة يف تاريخ الفلسفة يف اإلسالم‪،‬‬
‫ُيشكِّل حالة تكاد تكون ِّ‬
‫أن الرشع أوجب النظر بالعقل يف املوجودات‬ ‫تقرر َّ‬
‫العقيل‪« :‬وإذا َّ‬ ‫شارح أرسطو يف الوقت‬
‫ُ‬ ‫مج ُع ُه بني الفقه والفلسفة‪ .‬فقد كان‬
‫وهي ْ‬
‫واعتبارها‪ ،‬وكان االعتبار ليس شيئ ًا أكثر من استنباط املجهول‬ ‫ذاته مصنِّف ًا لـ«بداية املجتهد وهناية املقتصد»‪ ،‬يامرس القضاء‪،‬‬
‫من املعلوم‪ ،‬واستخراجه منه‪ ]...[ ،‬فواجب أن نجعل نظرنا يف‬ ‫ويتمتَّع بمكانة اجتامعية مل يكن ليستمدَّ ها من حيث هو فيلسوف‪.‬‬
‫املوجودات بالقياس العقيل»‪.‬‬ ‫كام حاول ر َّد الفلسفة إىل أصوهلا‪ ،‬وانتقاد خمتلف التحريفات التي‬
‫وشاح أرسطو‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تعرضت هلا من ق َبل فالسفة اإلسالم ُ َّ‬ ‫َّ‬
‫ال يكتفي ابن رشد بإثبات رضورة الفلسفة اعتامد ًا عىل منطق‬
‫بالرجوع إىل املنطق األصويل‪.‬‬‫الفالسفة كام فعل املتقدِّ مون‪ ،‬وإنَّام ُّ‬ ‫مل يكن ابن رشد ينظر إىل هذا اجلمع بني الفقه والفلسفة عىل أنَّه‬
‫تؤسس صناعة ظن َّية معرف ًة برهانية؟ لكن ال ينبغي‬ ‫قد يقال كيف ّ‬ ‫«توفيق»‪ ،‬عىل نحو ما دعا إليه املتقدِّ مون عليه‪ .‬إال أنَّه مل يكن يرى‬
‫يتم من طرف فقيه يتمتَّع بـ«وجاهة‬ ‫أن هذا التأسيس ُّ‬ ‫أن ننسى َّ‬ ‫إن املقصد يف نظره واحد‬ ‫فيه كذلك ما يمكن أن ننعته بالفصام‪ .‬إذ َّ‬
‫اجتامع َّية»‪.‬‬ ‫احلق» واحلقيقة‬
‫فـ«احلق ال يضاد ّ‬
‫ّ‬ ‫سواء يف الدين أو يف الفلسفة‪.‬‬
‫يتوجه إليه كال اخلطابني؛ الديني‬ ‫واحدة‪ .‬االختالف فقط يف من َّ‬
‫الشيعة‬‫فإن فيلسوفنا يتش َّبث بـ«الفصل» بني َّ‬ ‫ومع ذلك َّ‬ ‫والفلسفي‪ :‬الرشيعة خطاب للناس كافة‪ ،‬أ َّما الفلسفة فهي علم‬
‫للشع‪ .‬الفلسفة هلا‬ ‫للشع َّ‬‫والفلسفة‪ .‬فام للفلسفة للفلسفة‪ ،‬وما َّ‬ ‫خيتص بعقول متميزة هي عقول «الراسخني يف العلم»‪« ،‬أهل‬ ‫ُّ‬
‫نظامها املعريف‪ ،‬هلا منطقها‪ .‬وعيب أصحاب الكالم َّأنم مل حيرتموا‬ ‫الفطر الفائقة»‪.‬‬
‫هذا «الفصل»‪ ،‬ومل يبقوا عىل التعارض القائم بني املنطق الربهاين‬
‫الذي تعتمده الفلسفة واخلطاب اجلديل السفسطائي الذي‬
‫اعتمدوه هم‪ ،‬حيث مل يكن هدفهم بناء احلقيقة وإنَّام التأثري يف‬ ‫* مفكر وأكادميي من املغرب‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪248‬‬
‫مقاالت‬ ‫ابن رشد‪ :‬فيلسوف الفصل‬

‫بأن االختالف بني ا ُملفك َِّر ْين ال يعود أساس ًا لسوء‬


‫قد ير ُّد البعض َّ‬ ‫اخلصم وهدم آرائه‪« ،‬أوقعوا الناس يف شنآن وتباغض وحروب‪،‬‬
‫وتبحر ذاك‪ ،‬وإنَّام لسبب أعمق‪ ،‬وهو نظرة ك ٍُّل منهام‬ ‫ُّ‬ ‫اطالع هذا‬ ‫وفرقوا الناس»‪.‬‬
‫الشع َّ‬‫ومزقوا َّ‬
‫َّ‬
‫إىل اخلطاب‪ :‬فالغزايل ينظر إىل اخلطاب يف مفعوله ( ‪les effets de‬‬
‫‪ ، )vérité du discours‬أ َّما شارح املعلم األول فيكتفي بالنظر‬ ‫األول معريف‪ ،‬إذ َّ‬
‫إن العلم‬ ‫هلذا االنتقاد للمتكلمني وجهان‪َّ :‬‬
‫إليه يف متاسكه وانسجامه املنطقي وحقيقته( (�‪La vérité du dis‬‬ ‫الذي يدَّ عونه ليس عل ًام بمقياس الفلسفة‪ ،‬والوجه الثاين يتعلق‬
‫‪ .)cours‬الغزايل ينشغل بـ«نظام اخلطاب»‪ ،‬أ َّما ابن رشد فبانتظامه‪.‬‬ ‫بالنتائج السياس َّية التي تنجم عن تعميم قضايا الكالم ليخوض‬
‫يعتمد شارح أرسطو عىل ما يقوله املعلم األول يف تصنيفه‬ ‫أن علم الكالم هو نقطة متاس الدين‬ ‫فيها عا َّمة الناس‪ .‬ذلك َّ‬
‫للخطاب‪ ،‬ويرى أنَّه ال ينبغي اخللط بني مستويات اخلطاب بل‬ ‫بالسياسة‪ ،‬إنَّه املجال الذي يسمح للدين بأن «يتس َّيس»‪ ،‬فتغدو‬
‫جيب «الفصل» بينها‪ .‬اخلطاب الربهاين ليس من مستوى العا َّمة‪،‬‬ ‫املسائل الكالمية قضايا سياس َّية يتصارع حوهلا «العا َّمة»‪ ،‬وهم‬
‫بل من اختصاص العلامء‪ ،‬وهؤالء هم الفالسفة «أهل الفطر‬ ‫بالتحديد غري مه َّيئني للخوض يف هذه املسائل املع َّقدة‪ ،‬ورسعان‬
‫الفائقة»‪« ،‬الراسخون يف العلم»‪ ،‬القادرون عىل التأويل بمعناه‬ ‫ما يقعون يف خالفات مفتعلة‪ .‬لذا وجب «إبطال علم الكالم» ألنَّه‬
‫العام وليس فحسب بمعناه الفقهي‪ .‬أ َّما العا َّمة فيكفيها اخلطاب‬ ‫منفذ العوام إىل قضايا ِخالف َّية ورصاعات سياس َّية‪ ،‬ومن هنا محلة‬
‫اجلديل الذي ُيقنع اجلمهور باعتامده عىل مقدِّ مات مشهورة‪.‬‬ ‫ابن رشد عىل األشاعرة‪ ،‬وعىل الغزايل بصفة أخص‪.‬‬

‫املهم هو‪ :‬ما هو أكثر اخلطابات‬ ‫أ َّما بالنسبة إىل الغزايل فليس ُّ‬ ‫نسوغ هجوم فيلسوفنا عىل الغزايل يف هذه النقطة‬ ‫كيف ِّ‬
‫العال الذي يتو َّفر عىل أكثر الصناعات برهان ًا؟‬‫ِ‬ ‫حقيقة؟ ومن هو‬ ‫«حجة اإلسالم» كان قد دعا‪ ،‬هو‬ ‫بالذات ونحن نعلم َّ‬
‫أن‬
‫َّ‬
‫لذا فهو مل يكن ليكتفي باالنتظام املنطقي معيار ًا للحقيقة‪ ،‬مل يقترص‬ ‫كذلك‪ ،‬إىل «إجلام العوام عن علم الكالم»‪ ،‬ورأى أنَّه ينبغي أن‬
‫عىل الوقوف عند الصالح َّية املنطق َّية للخطاب‪ ،‬بل أراد حماسبته‬ ‫يرتك العا َّمة «عىل سالمة عقائدهم التي اعتقدوها‪ ،‬وتعليمهم‬
‫من وجهة نظر مفعوله‪ :‬فعندما يستعرض يف «املنقذ» أصناف‬ ‫الكالم رضر حمض يف حقهم‪ ،‬إذ ر َّبام يثري هلم ش َّك ًا‪ ،‬ويزلزل‬
‫الطالبني ويقوم بتحليل خمتلف الطرق التي انتُهجت يف املعرفة‪،‬‬ ‫عليهم االعتقاد»؟‬
‫فإنَّه ال يعرض هلذه الطرق من حيث هي مناهج معرفة‪ ،‬وإنَّام‬
‫يسأل اخلطاب‪ ،‬كام يقول‪ ،‬من وجهة «اآلفات التي تتو َّلد عنه»‪،‬‬ ‫ال اختالف بني ابن رشد والغزايل يف املوقف من العا َّمة‪ :‬فال‬
‫حجة اإلسالم‪ ،‬حتى وإن كانت تؤدي إىل‬ ‫فهذه الطرق‪ ،‬يف نظر َّ‬ ‫هم إال بالعلم الديني يف حدوده الرضور َّية‬‫عالقة هلؤالء بالعلم‪ ،‬ال َّل َّ‬
‫فإن اآلفات التي تتولد عنها قد تقود‬ ‫معارف صادقة يف ذاهتا‪َّ ،‬‬ ‫خيص من‬ ‫التي حيتاجها املرء ليستقيم دينه‪ .‬االختالف بينهام هو ما ُّ‬
‫إىل الضالل‪ .‬وهذا ال يصدق عىل الفلسفة وحدها‪ ،‬وإنَّام حتى‬ ‫كل منهام بالعلامء‪ .‬فابن رشد ال يعرتف للغزايل بالعلم‪.‬‬ ‫يعنيه ٌّ‬
‫جتر البعض «إىل أن يكفر بالتقليد‬ ‫عىل املعارف الرياض َّية التي قد ُّ‬ ‫يقر له قرار‪ ،‬إذ «مل يلزم مذهب ًا من املذاهب يف‬ ‫فهو يف نظره ال ُّ‬
‫املحض»‪ ،‬أو املنطق الذي «ر َّبام ينظر فيه من يستحسنه ويراه‬ ‫كتبه‪ ،‬بل هو مع األشعر َّية أشعري‪ ،‬ومع الصوف َّية صويف‪ ،‬ومع‬
‫أن ما ُينقل عن أصحابه من الكفريات مؤيد بمثل‬ ‫واضح ًا فيظ ّن َّ‬ ‫الفالسفة فيلسوف»‪ .‬ال يعمل فيلسوف قرطبة هنا إال عىل ترديد‬
‫تلك الرباهني»‪ .‬فالضالل ليس بالرضورة أفكار ًا خاطئة‪ ،‬كام َّ‬
‫أن‬ ‫ما سبق أن قاله فالسفة األندلس قبله كابن باجة الذي كتب‪:‬‬
‫فإنا تعمل عمل احلقيقة‪.‬‬ ‫«الشبهة إذا انترشت» َّ‬ ‫«وهذا الرجل يبني من أمره أنَّه غالط ومغلط بخياالت احلق»‪،‬‬
‫أو كابن طفيل‪« :‬وأ َّما كتب الشيخ أيب حامد الغزايل فهي بحسب‬
‫إن حياة احلقيقة وانتشار األفكار وانتصارها ال يتو َّقفان يف نظر‬
‫َّ‬ ‫وحتل يف آخر‪ ،‬وتكفر بأشياء‪،‬‬ ‫خماطبته للجمهور‪ :‬تربط يف موضع‪ُّ ،‬‬
‫تروج هلا‪.‬‬
‫الغزايل عىل صدقها املنطقي‪ ،‬وإنَّام عىل السلطة التي ّ‬ ‫إن ابن رشد يذهب حتى الطعن يف مدى ا ّطالع‬ ‫ثم حت ّللها»‪ .‬بل َّ‬
‫العلم كام يقول «اإلحياء» «ال ُي َذ ُّم لعينه»‪،‬والكالم يتخذ معناه‬ ‫صاحب «مقاصد الفالسفة» عىل الفلسفة يف أصوهلا‪« :‬فإنَّه مل ينظر‬
‫من املنرب الذي يصدر عنه‪« .‬فإذا نسبت الكالم وأسندته إىل قائل‬ ‫الرجل إال يف كتب ابن سينا‪ ،‬فلحقه القصور يف احلكمة من هذه‬
‫َح ُسن فيه اعتقا ُدهم قبلوه وإن كان باطالً‪ ،‬وإن أسندته إىل من ساء‬ ‫اجلهة»‪.‬‬

‫‪249‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫السالم بنعبد العايل‬
‫عبد َّ‬ ‫مقاالت‬

‫يف اخلطاب املتامسك الذي يراعي قواعد املنطق ويتولد بفعل‬ ‫احلق بالرجال‪،‬‬ ‫فيه اعتقادهم ر ُّدوه وإن كان حق ًا‪ ،‬فأبد ًا يعرفون َّ‬
‫آلياته‪ .‬هذه احلقيقة قيلت واكتملت مع أرسطو‪ .‬ما يتب َّقى عىل‬ ‫وال يعرفون الرجال باحلق»‪ .‬هذا ما يؤكده كتاب «الفضائح»‪:‬‬
‫األول ممَّا علق هبا من شوائب‬ ‫الفيلسوف هو تطهري فلسفة املعلم َّ‬ ‫التشوق‬‫ُّ‬ ‫«فاليشء إذا نسب إىل مشهور بالفضل‪ ،‬يغلب عىل الطبع‬
‫الشاح‪ ،‬بمن فيهم‬ ‫جراء خمتلف التأويالت التي أعطاها إ َّياها ُّ َّ‬‫َّ‬ ‫إىل التش ُّبه به‪ ،‬فكم من طوائف رأيتهم اعتقدوا حمض الكفر تقليد ًا‬
‫فالسفة اإلسالم املتقدِّ مون‪ .‬ومن حيث هو فقيه‪ ،‬فقد جتنَّد‬ ‫ألفالطون وأرسطوطاليس ومجاعة من احلكامء قد اشتهروا‬
‫لبيان حكم الرشع اإلسالمي يف علوم األوائل و«بالتخصيص‬ ‫إن‬ ‫وحب التشبه باحلكامء»‪َّ .‬‬
‫ّ‬ ‫بالفضل وداعيهم إىل ذلك التقليد‬
‫الفلسفة وعلوم املنطق»‪ ،‬هبدف إعطاء رشع َّية للحقيقة الفلسف َّية‬ ‫ولعل هذا‬ ‫َّ‬ ‫األلفاظ ذاهتا تنطوي عىل مفعول يتجاوزها كألفاظ‪.‬‬
‫يف عامل اإلسالم‪ ،‬وإثبات كون «احلكمة صاحبة الرشيعة وأختها‬ ‫حجة اإلسالم عىل ترمجة لغة املنطق ونقلها‬ ‫يفس إحلاح َّ‬ ‫هو ما ِّ‬
‫الرضيعة»‪ .‬وعىل رغم ذلك فال ينبغي اخللط بني املجاالت‪ ،‬بل‬ ‫إىل لغة «القسطاس املستقيم» نظر ًا لإلحياء الذي لتلك األلفاظ‬
‫تلزم مراعاة «الفصل» بينها‪ :‬الفصل بني الفقه والفلسفة‪ ،‬بني‬ ‫ووقعها عىل اآلذان والعقول‪ ،‬فقيمة اللفظ ليست يف ذاته ويف ما‬
‫األقاويل السفسطائ َّية واجلدل َّية وبني األقاويل الربهان َّية‪ ،‬بني‬ ‫حيمله من معنى‪ ،‬وإنَّام يف مفعوله وما يتو َّلد عنه‪.‬‬
‫للخاصة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫اجلمهور وعلم الكالم‪ ،‬بني ما للعا َّمة وما‬
‫يفس كون الغزايل «ال يبقى عىل حال»‪ ،‬كام‬ ‫لعل هذا هو ما ِّ‬ ‫َّ‬
‫يؤاخذه عىل ذلك ابن رشد‪ .‬ذلك أنَّه مل يكن لريى مانع ًا يف أن‬
‫قوة األسلوب وغموضه يف بعض األحيان‪ ،‬وإىل براعة‬ ‫يعمد إىل َّ‬
‫اجلدل فال «ينهض ذا َّب ًا عن مذهب خمصوص»‪ ،‬بل «جيعل الفرق‬
‫إلب ًا واحد ًا عىل أعدائه‪َّ .‬‬
‫فإن سائر الفرق ر َّبام خالفونا يف التفاصيل‪،‬‬
‫يتعرضون ألصول الدين‪ ،‬فلنتظاهر عليهم‪ ،‬فعند الشدائد‬ ‫وهؤالء َّ‬
‫تذهب األحقاد»‪.‬‬

‫مل يكن فيلسوف قرطبة ليقنع هبذا الدور املشاغب للفلسفة‪ ،‬وال‬
‫ِ‬
‫«العال بام هو‬ ‫بأن هذا هو دور العقل وال هو دور ِ‬
‫العال‪ ،‬إذ‬ ‫ليقتنع َّ‬
‫عامل‪ ،‬إنَّام قصده طلب احلق‪ ،‬ال إيقاع الشكوك وحتيري العقول»‪.‬‬
‫جمرد «أقاويل كلها يف غاية‬ ‫أن ما يقوله الغزايل َّ‬ ‫لذا فقد َّ‬
‫ظل يعتقد َّ‬
‫أدل عىل ذلك من كونه سعى هو نفسه يف‬ ‫الوهن والضعف»‪ ،‬وال ّ‬
‫«املنقذ» إىل أن يقيم‪ ،‬إىل جانب الطرق التي يعرضها‪ ،‬طريق ًا أخرى‬
‫للمعرفة مصدرها نور النبيئني والصديقني «فأدوات العبادات كام‬
‫يقول‪ُ ،‬مقدّ رة من جهة األنبياء ال يدرك وجه تأثريها ببضاعة عقل‬
‫العقالء‪ ،‬بل جيب فيها تقليد األنبياء الذين أدركوا تلك اخلواص‬
‫النبوة ال ببضاعة العقل»‪ .‬إنَّه جحود للعقل كان ابن باجة قد‬ ‫بنور َّ‬
‫ر َّد عليه قبل ابن رشد عندما كتب‪« :‬وهذه الغاية التي ظنُّوها إذ ًا‬
‫عمل‬ ‫ال ال َ‬‫لو كانت صادقة [‪ ]...‬لبقي أرشف أجزاء اإلنسان فض ً‬
‫له‪ ،‬وكان وجو ُده باطالً»‪.‬‬

‫إن صاحب «فصل املقال» كان يتشبث‬ ‫خالصة القول إذ ًا َّ‬


‫تتجسد‬
‫َّ‬ ‫وأنا‬ ‫َّ‬
‫بأن طريق احلقيقة هي الفلسفة بمنطقها الربهاين‪َّ ،‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪250‬‬
‫بريشة الفنان عبد الرزاق امحامو من املغرب‬
‫مقاالت‬

‫الصوفي وتجربة «الحقيقة»‬


‫التأويل ُّ‬

‫سعيد بنگراد*‬

‫يستقر‬
‫ُّ‬ ‫املذاهب والفرق الدين َّية‪ ،‬بغاية االنزياح عن تفسري مشرتك‬ ‫إن قصد اللغة كان دائ ًام أوسع من قصد الذات التي تتكلم أو‬ ‫َّ‬
‫عىل معنى واحد يمكن أن يؤلف بني الضامئر والعقول‪ .‬وهو املبدأ‬ ‫وتعي وتفصل بني الكائنات واألشياء‬ ‫ّ‬ ‫تسمي‬
‫تكتب‪ .‬فهي ال ِّ‬
‫كل التيارات الصوف َّية عىل اختالف مشارهبا‪،‬‬ ‫ذاته الذي تبنَّته ُّ‬ ‫فحسب‪َّ ،‬إنا باإلضافة إىل ذلك توسع من ذاكرة الكون‪،‬‬
‫ال وحيد ًا نحو االستغراق يف ملكوت اهلل‪ .‬وذاك هو‬ ‫واختذته سبي ً‬ ‫فأي قول إنَّام هو يف‬
‫أي ختلق عوامل جديدة ال قبل للطبيعة هبا‪ّ .‬‬
‫دال عىل الرجوع والعودة‪ ،‬ومنه‬‫معنى التأويل يف اللغة ذاهتا‪ ،‬فهو ٌّ‬ ‫األصل استحضار لذات َّية الذي يتكلم واستثارة لذاكرة الكلامت‬
‫األول واملآل الذي يشري إىل مصري هنائي‪ ،‬أي ما يصري عليه‬ ‫اشتُق َ‬ ‫تدل وال تعني‪ ،‬بل‬ ‫أن الكلامت ال ُّ‬ ‫يف الوقت ذاته‪ .‬وهذا معناه َّ‬
‫«احلال»‪ .‬هناك رغبة عند الذات تدفعها إىل االستقرار عىل «معنى‬ ‫تشري إىل شخص يفكّر يف يشء ما (فالريي)‪ .‬لذلك عُدَّ التأويل‬
‫كيل» هو القصد النهائي من الواقعة‪ ،‬ما يوازي حاالت انصهار‬ ‫يف أكثر تعريفاته شيوع ًا حماولة الستعادة جتربة صيغت يف املعاين‬
‫التطهر يف املاء‪ ،‬أو ذوبان العاشق يف‬
‫ُّ‬ ‫املؤول يف موضوع تأويله‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫املضافة بعيد ًا عن املحددات التعيينية املبارشة‪ ،‬أو هو الكشف‬
‫جسد املعشوق‪ ،‬أو تش ُّبث الوليد بجسد أ ّمه‪ .‬وتلك هي احلاالت‬ ‫عن «مناطق» يف اإلنسان مل تستوعبها حاالت التمثيل التقريري‪.‬‬
‫كل يشء عدا‬ ‫جيسدها «مقام الغيبة» حيث يغيب الصويف عن ّ‬ ‫التي ّ‬ ‫يتعلق األمر بالبحث يف ذاكرة الوقائع ذاهتا عن قصد آخر غري ما‬
‫السكر»‪ ،‬حيث يتالشى‬ ‫حرضة اخلالق يف قلبه‪ ،‬أو تتحقق يف «مقام ُّ‬ ‫يقوله املنطوق أو املمثل فيها؛ ما يشكل استحضار ًا ملا استوطن‬
‫املتصوفة من حميطها لتذوب يف ذات اهلل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الكون وتتخلص الذات‬ ‫والرموز وجممل الصيغ املجاز َّية‪.‬‬
‫َ‬ ‫االستعارات‬

‫أن التأويل يف الطقس الصويف ال يقود إىل معنى‬ ‫وهو ما يعني َّ‬ ‫إن التأويل يف احلالتني مع ًا «نقل لظاهر اللفظ عن وضعه األصيل‬
‫َّ‬
‫قابل للتجيل داخل سياق خمصوص‪ ،‬بل يدعو إىل االنحالل يف‬ ‫إىل ما حيتاج إىل دليل لواله ما ت ُِرك ظاهر اللفظ» (لسان العرب)‪،‬‬
‫«عادة» سلوك َّية تفتح الذات عىل بارهيا ضمن حاالت انفعال‬ ‫أو هو «العدول باللفظ عن معناه الظاهر إىل معنى آخر ال دليل‬
‫مطلق‪ :‬قد تكون تلك هي احلاالت التي يشري إليها التطابق الكيل‬ ‫املؤول يف هذه السياقات جمتمعة ال‬
‫إن ّ‬ ‫عليه» (املعجم الكبري)‪َّ .‬‬
‫بني العالمة وموضوعها‪ :‬إلغاء للتوسط املفهومي واإلمساك‬ ‫يبحث عن معنى جاهز يف النص‪ ،‬بل يلهث وراء ما يمكن أن يقود‬
‫باملعي من خالل جوهر مفرتض وفق ما يؤدي إىل انتفاء مطلق‬ ‫َّ‬ ‫إىل استنفار ملخزون داليل‪ ،‬ال يشكّل الظاهر يف األلفاظ والوقائع‬
‫لكل تأويل‪ ،‬فالعالمة متوت حلظة انكفائها عىل ذاهتا‪َّ ،‬إنا ختتفي‬‫ّ‬ ‫سوى طبقة من طبقاته‪ .‬هناك تشكيك يف قدرة الكلامت عىل قول‬
‫لتسمي‪ ،‬أو « جتنح إىل تشكيل عادات هي الفعل العميل»‬ ‫يشء ما يصدق عىل حقيقة الكائنات واألشياء وحدها‪.‬‬
‫(بورس)‪ .‬يتعلق األمر بمحاولة لتقليص «الفجوة الفاصلة‬
‫بني املعرفة واحلس» (كريامص)‪ :‬جتليات انفجار الواحد الكيل‬ ‫إنَّه يتضمن‪ ،‬من هذه الزاوية‪ ،‬التفسري الباطني للنصوص‬
‫يف شظايا هي الظاهر أمام الذات‪ ،‬أو انجذاهبا نحو الوحدة‬ ‫يتضمن‬
‫َّ‬ ‫الدين َّية (نظرية املعاين األربعة يف الكتاب املقدَّ س)‪ ،‬كام‬
‫األول‪ ،‬يف الرحم أو يف‬ ‫املنشودة‪ ،‬هي الوعد بالعودة إىل األصل َّ‬ ‫تأ ُّمالت القباليني اليهود وغريهم‪ ،‬وتُصنَّف ضمنه أيض ًا شطحات‬
‫ال يف اليشء‪،‬‬‫تراب األرض‪ .‬فـ«احللول هو أن يكون اليشء حاص ً‬ ‫الغنوص َّية واهلر َمس َّية القديمة ّ‬
‫وكل التأويالت التي تبناها أصحاب‬
‫وتكون اإلشارة إىل أحدمها إشارة إىل اآلخر حتقيق ًا‪ ،‬أو تقدير ًا»‬
‫(الكل َّيات أليب البقاء الكفوي)‪.‬‬ ‫* مفكر وأكادميي من املغرب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪252‬‬
‫مقاالت‬ ‫الصويف وجتربة «احلقيقة»‬
‫التأويل ُّ‬

‫رشوره (نعوذ باهلل من رشور أنفسنا وسيئات أعاملنا)‪ .‬فإذا كان‬ ‫املتصوفة لأللوهة‪ :‬فهي «كنز خمبوء َّقرر‬
‫ّ‬ ‫تصور‬
‫وإىل ذلك استند ُّ‬
‫العقل يدرك التعدُّ د وحده‪ ،‬ففي املتصل انتفاء للمعنى‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫أن ُيعرف»‪« ،1‬كنت كنز ًا ال أعرف‪ ،‬فأحببت أن أعرف فخلقت‬
‫الوجدان الروحي ُيمسك باهلالمي وامللتبس وما استعىص عىل‬ ‫رس «إجياد الوجود» وغايتُه‪.‬‬‫خلق ًا فعرفتهم يب فعرفوين»‪ ،‬وذاك ُّ‬
‫التقاطبات الضد َّية‪ ،‬أي ما ليس مدرج ًا ضمن آليات التأ ُّمل‬ ‫واستناد ًا إىل هذه املعرفة أيض ًا َي ِصل املر ُء ذاتَه بذات خالقه‪« ،‬فمن‬
‫املنطقي‪ .‬يتعلق األمر باالنتشاء بام يمكن أن يوجد خارج الزمن َّية‬ ‫عرف نفسه فقد عرف ر َّبه»‪ .‬ففي «العامء كان ر ّبنا قبل أن خيلق‬
‫مشوهة للخلود»‪ ،‬كام أعلنت‬ ‫أن «الزمن حماكاة ّ‬ ‫وضدّ ها‪ ،‬ذلك َّ‬ ‫العامل»‪ ،‬أي كان يستوطن حالة «متصل» يضع مضمونه يف «الكيل»‬
‫الغنوص َّية عن ذلك منذ قرون خلت‪ ،‬وهي تذ ُّم اجلسد‪ /‬القرب‬ ‫فيه ال يف أجزائه‪ ،‬والكيل ليس بؤرة ملعنى عارض‪ ،‬بل هو املادة التي‬
‫إن اهلل يوجد خارج التقاطب‪ ،‬فهو «ليس حمصور ًا وال‬ ‫وتتربأ منه‪َّ .‬‬ ‫كل املعاين املمكنة‪ .‬إنَّه اجلوهر غري القابل للتصنيف‬ ‫تتشكل منها ُّ‬
‫املتصوفة‪« ،‬فهو ليس يف يشء أو من‬
‫ّ‬ ‫حمموالً وال حمدث ًا»‪ ،‬كام يقول‬ ‫كل احلاالت املفرتضة التي‬‫دال عىل ّ‬ ‫كل املعاين‪ ،‬إنّه ٌّ‬
‫ألنَّه هو أصل ّ‬
‫يشء أو عىل يشء»‪ ،‬ومن قال بذلك فقد أرشك‪.‬‬ ‫تفيض عنها التقابالت‪ :‬يتعلق األمر بحالة «وحدة الشهود»‪،‬‬
‫حيث ال يرى املرء سوى اهلل‪ ،‬أو هي حالة «وحدة الوجود» حيث‬
‫وبذلك تكون الصوف َّية أقرب التجارب إىل التأويل اهلرمويس‬ ‫كل ما يراه‪.‬‬‫يرى املرء اهلل يف ّ‬
‫(‪ )herméneutique‬وأشدّ ها ارتباط ًا بممكناته يف تناسل‬
‫السياقات رغبة يف الوصول إىل ما يشكّل «جوهر» املعنى‪ ،‬ما كان‬ ‫وبذلك عُدَّ التأويل عند الصويف أداة لتحرير املعنى من قيود‬
‫يشكّل عند البنيويني األوائل النقطة النهائ َّية التي ينتهي عندها ُّ‬
‫كل‬ ‫السياقات املألوفة‪ ،‬إنَّه ختليص للكلامت من طاقات التسمية‬
‫إمكان لوجود معنى‪ ،‬ما يوازي سدرة املنتهى أو «جوهر» الذات‬ ‫املتصوفة ممَّا تراه العني‬
‫ّ‬ ‫والتعيني داخلها‪ .‬ما يقود إىل انتشال الذات‬
‫«فالكل هلا‪ ،‬بل هي ُّ‬
‫الكل‬ ‫ُّ‬ ‫اإلهل َّية التي يفيض عنها الكون كله‪،‬‬ ‫عيان ًا‪ ،‬أو ممَّا يتشكل يف الذهن باعتباره معادالت لعامل مصدره‬
‫عينه» (ابن عريب)‪ ،‬ما يوازي بني «فيض» َّأول هو من عند اهلل‪،‬‬ ‫اإلحالة عىل التجربة املشرتكة وحدها‪ .‬لذلك انزاح الصويف‬
‫تتضمنه‬
‫َّ‬ ‫وبني «شوق» إليه هو من عند الذات العاشقة‪ .‬وهذا أمر‬ ‫املتخصصني لكي يصنع معج ًام خاص ًا‬ ‫ّ‬ ‫عن املعجم املتداول بني‬
‫الطبيعة التي يكون عليها «احلال» ذاته؛ فهو انفعال خالص‪ ،‬أي‬ ‫به وحده‪ .‬فام يعيشه الصويف يف اللغة ويف الطقوس ويف تفاصيل‬
‫استهواء كيل ال يعرف التجزيء أو التفصيل‪ ،‬لذلك ستكون‬ ‫حياته ال يمكن أن يكون سوى سبيل نحو االنغامس يف «حاالت‬
‫االستكانة إىل حمدّ داته إلغا ًء للوسيط املفهومي الذي يمنع الذات‬ ‫كل «حاالته»‪ ،‬بام يؤدي به إىل مطلق ينتهي‬ ‫استيهام» تستوعب َّ‬
‫من االستغراق يف حسيتها األصل َّية‪ .‬فـ«بقدر ما يعرف العبد من‬ ‫كل يشء ضمن «مقام» هو الدال عىل «الفرق»‪« :‬فناء عن‬ ‫عنده ُّ‬
‫ربه يكون إنكاره لنفسه‪ ،‬ومتام املعرفة باهلل متام إنكار الذات» (ذو‬ ‫اخللق بقاء للحق»‪« ،‬فال وجود لألعيان الثابتة خارج الذات‬
‫النون املرصي)‪.‬‬ ‫اإلهل َّية»‪ ،‬فتلك ليست سوى ما يأيت من فيض هاته‪ :‬ما يشدُّ إىل‬
‫«األفق املبني وهو هناية مقام القلب»‪ ،‬أو ما يقود إىل «األفق‬
‫وتلك هي «حال الشهود» حيث ال يرى الصويف سوى اهلل‪ ،‬ما‬ ‫عم‬ ‫األعىل‪ ،‬وهو هناية مقام الروح»‪ .‬ويف املقامني انفصال الذات َّ‬
‫يشبه الذوبان‪ ،‬أي مغادرة القمقم اجلسدي واالنصهار يف ذات‬ ‫يربطها بوجود َع َريض يف حياة ليس سوى ظاهر جلوهر هو الفناء‪،‬‬
‫سمى يف لغة األهواء العودة إىل‬ ‫أخرى هي مصدر الوجود فيه‪ ،‬ما ُي َّ‬ ‫أي عودة إىل حاالت استهواء قصوى ليست سوى االنصهار يف‬
‫احلس األدنى حيث ال يشء هناك سوى االنفعاالت اخلالصة‪ ،‬ما‬ ‫ّ‬ ‫الذات اإلهل َّية‪.‬‬
‫ال إليها يف الوقت‬ ‫ً‬
‫يوجد سابقا عىل ممكنات الداللة‪ ،‬وما ُيعدُّ سبي ً‬
‫ذاته‪ ،‬كام يمكن أن تنبثق عن املتناقض واملختلف واملتشابه‪،‬‬ ‫َّإنا عودة الذات إىل الواحد الكيل القادر عىل استيعاب ّ‬
‫كل‬
‫متناه‪ ،‬والثاين فيه حدٌّ للسلسلة‪ ،‬أ َّما الثالث‬ ‫ٍ‬ ‫فالواحد يف ذاته ال‬ ‫التناقضات‪ ،‬أي استثارة حالة إجياب مطلق تُصفي الكون من‬
‫فرابط بني االثنني‪ :‬تسبيح بحمد املمتد منه وإليه إىل ما ال هناية‪.‬‬
‫بكل موجوداته‬ ‫وتلك أيض ًا «حال الوجود»‪ ،‬حيث ينهض الكون ّ‬ ‫‪ 1‬ـ حديث يُنسب إىل الرسول‪ ،‬يقول‪« :‬كنت كنزا ً ال أعرف‪ ،‬فأحببت أن أعرف‬
‫شاهد ًا عىل وجود اهلل وحده (وسع ملكوته الساموات واألرض)‪،‬‬ ‫فخلقت خلقاً فعرفتهم يب فعرفوين»‪.‬‬

‫‪253‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫سعيد بنگراد‬ ‫مقاالت‬

‫بني رحم األم وبطن األرض‪ ،‬وهو مصدر الدالالت االستعار َّية‬ ‫فنحن ال نتوفر عىل لغة قادرة عىل الكشف عن ملكوت اهلل‪ ،‬لذلك‬
‫إن الفعل اجلنيس‬ ‫األول‪َّ .‬‬
‫التي جتعل الفرد مشدود ًا إىل حضنه َّ‬ ‫يضعنا التأ ُّمل أمام عامل هو الدليل عىل وجوده‪ ،‬فنحن ال نستطيع‬
‫ذاته‪ ،‬بحسيته الرصحية‪ ،‬ليس سوى رغبة دفينة يف العودة إىل جنَّة‬ ‫حتمل شعاع النور كام هو يف ذاته‪ ،‬لذلك ال نقوم سوى باالستمتاع‬ ‫ُّ‬
‫منها خرج اإلنسان قرس ًا‪ ،‬ما يسميه أوتو رانك «صدمة الوالدة»‪،‬‬ ‫باألشياء املنرية‪َّ .‬‬
‫إن النور األصل هو اهلل ذاته‪.‬‬
‫حني ُأ ْج ِب عىل مغادرة جنَّته واالنغامس يف معيش أريض حتكمه‬
‫املكائد والرشور‪ .‬يتخلص املرء حني يعود إىل حضن األم‪ ،‬أي إىل‬ ‫املتصوف «احلاالت» و«املقامات» جمتمعة ضمن‬ ‫ّ‬ ‫لذلك ُيدرج‬
‫األنوثة يف مفهومها املطلق‪ ،‬ممَّا علق به من موبقات املامرسة النفع َّية‬ ‫احلنني إىل الواحد املطلق‪ ،‬احلقيقي يف العقيدة أو املفرتض يف‬
‫إن «وصل احلبيب هو الصفاء» (ابن حزم)‪ .‬إنَّنا نتطهر‬ ‫يف حياته‪َّ ،‬‬ ‫كل التناقضات ضمن‬ ‫املتخ ّيل اإلنساين‪ .‬ففي هذا الواحد تنصهر ُّ‬
‫باجلنس من رشور الدنيا‪ ،‬ففي اللذة تنتفي الفواصل بني اجلسد‬ ‫«منتهى» يف الزمان ويف املكان ال يشء قبله وال يشء بعده‪ .‬يتعلق‬
‫وبني العقل الذي يفكر فيه‪.‬‬ ‫األمر بإحساس جديد يتجاوز حقيقة االنفعال‪ ،‬كام تصفه اللغة‪،‬‬
‫لكي يطلق الطاقة احلس َّية يف الذات ويدفعها نحو االلتحام‬
‫إن إحالة الفعل اجلنيس عىل االنصهار والفناء يف جسد اآلخر‬ ‫َّ‬ ‫باحليس يف الوجود‪ ،‬متام ًا كام هي التجربة الفن َّية حماولة لإلمساك‬
‫تتم يف الروح وحدها‪ :‬هناك تناظر قوي بني‬ ‫هو الظاهر يف رحلة ُّ‬ ‫«بالعيان العيني يف ذاته فهو من حيتضن الذات املطلقة باعتبارها‬
‫احتكاك ذكر بأنثى (االحتاد اآلين)‪ ،‬وبني التحام الذات الفرد َّية‬ ‫املتصوفة كشف عن‬ ‫ّ‬ ‫املثل األعىل» (هيجل)‪َّ .‬‬
‫إن التأويل عند‬
‫باخلالق للكون (االنصهار األبدي)‪ .‬لذلك مل يكن الفعل اجلنيس‬ ‫للس ُبل التي تقود إليها‪ ،‬كام هو الشأن يف‬‫حقيقة‪ ،‬وليس إعداد ًا ُ‬
‫يف املتخ ّيل األسطوري ويف التمثالت اجلامع َّية «متعة فردية ونشاط ًا‬ ‫إن السميائي معني بالسريورة وحدها فتشكُّل املعنى‬ ‫السميائيات‪َّ .‬‬
‫شخصي ًا معزوالً‪ ،‬بل طقس يربط اإلنسان املتناهي بامللكوت‬ ‫جز ٌء منها‪ ،‬أ َّما الصويف فال يستهويه سوى اجلوهر فيه‪.‬‬
‫يكرر فيها الفرد عىل املستوى‬ ‫الالمتناهي‪ .‬يتعلق األمر بعبادة ّ‬
‫األصغر ما قامت به القدرة اخلالقة عىل املستوى األكرب» ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫املتصوف‪ ،‬فجزء كبري من‬‫ّ‬ ‫وذاك أيض ًا ما تشري إليه األنوثة عند‬
‫مفاهيم جتربته العرفان َّية مستوحى‪ ،‬بشكل رصيح أو ضمني‪ ،‬من‬
‫جسدت ألوهة أنثو َّية‬
‫وهو ما تشري إليه أسطورة عشتار التي َّ‬ ‫عوامل حتيل عىل فكرة التزاوج‪ ،‬حقيقة وجماز ًا‪ ،‬فهو املنبع الذي‬
‫تعلق الناس هبا طويالً‪ ،‬فقد « ولدت ابنها‪ ،‬شقها الذكري الكامن‬ ‫كل يشء يف الوجود‪ :‬يف األلوهة باعتبارها مصدر ًا‬ ‫يفيض عنه ُّ‬
‫تزوجته لتُخصب نفسها به فتستعيد قوهتا‬ ‫فيها منذ األزل‪ ،‬ثم َّ‬ ‫لوجود أصيل‪( ،‬الفيض الذي نشأ عنه الكون)‪ ،‬ويف املرأة باعتبارها‬
‫اإلخصاب َّية الذات َّية التي أطلقتها نحو اخلارج» ‪ .‬ال يبحث الرجل‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫ُتاكي من خالل جسدها فعل اخللق ذاته (اإلنجاب)‪ .‬لذلك ليس‬
‫وهو الراشد العاقل‪ ،‬عن متعة وهو ُيق ّبل حلمتي هندي زوجته‪ ،‬بل‬ ‫رس اخللق ممَّا يمكن أن يصدر عن أنثى‬‫هناك من يشء أقرب إىل ّ‬
‫يرغب يف استعادة األمومة التي ضاعت منه‪.‬‬ ‫«حتيض» و«تستوعب» و«تأخذ» و«تعطي»‪ ،‬ففي جسدها إيقاع‬
‫التا‪ ،‬وهي مصدر احلياة وعودة إىل األصل يف‬ ‫وحتو ُ‬
‫ُّ‬ ‫الطبيعة‬
‫لذلك ال يتجىل «االنتصاب الصويف» يف اجلسد‪ ،‬بل يف قدرة‬ ‫الوقت ذاته‪ .‬فمن الرحم نخرج وإليه نعود حني تبلعنا األرض‪،‬‬
‫االنفعال عىل التخلص من العابر فيه‪ ،‬لكي يصبح «حاالً»‪ ،‬أي‬ ‫كل معاين العطاء‪ .‬وقد يكون ذاك هو ما حاول‬ ‫ويف هذه وتلك ُّ‬
‫َو ْجد ًا يقتات من عشق دائم‪ .‬وعىل عكس كتب اإلباحة التي َّ‬
‫روج‬ ‫غوستاف كوربات (‪ )Gustave Courbet‬التعبري عنه يف لوحته‬
‫فإن املرأة يف نظر الصويف كيان استعاض‬ ‫هلا الكثري من الفقهاء‪َّ ،‬‬ ‫سمها «أصل العامل»‪ ،‬حيث مل يلتقط من جسد املرأة‬ ‫الشهرية التي َّ‬
‫إن تفاصيل‬ ‫عن احلس َّية فيه بالروح االستعار َّية املنبثقة منه‪َّ .‬‬ ‫والبوابة‬
‫سوى عضوها التناسيل وما حييط به‪ ،‬فهو األصل والنهاية َّ‬
‫التي تشري إىل سبيل املجيء وسبيل العودة يف الوقت ذاته‪.‬‬
‫‪  2‬ـ فراس السواح‪ :‬لغز عشتار‪ ،‬أصل األلوهة والدين واألسطورة‪ ،‬دار عالء الدين‪،‬‬
‫الطبعة السابعة ‪ ،2000‬ص ‪.178‬‬ ‫َّ‬
‫إن اخلصوبة يف الطبيعة عفو َّية‪ ،‬وهي عند املرأة ُمستثارة‪َّ ،‬إنا‬
‫‪  3‬ـ نفسه ص ‪.175‬‬ ‫حاصل تالقح بني ذكر وأنثى‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬هناك تناظر داليل قوي‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪254‬‬
‫مقاالت‬ ‫الصويف وجتربة «احلقيقة»‬
‫التأويل ُّ‬

‫وتنوعه يف ّ‬
‫الكل‪ ،‬ففي «األلوهة‬ ‫الصويف يبحث عن جتدُّ د الظاهر ّ‬ ‫الشبق واإليروس َّية ليست سوى ظاهر لغابر هو التعبري عن‬
‫رس إن انكشف سقطت األلوهة ذاهتا»‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫«إيقاع»خاص حلركة الذات داخل العشق الصويف‪ .‬وبذلك‬
‫تتحول األنوثة‪ ،‬يف وعي الصويف‪ ،‬إىل رحم كوين منه تنبثق احلياة‬‫َّ‬
‫وإليه تعود‪ .‬وهي الصيغة االستعار َّية الكربى التي يشري إليها‬
‫املثل العا ّمي عندما يربط بني الدار واملرأة والقرب (قرب الدنيا)‪،‬‬
‫أو بني حاجة هذا إىل ذلك‪ :‬الولوجي واالستيعايب‪ ،‬السيف‬
‫يتحسس طريقه إىل سم‬ ‫َّ‬ ‫الباحث عن غمده‪ ،‬أو اخليط الذي‬
‫اإلبرة‪.‬‬

‫استناد ًا إىل هذا الرتابط بني ظاهر عياين وبني ملكوت‬


‫ختترصه اللغة الصوف َّية يف الكثري من احلاالت يف النور‪ ،‬يبني‬
‫تصوره للحقيقة‪ .‬فال يشء يف الوجود قادر‬ ‫ُّ‬ ‫اخلطاب الصويف‬
‫عىل جتسيد جزئ َّية منها إال باإلحالة عىل واحد أحد هو احلقيقة‬
‫ذاهتا‪« .‬فالنور»و«البهاء» و«الضياء» و«اإلرشاق» و«التجيل»‬
‫و«الكشف» كلها مفاهيم حتتفي بجوهر احلقيقة باعتبارها ّ‬
‫كل‬
‫ما يتغنى بالذات اإلهل َّية القادرة عىل النفخ من روحها جزء ًا من‬
‫احلقيقة يف خملوقاهتا‪َّ .‬‬
‫إن احلقيقة‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬ليست يف ما تقوله‬
‫النصوص يف منطوقها‪ ،‬فال يمكن للعبد املنغمس يف امللذات أن‬
‫نص آخر ُيبنى يف التأويل‪ ،‬أي ما يمكن أن‬‫رسها‪َّ ،‬إنا يف ٍّ‬‫يدرك َّ‬
‫ُيلغي الفواصل بني الذات وبني املوضوع الذي تتأمله‪.‬‬

‫يؤول النص لكي يصل إىل «اخلالص»يف‬ ‫لقد كان عىل الصويف أن ّ‬
‫كل يشء‪ ،‬يف «احلق» و«اخلري» و«الصدق» و«اجلامل»‪ ،‬أي التوق‬ ‫ّ‬
‫إىل إجياب مطلق ضمن دائرة ختلو من زمن َّية رشيرة يف النفس ويف‬
‫الرش يف الطبيعة فتغنَّوا بالنور الذي‬
‫املتصوفة َّ‬
‫ّ‬ ‫املحيط‪ .‬لذلك واجه‬
‫هو‪ ،‬يف جممل السياقات‪ ،‬مصدر للحقيقة والوضوح والصفاء‬
‫والطهارة والرؤية الصاحية‪ .‬ولكنَّه نور ال ُيسلم نفسه إال من‬
‫خالل إجالء طبقات النصوص الظاهرة‪ ،‬للوصول إىل ما يشكّل‬
‫جوهره‪ ،‬أي حقيقة ال يملكها أحد‪ ،‬فهي عند اخلالق وحده‪،‬‬
‫ونحن ال نقوم سوى بالبحث عنها‪.‬‬

‫إن التأويل عند الصويف رضورة‪ ،‬ال بحكم ما‬ ‫بعبارة أخرى‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫يترسب إىل الذات من بقايا معان ال معادل هلا يف حقيقة الوجود‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ألن التمثيل املفهومي ذاته ناقص‪ ،‬فالعاجز عن اإلحاطة‬ ‫بل َّ‬
‫املبارشة بالعامل ال يمكنه ادعاء امتالكه‪ .‬فنحن‪ ،‬مثلنا يف ذلك مثل‬
‫الصوف َّية‪ ،‬منتجات لغة ليست وف َّية دائ ًام ملا تقوم بتسميته‪ .‬لقد كان‬

‫‪255‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫مقاالت‬

‫السؤال عن حدود الموضوع َّية‬ ‫في ُّ‬


‫الدين َّية المقارنة‬
‫الدراسات ِّ‬
‫في ّ‬

‫حممد يوسف إدريس‬


‫*‬
‫َّ‬

‫(املوضوع‪ ،‬املفاهيم‪ /‬املصطلحات‪ ،‬املنهج)‪ ،‬وذلك انطالق ًا من‬ ‫مقدمة‬


‫يصح القول َّ‬
‫إن املنهج هو مجلة‬ ‫ُّ‬ ‫أي مدى‬‫سؤال بسيط مفاده إىل‪ِّ :‬‬ ‫نُعنى يف هذا البحث بام يقع فيه الباحث ا ُملقارن بني األديان من‬
‫من املبادئ واآلل َّيات واألسس املنطقية (التحليل‪ ،‬االستدالل‪،‬‬ ‫تأ ُّثر مأتاه عوامل عديدة‪ ،‬بدء ًا من املرجع الثقايف واإليديولوجي‬
‫القياس‪)... ،‬؟‪ .‬أ َّما ثاين العنارص فمداره عىل أزمة علم األديان‬ ‫وطبيعة املباحث الدينية وطرق تناوهلا‪ ،‬وصوالً إىل طرق حتصيل‬
‫ُعرج عىل مظاهر األزمة ا ّلتي يعرفها علم األديان‪،‬‬‫املقارن‪ ،‬وفيه ن ِّ‬ ‫املعرفة وبنائها يف العلوم االجتامع َّية واإلنسان َّية‪ .‬وهو ما جيعل‬
‫ال س َّيام ما اتصل منها بالسؤال عن املوضوع َّية يف البحث املقارن‪،‬‬ ‫بحثنا يدور يف فلك الثالوث‪ :‬الذات واملوضوع وثوابت املنهج‬
‫مشريين إىل ما يتطلبه ذلك الوضع من جتديد يف الرؤى واآلل َّيات‪.‬‬ ‫(قوانني البحث املقارن) ومتغرياته‪.‬‬

‫‪ .1‬في المنهج المقارن‬ ‫أن حضور هذا ال ّثالوث‬ ‫ويف ما يتعلق هبذه املسألة نشري إىل ّ‬
‫إن مطلب تعريف دقيق للمنهج املقارن مطلب صعب التَّح ُّقق‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫خيتلف من ح ّيز ثقايف إىل آخر‪ ،‬ومن زمن إىل آخر‪ .‬فاإلشكال َّيات‬
‫فأغلب املحاوالت التي رامت ذلك اقترصت عىل النظر يف‬ ‫التي تتصل بعلم األديان املقارن يف الثقافة العرب َّية اإلسالم َّية‬
‫أطواره ومراحله ومقاصده واملفاهيم الدين َّية املشرتكة بني األديان‪،‬‬ ‫ليست هي اإلشكال َّيات التي تفرض نفسها عىل الباحث ا ُملقارن يف‬
‫أو انطلقت من املس َّلامت الفكر َّية التي ُبني عليها‪ .‬ز ْد عىل ذلك َّ‬
‫أن‬ ‫الغرب (الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬أملانيا‪ ،)... ،‬وليست املسألة‬
‫املركَّب االسمي بالنعت «املنهج املقارن» يقوم عىل مصطلحني مل‬ ‫يف تقديرنا موصولة باإلمكان َّيات املعرف َّية واألكاديم َّية بقدر ما هي‬
‫يقع إمجاع بني الباحثني حول ماهيتهام‪.‬‬ ‫متعلقة بنوع العوائق وبنية الثقافة التي يكتب فيها الباحث املقارن‪.‬‬

‫أهم رشوط القراءة‬ ‫ُّ‬ ‫مقوماته؟ وما‬


‫فام حدُّ املنهج؟ وما ِّ‬ ‫مقومات‬ ‫هذه بعض اإلشكال َّيات التي ننطلق منها يف بحثنا يف ِّ‬
‫املوضوع َّية يف البحث املقارن؟ وهل لإليديولوجيا تأثري يف‬
‫‪1‬‬
‫أن نعالج هذه اإلشكال َّيات بالنظر يف‬ ‫املنهج املقارن‪ ،‬وقد ارتأينا ْ‬
‫كل بحث يعتمد املقارنة بني‬‫مسالك القراءة ومرجعياهتا؟ وهل ُّ‬ ‫التحوالت التي عرفتها ممارسة املقارنة يف املباحث الدين َّية‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫أهم‬
‫ِّ‬
‫الظواهر والنصوص هو بالرضورة بحث مقارن؟ َأليست املقارنة‬ ‫تبي صلة املنهج املقارن بجملة من الرؤى الفكر َّية‬ ‫إذ نسعى إىل ُّ‬
‫آل َّية من آل َّيات التحليل والتأليف وجزء ًا من منظومة االستدالل‬ ‫املعارصة‪ ،‬قصد حتديد تأثرياهتا يف طرق اعتامد املنهج املقارن‬
‫ّك ُئ عليها الباحث أثناء النظر يف موضوع البحث؟ أم‬ ‫التي يت ِ‬ ‫ونتائجه‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ نُ ّيز يف هذا املجال بني اإليديولوجيا (‪ )L’idéologie‬مبا هو علم يتناول‬ ‫وزعنا البحث عىل عنرصين ننطلق فيهام من القضايا‬ ‫وقد َّ‬
‫خصائص األفكار وطبيعتها ومدى صحتها من ناحية‪ ،‬وباعتباره مصطلحاً داالً‬ ‫اخلاصة؛ فتناولنا يف العنرص األول قضية املنهج‬
‫َّ‬ ‫العا َّمة نحو‬
‫عىل النظام الفكري والعاطفي واملواقف السياسية ‪ ،...‬من ناحية أخرى‪ .‬ويُع ُّد‬ ‫املقومات التي يقوم عليها العلم‬
‫أهم ِّ‬‫املقارن‪ ،‬باعتبار املنهج أحد ِّ‬
‫البحث يف خصائص اإليديولوجيا من أه ّم مجاالت البحث يف علم االجتامع‪ .‬راجع‬
‫ميتشيل (دينكن)‪ :‬معجم علم االجتامع‪ ،‬مقال «اإليديولوجية»‪ ،‬ص ‪.122-121‬‬ ‫* أكادميي من تونس‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪256‬‬
‫مقاالت‬ ‫السؤال عن حدود املوضوع َّية يف الِدّ راسات الدِّ ين َّية املقارنة‬
‫يف ُّ‬

‫واالستدالالت‪ ،‬ومن شأن االعتامد عىل تلك الرباهني جعل‬ ‫هل هي ممارسة فكرية تنطوي عىل مجلة من األسس النظر َّية؟‬
‫الباحث خيلص إىل مجلة من القواعد واألسس التي من شأهنا فتح‬ ‫نتوسل به ملعاجلة اإلشكال َّية مرتبط بنوع‬ ‫َّ‬ ‫وهل املنهج الذي‬
‫النص الذي يدرس‪.‬‬
‫آفاق جديدة للبحث يف ِّ‬ ‫املبحث (أنرتبولوجي‪)... ،‬؟ أم هل هو مرتبط بالغايات (إبراز‬
‫اخلصوصيات والقواسم املشرتكة بني الثقافات‪)... ،‬؟ أم هل‬
‫وتطور‬‫ُّ‬ ‫إن تدافع املقاربات وقيامها عىل أنقاض بعضها بعض ًا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫هو متصل أشدّ االتصال باالنتامء الفكري واملذهبي والفلسفي‬
‫ثمة عالقة‬ ‫بتطور املعارف اإلنسان َّية‪ ،‬يؤكد َّ‬
‫أن َّ‬ ‫ُّ‬ ‫بعضها اآلخر‬ ‫للباحث؟ وهل تكمن ماه َّية املنهج يف اآلل َّيات املعتمدة إلنجاز‬
‫أن للمسألة ‪-‬يف‬ ‫جدل َّية بينها وبني بنية الفكر اإلنساين‪ .‬عىل َّ‬ ‫البحث أم َّأنا تتحدَّ د انطالق ًا من الرؤية التي يتَّخذها الباحث‬
‫تصور‬ ‫ُّ‬ ‫كل منهج هو بالرضورة‬ ‫أن َّ‬‫تقديرنا‪ُ -‬بعد ًا آخر يؤكِّد َّ‬ ‫أهم املبادئ التي قام عليها املنهج املقارن؟‬ ‫مسار ًا للبحث؟ وما ُّ‬
‫معريف يبحث له أتباعه عن أسس نظر َّية وعقل َّية تؤكِّد وجاهة‬ ‫أهم بواعث‬ ‫تصور معريف؟ وما ُّ‬‫وهل املقارنة منهج؟ أم هل هي ُّ‬
‫اعتامده يف دراسة الظاهرة البرش َّية‪ .‬فاملقاربات هي صياغة رؤية‬ ‫املقارنة وأسباهبا؟ وهل للمقارنة خصائص ثابتة؟‬
‫تتفرع إىل آل َّيات‪ ،‬وتقوم عىل‬ ‫ؤسسون يف قواعد َّ‬ ‫جديدة ُيرتمجها ا ُمل ِّ‬
‫يتأسس عىل بنية عقل َّية ومنظومة من‬ ‫مراحل متالمحة‪ ،‬فإذا باملنهج َّ‬ ‫أ ‪ .‬يف َحدِّ املنهج‬
‫العالقات الداخل َّية التي جتمع أجزاءه إىل بعضها بعض ًا‪ ،‬وك َّلام‬ ‫إن املنهج (‪ )La méthode‬يف أبسط تعريفاته ال يعدو ْ‬
‫أن يكون‬ ‫َّ‬
‫اكتشف الباحثون فجوات يف تلك العالقة املتامسكة بانت احلاجة‬ ‫الطريقة‪ 2‬التي يتَّبعها الباحث يف دراسة موضوع من املواضيع‬
‫إىل مراجعة األسس أو جتاوزها بالتأسيس ملقاربة جديدة‪ ،‬ويف‬ ‫التوصل إىل مجلة من القوانني واملبادئ النظر َّية‪ ،‬وهو ما‬‫ُّ‬ ‫قصد‬
‫بأن الباحث ال يمتح من فراغ‪ ،‬فهو يستند إىل‬ ‫ذلك إقرار واضح َّ‬ ‫يتم اعتامدها يف‬
‫أن املقصود باملنهج اخلطوات العمل َّية التي ُّ‬ ‫يعني َّ‬
‫السائد من املعارف واملقاربات وحياورها‪ ،‬فإذا باحلوار ينتهي به‬ ‫حتليل النصوص أو الظواهر ‪ ،...‬قصد اإلملام بام تنطوي عليه من‬
‫تصور جديد لطرق البحث‪،‬‬ ‫إىل تشذيب بعض األسس أو بناء ُّ‬ ‫حقائق‪.3‬‬
‫وعىل هذا النحو تتو َّلد املناهج واملقاربات من رحم بعضها بعض ًا‪.‬‬
‫وذلك بعد النظر يف مدى صالبة اآلل َّيات ومتانة منطقها وقدرهتا‬ ‫من هذا املنظور‪َّ ،‬‬
‫فإن املنهج يقوم عىل مجلة من املبادئ النظر َّية‬
‫عىل احتواء الظاهرة مدار البحث واإلحاطة بأبعادها‪.4‬‬ ‫ُكون مبادئ عا َّمة مدارها عىل منظومة من الرباهني‬
‫والعمل َّية التي ت ِّ‬

‫ب‪ .‬املقارنة يف دائرة العلوم االجتامع َّية‬ ‫‪  2‬ـ نشري إىل أ َّن هذا التص ّور كان متداوالً عند العرب القدامى‪ ،‬ففي «لسان‬
‫تُؤكِّد الدراسات املعارصة‪َّ 5‬‬
‫أن علامء اللغة يف القرن الثامن عرش‬ ‫العرب» البن منظور (ت‪711‬هـ) نقرأ «أَنْ َه َج الطَّر ُ‬
‫ِيق َوضَ َح َو ْاستَ َبا َن [‪َ ]...‬و ِف‬
‫ول اللَّ ِه َص َّل اللَّ ُه َعلَي ِه َو َسلَّ َم َحتَّى ت َ َركَ ُك ْم َع َل طَرِيقٍ‬ ‫يث الْ َعبَّ ِ‬
‫اس لَ ْم َ ُي ْت َر ُس ُ‬ ‫َح ِد ِ‬
‫كل مقاربة هي بالرضورة رؤية اشرتك يف صياغتها جامعة من الباحثني‬
‫‪  4‬ـ إ َّن َّ‬ ‫ِيق َسلَ ْكتُهُ»‪ .‬ا ُنظر ابن منظور (جامل‬ ‫نَا ِه َج ٍة أَ ْي َو ِاض َح ٍة بَ ّي َن ٍة [‪َ ، ]...‬ونَ َه ْج ُت الطَّر َ‬
‫والعلامء‪ ،‬ولالشرتاك أسباب عديدة معقدة يعود أغلبها إىل تأثري الواقع االجتامعي‬ ‫الدّين)‪ :‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪ ،1997،‬مادة (ن‪ ،‬هـ‪ ،‬ج)‪.‬‬
‫تتأسس عىل محاورة الباحث للمناهج‬
‫والسيايس والثقايف واملعريف‪ .‬فاملقاربات َّ‬ ‫البي القويم سواء تعلّق األمر‬
‫من هذا املنظور‪ ،‬فإ َّن املنهج هو الطريق ِّ‬
‫كل املقاربات موصولة ببعضها بعضاً‪،‬‬
‫السابقة من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فإ َّن َّ‬ ‫بالرشائع والعقائد أم اتصل باألخالق‪ ،‬واملتّفق عليه أ َّن الوضوح والقدرة عىل متييز‬
‫مم جعل] العلوم [‪..‬‬
‫وذلك بالنظر إىل «ترابط املواضيع و َوحدة املشاغل [‪َّ ..‬‬ ‫الخبيث من الطّيب ‪-‬مثلام ذهب الع َّباس‪ -‬هام من أهم مق ّومات املنهج الذي‬
‫متداخلة] إىل ح ّد أ َّن بعض الدراسات املتاخمة تستغل أضواء متعددة مأخوذة‬ ‫الحق (الهداية‪،)..،‬‬
‫يتطلّب بالرضورة اتباع طريق السابق من الصالحني قصد بلوغ ّ‬
‫من اختصاصات مختلفة منها االجتامعي البحت ومنها غري االجتامعي»‪ .‬بوحديبة‬ ‫فإذا باملنهج يؤدي إىل مامرسة جملة من املبادئ والقيم تنتهي مبن يعتمدها إىل‬
‫(عبد الوهّاب)‪ :‬ألفهم ـ فصول عن املجتمع والدين‪ ،‬سلسلة موافقات عـ‪ 8‬ــدد‪،‬‬ ‫الرصاط املستقيم‪.‬‬
‫الدار التونسية للنرش‪ ،‬ط ‪ 1‬تونس‪ 1992 ،‬ص ‪29‬‬ ‫‪  3‬ـ ا ُنظر ديكارت (رنيه)‪ :‬تأ ُّمالت ميتافيزيقية تثبت أ َّن الله موجود‪ ،‬وأ َّن نفس‬
‫‪  5‬ـ انظر ميتشيل (دينكن)‪ :‬معجم علم االجتامع‪ ،‬ترجمة إحسان مح ّمد الحسن‪،‬‬ ‫اإلنسان تتميز عن جسمه‪ ،‬ترجمة كامل الحاج‪ ،‬سلسلة زدين علامً‪ ،‬منشورات‬
‫دار الرشيد‪ ،‬بغداد العراق‪ ،1980 ،‬مقال «طريقة املقارنة»‪ ،‬ص ‪54-50‬‬ ‫عويدات‪ ،‬ط ‪ ،4‬باريس فرنسا‪( ،1988 ،‬التّأ ُّمل ال َّرابع)‪.‬‬

‫‪257‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد يوسف إدريس‬
‫َّ‬ ‫مقاالت‬

‫االجتامع َّية‪ ،‬وذلك باملقارنة بينها جغرافي ًا وتارخيي ًا (تايلور‪)... ،‬‬ ‫هم َّأول من استخدم املقارنة طريقة لتحديد األصل اللغوي الذي‬
‫بغية الوقوف عىل خمتلف وجوه االرتباط الرضوري بني ظاهرتني‬ ‫تنحدر منه أغلب اللغات‪. 6‬‬
‫أو أكثر‪.‬‬
‫شجعت علامء‬ ‫وقد ح َّقق علامء اللغة يف هذا املجال نتائج َّ‬
‫مهمة َّ‬
‫وقد َّبي األنرتبولوجيون املعارصون ما انطوت عليه ُّ‬
‫كل‬ ‫االجتامع عىل اعتامد املقارنة طريقة للكشف عن وجوه الشبه بني‬
‫نظرية من ثغرات‪ ،‬فاملقارنة يف املقاربة التطور َّية‪ 10‬انتهت إىل حمو‬ ‫املؤسسات االجتامع َّية‪ ،‬قصد حتديد اجلذور املشرتكة التي تأخذ‬
‫كل ثقافة‪ ،‬وذلك عندما جعلتها تقوم عىل قانون واحد‪.‬‬ ‫خصائص ِّ‬ ‫منها‪ ،‬ويف ما يتعلق هبذه املسألة أكَّد مؤ ّلف «معجم علم االجتامع»‬
‫أ َّما االنتشار َّية فقد عجزت عن تقديم تفسري واضح ودقيق للتشابه‬ ‫أن استعامل علامء االجتامع للمقارنة له جذور ضاربة يف القدم‪ ،‬ففي‬‫َّ‬
‫القائم بني الثقافات واألديان املتباعدة التي مل تقم بينها وشائج‬ ‫ضمت نصوص هريدوت (‪ 482‬ق م‪425 -‬ق م)‬ ‫الثقافة اليونان َّية َّ‬
‫قربى أو اتصال يف غابر األيام والعصور‪ .‬فهي «ترى َّ‬
‫أن نمو‬ ‫(‪ )Hérodote‬مقارنات عديدة ‪ ،‬وكذلك فعل أرسطو طاليس‬
‫‪7‬‬

‫يتم [‪ ]...‬عن طريق األخذ والتقليد [وهو ما جعلها‬ ‫املجتمعات ُّ‬ ‫(ت ‪ 322‬ق م) الذي قارن بني النظم السياسية‪ .8‬ويف التاريخ‬
‫تعنى بــ] البحث عن صيغ االنتشار من ثقافة إىل أخرى» ‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫عول تشارلز مونتسكيو (‪1689‬م‪1755 -‬م)‪ 9‬وأوغست‬ ‫احلديث َّ‬
‫كونت عىل املقارنة بني املجتمعات والثقافات البرش َّية ذاهتا‪،‬‬
‫أن املقارنة قد اختذت مع إيميل دوركايم ُبعد ًا آخر‪،‬‬‫عىل َّ‬ ‫وذلك خالل فرتات زمنية متباعدة‪ ،‬قصد الوقوف عىل خصائص‬
‫أهم مقومات «قواعد املنهج»‪ ،‬بل َّ‬
‫إن املقارنة‬ ‫وذلك عندما عدَّ ها َّ‬ ‫القوانني املن ّظمة للظواهر االجتامع َّية وتتابعها من ناحية‪ ،‬ولإلملام‬
‫هي االسم اآلخر لعلم االجتامع ‪ ،‬وهي القاعدة األساسية‬
‫‪12‬‬
‫بقوانني التعايش من ناحية أخرى‪.‬‬
‫للبحث يف الظواهر االجتامعية سواء تعلق األمر باملقارنة داخل‬
‫الفضاء االجتامعي الواحد أو بني فضاءات اجتامعية خمتلفة أو بني‬ ‫وقد أعطت الدراسات االجتامع َّية منحى جديد ًا للبحث املقارن‬
‫أزمنة متباعدة‪.‬‬ ‫اهتمت بالبحث يف اجلذور التارخي َّية املشرتكة للظواهر‬
‫َّ‬ ‫عندما‬

‫جتل ذلك يف كتاب «االنتحار» (‪ )Le suicide‬الذي مل‬ ‫وقد ّ‬ ‫‪  6‬ـ ال نحسب أ َّن دينكن ميتشيل ال يعرف أ َّن الثقافات القدمية اعتمدت املقارنة‬
‫يكتف فيه دوركايم بمقارنة ظاهرة االنتحار يف مجلة من الطوائف‬ ‫ِ‬ ‫(اليونان‪ ،).. .،‬ولكن نقدّر أنَّه مي ّيز بني استغالل املقارنة واستعاملها‪ ،‬من ذلك‬
‫باملتغيات‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬ ‫اهتم‬
‫املسيحية (الكاثوليك‪ /‬الربوتستانت)‪ ،‬وإنَّام َّ‬ ‫أنَّه قد جعل من املقارنة املقوم الرئيس املميز لعلم االجتامع بدءا ً من كونت‬
‫كان هدفه من ذلك إبراز الدور الذي تنهض به العوامل اخلف َّية‬ ‫ومونتسكيو‪ ،‬وهي إشارة إىل أ َّن املنهج املقارن نشأ يوم نشأ علم االجتامع‪ ،‬وما‬
‫(املشاعر الدين َّية) يف التأسيس للظاهرة االجتامع َّية‪.‬‬ ‫قبل ذلك ال يعدو أ ْن يكون استعامالً للمقارنة‪.‬‬
‫‪  7‬ـ لونوار (فريديريك)‪ :‬املص ّنف الوجيز يف تاريخ األديان‪ ،‬ترجمة مح ّمد الحدّاد‪،‬‬
‫‪ .2‬خصائص البحث المقارن في الدراسات الدين َّية‬ ‫مراجعة حافظ قويعة‪ ،‬دار سيناترا واملركز الوطني للرتجمة‪ ،‬ط ‪ ،1‬تونس‪( ،‬د ت)‪،‬‬
‫أ‪ .‬يف حدود املقارنة‬ ‫ص ‪(7‬مقدّمة املرتجم)‬
‫‪  8‬ـ بادي (برتراند) (‪ )Bertrand Badie‬وهريمت (غي) (‪:)Guy Hermet‬‬
‫‪  10‬ـ انظر أهمية البحث املقارن بالنسبة إىل األنرتبولوجيا التطورية علبي‬ ‫السياسة املقارنة‪ ،‬ترجمة عز الدين الخطّايب‪ ،‬مراجعة نادر رساج‪ ،‬املنظمة العربية‬
‫(عاطف)‪ :‬املنهج املقارن مع دراسات تطبيقية‪ ،‬املؤسسة الجامعية للدراسات‬ ‫للرتجمة‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪.2013 ،‬‬
‫(مجد)‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪ ،2006 ،‬ص ‪.139-133‬‬ ‫‪  9‬ـ تشارلز مونتيسكيو‪ ،‬فيلسوف فرنيس‪ ،‬من أه ّم فالسفة القرن الثامن عرش‪،‬‬
‫‪  11‬ـ لومبار (جاك)‪ :‬مدخل إىل األثنولوجيا‪ ،‬ترجمة حسني قبييس‪ ،‬املركز الثقايف‬ ‫ُعرف بتنوع اهتامماته (الفيزياء‪ ،‬التاريخ‪ ،‬القانون‪ ،)... ،‬ألّف كتباً عديدة يف‬
‫العريب‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت (لبنان)‪ ،‬الدار البيضاء (املغرب)‪ ،1997،‬ص ‪.124‬‬ ‫القانون وفلسفة التاريخ والنظم السياسية والعسكرية‪ ،‬وقد سعى يف أغلب‬
‫‪Durkheim (Emile): Les règles de la méthode sociologique, (op .  12‬‬ ‫مؤلّفاته إىل تأكيد أهميَّة العوامل العقلية والطبيعية يف السلوك االجتامعي‬
‫‪cit), P. 137‬‬ ‫ونشأة املؤسسات االجتامعية‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪258‬‬
‫مقاالت‬ ‫السؤال عن حدود املوضوع َّية يف الِدّ راسات الدِّ ين َّية املقارنة‬
‫يف ُّ‬

‫يظل حديث ًا غامض ًا يف أوساط‬ ‫إن احلديث عن أسس للمنهج ُّ‬ ‫َّ‬ ‫مل يتّخذ املنهج املقارن منحى واحد ًا يف الدراسات الدين َّية أو‬
‫البحث العلمي‪ ،‬فاختزال املنهج املقارن يف القول إنَّه بحث يف‬ ‫األدب َّية أو االقتصاد َّية أو السياس َّية أو القانون َّية‪ ،13‬ويعود ذلك يف‬
‫وجوه االئتالف وحتديد مواطن االختالف ُّ‬
‫يظل أمر ًا غامض ًا‪،‬‬ ‫أهم آل َّيات البحث‬‫أن املقارنة كانت ‪ -‬وما تزال‪ -‬من ِّ‬ ‫تقديرنا إىل َّ‬
‫ألنَّه مل جيب عن السؤال الرئيس املتَّصل باألسباب الداعية إىل‬ ‫يعول عليها‬ ‫يف العديد من املجاالت املعرف َّية‪ ،‬فنحن ال نجد عل ًام ال ِّ‬
‫النص الالحق من النصوص السابقة له‪ ،‬األحداث‬ ‫ِّ‬ ‫استعارة‬ ‫يف استخراج قوانينه وقواعده أو يف اختبار نظرياته‪.‬‬
‫والشخصيات‪ ...‬من جهة‪ ،‬وإحداث مجلة من التغريات عليها‬
‫حتى تتالءم مع املنظومة املعرفية التي تنقل إليها (األحداث‪،‬‬ ‫وال غرابة يف ذلك‪ ،‬فاالستناد إىل املقارنة يف الدراسات اإلنسان َّية‬
‫الشخصيات‪ )... ،‬من جهة أخرى‪ .‬فاملقارنة بام هي بحث يف‬ ‫تصور فكري‪ ،‬وإنَّام كان‬ ‫واالجتامع َّية مل ينتج عن مذهب فلسفي أو ُّ‬
‫وجوه االئتالف ووقوف عىل مواطن االختالف بينها‪ ،‬قد ألغت‬ ‫‪ -‬باألساس‪ -‬أسلوب ًا يف حتليل الظواهر اإلنسان َّية املتامثلة بالنظر‬
‫واتذت من البنى واألنساق والوظائف مدار ًا‬ ‫معايري املفاضلة‪َّ ،‬‬ ‫تبي املحاسن‬ ‫يف وجوه االئتالف واالختالف القائمة بينها قصد ُّ‬
‫التطور وبواعثه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫هلا‪ ،‬وذلك بالنظر فيها نظرة تارخي َّية ُتدِّ د أسباب‬ ‫وتغيها‬ ‫تطورها ُّ‬ ‫والنقائص املتَّصلة هبا من جهة‪ ،‬ومعرفة أسباب ُّ‬
‫وتبي أسباب اقرتاض هذا النص أو ذاك الرؤى واملفاهيم من‬ ‫ِّ‬ ‫من جهة ثانية‪ ،‬وجلعل معارفنا ب ِّينة وواضحة من جهة ثالثة‪.‬‬
‫النصوص السابقة له‪.‬‬
‫إن حماولة اإلملام بأبعاد الظاهرة والكشف عن أصوهلا والوقوف‬ ‫َّ‬
‫ب‪ .‬يف السؤال عن املوضوع َّية يف الدراسات االجتامع َّية‬ ‫حتوالت مقاصد جامعة للمنهج املقارن‬ ‫عىل ما طرأ عليها من ُّ‬
‫أشار يورغن هابرماس (‪1929‬م ـ ‪16)...‬إىل استحالة إقرار صيغة‬ ‫وجلملة من املناهج األخرى (املنهج الوصفي التحلييل‪ ،‬املنهج‬
‫دقيقة للموضوعية (‪ )L’objectivité‬يف العلوم االجتامعية‪ ،‬ومأتى‬ ‫التارخيي‪ ،)... ،‬وهي مسألة تدفعنا إىل التساؤل عن عالقة املنهج‬
‫ذلك ارتباط املعرفة االجتامعية بمصالح الفاعلني االجتامعيني‪،‬‬ ‫املقارن ببقية املناهج واملقاربات‪.14‬‬
‫وهو ما دفع هبابرماس إىل احلديث عن علم اجتامع يساري‬
‫أن تصورات علامء االجتامع‬ ‫وعلم اجتامع يميني‪ ،17‬وهذا يعني َّ‬ ‫أن املقارنة يف العلوم اإلنسان َّية‬ ‫ويف هذا السياق نشري إىل َّ‬
‫ونظرياهتم ‪-‬عىل اختالفها‪ -‬متأ ّثرة بمصاحلهم وانتامءاهتم‬ ‫تستو منهج ًا له قواعد وأسس ومبادئ إال يف القرن‬ ‫واالجتامع َّية مل ِ‬
‫فإن االعتقاد هو الذي‬ ‫االجتامع َّية والتارخي َّية‪ ،...‬وبناء عىل ذلك‪َّ ،‬‬ ‫حتوالت‬ ‫التاسع عرش والقرن العرشين‪ ،‬فقد عرف هذا املنهج ُّ‬
‫أن النقد الداخيل (نقد‬ ‫عوض املوضوعية‪ ،‬ويف هذا املستوى يبدو َّ‬ ‫ُي ّ‬ ‫بالتطورات املعرف َّية واألنساق الفلسف َّية‬
‫ُّ‬ ‫عديدة متأ ِّثر ًا يف ذلك‬
‫الباحث للمسلامت التي ينطلق منها)‪ ،‬والنقد اخلارجي (مواجهة‬ ‫(الوضع َّية التارخي َّية‪ ،‬اجلدل َّية املاد َّية‪ )... ،‬والنظريات املختلفة‬
‫النظريات ومقارعتها ومقارنة مقدّ ماهتا وأسسها‪ )... ،‬مها أساس‬ ‫(نظرية التناص‪ ،‬نظرية التَّل ِّقي‪ )... ،‬التي سامهت يف فتح آفاق‬
‫يعب‬ ‫جديدة للبحث املقارن الذي أصبح يم ّثل أسلوب ًا يف املعرفة ِّ‬
‫‪  16‬ـ يورغن هابرماس‪ ،‬فيلسوف وعامل اجتامعي أملاين‪ ،‬وهو من أهم وجوه‬ ‫فكري يروم جتاوز دائرة الذات بالسؤال عن وجوه‬ ‫ٍّ‬ ‫تصور‬
‫عن ُّ‬
‫مدرسة فرانكفورت‪ .‬حرص هابرماس عىل معالجة مجموعة من القضايا املوصولة‬ ‫تفاعلها مع اآلخر الذي ينتمي إىل فضاءات ثقاف َّية مغايرة‪،‬‬
‫‪15‬‬

‫بالفعل التواصيل يف املستوى السيايس واألخالقي ‪ ،...‬بنى هابرماس نظرية نقدية‬ ‫تعميق ًا لوعي الذات بخصوصياهتا‪.‬‬
‫تدافع عن قيم عرص التنوير‪ ،‬وقد نحا بالتأويلية منحى جديدا ً‪ ،‬سعى من خالله‬
‫والتعصب‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫إىل تجاوز املقاربات الوضعية‪ ،‬داعياً إىل تحرير الذات من التط ُّرف‬ ‫‪  13‬ـ راجع بوحديبة (عبد الوهّاب)‪ :‬ألفهم ـ فصول عن املجتمع والدين‪( ،‬سبق‬
‫وقد ُعنيت نظريته بأشكال التواصل (اللغة‪ )... ،‬التي تُع ُّد القاعدة الرئيسة التي‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫بُنيت عليها مؤلّفاته‪.‬‬ ‫‪  14‬ـ انظر علبي (عاطف)‪ :‬املنهج املقارن مع دراسات تطبيقية‪( ،‬سبق ذكره)‪ ،‬ص‬
‫‪17 . Boudon (Raymond) Bourricaud (François): Dictionnaire‬‬ ‫‪.147-131‬‬
‫‪critique de la sociologie, PUF, Quadrige, 4ém, Paris, 2011, art‬‬ ‫‪  15‬ـ انظر أركون (مح َّمد)‪ :‬نحو تاريخ مقارن لألديان التوحيدية‪ ،‬ترجمة هاشم‬
‫‪«Objectivité».‬‬ ‫صالح‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬ط ‪ ،1‬لندن إنجلرتا‪.2011 ،‬‬

‫‪259‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد يوسف إدريس‬
‫َّ‬ ‫مقاالت‬

‫السؤال عن عالقة الذات باملوضوع يف البحث العلمي يتَّخذ أكثر‬ ‫فإن واضعي‬‫القراءة املوضوعية من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى َّ‬
‫احلق‬
‫أن الذات عندما تصبح الفيصل يف التمييز بني ِّ‬ ‫من وجه؛ منها َّ‬ ‫أن الباحث يف علم االجتامع‬‫النظريات ال ينهلون من فراغ‪ ،‬ذلك َّ‬
‫فإنا جتعل من االعتبارات الذاتية األساس الذي تُبنى‬ ‫والباطل‪َّ ،‬‬ ‫ينطلق من نامذج مثالية‪ ،‬وهي نامذج غري ثابتة ‪ .‬فاملوضوعية بام‬
‫‪18‬‬

‫عليه احلقائق ‪ ،‬ويف املقابل دعا ماكس فيرب إىل اتباع مقاربة أخرى‬
‫‪24‬‬
‫هي «وصف ملا هو موضوعي‪[ ،‬هي] مسلك الذهن الذي يرى‬
‫عامدها رضورة فهم الظواهر الدين َّية كام هي‪ ،‬وللفهم ( (�‪Com‬‬ ‫األشياء عىل ما هي عليه»‪.19‬‬
‫‪ )préhensive‬يف هذه املقاربة داللة واضحة‪ ،‬فهي باألساس‬
‫حماولة الباحث فهم ذاتية األفراد من الداخل‪ ،‬وهو ما يعني َّ‬
‫أن‬ ‫ويف ما يتصل هبذه املسألة برزت صيغتان للموضوعية يف علم‬
‫أفعال األفراد هي املادة األساسية للظواهر االجتامعية (الدين‪،‬‬ ‫االجتامع‪ :‬صيغة أوىل وضع أسسها دوركايم‪ ،‬وهي تقوم عىل‬
‫ثمة واقع ًا موضوعي ًا قائ ًام بذاته من جهة‪،‬‬
‫أن َّ‬‫‪ .)...‬فامكس فيرب يرى َّ‬ ‫رضورة وجود مسافة تفصل الذات عن املوضوع‪ 20‬الذي ُّ‬
‫يظل‬
‫بأن الوقائع االجتامعية هي يف عمقها وقائع‬ ‫يقر َّ‬‫ومن جهة أخرى ُّ‬ ‫ال خارجي ًا مداره عىل رضورة تشيئة الظواهر بام‬ ‫التعامل معه تعام ً‬
‫ً‪21‬‬
‫ذاتية هلا دالالت خمصوصة بالنسبة إىل الفاعلني االجتامعيني‪ ،‬عىل‬ ‫يف ذلك الدين‪ ،‬كي يتسنى لنا تفسريها تفسري ًا علمي ًا دقيق ًا وحمايدا‬
‫أن له مواقف وآراء تؤ ّثر يف‬ ‫أن انغامس الباحث يف الواقع يؤكد َّ‬ ‫َّ‬ ‫‪ ،‬ففصل الذات عن املوضوع أول خطوة جيب اعتامدها لدراسة‬
‫مقاربته‪ ،‬وعى ذلك أم مل يع‪.‬‬ ‫الظاهرة دراسة حمايدة تنتهي إىل إبراز حقائق األشياء‪ ،‬عىل َّ‬
‫أن هذا‬
‫أن مفهوم احلقيقة مفهوم ذايت يف‬ ‫املطلب ُّ‬
‫يظل مطلب ًا عص َّي ًا‪ ،‬ذلك َّ‬
‫جترد الباحث من‬‫تصور ماكس فيرب ال تعني ُّ‬ ‫َّ‬
‫إن املوضوع َّية يف ُّ‬ ‫داريس الظاهرة الدِّ ينية‪ ،‬وهو ما يقودنا إىل القول َّ‬
‫إن‬ ‫ْ‬ ‫تصور أغلب‬
‫ُّ‬
‫سلطان الذات عىل النحو الذي ذهب إليه الوضع ُّيون (كونت‪،‬‬ ‫أن الدين رؤية وجودية ‪ .‬فمختلف‬
‫‪22‬‬ ‫أصحاب تلك الرؤية مل يعوا َّ‬
‫دوركايم‪ ،)... ،‬وإنَّام املوضوع َّية عنده تتمثل يف االهتامم بأحكام‬ ‫العلوم بام يف ذلك العلوم اإلنسانية هي نتاج للفكر البرشي الذي‬
‫الواقع بعيد ًا عن األحكام القيم َّية‪.‬‬ ‫يتَّخذ ُبعدين‪ ،‬مها‪ :‬بعد ذايت وبعد موضوعي‪ ،23‬وهو ما جيعل من‬

‫تتجل أهم مظاهر خمالفة ماكس فيرب‬ ‫ّ‬ ‫ويف هذا املستوى‬ ‫‪18  . Ibidem.‬‬
‫للتصور الدوركايمي‪ ،‬فلئن جعل دوركايم انفصال الباحث عن‬ ‫ُّ‬ ‫‪  19‬ـ راجع صليبا (جميل)‪ :‬املعجم الفلسفي‪ ،‬دار الكتاب اللبناين ومكتبة‬
‫املوضوع أساس املوضوع َّية يف علم االجتامع‪َّ ،‬‬
‫فإن املوضوع َّية‬ ‫املدرسة‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.450‬‬
‫عند ماكس فيرب تتحقق بمحو احلدود بني الذات واملوضوع‪،‬‬ ‫‪  20‬ـ الالند (أندريه)‪ :‬موسوعة الالند الفلسفية‪ ،‬ترجمة خليل أحمد خليل‪،‬‬
‫فلكي نفهم املوضوع فه ًام دقيق ًا ال بدَّ من التامهي مع ذاتية األفراد‬ ‫إرشاف أحمد عويدات‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬ط ‪ ،2‬بريوت لبنان‪ ،2001 ،‬ص ‪.889‬‬
‫(املتد ِّين‪.)...،‬‬ ‫‪21-Durkheim (Emile): Les règles de la méthode sociologique, (op‬‬
‫‪cit), PP 136- 137.‬‬
‫أن فيرب جعل السؤال عن املوضوع َّية مسألة‬ ‫وبالرغم من َّ‬ ‫الشيف (عبد املجيد)‪ :‬لبنات‪ ،‬دار الجنوب للنرش‪ ،‬سلسلة معامل‬
‫‪  22‬ـ انظر ّ‬
‫موصولة برضورة التمييز بني الوقائع والقيم‪ ،‬معترب ًا هذا التمييز‬ ‫الحداثة‪ ،‬تونس‪ ،1994 ،‬ص‪100‬‬
‫قادر ًا عىل وضع األسس التي جتعل الباحث ال يتأ َّثر بأحكامه‬ ‫‪  23‬ـ انظر مقدمة كتاب «الفكر العلمي الجديد» لغاستون باشالر (‪1884‬‬
‫فإن آليات الفصل بني الوقائع والقيم‬ ‫القيم َّية يف تناوله للوقائع‪َّ ،‬‬ ‫‪ ، Gaston Bachelard )1962-‬وفيها نقرأ‪:‬‬
‫‪«La science est un produit de l’esprit humain، produit conforma‬‬
‫‪  24‬ـ تجاوزت الفلسفة املادية (‪ )Le matérialisme‬هذا التصور‪ ،‬وذلك عندما‬ ‫‪aux lois de notre pensée et adapté au monde extérieur. Elle offre‬‬
‫ذهبت إىل القول إ ّن املوضوع موجود وجودا ً مستقالً عن الذات‪ ،‬أ ّما املثاليون‬ ‫‪donc deux également nécessaires, car il nous est aussi impossible‬‬
‫فعدّوا املوضوع (‪ )L’objet‬امتدادا ً ألنشطة الذات (‪ ، )Le sujet‬وهو تص ّور ما‬ ‫‪de changer quoi que ce soit aux lois de notre esprit qu’à celles du‬‬
‫انفكّت املناهج املعارصة تق ّوض بنيانه طامحة إىل اإلقرار بأ ّن اإلنسان باستطاعته‬ ‫‪Monde». Bachelard (Gaston): Le nouvel esprit scientifique, P U F,‬‬
‫إدراك الحقائق القامئة بذاتها بعيدا ً عن مؤثّرات النفس املدركة‪.‬‬ ‫‪Collection «Quadrige», Paris, 2013, P 2.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪260‬‬
‫مقاالت‬ ‫السؤال عن حدود املوضوع َّية يف الِدّ راسات الدِّ ين َّية املقارنة‬
‫يف ُّ‬

‫واإلدراك فكري ًا وعاطفي ًا ‪ -‬من قبل الوعي الفردي‪[ -‬وهو ما‬ ‫تظل مدار السؤال‪ .25‬فالباحث ‪ -‬شاء أم أبى‪ُّ -‬‬
‫يظل‬ ‫(الذات) ُّ‬
‫يؤدي بالرضورة إىل التمييز بني] نمط املوضوعية الذي تطمح‬ ‫طوع االنتامء اإليديولوجي‪ ،‬ممَّا جيعل معاجلته للظواهر االجتامعية‬
‫هتتم بأمره العلوم املجتمعية‬
‫إليه اإلناسة عن [كذا من] ذلك الذي ُّ‬ ‫تتحرك يف األفق الذي حتدِّ ده املرجعية الثقاف َّية والفكر َّية التي يدين‬
‫َّ‬
‫األخرى»‪.29‬‬ ‫يتجل يف خمتلف املواقف التي يتخذها من القضايا‬ ‫ّ‬ ‫هبا‪ ،‬وهو ما‬
‫إن املوضوع َّية يف العلوم‬ ‫والظواهر‪ ،‬وهو ما دفع إىل القول َّ‬
‫تؤسس خطاب ًا علمي ًا موضوعي ًا‬ ‫استطاعت األنرتبولوجيا أن ِّ‬ ‫االجتامع َّية واإلنسان َّية ال تتحقق بالصيغة التي نألفها يف العلوم‬
‫حمايد ًا‪ ،‬تتطلب من اإلنايس معاجلة املباحث والظواهر من‬ ‫الصحيحة ‪. 26‬‬
‫موضعني خمتلفني‪ ،‬ومها املعاينة والوصف من اخلارج (التاريخ‪،‬‬
‫اجلسد) وتفكيك بنية الثقافات واألديان والنصوص والظواهر‬ ‫ج‪ .‬املقارنة يف ِّ‬
‫ظل املقاربة األنرتبولوج َّية البنيو َّية‬
‫من الداخل بمعايشة التجربة االجتامعية أو الدينية موضوع‬ ‫عمدت املقاربة األنرتبولوج َّية البنيو َّية مع كلود ليفي سرتاوس‬
‫البحث‪ ،‬فهي تدرس الدين من خارج املنظومة الدينية ‪ -‬شأن‬ ‫(‪1908‬م ‪ 2009-‬م) إىل مراجعة الصيغتني السابقتني إىل مراجعة‬
‫تتفرد بقدرهتا عىل فهم ماه َّية‬
‫علم االجتامع وعلم النفس‪ -‬ومنها َّ‬ ‫الصيغتني السابقتني‪ ،‬فقد طالب سرتاوس بالتدقيق يف دالالت‬
‫الدين ودوره من داخل املنظومة الدين َّية‪.‬‬ ‫مفهوم املوضوع َّية واملقصود من هذا املفهوم‪ ،‬فاملوضوع َّية يف‬
‫تقديره رضبان‪ :‬رضب تتقاسمه مجيع العلوم االجتامعية‪ ،‬ومداره‬
‫نؤول األشياء عىل‬ ‫عىل َّ‬ ‫عىل جترد الباحث من معتقداته وأفكاره املسبقة‪ ،‬وصنف ٍ‬
‫أن فلسفة التأويل ما انفكَّت تؤكد أنَّنا ّ‬ ‫ثان هو‬ ‫ُّ‬
‫النحو الذي نشتهي‪ ،‬فاألشياء جوفاء تستمدُّ قيمتها من إدراكنا‬ ‫خمصوص باألنرتبولوجيا‪ ،‬وهو صنف ال يكتفي فيه اإلنايس‬
‫هلا‪ ،‬وهو ما جيعل املعنى غري ٍ‬
‫متناه‪ ،‬فالفينومولوجي يق ّلب األشياء‬ ‫اخلاصة به فحسب‪ ،‬وإنَّام يسعى من‬ ‫بالتجرد من األفكار والقيم‬
‫َّ‬
‫والظواهر عىل وجوهها املختلفة ع ّلها تبوح بامهياهتا‪.30‬‬ ‫خالهلا (املوضوعية) إىل وضع «صياغة صاحلة ليس فقط بالنسبة‬
‫للمعاين [كذا بالنسبة إىل املعاين] النزيه واملوضوعي بل بالنسبة‬
‫َّ‬
‫إن األزمة التي تعيشها الدراسات الدينية املقارنة مدارها‪31‬عىل‬ ‫كل] املعاينني املمكنني»‪ . 27‬فاإلنايس من هذا‬ ‫لكل [كذا إىل ّ‬ ‫ّ‬
‫آليات البحث ومدى قدرة الدراسة املقارنة عىل بناء رؤية واضحة‬ ‫املنظور ال يكتفي بإجلام مشاعره ومواقفه فحسب‪ ،‬وإنَّام يسعى‬
‫وموضوعية للمشرتك بني األديان‪ ،‬وهي أزمة دفعت بـ«مرسيا‬ ‫أيض ًا إىل «إدخال مقوالت زمانَّية ومكان َّية ومقوالت يف التضاد‬
‫إلياده» إىل املناداة برضورة جتديد آل َّيات البحث يف علم تاريخ‬ ‫أن ذلك ال يقع إال يف مستوى خمصوص‬ ‫والتناقض»‪ ،28‬عىل َّ‬
‫أهم مظاهر األزمة عدم قدرة‬ ‫األديان وأهدافه ورؤاه ‪ ،‬ومن ّ‬
‫‪32‬‬ ‫ُّ‬
‫وتظل قابلة للفهم‬ ‫« حتتفظ فيه الظاهرات بداللة برش َّية ما‪،‬‬

‫‪  29‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪386‬‬ ‫‪  25‬ـ ذهب عبد املجيد الرشيف يف لبنات ‪ ،II‬دار الجنوب للنرش‪ ،‬ط ‪ ،1‬تونس‪ ،‬ص‬
‫‪  30‬ـ هذا التص ُّور يقود إىل القول‪ :‬إ َّن املوضوعية ال تعني تداخل الذات‬ ‫‪ 37‬إىل رضورة توخّي وضعني معرفّيني‪ ،‬يتمثّل الوضع األول يف اإللحاد املنهجي‬
‫باملوضوع بقدر ما تؤكد أ َّن الحياد مستحيل‪ .‬راجع بوغام (سريخ) (‪Serge‬‬ ‫الذي ‪ -‬دعا إليه بيرت برجر (‪ - )Petre Berger‬يتطلّب الوقوف عىل الحياد إزاء‬
‫‪ :)Paugam‬مامرسة علم االجتامع‪ ،‬ترجمة منري السعيداين‪ ،‬املنظمة العربية‬ ‫الظواهر التي ندرسها‪ .‬أ ّما الوضع الثاين ففيه يتق ّمص الباحث شخصية املؤمنني‬
‫للرتجمة‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪ ،2012 ،‬ص ‪.114‬‬ ‫بكل عقيدة والتعاطف معهم لتف ّهم مواقفهم دون التامهي معهم بالرضورة»‪.‬‬
‫‪  31‬ـ هذه األزمة مل تقترص عىل البحث يف األديان‪ ،‬وإنَّ ا طالت األدب املقارن‪.‬‬ ‫‪  26‬ـ غارغاين (أَلدُو) (‪ :)Aldo Gargani‬التجربة الدينية كحدث وتأويل‪ ،‬ضمن‬
‫راجع رينيه (ويليك)‪ :‬مفاهيم نقدية‪ ،‬ترجمة مح ّمد عصفور‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة‬ ‫كتاب الدين يف عاملنا‪ ،‬ترجمة مح ّمد الهاليل وحسن العمراين‪ ،‬دار توبقال للنرش‪،‬‬
‫عــدد ‪ ،110‬املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬فيفري‪،1987 ،‬‬ ‫ط‪ ،1‬الدار البيضاء املغرب‪ ،2004،‬ص ‪.113‬‬
‫الفصل الحادي عرش «أزمة األدب املقارن»‪ ،‬ص ‪.362‬‬ ‫‪  27‬ـ سرتاوس (كلود ليفي)‪ :‬اإلناسة البنيانيّة ‪ -‬األنرتبولوجيا البنيويّة (القسم‬
‫‪  32‬ـ انظر إلياده (مريتشيا)‪ :‬البحث عن التاريخ واملعنى يف الدين‪ ،‬ترجمة سعود‬ ‫الثاين)‪ ،‬ترجمة حسن قبييس‪ ،‬مركز اإلمناء القومي‪ ،‬بريوت لبنان‪( ،‬د ت)‪ ،‬ص ‪.385‬‬
‫املوىل‪ ،‬املنظمة العربية للرتجمة‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪ ،2007 ،‬ص ‪.135‬‬ ‫‪  28‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬والصفحة نفسها‪.‬‬

‫‪261‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد يوسف إدريس‬
‫َّ‬ ‫مقاالت‬

‫ترمجة سعود املوىل‪ ،‬املنظمة العربية للرتمجة‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت لبنان‪،‬‬ ‫الباحثني املعارصين عىل اخلروج من دائرة الرؤى التأسيس َّية التي‬
‫‪.2007‬‬ ‫وضعها املسترشقون (ماكس ميلر‪ ،‬إيميل برنوف‪ 33).. ،‬أو أعالم‬
‫ـ بادي (برتراند) وهريمت (غي)‪ :‬السياسة املقارنة‪ ،‬ترمجة عز‬ ‫املقاربة االجتامع َّية (إيميل دوركايم‪ ،)... ،‬واملقاربة األنرتبولوج َّية‬
‫الدين اخل َّطايب‪ ،‬مراجعة نادر رساج‪ ،‬املنظمة العربية للرتمجة‪ ،‬ط‬ ‫(إدوارد تايلور‪ ،‬جيمس فريزر‪. 34)... ،‬‬
‫‪ ،1‬بريوت لبنان‪.2013 ،‬‬
‫الوهاب)‪ :‬ألفهم ـ فصول عن املجتمع‬ ‫َّ‬ ‫ـ بوحديبة (عبد‬ ‫ويف هذا السياق املعريف سعت الدراسات املعارصة إىل اإلفادة‬
‫والدين‪ ،‬سلسلة موافقات عــ‪ 8‬ــدد‪ ،‬الدار التونسية للنرش‪،‬‬ ‫من التطورات املعرفية يف علم االجتامع‪ ،‬وما ترتَّب عىل ذلك من‬
‫ط ‪ ،1‬تونس‪1992 ،‬‬ ‫جتديد آلل َّيات البحث يف الدراسات املقارنة (األدب‪ ،‬األديان‪)...،‬‬
‫ـ بوغام (سريخ)‪ :‬ممارسة علم االجتامع‪ ،‬ترمجة منري السعيداين‪،‬‬ ‫ورغم نجاح القراءات املعارصة يف ختطي القراءات التارخي َّية‬
‫املنظمة العربية للرتمجة‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪2012 ،‬‬ ‫فإنا وقعت يف‬ ‫واجلدال َّية واملقاربات االسترشاق َّية التقليد َّية‪َّ ،‬‬
‫ـ ديكارت (رنيه)‪ :‬تأ ُّمالت ميتافيزيقية تثبت َّ‬
‫أن اهلل موجود‪،‬‬ ‫تفس‬ ‫التعميم‪ ،‬وذلك من خالل سعيها إىل وضع قراءات أحادية ِّ‬
‫وأن نفس اإلنسان تتميز عن جسمه‪ ،‬ترمجة كامل احلاج‪ ،‬سلسلة‬ ‫َّ‬ ‫النصوص والظواهر بطريقة واحدة متجاهلة بذلك اخلصوصيات‬
‫زدين عل ًام‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬ط ‪ ،4‬باريس فرنسا‪.1988 ،‬‬ ‫التي مت ّيز بعضها من بعض‪ .‬فإذا بالدراسات املقارنة واقعة حتت‬
‫حممد عصفور‪ ،‬سلسلة‬ ‫ـ رينيه (ويليك)‪ :‬مفاهيم نقدية‪ ،‬ترمجة َّ‬ ‫تأثري املرجع الفكري واإليديولوجي‪ ،‬وهو ما جعل السؤال عن‬
‫عامل املعرفة عــ‪110‬ـــدد‪ ،‬املجلس الوطني للثقافة والفنون‬ ‫عالقة الذات باملوضوع يتَّخذ يف البحث املقارن أكثر من وجه‪.35‬‬
‫واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬فيفري‪1987 ،‬‬
‫ـ سرتاوس (كلود ليفي)‪ :‬اإلناسة البنيان َّية ‪ -‬األنرتبولوجيا‬ ‫الذات عن‬ ‫إن فصل َّ‬ ‫وقد ذهبت أغلب الدراسات إىل القول َّ‬
‫البنيو َّية (القسم الثاين)‪ ،‬ترمجة حسن قبييس‪ ،‬مركز اإلنامء‬ ‫املوضوع هي أول خطوة جيب اعتامدها لدراسة الظاهرة الدينية‬
‫القومي‪ ،‬بريوت لبنان‪( ،‬د ت)‪.‬‬ ‫أن أغلب‬ ‫دراسة حمايدة تنتهي إىل إبراز حقائق األشياء‪ ،‬عىل َّ‬
‫الشيف (عبد املجيد)‪ :‬لبنات‪ ،‬دار اجلنوب للنرش‪ ،‬سلسلة‬ ‫ـ ّ‬ ‫داريس الظاهرة الدِّ ين َّية ب َّينوا َّ‬
‫أن الدين رؤية وجود َّية‪ ،‬تتداخل فيها‬
‫معامل احلداثة‪ ،‬ط‪ ،1‬تونس‪1994 ،‬‬ ‫أس‬‫الذات باملوضوع‪ ،‬وهو ما جيعل من االهتامم بتلك العالقة َّ‬
‫الشيف (عبد املجيد)‪ :‬لبنات ‪ ،II‬دار اجلنوب للنرش‪ ،‬سلسلة‬ ‫ـ ّ‬ ‫املوضوع َّية التي تفيد قدرة الباحث عىل مت ّثل األديان من داخلها‬
‫معامل احلداثة‪ ،‬ط ‪ ،1‬تونس‪.‬‬ ‫وفهم مساراهتا وما جيمعها بغريها من األديان‪.‬‬
‫ـ صليبا (مجيل)‪ :‬املعجم الفلسفي‪ ،‬دار الكتاب اللبناين ومكتبة‬
‫املدرسة‪ .‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬ ‫قائمة المراجع المعتمدة في هذا البحث‬
‫ـ علبي (عاطف)‪ :‬املنهج املقارن مع دراسات تطبيقية‪ ،‬املؤسسة‬ ‫(حممد)‪ :‬نحو تاريخ مقارن لألديان التوحيد َّية‪ ،‬ترمجة‬
‫ـ أركون َّ‬
‫اجلامعية للدراسات (جمد)‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪.2006 ،‬‬ ‫هاشم صالح‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬ط ‪ ،1‬لندن إنجلرتا‪.2011 ،‬‬
‫ـ غارغاين ( َألدُ و)‪ :‬التجربة الدينية كحدث وتأويل‪ ،‬ضمن‬ ‫ـ إلياده (مريتشيا)‪ :‬البحث عن التاريخ واملعنى يف الدين‪،‬‬
‫حممد اهلاليل وحسن العمراين‪ ،‬دار‬ ‫كتاب الدين يف عاملنا‪ ،‬ترمجة َّ‬
‫توبقال للنرش‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البيضاء املغرب‪.2004 ،‬‬ ‫‪  33‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.139‬‬
‫ـ الالند (أندريه)‪ :‬موسوعة الالند الفلسفية‪ ،‬ترمجة خليل‬ ‫‪  34‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.-142 141‬‬
‫أمحد خليل‪ ،‬إرشاف أمحد عويدات‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬ط ‪،2‬‬ ‫‪  35‬ـ اعترب املثاليون املوضوع‪ ) )L’objet‬امتدادا ً ألنشطة الذات) ‪،) Le sujet‬‬
‫بريوت لبنان‪2001 ،‬‬ ‫وهو تص ُّور ما انفكَّت املناهج املعارصة تق ّوض بنيانه طامحة إىل اإلقرار بأ َّن‬
‫ـ لومبار (جاك)‪ :‬مدخل إىل األثنولوجيا‪ ،‬ترمجة حسن قبييس‪،‬‬ ‫اإلنسان باستطاعته إدراك الحقائق القامئة بذاتها بعيدا ً عن مؤثّرات النفس‬
‫املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت (لبنان)‪ ،‬الدار البيضاء‬ ‫املدركة من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى أق َّر املاديون بأ َّن املوضوع موجود وجودا ً‬
‫(املغرب)‪.1997،‬‬ ‫مستقالً عن الذات‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪262‬‬
‫مقاالت‬ ‫السؤال عن حدود املوضوع َّية يف الِدّ راسات الدِّ ين َّية املقارنة‬
‫يف ُّ‬

‫ـ لونوار (فريديريك)‪ :‬املصنَّف الوجيز يف تاريخ األديان‪ ،‬ترمجة‬


‫حممد احلدَّ اد‪ ،‬مراجعة حافظ قويعة‪ ،‬دار سيناترا واملركز الوطني‬
‫َّ‬
‫للرتمجة‪ ،‬ط ‪ ،1‬تونس‪( ،‬د ت)‬
‫ـ ابن منظور (مجال الدِّ ين)‪ :‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬ط ‪،1‬‬
‫بريوت لبنان‪1997،‬‬
‫حممد‬
‫ـ ميتشيل (دينكن)‪ :‬معجم علم االجتامع‪ ،‬ترمجة إحسان َّ‬
‫احلسن‪ ،‬دار الرشيد‪ ،‬بغداد العراق‪.1980 ،‬‬
‫‪- Bachelard (Gaston): Le nouvel esprit scientifique,‬‬
‫‪P U F, Collection «Quadrige», Paris, 2013 Boudon‬‬
‫‪(Raymond) Bourricaud (François): Dictionnaire‬‬
‫‪critique de la sociologie, PUF, Quadrige, 4ém, Par-‬‬
‫‪is, 2011.‬‬
‫‪- Durkheim (Emile): Les règles de la méthode so-‬‬
‫‪ciologique, collection Quadrige, P U F, 6 éd, Paris,‬‬
‫‪1992.‬‬

‫‪263‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫مقاالت‬

‫وقفة تأمل َّية في رجم العقالن َّية‬

‫نايلة أيب نادر*‬

‫وتنضم إىل‬
‫ّ‬ ‫بدورك إىل ما تكتنزه طبقات تارخيك العابقة بالفكر‪،‬‬ ‫ُيتَّهم اإلنسان العريب إمجاالً باملغاالة واالبتعاد عن العقالن َّية‬
‫قافلة الباحثني فتسهم بجهدك يف مسرية بناء رصوح املعرفة‪.‬‬ ‫تطرفني‪ ،‬يرتاوحان بني إفراط‬ ‫واملوضوع َّية‪ ،‬إذ نراه يتأرجح بني ّ‬
‫وتفريط‪ :‬لدينا من جهة‪ ،‬العريب الذي ينبهر بأنوار الغرب انبهار ًا‬
‫ويف الوقت عينه‪ ،‬يقف الفيلسوف لريفع الصوت عالي ًا يف وجه‬ ‫فيحجمه‪ ،‬ويرميه يف‬ ‫يعمي بصريته إىل حدٍّ جيعله غري ٍ‬
‫آبه برتاثه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ال له‪ :‬استيقظ ُّأيا النائم واضبط ساعتك وفق‬ ‫املتطرف الثاين قائ ً‬
‫ّ‬ ‫تم جتاوزه‪ ،‬إذ ال نفع منه‬ ‫دائرة التخ ّلف واملايض السحيق الذي َّ‬
‫ِ‬
‫زمنك احلارض‪ ،‬انغرس يف واقعك الفكري وال تكتف بمواكبة‬ ‫البتة اليوم‪ .‬نراه خيجل من نفسه ومن تارخيه ومن إنجازات أسالفه‬
‫ال عن مسار الفكر يف السعي‬‫التطور املادي للحضارة الغرب َّية‪ ،‬غاف ً‬
‫ُّ‬ ‫ضخه من أفكار وتقنيات واكتشافات متسارعة‬ ‫يتم ُّ‬
‫مقارنة مع ما ُّ‬
‫وراء املزيد من النقد واحلفر والتفكيك والقفز إىل األمام نحو‬ ‫عىل الساحة العامل َّية‪ .‬لذا نجده َيطوي صفحات مرشقة خ ّطها‬
‫ختش من ارتكاب متعة التفكري‪ ،‬وتعرية الواقع‬ ‫األفق األبعد‪ .‬ال َ‬ ‫األوائل مركّز ًا فقط عىل البضاعة املستوردة باعتبارها األجود‬
‫من اإلسقاطات‪ .‬معارشة العقالن َّية جر ٌم حالل عرفه األقدمون‬ ‫واألنفع واألكثر مالءمة للعرص‪.‬‬
‫اللمعنى‪.‬‬‫فنجوا حلظة القيام به من الفناء يف َّ‬
‫مسه جنون ال َع َظمة‪ ،‬فغرق يف‬ ‫ويف املقابل‪ ،‬هناك العريب الذي َّ‬
‫ما أحوجنا اليوم يف العامل العريب ويف لبنان عىل وجه اخلصوص‪،‬‬ ‫التباهي بامضيه وتراثه و ُعظامئه مكتفي ًا بالتغنّي باألجماد الغابرة‬
‫خضم ما نشهده من ورش‬ ‫ّ‬ ‫يف هذا الزمن احلارض حتديد ًا‪ ،‬ويف‬ ‫املس به‪ ،‬معترب ًا َّأنم‬
‫كل ما أنتجه األسالف‪ ،‬وحتريم ّ‬ ‫وتقديس ّ‬
‫عمل لتجديد املناهج الرتبو َّية‪ ،‬وبخاصة يف ما يتعلق بالفلسفة‬ ‫بكل ما جيب فعله يف هذا املجال أو ذاك‪ ،‬فال رضورة للبحث‬ ‫قاموا ّ‬
‫كل اجلهد لالبتعاد عن هذين‬ ‫العرب َّية‪ ،‬ما أحوجنا إىل أن نبذل َّ‬ ‫كل ما نحتاج إليه‪ ،‬ولن نتمكن من‬ ‫ألن الرتاث حيوي َّ‬
‫عن املزيد‪َّ ،‬‬
‫التطرفني‪ ،‬فنحافظ عىل خصوص َّية الفكر العريب اإلسالمي‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫نصبهم ساد ًة عىل حارضه ّ‬
‫بكل‬ ‫خت ّطي الكبار الذين سبقونا‪ ،‬لذلك ُي ِّ‬
‫يتضمنه من سياقات ومصطلحات وإشكال َّيات مت َّيز هبا‪ ،‬من‬ ‫َّ‬ ‫بام‬ ‫أبعاده وحاجاته وأزماته‪.‬‬
‫دون تقليص أمه َّية الغرب وما أنتجه من مناهج ومصطلحات‬
‫حتملنا مسؤول َّية كربى‪ ،‬والويل لنا من‬ ‫وأفكار‪َّ .‬‬
‫إن الفرتة الراهنة ّ‬ ‫لألسف‪ ،‬نجد الفيلسوف يقف وحيد ًا‪َّ ،‬‬
‫تتوهج يف عقله شعلة‬
‫لعنة األجيال إن تغاضينا عنها؛ مسؤوليتنا تكمن يف كشف الثروة‬ ‫شغف الربهان‬
‫ُ‬ ‫وحيرك قل َبه‬
‫التطرفني‪ّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫نور ترشده بعيد ًا عن هذين‬
‫الدفينة‪ ،‬ونفخ الغبار عن الذهب‪ ،‬وتشجيع املزيد من الشباب عىل‬ ‫التعصب واألدجلة والترشنق ونفي اآلخر‬
‫ُّ‬ ‫عىل َّ‬
‫أن احلقيقة أبعد من‬
‫قوهتا واالشتغال‬ ‫عشق الفلسفة العرب َّية بدالً من جلدها‪ ،‬ويف إبراز َّ‬ ‫املختلف‪.‬‬
‫عىل تأوينها وجعلها أكثر قابل َّية الحتواء القلق الفكري والعطش‬
‫مدعوون لاللتفات إىل‬ ‫ُّ‬ ‫املعريف‪ .‬نحن‪ ،‬وأكثر من أي وقت مىض‪،‬‬ ‫األول فيعلن له ما يأيت‪ :‬يف الغرب‬
‫للمتطرف َّ‬
‫ّ‬ ‫يتصدَّ ى الفيلسوف‬
‫الذات العرب َّية يف املرآة‪ ،‬والتأ ُّمل يف مكامن وجعها‪ ،‬والعمل عىل‬ ‫كثر ُأعجبوا برتاثك‪ ،‬فانك ُّبوا عليه‪ ،‬وأمضوا العمر يف احلفر فيه‪،‬‬
‫ٌ‬
‫النهوض هبا من كبوهتا‪ .‬نحن اليوم‪ ،‬ولكي يعرتف بنا الغرب‪،‬‬ ‫والتح ّلق من حوله‪ ،‬واالهنامم بمقوالته‪ ،‬فكم باحلري بك أن تلتفت‬
‫كل يشء أن نعرتف بأنفسنا‪ ،‬أن نق ّيم تراثنا بنظرة‬ ‫علينا قبل ّ‬
‫موضوع َّية‪ .‬علينا أن نتدافع يف سبيل املعرفة العلم َّية الرصينة‬ ‫* أكادميية من لبنان‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪264‬‬
‫مقاالت‬ ‫وقفة تأمل َّية يف رجم العقالن َّية‬

‫عز اسمه ـ إنَّام أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ‬ ‫َّ‬


‫«إن البارئ ـ َّ‬ ‫التي تيضء ظلمة اجلهل‪ ،‬وتكبح رسعة انتشاره‪ ،‬وتنظر إىل الواقع‬
‫جوهر مثالِنا نيله وبلوغه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫به من املنافع العاجلة واآلجلة غاية ما يف‬ ‫الفكري واحلضاري كام هو‪ ،‬ال كام نريده أن يكون‪ .‬كفانا انشغاالً‬
‫وإنَّه أعظم نِعم اهلل علينا وأنفع األشياء لنا وأجداها علينا‪)...( .‬‬ ‫بـ«تأسيس اجلهل»والعمل عىل انتشاره‪ .‬اجلهل بامضينا وحارضنا‪،‬‬
‫وإذا كان هذا مقداره وحمله وخطره وجاللته فحقيقي علينا أن‬ ‫بمشاكلنا وكيف َّية التصدّ ي هلا‪ .‬كفانا هدر ًا للطاقات واملجهودات‬
‫ال نح ّطه عن رتبته وال ننزله عن درجته‪ ،‬وال نجعله وهو احلاكم‬ ‫الفكر َّية يف سبيل بناء مناهج تزيدنا اغرتاب ًا عن ذاتنا وعن جمتمعنا‪،‬‬
‫حمكوم ًا عليه‪ ،‬وال هو ِ‬
‫الزمام مزموم ًا‪ ،‬وال هو املتبوع تابع ًا‪ ،‬بل‬ ‫يتضمن من فصول‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وعن تارخينا ّ‬
‫بكل ما‬
‫نرجع يف األمور إليه ونعتربها به ونعتمد فيها عليه‪ ،‬فنُمضيها عىل‬
‫إمضائه ونوقفها عىل إيقافه‪ ،‬وال نس ّلط عليه اهلوى الذي هو آفته‬ ‫يف حماولة منّي عىل ُعجالة‪ ،‬اخرتت ثالثة نصوص تراث َّية للتأ ُّمل‬
‫وحمجته وقصده واستقامته‪ ،‬واملانع‬ ‫ّ‬ ‫ومكدّ ره واحلائد به عن سننه‬ ‫لعل هذه القراءة توقظ الرغبة يف تسليط الضوء عىل مكامن‬ ‫فيها‪َّ ،‬‬
‫صالح عواقب أمره‪،‬‬‫ِ‬ ‫من أن ُيصيب به العاقل رشدَ ه وما فيه من‬ ‫مرشقة من العقالن َّية التي سبقنا إليها مفكرون غاصوا يف التنظري‬
‫نروضه ونذلّ ونحمله ونجربه عىل الوقوف عند أمره وهنيه‪.‬‬ ‫بل ّ‬ ‫تتم حماربتها عن طريق طمسها وإخفاء‬ ‫والبحث والتنقيب‪ ،‬والتي ُّ‬
‫فإنَّنا إذا فعلنا ذلك صفا لنا غاية صفائه وأضاء لنا غاية إضاءته‬ ‫والتطور العلمي املتسارعني‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫معاملها‪ ،‬تارة باسم التقدُّ م التكنولوجي‬
‫وبلغ بنا هناية» ‪.2‬‬ ‫وتارة أخرى حتت عنوان خمالفة التعاليم والرشائع الدين َّية‪.‬‬

‫«وهذا الرأي [يقصد اختصاص اليونان دون غريهم بالفلسفة]‬ ‫توقفت عند هذه النصوص لكي نجول بمعيتها للحظات‪،‬‬
‫أن جنس ًا من الناس هو وحده ا ُملعدُّ للكامالت‬
‫إنَّام يكون صحيح ًا لو َّ‬ ‫فنعود إىل زمن التفكّر الرصني‪ ،‬حيث جيتهد العقل يف السعي وراء‬
‫وبخاصة النظر َّية منها‪ .‬ويشبه أن يكون هذا هو ما‬ ‫َّ‬ ‫اإلنسان َّية‪،‬‬ ‫األول للكندي يتحدَّ ث‬
‫النص َّ‬ ‫احلق وتأسيس املعرفة املوضوع َّية‪ُّ .‬‬
‫كان يعتقده أفالطون يف اليونانيني‪ ،‬وقد نس ّلم َّأنم‪ ،‬يف الغالب‪،‬‬ ‫فيه عن أمه َّية الفلسفة‪ ،‬والثاين للرازي الذي يربز ارتقاء منزلة‬
‫ُمعدُّ ون بالطبع لقبول احلكمة؛ ولكن ال يلزم عن هذا أن نُنكر‬ ‫والنص الثالث‬
‫ُّ‬ ‫العقل مشدّ د ًا عىل دوره القيادي يف عمل َّية املعرفة‪،‬‬
‫كثري من هؤالء أعني ا ُملعدّ ين للحكمة‪ ،‬أمثال أولئك الذين‬‫وجود ٍ‬ ‫البن رشد الذي ينتقد أفالطون يف اعتقاده باختصاص اليونان من‬
‫كانوا يف بالد اليونان وما جاورها‪ ،‬ويف بلدنا هذا‪ ،‬أعني األندلس‪،‬‬ ‫دون سواهم بالفلسفة‪.‬‬
‫ويف الشام والعراق ومرص‪ ،‬وإن كان وجود ذلك يف بالد اليونان‬
‫أكثر‪ .‬وحتى لو قبلنا هبذا‪ ،‬فاألوىل أن نقول يف سائر الفضائل‪،‬‬ ‫«إن أعىل الصناعات اإلنسان َّية منزلة وأرشفها مرتبة صناعة‬‫َّ‬
‫يمتنِع أن تكون أ َّمة من األمم معدَّ ة بالطبع‪ ،‬عىل األغلب‪،‬‬ ‫إنَّه ال ْ‬ ‫الفلسفة‪ ،‬التي حدّ ها‪ :‬علم األشياء بحقائقها بقدر طاقة اإلنسان‪،‬‬
‫لفضيلة بعينها دون غريها‪ ،‬كأن يكون اجلزء النظري (من النفس‪:‬‬ ‫ألن غرض الفيلسوف يف علمه إصابة احلق ويف عمله العمل باحلق‪،‬‬ ‫َّ‬
‫احلكمة) لدى اليونان‪ ،‬أغلب‪ ،‬والغضبي (الشجاعة) عند األكراد‬ ‫وأرشف الفلسفة وأعالها مرتبة الفلسفة األوىل‪.)...(،‬وينبغي لنا‬
‫ٍ‬
‫فحص دقيق؛ إذ ُي َظ ُّن أنَّه عندما‬ ‫واجلاللقة أقوى‪ .‬وها هنا مكان‬ ‫اقتناء احلق من أين أتى‪ ،‬وإن أتى من األجناس القاصية عنا واألمم‬
‫يكون اجلزء النظري (من النفس‪ :‬العقل) حاك ًام تكون الفضائل‬ ‫فح َسن‬
‫املباينة لنا‪ ،‬فإنَّه ال يشء أوىل بطالب احلق من احلق(‪َ .)...‬‬
‫أنسب وأصلح؛ أعني الصالح الذي يف الطبع(‪.3 »)...‬‬ ‫بنا أن نلزم إحضار ما قال القدماء (‪ )...‬وتتميم ما مل يقولوا فيه‬
‫قوالً تام ًا‪ ،‬عىل جمرى عادة اللسان ُ‬
‫وسنَّة الزمان(‪ ،)...‬مع العلة‬
‫العارضة لنا يف ذلك‪ ،‬مع االنحصار عن األتباع يف القول‪ ،‬اتقاء‬
‫الطب الروحاين‪ ،‬ضمن رسائل فلسف َّية‪ ،‬نرشه بول كراوس‪،‬‬
‫‪ -  2‬أبو بكر الرازي‪ُّ ،‬‬ ‫سوء تأويل كثري من املتّسمني بالنظر يف دهرنا‪ ،‬من أهل الغربة عن‬
‫القاهرة‪ ،1939 ،‬ص‪.19-17‬‬ ‫احلق(‪ ،)...‬ليضيق فِطنهم عن أساليب احلق وقلة معرفتهم»‪.1‬‬
‫‪ -  3‬أبو الوليد بن رشد‪ ،‬الرضوري يف السياسة ألفالطون‪ ،‬ترجمة أحمد شحالن‪،‬‬
‫تقديم محمد عابد الجابري‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربيَّة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1،1998‬‬ ‫‪ -  1‬الكندي‪ ،‬رسالة إىل املعتصم بالله‪ ،‬تحقيق أحمد فؤاد األهواين‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ص‪.82‬‬ ‫ص‪.86-85‬‬

‫‪265‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫نايلة أيب نادر‬ ‫مقاالت‬

‫نعانيه من هتميش ملادة الفلسفة العرب َّية‪ ،‬طارحة عىل خمتلف‬ ‫يع ّلق الكندي‪ ،‬يف النص املذكور أعاله‪ ،‬أمهي ًة كربى عىل طلب‬
‫املهتمني بالشأن الرتبوي النقاط اآلتية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫احلق وعدم االكتفاء بذلك وحسب إنَّام يقرنه بالسعي إىل العمل‬
‫مهمة الفيلسوف ب ُبعدهيا النظري والعميل انطالق ًا من‬
‫به‪ .‬حيدّ د َّ‬
‫‪َّ -‬‬
‫إن ما تشهده املجتمعات العرب َّية اإلسالم َّية يف زمننا احلارض‬ ‫البحث العقالين عن احلق‪ .‬نلحظ أنَّه ُيسقط احلدود يف عمل َّية‬
‫يرتّب علينا أن نربز بوضوح مكامن العقالن َّية يف الرتاث والتي‬ ‫أي جهة أتى‪ ،‬من دون‬ ‫البحث هذه‪ ،‬إذ يدعو إىل طلب احلق من ّ‬
‫القوة فيه‪ ،‬حيث جت ّلت عرب التاريخ أبرز املقاربات‬ ‫تشكّل نقاط َّ‬ ‫إن يف هذه اخلطوة إبراز ًا‬
‫التقوقع يف إطار اللغة أو الدين أو األ َّمة‪َّ .‬‬
‫والنظريات الفلسف َّية‪ ،‬وذلك يف جمال املعرفة واإلهل َّيات واألخالق‬ ‫كل من لديه جتربة ناجحة يف‬ ‫لقيمة االنفتاح عىل القدماء‪ ،‬أي عىل ّ‬
‫والسياسة‪.‬‬ ‫طلب احلق‪.‬‬

‫إن الرتاث العريب اإلسالمي‪ ،‬نظر ًا إىل تعدُّ د حقوله املعرف َّية‪،‬‬
‫‪َّ -‬‬ ‫أ َّما الرازي فنجده يضع العقل يف مرتبة القيادة‪ ،‬وال يقبل بام هو‬
‫يتم تقديمه إىل‬ ‫ووسع احلقبة التارخي َّية التي يغ ّطيها‪ ،‬جيب أن َّ‬ ‫ملفت ما ُيلحق بالعقل من دور‪ ،‬ومهام‪ ،‬ومسار‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫دون ذلك مقام ًا‪.‬‬
‫التعصب واحلذف‬ ‫ُّ‬ ‫املتع ّلم من منظور فلسفي موضوعي بعيد عن‬ ‫أهم نِ َعم اخلالق عليه‪ .‬إطالق‬
‫ُي ّمل اإلنسان مسؤول َّية كربى جتاه ّ‬
‫والتحوير‪ ،‬األمر الذي يستدعي متابعة البحث والتدقيق وتسليط‬ ‫راق يدعونا الكندي للعمل عليه‪.‬‬ ‫رساح العقل من سجنه هدف ٍ‬
‫يتم جتاهله يف احلقبة الراهنة‪.‬‬
‫الضوء عىل ما ُّ‬ ‫مل حيدّ د أ َّي ًا من األمور علينا أن نرجع فيها إىل العقل لكي يرشدنا‬
‫نحو املسار الصحيح‪ .‬بتعبري آخر‪ ،‬جعل الكندي من العقل املرجع‬
‫مقرر الفلسفة‬ ‫إن ما حيصل من حولنا بخصوص هتميش َّ‬ ‫‪َّ -‬‬ ‫للبت يف خمتلف األمور التي تواجه اإلنسان يف حياته‪.‬‬ ‫األساس ّ‬
‫العرب َّية‪ ،‬أو التقليل من شأنه‪ ،‬أو اعتباره عبئ ًا عىل املتع ّلم ال‬
‫إن هذا النهج‬ ‫يفيده الكثري يف التحضري ملستقبله األكاديمي‪َّ ،‬‬ ‫نص ابن رشد أنَّه كان يواجه يف زمانه نوع ًا من‬ ‫يبدو من خالل ّ‬
‫يمهد عىل األرجح لعمل َّية تسطيح األجيال‪ ،‬وعدم حتفيزها عىل‬ ‫ٍ‬
‫شعب ما أو حضارة حمدَّ دة‪ .‬مل يقبل بنفي التفلسف عن‬ ‫ٍ‬ ‫تعظيم شأن‬
‫ّ‬
‫البحث‪ ،‬أو مواجهة أ َّية صعوبة‪ .‬كام أنَّه يعمل عىل اقتالع املتع ّلم‬ ‫العرب‪ .‬مل حيرص عشق احلق والبحث عنه بحضارة دون سواها‪.‬‬
‫من جذوره الفكر َّية واحلضار َّية‪ ،‬وجعله يعيش يف غربة عنها‪.‬‬ ‫ُثر يف زمننا احلارض‪ ،‬إذ نسمع‬ ‫وكم نجد يف كالمه هذا ما جييب عىل ك ٍ‬
‫إن هتميش مادة الفلسفة العرب َّية يف املناهج الرتبو َّية‪ ،‬التي‬ ‫كذلك َّ‬ ‫بعض األصوات التي ترت َّدد هنا وهناك حول عدم إمكان َّية احلضارة‬
‫ظهرته احلضارة العرب َّية عن عقالنيتها‪ ،‬وعن‬ ‫هي بمثابة نموذج ّ‬ ‫العرب َّية من أن تنتج عل ًام عقالن َّي ًا كالفلسفة‪ ،‬وإن ُوجدت فلسفة ما‬
‫إن هذا التهميش من شأنه أن‬ ‫كيف َّية مقاربتها إشكاليات عرصها‪َّ ،‬‬ ‫وكأن يف‬‫َّ‬ ‫فهي يف أغلب األحوال مأخوذة من اليونان أو الغرب‪.‬‬
‫متحجرة عن تراث غارق يف‬ ‫ّ‬ ‫جيعل املتع ّلم حيتفظ بصورة تقليد َّية‬ ‫نص ابن رشد إظهار ًا لقيمة التجربة العقالن َّية التي خاضها مفكرو‬ ‫ّ‬
‫الرصاعات الدين َّية التي يطغى عليها طابع التذ ُّمت وإقصاء الرأي‬ ‫العصور الوسطى ومفكرو النهضة من بعدهم يف احلضارة العرب َّية‪،‬‬
‫املغاير‪ ،‬والتسليم التلقائي لسلطة العقل الديني‪.‬‬ ‫وذلك من دون إنكار فضل اليونان والغرب‪ ،‬وال قيمة ما أنتجوه‬
‫إن هذا املوقف الرشدي حيثنا عىل مضاعفة‬ ‫عىل الصعيد الفلسفي‪َّ .‬‬
‫املتعمد يف سبيل دمج مادة الفلسفة العرب َّية بالفلسفة‬
‫َّ‬ ‫‪َّ -‬‬
‫إن السري‬ ‫البحث عن مزيد من التجارب العقالن َّية‪ ،‬ليس فقط يف الرتاث‬
‫العا َّمة‪ ،‬يبقى يف نظرنا مقدّ مة إللغائها‪ ،‬وهو ما جيوز لنا أن نصنّفه‬ ‫العريب اإلسالمي الوسيط والنهضوي‪ ،‬إنَّام أيض ًا يف التجربة احلديثة‬
‫باجلريمة الكربى يف حق العقالن َّية العرب َّية‪ ،‬كام يف حق بناء فكر‬ ‫واملعارصة‪ .‬فالفلسفة ليست حكر ًا عىل شعب واحد‪ ،‬وال عىل‬
‫نقدي حر ومنفتح ومستقل‪ .‬وهو أيض ًا حماولة رصحية وواضحة‬ ‫يمسه شغف احلكمة أن خيوض غامرها‬ ‫حضارة مع َّينة‪ ،‬فبإمكان من ّ‬
‫للقضاء عىل هنج فكري من شأنه أن يتصدَّ ى للظالم َّية املستفحلة‪.‬‬ ‫متسلح ًا باألدوات املنهج َّية الالزمة واملفاهيم املتوفرة يف عرصه‪.‬‬
‫يتع ّلق األمر بخطوة غري مسؤولة تُسهم يف ترسيخ صورة غري‬
‫مستح َّبة عن احلضارة العرب َّية اإلسالم َّية‪ ،‬إن يف الوعي العريب أو‬ ‫تركت ك ً‬
‫ال من الكندي والرازي وابن رشد يعيدوننا إىل أجواء‬
‫يف الوعي الغريب‪ .‬إنَّه خدمة ال سابق هلا تُقدَّ م عىل طبق من ذهب‬ ‫كانت تنضح بالعقالن َّية‪ ،‬لكي ألقي الضوء من خالهلم عىل ما‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪266‬‬
‫مقاالت‬ ‫وقفة تأمل َّية يف رجم العقالن َّية‬

‫تدق بعد ساعة املصاحلة مع املايض‬ ‫يستح ّقه من جهد ودراسة؟ أمل ّ‬ ‫ومروجي اجلهل‬
‫ّ‬ ‫كل أعداء احلضارة العرب َّية‪ ،‬وحم ّبذي التسطيح‬ ‫إىل ّ‬
‫والتعاطي معه يف املجال الرتبوي بصفته جماالً واسع ًا للبحث‬ ‫املقنَّع بكثرة املعلومات املمكننة واملربجمة‪ ،‬كام أنَّه خدمة ألولئك‬
‫بأن اعتامد الطريق‬ ‫والتدقيق واحلفر والتحليق؟ أمل نقتنع بعدُ َّ‬ ‫املنك ّبني عىل سلخ األجيال الطالعة عن لغتهم األم وتراثهم‬
‫وكسل مرشعن‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫جبان إىل اخللف‪،‬‬ ‫هروب‬
‫ٌ‬ ‫السهلة يف الرتبية‬ ‫املتوهجة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ومنابعهم الفكر َّية‬
‫وممدوح زور ًا‪ ،‬ال جيلب لنا سوى املزيد من اجلهل املس َّيس املؤ ّدي‬
‫لتتوحد اجلهود يف سبيل‬ ‫تأت الساعة بعدُ‬ ‫إىل هنايات قاتلة؟ أمل ِ‬ ‫‪ -‬من املؤسف أن يفاخر الغرب بأعالمه من أدباء وشعراء‬
‫َّ‬
‫خاصة‪ ،‬من تعاظم خماوفه‬ ‫َّ‬ ‫حترير اإلنسان العريب عا َّمة واللبناين‬ ‫وفالسفة‪ ،‬ويو ّفيهم حقهم من خالل إدخاهلم يف منهاج التدريس‪،‬‬
‫وتضخم أوهامه‪ ،‬عاملني نحن ـ الرتبويني ـ عىل كرس حواجز‬ ‫ُّ‬ ‫بينام نجد من حياول عندنا التقليل من أمه َّية مفكرينا عن طريق‬
‫االغرتاب عن الذات وعن اآلخر؟‬ ‫اختصار إنجازاهتم‪ ،‬ودجمها بتاريخ فكر غني يزخر باملبدعني‪،‬‬
‫وفيه ما يكفي من نتاج ٍ‬
‫راق ال حيتاج إىل املزيد‪.‬‬

‫يكرس املسترشقون ومراكز‬ ‫‪ -‬من املؤسف أيض ًا‪ ،‬أنَّه يف حني ّ‬


‫األبحاث واجلامعات الغربية جهد ًا كبري ًا من أجل دراسة الرتاث‬
‫يتم بذل اجلهد املضاعف‬ ‫العريب اإلسالمي‪ ،‬نجد أنَّه يف لبنان ُّ‬
‫لتقريب هذه املادة من الطالب‪ ،‬وإلقناعه بأمهيتها‪ ،‬واألستاذ‬
‫مضطر اليوم إىل إقناع املسؤولني الرتبويني بأمه َّية املحافظة عىل‬
‫استقالل َّية هذه املادة التي من شأهنا أن تُسهم يف فسح املجال أمام‬
‫التلميذ واألستاذ للتفكّر يف كيفية ترسيخ هذه املساحة املشرتكة‬
‫بني احلضارتني‪ ،‬والدينني‪ ،‬بعيد ًا عن أجواء الضغط واتباع وترية‬
‫الرسعة‪ ،‬من أجل إنجاز عدد كبري من الفصول‪ ،‬يف سياق مادة‬
‫كم كبري ًا من املوضوعات واإلشكال َّيات‪ ،‬وذلك قبل‬ ‫واحدة جتمع َّ ً‬
‫املوعد املحدَّ د لالمتحان‪.‬‬

‫أن هدف تعليم الفلسفة يف النهاية‬ ‫‪ -‬أخري ًا نو ُّد أن نشري إىل َّ‬
‫هو بناء اإلنسان‪ ،‬من خالل متتني املقاربة العقالن َّية لدى املتع ّلم‪،‬‬
‫وتوسيع أفق تفكريه‪ ،‬وتقعيد أسس االنفتاح الفكري عىل اآلخر‬
‫جو من احلوار العقالين والنقاش املرتكز عىل احلجج‬ ‫املختلف يف ٍّ‬
‫والرباهني وإعادة النظر الدائمة بالفرضيات الفكر َّية‪ .‬‬

‫يبقى لنا أن نطرح هذه األسئلة لتنخر يف وعينا‪ ،‬لع َّلنا نبحث‬
‫سوي ًا عن أفق جديد بشأهنا‪:‬‬

‫مشمرين‬
‫أمل حين الوقت بعدُ لكي يقف أهل الفلسفة يف بالدنا ّ‬
‫عن سواعدهم ليكتبوا بأحرف من نور مناهج تعليم َّية‪ ،‬يف املرحلة‬
‫الثانو َّية ويف التعليم اجلامعي‪ ،‬تربز لطالب املعرفة أهبى وأرقى‬
‫ما أنتجه الفكر العريب يف مساره احلضاري‪ ،‬ولكي يعطوه ما‬

‫‪267‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫مقاالت‬

‫السلف‪:‬‬
‫صورة َّ‬ ‫ُ‬
‫الداللة والوضع‬
‫تأمالت فلسف َّية في ّ‬
‫ُّ‬

‫منصف الوساليت*‬

‫يكون للفلسفة موقع خمتلف ضمن إطار املقاربات املختلفة ألواهنا‬ ‫مقدمة‬
‫ّ‬
‫«السلف»‪.‬‬
‫ملسألة ّ‬ ‫تتخي‬‫َّ‬ ‫«السلف» مقاربة فلسف َّية‬
‫‪1‬‬
‫أن تكون مقاربتنا لصورة َّ‬
‫عي اختالفها عن غريها من‬ ‫لنفسها مقام ًا يف النَّظر والتناول ُي ّ‬
‫إن موضع هذه املقاربة ُيقاس يف تقديرنا بوضع التناسب‪ ،‬حيث‬ ‫َّ‬ ‫رضوب التناول‪ ،‬وأن يكون ذلك مواجهة ال مداورة بحسب ما‬
‫«السلف» جمال انشغاهلا‬ ‫تكون مجيع املقاربات التي تتَّخذ من مسألة َّ‬ ‫تقتضيه طبيعة التفلسف من رضورات نقد َّية‪ ،‬فذلك من شأنه أن‬
‫عىل نحو يكون وافي ًا بمقصودها‪ ،‬مقاربات تُنجز بالنسبة إىل مرجع‬ ‫جيعل من هذا العمل رضب ًا من رضوب التحدّ ي الفكري ّ‬
‫لكل‬
‫يظل من قبيل املنطلق البدهي الذي تفرتضه هذه املقاربات دون‬ ‫ُّ‬ ‫ا ُملسبقات من األحكام التي تقيض بغربة موضوع النَّظر عن جمال‬
‫تفكري أو نظر فيكون بمثابة املسكوت عنه‪ ،‬ونقصد بذلك أساس ًا‬ ‫وكأن األمر ال يتع ّلق بالشأن اإلنساين‬
‫َّ‬ ‫اهتامم الفيلسوف وانشغاله‪،‬‬
‫السلف الذي يتع ّلق بطبيعة الوجود‬ ‫الوضع األنطولوجي لصورة َّ‬ ‫جمال نظر الفكر الفلسفي بامتياز‪ .‬ولك َّن رفع التحدي ال يكون‬
‫«السلف» الذي يستحيل إىل ظاهرة‬ ‫تؤسسه فكرة َّ‬ ‫أو الكيان الذي ّ‬ ‫بتعليل األسباب املقتضية ملقاربة املسألة عىل نحو فلسفي فحسب‪،‬‬
‫فكل مقاربة (فقه َّية أو‬ ‫بعد أن يكتسب كثافة واقع َّية اجتامعي ًا‪ُّ ،‬‬ ‫بل أيض ًا بدفع هذا التحدّ ي إىل حدوده القصوى‪ ،‬وذلك بجعل‬
‫تصورها‬‫تؤسس ُّ‬ ‫تارخي َّية أو اجتامع َّية أو سياس َّية أو نفس َّية‪...‬إلخ) ّ‬ ‫تتحرك ضمن أفق بكر من خالل تعليل خصوص َّية‬ ‫َّ‬ ‫هذه املقاربة‬
‫السلف انطالق ًا من متظهرها أو تشكُّلها برش َّي ًا يف ظاهرة‬ ‫ملسألة َّ‬ ‫الكيف َّية التي بحسبها يكون االنشغال الفلسفي هبذه املسألة حتى‬
‫أن‬‫مع ّللة األسباب املقتضية لوجودها برضورات خمتلفة‪ ،‬كام لو َّ‬
‫االختالف يف األسباب وليس يف طبيعة الوجود‪ ،‬من أجل ذلك‬ ‫*أكادميي من تونس‬
‫«السلف»من‬ ‫تعمد هذه املقاربة الفلسف َّية إىل االنشغال بصورة َّ‬ ‫‪ -1‬أُنجز هذا املقال عىل إثر مداخلة قمنا بها ضمن إطار فعاليات الندوة الدول َّية‬
‫أن تلك‬ ‫جهة ُم َساءلة بداهة الوضع األنطولوجي‪ ،‬وذلك باعتبار َّ‬ ‫التي أنجزها قسم اللغة واآلداب والحضارة العربيَّة يف كليَّة اآلداب يف سوسة‬
‫الصورة ُت ِّسد يف تقديرنا كيف َّية وجود خمتلفة ومغايرة‪ .‬ولذلك‬ ‫«السلف والخلف يف الفكر العريب الحديث»‬
‫بالجمهوريَّة التونس َّية‪ ،‬تحت عنوان َّ‬
‫السلف‬ ‫ال يتع ّلق األمر يف مستوى هذه املقاربة الفلسف َّية لصورة َّ‬ ‫بتاريخ ‪17/16/15‬أفريل ‪ . 2013‬وقد عمدت إىل إعادة صياغة املداخلة إلعدادها‬
‫بظاهرة يمكن تفسريها من خالل هذا املنظور أو ذاك‪ ،‬وإنَّام بظهور‬ ‫السلف‪.‬‬
‫للنرش يف هيئة مقال فلسفي بشأن مسألة َّ‬
‫جيسد فكرة ويعلن عن كيف َّية خمتلفة للوجود اإلنساين‪ .‬وبناء‬ ‫كيان ِّ‬ ‫ـ تتأسس محاولتنا يف هذا املقال عىل افرتاض يقيض مبعاينة الوضع املفارقي الذي‬
‫كل انشغال تفسريي وتعلييل للظاهرة عىل وجاهته‬ ‫يظل ُّ‬
‫عليه ُّ‬ ‫مؤسسة رغم أنَّها بغري أساس‪ ،‬وال‬
‫السلف من جهة كونها صورة ّ‬
‫تحوزه صورة َّ‬
‫مهيته مرشوط ًا بمقاربة جذر َّية تتعلق باملستوى األنطولوجي‪،‬‬ ‫وأ ّ‬ ‫يتس َّنى لنا معالجة هذا االفرتاض معالجة فلسفيَّة ما مل منيّز بني الفكرة والكيان‬
‫السلف إىل ما هو‬ ‫كل انشغال بمسألة َّ‬ ‫األمر الذي ُيع ّلل نسبة ِّ‬ ‫والظاهرة يف مقاربتنا لصورة السلف التي تتشكل يف تقديرنا انطالقاً من فكرة‬
‫السلف قيد‬ ‫يرشع رضورة وضع مسألة َّ‬ ‫ال ّ‬ ‫أنطولوجي أساس ًا تعلي ً‬ ‫تجسد رضباً متميّزا ً من الكيان يتجىل واقعياً يف ظاهرة‪ .‬ولذلك ليس باإلمكان‬
‫ّ‬
‫النَّظر الفلسفي‪.2‬‬ ‫نتبي طبيعة الفكرة‬ ‫السلف انطالقاً من الظاهرة َّ‬
‫السلفية ما مل َّ‬ ‫متثل حقيقة صورة َّ‬
‫تجسده‪.‬‬
‫التي تحملها وخصوصيَّة الكيان الذي ّ‬
‫السلف فلسفياً مبقصد رفع االلتباس بني‬
‫‪  2‬ـ ال تعلل الحاجة إىل مقاربة مسألة َّ‬ ‫صورة ‪ -‬فكرة ‪ -‬كيان‪ -‬ظاهرة‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪268‬‬
‫مقاالت‬ ‫السلف‪ :‬تأ ُّمالت فلسف َّية يف الدّ اللة والوضع‬
‫ُصورة َّ‬

‫تتميز بكوهنا «كل َّية عين َّية»‪ ، 5‬تُؤ ّمن يف الوقت ذاته ختليص الواقعة‬ ‫السلف» فلسفي ًا ُيعدُّ‬ ‫شك يف َّ‬
‫أن اإلقبال عىل مقاربة «مسألة َّ‬ ‫ال َّ‬
‫موضوع النَّظر من جزئيتها وذلك برفعها إىل مستوى ّ‬
‫الكل‪ ،‬عىل‬ ‫يف تقديرنا امتحان ًا لقدرتنا عىل اإلصغاء إىل صوت التفلسف‬
‫أن الكيل مستقر يف ّ‬
‫كل واقعة أو ظاهرة إنسان َّية‪.6‬‬ ‫أساس َّ‬ ‫واالستجابة القتضائه انطالق ًا ممَّا يوجبه من التزامات تقيض‬
‫بمامرسة «النظر» عىل نحو ينأى به عن املشهور من الرأي‬
‫يستقر يف الظاهرة أو الواقعة إال بعد أن‬
‫ُّ‬ ‫أن ّ‬
‫الكل ال‬ ‫ثاني ًا‪ :‬اعتبار َّ‬ ‫واملألوف من التناول سعي ًا إىل الوجاهة وأم ً‬
‫ال يف اجلدَّ ة‪ ،3‬بيد‬
‫يكتسب كثافة أنطولوج َّية بحيث يتع ّلق التفلسف بالنَّظر يف طبيعة‬ ‫أن ذلك يقتيض منَّا بيان املعنى الذي بمقتضاه تستحيل خاص َّية‬ ‫َّ‬
‫السلف‪ ،‬والذي يتمظهر يف ظاهرة أو‬ ‫تؤسسه فكرة َّ‬ ‫الوجود الذي ّ‬ ‫«النَّظري» إىل رشط إمكان فلسف َّية «النَّظر»‪ ،‬وال يكون ذلك‬
‫واقعة إنسان َّية بكيف َّية يكون معها هذا الوجود جمال النَّظر الفلسفي‬ ‫عم هو أصيل يف‬ ‫ممكن ًا يف تقديرنا إال إذا ما اضطلعنا بالكشف َّ‬
‫أنطولوجية‪،‬‬
‫َّ‬ ‫بامتياز‪ ،‬وتكون املقاربة الفلسف َّية بذلك مقاربة نظر َّية‬ ‫مدلول النَّظري «ثيوريا» (‪ )théoria‬من جهة إحالته إىل معنى‬
‫تظل بالنسبة إىل الفيلسوف ظهور ًا لكيان‬ ‫أن الظاهرة‪ُّ 7‬‬ ‫عىل أساس َّ‬ ‫َّ‬
‫وألن‬ ‫«الس ُمو يف كيف َّية املقاربة»مقارنة مع غريها من الكيفيات‪،4‬‬
‫ُّ‬
‫ال بذلك صورة متم ّيزة‪.‬‬ ‫جيسد فكرة أو مفهوم ًا مش ّك ً‬ ‫ّ‬ ‫السامية يف النظر ترتَّب عىل ذلك‬ ‫ّ‬
‫«النَّظري» ها هنا يتعلق بالكيفية َّ‬
‫السياق ُّ‬
‫تظل رهن القدرة‬ ‫أن خصوصية النظر الفلسفي ضمن هذا ّ‬ ‫َّ‬
‫بمهمة الفهم‪ ،‬وأن يكون ذلك متناسب ًا مع فرادة‬ ‫ثالث ًا‪ :‬االضطالع َّ‬ ‫عىل االستجابة للرشوط التالية‪:‬‬
‫بمجرد واقعة‪/‬‬ ‫َّ‬ ‫النَّظر وخصوص َّية املوضوع‪ ،‬إذ األمر ال يتع ّلق‬
‫ال من الناحية اإلنسان َّية‪ .‬وعىل هذا‬ ‫ظاهرة‪ ،‬بل بمسألة تثري مشك ً‬ ‫أوالً‪ :‬التع ّلق بمطلب الكل َّية‪ ،‬وذلك من خالل اعتبار َّ‬
‫أن أ َّية‬
‫«السلف» مقاربة فلسف َّية «نظر َّية»‪،‬‬‫األساس تكون مقاربتنا ملسألة َّ‬ ‫جتسد الكيل عىل نحو‬ ‫ظاهرة أو واقعة موضوع النَّظر عىل جزئيتها ّ‬
‫وألن األمر ههنا‬ ‫َّ‬ ‫ويكون منظورنا الفلسفي منظور ًا «أنطولوجي ًا»‪.‬‬ ‫الصورة احلاملة لفكرة أو ملفهوم‪،‬‬ ‫ما‪ ،‬والذي يتجىل يف مستوى ُّ‬
‫حري بنا‬
‫بمهمة فهم صورة‪ ،‬فإنَّه ٌّ‬ ‫ال يتعلق بمطلب تفسري ظاهرة بل ّ‬ ‫بحيث تكون ممارسة النَّظر الفلسفي يف الظاهرة متع ّلقة بام هو كيل‬
‫بالسياق‬ ‫أن نموذج الفهم ضمن هذا اإلطار ال يرتبط ّ‬
‫‪8‬‬ ‫التأكيد عىل َّ‬ ‫جتسدها‪ ،‬والتي متثل‬ ‫السلف التي ّ‬ ‫فيها‪ ،‬ونعني بذلك أساس ًا فكرة َّ‬
‫اإلبستمولوجي (العلوم اإلنسانية‪ :‬علم التاريخ‪ ،‬علم االجتامع‪،‬‬ ‫رشط إمكاهنا‪ ،‬من أجل ذلك كان النَّظري يف إطار التفلسف رؤية‬
‫علم النفس‪ ،‬األنرتوبولوجيا)‪ ،‬وال يستمدُّ رشوط إمكانه منه‪،‬‬

‫‪ Lacroix (J), Interview, In Revue la nouvelle critique , 1972,p 20.‬ـ  ‪5‬‬ ‫الفكرة والكيان والظاهرة فحسب‪ ،‬بل تُعلّل فضالً عن ذلك بالقدرة عىل التفكري‬
‫‪ 6‬ـ انظر موريس مرلوبنتي‪ ،‬تقريظ الحكمة‪ ،‬ترجمه وقدَّم له‪ :‬مح َّمد محجوب‪،‬‬ ‫يف الظاهرة انطالقاً من رشوط إمكانها األنطولوج َّية‪ ،‬أي من جهة كونها ّ‬
‫تجسد‬
‫دار أميَّة‪ 1995 ،‬ص ‪.100‬‬ ‫كياناً متميّزا ً‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ خالفاً ملا يقتضيه املنظور العلمي يف مقاربته للظواهر من رضورة تنزيل‬ ‫ترسب من تصورات متهافتة ال ترى‬
‫‪ 3‬ـ تقرتن الجدّة ههنا بالقدرة عىل تجاوز ما َّ‬
‫الظاهرة منزلة املعطى الحامل لحقيقة ما والتي يجب اكتشافها من بعد‬ ‫يف النظر الفلسفي غري تأمالت جوفاء يُقاس عمقها بعمق اله َّوة التي تفصلها عن‬
‫إخضاعها آلليات التفكري العلمي‪ ،‬فإ َّن مقاربتنا الفلسف َّية تنخرط ضمن أفق‬ ‫واقع البرش واألشياء‪ ،‬األمر الذي يجعل من ذلك التجاوز رضورة للنجاح وسبيالً‬
‫وتجل لكينونة ميكن مقاربتها‬
‫فلسفي تأوييل ال يرى يف الظاهرة غري ظهور لكائن ٍّ‬ ‫له يف امتحان تلك القدرة من جهة‪ ،‬ورهاناً عىل ما يجعل من «النظر» طريق‬
‫تأويل َّياً باعتبارها رشط إمكان ظهور الظاهرة‪.‬‬ ‫التفلسف يف مقاربته للوقائع عىل نحو يجمع فيه بني عمق التفكري النافذ فيها‬
‫‪ 8‬ـ فيام يتعلّق بالداللة األنطولوجيَّة للفهم مقابل التأويل اإلبستيمولوجي‪ ،‬انظر‬ ‫من جهة واستيعاباً لحميميَّة القرب منها من جهة أخرى‪.‬‬
‫والسد‪ ،‬ترجمة وتقديم سعيد غامني‪ ،‬املركز‬
‫مؤلف ديفيد وورد‪ ،‬الوجود والزمان َّ‬ ‫السمو يف كيف َّية النظر ال يعني اإلعراض عن معالجة الوقائع أو الظواهر‬
‫‪ 4‬ـ إ َّن ُّ‬
‫الثقايف العريب‪ ،‬املقال الثالث‪ ،‬أسالف فلسفة ريكور‪ ،‬يف «الزمان والرسد» لصاحبه‬ ‫والتعايل عنها لجزئيتها أو عرضيتها‪ ،‬بل يعني عىل العكس من ذلك متاماً اإلقبال‬
‫كيفن فانهوزر ص‪ .72‬ويف السياق نفسه‪ ،‬انظر أيضاً جان غراندان‪ ،‬املنعرج‬ ‫يخص‬
‫جسد خصوص َّية الرؤية وفرادة املعالجة مادام األمر ُّ‬
‫عليها من موقع يُ ّ‬
‫الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا‪ ،‬ترجمة وتقديم د‪ .‬عمر مهيبل‪ ،‬الدار العربيَّة‬ ‫املجسدة له أو عرضيَّة‬
‫الشأن اإلنساين بوجه عام‪ ،‬برصف النظر عن جزئيَّة الواقعة ّ‬
‫للعلوم ـ نارشون ‪ .2007‬الفصل الرابع ص ‪.152‬‬ ‫املعبة عنه‪.‬‬
‫الظاهرة ّ‬

‫‪269‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫منصف الوساليت‬ ‫مقاالت‬

‫وأن غرييته‬ ‫السلف آخر مغاير ًا‪َّ ،‬‬ ‫تقيض خاص َّية «الغري َّية» باعتبار َّ‬ ‫خيص فهم‬ ‫بل يرتبط أساس ًا بالسياق األنطولوجي مادام األمر ُّ‬
‫مؤسسة عىل أفضليته بام هي أفضل َّية يف الدرجة ال يف الطبيعة‪ ،‬األمر‬ ‫َّ‬ ‫هذه الكينونة التي تتجىل يف مستوى الظاهرة‪ ،‬ذلك ما جيعلنا نؤكّد‬
‫الذي يرفعه إىل مستوى النموذج‪/‬املثال‪ ،‬عىل نحو تكون عالقة‬ ‫خصوص َّية هذه املقاربة مقارنة بغريها من املقاربات‪ ،‬وذلك من‬
‫حيوله إىل آخر‬ ‫اخللف به عالقة عىل جهة املحاكاة واالقتداء‪ ،‬اقتداء ّ‬ ‫جهة اضطالعها بالنَّظر يف األساس األنطولوجي باعتباره مستوفي ًا‬
‫مغاير بدوره رغم كوهنا ليست من جنس غري َّية املثال‪ .‬وبرصف‬ ‫«السلف» ضمن هذا املقال‪.‬‬
‫ملقصود انشغالنا بمسألة َّ‬
‫فإن ما‬‫السلف واخللف َّ‬ ‫النَّظر عن االختالف يف طبيعة الغري َّية بني َّ‬
‫يتعي أساس ًا‬ ‫بالسلف َّ‬ ‫يميز طبيعة الكيان الناتج عن عالقة اخللف َّ‬ ‫وحتى تكون حماولتنا يف هذا املقال وافية بمقصودها من جهة‬
‫«السلف»‪ .‬وأ َّما‬ ‫يف هذه الغري َّية التي متثل داللة من دالالت فكرة َّ‬ ‫«السلف» من زاوية أنطولوج َّية وضمن‬ ‫االضطالع بمقاربة فكرة َّ‬
‫خاص َّية «التارخيان َّية» فنقصد هبا اجتامع عنرصين متعارضني يف‬ ‫سياق فلسفي نظري‪ ،‬كان لزام ًا علينا تغيري وجهة السؤال والدفع‬
‫كائن؛ عنرص الزمن َّية من جهة‪ ،‬وعنرص الالزمن َّية من جهة أخرى‪،‬‬ ‫بالتفكري إىل حدوده القصوى من خالل إثارة تساؤل يكون أكثر‬
‫متجذر يف‬‫ّ‬ ‫يتعي ككائن تارخيي‬ ‫فالسلف من جهة وضعه البرشي َّ‬ ‫َّ‬ ‫جذر َّية وتكون صياغته عىل النحو اآليت‪:‬‬
‫مقوماته الثقاف َّية‪ ،‬ولكن من جهة وضعه الرمزي‪/‬‬ ‫بكل ّ‬ ‫عرص ما ّ‬ ‫السلف سلف ًا؟ أو ما وجه سلف َّية َّ‬
‫السلف؟‬ ‫ما الذي جيعل من َّ‬
‫اإليتيقي يظهر كائن ًا ال تارخيي ًا خارج إطار الزمن َّية باعتباره نموذج ًا‬ ‫السلف‬ ‫ليس باإلمكان اإلجابة عن هذا السؤال ما مل نتمثل صورة َّ‬
‫وألن األمر يتع ّلق باجلمع بني عنرصين‬ ‫َّ‬ ‫للمحاكاة ومثاالً لالقتداء‪،‬‬ ‫جمسدة لرضب من الكيان املتميز يف كيف َّية‬ ‫من جهة اعتبارها فكرة ّ‬
‫«حمصلة» للعالقة‬‫‪10‬‬
‫ّ‬ ‫السلف إىل‬ ‫حتول َّ‬‫متناقضني ترتَّب عىل ذلك ُّ‬ ‫حضوره وتواجده‪ ،‬األمر الذي يستوجب متييز ًا بني الظاهرة‬
‫بني الزمن َّية والالزمن َّية‪ ،‬يصري بمقتضاها كائن ًا «تارخيان َّي ًا»‪ .‬وكذلك‬ ‫ورشوط إمكاهنا األنطولوج َّية‪ .‬وعىل هذا األساس تقرتن اإلجابة‬
‫يتحول بفعل االقتداء واملحاكاة‬ ‫َّ‬ ‫الشأن بالنسبة إىل اخللف الذي‬ ‫عن سؤالنا بالتفكري يف هذا الكائن الذي يمثل رشط إمكان‬
‫ويعمقها‪ .‬عىل‬ ‫ِّ‬ ‫جيذر غرييتهام‬‫إىل كائن تارخياين بدوره‪ ،‬األمر الذي ّ‬ ‫السلف‪ .‬فإذا كانت الظاهرة تعني‬ ‫جيسد فكرة َّ‬ ‫الظاهرة‪ ،‬والذي ّ‬
‫السلف يف وعي اخللف‬ ‫جترد َّ‬‫هذا األساس يمكن تعليل كيفية ُّ‬ ‫سلفي‬
‫ّ‬ ‫انتظام برش وتشكّله يف مجاعة عىل أساس عقدي َّ‬
‫فإن ما هو‬
‫كل الرشوط‬ ‫جترد من ّ‬ ‫كل زمن َّية‪ ،‬وما يرتتَّب عىل ذلك من ُّ‬ ‫من ّ‬ ‫يتعي كأساس هلذا االنتظام ورشط إمكانه‬ ‫السلفية َّ‬ ‫يف مستوى َّ‬
‫التارخي َّية والثقاف َّية (السياس َّية واالجتامع َّية واالقتصاد َّية)‪ ،‬بحيث‬ ‫األنطولوجي‪ .‬هبذا التمييز بني الظاهرة والكيان يتسنَّى لنا حتديد‬
‫الرمز َّية‬‫يصبح كائن ًا ال زمني ًا ‪ Intempestif‬لكي يرتفع إىل مقام َّ‬ ‫مقصود سؤالنا وحتديد سبيل اإلجابة عنه‪ .‬ولك َّن استيعابنا لداللة‬
‫فكرة«السلف» وفهمها عىل نحو كيل ال يكون إال فلسفي ًا وخارج‬ ‫َّ‬
‫كتاباته‪ ،‬والس َّيام مؤلّفه األسايس «الكينونة والزمان»‪ ،‬ألنَّنا سنكتفي باستدعاء ما‬ ‫تظل يف تقديرنا جزئ َّية عىل وجاهتها‪ ،‬األمر‬ ‫الرشوط املعرف َّية التي ُّ‬
‫السمة‬
‫هو أنطولوجي‪/‬ف ّني من تلك الداللة الفلسفيَّة‪ ،‬حيث تفيد التاريخانيَّة ّ‬ ‫الذي يقيض برضورة توجيه النظر باجتاه تلك الداللة باعتبارها‬
‫التي تجعل الكائن (والسيام الكائن الفني) مفتوحاً عىل املمكن‪ ،‬األمر الذي يؤكّد‬ ‫«السلف»‪.‬‬
‫مستوفية ملقصود انشغالنا بصورة َّ‬
‫خلوده وتواصله يف الحضور رغم انتفاء رشوطه التاريخيَّة‪ ،‬فيستحيل مبقتىض ذلك‬
‫إىل كائن يجمع بني التاريخ َّية والخلود‪ ،‬أي كائناً تاريخان َّياً‪ .‬انظر يف هذا السياق‬ ‫السلف‬
‫في داللة فكرة َّ‬
‫املقال تحت عنوان‪:‬‬ ‫السلف‬
‫«السلف» أو معنى سلف َّية َّ‬
‫يرتبط حتديد داللة فكرة َّ‬
‫)‪( Imagination et Œuvre d’art chez Heidegger‬‬ ‫باالنتباه إىل خاصيتني أساسيتني ُت ّيزان الكائن الذي ِّ‬
‫جيسد فكرة‬
‫لصاحبه ( ‪ ) Jean Marie Vaysse‬الوارد ضمن املجلة التونسيَّة للدراسات‬ ‫السلف‪ ،‬ونقصد بذلك أساس ًا خاص َّية «الغري َّية» من جهة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫الفلسف َّية‪ ،‬العدد الخامس‪ ،‬مارس ‪.1986‬‬ ‫وخاص َّية «التارخيان َّية» من جهة أخرى‪.‬‬
‫‪9‬‬

‫باملحصلة( ‪ ) Résultante‬الحاصل أو الحصيلة باملعنى الريايض‪،‬‬


‫ّ‬ ‫‪ 10‬ـ ال نقصد‬
‫حيث الجمع بني كائنات رياض َّية ال توت ّر بينها‪ ،‬بل نقصد بها السياق الفيزيايئ‬ ‫‪ 9‬ـ ال نقصد بالتاريخان َّية ( ‪ ) Historialité‬رؤية تاريخ َّية‪ ،‬وال نقصد بها كذلك‬
‫حيث الجمع بني عنارص فيزيائيَّة متعارضة‪ ،‬ترتبط فيام بينها بعالقات متوتّرة‪،‬‬ ‫نزعة مذهبيَّة دغامئيَّة (تاريخاويَّة) فضالً عن كوننا ال نستدعي يف هذا السياق‬
‫تكون رشط إمكان حقيقة الكائن الفيزيايئ وتوازنه‪.‬‬ ‫كامل الداللة الفلسف َّية التي حدَّد معاملها هايدغر( ‪ ) Heidegger‬يف مختلف‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪270‬‬
‫مقاالت‬ ‫السلف‪ :‬تأ ُّمالت فلسف َّية يف الدّ اللة والوضع‬
‫ُصورة َّ‬

‫ماضي ًا َم ْع َلمي ًا بفعل «التحنيط» القائم عىل بداهة االعتقاد‪ .‬هبذه‬ ‫والقداسة‪ ،‬ويستقر يف وعي اخللف حضور ًا لصورة‬
‫ُّ‬ ‫العلو‬
‫ُّ‬ ‫حيث‬
‫اخلاص َّية التحنيط َّية يف التعامل مع املايض من ناحية طبيعة الرؤية‬ ‫التجرد من حضوره‬
‫ُّ‬ ‫مقدَّ سة ومعلم َّية‪ ،‬وباملقابل يسعى اخللف إىل‬
‫بالسلف هذا الكائن ‪/‬‬ ‫نتبي خصوص َّية عالقة اخللف َّ‬ ‫واالعتقاد َّ‬ ‫الصورة‬
‫التجرد من احلارض والتواصل مع تلك ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫الزمني‪ ،‬أي‬
‫السلف وغري َّية اخللف بفعل‬
‫األثر عىل نحو يمكننا من فهم غري َّية َّ‬ ‫جمسد ًا بذلك كيان ًا ال زمني ًا‪ .‬وبخاصيتي‬
‫خارج إطار الزمن َّية ّ‬
‫املجسدة‬
‫ّ‬ ‫نتأول غري َّية اخللف‬
‫املحاكاة عىل جهة االقتداء‪ .‬ولكي َّ‬ ‫حيوهلا‬
‫«السلف» التي ّ‬
‫«الغري َّية والتارخيان َّية»‪ ،‬نحدّ د مدلول فكرة َّ‬
‫هلذه الكيف َّية يف الوجود املختلف واملتميز التي تتجىل يف ظاهرة‬ ‫اخللف إىل كائن من خالل فعل االقتداء واالعتقاد‪.‬‬
‫اجتامع َّية (فرقة‪ ،‬مجاعة ‪ )...‬سنعمد إىل االستئناس بمفهوم‬
‫«النَّابت» وفق التحديد اخلاليف ٍّ‬
‫لكل من «الفارايب» و«ابن باجة»‪.‬‬ ‫تح ُّول الفكرة إلى كيان‬
‫مشخصة يف‬ ‫ّ‬ ‫«السلف» وضع «الصورة ‪-‬الرصيد»‬ ‫حتوز فكرة َّ‬
‫لنتبي معنى «النَّابت»ألفينا‬‫تصور الفارايب َّ‬ ‫إذا ما انرصفنا إىل ُّ‬ ‫تصوره ويف سلوكه‪،‬‬ ‫يتعي نموذج ًا بالنسبة إىل اخللف يف ُّ‬ ‫كائن َّ‬
‫وبتصوره للوجود املدين‬ ‫ُّ‬ ‫حتديده مرشوط ًا بمنظوره املدين‬ ‫فإن االستيعاب القيمي ـ األخالقي هلذه الصورة ـ الرصيد‬ ‫لذلك َّ‬
‫املتعي نظر َّي ًا يف املدينة الفاضلة‪ ،‬األمر الذي يؤدي إىل‬ ‫ّ‬ ‫الفاضل‬ ‫وإن الرمز َّية‬‫سموه وقداسته‪َّ .‬‬ ‫الرمز يف ّ‬‫السلف إىل مستوى َّ‬ ‫ترفع َّ‬
‫ألن وجوده يكون عىل نحو خمالف‬ ‫اعتبار «النَّابت» كائن ًا فاسد ًا َّ‬ ‫حتوله بالنسبة‬ ‫السلف إىل مستوى «املثال» فهي ّ‬ ‫والقداسة إذ ترفعان َّ‬
‫أن «النَّابت» كائن‬‫ملقتضيات الوجود املدين الفاضل‪ ،‬وهو ما يعني َّ‬ ‫حتوله مرجع ًا‬ ‫إىل اخللف مرجع ًا للحق‪ ،‬حيث اليقني الراسخ‪ ،‬كام ّ‬
‫يرتصد وجود املدينة الفاضلة‬ ‫َّ‬ ‫يوجد بكيف َّية تستحيل إىل خطر‬ ‫ختص‬ ‫الصورة النَّمطية التي ُّ‬‫أن هذه ُّ‬ ‫قيمي ًا حيث اخلري األعظم‪ .‬بيد َّ‬
‫بتصور ابن باجة ألفينا حتديده‬ ‫ُّ‬ ‫ويتهدَّ دها‪ ،12‬أ َّما إذا ما استأنسنا‬ ‫السلف باعتباره نموذج ًا ومرجع ًا تستوجب مقاربة تأويل َّية‬ ‫وضع َّ‬
‫«للمتوحد»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تصوره‬
‫ُّ‬ ‫ملعنى «النَّابت» يستمدُّ رشوط إمكانه من‬ ‫متكِّن من استيعاب هذا الوضع املخصوص واملتميز وفهمه‪،‬‬
‫ال يف جمتمع فاسد‪ ،‬وذلك نظر ًا إىل‬ ‫بحيث يكون «النَّابت»كائن ًا فاض ً‬ ‫جيسد وضع ًا اختالف َّي ًا يكون الغياب‬ ‫فالسلف من جهة الكينونة ّ‬ ‫َّ‬
‫الكيف َّية املتميزة يف الوجود التي يكون عليها هذا «النَّابت»‪ ،‬والتي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫بمقتضاه حضورا‪ ،‬فيصبح بذلك دال من غري ظهور ومؤثرا يف‬ ‫ً‬
‫تكون عىل جهة التدبري والنَّظر العقليني‪ ،‬وهو شأن الفيلسوف‪.13‬‬ ‫اخللف تأثري ًا بالغ الوقع رغم الغياب مادامت كينونته قدَّ ت من‬
‫«أثر»‪ ،11‬وشأن األثر أن يكون عص َّي ًا عىل الوضوح والتم ُّيز‪ ،‬ألنَّه‬
‫هبذا املعنى يفيد «النَّابت» من حيث الداللة الكائن الذي‬ ‫يتموضع يف منطقة تصل احلضور بالغياب‪ ،‬فاألثر حضور لكائن‬
‫جيسد كيف َّية خمتلفة ومتميزة يف الوجود سواء اعتربنا هذا الكائن‬
‫ّ‬ ‫غائب‪ ،‬فال هو غياب تام وال هو حضور ّبي‪ ،‬األمر الذي جيعل‬
‫ال من منظور‬ ‫فاسد ًا من منظور مدين فاضل أو اعتربناه فاض ً‬ ‫االلتباس والغموض خاصيته األساس َّية‪ ،‬عىل نحو يستحيل معه‬
‫بالسلف صورة‬ ‫«املتوحد»‪ ،‬وبناء عليه يكون اخللف يف ارتباطه َّ‬
‫ّ‬ ‫إىل كائن ـ أثر حيوز بفعل االقتداء كثافة أنطولوج َّية جتعله كائن ًا‬
‫تدل عىل كائن «نابت» متميز يف كيف َّية وجوده‬‫وكيان ًا ظاهرة ُّ‬ ‫تتحول فيه صورة السلف النموذج َّية‬ ‫دائم احلضور إىل احلدّ الذي َّ‬
‫وخمتلف يف تواجده ‪ .‬وبرصف النَّظر عن موقف احلسم املنترص‬
‫‪14‬‬
‫إىل «أيقونة» تكون عالمة عىل يقني راسخ وحق مكني‪ ،‬فنحصل‬
‫حتوله إىل مثل أعىل من جهة‬ ‫بذلك عىل صورة نموذج َّية للاميض ّ‬
‫‪ 12‬ـ انظر‪ :‬أبو نرص الفارايب‪ ،‬كتاب السياسة املدنيَّة‪ ،‬دار سرياس للنرش‪ ،‬تونس‬ ‫رمزيته وقداسته ومرجعيته بالنسبة إىل احلارض‪ ،‬األمر الذي جيعله‬
‫‪ 1994‬ص‪.98‬‬
‫الصائغ بن باجة‪ ،‬تدبري املتو ّحد‪ ،‬دار سرياس للنرش‪ ،‬تونس‬
‫‪ 13‬ـ انظر‪ :‬أبو بكر بن َّ‬ ‫‪ 11‬ـ فيام يتعلّق بعبارة لفيناس‪ ،‬انظر مقال‪:‬‬
‫‪ ،2009‬ص‪. 19/18‬‬ ‫»‪« Etre en tant que laisser une trace‬‬
‫‪ 14‬ـ وليس ّ‬
‫أدل عىل ذلك من التواجد الراهن للجامعة‪/‬الفرقة ذات املنزع‬ ‫‪-Strasser (stéphan), Le concept de « Phénomène » chez Lévinas‬‬
‫السلفي فكرة وواقعاً برشياً يف مجتمعات ذات طبيعة مدن َّية من حيث كيف َّية‬
‫َّ‬ ‫‪et son importance pour la philosophie religieuse, in Revue‬‬
‫الوجود وما يرتتب عىل ذلك من تباين يف املواقف التقييميَّة‪ ،‬فمن منظور‬ ‫‪philosophique de louvain,Quatrième série, Tome 76 n 31,1978,‬‬
‫تجسد كائناً نابتاً ُّ‬
‫تدل كيف َّية وجوده عىل «الفساد»‬ ‫مدين ت ُع ّد السلف َّية ظاهرة ّ‬ ‫‪p.329.‬‬

‫‪271‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫منصف الوساليت‬ ‫مقاالت‬

‫التام لنفوذ املحدّ ث بتوسله ما أمكن له من الوسائل باسم احلق‬ ‫يتأول معنى‬
‫تؤسس لفهم َّ‬ ‫هلذه الرؤية أو تلك َّ‬
‫فإن املقاربة التأويل َّية ّ‬
‫السلفي يف اإلسالم‬ ‫واألخالق‪ .‬وبمقتىض ذلك أضحى املنزع َّ‬ ‫هذه الظاهرة أنطولوجي ًا من جهة اعتبارها داالً عىل كائن «نابت»‬
‫جيسد فلسفي ًا العالقة بني احلق والسلطان‪ .‬ولكنَّه ال‬ ‫ظاهرة دين َّية ّ‬ ‫جيسد كيفية وجود فريدة وخمتلفة جتعله ظاهرة‪.15‬‬ ‫ّ‬
‫السلفي إىل ظاهرة إال من خالل‬ ‫حتول املنزع َّ‬ ‫يتسنى لنا أن نشهد ُّ‬
‫امتداد اجتامعي وجغرايف‪ ،‬حيث التشكُّل البرشي ضمن إطار‬ ‫تح ُّول الكيان إلى ظاهرة‬
‫السلفية بجميع مظاهرها إال كيف َّية من كيفيات‬ ‫مجاعة أو فرقة‪ ،‬وما َّ‬ ‫جسد‬ ‫إن تشكّل صورة اإلسالم عقيدة وسياسة تارخي َّي ًا قد ّ‬ ‫َّ‬
‫أن تلك الكيف َّية‬‫املجسد هلذا املنزع اجتامعي ًا وجغرافي ًا‪ ،‬عىل َّ‬‫ّ‬ ‫الوجود‬ ‫وضع ًا فارق ًا ومتميز ًا لإلسالم ضمن سياق مسار التاريخ‬
‫ال عن كوهنا تتعلق بتأويل ما‬ ‫السلف فض ً‬ ‫ال تستويف داللة سلف َّية َّ‬ ‫واحلضارة ‪ ،‬سواء من جهة سريورة تشكّل النّص املرجعي‬
‫تصور اخللف وعن طبيعة متثله لداللة تلك‬ ‫يعب عن ُّ‬ ‫السلف ّ‬ ‫لفكرة َّ‬ ‫للعقيدة الذي انتهى إىل رضورة التوحيد من خالل املصحف‬
‫الفكرة وما يرتتب عن ذلك عملي ًا من استحالة املنزع السلفي إىل‬ ‫اإلمام أو من خالل تدوين السرية متهيد ًا لتأسيس ُ‬
‫السنّة أو من‬
‫فإن مقاربتنا الفلسف َّية تتميز بخصوص َّية التعامل‬ ‫ظاهرة‪ ،‬ولذلك َّ‬ ‫جهة سريورة اخلالفة عىل امتداد التاريخ إىل حدود ال ّلحظة التي‬
‫مع «الظاهرة»‪ ،‬وذلك من جهة اعتبارها «ظهور ًا» لكائن ما عىل‬ ‫متاهت فيها العقيدة بالسياسة إىل احلدّ الذي أضحت معه عقيدة‬
‫أن الكائن ال يكون إال بام يظهر‪ ،‬وهو ما‬ ‫معي‪ ،‬عىل أساس َّ‬ ‫نحو َّ‬ ‫النَّاس تُضبط بقرار سيايس‪ ،16‬األمر الذي جيعل من هذا التجسيد‬
‫أن الظاهرة ال تكون فقط يف ما يظهر بل يف ما به يوجد هذا‬ ‫يعني َّ‬ ‫تأسيس ًا لتاريخ ورس ًام لقدر‪ ،‬والذي ضمنه نشهد بداية تشكّل‬
‫أن الكائن ال حيوز قيمة الوجود بالنسبة‬ ‫الكائن بالنسبة إلينا‪ ،‬كام لو َّ‬ ‫«السلف»من جهة اعتباره مرجع ًا للحق ومرجع ًا للخري‬ ‫صورة َّ‬
‫إلينا إال بام هو ظاهرة‪ .17‬ومن هذا املنطلق تكون الظاهرة جتسيد ًا‬ ‫نتبي‬‫السياق الذي َّ‬ ‫األعظم بالنسبة إىل اخللف‪ ،‬كام نشهد تشكل ّ‬
‫لكائن يظهر عىل نحو ما‪ ،‬ممَّا جيعلها حتوز وضع ًا وقيمة أنطولوج َّية‬ ‫السلفي‪ ،‬األمر الذي جيعل من هذه النشأة حدث ًا‬ ‫ضمنه نشأة املنزع َّ‬
‫بالنسبة إلينا‪ ،‬ذلك ما يعلل رضورة التزام املقاربة النَّظر َّية باألفق‬ ‫ومؤسس ًا لقدر‪ .‬من هذا املنطلق يمكن اعتبار املنزع‬‫ّ‬ ‫فاحت ًا لتاريخ‬
‫تتأسس عىل استيعاب‬ ‫مهمة الفهم التي َّ‬ ‫األنطولوجي ضمن إطار َّ‬ ‫السلفي حدث ًا من جهة تأسيسه لتاريخ التحالف بني السيايس‬ ‫َّ‬
‫مؤسس ًا‬‫هلذا الكائن املنكشف أو الظاهر وفق كيفية ما استيعاب ًا ّ‬ ‫والعقدي حتالف ًا ُيفرض فيه العقدي سياسي ًا و ُيرشع فيه السيايس‬
‫للمعنى‪.‬‬ ‫عقدي ًا‪ ،‬ولكن أيض ًا من جهة رسمها لقدر تكون فيه سيطرة‬
‫النقل عىل العقل بإسناد سيايس وبتأييد منه‪ ،‬كام يكون فيه البسط‬
‫كل سعي إىل فهم هذه الظاهرة‪،‬‬ ‫السابق إىل القلب يف ّ‬
‫إذا كان َّ‬
‫الرغبة يف االستئناس باملقاربات ذات الطبيعة املعرف َّية عىل‬ ‫يرتصد وحدته‪ ،‬يف حني أنَّه من‬
‫الذي يتهدَّد مدن َّية االجتامع وعىل الخطر الذي َّ‬
‫ال عن‬‫اختالف ألواهنا العتقادنا يف قدرهتا التفسري َّية نظري ًا فض ً‬ ‫مجسدة للوجود الفاضل يف مجتمع فاسد‬
‫منظور»الجامعة» تكون هذه الظاهرة َّ‬
‫الصدر أن تكون‬ ‫فإن الذي يرضب يف َّ‬ ‫مستطاع نتائجها عملي ًا‪َّ ،‬‬ ‫ج َّراء كيف َّية تواجده‪.‬‬
‫تنزل هذه الظاهرة منزلة املوضوع حتت‬ ‫مجيع هذه املقاربات التي َّ‬ ‫‪ 15‬ـ إ َّن أهميَّة هذه املقاربة تكمن أساساً يف التنبيه عىل أ َّن االختالف ليس‬
‫رش َطي الزمان واملكان‪ ،‬عاجزة عن أن تدرك من حقيقة الكائن‬ ‫عرضياً‪ ،‬بل إنَّه اختالف أنطولوجي‪ ،‬مادام األمر يتعلق برصاع وجود يتخذ شكل‬
‫تظل تلك‬‫جتسده هذه الظاهرة غري بعض من داللته‪ ،‬ولذلك ُّ‬ ‫الذي ّ‬ ‫كل اإلمكانيات‪ .‬وقد يكون‬
‫«حرب إرادات» غري مأمونة العواقب قد تُستنفد فيها ُّ‬
‫املقاربات مستوفية لرشوطها املعرف َّية غري وافية بحقيقة الكائن‪.‬‬ ‫من الغباء النظري أو السيايس متثل هذا الرصاع عىل غري هذه األرض َّية وضمن‬
‫من أجل ذلك ال نرى وجاهة إال يف مقاربة تتمثل الظاهرة بناء عىل‬ ‫أفق مغاير‪.‬‬
‫جتسده‪ ،‬بحيث ال يتعلق األمر يف تقديرنا‬ ‫خصوص َّية الكائن الذي ّ‬ ‫نص االعتقاد القادري الذي نُسب إىل الخليفة الع ّبايس القادر‬
‫‪ 16‬ـ انظر مضمون ّ‬
‫هبم تفسريي لظاهرة‪-‬موضوع‪ ،‬بل يتع ّلق بمطلب فهم ملعنى كيان‬ ‫ّ‬ ‫باللّه‪ ،‬أورده الحافظ ابن الجوزي يف تاريخه «املنتظم يف تاريخ امللوك واألمم»‬
‫كل مقاربة ذات‬ ‫متفرد يف كيف َّية تواجده‪ ،‬األمر الذي جيعل من ّ‬ ‫ّ‬ ‫دراسة وتحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا‪ ،‬راجعه‬
‫وص َّححه نعيم زرزور‪ ،‬دار الكتب العلميَّة‪ ،‬بريوت ‪ -‬لبنان‪ ،‬حوادث سنة ‪433‬هـ‪،‬‬
‫‪ 17‬ـ انظر مقال (‪ Strasser (stéphan‬املذكور سالفاً‪.‬‬ ‫الجزء ‪ 15‬ص‪.282/281/280/279‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪272‬‬
‫مقاالت‬ ‫السلف‪ :‬تأ ُّمالت فلسف َّية يف الدّ اللة والوضع‬
‫ُصورة َّ‬

‫الفكرة إىل الظاهرة فحسب‪ ،‬بل تقتيض فض ً‬


‫ال عن ذلك اختاذنا‬ ‫طبيعة معرف َّية وافية بمقصودها وقارصة عن استغراق حقيقة‬
‫السلف‬‫تأسست عليها صورة َّ‬‫مسافة نقد َّية إزاء البداهات التي َّ‬ ‫يتعي يف عدم االنسجام بني مقتضيات‬ ‫الظاهرة‪ ،‬وموضع القصور َّ‬
‫ضمن مشهور الرأي‪ ،‬وذلك من خالل التنبيه عىل هشاشتها‬ ‫املقاربة وطبيعة الظاهرة وخصوصيتها‪ ،‬فإذا ما استأنسنا باملقاربة‬
‫وهتافت أسسها‪.‬‬ ‫تبي لنا قصورها من‬ ‫االجتامع َّية‪ /‬السوسيولوج َّية عىل سبيل املثال َّ‬
‫السلف‬ ‫جهة سعيها إىل استغراق التمظهر االجتامعي «لعالقة َّ‬
‫السلف بين الواقع واإلنشاء‬
‫صورة َّ‬ ‫باخللف»‪ ،‬من خالل تشكُّله يف مجاعة معل ّلة خاص َّية الغري َّية فيه‬
‫السلف يف مشهور الرأي من خالل مجلة من‬ ‫تتشكَّل صورة َّ‬ ‫ومتعمقة يف األسباب املقتضية‬ ‫ّ‬ ‫انطالق ًا من مفهوم «اهلامش»‪،‬‬
‫االفرتاضات حتوز وضع املس ّلامت التي تتعلق ببداهة الوضع‬ ‫لتواجده عىل هذا النحو وبحسب ما تقتضيه آليات املقاربة‬
‫ال عن بداهة‬ ‫املرجعي وبتمييز األشخاص وباإلمجاع عليهم فض ً‬ ‫يتم استغراق هذا الكيان‬ ‫السوسيولوج َّية‪ ،‬ويف أحسن األحوال ُّ‬
‫ال ّلحظة التارخي َّية لتواجدهم‪ .‬فإذا ما وضعنا مسألة الوضع‬ ‫الكل االجتامعي‪ ،‬سواء‬ ‫الغريي من جهة اعتباره جزء ًا داخل ّ‬
‫للسلف قيد النَّظر الفلسفي تب َّينا االلتباس يف مستوى‬ ‫املرجعي َّ‬ ‫مكون ًا اجتامعي ًا‪ ،‬وهو ما ال يستويف‬ ‫اعتربنا هذا اجلزء عارض ًا أو ّ‬
‫بأي وجه محل‬ ‫الدّ اللة والوضع بني املرجع واملثال‪ ،‬وأنَّه ال يمكن ّ‬ ‫داللة غري َّية هذا الكيان‪ .‬أ َّما إذا ما استأنسنا باملقاربة التارخي َّية فإنَّنا‬
‫«حممد ًا»‬
‫الرسول َّ‬ ‫معنى املثال عىل داللة املرجع‪ ،‬فإذا ما اعتربنا َّ‬ ‫والتحوالت‬ ‫ُّ‬ ‫نتبي سعيها إىل تعليل الظاهرة من خالل النشأة‬ ‫َّ‬
‫الصحابة والالحقون‬ ‫للديني عقيدة وسلوك ًا أضحى َّ‬ ‫ّ‬ ‫مرجع ًا‬ ‫مستندة يف ذلك إىل عنرص الزمن َّية غري منتبهة إىل الوجه اآلخر هلذه‬
‫قدوة يف استيعاهبم للمرجع ومثاالً لغريهم‪ ،‬وإذا ما اعتربنا‬ ‫الظاهرة‪ ،‬املتمثل يف البعد الالزماين الذي جيعلها تارخيان َّية مستوفية‬
‫الرسول بام حيوزه من وضع مرجعي سلف ًا ترتَّب عىل ذلك‬ ‫بذلك رشوطها كمقاربة غري مستوفية خلصوص َّية الظاهرة‪ ،‬األمر‬
‫اعتبار من خيلفه باالقتداء خلف ًا‪ ،‬وأضحى من نعتربه يف مشهور‬ ‫الذي جيعلها قارصة‪ ،‬شأهنا يف ذلك شأن املقاربة السوسيولوج َّية‪،‬‬
‫الرأي خلف ًا لسلف خلف ًا خللف‪ ،‬لذلك وجب التمييز بني املرجع‬ ‫وما قصور هذه املقاربات وغريها (النفس َّية والسياس َّية‪ )...‬إال‬
‫السلف وجعلها‬ ‫ثم إخراج الرسول من دائرة َّ‬ ‫واملثال من جهة‪َّ ،‬‬ ‫لكوهنا ال تدرك من هذا الكيان سوى مظهر أو جهة من حقيقته‪،‬‬
‫مقترصة عىل الصحابة من جهة أخرى‪ .‬لك َّن رفع االلتباس بني‬ ‫وحسبها أن تستجيب لرشوطها ومقتضياهتا كمقاربة ذات طبيعة‬
‫السلف‬ ‫املرجع واملثال ال يعني حتصيل الوضوح فيام يتعلق هبو َّية َّ‬ ‫فإن مجيع املقاربات ذات الطبيعة العلم َّية‬ ‫ال عن ذلك َّ‬ ‫معرف َّية‪ ،‬فض ً‬
‫من خالل «متييز الصحابة»‪ ،‬إذ تقوم األدبيات املتعلقة بمطلب‬ ‫أن‬ ‫مرشوطة يف إمكاهنا املعريف باألساس األنطولوجي‪ ،‬عىل اعتبار َّ‬
‫ال عن عمق االختالف‬ ‫التمييز شاهد ًا عىل استحالة اإلمجاع فض ً‬ ‫كل مقاربة ال تدرك من هذا الكائن سوى مظهر‪ ،‬أي كيف َّية من‬ ‫َّ‬
‫السلف‪-‬املثال‪ ،18‬وال تقترص املعضلة عىل‬ ‫بشأن األجدر بموضع َّ‬ ‫كيفيات وجوده املختلفة‪ ،‬ولذلك تر ُّد جممل املقاربات إىل املرجع َّية‬
‫متييز األشخاص فحسب‪ ،‬بل تتجاوز ذلك نحو استحالة االتفاق‬ ‫جتسد‬ ‫األنطولوج َّية املتع ّلقة بتمثل هذا الكائن يف حقيقته‪ .‬فأن ّ‬
‫بشأن ال ّلحظة التارخي َّية لتواجدهم‪ ،19‬فال إمجاع عىل األشخاص‬ ‫السلف كائن ًا اختالفي ًا من جهة الوجود (آخر) تارخياني ًا‬ ‫فكرة َّ‬
‫من جهة الزمن َّية فذلك أمر يستوجب مقاربة من طبيعة فلسف َّية‬
‫‪ 18‬ـ نذكر يف هذا السياق الخصومة السن َّية الشيع َّية بشأن صورة الصحابة وبشأن‬ ‫تأويل َّية تسعى إىل فهم هذا الكائن يف خصوصيته وضمن األفق‬
‫األحقيَّة والجدارة‪ ،‬وذلك من خالل نصوصهم املتعلّقة باملطاعن والردود‪ ،‬مبا يؤكّد‬ ‫«السلف» مسألة من منظور‬ ‫األنطولوجي‪ .‬هبذا املعنى تكون فكرة َّ‬
‫استحالة اإلجامع‪ ،‬وسنقترص يف هذا املجال عىل ذكر مؤلّف عىل سبيل املثال‪.‬‬ ‫فلسفي نظري‪ ،‬وذلك بالنظر إىل طبيعة الفكر الفلسفي التي تقيض‬
‫انظر كتاب العواصم من القواسم‪ ،‬للقايض أيب بكر بن العريب‪ ،‬تحقيق الدكتور‬ ‫بتجاوز التمثل اجلزئي املرشوط بخصوص َّية املنظور العلمي عىل‬
‫عمر الطالبي‪ ،‬مكتبة دار الرتاث‪ ،‬القاهرة ـ مرص‪.‬‬
‫َّ‬ ‫اختالف ألوانه والتع ّلق بأفق الكل َّية املرشوط بالنفاذ إىل األساس‬
‫السلف ميكن أن نؤكّده‬
‫‪ 19‬ـ بشأن غياب اإلجامع عىل الفرتة التاريخيَّة لوجود َّ‬ ‫األنطولوجي للظاهرة الذي متثله داللة هذه الفكرة‪ ،‬ذلك ما يؤكّد‬
‫من خالل التباين يف املواقف والتصورات‪ ،‬فمنهم من يجعلها حكرا ً عىل الخلفاء‪،‬‬ ‫خصوص َّية مقاربتنا الفلسف َّية لداللة الظاهرة باعتبارها ظهور ًا‬
‫ومنهم من ميدّها إىل الفرتة التي تليهم‪ ،‬ومنهم أيضاً من يحدّها بوفاة أحمد‬ ‫أن خصوص َّية املقاربة ال تستوىف‬ ‫«السلف»‪ .‬بيد َّ‬ ‫جيسد فكرة َّ‬ ‫لكيان ّ‬
‫بن حنبل كام هو األمر مع ابن تيمية‪ ،‬األمر الذي يحول دون القطع باللحظة‬ ‫التحول من‬ ‫ُّ‬ ‫يف جانبها التأسييس من جهة حتديد الداللة ومعاينة‬

‫‪273‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫منصف الوساليت‬ ‫مقاالت‬

‫الصورة املحاكية للمرجع‪،‬‬ ‫السلف حممل ُّ‬ ‫واملثال يقيض بحمل َّ‬ ‫وال اتفاق عىل الفرتة التارخي َّية‪ ،‬األمر الذي يؤكّد هشاشة صورة‬
‫السلف أن حيوز وضع النَّموذج خللفه‪ ،‬ما مل‬ ‫بل إنَّه ليس بإمكان َّ‬ ‫السلف يف مشهور الرأي من جهة وهن أسسها ومرتكزاهتا‪ ،‬كام‬ ‫َّ‬
‫يكن متش ّبه ًا بذلك املرجع عىل نحو جيعله صورته‪ ،‬وههنا وجب‬ ‫السد ‪ .‬واجلدير‬
‫‪20‬‬ ‫ً‬
‫يقيض باعتبارها إنشاء رصفا ال وجود هلا إال يف َّ‬
‫الصور‪ :‬صور حماكية للمرجع ومتش ّبهة به‪،‬‬ ‫التمييز بني رضبني من ُّ‬ ‫نتبي التهافت يف مستوى‬‫تتعمق حني َّ‬‫أن تلك اهلشاشة َّ‬ ‫باملالحظة َّ‬
‫السداد‬ ‫وأخرى متش ّبهة باملثال وحماكية له‪ .‬وحتى نُجري أمرنا عىل َّ‬ ‫مقوماهتا إىل‬
‫الصورة عىل هشاشة ّ‬ ‫بالسلف من وضع ُّ‬ ‫االنتقال َّ‬
‫كان لزام ًا علينا أن نُخضع ُّ‬
‫الصور إىل تراتب َّية تفاضل َّية‪ ،‬إذ ليست‬ ‫وضع الكيان أو الوجود الفعيل‪.‬‬
‫املتش ّبهة باملرجع واملحاكية له كتلك املتش ّبهة باملثال‪ ،‬فهناك اختالف‬
‫يف الطبيعة وفارق يف الدرجة والقيمة بينهام‪ ،‬وعليه سوف نعمد إىل‬ ‫فإنا‬
‫السلف املثالية حمض إمكان إنشائي‪َّ ،‬‬ ‫أن صورة َّ‬ ‫رغم َّ‬
‫الصور األوىل «أيقونات» واعتبار التي دوهنا درجة وقيمة‬ ‫اعتبار ُّ‬ ‫تكتسب كثافة أنطولوج َّية بمقتىض اعتقاد اخللف فيها‪ ،‬فتستحيل‬
‫«نسخ ًا»‪ .‬وبناء عىل هذا االعتبار يمكننا القضاء بكون األيقونات‬ ‫كل خالف‬ ‫متعي ال ريب فيه‪ ،‬بل وموضع إمجاع بمنأى عن ّ‬ ‫إىل كيان ّ‬
‫الصور‬‫أن ُّ‬ ‫(السلف) نسخ ًا أصيلة الرتباطها باملرجع‪ ،‬يف حني َّ‬ ‫َّ‬ ‫الصورة‬‫بالسلف من جمال ُّ‬ ‫وخارج دائرة التظنُّن‪ ،‬فيكون االنتقال َّ‬
‫(اخللف) نسخ ًا عن النسخ أو نسخ ًا من الدرجة الثانية‪ ،‬فإذا كانت‬ ‫السديات أو‬ ‫إىل واقع الكيان بضامنات االعتقاد وضمن سياق َّ‬
‫كل‬ ‫الصور شبيهة بالشبيه‪ ،‬ويف ّ‬ ‫األيقونات شبيهة باملرجع َّ‬
‫فإن ُّ‬ ‫أن االعتقاد هو الفعل الذي‬ ‫املرو َّيات التارخي َّية‪ ،‬وذلك عىل أساس َّ‬
‫ألن ذلك من شأنه‬ ‫احلاالت ال يمكن محل عالقة الشبه عىل املطابقة‪َّ ،‬‬ ‫من شأنه أن يؤ ّمن العالقة التي تربط الصورة بالكائن‪ ،‬وتربط‬
‫أن حيول دون التمييز بني املرجع واملثال‪ ،‬وهو أمر خمالف ملقتضيات‬ ‫الصورة‪ ،‬ويف املقابل‬ ‫املحايث باملتعايل‪ ،‬فيكون الكائن شاهد ًا عىل ُّ‬
‫ثم‬
‫اإليامن‪ .‬ولكنَّه رغم االختالف بني األصل والشبيه من جهة‪َّ ،‬‬ ‫تكون هذه األخرية رشط إمكان ما هو كائن وحمايث‪ ،‬ولذلك ال‬
‫فإن اخللف ينزع‬ ‫االختالف بني الشبيه واملتش ّبه به من جهة أخرى‪َّ ،‬‬ ‫يؤسس‬ ‫السياق العقدي الذي ّ‬ ‫يتسنَّى لنا فهم هذا الوضع خارج ّ‬
‫إىل االعتقاد يف كون التش ُّبه باملثال جيعله مطابق ًا يف اعتقاده وسلوكه‬ ‫الصورة إىل الكائن الذي جيمع بني الزمن َّية من‬ ‫هلذا االنتقال من ُّ‬
‫ال للحق عقيدة وسلوك ًا‪،‬‬ ‫ترشع له أن يكون ممث ً‬‫للمرجع مطابقة ّ‬ ‫واللزمنية من حيث‬ ‫حيث النشأة أي من حيث رشوطه التارخيية‪َّ ،‬‬
‫وألن األمر يتع ّلق باعتقاد يف صورة إنشائ َّية ال إمجاع بشأهنا إال‬
‫َّ‬ ‫االستمرار يف احلضور‪ .‬تلك هي حقيقة هذا الكائن الذي تشكَّلت‬
‫ِ‬
‫داخل م ّلة أو نحلة أو فرقة أو مجاعة ‪ ،...‬ترتَّب عىل ذلك تشكُّل‬ ‫صورته املثال َّية إنشائي ًا ورسد َّي ًا‪ ،‬والتي أضحت بمقتىض االعتقاد‬
‫وتنوعها واختالفها بناء عىل اختالف طبيعة‬ ‫الفرق أو اجلامعات ُّ‬ ‫واقع ًا فعلي ًا‪ ،‬كام ستصبح بفعل «االقتداء» يقين ًا راسخ ًا‪.‬‬
‫السلف‪ ،‬وهو رضب من التأويل الذي ال‬ ‫متثلها وإنشائها لصورة َّ‬
‫السلطة التي تدعمه وجتعله واقع ًا‬
‫فضل فيه عىل غريه إال بمقدار ُّ‬ ‫السلف بمقتضاها وضع‬ ‫يؤسس فعل االقتداء عالقة حيوز َّ‬
‫أن ّ‬
‫فعلي ًا‪ ،‬بل وجتعله املمثل الوحيد والرشعي للحق عقيدة وسلوك ًا‪.‬‬ ‫املثال‪/‬القدوة عقيدة وسلوك ًا‪ ،‬ويضطلع فيها اخللف بمهمة‬
‫وألن األمر يتع ّلق بتمثل قائم عىل اإلنشاء والتأويل فإنَّنا بذلك‬
‫َّ‬ ‫السلف‬
‫االستيعاب واملحاكاة‪ ،‬فذلك من شأنه أن جيعل من َّ‬
‫كل‬ ‫نغادر دائرة الرضورة لننخرط يف جمال املمكن املفتوح عىل ّ‬ ‫نموذج ًا‪ ،‬وجيعل من اخللف صورته عىل جهة التش ُّبه الذي جيري‬
‫اإلمكانيات‪ ،‬وذلك ما يع ّلل سعي ّ‬
‫كل منزع (فرقة‪ ،‬مجاعة ‪ )...‬إىل‬ ‫أن التمييز الذي أجريناه بني املرجع‬ ‫يف معتقده كتطابق‪ ،‬بيد َّ‬
‫السبل‪ ،‬بام يف ذلك‬
‫متوسلة يف ذلك مجيع ُّ‬
‫حتويل تأويلها إىل واقع‪ّ ،‬‬
‫سبيل العنف سواء بالنسبة إىل من خيالفها االعتقاد أو من خيالفها‬ ‫التاريخ َّية لتواجدهم‪ .‬وحتى ما تواتر من حديث يقيض مضمونه بأ َّن «خري الناس‬
‫وإن العنف يف هذا السياق الذي نحن فيه ليس ممارسة‬ ‫التأويل‪َّ ،‬‬ ‫قرين والذين يلونهم‪».‬فإنّه ال يزيد األمر غري الغموض‪ .‬انظر يف هذا السياق كتاب‬
‫جمرد وسيلة أو غاية‪ ،‬ألنَّه اقتضاء مرتبط‬
‫عرض َّية وال يمكن اعتباره َّ‬ ‫اإلصابة يف متييز الصحابة للعسقالين‪ ،‬املجلّد األ ّول‪ ،‬الجزء األ ّول والثاين‪ ،‬الفصل‬
‫ً‪21‬‬
‫يتجسد يف حرب إرادات عمليا ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫برصاع تأويالت نظري ًا‪،‬‬ ‫الثالث يف بيان حال الصحابة من العدالة‪ ،‬دار نهضة مرص للطبع والنرش ‪1970‬‬
‫ص‪.8‬‬
‫‪ 21‬ـ سنعمد يف مقال الحق إىل تفصيل القول يف العالقة بني رصاع التأويالت‬ ‫‪ 20‬ـ فيام يتعلّق بهشاشة مفهوم الصحبة ومراجعتها نقدياً‪ ،‬انظر حياة عاممو‪،‬‬
‫وحرب اإلرادات‪.‬‬ ‫أصحاب مح َّمد ودورهم يف نشأة اإلسالم‪ ،‬دارالجنوب‪ ،‬تونس ‪.1996‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪274‬‬
‫مقاالت‬ ‫السلف‪ :‬تأ ُّمالت فلسف َّية يف الدّ اللة والوضع‬
‫ُصورة َّ‬

‫خاتمة‬
‫يتعي أساس ًا يف االعتبار‬
‫فإن ما يمكننا أن نخلص إليه َّ‬ ‫وباجلملة َّ‬
‫السلف حمض إنشاء يندرج ضمن دائرة‬ ‫بأن صورة َّ‬ ‫القايض َّ‬
‫اإلمكان حيث جمال ال ّظن َّيات‪ ،‬وذلك بالنظر إىل غياب اإلمجاع‬
‫عىل األشخاص وعىل رمزيتهم أو قداستهم وانعدام االتفاق بشأن‬
‫وأن االنتقال بتلك الصورة من‬ ‫ال ّلحظة التارخي َّية لتواجدهم‪َّ ،‬‬
‫جمال اإلنشاء إىل جمال الواقع الفعيل انتقال رسدي يرفع االعتقا ُد‬
‫بالسلف عىل‬ ‫ال عن كون العالقة التي تربط اخللف َّ‬ ‫قواعده‪ .‬فض ً‬
‫والشبه عىل‬ ‫جهة االقتداء قائمة عىل خلط والتباس بني املطابقة َّ‬
‫أساس االعتقاد يف إمكان َّية محل عالقة التش ُّبه عىل معنى املطابقة‬
‫التّامة‪ ،‬وما يرتتَّب عن ذلك من تأسيس لرضب من الرشع َّية بناء‬
‫عىل ذلك اخللط وااللتباس الذي من شأنه أن يع ّلل تشكُّل الفرق‬
‫التفرع واالنقسام قائمة عىل‬
‫ال ال متناهية يف ُّ‬ ‫ال ونِح ً‬
‫واجلامعات ِمل ً‬
‫وثوق َّية يف مستوى العقيدة‪ ،‬وثوق َّية من شأهنا أن جتعل من العنف‬
‫بجميع أشكاله إمكان ًا من بني ممكنات التواصل بينها سواء يف‬
‫اللدين َّية أويف مستوى عالقة‬ ‫مستوى عالقة الفرق باجلامعات َّ‬
‫الفرق بعضها ببعض‪ ،‬أو أيض ًا يف مستوى عالقة األفراد بعضهم‬
‫ببعض من داخل الفرقة الواحدة‪ ،‬ذلك ما جيعلنا ننتهي إىل اإلقرار‬
‫السلف حتوز وضع ًا مفارقي ًا باعتبارها فاقدة لألساس‬ ‫بأن صورة َّ‬‫َّ‬
‫يتجل يف ظاهرة من جهة أخرى‪ ،‬هذا‬ ‫ومؤسسة لكيان ّ‬ ‫ّ‬ ‫من جهة‪،‬‬
‫الوضع املفارقي من شأنه أن يع ّلل العالقة بني الدغامئ َّية يف مستوى‬
‫االعتقاد والعنف يف مستوى املامرسة‪.‬‬

‫وانطالق ًا من هذه التبعات املرتتّبة عىل التأسيس العقدي لصورة‬


‫بأن معنى اإلسالم‬‫السلف يمكننا أن ننتهي إىل اعتبار يقيض َّ‬ ‫َّ‬
‫أضحى رهن استيعاب الفرق واجلامعات‪ ،‬وهو مرشوط برؤيتها‬
‫وترشيعاهتا‪ ،‬األمر الذي يوجب يف تقديرنا إعادة طرح سؤال‬
‫بشأن ذلك املعنى بمنأى عن متثالت امللل وترشيعات النِّحل‪َّ ،‬‬
‫وأن‬
‫الغاية من هذا الطرح ال تكمن يف تأسيس معنى جديد لإلسالم‪،‬‬
‫بل تتع َّلق بنداء ناتج عن رصاخ بلغ باملرء حدَّ االختناق‪ ،‬األمر‬
‫الذي جيعل من التفكري يف ذلك املعنى استجابة لنداء واضطالع ًا‬
‫بمهمة‪.‬‬
‫َّ‬

‫‪275‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫مقاالت‬

‫التفكير‪ ‬والتذكر وال َّزمن‬


‫ُّ‬
‫مقارنة بين تص ُّورين‪ :‬فرجينيا وولف و ح َّنا أرندت‬

‫توفيق فائزي*‬

‫َّ‬
‫والتذكر عند فرجينيا وولف‬ ‫‪ .1‬الزمن في عالقته بالتفكير‬ ‫َّ‬
‫ملخص‪:‬‬
‫الروائيني الزمن موضوع ًا من موضوعات كالمهم‬ ‫جعل بعض ُّ‬ ‫يوجد أكثر من نوع من الزمن‪ .‬عىل األقل يوجد زمن الساعة‬
‫ٍ‬
‫بنظر شبيه بنظر الفالسفة‪ ،‬ولكن دائ ًام تكون حياة‬ ‫ٍ‬ ‫مستق ً‬
‫ال‬ ‫املوضوعي‪ ،‬وهو الزمن الكرونولوجي‪ ،‬ويوجد زمن النفس‬
‫الشخصيات وسيط ًا لبيان ما ُّ‬
‫خيتص به‪ .‬ونأخذ عىل سبيل املثال ما‬ ‫التي تكابده‪ .‬وليس زمن النفس وهي تتذكر كزمنها وهي تفكر‪،‬‬
‫صادفناه من قراءة رواية لفرجينيا وولف بعنوان أورالندو ‪ ،‬وهي‬ ‫إن كان للتفكري زمن‪ .‬مفكِّر مثل بريغسون هو الذي جعل قسط ًا‬
‫شخصية ستجعلها الكاتبة بخياهلا تعيش ثالثة قرون‪ .‬تستطرد‬ ‫وافر ًا من فلسفته للتمييز بني الزمن املوضوعي والزمن النفيس‪،‬‬
‫فرجينيا وولف يف جزء من الفصل الثاين من روايتها هذه للكالم‬ ‫أن الزمن األول ك َِّمي‪ ،‬والزمن الثاين كيفي‪ .‬وكيفية الزمن‬ ‫معترب ًا َّ‬
‫عن نمط الزمن النفيس الذي هو زمن تفكر شخصيتها الرئيسة‬ ‫الثاين جتعله يدخل يف عالقة غريبة مع الزمن األول‪ ،‬فيكون ما‬
‫يف الرواية‪ .‬وذلك حني بلغت الثالثني عام ًا من عمرها‪ ،‬وبعد أن‬ ‫ترسمه عقارب الساعة املوضوعية غري الذي ترسمه عقارب‬
‫الشعر‪ ،‬تنسحب من‬ ‫احلب ومن ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يئست من النساء والشعراء‪ ،‬من‬ ‫وإن الذي جيعل للنفس‬ ‫الساعة يف النفس‪ ،‬فال تقع املطابقة بينهام‪َّ .‬‬
‫األحداث خارج نفسها أحيان ًا‪ ،‬فتستبدل بزمن الفعل زمن التفكري‬ ‫مقاييسها الزمنية هو األحداث النفسية التي تعيشها (تذكُّر ًا أو‬
‫والتذكُّر‪.‬‬ ‫تفكُّر ًا) التي متأل ساحتها فيطول الزمن أو يقرص؛ فأحيان ًا تصل‬
‫بأن الزمن قد توقف‪ ،‬وأحيان ًا أخرى بأنَّه‬ ‫النفس إىل اإلحساس َّ‬
‫أن للزمن عىل اإلنسان أثر ًا غري الذي له عىل باقي‬
‫يبي الراوي َّ‬
‫ِّ‬ ‫يرسع بام ال مزيد عليه‪.‬‬
‫إن للنفس اإلنسانية عىل الزمن أثراً‬‫الكائنات‪ .‬أو لنقل كام قال َّ‬
‫النفس‪،‬‬‫َ‬ ‫ينتج عنه تغري صورته كل َّية‪ .1‬وبمجرد أن يسكن الزم ُن‬ ‫سنسعى يف ما سيأيت إىل املقارنة بني رؤيتني للزمن النفيس يف‬
‫َّ‬
‫وتتضخم‬ ‫وبمجرد االنسحاب إىل داخل النفس تتغري طبيعة الزمن‬ ‫عالقته بالزمن املوضوعي‪ .‬رؤية للروائية اإلنجليزية فرجينيا‬
‫الثواين‪ ،‬ويتضاعف الزمن أضعاف ًا مضاعفة‪ ،‬وتدوم ساعة النفس‬ ‫نص هلا يف روايتها بعنوان‪ :‬أورالندو‬ ‫تضمنه ٌّ‬
‫وولف من خالل ما َّ‬
‫عف‪ .‬وتصري‬ ‫أكثر من زمن الساعة اجلدارية مخسني أو مائة ِض ٍ‬ ‫(‪ ،)Orlando‬ورؤية للفيلسوفة األملانية حنَّا أرندت من خالل‬
‫ثانية خارج النفس كام تشري إليها الساعة اجلدارية‪ ،‬ساعة كام‬ ‫تضمنه فصل من فصول اجلزء األول من كتاهبا‪ :‬حياة العقل‬ ‫َّ‬ ‫ما‬
‫تشري إليها الساعة يف الرأس‪ .2‬ولكن ما الذي يدور يف الرأس؟‬ ‫(‪ ، )The life of the mind‬وهو بعنوان التفكري‪ .‬سنسعى أوالً‬
‫يفكر أورالندو ويتساءل عن احلب وعن الصداقة وعن احلقيقة‪.‬‬ ‫تصور أرندت‪ ،‬وثالث ًا‬
‫تصور فرجينيا‪ ،‬وثاني ًا إىل عرض ُّ‬‫إىل عرض ُّ‬
‫املخصص للتفكري؛ فيمأله بعد‬ ‫َّ‬ ‫ويرسع املايض كله لذلك الزمن‬ ‫التصورين‪ ،‬وهو اجلواب عن تساؤل‬ ‫ُّ‬ ‫إىل استخراج الفروق بني‬
‫لتغي من حجمها وتصلح الستقبال امتداد‬ ‫أن تتمدَّ د اللحظات ِّ‬ ‫بكل من‬ ‫كل منهام للزمن يف عالقته ٍّ‬ ‫تساءلناه عن الفرق بني تصور ٍّ‬
‫التذكر والتفكري‪.‬‬
‫‪1 - Woolf Virginia, Orlando, Traduction de Catherine Pappo-‬‬
‫‪Musard, Librairie Générale Française, 1993, p. 98.‬‬
‫‪2 - Ibid, p. 98.‬‬ ‫* باحث من املغرب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪276‬‬
‫مقاالت‬ ‫تصورين‪ :‬فرجينيا وولف و حنَّا أرندت‬
‫التفكري‪ ‬والتذكُّر والزَّ من ‪ ...‬مقارنة بني ُّ‬

‫النفس تذكُّر ًا أو تفكُّر ًا‪ ،‬ويتمدَّ د أو يتقلص تبع ًا لكثافتهام أو‬ ‫املايض‪ .3‬ولطلب اجلواب عن تلك األسئلة ُت َّصص األشهر‬
‫ختلخلهام‪ .‬وهذا هو السبب الذي يميز الزمن الكرونولوجي‬ ‫واألعوام قياس ًا بوحدة الزمن النفيس‪ .‬وال جيد الراوي مبالغة يف‬
‫الذي ُيقاس ك ّ ًَم عن الزمن النفيس الذي هو زمن كيفي‪ .‬ولكيفيته‬ ‫القول َّ‬
‫إن أورالندو كان يف س ِّن الثالثني حينام تناول فطوره وخرج‬
‫قد يتكاثف ما يتضمنه من الفكر فتزن الثانية من الزمن النفيس ما‬ ‫ليستقر حتت شجرة البلوط ليفكر ويتذكر‪ ،‬وصار حيمل عىل كاهله‬ ‫َّ‬
‫يزنه الدهر من الزمن املوضوعي‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ما ال يقل عن مخس ومخسني سنة حني عاد إىل منزله لتناول وجبة‬
‫العشاء يف اليوم الواحد‪ .4‬وبضعة أسابيع كانت تضيف قرن ًا من‬
‫‪ .2‬التفكير والزمن عند ح َّنا أرندت‬ ‫الزمن النفيس لعمره أحيان ًا‪ ،‬وأحيان ًا ال تضيف أكثر من ثالث‬
‫أن الذي‬ ‫لدى حنَّا أرندت مدخل آخر للنظر يف املسألة‪ .‬ونذكر َّ‬ ‫أن الزمن النفيس الذي هو زمن التفكري والتذكر‬ ‫ثوان‪  .‬ورغم َّ‬
‫كان يعنيها هو التفكري ذاته يف عالقته بالزمن‪ .‬خيتلف السياق‪ ،‬فإذا‬ ‫يتجول وحيد ًا يف صحارى األبدية‬
‫َّ‬ ‫يتَّسع حتى يبدو َّ‬
‫أن اإلنسان‬
‫كانت فرجينيا وولف قد وضعت نتائج رؤيتها يف رواية؛ َّ‬
‫فإن حنَّا‬ ‫َّ‬
‫ليفك رموز ما حتتويه الرقوق‬ ‫يقص فال يكفي‬‫الشاسعة‪ ،‬فإنَّه ُ ُ‬
‫أرندت ستضع ذلك يف كتاب ينتمي إىل جنس آخر من الكتابة‪،‬‬ ‫املغطاة باحلوايش والتعليقات التي لفتها بإحكام ثالثون عام ًا من‬
‫وهو جنس الكتابة الفلسفية‪ ،‬يف كتاب هلا بعنوان حياة العقل‪،‬‬ ‫العيش بني الرجال والنساء يف قلبه ورأسه‪.5‬‬
‫خصصت اجلزء األول ملوضوع‬ ‫وهو كتاب يف ثالثة أجزاء‪ .‬وقد َّ‬
‫التفكري‪ .‬يغلب النظر الفلسفي يف املوضوع‪ .‬ولكن تنطلق حنَّا‬ ‫ال يكفي ذلك الزمن أيض ًا للجواب عن األسئلة التي سأهلا‪.‬‬
‫نصها‬ ‫أرندت ملعرفة معنى التفكري من متثيالت قصصية‪ ،‬فينفتح ُّ‬ ‫ويف الزمن الذي أورقت فيه شجرة البلوط ونثرت أوراقها عىل‬
‫جمرد ًا‬
‫أن التفكري لكونه َّ‬ ‫والقصة‪ .‬وهي ذاهتا اعرتفت َّ‬
‫َّ‬ ‫عىل األدب‬ ‫للمرة الثانية عرشة‪ ،‬لنقل ملدة اثنتي عرشة سنة؛ كان‬
‫َّ‬ ‫الرتاب‬
‫حيتاج ملعرفته إىل التمثيالت ‪.‬‬ ‫أورالندو أبعد ما يكون عن االنتهاء إىل جواب عن سؤال احلب ‪.‬‬
‫‪6‬‬

‫إن الزمن النفيس رغم امتداده وطوله ال يكفي وال يفي بغرض‬ ‫َّ‬
‫يفرتق عيش اإلنسان املنغمس يف انشغاالته اليومية (الزمن)‬ ‫ما يتطلبه التفكري والتذكر‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن األفكار والذكريات تتزاحم‬
‫عن عيش اإلنسان املفكر له‪ .‬فاإلنسان اليومي يوجد داخل‬ ‫وتتنازع فيام بينها لتصري َّ‬
‫حمل االنشغال‪ ،‬ممَّا يسبب استطرادات‬
‫ت َّيار الزمن الذي جيرفه‪ .‬ولكن حني أفكر هل أكون داخله؟ هل‬ ‫ال يف متاهات التفكري‪ .‬والذي كان جيعل التفكري‬ ‫بال هناية‪ ،‬وتوغ ً‬
‫أكون؟ وأين أكون؟ ومتى؟ تتغري عالقة اإلنسان بالزمن حني يبدأ‬ ‫ال هو أيض ًا تعاظم املعنى الذي اختري للتفكري فيه بغريه ممَّا‬
‫طوي ً‬
‫بحث عن طبيعة تلك العالقة‪.‬‬‫التفكري‪ .‬وسعي حنَّا أرندت هو ٌ‬ ‫يستدعيه ويرتبط به؛ من متثيل باللوحات والعطور واألصوات‪.‬‬
‫أن موضوعات تفكريه التي حياول طردها من‬ ‫وجيد أورالندو َّ‬
‫لتفس لنا اإلنسان وهو‬ ‫تنطلق حنَّا أرندت من قصة لكافكا ِّ‬ ‫ذهنه قد َث ُقل محلها بام التصق هبا من موضوعات أخرى ‪.‬‬
‫‪7‬‬

‫وسعان ما تتجاوزها إىل‬ ‫يفكر بالصورة‪ ،‬ولكنَّها صورة تقرتحها‪َ ،‬‬


‫صورة تقرتحها هي‪ .‬حني يتفكر اإلنسان يبرص الزمن يف صورة‬ ‫هذا عن الزمن النفيس عند فرجينيا وولف‪ ،‬ذلك الزمن الذي‬
‫إن اإلنسان العادي‬ ‫غري التي يبرصها اإلنسان العادي‪ .‬بل نقول َّ‬ ‫ُي ِّلص اإلنسان من إكراه الزمن الكرونولوجي املوضوعي؛‬
‫هيتم بأن يراه يف صورة ما‪ .‬ولكن ها هو ذا يبدأ‬‫ال يبرص الزمن وال ُّ‬ ‫فيجعل الزمن ذات ّي ًا ُيعاش من الداخل وال ُيقاس طوله أو قرصه‬
‫التفكري يف الزمن‪ ،‬وينسحب لريى ما كان يسنده من اخللف وهو‬ ‫بالثواين والدقائق يف الساعة اجلدارية‪ .‬بل يأخذ صورته ممَّا حتياه‬
‫يتصور كافكا الزمن يف‬
‫َّ‬ ‫املايض‪ ،‬وما يدفعه إىل األمام وهو املستقبل‪.‬‬
‫هذه الصورة‪ ،‬أي يف صورة خصمني خيتصامن وهو بينهام‪ .‬وهو ال‬ ‫‪3  - Ibid, p.98‬‬
‫تصور ذلك إال ألنَّه بدأ يفكر يف الزمن؛ فصارت لإلنسان‬ ‫يستطيع ُّ‬ ‫‪4  - Ibid, p.99.‬‬
‫عني خارج الزمن تنظر إليه وتراه يف صورة خصمني يتخاصامن‪.‬‬ ‫‪5  - Ibid, p.99.‬‬
‫ولكن يبلغ األمر بكافكا مبلغ ًا آخر؛ إذ تتولد لديه الرغبة فيحلم‬ ‫‪6  -Ibid, p.99.‬‬
‫تفر من اخلطوط األمامية لتصري َح َك ًام يف الرصاع بني‬ ‫َّ‬
‫أن أناه ُّ‬ ‫‪7 - Ibid, p.98.‬‬

‫‪277‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫توفيق فائزي‬ ‫مقاالت‬

‫يتجذر يف‬‫َّ‬ ‫هل يكون التفكري بذلك منتمي ًا إىل الزمن؟ لنقل إنَّه‬ ‫اخلصمني‪ .8‬هذه األنا هي أنا التفكري التي تقع خارج الزمن‪ ،‬ال‬
‫أن هذا احلارض‬ ‫احلارض املحصور بني قويت املايض واملستقبل‪ .‬إال َّ‬ ‫عمر هلا وال مكان هلا وال تكون‪ .‬يقول فالريي (‪ : )Valery‬أحيان ًا‬
‫كل مكان أمواجه‪،‬‬ ‫ال زمن له‪ ،‬وإن كان يضايقه الزمن وتتقاذفه من ِّ‬ ‫أفكر وأحيان ًا أكون‪ .‬تتساءل أرندت‪ :‬أليس حلم كافكا حلم‬
‫وهو يف فجوة منه‪ .‬ومتثل أرندت ذلك بعني هي يف عاصفة‪ ،‬رغم َّأنا‬ ‫حلم بمكان خارج‬ ‫امليتافزيقا الغربية‪« :‬من بارمنيدس إىل هيجل‪ٌ ،‬‬
‫منفصلة عنها‪ .‬وتقول‪« :‬يف هذه الفجوة بني املايض واملستقبل نجد‬ ‫الزمن‪ ،‬وبحضور أبدي يف سكون تام‪ ،‬يف الضفة األخرى املقابلة‬
‫مكاننا يف الزمن حني نفكر‪ ،‬أي حينام نتوىل إىل اخللف بصورة كافية‬ ‫للساعات والتقاويم (‪ )Calendars‬البرشية‪ ،‬وبالتحديد‪ ،‬منطقة‬
‫بعيد ًا عن املايض واملستقبل لنرى أنفسنا حاملني ملسؤولية اكتشاف‬ ‫التفكري ذاته؟»‪.9‬‬
‫وقاض يف شؤون الوجود‬ ‫ٍ‬ ‫معنييهام‪ ،‬واالضطالع بدور «حكم»‬
‫نفك ألغازها هنائي ًا‪ ،‬ولكنّنا دائ ًام‬
‫اإلنساين التي ال تنتهي‪ ،‬دون أن َّ‬ ‫ُغي من الصورة التي اقرتحها كافكا‪ ،‬مستدركة‬ ‫أن أرندت ت ِّ‬ ‫إال َّ‬
‫كل هذا؟» ‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫مستعدُّ ون حلمل أجوبة جديدة لسؤال معرفة ماذا يعني ُّ‬ ‫عليه‪ ،‬وتقرتح تصورها هي لعالقة التفكري بالزمن‪ ،‬فتجعل‬
‫التفكري منتمي ًا إىل العامل‪ .‬ترى أرندت أنَّه ال داعي ألن َّ‬
‫تفر األنا‬
‫إن له زمن ًا‬
‫إن التفكري يكون خارج الزمن أو َّ‬ ‫باختصار نقول َّ‬ ‫بعيد ًا عن حلبة الرصاع‪ ،‬فداخلها جتد األنا املفكرة مكان ًا للراحة‬
‫إن له مكان ًا خاص ًا‪.‬‬
‫إن التفكري يكون خارج املكان أو َّ‬
‫خاص ًا‪ ،‬لنقل َّ‬ ‫من الن ََّصب‪ُ .‬تكِّن حنَّا أرندت لألنا املفكرة من أن جتعل هلا مكان ًا‬
‫املخصص لفعل التفكري‪.‬‬‫َّ‬ ‫وتلك هي الناحية اخلفية من َّ‬
‫الل زمن‬ ‫يف احلارض بني املايض وبني املستقبل؛ وهي الفجوة بينهام‪ .‬وهذه‬
‫قوة‬ ‫قويت املايض واملستقبل؛ ممَّا ُينتج َّ‬‫الفجوة التي هي نتاج التقاء َّ‬
‫‪ .3‬الفرق بين الرؤيتين‬ ‫أخرى يمثلها خط مائل‪ 10‬بني خطي املايض واحلارض‪ ،‬وستكون‬
‫ونتساءل ما الفرق بني تصور فرجينيا وولف للزمن وتصور حنَّا‬ ‫الفجوة بينهام منطلق ًا للميض يف التفكري‪ .‬تقول أرندت‪« :‬هذه‬
‫أرندت له؟ خيتلف املوقعان‪ :‬موقع الروائي وموقع الفيلسوف‪.‬‬ ‫عرف مصدرها‪ ،‬والتي حيدد‬ ‫القوة التي ُم ِّثلت باخلط املائل‪ ،‬والتي ُي َ‬
‫َّ‬
‫الغلبة لالستعاري ولالستعارات والتشبيهات يف نص وولف‪،‬‬ ‫اجتاهها املايض واملستقبل‪ ،‬ولكن تتحقق يف اجتاه نقطة غري حمددة‪،‬‬
‫والغلبة للمفهومي يف نص أرندت‪ .‬ولكن يستعني نص أرندت‬ ‫كام لو َّأنا تستطيع إدراك الالهنائي؛ هذه القوة‪ ،‬كام يبدو يل‪ ،‬هي‬
‫بالقصص التمثيلية وينتهي إىل متثيل األفكار‪ ،‬لنقل َّإنا متثيالت‬ ‫االستعارة الفضىل لفعل التفكري»‪.11‬‬
‫نجرد منه أفكار ًا‬
‫مفهومية‪ .‬وينتهي نص وولف إىل ما يمكن أن ِّ‬ ‫الالهنائي‬ ‫الالهنائي‬
‫فلسفية‪ .‬يتنحى مفكر أرندت عن خطي املايض واملستقبل‬
‫ال أو لنقل خيرج من الطريق الذي يرسمه املايض‬ ‫ليتبع خط ًا مائ ً‬ ‫املستقبل‬ ‫اطراد التفكري‬
‫واملستقبل جانب ًا‪ .‬ينسحب أورالندو من حومة األشغال اليومية‬ ‫الالهنائي‬
‫وينعزل حتت شجرة البلوط‪ .‬ويبلغ أورالندو إىل مثل ما يبلغه‬ ‫املايض‬
‫احلارض‬
‫أن أورالندو‬ ‫مفكر أرندت وهو االنقطاع عن الزمن للتفكري‪ .‬إال َّ‬
‫ال ينقطع هنائي ًا عنه فهو يف صلة بالزمن؛ أي أنَّه مل يبلغ يف جتريده‬ ‫(رسم حلنَّا أرندت يمثل طبيعة العالقة بني التفكري والزمن‪)12‬‬
‫جتريد زمن التفكري‪ .‬ولذلك يتَّسع الزمن ويضيق‪ .‬وما زالت‬
‫املقارنة ممكنة بني الزمنني‪ :‬الزمن النفيس والزمن املوضوعي‪.‬‬
‫ختتف من العامل وما زالت‬ ‫ولذلك تكون «أنا» أورالندو ما زالت مل ِ‬ ‫‪8 - Arendt Hannah, the Life of the Mind, New York, A Harvest‬‬
‫حتول تذكرها إىل تفكر تتالشى ارتباطاهتا‬ ‫تتجول فيه‪ .‬وعىل قدر ُّ‬ ‫‪Book Harcourt, Inc, 1978, p.202.‬‬
‫بالعامل‪ .‬خيتلط يف جتربة أورالندو التفكري والتذكر‪ .‬ليس تفكرها‬ ‫‪9 - Ibid, p.207.‬‬
‫جمرد ًا‪ .‬ويصعب متييز حدود بينه وبني التذكر‪ .‬وأجوبته عن‬ ‫‪  10‬ـ انظر الرسم يف األسفل‪.‬‬
‫‪11 - Arendt, op. cit, p.209‬‬
‫‪13 - Ibid, pp. 209 - 210.‬‬ ‫‪12 - Ibid, p.208.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪278‬‬
‫مقاالت‬ ‫تصورين‪ :‬فرجينيا وولف و حنَّا أرندت‬
‫التفكري‪ ‬والتذكُّر والزَّ من ‪ ...‬مقارنة بني ُّ‬

‫الئحة المراجع‪:‬‬ ‫أسئلة فكرية كسؤال احلب والصداقة واحلقيقة؛ أجوبة ال تتجرد‬
‫‪- Woolf Virginia, Orlando, Traduction de Cather-‬‬ ‫من استحضار الذكريات وجتارب املايض‪ .‬ودائ ًام ُيربط اجلواب‬
‫‪ine Pappo-Musard, Librairie Générale Française,‬‬ ‫بالتجربة الذاتية وبحاالت متفردة عاشها الشخص يف املايض‪.‬‬
‫‪1993.‬‬ ‫ولذلك تُستحرض أماكن بعينها وأسامء ولوحات‪ .‬وال ينقطع وهو‬
‫‪- Arendt Hannah, the Life of the Mind, New York,‬‬ ‫عم حييط به من أصوات وروائح وألوان وأشكال‬ ‫يفكر أو يتذكر َّ‬
‫ ‪A Harvest Book Harcourt, Inc, 1978.‬‬ ‫تع ُّن له يف العامل وتؤثر يف جمريات أحداثه الذهن َّية‪.‬‬

‫أن التفكري لدهيا‬ ‫تصور حنَّا أرندت خمتلف ًا هو َّ‬‫ُّ‬ ‫ما جيعل من‬
‫جمردة ال مكان هلا‪ ،‬وال ختتلط‬ ‫هو تفكر حمض جيعل األنا املفكرة َّ‬
‫بشخص حيمل اس ًام ويتذكر ماضي ًا ينتمي إليه من التجارب‬
‫والذكريات املحسوسة‪ ،‬ويعمل عىل أن يتخيل أمامه ما سيصنعه‬
‫يف مستقبله‪ .‬عىل القارئ أن يشعر‪ ،‬تقول أرندت‪َّ :‬‬
‫«إن األنا املفكر‬
‫ليس هو األنا الذي يظهر ويتنقل يف العامل‪ ،‬مع ذكرى ماضيه‬
‫أن (ه) يف بحث عن الزمن الضائع‪ ،14‬أو ُي ِّيئ‬ ‫البيوغرايف‪ ،‬كام لو َّ‬
‫ألن األنا املفكر ال يوجد يف أي مكان‪ ،‬وال‬ ‫مشاريعه املستقبلية‪َّ ،‬‬
‫فرغني‪ ،‬إن جاز‬ ‫عمر له؛ بإمكان املايض واملستقبل أن يتجليا هلا ُم َ‬
‫وم َّررين ممَّا ُيمل عليهام من‬ ‫القول‪ ،‬من مضموهنام املحسوس‪ُ ،‬‬
‫أحكام املكان»‪.15‬‬

‫إن زمن وولف هو زمن مل يتخلص‬ ‫لنقل‪ ،‬إذن‪ ،‬يف ختام قولنا‪َّ :‬‬
‫بعدُ من العامل‪ ،‬زمن يعيشه فرد من الناس‪ .‬وما زال مايض هذا‬
‫الفرد ممتلئ ًا بالذكريات واألحاسيس والصور التي تستحرضها‬
‫أن هذا الفرد بدأ يتخلص من وطأة‬ ‫الذات يف حارضها‪ .‬رغم َّ‬
‫الزمن بطلبه ماهيات املوضوعات التي جعلها للتساؤل والتفكري‬
‫كاحلب والصداقة واحلقيقة‪ .‬وبدأ التفكري يف طريقه للخالص من‬ ‫ِّ‬
‫جربه بشكل حمسوس‬ ‫التذكر‪ .‬ولكن ما زال يلتصق بطلبه ذاك ما َّ‬
‫خاصة من املايض‪ .‬بدأ الزمن‬ ‫ُستحض أمثلة َّ‬ ‫َ‬ ‫يف حياته‪ ،‬ولذلك ت‬
‫النفيس يدخل يف عالقة جديدة مع الزمن املوضوعي الذي ترسمه‬
‫الساعات اجلدارية والذي يبلغ أحيان ًا أن يتوقف‪ .‬أ َّما التفكري عند‬
‫أرندت فيقوم يف ذات جمردة هي األنا املفكرة‪ ،‬ال مكان هلا‪ .‬ورغم‬
‫وأن احلارض منطلقه‪ ،‬إال‬ ‫أن شؤون الوجود اإلنساين موضوعه‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫ال ثالث ًا خارج الزمن‪ ،‬هو غري سبيل املايض وسبيل‬ ‫أنَّه يرسم سبي ً‬
‫املستقبل‪ ،‬وهو بعيدٌ عنهام‪.‬‬

‫‪ 14‬ـ إشارة إىل رواية الكاتب الفرنيس مارسيل بروست (‪)Marcel Proust‬‬
‫‪15 -Arendt, Op.cit. p.206.‬‬

‫‪279‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫مقاالت‬

‫منزلة العقل لدى إبراهيم ال َّن ّظام (ت‪231‬هـ)‬

‫محادي ذويب*‬

‫والعقل والسمع مصدران للمعرفة لكن ليس هلام القدرة عىل‬ ‫يقوم منهج إبراهيم النَّ َّظام التأوييل عىل رفض ِّ‬
‫كل تفسري للقرآن‬
‫اإلدراك‪ ،‬فهام طريقان ال أكثر وال أقل‪ ،4‬أ َّما املعتزلة فالعقل‬ ‫خيالف منهجه العقيل يف التفسري‪ ،‬وعىل البعد يف التأويل عن املعنى‬
‫كل معرفة‪ ،‬وهو الذي يدرك ويعرف وإن اختذ‬ ‫عندهم هو أساس ّ‬ ‫تدل عليه األلفاظ بحسب عادة العرب يف تعبريهم‪َّ ،1‬‬
‫ولعل‬ ‫الذي ُّ‬
‫احلواس طريق ًا أو مصدر ًا للمعرفة‪ .‬وبالفعل فاملعلومات عند‬ ‫أن النَّ َّظام يطالب برشح‬
‫هذا ما قصده أحد الباحثني حني ذكر َّ‬
‫النَّ ّظام رضبان‪ :‬حمسوس وغري حمسوس‪ ،‬واملحسوس منها أجسام‬ ‫القرآن رشح ًا حرف َّي ًا‪.2‬‬
‫واحلس عنده ال يقع إال‬‫ُّ‬ ‫احلس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يصح العلم هبا إال من جهة‬
‫ُّ‬ ‫ال‬
‫عىل جسم‪ ،‬واللون وال َّطعم والرائحة والصوت عنده أجسام‪،‬‬ ‫أن النَّ ّظام وإن آمن بأصل القرآن فإنَّه آمن أيض ًا بالعقل‬
‫واملالحظ َّ‬
‫وهلذا أدركت باحلواس يف رأيه‪ ،‬وأ َّما غري املحسوس فرضبان‬ ‫أصالً‪ .‬والوحي يف نظره ويف نظر املعتزلة ال يمكن إال أن يؤكّد ما‬
‫قديم وعرض‪ ،‬وليس طريق العلم هبام اخلرب‪ ،‬وإنَّام يعلامن بالقياس‬ ‫يصح أن يقع التناقض بينهام‪ .‬وهذا‬ ‫ُّ‬ ‫وأقره وال‬
‫توصل إليه العقل َّ‬ ‫َّ‬
‫(العقيل طبع ًا) والنظر دون ّ‬
‫احلس واخلرب‪.5‬‬ ‫ظاهري فحسب‪ ،‬ويمكن تالفيه بالتأويل‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫التناقض إن وجد فهو‬

‫ويف هذا السياق يقول اجلاحظ‪« :‬ولألمور حكامن‪ :‬حكم ظاهر‬ ‫ويتأسس نقد النَّ ّظام لألخبار عىل خلف َّية نظر َّية رئيسة هي العقل‬
‫َّ‬
‫احلجة» ‪.6‬‬
‫للحواس وحكم باطن للعقول‪ ،‬والعقل هو َّ‬ ‫الذي قد يكون سلطانه عليه بلغ درجة اعتباره يمكن أن ينسخ‬
‫ألنا‬
‫األخبار‪ .‬وهي فكرة غري مستغربة منه‪ ،‬لكنَّنا نقدِّ مها باحرتاز َّ‬
‫وعىل أساس منزلة العقل هذه وقع حتكيمه يف نقد اخلرب سواء‬ ‫وردت عىل لسان خصم له هو ابن قتيبة الذي يقول‪« :‬فهذه أقاويل‬
‫اهتم النَّ ّظام بمصدر اخلرب‬
‫كان سند ًا أو متن ًا‪ ،‬ففي مستوى السند َّ‬ ‫النَّ ّظام قد ب َّيناها وأجبناه عنها‪ ،‬وله أقاويل يف أحاديث يدَّ عي عليها‬
‫صحته وينقده‪ ،‬أ َّما عىل صعيد املتن فقد‬ ‫ليتث َّبت منه أو ّ‬
‫يشك يف َّ‬ ‫حجة العقل‪،‬‬
‫َّأنا مناقضة للكتاب وأحاديث يستبشعها من جهة َّ‬
‫رفض كثري ًا من األخبار التي ّ‬
‫يكذهبا العقل أو العيان أو التجربة‪،‬‬ ‫حجة العقل قد تنسخ األخبار‪.3»...‬‬ ‫أن جهة َّ‬‫وذكر َّ‬
‫أو التي يف متوهنا غرابة‪ ،‬أو التي يلوح منها تشبيه أو جتسيم أو‬
‫إثبات صفات اهلل‪.‬‬ ‫وإذن فاخلالف بني النَّ ّظام‪ ،‬واملعتزلة عموم ًا‪ ،‬وبني أهل ُّ‬
‫السنَّة‬
‫السنَّة يرون َّ‬
‫أن‬ ‫يرتكَّز عىل طرق كسب املعرفة أو مصدرها‪ ،‬فأهل ُّ‬
‫مصدر املعرفة السمع والعقل‪ ،‬فالسمع مصدر املعرفة الرشع َّية أي‬
‫‪ - 4‬يقول الشهرستاين‪« :‬أ ّما السمع والعقل فقال أهل الس ّنة الواجبات كلّها‬ ‫األوامر والنواهي‪ ،‬أ َّما إدراك وجود اهلل وصفاته والبحث يف مثل‬
‫بالسمع واملعارف كلّها بالعقل‪ ،‬فالعقل ال يحسن وال يقبح وال يوجب والسمع‬ ‫هذه املسائل التي عليها مدار التوحيد فمصدرها العقل‪.‬‬
‫ال يعرف أي ال يوجد املعرفة بل يوجب‪ ،‬وقال أهل العدل املعارف كلّها معقولة‬
‫بالعقل واجبة بنظر العقل‪ ،‬وشكر املنعم واجب قبل ورود السمع‪ ،‬والحسن‬ ‫* أكادميي من تونس‬

‫والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبح»‪ ،‬امللل والنحل‪ ،‬ص ‪.53‬‬ ‫‪ -  1‬عادل الع ّوا‪ ،‬املعتزلة والفكر الحر‪ ،‬ص ‪.193‬‬
‫‪ -  5‬انظر البغدادي‪ ،‬أصول الدين‪ ،‬ص ص ‪.141-140‬‬ ‫‪ -  2‬فؤاد سيزكني‪ ،‬تاريخ الرتاث العريب‪ ،‬املجلد ‪.69-68 ،1‬‬
‫‪ -  6‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان‪ ،‬ص ‪.207‬‬ ‫‪ -  3‬ابن قتيبة‪ ،‬تأويل مختلف الحديث‪ ،‬ص ‪.50‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪280‬‬
‫مقاالت‬ ‫منزلة العقل لدى إبراهيم النَّ ّظام (ت‪231‬هـ)‬

‫كل عرص‪.‬‬ ‫معي بل هو مطلق يف ّ‬ ‫األ َّمة يف نظره غري حمدود بزمن َّ‬ ‫ومن جت ّليات نقد الن َّظام لرواة األخبار واملحدّ ثني قوله‪« :‬وكيف‬
‫وهذا يعني َّ‬
‫أن عرص الصحابة يمكن أن يقع فيه اإلمجاع عىل اخلطأ‪.‬‬ ‫يضطره خربه ومل يكن معه علم‬‫ّ‬ ‫جييز السامع صدق املخرب إذا كان ال‬
‫يدل عىل صدق غيبه وال شاهد قياس يصدّ قه وكون الكذب غري‬ ‫ُّ‬
‫أن النَّ َّظام استند يف إنكاره مرشوع َّية‬ ‫ومن املفيد أن نشري إىل َّ‬ ‫مستحيل منه مع كثرة العلل التي يكذب النَّاس هلا ود َّقة حيلهم‬
‫القياس إىل العقل يف مقابل استناد بعض نفاة القياس إىل أد ّلة نقل َّية‬ ‫فيها‪ ،‬ولو كان الصادق عند الناس ال يكذب‪ ،‬واألمني والثقة ال‬
‫والسنَّة وإمجاع الصحابة أو إمجاع أهل البيت‪ .9‬والواضح‬ ‫من القرآن ُّ‬ ‫والويف ال يغدر‪ ،‬لطابت املعيشة ولسلموا من سوء العاقبة‪.‬‬‫ُّ‬ ‫ينسى‪،‬‬
‫أن العقل يقتيض‬ ‫أهم فكرة بنى عليها النَّ َّظام نفيه للقياس تتم َّثل يف َّ‬ ‫َّ‬
‫أن َّ‬ ‫وكيف نأمن كذب الصادق وخيانة األمني وقد ترى الفقيه يكذب‬
‫التسوية بني املتامثالت يف أحكامها واالختالف بني املختلفات يف‬ ‫يف احلديث ويد ّلس يف اإلسناد ويدَّ عي لقاء من مل يبلغه ومن غريب‬
‫أحكامها والشارع (الفقهاء) قد رأيناه َّفرق بني املتامثالت ومجع بني‬ ‫اخلرب ما مل يسمعه ثم ال يرى أن يرجع عن ذلك يف مرضه قبل أن‬
‫املختلفات‪ ،‬وهو عىل خالف قض َّية العقل‪ ،10‬وحتى يدعم النَّ َّظام‬ ‫تغرغر نفسه وقد أيقن باملوت وأشفى (أرشف) عىل حفرته بعد‬
‫أطروحته عاد إىل واقع الترشيع وذكر عدد ًا من األمثلة ملا مجع الشارع‬ ‫طول إرصاره والتمتُّع بالرياسة يف حياته وأكل أموال الناس به‪.‬‬
‫بينها يف احلكم وهي خمتلفة وملا َّفرق بينها وهي جمتمعة‪.‬‬ ‫أن الفقهاء واملحدّ ثني والرواة والصلحاء املرضيني يكذبون‬‫ولوال َّ‬
‫يف األخبار ويغلطون يف اآلثار ملا تناقضت آثارهم وال تدافعت‬
‫واملستخلص من موقف النَّ َّظام اعتامده يف إنكار القياس عىل‬ ‫أخبارهم‪ ،‬ولو وجب علينا تصديق املحدّ ث اليوم لظاهر عدالته‬
‫أن القياس ال ينسجم‬‫حجة منطق َّية عقل َّية يرى بموجبها َّ‬ ‫حجتني‪َّ :‬‬
‫َّ‬ ‫لوجب علينا تصديق مثله وإن روى ضدَّ روايته وخالف خربه‪،‬‬
‫وحجة تارخي َّية تربز َّ‬
‫أن القياس مل يكن متواتر‬ ‫َّ‬ ‫مع معطيات العقل‪،‬‬ ‫وإذ ًا نحن قد وجب علينا تصديق املتناقض وتصحيح الفاسد‪،‬‬
‫االستخدام يف التاريخ اإلسالمي ولدى أعالم املسلمني وقادهتم‬ ‫خاص ًا يف بعض‬
‫ألن الغلط يف األخبار والكذب يف اآلثار مل نجده َّ‬ ‫َّ‬
‫الروحيني وهم الصحابة‪.‬‬ ‫دون بعض»‪.7‬‬

‫وإنكاره للقياس هو يف هناية األمر رفض للمنظومة الفقه َّية‪،‬‬ ‫مهيته من جهة ولصعوبة‬ ‫النص عىل طوله أل ّ‬
‫لقد أوردنا هذا َّ‬
‫ذلك َّأنا ال تستند إىل العقل‪ ،‬وتشتمل عىل أحكام ذات طابع‬ ‫أن املصدر الذي نقله غري‬ ‫االطالع عليه من جهة أخرى‪ ،‬ذلك َّ‬
‫احلر والعبد مثالً‪ ،‬وتعتمد ظاهر العبادات واملعامالت‬ ‫متييزي بني ّ‬ ‫منترش وغري معروف عموم ًا‪ .‬وتعزى هذه األمه َّية إىل ما يبدو فيه‬
‫مقدّ مة إ َّياه عىل األخالق الفرد َّية من صدق وإخالص وإيامن‪.‬‬ ‫أن الكذب يف األخبار‬ ‫تارخيي جعل صاحبه يدرك َّ‬‫ّ‬ ‫حس نقدي‬‫من ٍّ‬
‫أن هذا اإلنكار رفض جلمود األحكام وعدم اعرتاف َّ‬
‫بأن‬ ‫كام َّ‬ ‫بالسلطة‬
‫تقف وراءه أسباب كثرية ذكر أبرزها؛ وهي التمتُّع ُّ‬
‫هذه األحكام البرش َّية أحكام إهل َّية كام يريد هلا الفقهاء أن تكون‪،‬‬ ‫جراء ذلك‪.‬‬ ‫والتقرب من احلكَّام وكسب املال من َّ‬
‫ُّ‬
‫ذلك أنَّه «برز يف املجتمعات اإلسالم َّية صنف من املسلمني اعترب‬
‫ال دون عا َّمة املؤمنني للترشيع باسم اهلل واعتربت األحكام‬ ‫مؤه ً‬
‫َّ‬ ‫وعندما ننظر يف موقف النَّ َّظام من اإلمجاع نالحظ أنَّه هنض َّأوالً‬
‫التي يصدرها رشيعة إهل َّية ال جيوز ر ُّدها‪ .‬فكان الفقهاء واملفتون‬ ‫يؤصل هبا هذا املصدر الترشيعي‬ ‫عىل دحض األد ّلة النقل َّية التي ّ‬
‫والقضاة ينتصبون لبيان احلالل واحلرام وإصدار حكم اهلل يف‬ ‫حجة عقل َّية تتم ّثل يف اعتبار َّ‬
‫أن األ َّمة جيوز‬ ‫عادة‪ .‬وقام ثاني ًا عىل َّ‬
‫تتكون من أفراد‪ ،8‬وجتويز خطأ‬ ‫ألنا َّ‬ ‫عليها اخلطأ مثل الفرد متام ًا‪َّ ،‬‬
‫كل واحد منهم ملا كان إنساناً‬
‫أل َّن توهّم الخطأ ال ينعدم باالجتامع‪ ،‬أال ترى أ َّن ّ‬
‫وكل واحد من القادرين حالة االنفراد ال‬
‫قبل االجتامع فبعد االجتامع هم ناس‪ُّ ،‬‬ ‫النص رواه الجاحظ يف كتابه «األخبار» عن أستاذه النظَّام‪ ،‬وقد وصلنا من خالل‬
‫‪ - 7‬هذا ّ‬
‫يصري عاجزا ً بعد االجتامع‪ُّ ،‬‬
‫وكل واحد من العميان عند االنفراد ال يصري باالجتامع‬ ‫أيب نشوان سعيد الحمريي‪ ،‬رسالة الحور العني‪ ،‬املصدر املذكور‪ ،‬ص ص ‪.285-284‬‬
‫وال تصري جملتهم أيضاً بهذه الصفة بعد االجتامع»‪ .‬أصول الرسخيس‪.295/1 ،‬‬ ‫‪ - 8‬يقول الرسخيس‪« :‬وقال النظَّام وقوم من اإلمام َّية ال يكون اإلجامع ح َّجة‬
‫‪ -  9‬الغزايل‪ ،‬املستصفى‪ ،‬املصدر املذكور‪ ،‬ص ص ‪.289-288‬‬ ‫كل فرد غري‬
‫موجبة للعلم بحال ألنَّه ليس فيه إال اجتامع األفراد‪ ،‬وإذا كان قول ّ‬
‫‪ -  10‬اآلمدي‪ ،‬اإلحكام يف أصول األحكام‪ ،‬املصدر املذكور‪.12-11/4 ،‬‬ ‫موجب للعلم لكونه غري معصوم عن الخطأ فكذلك أقاويلهم بعدما اجتمعوا‪،‬‬

‫‪281‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫محادي ذويب‬ ‫مقاالت‬

‫وهذه النزعة العقل َّية التي سيطرت عىل النَّ َّظام ظهرت يف‬ ‫خمتلف املسائل املعروضة عليهم من أمور الدنيا والدين عىل‬
‫توصل إليها‪ ،‬من ذلك اعتامده‬
‫منهجه الفكري ويف النتائج التي َّ‬ ‫السواء‪ ،‬فأصبحوا بذلك يقومون بوظيفة كنس َّية غري معرتف هبا يف‬
‫الشك والتجربة‪ .‬يقول اجلاحظ‪ « :‬وقال أبو إسحاق ‪ :‬نازعت من‬ ‫ّ‬ ‫مستوى التنظري ومقبولة يف مستوى الواقع واملامرسة اليوم َّية»‪.11‬‬
‫الشكّاك أبرص بجوهر الكالم‬ ‫فوجدت ُّ‬
‫ُ‬ ‫امللحدين الشاك واجلاحد‬
‫أقرب إليك من‬ ‫ُ‬ ‫من أصحاب اجلحود ‪ .‬وقال أبو إسحاق ‪ :‬الشاك‬ ‫ونرى من بني الباحثني املحدثني من استغرب من نقد النَّ َّظام‬
‫شك ومل ينتقل أحدٌ عن‬ ‫يقني قط حتى كان قبله ّ‬ ‫ِ‬
‫اجلاحد ومل يك ْن ٌ‬ ‫خاصة أنَّه معتزيل قوام مذهبه‬ ‫الستخدام العقل يف الرشع َّيات‪،‬‬
‫َّ‬
‫شك ‪ .‬وقال أبو‬ ‫حال ّ‬ ‫ٍ‬
‫اعتقاد إىل اعتقاد غريه حتّى يكون بينهام ُ‬ ‫النص كي يستقيم مع العقل‪.12‬‬
‫االعتداد بالعقل إىل حدّ تأويل ّ‬
‫ٍ‬
‫طبقة‬ ‫أي‬ ‫ِ‬ ‫إسحاق ‪ :‬إذا أردت أن ِ‬
‫تعرف مقدار الرجل العال ويف ِّ‬
‫الص َّح ُة‬ ‫هو وأردت أن ِ‬ ‫يفس يف نظرنا َبأ ّن النَّ َّظام مل ينتقد العقل بل انتقد‬ ‫َّ‬
‫الكور وتنفخ عليه ليظهر لك فيه ّ‬‫َ‬ ‫تدخله‬ ‫ولعل األمر ّ‬
‫الص َّحة والفساد فكن عامل ًا يف صورة‬‫مقداره من ّ‬
‫ُ‬ ‫من الفساد أو‬ ‫األحكام املرتتّبة عن استخدام الفقهاء للقياس‪ .‬وهي أحكام ال‬
‫‪16‬‬ ‫ِ‬
‫متع ِّلم ثم اسأله سؤال من يطمع يف بلوغ حاجته منه ‪. » .‬‬ ‫تنسجم مع معطيات العقل ونظامه‪ .13‬وإذن فإنَّه ينتقد َّ‬
‫اللمعقول ال‬
‫اللمعقول هو الذي يكمن عىل سبيل املثال يف إجياب‬ ‫العقل‪ .‬وهذا َّ‬
‫كام نجده يقوم ببعض التجارب الختبار بعض املعتقدات‬ ‫قطع يد سارق القليل وعدم تطبيق هذا احلكم عىل غاصب الكثري‪.‬‬
‫التوصل إىل معرفة استجابة بعض الكائنات‪ ،‬من ذلك‬ ‫ُّ‬ ‫الرائجة أو‬
‫مشاركته يف جتربة سقي اخلمر لبعض احليوانات‪ ،‬وجتربة قذف‬ ‫وبناء عىل ما تقدَّ م وعىل خمتلف مواقف النَّ َّظام يمكن أن َّ‬
‫نقر‬
‫التطي‬
‫ُّ‬ ‫اجلمر أمام الظليم‪ ،‬وهو نوع من النّعام‪ ،‬وجتربة حول‬ ‫بأن رؤية هذا العامل املعتزيل ختضع أساس ًا للعقل‪ ،‬وهذا‬ ‫مطمئنني َّ‬
‫الشك وهذه التجارب وشدّ ة‬ ‫ُّ‬ ‫استنتج منها بطالن الطرية‪ ،17‬وهذا‬ ‫ليس غريب ًا عن املدرسة االعتزال َّية البرص َّية التي كانت مدرسة‬
‫غوصه عىل املعاين وروحه االنتقادية خترب أنَّه يتس َّلح بالعقل يف‬ ‫كل ما هو موجود مردود‬ ‫أن َّ‬
‫عقالن َّية؛ بمعنى َّأنا قد ذهبت إىل َّ‬
‫حماولة فهم قوانني الظواهر فه ًام عقل َّي ًا ال أسطور َّي ًا‪.18‬‬ ‫أن النَّ َّظام‬
‫أن هذه النزعة العقل َّية ال تعني َّ‬
‫إىل مبادئ عقل َّية‪ ،14‬غري َّ‬
‫يؤسسون نظامهم الفكري عىل استخدام العقل‬ ‫واملعتزلة عموم ًا ّ‬
‫تطرف ًا‬
‫هلذا ولغريه عدَّ بعض الباحثني النَّ َّظام أبعد املعتزلة ُّ‬ ‫نص ديني ‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫مستقل عن ّ‬
‫كل ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫وحده بشكل‬
‫واستقالالً يف الرأي وأقرب مم ّثيل هذه الفرقة إىل الفلسفة‪ .19‬وهذا‬
‫أن‬‫املوقف ال جيانب الصواب‪ ،‬ألنَّه منذ القديم اعترب بعض العلامء َّ‬ ‫‪ -  11‬عبد املجيد الرشيف‪ ،‬حدود االجتهاد عند األصوليني والفقهاء‪ ،‬املرجع املذكور‪،‬‬
‫النَّ َّظام من أشدِّ خصوم التقليد‪.20‬‬ ‫ص ‪ .42‬وانظر املطابقة بني أحكام اإلنسان وأحكام الله يف هذا الخرب الذي ينقله‬
‫األستاذ الرشيف‪« :‬قال أبو حنيفة رحمه الله تعاىل‪ :‬إذا كان اإلمام قد قال «من‬
‫أصاب شيئاً فهو له» فأصاب رجل جارية ال يطؤها ما كان يف دار الحرب‪ .‬وقال‬
‫وجل‪ .‬قال أبو يوسف‪ :‬ما أعظم قول‬
‫األوزاعي له أن يطأها وهذا حالل من الله ع َّز َّ‬
‫‪ -  16‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان‪ ،‬املصدر املذكور‪.36/6 ،‬‬ ‫األوزاعي يف قوله «هذا حالل من الله»‪ ،‬نقالً عن كتاب األم للشافعي‪.351/7 ،‬‬
‫‪ -  17‬املصدر نفسه‪ 83/2 ،‬و‪.139/3‬‬ ‫‪ -  12‬أحمد محمد صبحي‪ ،‬يف علم الكالم‪ ،‬املرجع املذكور‪ ،‬ص ‪.232‬‬
‫تعليال‬
‫‪ -  18‬لذلك نراه يعلّل ما يرويه العرب من عزيف الج ّن وتغ ّول الغيالن ً‬ ‫‪ -  13‬انظر ما يقوله صاحب فصل قياس بـ د‪.‬م‪.‬إ‪ ،.‬املرجع املذكور‪ ،‬ص ‪.238‬‬
‫عقلياً‪ ،‬املصدر نفسه‪.248/6 ،‬‬ ‫‪«Selon le Mu’tazilite al-Nazzam, le procédé du kiyas est loin de‬‬
‫‪ -  19‬انظر قولد زيهر‪ ،‬مذاهب التفسري اإلسالمي‪ ،‬ص ‪.182‬‬ ‫‪toujours respecter le modèle rationnel».‬‬
‫‪ -  20‬يقول الحمريي‪ :‬وإنَّ ا ذكر الجاحظ وال َّنظّام أ ّن دين الناس بالتقليد ال بالنظر‬ ‫‪ -  14‬انظر‪:‬‬
‫والبحث واالستدالل‪ ،‬وقد ذ َّم الله يف كتابه املقلّدين‪ .‬وقالت العلامء املقلّد مخطئ‬ ‫‪Joseph van Ess: Une lecture à rebours de l’histoire du Mu’tazilisme,‬‬
‫الحق بغري ح َّجة وال دليل مثل من‬
‫يف التقليد ولو أصاب الحق‪ ،‬أل َّن من اعتقد َّ‬ ‫‪Les deux écoles: Basra et Baghdad.‬‬
‫اعتقد الباطل بغري ح َّجة وال دليل‪ ،‬الحور العني‪ ،‬املصدر املذكور‪ ،‬ص ‪.210‬‬ ‫‪ - 15‬راجع فصل معتزلة (‪ )Gimaret‬بـ د‪.‬م‪.‬إ‪ .‬ط‪ 2‬بالفرنسية‪ ،‬املرجع املذكور‪ ،‬ص ‪.793‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪282‬‬
‫بريشة الفنان عبد العزيز عبدوس من املغرب‬
‫مراجعة كتب‬

‫لماذا نحتاج لإليمان؟‬


‫جوليا كريستيفا والحاجة التي ال‬
‫تصدق لإليمان‬
‫ّ‬

‫حنان درقاوي*‬

‫أهم الشخصيات الفكرية يف فرنسا‬ ‫تُعترب جوليا كريستيفا من ّ‬


‫اليوم‪ .‬تتنوع أبحاثها وكتاباهتا وتتوزع ما بني اللسانيات والفلسفة‬
‫والتحليل النفيس والكتابة الروائية‪ .‬عايشت مفكرين فرنسيني‬
‫كبار مثل ميشيل فوكو وروالن بارث وجاك ديريدا وآخرين‪.‬‬
‫كل قضايا القرن العرشين وحتوالته الفكرية‪ .‬تعترب‬ ‫اعتنقت ّ‬
‫كتاباهتا حتليالت عميقة لطبيعة الوضعية اجلديدة لإلنسانية يف‬
‫عرص التقنية‪ .‬كتبت عن اآلين واملعارص منذ ثورة مايو‪1968‬حتى‬
‫أزمة ضواحي باريس يف ‪ 2006‬وتنامي التطرف الديني اإلسالمي‪.‬‬
‫وختض القناعات القائمة‪ .‬تصنع جسور ًا بني املتضادات‬
‫ّ‬ ‫األساسية‬ ‫تسائل عودة األديان وانتشار الطوائف الدينية‪ ،‬لكنها أيض ًا تسائل‬
‫مثل‪ :‬العقل واإليامن‪ ،‬مثالً‪ ،‬هل جيب أن يظال متناقضني؟ تعيد‬ ‫مفهوم الغريب واآلخر إذ ّأنا هي أيض ًا غريبة قدمت إىل باريس‬
‫قراءة الفكر اإلنساين عىل ضوء ما وصلت إليه العلوم اإلنسانية‪.‬‬ ‫لتتم دراستها‪ .‬ارتبطت أحداث حياهتا الشخصية‬ ‫من بلغاريا ّ‬
‫ختصص إىل آخر‪ .‬دليلها يف‬ ‫ّإنا تسافر من ضفة إىل أخرى‪ ،‬ومن ّ‬ ‫بتحوالت احلساسيات الفكرية‪ .‬تنسب إليها مفاهيم عديدة‬
‫ذلك السفر هو معرفتها باالختالف بني البرش وبغناه‪ ،‬وبام يمكن‬ ‫كالتناص وما بعد البنيوية التي أسست هلا مع زوجها الكاتب‬
‫أن ينتجه من خصوبة‪ .‬ال ختاف اآلخر‪ ،‬بل تسعى إىل حماورته‪ ،‬ويف‬ ‫فيليب سولريس‪ .‬كتبت عن احلب وعن العبقرية النسائية من‬
‫هذا اإلطار استجابت لدعوة البابا من أجل اللقاءات الفكرية‬ ‫خالل دراسة وحتليل لكتابات كوليت وفلسفة حنا أرندت التي‬
‫التي ينظمها الفاتيكان‪.‬‬ ‫ساءلت أصول اهليمنة والكليانية‪ ،‬وأيض ًا ميالين كالين املحللة‬
‫النفسانية التي أسست لعلم نفس األطفال‪ .‬عبقريتها وعبقرية‬
‫تفكر يف احلاجة إىل اإليامن بشكل جدي وبعيد ًا عن اإلنكار‬ ‫إن الوالدة املتجددة ليست فوق‬ ‫النساء املبدعات هي القول ّ‬
‫الذي مارسته احلداثة الغربية جتاه هذه احلاجة املالزمة لإلنسان‬ ‫طاقاتنا اإلنسانية‪.‬‬
‫التي حللها إيميل دوركايم ومارسيل موس يف القرن التاسع عرش‬
‫إن تفكريها هو استمرار هلاته التحاليل‬‫ومطلع القرن العرشين‪ّ .‬‬ ‫كتبت جوليا كريستيفا أيض ًا عن التصوف املسيحي من خالل‬
‫عن طبيعة اإليامن‪ ،‬والطقوس الدينية‪ ،‬والقرابني والصلوات‪.‬‬ ‫رواية عن سانت ترييز دافيال‪ .‬تطرح جوليا كريستيفا األسئلة‬
‫ّإنا تعود إىل قول باسكال‪« :‬الفكر يؤمن بشكل طبيعي»‪ .‬كيف‬
‫يتمفصل هذا اإليامن؟ وما حاجة اإلنسان إليه؟‬ ‫* كاتبة ومحللة نفسانية‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪284‬‬
‫مراجعة كتب‬ ‫ملاذا نحتاج لإليامن؟ جوليا كريستيفا واحلاجة التي ال تصدّ ق لإليامن‬

‫يشبه العهدة التي نعهد هبا إىل اآلخر‪ .‬اآلخر الذي يمكننا من‬ ‫«قبل األديان تظهر احلاجة إىل اإليامن كحاجة فردية‪ ،‬غري‬
‫كل السلبي الذي يتأسس‬ ‫امتالك قوة يف احلياة متجددة رغم ّ‬ ‫مؤسسة‪ ،‬حاجة تقود اإلنسان العاقل إىل القول‪« :‬أومن ّ‬
‫أن»‪ ،‬أو‬
‫عليه الوجود اإلنساين‪ ،‬من حيث هو حداد عىل اإلقامة يف الرحم‬ ‫أن»‪ ،‬أي أنّني أمسك احلقيقة‪ ،‬ليست حقيقة رياضية أو‬‫«أعتقد ّ‬
‫وحداد عىل االنفصال عن جسد األم‪ّ .‬إنا حياة متجددة يف أفق‬ ‫عيل‪ ،‬تستغرقني وال‬‫ملموسة أو قابلة للعد لكنّها حقيقة تستحوذ ّ‬
‫الشعور الكوين الذي يتحدث عنه فرويد‪ ،‬أي الشعور بالتوحد‬ ‫يمكنني إال أن أومن بصحتها»‪ ،‬هكذا تبدأ جوليا كريستيفا كتاهبا‬
‫مع العامل‪ ،‬منبع األمان والفرح‪ّ .‬إنا عودة احلياة من خالل احلواس‬ ‫الشائق عن تلك احلاجة التي ال تصدق لإليامن‪ .‬هذه احلاجة قبل‬
‫التي تستكشف العامل حتى قبل اللغة واللسان‪.‬‬ ‫دينية هي ما تسائله جوليا كريستيفا يف كتاهبا املذكور‪ .‬كيف نفكر‬
‫يف وضعية الدين داخل جمتمعاتنا ما بعد احلداثية التي يتزامن فيها‬
‫هذا هو ما يؤثث اإليامن‪ ،‬هذا التوحد مع العامل الذي ال يمكن‬ ‫التطرف الديني مع النزعات العدمية؟‬
‫لتعب عن‬
‫الشك فيه‪ ،‬يبدو حقيقة مطلقة وال حتتاج إىل اللسان ّ‬
‫إن جتربة التصوف‬‫نفسها‪ .‬أليس هذا مضمون التصوف الذي يقول ّ‬ ‫الكتاب هو عبارة عن حمارضات ألقتها الفيلسوفة واملحللة‬
‫إن تلك احلقيقة الداخلية تنتصب ضد حقيقة‬ ‫ال حتكى بل تعاش؟ ّ‬ ‫النفسانية يف مناسبات عدة‪ ،‬ويتضمن أيض ًا جزء ًا من حواراهتا‬
‫الرمي خارج ًا‪ :‬الرمي خارج الرحم‪ ،‬الرمي خارج الوطن‪ ،‬وهنا‬ ‫مع النارشة اإليطالية كارمن دونزييل‪ .‬تلقي جوليا كريستيفا‬
‫تظهر قوة جوليا كريستيفا كوهنا مهاجرة‪ ،‬تظهر قدرهتا عىل إعادة‬ ‫بحجر كبري يف بركة مدارس التحليل النفيس ويف تاريخ األفكار‪.‬‬
‫الوالدة يف لغة أخرى‪ ،‬وطن آخر‪ .‬هناك طاقة حيوية تقود الكائن‬ ‫ّإنا تسائل تاريخ النزعة اإلنسانية وتطرح سؤاالً حيرج الكثريين‬
‫إىل الوالدة املتجددة مراوغة القلق من املوت واالنتظار‪.‬‬ ‫الذين رأوا يف الدين عصاب ًا مجاعي ًا عىل إثر فرويد‪ .‬جوليا كريستيفا‬
‫تتساءل ماذا لو كانت النزعة اإلنسانية امتداد ًا لألخالق املسيحية؟‬
‫يف عمق هذا اإلحساس الكوين هناك األب‪ ،‬تقول كريستيفا‪،‬‬
‫لكنّه ليس األب القاهر‪ ،‬املقتص كام عند فرويد‪ ،‬بل هو األب‬ ‫ّإنا بذلك تقلب الرباديغم العلمي يف تاريخ األفكار الذي‬
‫املحب الذي يقتلع الطفل اإلنسان من االحتياج املطلق إىل األم‬ ‫يرى يف النزعة اإلنسانية منذ بيك دوالمريوندول حتى مونتيسكيو‬
‫والبقاء رهن رغباهتا املجنونة يف بعض األحيان‪ .‬األب الذي يدفع‬ ‫وديدرو والفلسفة املعارصة قطيعة مع األخالق املسيحية‪ .‬الكتاب‬
‫الطفل إىل التسامي ويعطيه اليقني بأنّه موجود‪.‬‬ ‫امتداد ملرشوعها الذي افتتحته يف كتاب حتت عنوان «يف البدء كان‬
‫احلب‪ ،‬التحليل النفيس واإليامن»‪ ،‬وفيه تسائل أشكال احلب‬
‫تربط كريستيفا التفكري يف احلاجة إىل اإليامن بالتفكري يف‬ ‫واإليامن عىل ضوء التحليل النفيس‪.‬‬
‫أحداث العنف التي عرفتها ضواحي باريس ‪ .2006‬تتساءل‬
‫حول ما إذا كانت هناك حاجة إىل اإليامن غري مشبعة ترتاءى من‬ ‫يف كتابه «موسى والتوحيد» خيلص فرويد إىل القول ّ‬
‫إن الدين‬
‫خالل هاته األحداث التي كان صانعوها مراهقني وشباب ًا‪ .‬تربط‬ ‫وهم و ُعصاب مجاعي‪ ،‬لك ّن جوليا كريستيفا تعود إىل أصول‬
‫إن املراهق‬‫املراهقة باحلاجة إىل اإليامن‪ ،‬بالسعي نحو املثل العليا‪ّ .‬‬ ‫أن املساءلة اجلد ّية ألصول هذا الشعور يمكنها‬ ‫االعتقاد‪ ،‬وجتد ّ‬
‫شخص مسكون باملثل وباإليامن‪ ،‬إنّه يؤمن بوجود موضوع مثايل‬ ‫حتل جزء ًا من مشاكل الفكر‬ ‫أن حتدّ من غلواء التطرف‪ ،‬وأن ّ‬
‫للرغبات‪ ،‬رغم أنّه ال جيده‪ ،‬ومن ثم يتساءل عنه‪ ،‬ووحده التسامي‬ ‫العلامين ومآزقه‪ .‬تتساءل يف الصفحة ‪« :39‬أليس مثري ًا ّ‬
‫أن جمتمعاتنا‬
‫يشكل خمرج ًا للفشل يف إجياد املوضوع املثايل وجنة اإلشباع‬ ‫العلامنية أمهلت تلك احلاجة اخلارقة إىل اإليامن»؟‬
‫يستقر االكتئاب وامللل واإلدمان‬
‫ّ‬ ‫املطلق‪ .‬عندما يتعذر التسامي‬
‫والعنف‪.‬‬ ‫يؤسس وجود الكائن اإلنساين‬ ‫ّ‬
‫إن احلاجة إىل اإليامن هي ما ّ‬
‫آت من الالتينية‬‫إن الفعل (اعتقد) يف الفرنسية ٍ‬
‫ككائن متكلم‪ّ .‬‬
‫هدف جوليا كريستيفا هو إعادة بناء النزعة اإلنسانية‪ ،‬منتقدة‬ ‫كريدو‪ ،‬ويعني «أن تعطي قلبك طاقتك احليوية يف انتظار‬
‫بذلك العقالنية املترسعة التي أسست العقل عىل اجلانب الريايض‪،‬‬ ‫مكافاة»‪ ،‬إنّه فعل وضع الثقة التي تستوجب الوفاء هبا‪ .‬اإليامن‬

‫‪285‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حنان درقاوي‬ ‫مراجعة كتب‬

‫ألخالق جديدة توحد الناس يف ّ‬


‫ظل جمتمع التقنية واحلرية التي‬ ‫وبذلك أمهلت التجربة الداخلية وألغت سلطتها املحايثة‪ .‬ما‬
‫بال حدود؟ كان هذا سؤال هابرماس يف لقائه الشهري مع البابا‬ ‫حيدث يف عيادة التحليل النفيس هو عودة هذه احلياة الداخلية‬
‫راستينغر‪ .‬جوليا كريستيفا تستبعد هاته اإلمكانية‪ّ .‬إنا تعترب ّ‬
‫أن‬ ‫إن حتركات األهواء والعواطف يف حصة التحليل‬ ‫إىل الواجهة‪ّ .‬‬
‫األمر ال يتعلق برصاع األديان بقدر ما يتعلق بالفراغ الذي يفرق‬ ‫النفيس تعيد الثقة يف احلياة الداخلية وتأخذها مأخذ اجلد‪ّ .‬إنا‬
‫أن اإلله نتاج لالوعي‪،‬‬ ‫بني فريقني‪ :‬الذين يريدون أن يعرفوا ّ‬ ‫بتحليلها هذا ال تدعو للعودة إىل الدين كحل ملواجهة حضارة‬
‫وفريق يفضل االستمتاع باالحتفال الذي يعلن عن وجود اإلله‪.‬‬ ‫الرياضيات واالحتفال‪ ،‬احلل يكمن يف االستمرار يف التفكري‪ ،‬يف‬
‫إن طريق التحليل النفيس هو طريق املتسائل‪،‬‬ ‫التحليل‪ ،‬يف النقد‪ّ ،‬‬
‫إن البديل عن التدين املتصاعد من جهة والنزعة العدمية من‬ ‫ّ‬ ‫إن اإلنسان الذي‬‫وهو اخلالص يف سبيل معرفة الذات واآلخر‪ّ .‬‬
‫جهة أخرى يأيت من مواقع التفكري اجلديدة‪ ،‬وتقصد العلوم‬ ‫أن املتضادات (عقل‬ ‫يتذوق األدب والتحليل النفيس يعرف ّ‬
‫اإلنسانية واآلداب التي تتيح لكل شخص إمكانية التامثل‬ ‫وإيامن أو حرية وحدود) هي متضادات غري مقبولة إذا ما كان‬
‫واخليال‪ .‬إنّه املكان الذي ينهار فيه املتضادان اإلسكوالئيان‪:‬‬ ‫ال عن عامل ما فوق املحسوس‪.‬‬ ‫الفرد املتكلم يفكر يف ذاته مستق ً‬
‫العقل واإليامن‪.‬‬ ‫الذات موضوع ًا للتفكري هذا هو ما تقرتحه كريستيفا ويقرتحه‬
‫التحليل النفيس‪ .‬أليس هذا استمرار ًا ملقولة «اعرف نفسك‬
‫إن الدين هو فقط وهم ومنبع‬ ‫عىل عكس فرويد ال تقول كريستيفا ّ‬ ‫بنفسك» السقراطية؟ التحليل النفيس يطبق هاته املقولة بجعل‬
‫إن الوقت قد حان ألن نعرتف دون أن هناب‬ ‫للعصاب‪ّ .‬إنا تقول ّ‬ ‫التفكري يف الذات يف متناول اجلميع تقريب ًا‪.‬‬
‫املؤمنني واملرتابني ّ‬
‫بأن تاريخ املسيحية هييئ النزعة اإلنسانية‪ .‬تنطلق‬
‫من اآلية «لقد آمنت لذلك تكلمت» التي قاهلا القديس بولس لتحلل‬ ‫إن األدب والفن والفلسفة والتحليل النفيس ليست جمرد‬ ‫ّ‬
‫تلك اللحظة الوجودية التي اندفع فيها اإلنسان املسيح يف التامثل مع‬ ‫ديكورات مجالية‪ ،‬ولكنّها أماكن تشكل خمتربات لألشكال اجلديدة‬
‫الرب األب‪ .‬إنّه أب خمتلف‬
‫آخر يتجاوزه‪ ،‬أال وهو األب املحب أو ّ‬ ‫لإلنسانية‪ ،‬ترافق اإلنسان يف ارتباطه بالطاقة اجلنسية‪ ،‬وتعطينا‬
‫عن األب الفرويدي املقتص الذي جيب قتله‪ .‬الرب املحب الذي‬ ‫فرصة لنواجه أشكال الوحشية اجلديدة املرتبطة بتصور اإلنسان‬
‫سيحل يف ابنه املسيح‪ ،‬وسيصلب قبل أن تكون قيامة وحياة جديدة‪.‬‬ ‫كآلة وبدون العودة إىل فزاعات أخالقية يدافع عنها املحافظون‪.‬‬
‫إن هذا التفكري اجلديد يمكن أن يشكل فرصتنا الوحيدة بمواجهة‬ ‫ّ‬
‫يف مقالتها األمل تغادر أرض فرويد وتتجاوزه لتعترب النزعة‬ ‫تصاعد الظالم‪ .‬هناك تقارب بني االعتقاد والوديعة‪ :‬اإلنسان‬
‫إن موت اإلله عىل الصليب‬ ‫اإلنسانية امتداد ًا لألخالق املسيحية‪ّ .‬‬ ‫املؤمن يضع وديعته وقلبه ورغبته وقوته السحرية يف اآلهلة‪،‬‬
‫له طاقة عالجية‪ ،‬وعلينا أن نتسلح بفهم جديد لتجربة اإليامن‬ ‫وينتظر أن تعود وديعته‪ ،‬وهو نفسه ما حيدث يف التحليل النفيس‪.‬‬
‫تتم باخلطاب وداخله وقابلة للتحليل‬ ‫باعتبارها جتربة جتريبية ّ‬ ‫ّ‬
‫إن االعتقاد واإليامن موجودان يف قلب التحليل النفيس‪ ،‬فاملحلل‬
‫والتفكري فيها‪ .‬عكس فرويد الذي يعترب الدين جتربة نكوصية‬ ‫«املعالج» يعتقد فيام يقوله «املحلل» «الزبون»‪ ،‬ولو كان هذا األخري‬
‫يمكن مقاربتها فقط بفضل األساطري‪ ،‬ألنّه يعتقد كل ّية يف‬ ‫ثم املفهوم‬
‫ينتج فانتازمات‪ .‬ما يؤسس العلوم اإلنسانية ومن ّ‬
‫العقل ويؤمن به‪ .‬رغم هذا فقد كتب لكوستاف يونغ رسالة‬ ‫اجلديد عن اإلنسان هو الرغبة واحلاجة إىل املعنى الذي ال ينفصل‬
‫نقرأ فيها‪« :‬احلكامء وحدهم حيرتمون األخالق بفضل العقل‪،‬‬ ‫عن اللذة التي جتد أسسها يف الطاقة اجلنسية التي حتكم التسامي‬
‫إن فرويد يف‬‫تظل خالدة»‪ّ .‬‬‫اآلخرون بحاجة إىل األسطورة التي ّ‬ ‫الروحي والفكري من جهة ونزعة التدمري من جهة أخرى‪ .‬بفضل‬
‫هذه الرسالة يكاد يعرتف ضمني ًا بكون الدين يمكن أن يشكل‬ ‫العلوم اإلنسانية يمكننا أن نيضء ظواهر عدة تبدو ملغزة مثل‬
‫ضامنة لألخالق‪ .‬تتجاوز جوليا كريسيفا هذا الطرح‪ ،‬وتعترب ّ‬
‫أن‬ ‫الذهان‪ ،‬والتسامي‪ ،‬واملعتقد‪ ،‬والعدمية‪ ،‬وظواهر كثرية‪.‬‬
‫ما حيدث يف املسيحية من دخول إىل رحم املقدّ س يوسع إمكانيات‬
‫الفرد يف املعرفة‪ّ .‬‬
‫إن احلاجة إىل اإليامن تدعم الرغبة يف املعرفة ويف‬ ‫هل جيب تأسيس النزعة اجلديدة عىل خملفات األديان وقدرهتا‬
‫فهم العامل‪ّ ،‬إنا يف قلب الفضول املعريف‪.‬‬ ‫عىل ربط الناس بعضها ببعض؟ هل الدين جيب أن يكون منبع ًا‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪286‬‬
‫مراجعة كتب‬ ‫ملاذا نحتاج لإليامن؟ جوليا كريستيفا واحلاجة التي ال تصدّ ق لإليامن‬

‫خالل الصداقة والتضامن والتفكري أيض ًا‪ .‬ال يشء يشفي العامل من‬ ‫يف عمق احلاجة إىل اإليامن تربض جتربة اإلحساس الكوين‬
‫البغض غري معرفة الذات واآلخر»‪ .‬تدعو كريستيفا إىل إعادة بعث‬ ‫«التوحد مع الكون»‪ ،‬أو «الشعور البحري» الذي يعرتف به فرويد‬
‫التفكري الذي يشكل املرتاس الوحيد ضدّ الرببرية والتوحش‪ .‬جيب‬ ‫ويعتربه جتربة استثنائية تعيشها الذات‪ ،‬هي جتربة داخلية تسبق‬
‫حتليل هاته احلاجة إىل احلب واألمل فيه‪ ،‬كذلك الكره الذي يشكل‬ ‫اللسان ويعيشها الرضيع الذي ال يعي بعد االنفصال بني جسده‬
‫الوجه اآلخر للحب‪ .‬جيب أن نستبدل احلاجة إىل احلب بروابط‬ ‫إن هاته التجربة الوثوقية تدخل ضمن املعتقد‪ ،‬اإليامن‪.‬‬ ‫وجسد األم‪ّ .‬‬
‫صداقة يمكنها أن تزيل التشنج يف العالقات بني األديان‪ .‬يمكن‬ ‫أن الشعور الديني ينبع من التامهي مع األب‪ ،‬األب‬ ‫يعترب فرويد ّ‬
‫أن ننشئ عالقات بعيدة عن التشنج‪ ،‬وذلك بالتعاون املشرتك‬ ‫الذي يمثل ما قبل التاريخ الفردي‪ ،‬األب األوديبي الذي جيب قتله‬
‫وباحلوار املستمر بني األديان الثالثة‪ ،‬وأيض ًا بني املتدينني وغري‬ ‫من أجل احلياة‪ .‬لك ّن هناك أب ًا آخر يقبع يف عمق احلاجة إىل اإليامن‪،‬‬
‫املتدينني‪ ،‬وهو ما تفعله هي نفسها من خالل املشاركة يف حلقات‬ ‫إنّه األب املحب وليس األب املتسلط الذي ال بدّ للذات أن تقتله‬
‫التفكري التي ينظمها الفاتيكان‪.‬‬ ‫كي توجد وتولد يف العامل‪ .‬األب وهو يعرتف باالبن جيعله موجود ًا‪،‬‬
‫ويؤسس قدرته عىل التسامي وعىل التعبري اللغوي والرمزي‪ .‬هاته‬
‫يف معرض حتليلها ألزمة الضواحي التي انفجرت فيها أحداث‬ ‫هي القدرات التي تسائلها احلاجة إىل اإليامن‪ .‬التصوف والتحليل‬
‫عنف وقتها تقوم بتحليل عميق لطبيعة احلاجة إىل املعتقد عند‬ ‫النفيس متقابالن‪ ،‬متضادان يف تفكري فرويد‪ّ .‬إنام نموذجان خمتلفان‬
‫املراهق‪ .‬تعرف املراهق بأنّه إنسان مؤمن ومستعد لإليامن باجلنة‪،‬‬ ‫فيام يتعلق بعالقة اهلو باألنا‪ .‬التصوف انتصار للهو وغياب له يف آن‬
‫ألنّه يعتقد ّ‬
‫أن هناك إمكانية لإلشباع املطلق وحني ال جيد املوضوع‬ ‫أن التحليل النفيس جيعل احلوار بني األنا واهلو ممكن ًا‬
‫واحد‪ ،‬يف حني ّ‬
‫املثال يتحول إىل العنف ضد الذات وضد املجتمع‪ .‬تقرتح‬ ‫بفعل اللغة والرتميز‪ .‬رأي ستختلف فيه مع كوستاف يونغ الذي‬
‫كريستيفا أن نأخذ مأخذ اجلد تلك احلاجة عند املراهق‪ .‬إذا مل يتم‬ ‫يعيد االعتبار للتجربة الداخلية والروحية‪.‬‬
‫فإنا تتحول‬ ‫التفكري يف تلك احلاجة وترميزها يف اخلطاب واللغة ّ‬
‫إىل قوة مدمرة‪ ،‬وينتمي املراهق إىل طوائف دينية أو خيتار التطرف‬ ‫توضح كريستيفا أنّه إذا كنا نعرتف بتلك احلاجة التي ال تصدق‬
‫أو أشكال تعذيب الذات‪.‬‬ ‫إىل اإليامن ّ‬
‫فإن األمر ال يعني تربير الطبقية والرتاتبية باسم الدين‪،‬‬
‫ألن يف ذلك اختزاالً‬‫وال يعني أيض ًا أن نتجاهل هذه احلاجة‪ّ ،‬‬
‫أن اجلمهورية الفرنسية قادرة عىل مواجهة أزمة‬ ‫ّإنا تعتقد جازمة ّ‬ ‫للقدرات الفردية يف التفكري واإلبداع‪ .‬يتعلق األمر باالعرتاف‬
‫يمس يف العمق طبيعة‬‫املعتقد الذي مل تعد األديان حتتويه‪ ،‬والذي ّ‬ ‫هباته احلاجة ملا فيه خري التعايش الديمقراطي‪ّ .‬إنا حاجة‬
‫العالقات بني البرش‪ .‬تعتقد بإمكانية عالقات حوار وتضامن بني‬ ‫أنثربولوجية‪ ،‬لكن ال جيب رهنها بتاريخ األديان‪ ،‬بل جيب أن‬
‫األديان الثالثة‪ ،‬بل حتى بني املتدينني وغري املتدينني‪ .‬هناك إنسانية‬ ‫ال للتسامي والتطوير الذايت‪.‬‬ ‫نعتربها عام ً‬
‫جديدة تولد بفعل تطور معرفتنا باإلنسان بعد التطور الذي عرفته‬
‫العلوم اإلنسانية والنظرة اجلديدة لإلنسان‪ ،‬من حيث هو كائن‬ ‫«إن متأكدة من أنّنا إذا ما ساءلنا هاته‬
‫تقول يف الصفحة ‪ّ :70‬‬
‫يبحث عن املعنى ويسعى إىل التسامي عىل الرغبة املحضة‪ .‬يسعى‬ ‫الرغبة ومحلناها حممل اجلد فإنّنا سنصنع الظروف املالئمة ملواجهة‬
‫إىل املعرفة‪ ،‬وليس فقط اإليامن الغافل عن حقائق الوجود‪.‬‬ ‫التطرف ومآزق جمتمعاتنا العلامنية التي ال متنح أسس ًا صلبة لإليامن‬
‫ببنائها‪ ،‬لدعائمها األخالقية‪ ،‬بل تكتفي بدعائم قانونية وبمنظومة‬
‫استناد ًا إىل هذه التغريات‪ ،‬ال بدّ من إعادة بناء النزعة اإلنسانية‬ ‫حقوق اإلنسان التي ال تنجح دائ ًام يف توحيد اجلميع‪ .‬هل تكفي‬
‫استناد ًا إىل تقدّ م العلوم اإلنسانية التي أتت بمواضيع جديدة‬ ‫حقوق اإلنسان لتحقيق اإلمجاع؟ هل تكفي هاته املنظومة ضامنة‬
‫خمتلفة عن امليتافيزيقا وعلم األخالق الذي تدرسه الفلسفة‪.‬‬ ‫للعيش املشرتك؟ هل هناك إمكانية يف أن تتحابب األديان فيام بينها؟‬
‫هناك حاجة إىل إعادة بناء النزعة اإلنسانية وإقامتها عىل أسس‬ ‫أي معنى‪ ،‬أ ّية أخالق‪ ،‬أ ّية قواعد سلوك يمكنها أن متنح لوجودنا‬ ‫ّ‬
‫جديدة تتناسب مع اإلنسان املعارص وإشكالياته ومواضيعه‬ ‫معنى يف زمن تتزامن فيه النزعة العدمية والتعصب الديني؟‬
‫اجلديدة‪.‬‬ ‫املعضلة يف التعصب تكمن يف تأويل احلاجة إىل احلب واألمل من‬

‫‪287‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫أدب وفنون ‪ /‬شعر‬

‫قدود على مقام القصف‬


‫عيسى الشيخ حسن*‬

‫ِ‬
‫«هدومه»‬ ‫ِ‬
‫الباص غري‬ ‫ومل يكن يف‬ ‫«وضعت عشري على نحري»‬
‫طالت عليهِ‬ ‫ِ‬
‫احلديد»‬ ‫وحني وقفنا بـ«باب‬
‫وبعض مرىض ال جييدون التذك َّر‬‫ُ‬ ‫أنخنا ِ‬
‫اجلامل‬
‫وانتظار املوتِ‬ ‫تركنا ركائبنا بـأمحاهلا‬
‫ِ‬
‫النسيان والفوىض‬ ‫كان يكمل دورة‬ ‫ودخلنا املدينة‬
‫حني صاح به الطريق ّ‬
‫معذب ًا بالباص‪:‬‬ ‫أذان وسابلة‬
‫كان ثـ ََّم ٌ‬
‫أين أغنيتي؟‬ ‫ومقاه وفوىض يلوذ هبا الغرباء‬‫ٍ‬
‫فقال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫الركب‪:‬‬ ‫وقال لنا آمر‬
‫‪ -‬أنا ٌ‬
‫رجل‬ ‫‪ -‬هذي حلب‬
‫ودون إضافة وصفٍ‬
‫***‬ ‫رأينا املدين َة يف حزن عينيه‬
‫رأينا اشتباك البيوت‬
‫ال بأسئلتي‬ ‫ومل يكن نيسان منشغ ً‬ ‫حني َّ‬
‫ظل يش ّبك بني يديه‬
‫خيضل عشب الصمت من مطري‬ ‫َّ‬ ‫ومل‬ ‫املؤذن‬
‫ُ‬ ‫أتم‬
‫إىل أن َّ‬
‫قلت يل قويس وراحلتي‬ ‫ُ‬ ‫ذاك النشيد اجلليل‬
‫وبعض طرائد يف األفق‬
‫شجر ويل وجعي‬ ‫ٌ‬ ‫يل‬ ‫«ولست بح َّلال ال ّتالل»‬
‫ولكن أين أغنية املسافر؟‬ ‫قليل َّ‬
‫احلظ‬ ‫رجل ُ‬ ‫أنا ٌ‬
‫نيسان يا ولدي‬
‫َ‬ ‫حني نعو ُد من‬ ‫ٍ‬
‫قال حمتشد ًا بأغنية نمت يف احلزن‬
‫شتاء تالي ًا‬
‫سريتكب احلنني هنا ً‬ ‫خيط رسال ًة للموت‬ ‫الشتاء لكي ّ‬ ‫َ‬ ‫وانتظر‬
‫َ‬
‫ختم دفاتري‬
‫سيفض َ‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫ترشين حطت نحلة يف البيت‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫يف‬
‫ويقول للموتى‪ :‬استق ّلوا باصكم‬ ‫ال تالي ًا‬
‫أجل فكر َة اهلذيان فص ً‬ ‫ّ‬
‫وسيتّكي ٌ‬
‫رجل عىل غدنا‬ ‫واغتاب حراس الكتابةِ‬
‫َ َّ َ‬
‫ِ‬
‫كالغريق‪:‬‬ ‫ويرصخُ‬ ‫دس أغنية الطريقِ‬ ‫َّ‬
‫‪-‬أنا‬ ‫بقوس شتائه‪ِ:‬‬
‫ِ‬ ‫وقال حمتشداً‬
‫رجل قليل‬ ‫‪ -‬أنا ٌ‬
‫***‬
‫***‬
‫وهناك ثمة نحل ٌة‬
‫ِ‬
‫النهايات الغريبة‬ ‫فاضت عىل عسل‬ ‫*شاعر من سورية‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪288‬‬
‫أدب وفنون ‪ /‬شعر‬ ‫قدود عىل مقام القصف‬

‫تلعب وحدها‬ ‫َ‬


‫أوشال رحلته‬ ‫أخرجت من كوخه‬
‫ومل تنجح حتى يف إخفاء مقربة‬ ‫وسمت حزن ُه ورد اجلبال‬ ‫َّ‬
‫نبك»‬
‫«قفا ِ‬
‫ِ‬ ‫لكي حتطَّ‬
‫ست رصاصات‬ ‫ُّ‬ ‫الغياب‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ال تعافت فيه أسئلة‬‫وتبتيل رج ً‬
‫نبتت يف جدار الش ّقة املقابلة‬ ‫باب‬ ‫ٍ‬ ‫من ِ‬
‫مخس مل يعد للبيت ْ‬ ‫بعد‬
‫الشقة املهجورة منذ احلرب‬ ‫نادت امرأة ّ‬
‫بكل ربيعها‬
‫منذ ثالث سنوات بالضبط‬ ‫ال كثري ًا‬
‫رج ً‬
‫الرصاصات املتناثرة بعناية‬ ‫مرتف ًا باألغنيات‪ ،‬وصاحل ًا للموت‪:‬‬
‫الدب األكرب‬
‫كمجموعة ِّ‬ ‫يااااا يا سيدي‪.‬‬
‫مل تغادر الشقة منذ ثالث سنوات‬ ‫‪....................‬‬
‫ست جتويفات نبت مكاهنا عشب ضئيل‬ ‫ُّ‬ ‫‪....................‬‬
‫لكنَّنا كنَّا نراه‬ ‫صمت يف اجلهاتِ‬
‫ٌ‬ ‫وانداح‬
‫ونح ّييه عن بعد‬ ‫وال جواب‪.‬‬
‫الدب األكرب اخلرضاء‬ ‫جمموعة ِّ‬
‫هكذا قال أخي الكبري‪:‬‬ ‫«نــاي»‬
‫«ها هو املوت ينجب العشب»‪.‬‬ ‫هبدوء ومرح‬
‫ّأمي قالت‪« :‬هؤالء جرياننا‬ ‫ينفخ الولد‬
‫عادوا من املخ َّيم»‬ ‫يف ظرف الرصاص الفارغ‬
‫وتذكرنا مع ًا‪:‬‬ ‫ليظفر بلحن حزين‬
‫األب األعرج‬ ‫هو ال يدري‬
‫وزوجته السمينة‬ ‫أن ثمن هذا اللحن‬
‫َّ‬
‫والبنت الكربى‪ /‬املمرضة‬ ‫ألف جمزرة‬
‫وصديقي رشيد طالب املعهد‬ ‫دفعناها يف مخس سنوات‬
‫األول يف احلارة‬
‫وحسن العب الكرة َّ‬
‫ّ‬
‫الصف السابع‬ ‫والتوأمان يف‬ ‫خيبة‬
‫(وأرشت إىل ثقبني متجاورين)‬ ‫الظالل التي خ َّبأناها لتلك الشمس‬
‫وآخر العنقود خدجية‬ ‫مل تكن كافية‬
‫بكينا قلي ً‬
‫ال‬ ‫لينام حتتها أطفالنا‬
‫وقالت ّأمي‪:‬‬ ‫الظالل التي طويناها بعناية‬
‫«إييييييييييييه ع الدنيا»‬ ‫سميناها أسامء مجيلة‬
‫الظالل التي َّ‬
‫وصمتت‬ ‫الظالل التي سكبناها يف حكايات املساء والصباح‬
‫الظالل التي زرعناها يف مساكب الرحيان‬
‫***‬ ‫الظالل التي رحلت خلف األشجار‬
‫الظالل التي رحلت خلف البيوت‬
‫س ّت ُة حمارصين‬ ‫الظالل التي رحلت خلف النازحني‬
‫مثبتون عىل اجلدار‬ ‫والشمس التي ظلت وحيدة‬

‫‪289‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫عيسى الشيخ حسن‬ ‫أدب وفنون ‪ /‬شعر‬

‫من سطوته‬ ‫مل يكن ثمة خبز ٍ‬


‫كاف لنطعمهم‬ ‫َّ‬
‫املطر كان يكتب برسعة‬ ‫وال صابون ليغتسلوا‬
‫وأيض ًا رسم سيوالً‬ ‫نرش املاء‬‫ولكنَّنا كنَّا ُّ‬
‫وبِ َرك ًا وبعض الذعر يف املاشية‬ ‫بعناية‬
‫فوق ست ّة ثقوب‬
‫***‬ ‫قبل أن يأيت الشتاء‬
‫قال الرجل الكهل‬ ‫ويتدل العشب قلي ً‬
‫ال‬ ‫ّ‬
‫النص مكانه‬
‫ليظل ُّ‬ ‫مل يكن الورق جيد ًا َّ‬ ‫يظل يسأل‪:‬‬ ‫وأخي الذي ُّ‬
‫زوجته قالت‪:‬‬ ‫أن مشط رصاص‬ ‫«من يصدّ ق َّ‬
‫احلرب هو الذي مل يكن جيد ًا‬ ‫يرسح اآلن شعر ًا أخرض‬‫ّ‬
‫ولكن؛‬ ‫وطويالً»؟‬
‫حتى األقالم والطباشري واملع ّلم الوحيد يف القرية والطلبة‬
‫ينشفوهنا اآلن‪ ،‬والعجوز التي تعلف الدواب‬ ‫بمراييلهم التي ّ‬ ‫قطرة من المطر»‬
‫ٍ‬ ‫«في ِّ‬
‫كل‬
‫بمشقة‪ ،‬والرجل الباحث عن بعض الوقود للمدفأة‪ ،‬حتى‬ ‫النقاط التي وضعناها عىل احلروف‬
‫الزرازير القريبة من البيادر‪ ،‬واحلامر الذي مل يفطن إليه أحد‪،‬‬ ‫مل تضف شيئ ًا‬
‫والسيارة الوحيدة العابرة يف التاسعة مساء بضوء شحيح‪،‬‬ ‫كان املعنى نائ ًام‬
‫حتى البنت الشا َّبة التي تتعلم اخلبز عىل الصاج وقد أتلف املطر‬ ‫حني جادت غيوم نيسان باملطر‬
‫املطاطي مطارد ًا زرزور ًة‬
‫ّ‬ ‫الشقي بمقالعه‬
‫ّ‬ ‫الصبي‬
‫ّ‬ ‫كحلها‪ ،‬حتى‬ ‫***‬
‫ألن املع ّلم رضبه‬‫الصبي الذي هرب من املدرسة َّ‬ ‫ّ‬ ‫مهيضة اجلناح‪،‬‬ ‫كل الكلامت‬ ‫تب ّللت ُّ‬
‫بقسوة ألنَّه ال جييد كتابة (تألأل املتأللئون)‪ ،‬وال صديقه الذي‬ ‫السبورة القديمة السوداء‬
‫ّ‬ ‫حتى‬
‫يرافقه أثناء القفز حتت املطر‪.‬‬ ‫أغرقها السيل‬
‫حتى تلك املرأة التي عاد زوجها من بريوت‪ ،‬وتبحث له عن‬ ‫واملعنى الذي كان يف الشتاء‬
‫بيض عند جارهتا العجوز‪.‬‬ ‫توحش فجأ ًة‬‫َّ‬
‫لنتعرف احلروف من جديد‪،‬‬ ‫يومها انتظرنا الورق حتى ينشف‪َّ ،‬‬
‫وانتظرنا األرض حتى تنشف‪ ،‬وانتظرنا ثياب القتيل حتى‬ ‫***‬
‫وكل ماء منبثق حتى‬ ‫يمر‪َّ ،‬‬‫كل غي ٍم عابر حتى ّ‬ ‫تنشف‪ ،‬وانتظرنا َّ‬
‫تقرض املرأة مخس بيضات‪ :‬هذا‬ ‫يغور‪ .‬وقالت العجوز وهي ِ‬ ‫ال ميم ال واو ال عني‬
‫املطر ذئب غشيم‪ ،‬وضحكتا مع ًا‪ ،‬ثم بكتا‪.‬‬ ‫وال راء مسكينة نجت من املطر‬
‫ومنذ املطر مل نعد نجيد القراءة‪ ،‬مل نعثر عىل حروف متاثل حروفنا‬ ‫الطالب الذين نالوا صفر ًا يف اإلمالء‬
‫فكل احلروف صارت منقوطة‪.‬‬ ‫القديمة؛ ُّ‬ ‫كانوا يبكون‬
‫دفاتر اإلمالء ظ ّلت معهم‬
‫األقالم‬
‫الطباشري‬
‫كل حرف‬ ‫ترسم نقاط ًا فوق ّ‬
‫ال مع ّلم يلجمها‬
‫ال طالب حيمون دفاترهم‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪290‬‬
‫بريشة الفنان عبد العزيز عبدوس من املغرب‬
‫أدب وفنون ‪ /‬شعر‬

‫(مرث َّية)‬
‫م أَبي*‬
‫َغا َر َن ْج ُ ِ‬
‫إبراهيم بورشاشن**‬

‫البسم ُة الو ُقور ُل ْغ ُز السن ِ‬


‫َاء‬ ‫َأ ْس َل َم الدَّ ْو ُح َن َف َس ُه‬
‫َ‬ ‫َْ َ َ ُ‬
‫ُ‬
‫اجلدُّ َي ْشغَل املك َ‬
‫َان‪،‬‬ ‫َهذا ِ‬ ‫ت‪،‬‬ ‫َوالغ ُْر َب ُة ت ََل َش ْ‬
‫َاب‬ ‫ِ‬ ‫يف السَّم ِء و ْفدُ الع َط ِ‬
‫يف ال ُي ْمنى الكت ُ‬ ‫اء‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ال َي ِاة‪.‬‬
‫ف َْ‬ ‫َويف ال ُي ْسى َص َحائِ ُ‬ ‫ض ِع ْطر ال َّثنَاء‪ِ.‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َويف األَ ْر‬
‫الذكْر ي ْطوي ا َملسا َف ِ‬
‫َان‬
‫الر َدى َ ُي ُّز املك َ‬ ‫َأتَى َّ‬ ‫ات‬ ‫َ‬ ‫ِّ ُ َ‬
‫اء‪،‬‬ ‫ون ال َف َض َ‬ ‫َوال َق ْو ُم ُي َع ِّط ُر َ‬ ‫س‬ ‫ا ْنك َ ِ‬
‫َس اجل ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‪1‬‬
‫َأيب َك ْع َب ُة ال ُع َّشاق‬ ‫َوبِاآل َيات ُي ْرت َُق ال َفت ُْق‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وب‬ ‫َأيب ز َْه َر ُة ال ُق ُل ِ‬ ‫ال َّل ُن‬ ‫ب ْ‬ ‫َذ َه َ‬
‫ان‪.‬‬ ‫ي الز ََّم ِ‬ ‫َأيب ُحز ٌْن يف َع ْ ِ‬ ‫ت‬ ‫َواألَ ْر ُض َت َبدَّ َل ْ‬
‫ِ‬ ‫َأ ْي َن املن ُ‬
‫وح َها‬ ‫ت َُو ِّد ُع ا ْملدينَ ُة ُر َ‬ ‫ُون؟‬
‫جدُ األَ ْع َظ ُم َت َيت ََّم‪،‬‬ ‫َوا َْل ْس ِ‬ ‫ات؟‬ ‫َأين مزيِ ُل ا ْلع َقب ِ‬
‫َ َ‬ ‫ْ َ ُ‬
‫ت ال َب ْس َم ُة يف األَ ْس َو ِاق‬ ‫َاض ِ‬ ‫غ َ‬ ‫كِياين َيت ََشظى‬
‫َّ‬
‫َوال ُّط ُرق َا ُت َت ْل َف ُح َها الكَآ َب ُة‪،‬‬ ‫اجل َسدَ ال َع َ‬
‫ليل‬ ‫َوالدَّ ْم ُع َ ُيدُّ َ‬
‫ح ُر‬ ‫يت األَ ْ َ‬ ‫ب الكِ ْب ُ‬ ‫َذ َه َ‬ ‫َار ن َْج ُم َأيب‬ ‫غ َ‬
‫ْب‪.‬‬ ‫ب َّ ِ َ‬ ‫َذ َه َ‬ ‫َو َا ْلغ ُ‬ ‫َ‬
‫الذاك ُر األك َ ُ‬ ‫ت‬‫ْصان َتو َّه َج ْ‬
‫ب‬ ‫َهدَ َأ ْت َص ْي َح ُة ُْ‬ ‫وب ُينْذ ُر َل ْي َيل ال َّط َ‬ ‫ِ‬
‫ال ِّ‬ ‫ويل‪.‬‬ ‫َو َهذا الغ ُُر ُ‬
‫َاضب تَوارى يف َطي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان ِم ْن َل َظى الف َراق َتت ََمز َُّع‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات الز ََّم ِن‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َوا ُملغ ُ َ َ‬ ‫ْص ُ‬ ‫األَغ َ‬
‫َاب َب ْعدَ ال َي ْو ِم‬ ‫الَ َن ْظ َر َة ِعت ٍ‬ ‫ات ا ُْل ْشت َِع َل ِة‪،‬‬ ‫ف ع َل َاهلام ِ‬
‫َ‬ ‫ا ْل ُيت ُْم َيز َْح ُ َ‬
‫ال ُد َعاء ُي ْؤنِ ُسني‬ ‫ف‬ ‫الو ِار ُ‬ ‫َاب ال ِّظ ُّل َ‬ ‫غ َ‬
‫ك‬ ‫ن َْم َأيب يف ُنزْلِ َ‬ ‫ميل‪.‬‬ ‫ال ُ‬ ‫َاب َْ‬ ‫َاب العت ُ‬
‫ِ‬
‫غ َ‬
‫ك إِ َل األَ َب ِد‪.‬‬ ‫الح ُق َ‬ ‫َفدُ عائي ي ِ‬
‫َ ُ‬ ‫الش ْم َع ُة‬ ‫اخ َت َل َجت َّ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ف َق ْر ٍن ِم ْلء َع ْيٍ‬ ‫نِ ْص ُ‬ ‫ِ‬
‫الذ َبال ُة يف ا ْل ْشكَاة ت َْذوي‬ ‫ِ‬ ‫َو ُّ‬
‫ف َق ْر ٍن ِم ْلء َس ْم ٍع‬ ‫نِ ْص ُ‬ ‫ت‬ ‫َسك ََن ال َب ْي ُ‬
‫نِ ُص ُ ٍ‬
‫ف َق ْرن َوالك ُُهو َل ُة الَ َتك ُ‬
‫ْرب‬ ‫َاديل‪.‬‬ ‫والب َك ُة ت َُؤ ِّج ُج ال َقن َ‬ ‫ََ‬
‫هر يف ُسك ٍ‬
‫ُون‬ ‫ف َق ْر ٍن َوالدَّ ُ‬ ‫نِ ْص ُ‬ ‫ارفٍ‬ ‫ات ك ََصحٍ َج ِ‬
‫ْ‬ ‫الذك َْر َي ُ‬ ‫َتن َْه ُار ِّ‬
‫الوسيِ ِم‬ ‫ِ‬
‫الوجه َ‬ ‫اء بِ ْ‬ ‫ات الك ُْبى ت َُض ُ‬ ‫ا َمل َح َّط ُ‬
‫‪ 1‬ــ دفن يف مقربة الشهداء يف «كدية العشاق»‪ ،‬وكان رحمه الله‪ ،‬مع كرثة تالوته‬
‫للكتاب العزيز‪ ،‬يعشق الحياة ويويص بأن يدفن يف مكان يرشف عىل جامل‬ ‫*تويف رحمة الله عليه يف فَ ْج ِر يَ ْومِ ال ُج ُم َع ِة ‪ 30‬دجنرب ‪.2011‬‬
‫الطبيعة حتى إذا زاره أحد استمتع باملنظر الجميل‪.‬‬ ‫** شاعر من املغرب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪292‬‬
‫أدب وفنون ‪ /‬شعر‬ ‫َار ن َْج ُم َأ ِب‬
‫غ َ‬

‫ان َقدَ ٍر‬ ‫َما ز ََّل لِ َس ُ‬ ‫ف َق ْر ٍن َوال ِّظ ُّل َي ْست ُ‬


‫َقيم َع َل َخ َف ٍر‬ ‫نِ ْص ُ‬
‫ُا ْخ ُر ْج َأيب إِىل َس َع ٍة‬ ‫ون ُق ْب َل ِة َو َدا ٍع‬
‫ت َأ ِب ُد َ‬‫َذ َه ْب َ‬
‫َّح ِ‬
‫ان‪.‬‬ ‫ُا ْخ ُر ْج إِ َل ُأن ِ‬ ‫ِ‬ ‫َذ َه ْب َ‬
‫ْس الر ْ َ‬ ‫ون َو َصاة ُو ٍّد‬ ‫ت ُد َ‬
‫ف ِب‬ ‫ف َ ْيتِ ُ‬ ‫َهاتِ ٌ‬ ‫ت َف ْرد ًا‬‫َذ َه ْب َ‬
‫لصال َِة‬ ‫ِ‬
‫ُق ْم ل َّ‬ ‫ت َع َل َم َطا َيا األَ ْحالمِ‪.‬‬ ‫َذ َه ْب َ‬
‫ال َف ْج ُر َبعيدٌ‬ ‫اخيل ع َا َل ٌ َ َت َاوى‬ ‫يف د ِ‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫يت َ ُ‬
‫َض‪.‬‬ ‫َو َأيب يف َغ ْف َلة َعنِّي ُ ْ‬ ‫ص ٌح َ َتدَّ َم‬‫َ ْ‬
‫َأ ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫وس‬ ‫ش َقت النُّ ُف ُ‬ ‫َ‬ ‫ان‪،‬‬‫ْص ُ‬‫َت َع َّرت األغ َ‬
‫ت‬ ‫َوا َّز َّي َن ال َب ْي ُ‬ ‫َر ْأ ُس ال َبال َيا ال ُع ْج ُ‬
‫ب‬
‫ِ‬
‫َثغ ُْر ُأ ِّمي َأ َض َ‬
‫اء‬ ‫اب‪،‬‬‫اخل َطا َيا ح َج ٌ‬ ‫َو َ‬
‫ان ُش ُم ٌ‬
‫وع‬ ‫ْص ُ‬ ‫َواألَغ َ‬ ‫النَّ ْف ُس َج ْو َعى‬
‫الرؤى‬ ‫ِ‬ ‫َوا ْلنَا َيا ِس َها ٌم‪.‬‬
‫ت ََوات ََرت ُّ‬
‫ُّور َ ْيتِ ُ‬
‫ف‪:‬‬ ‫َأيب يف َُّل ِة الن ِ‬ ‫اض‬ ‫الس ْو َد ُاء َت ْق ِض ُم ال َب َي َ‬ ‫َت َّ‬ ‫النُّك ُ‬
‫َم ْن َز َع َم َحتْفي؟‬ ‫ِ‬
‫بِال َغ ْف ِر أ َطار ُد الغ ََس َق‬ ‫ُ‬
‫ْت نَائِ ًام َفانْت َب ْهت!‬‫ُكن ُ‬ ‫ك ا ُْلدْ َ ِلمَّ ُت‬ ‫َتت ََشا َب ُ‬
‫َّب َتن َْح ُّل ا ْل ُع َقدُ ‪.‬‬ ‫بِالص ْ ِ‬
‫ج ُل َيا َأيب‬ ‫الس ِ‬ ‫ي ِّ‬ ‫ُط ِو َ‬
‫ي األَح َف ِ‬
‫اد‪،‬‬ ‫اث الغَابِ َر ُة ُد َّر ٌة يف َع ْ ِ ْ‬ ‫األَ ْحدَ ُ‬
‫كَدْ ٌح يف الدُّ نَا‬
‫ك‬‫ي َيدَ ْي َ‬ ‫ُّور َب ْ َ‬ ‫َوالن ُ‬
‫ريدين‬ ‫اج ا ُْل‬ ‫ِ‬ ‫لِ َسان َ‬
‫َ‬ ‫س ُ‬ ‫ُك َ‬
‫ت َعىل ُْالدى‬ ‫ُم ْ‬
‫ني‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َف ِذك ُْر َك ُ‬
‫الصال َ‬ ‫عبق َّ‬
‫َي ْروي الن َّْه ُر الدَّ ْو َح‬
‫َويف ِح ْض ِن ال َق َراحِ َأز َْه َرت ال َف َسائ ُل‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َأسيدَ َة الر َج ِ‬
‫ال‬ ‫ِّ‬ ‫َ ِّ‬
‫ً‬
‫َص ْبا !‬
‫ي ُذ َلك ال ُف ْر َس ُ‬
‫ان‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َف َل ْن َ ْ‬
‫ِ‬
‫اق بِالغ ُْر َبة ال َف َض ُ‬
‫اء‬ ‫َض َ‬
‫الو ْح َش ُة ُأنْس ًا؟‬ ‫ف ت ُْصبِ ُح َ‬ ‫َك ْي َ‬
‫ص؟‬ ‫وح بِال َق َف ِ‬ ‫الر ُ‬ ‫ف ت َْأن َُس ُّ‬ ‫َك ْي َ‬
‫الاين‬ ‫اء َْ‬‫ال َف ُ‬ ‫َو َه َذا َْ‬
‫ِ‬
‫َذير ا ْلف َر ِاق؟‬
‫َأن ُ‬
‫اب؟‬ ‫َأ ْم ُعدَّ ُة ا ُْل َص ِ‬
‫ك ا ْل َوتَدُ َيا َأ ِب‪ ‬‬ ‫َس َّل َم َع َل ْي َ‬
‫الو َدا ِع‬ ‫س َّلم بِنُب ِ‬
‫وءة َ‬ ‫َ َ ُ َ‬

‫‪293‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫أدب وفنون ‪ /‬قصة قصرية‬

‫الذكرى‬

‫عيل القاسمي*‬

‫عصفور مذعور‪ ،‬وأنا َأمدُّ يد ًا مرتعش ًة إىل مطرقة الباب‪ ،‬فيش ُّلها اخلوف فال تكاد‬ ‫ٍ‬ ‫جناحي‬‫َ‬ ‫ست بقلبي يضطرب وخيفق بشدَّ ة‪ ،‬مثل‬ ‫َأ ْح َس ُ‬
‫رس املرأة الوحيدة التي تقطن تلك الدار العالية األسوار‪ .‬فهي‬ ‫يفض امرؤٌ َّ‬ ‫تلمسها‪ .‬مل يكُن َأحدٌ يدري ما وراء ذلك الباب املوصد دوم ًا‪ ،‬ومل َّ‬
‫أي منَّا يف َأ ِز َّقة البلدة الصغرية‪ ،‬بل ال نعرف حتَّى اسمها‪ .‬فلم تكُن من أهايل البلدة التي تربط‬ ‫ال تزور جرياهنا وال يزوروهنا‪ ،‬ومل يشاهدها ٌّ‬
‫وفدت عليها من مدينة من املدن قبل بضع سنوات‪.‬‬‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫أوارص القربى‪ ،‬وإنَّام‬ ‫معظمهم‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وكنَّا ـ نحن األطفال ـ نتحاشى السري عىل الرصيف املحاذي حلائط دارها‪ ،‬ونتَّجه تلقائ ّي ًا إىل الرصيف اآلخر عندما نقرتب منها‪ .‬وكان‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫غصانا مثل‬ ‫ُ‬ ‫تنسدل َأ‬
‫ُ‬ ‫يمر بالقرب من ُجنينة املنزل القابعة وراء أشجار الصفصاف السامقة التي‬ ‫بعضنا يتهامس عن ِجنِّ َّية أو جمنونة‪ ،‬حني ُّ‬
‫طويل يغ ّطي وجه صاحبته‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ذؤابات َش ٍ‬
‫عر‬ ‫ِ‬
‫كنت ألعب هبا وحدي عرص ذلك‬ ‫سوء ح ّظي عرب اجلدار إىل داخل تلك الدار‪ ،‬حينام ُ‬ ‫ولكنّي ال ُبدَّ أن أستعيد كُريت اجلديدة التي قذف هبا ُ‬
‫وانتظرت‬
‫ُ‬ ‫وطرقت طرق ًة واحد ًة مبترسة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وقبضت عىل املطرقة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كل شجاعتي ورغبتي يف أطراف أناميل‪،‬‬ ‫عت َّ‬ ‫مج ُ‬‫اليوم القائظ‪ .‬وأخري ًا َّ‬
‫أهم برفع‬ ‫عدت ال َّطرق ثاني ًة وانتظرت‪ ،‬وثالث ًة وانتظرت‪ .‬وبينام ُ‬ ‫حلظات حسبتُها ساعات‪ ،‬دون أن ُيفتَح الباب‪َ ،‬فأ ُ‬ ‫ٍ‬
‫كنت ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ومرت‬ ‫بتوجس‪َّ .‬‬ ‫ُّ‬
‫وأخذت أرفع‬ ‫ُ‬ ‫ت أمامي‪ ،‬فاصطدم برصي بجس ٍم متل ِّف ٍع بالسواد‪.‬‬ ‫فجفلت إىل الوراء متع ِّثر ًا‪ .‬وحدَّ ْق ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫املطرقة من جديد‪ُ ،‬فتح الباب فجأةً‪،‬‬
‫أن لتلك املرأة وجه ًا حنون ًا‬ ‫رأيت َّ‬
‫ُ‬ ‫رأيس رويد ًا رويد ًا‪ ،‬حتى التقت نظرتانا‪ .‬إنَّني اآلن أمامها وجه ًا لوجه‪ .‬ولشدَّ ما كانت دهشتي حينام‬
‫وابتسام ًة ودود ًا‪.‬‬
‫ف قائالً‪:‬‬ ‫ِ‬
‫وأرد ُ‬‫وتلعثمت وأنا ألقي التحية عليها ُ‬ ‫ُ‬
‫سقطت كريت يف ُجنينتكم‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ـ آسف‪ ،‬يا سيديت‪ ،‬لقد‬
‫َك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ال بك‪ .‬ادخل واستعد كُرت َ‬ ‫حممد‪ .‬أه ً‬ ‫ـ ال بدَّ أنَّك الصغري عيل ابن ِ‬
‫جارنا احلاج َّ‬
‫أرصت‬ ‫وأ ْن أبقى أنا خارج الباب يف الزقاق‪ ،‬متأهب ًا إلطالق‬ ‫كنت ُآمل َأ ْن تأتيني هبا هي‪َ ،‬‬
‫إن حصل ما ُيريب‪ .‬ولكنَّها َّ‬ ‫ساقي مع الريح ْ‬‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وألتقط كريت بنفيس‪ ،‬مشجعة إ َّياي بابتسامة عذبة ونظرة رؤوم‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أدخل‬ ‫بلطف عىل أن‬ ‫ٍ‬
‫وتشابكت‬
‫ْ‬ ‫أعشابا‬ ‫ت‬ ‫ٍ‬
‫نباتاتا منذ مدَّ ة طويلة‪َ ،‬فن ََم ْ‬
‫ُ‬ ‫ُشذب‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫دت وهل ًة قبل أ ْن أجتاز َعتب َة الدار بِ َو َج ٍل‪ ،‬أللفي نفيس يف ُجنينة واسعة مل ت َّ‬ ‫َ‬ ‫تر َّد ُ‬
‫ُ‬
‫وأخذت أفتِّش عنها بني األعشاب وخلف جذوع األشجار بإحدى عين ََّي‪ ،‬يف‬ ‫ُ‬ ‫مكون ًة عدَّ ة أمجات‪ ،‬فاستحال العثور عىل كُريت‪.‬‬ ‫شجرياتا ِّ‬ ‫ُ‬
‫وتيص حركاهتا‪.‬‬ ‫ت عيني األخرى ملتصق ًة باملرأة تراقبها ُ‬ ‫حني ظ َّل ْ‬
‫كراس‪ ،‬وعليها إبريق شاي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حريري مزخرف حتيط هبا أربعة‬ ‫ٍ‬
‫قيمت طاول ٌة مغ ّطا ٌة بغطاء‬ ‫اجلنينة القريب من باب الدار الداخيل ُأ ْ‬ ‫طرف ُ‬‫ِ‬ ‫ويف‬
‫ٍّ‬
‫فنجان شاي‪ ،‬ولكنَّها ال ترتشفه‪ ،‬وأمامها قطعة‬ ‫َ‬ ‫ت لنفسها‬ ‫ِ‬
‫وعد ٌد من الفناجني وقالب حلوى كبري‪ .‬وجلست السيدة إىل املائدة‪ ،‬وقد ص َّب ْ‬
‫حلوى يف صحن صغري‪ ،‬ولكنَّها مل تأكل منها‪.‬‬
‫ثمة ما يميزه عن غريه من الوجوه‪ ،‬فغاللة احلزن التي ال ُتطئها العني‪،‬‬ ‫وجهها طبيع ّي ًا مثل وجوه َّأمهاتنا يف البلدة‪ .‬وإذا كان َّ‬ ‫بدا يل ُ‬
‫أن ابتسامتها احلنون مل تفارق شفت ْيها‪.‬‬ ‫والتجاعيدُ الكثرية التي رسمتْها السنون حول عين ْيها وعىل سحنة وجهها‪ .‬غري َّ‬
‫ـ ر َّبام اختفت كرتك وراء تلك الورود‪.‬‬

‫* أديب وباحث أكادميي عراقي‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪294‬‬
‫أدب وفنون ‪ /‬قصة قصرية‬ ‫الذكرى‬

‫ودلفت مرسع ًا نحو الباب‪ .‬ويف طريقي سمعتُها‬ ‫ُ‬ ‫عثرت عىل كريت‪ ،‬التقطتُها‬
‫ُ‬ ‫أشارت بيدها‪ ،‬و َل َشدَّ ما كانت فرحتي حني‬ ‫ْ‬ ‫واجتهت إىل حيث‬ ‫ُ‬
‫تقول‪:‬‬
‫ـ أال تريد أن تتناول قطع َة حلوى قبل أن تذهب؟‬
‫اإلجابات املتناقضة لساين بره ًة قبل أن أقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫وتنازعت‬ ‫ثت قليالً‪،‬‬ ‫وتر ّي ُ‬
‫ـ شكر ًا« ال» شكر ًا‪ .‬‬
‫ك وتبلغهام سالمي‪.‬‬ ‫ـ َّإنا حلوى طازجة صنعتُها بنفيس هذا اليوم‪َ .‬‬
‫تعال‪ُ ،‬خ ْذ شيئ ًا منها‪ ،‬قبل أن تعود إىل والد ْي َ‬
‫فاقرتبت منها بِ َو َجل‪ ،‬آم ً‬
‫ال‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫وجلستها املسرتخية عىل كرس ِّيها‪ ،‬ومل أستط ْع مقاومة منظر تلك احللوى الشه َّية‪.‬‬ ‫وطمأنتني نربات صوهتا اهلادئة ِ‬
‫أن تناولني قطع ًة منها ألخرج هبا مرسع ًا‪ .‬قالت‪:‬‬
‫كأس من احلليب مع احللوى‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫اجلس إىل الطاولة‪ ،‬فقد ترغب يف تناول‬ ‫ْ‬ ‫تفض ْل‪،‬‬ ‫ـ ّ‬
‫رشعت يف التهامها يف احلال‪ ،‬وسمعتُها تقول‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ت يل قطع ًة كبري ًة من احللوى‪،‬‬ ‫الكريس األبعد عنها‪ .‬وقط َع ْ‬
‫ِّ‬ ‫وألفيتني أجلس عىل‬
‫عمرك‪ ،‬يا عيل؟ عرش سنوات؟‬ ‫ِ‬ ‫ـ أنت تُذكِّرين بفريد! ولدي فريد‪َ .‬‬
‫رحل عنّا وهو يف سنِّك‪ .‬كم ُ‬
‫ـ نعم‪.‬‬
‫ـ لقد غادرنا فريد وعمره عرشة أعوام بالضبط‪.‬‬
‫ووجدتُني أسأهلا‪ ،‬وفمي ممتلئ باحللوى‪:‬‬
‫ـ إىل أين ذهب؟‬
‫املوت الذي ال يرحم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رمحة اهلل! اختطفه منّي‬ ‫ـ إىل ِ‬
‫هنضت وهي تقول‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ت‪،‬‬ ‫هنيهة صم ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وبعد‬
‫َ ْ‬
‫ـ دعني أريك شيئ ًا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫هببت واقف ًا مستدير ًا نحو الباب‪ ،‬وعيناي ترمقان بقية قطعة احللوى التي مل آت عليها بعد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫هنضت حتى‬ ‫ْ‬ ‫وما إن‬
‫ريك صورته‪.‬‬ ‫ُ‬
‫قطعتك من احللوى … سأعود بعد قليل… سأ َ‬ ‫َ‬ ‫كمل‬ ‫َ‬
‫اجلس وأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫تذهب!‬
‫ْ‬ ‫ـ ال‪ ،‬ال‬
‫وفتحت ا ُملج َّلد يف وسطه‪ ،‬باحث ًة فيه‬
‫ْ‬ ‫وجلست بالقرب مني‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫ورجعت بعد حلظات‪ ،‬وهي حتمل ُم َّلدَ صور (ألبوم) ضخ ًام‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫البيت‬
‫َ‬ ‫ووجلت‬
‫ْ‬
‫عن صورة ما‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫ـ ال‪ ،‬األفضل أن نبدأ من البداية‪.‬‬
‫وعادت تفتح ا ُملج َّلد من َّأوله‪.‬‬
‫كل يوم‪.‬‬ ‫ال وسي ًام فارع الطول‪ .‬كان حي ُّبني ح ّب ًا ّ‬
‫مج ًا‪ ،‬و ُيد ِّللني ويغمرين باهلدايا واحللوى وال ُقبل َّ‬ ‫ـ انظر‪ ،‬يا عيل‪ ،‬هذا هو والدي‪ .‬كان رج ً‬
‫ال وال شيخ ًا عندما أصابته سكت ٌة قلبي ٌة قاتلة …‪ ،‬آه لو‬ ‫ولكنَّه مات وهو يف عنفوان شبابه‪ ،‬وأنا صغرية‪ .‬مل يكُن شا َّب ًا‪ ،‬ولكنَّه مل يكُن كه ً‬
‫حزنت عليه وافتقدتُه…‪ ،‬وما أزال أفتقده‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تدري‪ ،‬يا عيل‪ ،‬كم‬
‫ٍ‬
‫وقلبت الصفحة وأرتني صور ًة المرأة جالسة‪ ،‬وهي حتتضن طفل ًة صغرية‪ ،‬وقالت‪:‬‬ ‫َ‬
‫ٌ‬
‫طويل‬ ‫شعر‬
‫الناصع البياض ٌ‬
‫َ‬ ‫املستدير‬
‫َ‬ ‫وجهها‬
‫ويتوج َ‬‫تضمني إىل صدرها‪ .‬كانت امرأ ًة مجيل ًة‪ ،‬وهلا عينان دعجاوان‪ِّ ،‬‬ ‫ـ وهذه هي ُأ ّمي‪ ،‬وهي ُّ‬
‫تتعجل اللحاق به‪ .‬ولكنَّها‬‫ماتت بعد بضعة أشهر من وفاة والدي‪ ،‬كأنَّام مل حتتمل فراقه‪ ،‬أو كانت َّ‬ ‫ْ‬ ‫فاحم السواد‪ ،‬فتبدو كالقمر‪ .‬ولكنَّها‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬
‫تركتْني يتيمة األب واألم‪ .‬أنا ال أقول ذلك عىل سبيل اللوم‪ ،‬فقد حتا َّبا بإخالص‪ ،‬وكان والدي ُياطبها دائام بكلامت رقيقة‪ ،‬مل أسمع مثلها‬ ‫َ‬
‫حتى اليوم‪.‬‬
‫إيل وقالت‪:‬‬ ‫نظرت َّ‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫كأنا ال تريد أن تقلبها‪َّ .‬‬
‫بت أصاب ُعها عىل الورقة التالية‪َّ ،‬‬ ‫وتص ّل ْ‬
‫أعجبتك‪ ،‬أليس كذلك؟‬‫َ‬ ‫ـ سوف أعطيك قطع ًة أخرى‪َ .‬أرى َّأنا‬
‫وهززت رأيس موافق ًا ومل أ ُفه بيشء‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كل صباح ونعود إىل البيت‬ ‫بعام ْي فقط‪ .‬وكنَّا نلعب سو َّي ًة‪ ،‬ونمرح كثري ًا‪ .‬وكان يرافقني إىل املدرسة َّ‬ ‫يكربين َ‬ ‫َ‬
‫ـ وهذا هو أخي الكبري‪ .‬كان ُ‬

‫‪295‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫عيل القاسمي‬ ‫أدب وفنون ‪ /‬قصة قصرية‬

‫مع ًا بعد انتهاء الدروس‪ .‬وكان يصطحبني يف األعياد إىل ساحة املدينة‪ ،‬حيث نركب دواليب اهلواء ونلهو باملراجيح‪ .‬ولكنَّه مات وهو‬
‫أن املوت كان األسبق إليه‪.‬‬ ‫أن يكون طبيب ًا يداوي املرىض وخي ِّلصهم من خمالب املوت‪َ ،‬بيدَ َّ‬ ‫يأمل ْ‬ ‫التخرج يف ك ّل َّية‬ ‫ِ‬
‫الطب‪ .‬كان ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫وشك‬ ‫عىل‬
‫ثم تقلب الصفحة مرسعة‪.‬‬ ‫وملحتُها ترفع مندي َلها إىل وجهها ومتسح عين ْيها‪َّ ،‬‬
‫ـ وهذا هو زوجي وهو عىل صهوة جواده‪ .‬لقد كان فارس ًا مولع ًا بركوب اخليل‪ .‬ك َّلام عاد من عمله امتطى جواده األدهم‪ ،‬وذهب إىل‬
‫أن املوت كان يرتصده هو اآلخر‪ .‬سقط من صهوة جواده عىل رأسه إثر ٍ‬
‫قفزة غري موفقة‪ ،‬ومل يكُن‬ ‫املزارع املتامخة لشاطئ النهر‪ .‬مل ِ‬
‫يدر َّ‬
‫َّ‬
‫ال بفريد‪.‬‬ ‫وكنت حام ً‬
‫ُ‬ ‫يمض عىل زواجنا أكثر من عا ٍم واحد …‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫يرتدي خوذتَه‪ .‬كان واثق ًا بنفسه جدَّ ًا‪ .‬مات ومل‬
‫ِ‬
‫فالحت صور ٌة كبرية متأل الصفحة بأكملها‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫مر ًة ُأخرى إىل عين ْيها‪َّ .‬‬
‫ثم قلبت الورقة‬ ‫وأشاحت بوجهها عنّي‪ ،‬وهي ترفع مندي َلها َّ‬ ‫ْ‬
‫كل ما تب َّقى يل من أهيل‪ .‬وكان يف غاية‬ ‫ٍ‬
‫َّك تشبه فريد ًا كثري ًا؟ هذه آخر صورة له وعمره عرش سنوات متام ًا‪ .‬كان هو َّ‬ ‫أرأيت؟ أمل ْ أ ُق ْل لك إن َ‬ ‫َ‬ ‫ـ‬
‫األو َل يف مدرسته‪ .‬لو عاش ألصبح اليوم طبيب ًا أو مهندس ًا‪َ .‬من يدري؟‬ ‫الوداعة‪ ،‬وجمتهد ًا كذلك‪ .‬كان َّ‬
‫فنهضت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أمتمت قطعتي الثانية من احللوى‬ ‫ُ‬ ‫وكنت قد‬‫ُ‬ ‫بيديا‪.‬‬
‫ت وجهها ْ‬ ‫مر ًة ُأخرى‪ ،‬وغ َّط ْ‬
‫فرفعت منديلها إىل وجهها َّ‬ ‫ْ‬ ‫وخنقتْها ال َعربات‪،‬‬
‫ولكنَّها قالت يل‪:‬‬
‫ال …‪ ،‬سأقطع لك قطعة أخرى من احللوى حتملها معك إىل منزلك‪ .‬يمكنك أن تأخذها معك غد ًا إىل املدرسة‪ .‬سأل ُّفها َ‬
‫لك‬ ‫ـ تر َّيث قلي ً‬
‫تنس أن تب ّلغ سالمي إىل والديك‪.‬‬ ‫بعناية‪ .‬هكذا كان يفعل فريد‪ .‬ال َ‬
‫وش َّيعتني إىل الباب وهي تقول‪:‬‬
‫يمكنك أن تأيت إىل هنا متى ما شئت‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ـ‬
‫َ‬
‫لت وجنتي بحنان‪ ،‬وأوصدت الباب خلفي يف تُؤدة‪.‬‬ ‫ووضعت يدَ ها عىل رأيس برفق‪ ،‬وق ّب ْ‬ ‫ْ‬
‫ويف الزقاق‪ ،‬شاهدين َأحدُ الرفاق من األطفال‪ ،‬وأنا أخرج من دارها‪ ،‬فقال يل بدهشة‪:‬‬
‫ـ هل رأيت ِ‬
‫اجلنِّ َّية؟‬
‫أجبت ُه باقتضاب‪:‬‬
‫نظن‪.‬‬ ‫ـ َّإنا عىل غري ما كنَّا ُّ‬
‫ومضيت إىل منزيل بصمت‪.‬‬ ‫ُ‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪296‬‬
‫بريشة الفنان مصطفى أمناين من املغرب‬
‫أدب وفنون ‪ /‬شعر‬

‫جدا‬
‫سعي ٌد ًّ‬
‫قصة للكاتبة اإلسبان َّية‪ :‬آنا ماريا ماتوتي‬
‫َّ‬

‫ترمجة‪ :‬أمحد عبد اللطيف*‬

‫أن األمور عىل ما يرام‪ ،‬أو عىل األقل‬


‫كل يشء بدأ يوم التصوير الفوتوغرايف‪ ،‬أقصد يوم شاهدت صوريت الفور َّية مع إليسا‪ .‬كان يبدو َّ‬ ‫ُّ‬
‫تسري بحسب النظام احلتمي املقدَّ ر واملكتوب‪ .‬نظام قهري َّ‬
‫تول قيادة ُد َّفة حيايت منذ حلظات ميالدي األوىل‪.‬‬

‫ال يف «الباسيو دل مار»‪ .‬كانت تتحدَّ ث بال توقف‪ ،‬وأنا أنصت هلا كعاديت‪ .‬زفافنا‬ ‫يوم األحد قبل الغداء‪ ،‬خرجت مع إليسا لنتنزه قلي ً‬
‫أن‬
‫كان بعد ثالثة أيام‪ ،‬وكنَّا مشغولني بمشاريع يضايقنا تنفيذها‪ ،‬إذ مل تكن مشاريع عاطفية‪ ،‬فام من عواطف بيننا‪ ،‬ولو وجدت فمن املؤكد َّ‬
‫املشاريع األخرى ستغتاهلا‪ :‬البيت‪ ،‬املال‪ ،‬السفر لقضاء شهر العسل‪ ،‬وآالف التفاصيل األخرى املرتبطة بطقس الزواج‪ .‬مشاريع أبد َّية ال‬
‫بأن أسبح فوق سحاب إسفنجي ألنظمة تبدو يف ظاهرها ناعمة‪ ،‬ومن فوقي تعرب مشاريع‬ ‫هناية هلا‪ .‬أثناء ذلك شعرت‪ ،‬كام كنت أشعر دوم ًا‪ّ ،‬‬
‫أن‬‫ال هنائ َّية يف شكل حلقات متصلة منذ حلظة ميالدي األوىل (كام قلت من قبل)‪ .‬وبينام كنت أستمع وهي تتحدَّ ث وتتحدَّ ث‪ ،‬خطر ببايل َّ‬
‫أن ضجيج ًا مشاهب ًا قد حدث يوم جئت أنا للعامل‪ ،‬ومنذ تلك اللحظة‬ ‫كل هذا الضجيج‪ .‬يف الوقت نفسه فكَّرت يف َّ‬ ‫املوضوع ال يستحق َّ‬
‫األول عند الوالدة‪ .‬وأنا كنت أسري‪ ،‬وما‬ ‫بالتحديد بدؤوا خيططون مشاريعي‪ ،‬ومن يدري‪ ،‬فربام تعلقوا بمشاريع حيايت قبل أن أطلق بكائي َّ‬
‫زلت‪ ،‬يف طريق هذه املشاريع املرسومة بال هوادة‪ .‬حتى اجتاحني فتور كبري ميلء بالضباب كان قد بدأ يف مواقف أخرى سابقة‪ ،‬وكان يدفعني‬
‫ألبوي (حيث جئت متأخر ًا من‬ ‫ّ‬ ‫متكرر من شامل األرض إىل جنوهبا مثل كرة يائسة‪ .‬احلصة الدراس َّية التي تشبه ذكرى اليوبيل الذهبي‬ ‫بشكل ّ‬
‫فكل األصدقاء‬ ‫كم التلغرافات التي كنَّا نتسلمها يف ذاك اليوم‪ُّ ،‬‬
‫زواج متأخر) كانت من بني األسباب التي زرعت يف قلبي الفتور‪ .‬أتذكَّر اآلن َّ‬
‫كل عام وطوال أعوام كثرية ماضية‪ ،‬بالتحديد منذ إمتام صفقة الزواج‪ .‬كانوا يكتبون‬ ‫ألبوي التهاين‪ ،‬كام يفعلون َّ‬
‫َّ‬ ‫واملعارف والدائنني يرسلون‬
‫وحتملها أيب وأمي مع ًا‪ ،‬ويشريون إىل املرأة القو َّية والزميلة النشيطة واملثال َّية التي تبذل أقىص جهدها يف‬
‫يف بطاقات التهاين عن صفقة متَّت َّ‬
‫العمل‪ ...،‬إلخ‪ .‬كام يتحدَّ ثون عن السنوات الطويلة التي عاشاها مع ًا‪ ،‬كتف ًا بكتف‪ ،‬بال راحة‪ ،‬بال حفالت‪ ،‬بال مرح وال دخان (كام ُيقال)‪.‬‬

‫أن هذه األمور تزيد من احرتام الناس يل وجتعلني مطمئن‬ ‫مرة كلام سمعت َّ‬
‫مرة بعد َّ‬ ‫ُّ‬
‫كل هذه األشياء كانت تبعث َّيف فتور ًا كان يكرب َّ‬
‫النفس سعيد ًا بحيايت اهلادئة‪ .‬بالتايل‪ ،‬كان فتور ًا خارج السيطرة‪ ،‬ينمو ويتكاثر كلام تذكَّرت املهن التي عمل هبا أيب منذ كان صانع جبن‬
‫سوقي‪ ،‬ثم كرب بفضل إخالص ّأمي ويدها االقتصاد َّية‪ .‬تع َّلم أيب املهنة من جدّ ي الذي كان راعي غنم بوجه ممتلئ وغامق بحاجبيه‬
‫بمجرد النظر إليها‪ .‬واآلن‬‫َّ‬ ‫العريضني وشاربه الكبري‪ ،‬كام يبدو يف صورة نحتفظ هبا يف النيش الذي ال نستخدمه أبد ًا‪ ،‬إذ تنكرس كؤوسه‬
‫(بعد يوم اليوبيل الذهبي) صار أيب صاحب أكرب سلسلة لتصنيع اجلبن داخل املنطقة وخارجها‪ ،‬وقد ذاع صيته يف مدريد‪ ،‬وغدا اس ًام المع ًا‬
‫أن اسمه ارتبط باجلبن ال باحلرب)‪.‬‬ ‫(حتى َّ‬

‫اهلامة يف صناعة عائلتي تدهسني بال رمحة‪ ،‬فتملكتني رغبة يف‬


‫أن أقدام السنني وأطنان اجلبن والتواريخ َّ‬
‫هكذا شعرت‪ ،‬يف ذاك اليوم‪َّ ،‬‬
‫االختباء يف مكان مظلم جد ًا‪ ،‬رغبة يف أن أغمض ّ‬
‫عيني‪ ،‬أو عىل األقل استسلم لالنزالق حتت مائدة مغطاة بكؤوس زرقاء مألى بالنبيذ‬

‫*  قاص وروايئ من مرص‪.‬‬

‫‪2017‬‬
‫(‪2016)10‬‬
‫العدد (‪)9‬‬
‫العدد‬
‫‪298‬‬
‫أدب وفنون ‪ /‬شعر‬ ‫سعيدٌ جدًّ ا‬

‫وبجانبها خبز متبل بامللح والثوم والفلفل‪ .‬رغم ّأن لست عىل يقني من وجود تلك األشياء التي أشري إليها‪ ،‬إذ أراها مبعثرة من خالل ثقب‬
‫بايب الذي مل أنتبه جلدواه من قبل‪ .‬وأخري ًا‪ ،‬كي ال أطيل‪ ،‬جاءت إليسا يف صباح ذاك اليوم‪ ،‬وكانت ثرثارة كالعادة‪:‬‬
‫لنتصور صور ًا فور َّية‪ ،‬أتعلم؟ ستكون آخر صورة أليام العزوب َّية‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ـ رومانثيتو‪ ،‬ه َّيا‬

‫بأن هذه الكلامت خلقت َّيف حالة غريبة‪ ،‬كام لو كانت كلامت بأسنان غري منتظمة تقطع يف تروس مشاعري‪ .‬لقد سارت حيايت‬
‫أعرتف َّ‬
‫(وكأن حكمة الطبيعة أرادت‬
‫َّ‬ ‫دوم ًا يف إطار برنامج دقيق (ودوم ًا كانوا يذكرون ذلك يف حضوري)‪ .‬نظام َّ‬
‫تأسس من أجيل منذ يوم ميالدي‬
‫بمولدي أن تضع نفسها موضع شك)‪.‬‬

‫صباح ذلك اليوم‪ ،‬خرجت مع إليسا لنتنزه يف «الباسيو دل مار»‪ ،‬وحدثتني عن اليوم األخري يف حياة العزوب َّية‪ .‬حينها اقرتب منَّا رجل‬
‫ال به كامريا تصوير ُصنعت يف القرون الوسطى‪ .‬وافقت عىل اقرتاح إليسا‬ ‫قصري يرتدي زي العمل وفوق رأسه قبعة‪ ،‬كان يقود تروسيك ً‬
‫املصور أن نبتسم‪ .‬التقط الصورة ثم دخل حتت قامشة سوداء‪ ،‬فيام تابعناه بالنظر وهو يسحب‬ ‫ّ‬ ‫ألن مل أكن جمادالً‪ .‬تأ َّبطت ذراعها‪ ،‬فأمرنا‬‫ّ‬
‫شبحني‪ ،‬ثم نرى نفسينا يف صورة آخر أيام‬ ‫مقوى لنرى َ‬ ‫الفيلم من الكامريا ويضعه يف دلو صغري ميلء بسائل‪ ،‬ثم طبع الصورة عىل ورق َّ‬
‫كأنم وضعوين يف سائل سحري‪،‬‬ ‫كل يشء‪َّ ،‬أرقتني هذه التفاصيل التي أحكيها‪ ،‬كنت َّ‬‫العزوب َّية‪ .‬حينام أعطانا الصورة بعد أن انتهى من ّ‬
‫بعيني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مرة أخرج إىل احلياة وأرى نفيس‬ ‫وألول َّ‬
‫َّ‬

‫ُقص أطرافها بمهارة‪ .‬واألدهى ّأن وجدت نفيس بجانب امرأة‬ ‫رأيت نفيس ثالثة أضعاف نفيس يف هذه الصورة الصغرية الرطبة التي مل ت ّ‬
‫يعب عن يشء‪ .‬أنا بعزوبيتي وبدلتي الكحل َّية التي‬ ‫تأملت الصورة جيد ًا‪ :‬إنَّه أنا‪ .‬أنا بشحمي وحلمي‪ ،‬بوجهي البليد الذي ال ّ‬
‫ال أعرفها‪َّ .‬‬
‫بتأمل‪ .‬هذه ذراعي‪ ،‬لكنَّها تتعلق بامرأة ال أعرفها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أرتدهيا يوم األحد (وكانت رجل البنطلون مرتهلة)‪ .‬إنَّه أنا‪ ،‬أنظر لنفيس ُّ‬

‫أن هذا الكائن املتش ّبث بذراعي املسكينة‪،‬‬


‫كانت إليسا تواصل حديثها عن أمور انتبهت إىل ّأن مل أسمعها منذ سنوات طوال‪ .‬فكَّرت يف َّ‬
‫ال عىل مشاعري‪ .‬لكن أكثر ما راق يل ّأن دققت النظر يف ورد صناعي وضعتْه‬ ‫كأنَّه ملتصق به بجبس بعد كرس‪ ،‬ليس إال كائن ًا غريب ًا‪ ،‬دخي ً‬
‫بشكل عشوائي عند فتحة صدر الفستان‪ .‬كانت باقة ورود صناع َّية خترج مثل الطلقة إىل اخلارج يف اجتاهي‪ .‬عيناي تدققان يف الورود‬
‫كأنام تستعدان للقفز من حلظة ألخرى مثل حيوان متوحش‪ .‬الورود راقت يل‪ .‬ويف حلظة‬ ‫وملون‪َّ ،‬‬
‫املصنوعة من قامش بالستيكي عريض َّ‬
‫ما كرهتها كره ًا شديد ًا‪ ،‬كره ًا مكثف ًا وقدي ًام‪ ،‬كدخول بصيص ضوء يف عامل مظلم‪ .‬فجأة قلت لنفيس‪ :‬أنا مل أكره من قبل ومل أحب‪ .‬هذه‬
‫أتذوق الكراميل‪.‬‬
‫أتذوقها كام َّ‬
‫الكراهية املنعشة واملرحية واحلديثة الوالدة كانت ترتكَّز يف الزينة‪ ،‬وأنا كنت َّ‬

‫مرة أخرى‪ ،‬وحينها‬


‫سحبت يدي من يد إليسا‪ ،‬رغم َّأنا تشبثت يب كعصفور يتش َّبث بقضيب حديدي‪ .‬لكنَّها عادت لتمسك بذراعي َّ‬
‫تتفوه بكلمة‪.‬‬
‫سقطت الصورة عىل األرض‪ ،‬فرمتني بنظرة حا َّدة وبدت مصدومة‪ .‬رأيت شفتيها تستديران حتى أصبحتا كدائرة‪ ،‬دون أن َّ‬
‫مرة متعة أال أستجيب ألمر إليسا‪ ،‬وخطرت ببايل سلسلة أحداث وأفواه مستديرة جتعل الربامج واألنظمة مثل الدائرة‪ .‬أشياء‬
‫ألول َّ‬
‫جربت َّ‬ ‫َّ‬
‫أسسها شخص ما وظلت بال تغيري‪ .‬سلسلة قادتني بال رمحة‪ ،‬يف صباح يوم أحد ربيعي‪ ،‬إىل رصيف الباسيو دل مار‪.‬‬ ‫ثابتة َّ‬

‫عمتي إميليا تزورنا‪ .‬متيل ناحيتي بقبعتها املز َّينة التي تضفي عليها ظالالً صفراء شاحبة‪ ،‬فتقتحمني بموجة‬
‫(يف أيام اإلجازة‪ ،‬كانت َّ‬
‫من عطور مركَّبة‪ .‬كان فمها يستدير‪ ،‬وتضع إصبعها الطويل املطيل ظفره باللون األمحر الالمع يف خدها بالتحديد‪ ،‬يف املكان الذي جيب‬
‫لدي من طاقة كره ونفور ممتزجني‪ ،‬كرهتهام‬ ‫أن يتلقى قبلتي‪ .‬أعتقد ّأن كرهت هذا اخلد وهذا الفم الذي يشبه الدائرة‪ ،‬كرهتهام ّ‬
‫بكل ما َّ‬
‫واملخصصة هلا بشكل واضح‪ ،‬صارت حيايت‬ ‫َّ‬ ‫بمقدار سهدي وأرقي خالل سنوات حيايت املاضية‪ ،‬إذ بداية من تلك القبالت املربجمة‬
‫عمتي الفتاة إليسا إىل بيتنا يف إجازة الصيف‪ .‬كانت إليسا‬‫سلسلة من االنصياع واخلضوع‪ .‬كنت يف الصف الرابع تقريب ًا‪ ،‬عندما أحرضت َّ‬

‫‪299‬‬ ‫‪2017‬‬
‫(‪2015)10‬‬
‫العدد (‪)7‬‬
‫العدد‬
‫آنا ماريا ماتويت ‪ /‬ترمجة‪ :‬أمحد عبد اللطيف‬ ‫أدب وفنون ‪ /‬قصة قصرية‬

‫يف عمري نفسه‪ ،‬وكانت سمينة جد ًا وشاحبة‪ ،‬بعينني زرقاوين بلون السامء‪ ،‬مجيلتني جد ًا‪ ،‬وكانت ضفائرها كثيفة‪ .‬وذات يوم‪ ،‬عندما‬
‫كنت ألعب معها وبصحبة أطفال آخرين‪ ،‬بحامقتي اختبأت يف البدروم‪ ،‬فظهرت يل من الدوالب وأحاطتني بذراعيها السمينتني واستدار‬
‫عمتي إميليا‪ ،‬وباغتتني بقبالت كثرية ورنَّانة‪ .‬ال يمكنني وصف إحسايس بدقة‪ ،‬لكن‪ ،‬عندما نظرت إىل باقة الورود الصناع َّية‬ ‫فمها كفم َّ‬
‫أقرر‬ ‫املعلقة بفتحة صدر فستان امرأة معلقة يف ذراعي دون وجه حق‪ ،‬أدركت مأسايت وانتبهت حلنقي املقيد‪ ،‬واقتحمني شعور بالرت ُّدد يف أن ّ‬
‫وحدي من سأق ّبلها وأين أق ّبلها‪ .‬من تلك اللحظة‪ ،‬ر َّبام‪َّ ،‬تولد بداخيل النفور من تقبيل أحد يل‪ ،‬أو تقبييل ألحد)‪.‬‬

‫نظرت إىل باقة الورود يف فستان املرأة الغريبة والثقيلة عىل نفيس وتساءلت‪ :‬ملاذا؟ اجتاحتني حينئذ نوبات بكاء غامضة‪ ،‬فرتكتها يف‬
‫بأن أميل إىل القبح‬
‫«الباسيو» ورست وحدي وواصلت السري‪ .‬يف طريقي راجعت مشوار حيايت‪ ،‬وشعرت بمتعة ما‪ ،‬واعرتفت لنفيس ّ‬
‫خاصة يف الصيف‪ ،‬كانت اجلميالت يرقن يل‪ ،‬مع ذلك وجدت نفيس مأخوذ ًا من ذراعي‪ ،‬وإليسا املعلقة يب تنتظر موافقة‬ ‫بذقني املتدل َّية‪َّ .‬‬
‫بكل وضوح)‪ .‬إنَّه الربنامج الذي خ َّططته َّ‬
‫عمتي إميليا بمساعدة أيب‪ .‬لقد كنت تلميذ ًا‬ ‫منحتها هلا دون أن أعرف السبب (اآلن أعرف ّ‬
‫األول وال األخري‪ ،‬فدخلت يف صناعة اجلبن مع عائلتي وتساقطت أيامي وسنوات عمري يوم ًا وراء آخر وسنة وراء أخرى‪ ،‬فيام‬ ‫رماد َّي ًا‪ ،‬ال َّ‬
‫كنت قابع ًا خلف باب زجاجي علقوا عليه الفتة منذ وقت قريب مكتوب ًا عليها «املدير»‪.‬‬

‫وعمتي إميليا وإليسا‪ .‬اجلميع بال استثناء خيطف الكلمة من فم اآلخر ويعيد تركيب شخص َّيتي‬
‫وأمي َّ‬
‫يف البيت‪ ،‬يتناول اجلميع سرييت‪ .‬أيب ّ‬
‫رس ًا نظرات األطفال الذين أعرفهم وهم بني أذرع أمهاهتم أو‬ ‫من وجهة نظره‪ .‬يوم ًا ما‪ ،‬سيصل أوالدي إىل هذا العامل ـ كنت أراقب َّ‬
‫ألنم حمرومون من احلر َّية ‪ -‬كنت أشعر بأنَّني مغلف‪ ،‬حماط‪ ،‬أمحل فوق كاهيل أطفاالً‬‫مربياهتم‪ ،‬يسيل لعاهبم ويرصخون رصخات مفاجئة َّ‬
‫ُبدُن ًا بعيون زجاج َّية مثل إليسا‪ ،‬ربام يكربون يف يوم ويصريون مدراء‪( ،‬أو يشغلون وظائف أخرى يف علم الغيب)‪ .‬كنت أسبح مع خيايل‪،‬‬
‫مح َصتهم الشمس‪ ،‬الشحاذين والكالب واملراكب‪ ،‬حتى‬ ‫عيني ذكرى فتيات الصيف اجلميالت‪ ،‬ذكرى األوالد النحيفني الذين َّ‬ ‫فتظهر أمام ّ‬
‫النَّمل واحلرشات الطائرة‪ .‬ثم أتذكَّر هذا اإلصبع الطويل املطيل بلون أمحر ويشري إىل اخلد الناعم الرقيق املج َّعد‪ ،‬حيث جيب أن أضع قبلة‬
‫بال إرادة‪.‬‬

‫كل هذا حدث بفضل الصورة الفوتوغراف َّية‪ ،‬وبفضلها أيض ًا أنا هنا اآلن‪ ،‬سعيد جدَّ ًا‪ ،‬مطمئن وحر‪ ،‬وأعرتف ّ‬
‫بأن يف إحدى‬ ‫أن َّ‬
‫أكرر َّ‬
‫ّ‬
‫أن املعركة التي أفرتض‬
‫لكن أعصايب ملجمة بالطاعات‪ ،‬كام َّ‬ ‫ً‬
‫وعمتي إميليا املختبئة دوما حتت ق َّبعة‪َّ .‬‬
‫حمطات يأيس فكَّرت يف أن أذبح إليسا َّ‬
‫حدوثها‪ ،‬كانت ستحدث عندما يفيض يب الكيل‪ .‬هذه األشياء املعلقة بالدماء تبعث يف نفيس التقزُّز‪ ،‬كام َّأنم نزعوها من رأيس منذ زمن‬
‫بعيد‪ .‬ما من يشء أفضل من جتنبهام‪ ،‬من أال أنظر يف عيوهنام وال أسمع أصواهتام‪ ،‬إذ لو فعلت ذلك فسأعود يف احلال كام كنت يف السنوات‬
‫املاضية‪ ،‬مطيع ًا وغامض ًا‪.‬‬

‫أن األفضل َّأل أرامها‪ ،‬أن أفعل َّ‬


‫كل األشياء برغبتي‪ ،‬وبالتايل فعلت عكس ما أرادوا‪ ،‬ولذلك أنا اآلن هنا‪ ،‬بال زوجة‪ .‬لست‬ ‫هكذا رأيت َّ‬
‫مرة أخرى يف حيايت‪.‬‬ ‫مدير ًا‪ ،‬مل أتزوج‪ ،‬مل أنجب‪ ،‬مل أمتلك شيئ ًا‪ .‬ولن هينئني أحد بيوبيل زواجي الذهبي‪ ،‬ولن أرى اجلبن َّ‬

‫منذ أسبوع وأنا هنا‪ُ ،‬مدَّ د يف رسيري وأنظر إىل السقف واحليطان املغ َّطاة بنقوش مرحة‪ .‬مغطاة بأجزاء من حياة رجال‪ ،‬رغم ّ‬
‫كل يشء‬
‫حققوا ما أرادوا‪ .‬نعم‪ ،‬حققوا مثلام فعلت أنا‪.‬كيف استطاعت مصانع جوترييث وابنه لصناعة اجلبن أن تبلغ الصيت واالسم؟‬

‫أحب إشعال الكربيت وتركه يف األرض حتى ينطفئ وحده‪ ،‬فيأيت أيب مهروالً ويرضبني‪.‬اآلن أنا سعيد‪.‬‬ ‫أتذكر ّأن‪ ،‬يف طفولتي‪ ،‬كنت ُّ‬
‫يؤرقني اآلن أن يستدعي يل أطباء‬
‫أن ما ّ‬‫يأيت أيب أحيان ًا بعينني مرحيتني وأنف أفطس لرياقبني من العني السحر َّية أو ليحرض يل الطعام‪ .‬غري َّ‬
‫أي عناء إن أخربهتم ّأن إنسان طبيعي‪ ،‬وباإلضافة لذلك سعيد‪.‬‬‫نفسيني‪ ،‬أو برش ًا من هذا النوع‪ ،‬ليأخذوين من هنا‪ .‬لكن‪ ،‬لن يكلفني ّ‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪300‬‬
‫بريشة الفنان مصطفى أمناين من املغرب‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫ما غاب عن هوميروس في‬


‫و«األوديسة»‬
‫َّ‬ ‫«اإللياذة»‬

‫عبد اهلل إبراهيم*‬

‫للشخص َّية اإلنسان َّية وجتارهبا‪ ،‬تظهر الطبيعة البرش َّية يف أروع‬ ‫مل حيظ شاعر عرب التاريخ باهتامم الباحثني كام حظي به‬
‫حاالهتا املمكنة دون االستعانة بالدين املسيحي»‪.‬‬ ‫مدونته الشعر َّية ممثلة بملحمتي‬‫«هومريوس»‪ ،‬فقد جرى تقليب ّ‬
‫ولعل أطرف ما‬‫َّ‬ ‫و«األوديسة» من وجوهها كا َّفة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫«اإللياذة»‬
‫انكب عىل دارسة هومريوس‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أن «غالدستون»‬ ‫من الصحيح َّ‬ ‫جرى الكشف عنه هو غياب اللون األزرق عنها‪ ،‬وقد فتح هذا‬
‫يتحرك يف‬‫وسهر الليايل يف ترشيح أشعاره بسفر ضخم‪ ،‬لكنَّه كان َّ‬ ‫الباب عىل تاريخ األلوان وكيفية إدراكها يف الثقافات‬
‫َ‬ ‫الكشف‬
‫مدار رغباته أكثر ممَّا كان يمتثل ملعايري البحث املوضوعي الدقيق؛‬ ‫واآلداب القديمة‪ ،‬وهو موضوع يستحق الوقوف عليه لطرافته‬
‫ألن عامل هومريوس أصبح حمراب ًا له‪ ،‬يتع َّبد فيه‪ ،‬فيرتنَّم ويتغنَّى‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫مهيته‪.‬‬
‫وأ ّ‬
‫وما رأى شيئ ًا من العامل إال بعيني الشاعر اإلغريقي‪ .‬مل هيتم بعمى‬
‫الشك يف وجوده‪ ،‬فقد غمرته مآثر‬ ‫ّ‬ ‫هومريوس‪ ،‬وال التفت إىل‬ ‫حينام كان «وليم غالدستون» يف التاسعة واألربعني من عمره‪،‬‬
‫الشاعر وملكته وأعمته‪ ،‬وجعلته محاسته املفرطة يضفي عليه من‬ ‫وقبل زهاء عرش سنوات من تسنّمه منصب رئاسة الوزراء يف‬
‫األمه َّية فوق ما كان عليها‪ .‬أصبح الباحث املبرص أسري ًا يف حظرية‬ ‫توله أربع مرات ‪ -‬نرش يف عام ‪1858‬م‬ ‫مرة ‪ -‬وقد َّ‬ ‫بريطانيا ألول َّ‬
‫الشاعر األعمى‪ .‬ومل يقترص كتابه عىل األحكام التبجيل َّية وإنَّام‬ ‫كتاب ًا كبري ًا يف ثالثة أجزاء بعنوان «دراسات حول هومريوس‬
‫واألوديسة‪ ،‬وح َّلل‬
‫َّ‬ ‫درس أمكنة األحداث وأزمنتها يف اإللياذة‬ ‫والعهد اهلومريويس» رفع فيه من مقام هومريوس فوق ما كان‬
‫الشخصيات وأخالقها‪ ،‬فاعترب امللحمتني أفضل وسيلة متثيل‬ ‫«أسس‬ ‫عليه من رفعة‪ ،‬إىل درجة أشار فيها إىل أنَّه الشاعر الذي َّ‬
‫لألحداث التارخي َّية‪ ،‬واستغرقته التفاصيل التي مل ختطر عىل بال أحد‬ ‫للجنس البرشي مقام الشاعر الرفيع‪ ،‬الذي ش َّيد عىل أسسه‬
‫من قبل‪ ،‬ومن ذلك األلوان التي استخدمها هومريوس يف أوصافه‪،‬‬ ‫اخلاصة رصح ًا شاخم ًا ومتين ًا ما يزال حي ّلق سامي ًا ال تدركه أيدي‬
‫فال غرابة أن ينظر إىل الكتاب بعني الريبة من طرف ن ّقاده إلفراطه‬ ‫العا َّمة من البرش‪ ،‬بل حتى أيدي االستثنائيني منهم»‪ .‬ويبدو أنَّه‬
‫يف التنقيب والتأويل‪ ،‬ور َّبام الشطح واالسرتسال‪ ،‬لكنَّه حظي‬ ‫أفرط يف املبالغة حينام اعترب شعره امللحمي «أروع ظاهرة بال منازع‬
‫القراء‪ ،‬ألنَّه أشبع تو ّقعاهتم عن الشاعر الكفيف الذي‬ ‫باهتامم عموم َّ‬ ‫فلكل أ َّمة شاعرها األكرب‪ ،‬وال ينبغي‬‫ّ‬ ‫يف تاريخ ثقافة اإلنسان»‪،‬‬
‫يسجله الرسد من مآثر‪،‬‬ ‫سجل مآثر اإلغريق عىل خري ما ينبغي أن ّ‬ ‫َّ‬ ‫مدّ نفوذ هومريوس ليشمل العامل ك ّله‪ .‬وطبق ًا لـ«غاي دويترش»‬
‫أ َّما األكاديميون فقد نظروا إليه بعني االستغراب واالستهجان‪ ،‬فام‬ ‫فإن «غالدستون» الزم ملحمتي‬ ‫مؤلف كتاب «عرب منظار اللغة» َّ‬
‫التمحل وااللتواء؛ إذ سلك‬ ‫ّ‬ ‫حظي بتقديرهم العلمي ملا رأوا فيه من‬ ‫قل نظريها عند غريه منذ مقتبل عمره‪ ،‬فمع أنَّه‬ ‫هومريوس مالزمة َّ‬
‫متعرجة من أجل الربهنة عىل أهداف نائية ال سبيل‬ ‫فيه مؤلفه طرق ًا ّ‬ ‫ترسخت يف وجدانه‪،‬‬ ‫كان متش ِّبع ًا بالقناعات الدين َّية املحافظة التي َّ‬
‫إىل بلوغها وال فائدة منها‪ ،‬يف زعمهم‪ ،‬حينام أطال البحث يلتمس‬ ‫خضم هومريوس‪ ،‬وهذا ما جعله ال يرى يف‬ ‫ّ‬ ‫فقد رمى بنفسه يف‬
‫احلجج عساه أن جيعل من هومريوس مأثرة التاريخ التي ال نظري هلا‪.‬‬ ‫ال سبق إنجيل الس ّيد املسح‪،‬‬ ‫أشعاره أدب ًا حمض ًا‪ ،‬وإنَّام رآها إنجي ً‬
‫وفيها اجلوهر الديني االستباقي ملآل الدنيا‪ ،‬بل هي «خالصة وافية‬
‫هاجت عاصفة من االعرتاضات عىل «غالدستون»؛ ألنَّه أزجى‬
‫حيظ به أحد من قبل‪ ،‬ومن ذلك‬‫من األحكام عىل هومريوس ما مل َ‬ ‫* مفكر وأكادميي من العراق‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪302‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫و«األوديسة»‬
‫َّ‬ ‫ما غاب عن هومريوس يف «اإللياذة»‬

‫مرة‪،‬‬
‫ذلك‪ ،‬فيام ظهر اللون األمحر‪ ،‬واألصفر‪ ،‬والبنفسجي‪َّ 13 ،‬‬ ‫فقد اعترب ماركس الكتاب مثاالً عىل عجز اإلنجليز عن تدوين ما‬
‫مرات‪ ،‬عىل التوايل‪ ،‬ومل ترد عنده أ ُّية كلمة تشري‬‫مرات‪ ،‬و‪َّ 6‬‬
‫و‪َّ 10‬‬ ‫َّ‬
‫وكأن «غالدستون» ير ُّد بكتابه‬ ‫هو مفيد يف جمال علم اللغة‪ ،‬وبدا‬
‫إىل اللون األزرق‪َّ ،‬‬
‫ولعل أكثر ما يلفت االنتباه أنَّه ما نعت السامء‬ ‫عىل الشكوك التي بدأت تنترش حول وجود الشاعر‪ ،‬وحول نسبة‬
‫والبحر بالزرقة‪ ،‬فهو يطنب يف احلديث عن الضوء واإلرشاق‪،‬‬ ‫و«األوديسة» إليه‪ ،‬فام هو إال منشد رضير طاف البالد‬
‫َّ‬ ‫«اإللياذة»‬
‫يفصل يف ذكر األلوان تظهر عنده مبهمة ومتقلبة‪:‬‬ ‫وحينام ينبغي أن ّ‬ ‫يتغنَّى بأجماد القدامى‪ ،‬فيجمع ما يراه داع ًام لبناء صورة اإلغريق‬
‫بحره داكن بلون النبيذ‪ ،‬وما وصفت السامء بأهنا زرقاء‪.‬‬ ‫يف حروهبم ومغامراهتم‪ ،‬ويتع َّيش من ذلك‪ ،‬ويل ّبي رغبات‬
‫متأخرة عن أحداث سالفة صار استدعاؤها موضوع عناية من‬ ‫ّ‬
‫سوف خيطر عىل البال تفسري متو َّقع له صلة باالفرتاض الشائع‬ ‫قبل عا َّمة اإلغريق‪ ،‬بل متادت الشكوك فذهب بعضها إىل َّ‬
‫أن‬
‫عن عمى هومريوس‪ ،‬فتداخل األلوان أو اجلهل هبا معروف عند‬ ‫السياق الشعري احلاضن ألحداث امللحمتني مل يكتمل إال بعد‬
‫العميان‪ ،‬لك َّن «غالدستون» مل ُيعر هذا االفرتاض اهتامم ًا‪َّ ،‬‬
‫ألن «‬ ‫قرون من التاريخ املحتمل الذي عاش هومريوس فيه‪ ،‬واحلال‬
‫خيص األلوان‪-‬‬ ‫أوصاف هومريوس ‪ -‬يف مجيع اجلوانب ما عدا ما ُّ‬ ‫الشك باآلداب‬ ‫ّ‬ ‫هذه‪ ،‬فقد كُتب الكتاب عىل خلفية من صعود نربة‬
‫زاهية جد ًا‪ ،‬ممَّا جيعل من املستحيل أن تكون طرح شخص ال‬ ‫القديمة‪ ،‬وكان هلومريوس النصيب األوفر فيها‪ ،‬ومل جيد الباحثون‬
‫خاصة به من دون‬ ‫أن تلك احلالة َّ‬ ‫افتض َّ‬
‫يرى العامل بعينيه»‪ .‬ولو ُ‬ ‫مادة خيضعوهنا للنقاش النظري أكثر من املالحم اهلومريوس َّية‪،‬‬
‫معارصيه من الشعراء فال بد أن جيري تنبيهه إىل ذلك بام يؤ ّدي إىل‬ ‫الشك بالشاعر وشعره‪ ،‬فال عجب أن ينتبه «غالدستون»‬ ‫ُّ‬ ‫فجرى‬
‫تصحيح األوصاف‪ « ،‬لك َّن احلال مل تكن كذلك قط‪ ،‬بل َّ‬
‫إن آثار‬ ‫ألن «اإللياذة‬‫إىل ذلك‪ ،‬ويرفض نظريات الشك مجلة وتفصيالً‪َّ ،‬‬
‫تلك الغرابة تظهر زاخرة يف أعامل اإلغريق القدامى‪ ،‬حتى بعد‬ ‫واألوديسة من تأليف شاعر واحد ذي عبقرية عظيمة»‪.‬‬
‫َّ‬
‫كأن «غالدستون» يقول باحتامل‬ ‫عهد هومريوس بعدة قرون»‪ .‬بدا َّ‬
‫يرصح بذلك‪ ،‬فذهب إىل‬ ‫إصابة اإلغريق بعمى األلوان‪ ،‬لكنه مل ّ‬ ‫أن إحدى أطرف النتائج التي وصل «غالدستون» إليها يف‬ ‫عىل َّ‬
‫أن القدرة عىل اإلحساس‬ ‫تفسري أصبح مقبوالً فيام بعد‪ ،‬وهو « َّ‬ ‫سياق إثبات وجود هومريوس‪ ،‬هي قوله بغياب اللون األزرق‬
‫ألن العضو‬‫باختالف األلوان مل تتطور متام ًا إال يف تاريخ متأخر»‪َّ ،‬‬ ‫يف أشعاره‪ .‬فهو وأرضابه من قدامى الشعراء «كانوا يرون العامل‬
‫املسؤول عن « تقدير األلوان كان ما يزال يف طور النمو لدى‬ ‫باللونني األبيض واألسود»‪ .‬اختفى األزرق عىل الرغم من أنَّه‬
‫اإلغريق يف الزمن البطويل»‪ ،‬فقد كان « معارصو هومريوس يرون‬ ‫اللون الغالب يف جبال األوملب حيث موطن آهلة هومريوس‪ ،‬بل‬
‫العامل أساس ًا من منظور النور والظالم‪ ،‬فتظهر لدهيم ألوان قوس‬ ‫َّ‬
‫إن اللون األزرق هو رمز احلكمة اآلهل َّية التي حرضت يف ملحمتيه‪،‬‬
‫كتدرجات غري حمدّ دة للنقيضني األبيض واألسود فقط »‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫قزح‬ ‫ال عن ذلك‪ ،‬فكثري من أحداث امللحمتني يدور يف البحار أو‬ ‫وفض ً‬
‫وعىل هامش هذين اللونني يظهر لون شبيه باألمحر‪ ،‬كالدم والنبيذ‬ ‫عىل سواحلها‪ ،‬فغياب األزرق دليل عىل وجود شاعر عاش قبل‬
‫والنحاس‪ .‬يستعني هومريوس هبذه األوصاف بدل اإلحالة‬ ‫معرفة البرش َّية هبذا اللون‪ ،‬نفي األزرق عن لغة هومريوس يؤكِّد‬
‫أن عيون القدامى مل تتدرب‬ ‫املبارشة عىل ذلك اللون‪ .‬وعلة ذلك َّ‬ ‫وجوده قبل إدراك هذا اللون يف القرون الالحقة‪.‬‬
‫أن «اللون كمفهوم منفصل عن‬ ‫عىل التمييز بني األلوان‪ ،‬ذلك َّ‬
‫اليشء املصبوغ به مل يكن ذا أمه َّية إال بعد معرفة اإلنسان لألصباغ‬ ‫قامت فرضية «غالدستون» عن غياب اللون األزرق عىل‬
‫واأللوان الصناع َّية»‪ .‬ومن بني ذلك يغيب اللون األزرق عن شعر‬ ‫الركيزة اآلتية‪ :‬عالقة هومريوس باأللوان غامضة‪ ،‬فهو يستخدم‬
‫هومريوس‪ ،‬فام وصف البحر به‪ ،‬إنَّام نعته بأنَّه داكن اللون‪.‬‬ ‫عم يعرف به يف العصور احلديثة‪،‬‬‫الكلمة للتعبري عن لون خمتلف َّ‬
‫ويستعني بنعوت من األلوان ختتلف عن تلك التي حتيل عليها‬
‫حاول «غالدستون» إثبات غياب اللون األزرق عند قدامى‬ ‫يف الثقافات املعارصة‪ ،‬وإىل ذلك جتنَّب استخدام الكلامت الدالة‬
‫خيص الزرقة يف تضاعيف «اإللياذة»‬ ‫اإلغريق‪ ،‬فام عثر عىل نعت ُّ‬ ‫عىل األلوان يف سياق يقتيض ذكرها‪ ،‬وقد هيمن اللونان األسود‬
‫و«األوديسة»‪ ،‬مع َّ‬
‫أن أحداثها تقع يف البحار أو عىل ضفافها‪ ،‬إنَّام‬ ‫َّ‬ ‫واألبيض يف عامله االفرتايض‪ ،‬إذ استخدمهام كصفة نحو ‪170‬‬
‫استخدم الشاعر وصف ًا للبحر هو (‪ ،)wine-dark‬أي «نبيذي‬ ‫مرة‪ ،‬عىل التوايل‪ ،‬ما خال استخدام األفعال الدالة عىل‬
‫مرة‪ ،‬و‪َّ 100‬‬
‫َّ‬

‫‪303‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫عبد اهلل إبراهيم‬ ‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫األربع لأللوان‪ ،‬وهي عىل التوايل‪ :‬األبيض‪ ،‬واألسود‪ ،‬واألمحر‪،‬‬ ‫غامق»‪ ،‬فحيثام جرى تقليب امللحمتني توارت نعوت الزرقة عن‬
‫ثم األصفر‪ ،‬وما ورد ذكر لألزرق فيها‪ ،‬وإىل ذلك‪ ،‬فقد وجد‬ ‫وألنا مالحظة‬ ‫َّ‬ ‫صورت أهوال البحار‪،‬‬ ‫األبيات الشعر َّية التي َّ‬
‫أن لون قوس‬ ‫أن معارصه الفيلسوف «أكزينوفان» قد أشار إىل َّ‬‫َّ‬ ‫متر‬
‫جريئة‪ ،‬وأقرب إىل أن تكون شطحة من شطحات اخليال‪ ،‬مل ّ‬
‫قزح هو البنفسجي الغامق‪ ،‬وهو خليط من األصفر واألخرض‬ ‫مرور الكرام‪ ،‬إنَّام أهلمت الباحثني‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬للتنقيب يف مدى‬
‫واألمحر‪ ،‬وقد غاب ذكر األزرق عند فالسفة القرن السادس قبل‬ ‫صحتها‪ ،‬فإذا جرى إثبات جهل املجتمعات القديمة بالزرقة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫تقص ذلك يف النصوص الدينية التي روعي أمر‬ ‫امليالد‪ .‬وحينام َّ‬ ‫فيمكن‪ ،‬يف آن واحد‪ ،‬إثبات أمرين اختلف الناس فيهام منذ القدم‪:‬‬
‫تدوينها أكثر من النصوص األدبية‪ ،‬كالتوراة‪ ،‬والقرآن‪ ،‬ما وجد‬ ‫وجود الشاعر «هومريوس» بدليل عدم ذكره اللون األزرق ألنَّه‬
‫أن زمن بعضها متأخر كثري ًا عن‬
‫فيها إشارة واضحة للزرقة مع َّ‬ ‫كان جمهوالً عند الشعراء كافة يف عرصه‪ ،‬واألعرص السابقة عليه‪،‬‬
‫عرص هومريوس‪ .‬إنَّام عثر عىل استخدام اللون األزرق يف الثقافة‬ ‫ونفي عامه بدليل ذكره لأللوان األخرى ما خال اللون األزرق‬
‫املرص َّية القديمة‪ ،‬فإىل املرصيني يعزى اشتقاق هذا اللون‪ ،‬فهم‬ ‫و«األوديسة»‪ ،‬إذ ال يتأتّى‬
‫َّ‬ ‫الذي مل يستخدمه نعت ًا يف «اإللياذة»‬
‫أن غياب اللون‬ ‫األوائل يف ابتكاره واستخدامه‪ .‬وكان تعليله َّ‬ ‫ذلك إال للمبرصين الذين يرون األلوان رؤية عني؛ فبعد زهاء‬
‫األزرق يعود إىل عدم قدرة الشعوب القديمة عىل إداركه‪ ،‬فض ً‬
‫ال‬ ‫عرش سنني من نرش كتاب «غالدستون» ألقى عامل لغة أملاين ُيدعى‬
‫عن أنَّه كان نادر ًا يف الطبيعة‪.‬‬ ‫«الزاروس غايغر» حمارضة يف عام ‪1867‬م أمام مجاعة «من علامء‬
‫الطبيعة املرموقني» يف «فرانكفورت» بعنوان «يف إدراك األلوان‬
‫ٍ‬
‫ومسند هلا؛‬ ‫حلجة «غالدستون»‪،‬‬
‫انتهى «غايغر» إىل تفسري داعم َّ‬ ‫وتطوره» اهتدى فيها بفرضية «غالدستون»‬ ‫ّ‬ ‫لدى العصور البدائ َّية‬
‫فقد جاءت املؤازرة من عامل باللغات‪ ،‬ومل تكن خاطرة شطح هبا‬ ‫عمق اهتاممه باملوضوع‪ ،‬فعزم عىل دراسة األلوان يف الثقافات‬ ‫ثم َّ‬ ‫َّ‬
‫متبحر يف األدب‪ ،‬إنَّام قاده البحث يف أصول الكلامت‪،‬‬ ‫سيايس غري ِّ‬ ‫ً‬
‫حجته‪ ،‬وكتبا دين َّية ال يكاد‬ ‫القديمة‪ ،‬فاختار مالحم عريقة إلثبات َّ‬
‫ومنها كلمة «أزرق» إىل إثبات وجود لون داكن مع خرضة خفيفة‪،‬‬ ‫يشوهبا الشك‪ ،‬ومن ذلك فقد ح ّلل ملحمة «الفيديا» اهلند َّية التي‬
‫أ َّما اللون األزرق فلم يكن معروف ًا يف العصور القديمة‪ .‬وتوصل‬ ‫تعود إىل القرن الرابع عرش قبل امليالد‪ ،‬ومت ّثل حجر الزاوية لألدب‬
‫أن األزرق‬ ‫«غايغر» إىل الرتتيب الزمني لظهور األلوان‪ ،‬وظهر له َّ‬ ‫املدون باللغة السنسكريت َّية‪ ،‬فقد أفاضت أناشيدها الدين َّية‬ ‫اهلندي َّ‬
‫كان آخرها يف إدارك اإلنسان‪ ،‬فقد بدأ إدراك اللونني األسود‬ ‫أي موضوع آخر‪ ،‬فأتت عىل‬ ‫يف وصف السامء‪ ،‬كام مل ترسف بذكر ّ‬
‫واألبيض‪ ،‬تالمها اللون األمحر‪ ،‬ثم ظهر األصفر‪ ،‬أعقبه األخرض‬ ‫ذكرها يف سائر أحواهلا‪ ،‬وأسهبت‪ ،‬لكنَّها مل تصفها بالزرقة‪ .‬إثبات‬
‫عىل التوايل‪ ،‬وختمت األلوان باألزرق الذي مل يكن معروف ًا يف‬ ‫«أن هومريوس‬ ‫غياب اللون األزرق يف ملحمة «الفيديا» برهن عىل َّ‬
‫مر إدراك‬ ‫احلقبة اهلومر َّية وما قبلها‪ .‬وع ّلل ذلك بالصورة اآلتية‪َّ :‬‬ ‫مل يكن وحده غري قادر عىل رؤية اللون األزرق‪ ،‬فقد شاركه يف‬
‫اإلنسان لأللوان بمراحل قبل أن يستكملها ويستوفيها‪ ،‬وكان‬ ‫ذلك شعراء اهلند القدامى»‪ ،‬كام قال «غاي دويترش» يف كتابه‬
‫عم وقع لأللوان األخرى‪ .‬ولو‬ ‫متأخر ًا َّ‬
‫ّ‬ ‫إدراكه للون األزرق‬ ‫الطريف «عرب منظار اللغة‪ِ :‬ل َ يبدو العامل خمتلف ًا بلغات أخرى؟»‬
‫صحت نتائج بحوثه يكون «هومريوس» شاعر ًا مبرص ًا عاش يف‬ ‫َّ‬ ‫وإىل ذلك فقد التفت «غايغر» إىل دراسة التوراة‪ ،‬فوجدها ختلو‬
‫الفرتة التي مل تدرك هبا العيون اللون األزرق‪ ،‬إنَّام كانت تتلمس‬ ‫من ذكر اللون األزرق‪ ،‬ومل يغب عنه القرآن الكريم‪.‬‬
‫طريقها يف ألوان داكنة‪ ،‬ويبطل النظرية الشفو َّية املشكّكة يف‬
‫جوالني مجعوا املرويات اليونان َّية‬
‫وجوده‪ ،‬وتدَّ عي وجود شعراء َّ‬ ‫ال شغل الباحث األملاين يف حفره عن األلوان‬ ‫كان هذا شاغ ً‬
‫القديمة‪ ،‬وأسندوها إىل شخص اتفق أن يكون اسمه «هومريوس»‬ ‫املظان القديمة‪ ،‬لك َّن توصالته مل تكن رضب ًا من التأويل‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫يف‬
‫اجلوال الرضير‪.‬‬‫أي َّ‬ ‫للمدونات‬
‫َّ‬ ‫شطح ًا من اخليال الشعري وإنَّام هي استقراء من َّظم‬
‫القديمة من أجل الربهنة عىل الفرض َّية‪ ،‬فوجد‪ ،‬عىل سبيل‬
‫ثم جنت شطحة «غالدستون» ثمرة أخرى أكثر نضج ًا‪ ،‬فبعد‬ ‫أن الفيلسوف اإلغريقي «أمبيدوقليس» وقد عاش يف‬ ‫املثال‪َّ ،‬‬
‫الطب‬
‫ّ‬ ‫حماولة األملاين «غايغر» بعرش سنوات أخرى‪ ،‬نرش مؤرخ‬ ‫القرن السادس قبل امليالد‪ ،‬بعد هومريوس بنحو قرنني‪ ،‬وعرف‬
‫األملاين‪ ،‬والدارس للعالقة بني األلوان والعيون يف الثقافات‬ ‫عنه تدوين أفكاره بشذرات شعرية‪ ،‬قد وضع الئحة بالفئات‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪304‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫و«األوديسة»‬
‫َّ‬ ‫ما غاب عن هومريوس يف «اإللياذة»‬

‫يصح أن جتمع‬ ‫ُّ‬ ‫كل ذلك‪ ،‬فقد‬‫فإن هومريوس كان يف منأى عن ِّ‬ ‫َّ‬ ‫واملتبحر بتاريخ الثقافة الطب َّية وتارخيها «هوغو‬ ‫ّ‬ ‫القديمة‪،‬‬
‫األدلة من أجل الربهنة عىل غياب اللون األزرق يف ملحمتيه‪،‬‬ ‫تطور إدراك األلوان اعتامد ًا عىل‬
‫ماغنوس» يف عام ‪1877‬م بحث ًا عن ُّ‬
‫أن الشاعر الذي مل ِ‬
‫يأت عىل ذكرها ال ُبدَّ‬ ‫ولكن ليس مؤكد ًا َّ‬ ‫ترشيح خاليا العني وأعصاهبا‪ ،‬ضمن سلسلة من البحوث عالج‬
‫ألنا مل تكن معروفة يف عرصه‪ ،‬واألعرص‬ ‫ال هبا‪َّ ،‬‬‫أن يكون جاه ً‬ ‫وطب العيون عند القدامى‪ ،‬والتطور‬ ‫ّ‬ ‫فيها ظاهرة عمى األلوان‪،‬‬
‫يشذ هومريوس عن هذه القاعدة‪.‬‬ ‫السابقة‪ ،‬ومل ّ‬ ‫التارخيي ملفهوم اللون‪ ،‬وداللة األلوان عند الشعوب القديمة‪،‬‬
‫«إن رؤية القدامى تتشابه‬ ‫وانتهى إىل ما كان سلفاه قد أشارا إليه‪َّ :‬‬
‫مع ما تستطيع أعني العرص احلديث أن تراه وقت الغسق حني‬
‫تبهت األلوان وتظهر حتى األشياء الفاقعة اللون بلون رمادي‬
‫فكأن القدامى ينظرون إىل العامل هبذا الشكل حتى يف وضح‬‫َّ‬ ‫مبهم‪.‬‬
‫النهار»‪ .‬ثم راح يرشح ذلك الرتتيب الزمني النبثاق اإلحساس‬
‫باأللوان حسب ألوان املوشور‪ :‬فاللون األمحر هو أكثر األلوان‪،‬‬
‫نتدرج يف‬
‫وفيه أعىل درجة للطاقة‪ ،‬وتتناقص طاقة الضوء عندما َّ‬
‫ألوان الطيف من األمحر إىل البنفسجي‪ ،‬فال تبدأ األلوان الباردة يف‬
‫تتطور حساسيتها للون‪ ،‬ومل تصل‬ ‫الظهور عىل الشبك َّية إال حني َّ‬
‫تلك احلساسية يف عهد هومريوس إىل أبعد من اللون األصفر‪،‬‬
‫فكان من املمكن التمييز بني األمحر والربتقايل واألصفر‪ ،‬وكان‬
‫اإلحساس باألخرض يف طور النمو‪ ،‬أ َّما األزرق والبنفسجي‪ ،‬ومها‬
‫أقل األلوان حدَّ ة‪ ،‬فقد كانا ما يزاالن مسدودين وحمجوبني عن‬ ‫ُّ‬
‫العني البرش َّية‪ ،‬كام هي احلال بالنسبة إىل األشعة فوق البنفسج َّية‬
‫اليوم ‪ .‬وطبق ًا هلذا فلم يكن هومريوس رضير ًا‪ ،‬وإنَّام كان مدرك ًا‬
‫لأللوان‪ ،‬ما خال األزرق الذي كان جمهوالً يف عرصه‪ ،‬فحينام جيري‬
‫التدقيق يف اآلداب التي سبقت عرصه أو عارصته ال يظهر اللون‬
‫أن عينيه عاجزتان عن إدراك هذا‬ ‫األزرق فيها‪ ،‬فليس العيب يف َّ‬
‫ألن ذلك اللون مل تدركه األبصار بعدُ ‪ .‬وما لبث أن‬ ‫اللون‪ ،‬وإنَّام َّ‬
‫أصبح املوضوع مثار اهتامم يف القرن العرشين بجهود كثرية‪،‬‬
‫ومنها ماقام به «برنت برلني»‪ ،‬و«بول كاي»‪.‬‬

‫دفع البحث يف عامل هومريوس إىل طرح نظرية حول تاريخ‬


‫ألنا‬
‫األلوان‪ ،‬فعامل املالحم اهلومري َّية الصاخب مل يعرف الزرقة َّ‬
‫غائبة عن عيون البرش‪ .‬لك َّن سؤال األدب ر َّبام ينبثق من مكان‬
‫خاص بالتمثيل األديب للطبيعة‪ ،‬وليس من الطبيعة‬ ‫ٍّ‬ ‫آخر‪ ،‬مكان‬
‫ذاهتا‪ :‬هل كل ما تراه العني تصفه اللغة؟ جواب ذلك يكمن يف‬
‫ثقافة الشاعر‪ ،‬وليس يف عينيه‪ ،‬فالسياق الثقايف الذي ينبثق الشاعر‬
‫من عمقه يدفع به إىل استعارة ما حييط به من املأثورات‪ ،‬بام يف ذلك‬
‫ذكر األلوان‪ ،‬ومن الصعب اإلقرار بوجود عيب عضوي يف عني‬
‫من ال يأيت عىل ذكر األلوان كلها دون استثناء‪ .‬ويف مجيع األحوال‪،‬‬

‫‪305‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫بابلو نيرودا‬
‫‪ 1904‬ـ ‪1973‬‬
‫تقديم وترمجة‪ :‬د‪ .‬حسن الغُريف*‬

‫بابلو نريودا هو اسم الشهرة الذي اختاره لنفسه شاعر أمريكا‬


‫الالتينية الشهري نيفتايل ريكاردو رييس‪ .‬ولد يف ‪ 12‬يوليو عام‬
‫«بارال» (‪ ،)Parral‬وهي قرية صغرية وسط تشييل‪،‬‬ ‫‪ 1904‬يف ّ‬
‫حيث تنمو الكرمة ويكثر النبيذ‪ .‬منذ طفولته املبكرة صحب‬
‫أرسته إىل أقىص جنوب البالد‪ ،‬إىل بلدة «تيموكو»(‪،)Temuco‬‬
‫حارة‪ ،‬واألمطار هتطل‬ ‫مرتع صباه وشبابه األول‪ ،‬حيث األرض َّ‬
‫بغزارة‪ ،‬والغابة رائعة ووحشية‪ .‬من هذه الطبيعة‪ ،‬من هذا الطني‪،‬‬
‫من هذا الصمت بني اجلبل والوديان الرب َّية‪ ،‬ومن معايشة حثيثة‬
‫عمل «تيموكو» الذين يشكون الفقر والبطالة‪ ،‬هام‬ ‫هلموم وآمال َّ‬
‫مر غناؤه هذا‬ ‫شاعرنا عىل وجهه ليغني يف أرجاء العامل‪ .‬وقد َّ‬
‫قصائده بمعظم لغات العامل‪ ،‬وعىل الرغم من مرور عقود عىل‬ ‫بمراحل ربام تكون مألوفة عند غريه من الشعراء‪ :‬البداية ذات َّية‬
‫وقوهتا وحضورها‪ ،‬وهذه‬
‫وفاته‪ ،‬فام زالت أشعاره حتتفظ بألقها َّ‬ ‫تطور تدرجيي نحو النضج‪ ،‬نحو الرتكيز يف التعبري‪،‬‬ ‫ثم ُّ‬‫حزينة‪َّ ،‬‬
‫أهم سامت الشعر اإلنساين األصيل املتميز بعشق‬
‫واحدة من ّ‬ ‫ثم معانقة قضايا اإلنسان وااللتزام‬ ‫وااللتفات إىل مهوم الدنيا‪َّ ،‬‬
‫اإلنسان واحلر َّية والوطن‪.‬‬ ‫بالدفاع عنه‪.‬‬

‫لقارة بأرسها‪ ،‬باعتباره شاعر ًا كبري ًا‬


‫َّ‬ ‫كان نريودا ضمري ًا‬ ‫لكن‪ ،‬وكام عاش نريودا مدافع ًا عن حق اإلنسان أينام كان يف‬
‫ال سياسي ًا كبري ًا أيض ًا‪ ،‬ومن الشعر والسياسة صنع شاعرنا‬
‫ومناض ً‬ ‫ظل ينشد قصائد العشق‪ ،‬وبقي دوم ًا ذلك‬ ‫احلر َّية واملساواة‪ ،‬فقد َّ‬
‫ملحمة حياته الطويلة املفعمة بروح القلق والعناد‪.‬‬ ‫املحب الكبري الذي كتب ما يقرب من عرشة دواوين عن احلب‪،‬‬
‫من أشهرها «عرشون قصيدة حب‪ ،‬وأنشودة يائسة»‪ ،‬و«مائة‬
‫‪3‬‬ ‫قصيدة حب»‪.‬‬

‫استطاعت منجزات شاعرنا الفذ أن تؤكد أنَّه واحد من كبار‬ ‫‪2‬‬


‫املبدعني يف العرص احلديث الذين وقفوا برشف إىل جانب قضايا‬
‫اإلنسان واحلر َّية‪ ،‬إذ استمدَّ معظم مادة شعره من احلياة اليوم َّية‪،‬‬ ‫بابلو نريودا رمز شعري كوين‪ ،‬ال يمكن لديوان اآلداب العامل َّية‬
‫ومن معرفته العميقة بقضايا البسطاء من الفالحني والصيادين‬ ‫أن ينساه ولو بعد ألف عام‪ ،‬مل يعش عىل هامش احلياة‪ ،‬بل كان‬
‫وعمل املناجم‪ ،‬ومن ح ّبه الغامر ألرض تشييل بجباهلا الكلس َّية‬ ‫َّ‬ ‫يف صميمها‪ُ ،‬وصف بأنَّه شاعر احلر َّية األكرب الذي ُير ِّدد الناس‬
‫ِّ‬
‫وهنرها العذب (بيوبيو)‪ ،‬ومن كل العالقات اإلنسان َّية البسيطة‬
‫ال فن َّي ًا خرج هبا من حمدود َّية التجربة‬
‫التي استطاع أن هيبها شك ً‬ ‫* أكادميي من املغرب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪306‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫بابلو نريودا‬

‫سيظل عىل الدوام‬‫ُّ‬ ‫ال إبداع َّي ًا من املحقق أنَّه‬


‫عا َّمة‪ ،‬عم ً‬ ‫عب ًا بذلك عن توق اإلنسان‬
‫الفرد َّية إىل آفاق شمول َّية واسعة‪ُ ،‬م ِّ‬
‫من أعظم املنجزات الشعر َّية ألمريكا الالتين َّية يف عرصنا‬ ‫كل القيود التي تعيق انطالقه وحريته‪.‬‬ ‫إىل االنعتاق من ّ‬
‫احلديث‪.‬‬
‫لقد انطلق شعر نريودا متدفق ًا ليغنّي آالم األرض التشيل َّية‬
‫‪4‬‬ ‫وآماهلا‪ ،‬معتنق ًا قضية احلر َّية باعتبارها قضيته املحور َّية التي رصد‬
‫نفسه هلا‪ ،‬ليس بالشعر فحسب ولكن بالعمل الكفاحي أيض ًا‪.‬‬
‫إن ضمري نريودا اإلنساين خت َّطى طبيعة منطقته وأحداثها‪ ،‬فلم‬ ‫َّ‬
‫يقترص نضاله من أجل احلر َّية عىل وطنه تشييل وقارته اجلنوب َّية‪،‬‬ ‫أهم أعامله اإلبداع َّية يف هذا املجال تقف ملحمته‬
‫ومن بني ّ‬
‫بل امتدَّ إىل عوامل أوسع حيث الظلم االجتامعي وغياب احلر َّية‬ ‫العظيمة «النشيد العام» شاخمة كإحدى املنجزات الشعر َّية الفريدة‬
‫ويتجل هذا‪ ،‬عىل سبيل‬ ‫ّ‬ ‫وظروف االستبداد والدكتاتور َّية؛‬ ‫التي جادت هبا قرحية اإلنسان يف عرصنا احلارض‪ .‬بدأ كتابتها سنة‬
‫املثال‪ ،‬أثناء احلرب األهل َّية اإلسبان َّية (‪1936‬م)‪ ،‬فبعدما سقطت‬ ‫‪1937‬م‪ ،‬وصدرت طبعتها األوىل الكاملة يف مكسيكو سنة ‪1950‬م‪.‬‬
‫قاس‪ ،‬وبعدما ُفجع بمرصع‬ ‫مدريد يف أيدي الفاش َّية عقب حصار ٍ‬
‫فتعرض لقتلة‬ ‫لوركا‪َ ،‬ف َقد نريودا القدرة عىل كتم انفعاله وغضبه‪َّ ،‬‬ ‫إن هذا العمل الكبري يمتاز بشموله التارخيي ألحداث العامل‬ ‫َّ‬
‫صديقه احلميم‪ ،‬ومل يراع أنَّه أصبح شاعر ًا سياسي ًا‪ ،‬وأنَّه سيؤدي‬ ‫خاصة‪ ،‬وبعمق قضايا اإلنسان َّية‪.‬‬
‫عا َّمة وأمريكا الالتين َّية َّ‬
‫ثمن هذا املوقف غالي ًا‪ ،‬حيث أقيل من منصبه كقنصل لبالده يف‬
‫مدريد‪.‬‬ ‫كتب الشاعر أغلب هذا العمل االستثنائي ـ ماعدا بعض‬
‫املقطوعات ـ يف أكواخ الفقراء والفالحني‪ ،‬أثناء اختفائه يف‬
‫شهدت العاصمة اإلسبان َّية املراحل األوىل ألجماد الشاعر‪،‬‬ ‫فرتة دكتاتور َّية «غونزاليس فيديال» التي خ َّيمت مدَّ ة طويلة عىل‬
‫املضمخة بدماء أصدقائه األعزاء‪ ،‬ويف طليعتهم‬‫َّ‬ ‫وبواكري قصائده‬ ‫صدور أبناء تشييل‪ .‬لقد عاش نريودا سنني طويلة مطارد ًا من‬
‫غارثيا لوركا وميغيل إيرناندث وأنطونيو ماتشادو‪ ،‬وغريهم من‬ ‫طرف رجال األمن‪ ،‬جيوب وطنه حماط ًا باخلطر‪ ،‬خالصه الوحيد‬
‫عبت قصائد‬ ‫الشهداء الرائعني يف الشعر اإلسباين املعارص‪ ،‬وقد َّ‬ ‫ح ُّبه هلذا الوطن الذي كان حيميه من املالحقة واإلرهاب‪.‬‬
‫توحده مع النضال البطويل ضدَّ الدكتاتور‬ ‫شاعرنا آنذاك عن ُّ‬
‫ضمها بعد ذلك ديوانه الشهري‬ ‫(فرانكو)‪ ،‬وهي األشعار التي َّ‬ ‫لقد عانق شاعرنا من خالل هذا املنجز اإلبداعي الباهر حياة‬
‫«إسبانيا يف القلب»‪.‬‬ ‫وقارته يف أشكال من النظم متنوعة‪ ،‬احتوت واحتفلت‬ ‫بالده َّ‬
‫لقارة أمريكا الالتين َّية تارخيي ًا وجغرافي ًا‬
‫باإلشعاع اإلعجازي َّ‬
‫عم رآه الشاعر‪ ،‬حيث‬ ‫لقد كانت قصائد هذا الديوان تعبري ًا َّ‬ ‫واجتامعي ًا وسياسي ًا‪.‬‬
‫األطفال تسيل دماؤهم يف شوارع مدريد‪ ،‬وما سمعه من‬
‫املعذبني؛ فبكى نريودا طويالً‪ ،‬بكى من أجل الشعب‬ ‫رصخات َّ‬ ‫وإىل جانب احلر َّية بوصفها قض َّية حمور َّية الحت بصامهتا عىل‬
‫املسكني ومن أجل مدريد اآلمنة التي انقلبت يف يوم وليلة إىل دماء‬ ‫كل كلمة من كلامت هذه امللحمة‪ ،‬متكَّن الشاعر من اإلجابة عن‬ ‫ّ‬
‫ورصاص ودموع وأشالء واغتياالت‪.‬‬ ‫كافة التساؤالت التي ختطر ببال إنسان‪ ،‬حيث حتدَّ ث فيها عن‬
‫تطور احلركة التارخي َّية‪ ،‬وعن الرصاع الدائب‬
‫الشعر‪ ،‬وعن ُّ‬ ‫دور ّ‬
‫املناضل‪ ،‬أن يغنّي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫كل هذا أقسم شاعرنا‪،‬‬ ‫من أجل ِ‬ ‫بني أنصار الديمقراط َّية وبني أعدائها‪ ،‬وعن جمد اإلنسان‪ ،‬وعن‬
‫كل‬‫املمزقة الشهيدة‪ ،‬وأن خياطب الناس يف ِّ‬‫بشعره جلحافل احلر َّية َّ‬ ‫العديد من جزئ َّيات احلياة‪ ،‬وغري هذا‪.‬‬
‫العامل يدعوهم لالستيقاظ‪ .‬لقد كانت احلرب األهل َّية اإلسبان َّية‬
‫هناية مرحلة يف حياة الشاعر ومسريته اإلبداع َّية وبداية مرحلة‬ ‫بكل عاطفة‬ ‫لقد ربط الشاعر مصريه بمصري شعبه وتارخيه ِّ‬
‫جديدة‪.‬‬ ‫ونكران ذات‪ ،‬وأهدى إىل إنسان ذلك الوطن‪ ،‬وإىل اإلنسان َّية‬

‫‪307‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫تقديم وترمجة‪ :‬د‪ .‬حسن الغُريف‬ ‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫غناء‪ ،‬ذلك َّ‬


‫أن هذه السرية الذات َّية هي يف الواقع قصيدة نثر بديعة‬ ‫تسألون ملاذا ال يتحدث شعري‬
‫حتتل ‪ 500‬صفحة من احلجم الكبري‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫عن احللم‪ ،‬عن أوراق الشجر‬
‫عن براكني مسقط رأيس العظيمة؟‬
‫تتجل خالصة حيوات شاعرنا بغناها‬ ‫ّ‬ ‫يف هذه املذكّرات‬ ‫تعالوا تروا الدم يف الشوارع‬
‫وحتوالهتا‪ ،‬وبام انطوت عليه من شتَّى التجارب واألحداث‬ ‫ُّ‬ ‫تعالوا تروا‬
‫واملواقف والشخوص عرب العديد من العوامل اجلغراف َّية‪ ،‬باإلضافة‬ ‫الدم يف الشوارع‬
‫إىل زخم من اآلراء التي يستطيع الباحث من خالهلا استخالص‬ ‫تعالوا تروا الدم‬
‫نظرته للشعر‪ ،‬ومفهومه هلذه «احلرفة» النبيلة التي حظيت من‬ ‫يف الشوارع !‪.‬‬
‫طرفه بحرارة الكلمة الصادقة واإلخالص الشديد‪ ،‬وعرب ّ‬
‫كل هذا‬
‫املهمني من صناع األدب‬ ‫احتفاؤه بالكثري من أصدقائه املبدعني ّ‬ ‫استمر نريودا متبني ًا قضايا املضطهدين يف وطنه ويف ّ‬
‫كل‬ ‫َّ‬ ‫لقد‬
‫وسع هلم بمحبة وتقدير ونبل صفحات مضيئة من هذه‬ ‫الذين َّ‬ ‫وحتول إىل رمز حي للثورة الدائمة‪ ،‬وأصبح أكثر شعراء‬ ‫العامل‪َّ ،‬‬
‫املذكرات‪.‬‬ ‫ظل كذلك وف َّي ًا حتى آخر‬ ‫اللغة اإلسبان َّية مقروئ َّية‪ ،‬هو الذي َّ‬
‫حرف خ َّطه ملا آمن به وأوقف حياته عليه‪ ،‬ومل ُيبدِّ د موهبته َّ‬
‫الفذة‬
‫والتنوع والفرادة‪ .‬آه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫«أشهد أنَّني قد عشت» حتفة بالغة الثراء‬ ‫وإبداعاته العظيمة يف متاهات اجلدل العقيم‪.‬‬
‫ما أفقر مكتبتنا األدب َّية العربية ملثل هذا السفر الفريد املمتع!‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫‪7‬‬
‫كان نريودا موضع تقدير وحفاوة يف العديد من الدول‪ ،‬حيث‬
‫مؤلف ًا‬
‫اخللق ألكثر من أربعني َّ‬ ‫بعد حياة حافلة باإلبداع َّ‬ ‫ُمنح عدد ًا كبري ًا من األوسمة واأللقاب العلم َّية واجلوائز األدب َّية‬
‫لقيت صداها الباهر وحضورها الواسع عرب العوامل اإلبداع َّية‬ ‫ت ُّوجت ك ّلها بحصوله عىل جائزة نوبل لآلداب سنة ‪1971‬م‪،‬‬
‫بلغاهتا املتعدّ دة‪ ،‬وبعد ما ُعرف عنه من جتارب نضال َّية ومواقف‬ ‫لكونه ‪ ‬شاعر الكرامة البرش َّية ا ُملنتهكة‪ .‬ولشعره الذي يتَّسم بالقوة‬
‫مرشفة‪ ،‬تويف شاعرنا العظيم يف ‪ 23‬سبتمرب ‪1973‬م‪ ،‬يف‬ ‫أصيلة ّ‬ ‫قارة بأرسها ويف مصريها ‪،...‬‬ ‫شع احلياة يف أحالم َّ‬
‫الطبيع َّية و ُي ُّ‬
‫أحد مستشفيات سنتياغو «عاصمة التشييل» إثر مرض فاقم من‬ ‫هكذا ُقدِّ م نريودا إىل احلارضين يوم تس ُّلمه هذه اجلائزة العامل َّية‪،‬‬
‫حدَّ ته حزن الشاعر إزاء االنقالب العسكري الدموي الذي أطاح‬ ‫فكان بحق خري من يم ّثل الشعر اإلسباين احلديث يف العامل‪،‬‬
‫وتم قتله بالقرص اجلمهوري‪،‬‬ ‫بالرئيس املنتخب سلفادور أليندي َّ‬ ‫ومفخرة املاليني من الناطقني باإلسبان َّية‪.‬‬
‫دون الصفحات األخرية من مذكّراته‪،‬‬ ‫يف هذا الوقت كان نريودا ُي ِّ‬
‫حيث أ َّبنه وقلبه وقلمه ينزفان‪ ،‬وتشاء األقدار أن يغيب الصديقان‬ ‫‪6‬‬
‫احلميامن يف الشهر نفسه من السنة نفسها‪ّ ... « .‬إن أكتب هذه‬
‫السطور العاجلة يف مذكّرايت بعد انقضاء ثالثة أيام فقط عىل تلك‬ ‫من أثمن ما تركه شاعرنا الكبري مذكراته البالغة القيمة التي‬
‫األحداث التي ال يمكن نعتها‪ ،‬والتي أ َّدت إىل موت صاحبي‬ ‫حتمل عنوان «أشهد أنَّني قد عشت»‪ .‬وهي السرية التي كتبها‬
‫ورفيقي العظيم الرئيس (أليندي)‪ .‬لقد أحاطوا اغتياله بجدار‬ ‫بنفسه ورأت النور يف لغتها األصل َّية ـ اإلسبان َّية يف برشلونة‬
‫رس ًا‪ ،‬ومل يسمحوا إال ألرملته بأن ترافق ذلك‬ ‫من الصمت ودفنوه َّ‬ ‫بتاريخ ‪ 23‬مارس ‪1974‬م‪ ،‬أي بعد ميض ستة أشهر عىل وفاة‬
‫إن رواية املعتدين هي َّأنم وجدوه ج ّثة‬ ‫اجلثامن الذي ال يموت‪َّ .‬‬ ‫الشاعر‪ ،‬وفيها استعرض حياته وشعره بتفصيل ُم َّبب رائق‪ .‬وهي‬
‫هامدة بأدلة ب ّينة عىل أنَّه انتحر‪ .‬أ َّما الرواية التي انترشت يف اخلارج‬ ‫سطور متألقة رفيعة إلنسان ترعرع يف تربة أمريكا الالتين َّية‪ ،‬يف‬
‫فهي خمتلفة‪ ،‬إذ أنَّه بعد القصف اجلوي اقتحمت الدبابات‪،‬‬ ‫تشييل عىل وجه التحديد‪ ،‬اكتشف منذ وقت مبكر جد ًا أنَّه ُولد‬
‫ال وحيد ًا فرد ًا‪ :‬أال وهو‬
‫الدبابات الكثرية‪ ،‬لتقاتل يف بسالة رج ً‬ ‫وظل ُيغنّي‪ ،‬حتى نثره صار‬ ‫لكي يكون شاعر ًا‪ ،‬فأطاع الصوت َّ‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪308‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫بابلو نريودا‬

‫قصائـد من نيــرودا‬ ‫رئيس مجهورية تشييل (سلفادور أليندي) الذي كان ينتظرهم يف‬
‫مكتبه دون أن يكون له من رفيق غري قلبه العظيم‪ ،‬وقد أحيط‬
‫‪ . 1‬السوناتا اخلامسة والعرشون‬ ‫بالدخان والنريان‪.‬‬

‫ياحبيبي‪ ،‬قبل أن أح ّبك مل يكن لدي يشء‬ ‫لقد كان هلم أن ينتهزوا هذه الفرصة النادرة‪ ،‬كان ال ُبدَّ من‬
‫كنت أتر َّدد عرب األشياء والدروب‬ ‫الرشاشات يف جسده‪ ،‬فهو لن يتخىل أبد ًا عن‬
‫إفراغ الرصاص من َّ‬
‫ال يشء حتدَّ ث عنِّي ‪ ،‬وال يشء كان له اسم‬ ‫رس ًا يف مكان ما‪ .‬لقد مىض ذاك اجلثامن‬
‫منصبه‪ .‬فدفن ذاك اجلسد َّ‬
‫العامل انتسب إىل انتظار اهلواء‪.‬‬ ‫إىل ال َّلحد ال يصاحبه إال امرأة واحدة وحيدة حتمل يف نفسها‬
‫إن تلك الشخص َّية املجيدة امليتة كانت متيض وهي‬‫أمل العامل كله‪َّ ،‬‬
‫عرفت مع ذلك الصالونات الرماد َّية اللون‬ ‫ُ‬ ‫مرة‬
‫خمرقة برصاص رشاشات عساكر تشييل الذين خانوا تشييل َّ‬ ‫ّ‬
‫عرفت أنفاق ًا مسكون ًة بالقمر‬
‫ُ‬ ‫أخرى» ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫واملستودعات القاسية حيث كنَّا نقيض عطلة‬


‫امللحة‪.‬‬
‫وعىل الرمل كانت األسئلة َّ‬

‫ُّ‬
‫الكل مل يكن إال فارغ ًا‪ ،‬وموت ًا وصمت ًا‬
‫كل يشء كان ساقط ًا‬ ‫سقوط يف اإلمهال‪ُّ ،‬‬
‫من غري استالب كان ُّ‬
‫الكل مستلب ًا‪.‬‬

‫كل يشء كان لآلخرين وليس ألحد‬ ‫ُّ‬


‫إىل أن منح مجالك وفقرك‬
‫هذا اخلريف امليلء باهلدايا‪.‬‬

‫‪ . 2‬السوناتا الثانية والتسعون‬

‫ِ‬
‫وأنت بعدُ َح ّية‬ ‫حبيبتي‪ ،‬إذا ِم ُّت‬
‫حي‬ ‫ِ‬
‫حبيبتي‪ ،‬إذا م ِّت وأنا بعد ٌّ‬
‫ال نُو ِّل َي لألمل مدى أكرب‬
‫فال مسافة تفوق مدى حياتينا‪.‬‬
‫ورمال عىل رمال‬‫ٌ‬ ‫غبار عىل القمح‪،‬‬
‫املاء التائه والزمن‪ ،‬والريح املتسكعة‬
‫محلتنا مع ًا كبذور ُمبحرة‬
‫كان باإلمكان أال نلتقي يف هذا الزمن‪.‬‬

‫ويف هذا املنتجع الذي فيه التقينا‬ ‫‪ -  1‬مذكّرات بابلو نريودا (أشهد أنَّني قد عشت)‪ ،‬ترجمة ورشوح‪ :‬د‪ .‬محمود‬
‫أ َّيتُها اخلالدة الصغرية‪ ،‬ها نحن مع ًا من جديد‬ ‫صبح ـ املؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت ـ ط‪ 1 .‬ـ يونيو ‪ ،1975‬ص‪:‬‬
‫لك َّن هذا احلب‪ ،‬ياحبيبة‪ ،‬هو حب بال حدود‪.‬‬ ‫‪.503/502‬‬

‫‪309‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫تقديم وترمجة‪ :‬د‪ .‬حسن الغُريف‬ ‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫افتقدتا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ألن‬
‫ونفيس حزينة ّ‬ ‫وكام أنَّه مل يعرف والدة‬
‫أن هذا احلزن هو آخر ما أودعتني‬‫رغم َّ‬ ‫فإنَّه جيهل املوت‪ ،‬إنَّه كنهر طويل‬
‫ورغم َّ‬
‫أن هذا القصيد‪ ،‬هذه األبيات آخر ما أودعتُها‪.‬‬ ‫غي الضفاف فحسب واملجرى‪.‬‬ ‫ُي ِّ‬

‫‪ . 4‬وحده املوت‬ ‫‪ .3‬أستطيع أن أكتب أشعار ًا‬

‫هناك مقابر منعزلة‬ ‫أستطيع أن أكتب الليلة أشدَّ األشعار حزن ًا‬
‫أرضحة مليئة بعظام بغري رنني‬ ‫مرصعة بالنجوم‬ ‫أن أكتب مثالً‪« :‬هذه الليلة َّ‬
‫يعرب القلب نفق ًا‬ ‫وكواكب السامء ترتعش من بعيد»‪.‬‬
‫مظل ًام‪ ،‬مظل ًام‪ ،‬مظل ًام‬ ‫الرياح جتوب الليل وتُغنِّي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫نموت نحو الداخل كأنَّنا يف سفينة تغرق‬ ‫استطعت أن أكتب الليلة أشدَّ األشعار حزناً‬ ‫ُ‬
‫كـأنَّنا نغرق يف القلب‬ ‫أحببتُها‪ ،‬وأح ّبتني أحيان ًا هي أيض ًا‬
‫الروح‪.‬‬ ‫يف ٍ‬
‫كأنَّنا نسقط من اجللد إىل ُّ‬ ‫ذراعي‬
‫َّ‬ ‫ليال كهاته الليلة كانت بني‬
‫مرات حتت السامء‪ ،‬السامء الالمتناهية‪.‬‬ ‫ق َّبلتها َّ‬
‫هناك جثث‬ ‫أح َّبتني‪ ،‬وأحببتُها أحيان ًا أنا أيض ًا‬
‫هناك أرجل من طني لزج‪ ،‬بارد‬ ‫كيف ال أعشق عينيها الواسعتني؟‬
‫هناك املوت يف العظام‬ ‫أستطيع أن أكتب الليلة أشدَّ األشعار حزن ًا‬
‫كصوت خالص‬ ‫افتقدتا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أن أخت َّيل َّأنا مل َت ُعد يل‪ ،‬أن أشعر ّأن‬
‫كنباح بدون كلب‬ ‫أن ُأنصت إىل الليل الشاسع‪ ،‬الشاسع أكثر من دوهنا‬
‫ينبعث من نواقيس ما‪ ،‬من قبور ما‪،‬‬ ‫والشعر ينزل عىل القلب كام ينزل عىل العشب النَّدى‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫يكرب يف الرطوبة كالدموع أو املطر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عيل إن كان ُح ِّبي مل يستطع أن ُيبق َي عليها‬ ‫ماذا َّ‬
‫أرى‪ ،‬وحيد ًا‪ ،‬أحيان ًا‬ ‫الليل ميلء بالنجوم وهي ليست معي‪.‬‬
‫توابيت من أرشعة‬ ‫هذا هو احلال‪ .‬غناء هناك من بعيد ‪.‬‬
‫تُقلع بموتى شاحبني‪ ،‬بنساء بضفائر ميتة‬ ‫إنَّه من بعيد‪ .‬ونفيس حزينة لفقداهنا‪.‬‬
‫بخ َّبازين بيض كاملالئكة‬
‫بصبايا كئيبات مرتبطات بعدول‬ ‫لكي ُأ ِّقرهبا َط ْريف الذي يبحث عنها‬
‫توابيت تصعد النهر العمودي للموت‬ ‫افتقدتا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ألن‬
‫وكذلك قلبي‪ّ ،‬‬
‫النهر البنفسجي‬ ‫غري َّأنا الليلة نفسها التي َّلونت األشجار بالبياض‬
‫نحو األعىل بأرشعة منتفخة بصوت املوت‬ ‫غري أنَّنا نحن االثنني نحن املرتبطني مل نعد كام كُنا‪.‬‬
‫منتفخة بصوت املوت اخلافت‪.‬‬ ‫مل أعد أح ُّبها‪ ،‬هذا حق‪ ،‬غري ّأن طاملا أحببتُها‬
‫يأيت املوت بصخب‬ ‫كان صويت يدعو الريح كي يدلف إىل مسمعيها‪.‬‬
‫رجل يرتدهيا‬‫كحذاء دون ِرجل‪ ،‬كبدلة بغري ُ‬ ‫لسواي ستكون‪ .‬كام كانت من قبل لقباليت‬ ‫َ‬ ‫لسواي‪،‬‬
‫َ‬
‫فص له وال إصبع فيه‬ ‫يأيت ليرضب بخاتم ال َّ‬ ‫ستكون لسواي بصوهتا‪ ،‬بجسدها البض‪ ،‬بعينيها الواسعتني‪.‬‬
‫يأيت ليرصخ دون فم‪ ،‬دون لسان‪ ،‬دون حنجرة‪.‬‬ ‫مل أعد أح ُّبها‪ ،‬هذا حق‪ ،‬غري ّأن طاملا أحببتُها‬
‫ترن‪ ،‬يتجاوب رجعها‬ ‫فإن خطاه ُّ‬ ‫ومع ذلك َّ‬ ‫ما أقرص عمر احلب! وما أطول أيام النسيان!‬
‫يرن رجعه‪ ،‬بصمت مثل شجرة‪.‬‬ ‫ودثاره ُّ‬ ‫ذراعي‬
‫َّ‬ ‫يف مثل هذه الليايل‪ ،‬كانت بني‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪310‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫بابلو نريودا‬

‫عن براكني مسقط رأيس العظيمة؟‬ ‫ال أعرف‪ ،‬أعرف أشياء قليلة‪ ،‬أرى بصعوبة‬
‫تعالوا تروا الدم يف الشوارع‬ ‫لكنّي أظ ُّن َّ‬
‫أن ألغنيته لون أزهار البنفسج الرطبة‬
‫تعالوا تروا‬ ‫أزهار البنفسج التي ألفت الرتبة‪،‬‬
‫الدم يف الشوارع‬ ‫ألن وجه املوت أخرض‬ ‫َّ‬
‫تعالوا تروا الدم‬ ‫ونظرة املوت خرضاء‬
‫يف الشوارع!‪.‬‬ ‫من ِّ‬
‫طل ورقة من بنفسج‬
‫ولون قاتم من شتاء ثائر‪.‬‬
‫‪ . 6‬مقطع من قصيدة (استيقظ أهيا احل َّطاب)‬ ‫لك َّن املوت أيض ًا يذرع العامل ممسك ًا مكنسة‬
‫من ديوان «النشيد العام»‬ ‫يلعق األرض باحث ًا عن ضحايا‬
‫املوت عىل املكنسة‬
‫لي ُع َّم السالم الغسق الزاحف‬ ‫هي لسان املوت يف البحث عن موتى‬
‫ليعم السالم النبيذ‬
‫ليعم السالم اجلرس‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫هي إبرة املوت يف البحث عن خيط‪.‬‬
‫ليعم السالم احلروف التي تنشدين‬ ‫َّ‬ ‫األرسة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫املوت فوق‬
‫وتصعد يف دمي‪ ،‬ناسجة‬ ‫فوق األفرشة اللينة‪ ،‬فوق األغطية السود‬
‫مع األرض واحلب النشيد القديم‬ ‫يعيش متح ِّفز ًا يف استلقاء‪ ،‬ثم فجأة ينفث‪:‬‬
‫ليعم السالم املدينة عند طلوع الشمس‬ ‫َّ‬ ‫ينفث بصوت ُمعتم ينفخ األغطية‬
‫ليعم السالم جمرى‬
‫حيث يستيقظ الرغيف‪َّ ،‬‬ ‫أرسة تسبح نحو مرفأ‬ ‫وهناك َّ‬
‫اجلذور‪ ،‬هنر املسيسيبي‬ ‫حيث تنتظر‪ ،‬يف لباس أمري البحر‪.‬‬
‫ليعم السالم قميص قريبي‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ليعم السالم الكتاب الشبيه بأثر من ريح‬ ‫َّ‬ ‫‪ .5‬مقطع من قصيدة (لنرشح بعض األمور)‬
‫ليعم السالم « كييف» وكوخلوزها العظيم‬ ‫َّ‬
‫ليعم السالم رماد ضحاياها‬ ‫َّ‬ ‫من ديوان «إسبانيا يف القلب»‬
‫ليعم السالم حديد‬
‫وضحاياها اآلخرين‪َّ ،‬‬ ‫ُّأيا اجلنراالت‬
‫ليعم السالم ساعي الربيد‬ ‫بروكلني األسود‪َّ ،‬‬ ‫ُّأيا اخلونة‪:‬‬
‫الذي يرت َّدد عىل املنزل تلو املنزل كالنهار‬ ‫انظروا إىل منزيل امليت‬
‫مصمم الرقص الذي جيهر بالقول‬ ‫ّ‬ ‫ليعم السالم‬ ‫َّ‬ ‫انظروا إىل إسبانيا اجلرحية‪.‬‬
‫يف ِق َم ِع الزهر األرجواين‬ ‫كل منزل ميت خيرج معدن ملتهب‬ ‫لكن من ّ‬
‫ليعم السالم يدي ال ُيمنى‬ ‫َّ‬ ‫َبدَ ل الزهور‪.‬‬
‫التي ال ترغب سوى يف كتابة «روزاريو»‪:‬‬ ‫كل ُجرح إسبانيا‬ ‫لكن من ّ‬
‫ليعم السالم «البوليفي» الغامض‬ ‫َّ‬ ‫تنبعث إسبانيا‪.‬‬
‫ليعم السالم‬ ‫كحجر من قصدير‪َّ ،‬‬ ‫كل طفل ميت تبزغ بندقية ذات عيون‬ ‫لكن من ّ‬
‫ليعم السالم‬
‫من أجل أن تتزوج‪َّ ،‬‬ ‫كل جريمة تولد رصاصات‬ ‫لكن من ّ‬
‫كل منارش اخلشب بضفاف هنر «بيوبيو»‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫سوف جتد يوم ًا مكان ًا‬
‫املمزق‬ ‫ليعم السالم القلب َّ‬ ‫َّ‬ ‫يف قلبكم‪.‬‬
‫إلسبانيا املغاوير‬ ‫تسألون ملاذا ال يتحدَّ ث شعري‬
‫ليعم السالم املتحف الصغري يف «فيومينغ»‬ ‫َّ‬ ‫عن احللم‪ ،‬عن أوراق الشجر‬

‫‪311‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫تقديم وترمجة‪ :‬د‪ .‬حسن الغُريف‬ ‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫لنذهب مع ًا إىل السينام‪ ،‬لنخرج‬ ‫حيث األن َع ُم فيه‬


‫كي نرشب أشدَّ النبيذ امحرار ًا‪.‬‬ ‫وسادة بقلب مطروز‬
‫ألحل املشكالت‬ ‫َّ‬ ‫فأنا مل أجيء‬ ‫ليعم السالم اخل َّباز وغرامياته‬ ‫َّ‬
‫أتيت‬
‫أتيت هنا ألغنِّي‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ليعم السالم‬
‫وليعم السالم الدقيق‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫لكي تُغنُّوا معي‪.‬‬ ‫كل القمح الذي س َينمو‬ ‫َّ‬
‫ب الباحث عن إيراقه‬ ‫حل ِّ‬
‫كل ا ُ‬ ‫َّ‬
‫‪ .7‬أغنية إىل َّأمهات املحاربني القتىل‬ ‫ليعم السالم‬
‫كل الذين يعيشون‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫كل األرايض َّ‬
‫وكل املياه‪.‬‬ ‫َّ‬
‫كال! َّإنم مل يموتوا! َّإنم وسط غبار البارود‬
‫واقفون‬ ‫آخذ عطلتي‪ ،‬سأعود‬
‫كمشاعل ملتهبة‪.‬‬ ‫إىل بيتي‪ ،‬وأحالمي‬
‫توحدت‬ ‫ظالهلم اخلالصة َّ‬ ‫سأرجع إىل «بتاغونيا»‬
‫يف ذلك املرعى ذي اللون النحايس‬ ‫حيث الريح تطرق االصطبالت‬
‫مثل ستارة من ريح مصفحة‬ ‫وحيث املحيط ُيبدِّ د الثلج‪.‬‬
‫مثل حاجز بلون عاصف‬ ‫فأنا لست سوى شاعر وأح ُّبكم مجيع ًا‬
‫مثل صدر السامء الالمرئي‪.‬‬ ‫سأميض تائه ًا يف العامل الذي أحب‪:‬‬
‫أ َّيتُها األ َّمهات‪َّ ،‬إنم واقفون وسط حقول القمح‬ ‫عمل املناجم‬ ‫يف وطني يعتقلون َّ‬
‫شاخمون مثل شمس الظهرية‬ ‫واجلندي يأمر القايض‬
‫يكتسحون السهول الرحبة‬ ‫أحب «أنا» ألقىص جذور‬ ‫لكنّي ُّ‬
‫مثل دقات جرس‪ ،‬مثل صوت أسود‬ ‫بلدي الصغري البالغ الربودة‪.‬‬
‫عرب أجساد مغتالة‬ ‫مرة‬
‫لو وجب أن أموت مائة َّ‬
‫يقرع صوت االنتصار‪.‬‬ ‫لرغبت أن أموت دائ ًام هنا‬ ‫ُ‬
‫مرة‬
‫لو وجب أن أولد مائة َّ‬
‫أ َّيتُها األخوات الواهنات مثل الغبار‬ ‫لرغبت أن أولد دائ ًام هنا‬
‫ُ‬
‫املتفجعة‬
‫ّ‬ ‫أ َّيتُها القلوب‬ ‫ربي‬‫بالقرب من شجر الصنوبر ال ّ‬
‫لتضعن إيامنك َّن يف أبنائك َّن املوتى‪.‬‬ ‫بالقرب من عواصف ريح اجلنوب‬
‫بالقرب من األجراس التي اشرتيت حاالً‪.‬‬
‫َّإنم ليسوا سوى جذور‬ ‫أال ال يفك ّْر َّيف أحد‪ .‬لنفكر‬
‫املخضبة بالدم‬
‫َّ‬ ‫حتت األحجار‬ ‫باألرض كلها‪ّ ،‬‬
‫لندق‬
‫عظامهم الفقرية املنترشة‬ ‫بحب عىل الطاولة‪.‬‬
‫مل ختتلط بالرتاب‬ ‫ال أريد رؤية الدم من جديد‬
‫تعض عىل الغبار اجلاف‬
‫ما زالت أفواههم ُّ‬ ‫ُيب ِّلل اخلبز‪ ،‬والفاصولياء السوداء‪،‬‬
‫وختتلج أيض ًا كمحيط من حديد‬ ‫واملوسيقى‪ ،‬أريد أن يأيت‬
‫وقبضاهتم املرفوعة عالي ًا تشجب املوت‪.‬‬ ‫معي عامل املناجم‪ ،‬والصبية‬
‫من كثري من األجساد املتهاوية ستنهض‬ ‫والبحار‬
‫َّ‬ ‫واملحامي‪،‬‬
‫حياة ال تُقهر‬ ‫وصانع ال ُّل ِ‬
‫عب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪312‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫بابلو نريودا‬

‫‪ . 8‬نشيد إىل فديريكو غارسيا لوركا‬ ‫أمهات‪ ،‬أبناء‪ ،‬رايات‪.‬‬


‫جسد واحد‪ ،‬حي مثل احلياة‪:‬‬
‫استطعت أن أبكي من اخلوف يف منزل مهجور‬ ‫ُ‬ ‫لو‬ ‫وجه بعينني ميتتني حيرس الدياجري‬
‫عيني وآكلهام‬
‫استطعت أن أنزع ّ‬ ‫ُ‬ ‫لو‬ ‫سيفه ُمرتع باآلمال األرض َّية‪.‬‬
‫لفعلت ذلك من أجل صوتك الربتقايل احلزين‬ ‫َد ْع َن‬
‫ومن أجل ِشعرك الذي تد َّفق صارخ ًا‪.‬‬ ‫جدن ك َُّل‬
‫َد ْع َن لباس احلداد‪ِّ َ ،‬‬
‫من أجلك ُصبغت املستشفيات بطالء أزرق‬ ‫دموعك َّن إىل أن تصري حديد ًا‪،‬‬
‫ونبتت املدارس‪ ،‬واألحياء الساحل َّية‬ ‫هنا سنرضب ليل هنار‬
‫واملالئكة اجلرحية نام هبا الريش‬ ‫هنا سنبصق ليل هنار‬
‫واألسامك الزفاف َّية تغطت بالزعانف‬ ‫هنا سنخطو ليل هنار‬
‫والقنافذ طارت نحو السامء‬ ‫إىل أن تنهار أبواب الكراهية‪.‬‬
‫من أجلك األوراش بصفائحها‬
‫امتألت باملالعق والدماء‬ ‫أنا ال أنسى آالم ُك َّن‪ ،‬إين أعرف‬
‫وابتلعت أحزمة ممزقة‬ ‫أبناءكُن‪.‬‬
‫واقتتلت بال ُقبل‬ ‫مزهو ًا بموهتم‬
‫َّ‬ ‫إن أكن‬
‫واتَّشحت بالبياض‪.‬‬ ‫مزهو بحياهتم‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫فإن أيض ًا‬
‫ّ‬
‫ضحكاهتم‬
‫حني تطري مرتدي ًا مالبس خوخية‬ ‫كانت تيضء يف املصانع الصامء‬
‫حني تضحك بضحكة من ُأرز عاصف‬ ‫يف « املرتو» خطاهم‬
‫حني ُت َغني ترتج الرشايني واألسنان‬ ‫ترن إىل جانبي َّ‬
‫كل يوم‪ ،‬بني‬ ‫كانت ُّ‬
‫احلنجرة واألصابع‬ ‫ِ‬
‫برتقال املرشق وشباك اجلنوب‬
‫أموت من فرط عذوبتك‬ ‫يف حرب املطابع‪ ،‬يف ورشات البنايات‬
‫أموت من أجل البحريات احلمراء‬ ‫رأيت قلوهبم ملتهبة بالنشاط والنار‪.‬‬ ‫ُ‬
‫حيث حتيا وسط اخلريف‬
‫كاب وإله مرضج بالدم‬ ‫مع فرس ٍ‬ ‫أ َّيتُها األ َّمهات‪ ،‬بقدر ما يف قلوبك َّن‬
‫أموت من أجل املقابر‬ ‫يف قلبي من احلزن واملوت‬
‫التي جتري كأهنار رماد َّية‬ ‫ليكن كغابة‬
‫بمياه وقبور‬ ‫أخصبها الدم الذي اغتال ابتساماتك َّن‪،‬‬
‫يف الليل‪ ،‬بني أجراس خمتنقة‪:‬‬ ‫َو ْل ْيأ ِو إليه ضباب اليقظة اخلانق‬
‫كأنا مهاجع‬ ‫أهنار واسعة َّ‬ ‫مع الوحدة التي أبلتها األيام‪.‬‬
‫جنود مرىض‪ ،‬يصعدون فجأة‬
‫نحو املن َّية عرب أهنار بأرقام ُرخام َّية‬ ‫أ َّيتُها األ َّمهات الاليت اخرتقه َّن الغم واملوت‬
‫وتيجان صدئة‪ ،‬وزيوت جنائزية‪.‬‬ ‫لتنظرن إىل قلب اليوم النبيل الذي يولد‬
‫أموت من أجل أن أراك لي ً‬
‫ال‬ ‫ولتعلمن أن موتاكن يبتسمون من هذه األرض‬
‫ترقب عبور الصلبان الغريقة‬ ‫تتحرك فوق سنابل القمح‪.‬‬ ‫وأك ُّفهم املرفوعة َّ‬
‫وأنت تبكي واقف ًا‬

‫‪313‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫تقديم وترمجة‪ :‬د‪ .‬حسن الغُريف‬ ‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫ينابيع‪ ،‬نامل‬ ‫ألنَّك أمام هنر املوت تبكي‬


‫يأيت الليل بالرسير‬ ‫بتوجع تبكي‬
‫بكاء مهجور تبكي‪ُّ ،‬‬
‫حيث يموت وسط خيوط العنكبوت جندي خ َّيالة وحيد‬ ‫تبكي‪ ،‬وأنت تبكي‪ ،‬بعينني مليئتني‬
‫تأيت وردة كراهية ودبابيس‬ ‫بالدموع‪ ،‬بالدموع‪ ،‬بالدموع‪.‬‬
‫صفر‬
‫يأيت زورق ُم ٌّ‬ ‫استطعت ليالً‪ ،‬وأنا تائه وحيد‬
‫ُ‬ ‫لو‬
‫يأيت يوم عاصف بطفل‬ ‫َّ‬
‫والظل والدخان‬ ‫أن ُأ ِّ‬
‫مجع النسيان‬
‫حني آيت أنا أيض ًا مع «أوليفريو» و«نوراه»‬ ‫فوق السكك احلديد َّية والسفن ال ُبخار َّية‬
‫و«فيثنتي ألكساندري» و«ديليا»‪،‬‬ ‫يف حفرة مظلمة‬
‫و «ماروكا» و «مالفا مارينا» و«ماريا لويزا» و«الركو»‬ ‫وأنا أمضغ الرماد‬
‫و«روبيا» و «رافائيل أو غاريت»‪،‬‬ ‫لفعلت ذلك من أجل هذه الشجرة التي أنت تنمو فيها‬
‫و«كوتابوس»‪« ،‬رافائيل ألربيت»‬ ‫مجعتَها‬
‫من أجل املياه الذهب َّية لألعشاش التي َّ‬
‫و«كارلوس» و«بيبي» و«مانولو ألتوال غريي»‪.‬‬ ‫ومن أجل اللبالب الذي يغ ّطي عظامك‬
‫و«موليناري»‪،‬‬ ‫ويبثك أرسار الليل‪.‬‬
‫و«روساليس» و«كونشا ميندث»‪،‬‬ ‫مدن برائحة البصل النَّدي‬
‫واآلخرين الذين نسيتهم‪.‬‬ ‫تنتظر مرورك وأنت تُغني بصوت أجش‬
‫أتوجك‪ُّ ،‬أيا الفتى املز َّين بالعنفوان‬ ‫دعني ّ‬ ‫تتبعك يف سكينة سفن احليتان‬
‫وبفراشة‪ُّ ،‬أيا الفتى النقي‬ ‫ويامم أخرض يبني له عش ًا يف َشعرك‬
‫حر رسمدي‬ ‫الشبيه بربق أسود ٍّ‬ ‫وكذلك قواقع وأسابيع‬
‫ونحن نتحدث مع ًا‬ ‫وصواري مطوية وأشجار كرز‬
‫اآلن‪ ،‬حيث ال يوجد أحد بني الصخور‬ ‫ترشع يف الدوران حني يطل‬
‫لنتك ّلم ببساطة كعادتنا أنت وأنا‪:‬‬ ‫رأسك الشاحب ذو العيون اخلمس عرشة‬
‫ما فائدة األشعار إن مل تكن للنَّدى؟‬ ‫وفمك الغارق يف الدم‪.‬‬
‫ما فائدة األشعار إن مل تكن هلذه الليلة‬
‫رتقنا فيها خنجر مرير‪ ،‬من أجل هذا النهار‪،‬‬ ‫التي اخ َ‬ ‫استطعت أن أمأل البلديات ُسخام ًا‬
‫ُ‬ ‫لو‬
‫هلذا الغسق‪ ،‬هلذا الركن املح ّطم‬ ‫وأن أحطم الساعات من شدَّ ة النحيب‬
‫يتأهب للموت قلب اإلنسان املطعون؟‬ ‫حيث َّ‬ ‫لفعلت ذلك كي أرى متى إىل منزلك‬
‫املمزقة‬
‫يأيت الصيف بشفاهه َّ‬
‫يف الليل خاصة‬ ‫ِ‬
‫يأيت أشخاص كثريون بألبسة احتضار‬
‫يف الليل هناك نجوم كثرية‬ ‫تأيت مناطق ذات بريق حزين‬
‫مجيعها داخل هنر‬ ‫تأيت حماريث ميتة وشقائق نعامن‬
‫مثل رشيط قرب نوافذ‬ ‫يأيت حفارو قبور وفرسان‬
‫البيوت املليئة بالفقراء‪.‬‬ ‫تأيت كواكب وخرائط مل َّطخة بالدماء‬
‫من بينهم مات أحدهم‪ ،‬ربام‬ ‫غواصون مغ ّطون بالرماد‬ ‫يأيت َّ‬
‫فقدوا وظائفهم يف املكاتب‬ ‫ي ُّرون صبايا‬‫يأيت أناس متقنعون َ ُ‬
‫يف املستشفيات‪ ،‬يف املصاعد‬ ‫اخرتقتهن نصال كبرية‬
‫يف املناجم‪،‬‬ ‫تأيت جذور‪ ،‬عروق‪ ،‬مستشفيات‪،‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪314‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫بابلو نريودا‬

‫تتأمل الكائنات اجلرحية بعناد‬


‫اعتمدنا يف ترمجة قصائد الشاعر عىل املصادر اآلتية‪:‬‬ ‫وهناك عزم وبكاء يف ّ‬
‫كل اجلهات‬
‫بينام النجوم جتري يف هنر ال هناية له‬
‫‪PABLO NERUDA‬‬ ‫هناك بكاء كثري يف النوافذ‬
‫‪Chant général‬‬ ‫هناك عتبات أضناها البكاء‬
‫‪Editions Gallimard, 1977, Paris.‬‬ ‫هناك مضاجع ابتُلت بالبكاء‬
‫‪Résidence sur la terre‬‬ ‫البكاء الذي يأيت كموجة تقضم األفرشة‪.‬‬
‫‪Editions Gallimard, 1972 Paris.‬‬
‫‪Pablo Neruda‬‬ ‫فِديريكو‬
‫‪Poètes d’aujourd’hui‬‬ ‫ها أنت ترى العامل‪ ،‬الشوارع‬
‫‪Jean Marcenac‬‬ ‫اخلل‬
‫‪Editions Seghers, 1976, Paris.‬‬ ‫الوداع يف املحطات‬
‫حني يرفع الدخان عجالته الصارمة‬
‫إىل حيث ال يشء‪،‬‬
‫سوى بعض احلواجز‪ ،‬بعض األحجار‪ ،‬بعض السكك‬
‫احلديدية‪.‬‬
‫هناك أناس كثريون يطرحون أسئلة‬
‫كل ناحية‬ ‫يف ِّ‬
‫هناك األعمى الدامي‪ ،‬والغاضب‪ ،‬واليائس‬
‫والبائس‪ ،‬والشجرة ذات األظافر‪،‬‬
‫والرشير حيمل أحقاده يف أ َث ِره‪.‬‬
‫هكذا هي احلياة يافديريكو‪ ،‬لك هنا‬
‫األشياء التي يمكن أن هتبها لك صداقتي‬
‫لرجل فحل وكئيب‬
‫علمت بنفسك أشياء كثرية‬ ‫َ‬ ‫لقد‬
‫وسوف تعلم أشياء أخرى شيئ ًا فشيئ ًا‪.‬‬

‫‪315‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫في آل َّيات الشعر َّية في رواية‬


‫ّ‬
‫القفاش‬ ‫«تصريح بالغياب» لمنتصر‬

‫حاتم الساملي*‬

‫فحسب‪ ،‬وإنَّام هي أيض ًا قائمة باألساس عىل لغة أدب َّية كُتبت‬ ‫مدخل‬
‫لب اخلطاب الذي نتل َّقاه ونتفاعل معه بوصفنا َّقراء‪.‬‬ ‫هبا‪ ،‬و هي ُّ‬ ‫أن يشتغل الدارس بآل َّيات‬ ‫يبدو من الغريب منذ الوهلة األوىل ْ‬
‫جاف يشعرنا‬ ‫ٍّ‬ ‫يب اجلام ُّيل لكنَّا إزاء رسد‬ ‫َف َل ْوال هذا اخلطاب األد ُّ‬ ‫السد الركن‬ ‫نثري‪ُ ،‬ي َعدُّ َّ‬ ‫روائي‬ ‫نص‬‫الشعر َّية (‪ )Poéticité‬يف ٍّ‬
‫‪1‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫با َملالل والكَالل‪ ،‬وما كان للروايات املكتوبة يف العرص احلديث‬ ‫الركّني يف بناء عامله املتخ َّيل ا ُملشكَّل من األحداث والشخص َّيات‬
‫شأن ُيذكر‪ .‬وعليه بدأت أنظار الباحثني تنْرصف إىل رصد‬ ‫الرسدي (‪)narrative Perspective‬‬ ‫ّ‬ ‫واألمكنة واألزمنة واملنظور‬
‫حتفية أغلب نصوصها الراهنة‬ ‫مظاهر شعرية الرواية العربية ا ُمل ِ‬ ‫النص‬ ‫والراوي (‪ ،)Narrateur‬ذلك َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫أن البحث يف ما يكون به ُّ‬
‫والرمز واألسطورة والصورة واملعجم‬ ‫حفاوة بالغة باإلحياء َّ‬ ‫عمل جيريه الدارس يف‬ ‫نص ًا شعر َّي ًا متو ِّفر ًا عىل طاقة أدب َّية عالية ٌ‬
‫َّ‬
‫واإليقاع لبناء أركاهنا الرسد َّية‪ ،‬فلم َت ُعد احلكاية املبن َّية عىل نظام‬ ‫شعري‪ ،‬باعتبار القصيدة سواء أكانت قديمة َأ ْم‬ ‫ّ‬ ‫نص‬
‫العادة عىل ٍّ‬
‫قصيص صارم َي ِصل األسباب بالنتائج يف الرواية التجريب َّية‬ ‫ّ‬ ‫املدونة اخلليقة بمثل هذا التناول‪ ،‬بحكم ما حيتوي‬ ‫حديثة هي َّ‬
‫ِ‬
‫أساس القصص َّية (‪َ ،)Narrativité‬ب ْل تستمدُّ هذه الرواية‬ ‫مقومات الشعر َّية كاإليقاع والصورة واملعجم‬ ‫نصها من ّ‬ ‫عليه ُّ‬
‫كالشعر‬ ‫تعزز بالغة خطاهبا ّ‬ ‫مشارب وروافدَ أخرى ّ‬ ‫َ‬ ‫قصص َّيتها من‬ ‫نصه عىل نحو‬ ‫املقومات املذكورة يف ّ‬ ‫يرصف ّ‬ ‫والرتكيب‪ ،‬فالشاعر ّ‬
‫والسينام‪ ،‬إىل غري ذلك من ألوان الفنون التي‬ ‫والرسم ّ‬ ‫واملوسيقى ّ‬ ‫روائي‬
‫ّ‬ ‫نثري‬
‫نص ّ‬ ‫خمصوص خيالف يف الغالب ترصيف الكالم يف ٍّ‬
‫أن تصهرها‬ ‫استطاعت الرواية بفضل حوار َّيتها(‪ْ ) Dialogisme‬‬
‫‪3‬‬
‫رسدي‪.‬‬
‫ّ‬
‫أن ّ‬
‫يول‬ ‫الرسدي‪ .‬فال غرو‪ -‬واحلال هذه‪ْ -‬‬ ‫ّ‬ ‫مكونات نسيجها‬‫يف ِّ‬
‫لفيف من الباحثني العرب اليوم وجوههم شطر الرواية العرب َّية‬ ‫الرواية ال تنبني عىل حكاية (‪ )Histoire‬ينقلها إلينا‬ ‫لك َّن ّ‬
‫‪4‬‬
‫املعارصة الستجالء أرسار شعر َّيتها وآيات مجال َّيتها‪.‬‬ ‫الرواة انطالق ًا من وجهة نظر( ‪ )Point de vue‬مع َّينة‬
‫‪2‬‬
‫راو من ُّ‬‫ٍ‬

‫‪Alain Rabatel : La construction textuelle du point de vue, Ed,‬‬ ‫* أكادميي من تونس‪.‬‬


‫‪Delachaux et Niestlé, SA. Lausanne-Paris 1998, pp.10-11.‬‬ ‫‪ 1‬ـ تعني «الشّ عريَّة» يف أغلب الدراسات جملة من الخصائص الفنيَّة والدالليَّة‬
‫‪  3‬ـ يعترب ميخائيل باختني (‪ )1975-1895‬الحواريَّة سمة ُمم ّيزة للجنس‬ ‫نصاً من النصوص األدب َّية متش ّبعاً بروح الشعر إيقاعاً وصورة وتركيباً‬
‫التي تجعل َّ‬
‫الروا ّيئ‪ ،‬لقيامه عىل تعدُّد اللّغات واألصوات‪ ،‬ولقدرته عىل صهر سائر األجناس‬ ‫ومعجامً ومع ًنى‪ ،‬حتّى وإ ْن كان ُّ‬
‫النص نرثيَّاً‪.‬‬
‫الفني‪ .‬ا ُنظر‪:‬‬
‫والخطابات يف نسيجه ّ‬ ‫‪  2‬ـ وجهة النظر مفهوم أشمل من التبئري(‪ )Focalisation‬ألنَّه يَ َس ُع املدركات‬
‫‪Mikhaîl Bakhtine: esthétique et théorie du roman, Ed Gallimard,‬‬ ‫واملواقف واملقاصد واألفكار‪ ،‬عىل خالف التبئري الذي يعني عند جريار جونات‬
‫‪Paris ,1978. pp.88-89.‬‬ ‫القصة ُم َبأّرة‬
‫الرسدي الذي تُقدَّم من خالله َّ‬
‫ّ‬ ‫عىل وجه التحديد املنظور‬
‫‪  4‬ـ األعامل التي متكَّنا من االطّالع عليها تكشف عن حرص الدارسني العرب عىل‬ ‫(‪ )Focalisé‬باختيار زاوية نظر معيَّنة تحدّد طبيعة التبئري‪ .‬لذلك فوجهة النظر‬
‫استصفاء شعريَّة الرواية العرب َّية وفق مقاربات مختلفة‪ ،‬ا ُنظر عىل سبيل املثال ال‬ ‫ليست رؤية فقط عىل نحو ما ذهب إليه جونات يف كتابه «صور ثالث»‪ ،‬وإنَّ ا‬
‫الحرص البحوث التالية‪:‬‬ ‫حملة ملوقف ومعنى ‪.‬ا ُنظر‪:‬‬
‫هي رؤية َّ‬
‫فوزي الزمريل‪ :‬شعريَّة الرواية العرب َّية بحث يف أشكال تأصيل الرواية العرب َّية‪،‬‬ ‫‪Gérard Genette : Figures III, Ed, Seuil, Paris, 1972,p. 203.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪316‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫يف آل َّيات الشعر َّية يف رواية «ترصيح بالغياب» ملنترص الق ّفاش‬

‫إن الشعر َّية بوصفها جمال عملنا يف رواية الق َّفاش ليست ذات‬ ‫َّ‬ ‫إن اهتاممنا يف هذا املقال باستخالص بعض آل َّيات الشعر َّية‬ ‫َّ‬
‫تقليدي راجع إىل وجود االستعارات والتشابيه‬ ‫ّ‬ ‫بالغي‬
‫ّ‬ ‫ُبعد‬ ‫يف رواية « ترصيح بالغياب» لألديب املرصي منترص الق َّفاش‬
‫ِ‬
‫واملجاز بصفة عا َّمة يف الكالم الذي صيغت به الرواية‪ ،‬بل هي‬ ‫مواصلة ملا قطعته الدراسات العرب َّية من أشواط حممودة يف هذا‬
‫رسدي من جهة كون طرائق الرسد القائمة أساس ًا عىل‬ ‫ّ‬ ‫ذات طابع‬ ‫النطاق ‪ .5‬لذلك نحاول يف هذا العمل تد ُّبر بعض مواطن الشعر َّية‬
‫ِ‬
‫القصيص هي التي ُت َعدّ ا ُملنشئة لشعر َّية‬ ‫اإلحياء والتصوير والتوقيع‬ ‫نص «ترصيح بالغياب»؛ ملا ملسناه يف الرواية مدار‬
‫ّ‬ ‫وآليات بنائها يف ّ‬
‫رواية «ترصيح بالغياب» يف مستوى العنوان والتصدير واملتن‬ ‫نظرنا من كثافة إحياء (‪ )Connotation‬وبالغة تصوير وانتقاء‬
‫‪6‬‬

‫الروائي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإليقاعي‪ ،‬كان هلا بالغ األثر‬
‫ّ‬ ‫باملكون‬
‫ّ‬ ‫معجمي وعناية واضحة‬ ‫ّ‬
‫يف صياغة رسد َّية روائ َّية ذات شعر َّية عالية‪ .‬فبالرسد ومن الرسد‬
‫‪ . 1‬يف شعر َّية العنوان‪« :‬ترصيح بالغياب» بالغة التلميح‬ ‫تستمدُّ هذه الرواية شعر َّيتها‪.‬‬

‫ال أساس َّي ًا لفهم األثر األد ّ‬


‫يب‪،‬‬ ‫أن ُيتَّخذ العنوان مدخ ً‬ ‫جرت العادة ْ‬
‫يعول فيه الكاتب عىل العنوان القادر‬ ‫الس َّيام جنس الرواية الذي ّ‬ ‫نرش مركز النرش الجامعي‪ ،‬تونس‪.2002 ،‬‬
‫عىل توجيه القارئ نحو مضمون الرواية وشواغلها يف املرحلة‬ ‫القص يف األدب العريب الحديث يف السبعينات‬
‫مح َّمد رشيد ثابت‪ :‬التجريب وف ّن ّ‬
‫يتجل ذلك يف‬ ‫الواقع َّية‪ ،‬وحتّى يف مرحلة الواقع َّية اجلديدة‪ ،‬مثلام ّ‬ ‫والثامنينات نرش كل َّية اآلداب بسوسة‪ ،‬ودار ابن زيدون للنرش تونس‪.2005 ،‬‬
‫خاصة روايات نجيب حمفوظ‬ ‫العديد من األعامل الروائ َّية العرب َّية‪َّ ،‬‬ ‫ا ُنظر عىل وجه التحديد مبحث«لغة الخطاب الروايئ من سلطة املعنى إىل فوىض‬
‫ِ‬
‫أن العنوان الواسم للرواية ُيدِّ د معناها‪،‬‬ ‫(‪ .)2006-1911‬ذلك َّ‬ ‫التفكّك» (ص ص ‪.)425-496‬‬
‫وإن تل َّفع العنوان بالرمز َّية‬
‫معي‪ْ ،‬‬ ‫القراء إىل أفق انتظار َّ‬ ‫ويقود َّ‬ ‫شعيب حليفي‪ :‬شعريَّة الرواية الفانتاستيكيَّة‪ ،‬نرش مشرتك بني دار األمان بالرباط‬
‫«الشحاذ» و«ال ّلص والكالب»‬ ‫ّ‬ ‫واإلحياء عىل غرار روايات‬ ‫ومنشورات االختالف بالجزائر والدار العرب َّية للعلوم‪ ،‬ببريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪،‬‬
‫فمهام يبلغ العنوان مبلغه من الغموض‬ ‫و«السمن واخلريف»‪ْ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫‪.2009‬‬
‫يد القارئ َم ْوجل ًا لفهمه انطالق ًا من متن الرواية‪ ،‬باعتبار العنوان‬ ‫َِ‬ ‫معل‪ :‬شعريَّة االلتباس يف «صخب البحرية» ملح ّمد البساطي‪،‬‬
‫سهرية شبشوب ّ‬
‫ال من أشكال التأليف خيتزل حمتوى األثر‪.‬‬ ‫شك ً‬ ‫نرش مكتبة عالء الدين صفاقس‪ -‬تونس‪.2009 ،‬‬
‫عبري حسن عالّم‪ :‬شعريَّة الرسد وسيميائ ّيته يف «مجاز العشق»‪ ،‬نرش دار الحوار‬
‫أن العنوان الوارد يف رواية الق َّفاش قائم عىل التضليل‬
‫بيد َّ‬ ‫للنرش والتوزيع‪ ،‬الالذقيَّة‪ ،‬الطبعة الثانية ‪.2012‬‬
‫وال ّلبس(‪ )7Ambivalence‬الذي ُيضفي عىل العنوان فيض ًا من‬ ‫‪  5‬ـ منترص القفَّاش‪ :‬ترصيح بالغياب‪ ،‬دار رشقيات للنرش والتوزيع‪ ،‬مرص‪ ،‬الطبعة‬
‫األوىل‪.1996 ،‬‬
‫‪  7‬ـ ذكر جون ميشال غوفار (‪ )J. M. Gouvard‬يف القسم األ َّول من مص َّنفه‬ ‫‪  6‬ـ اإليحاء أو املعنى ّ‬
‫الحاف موصول بالفنون ‪ -‬وعىل رأسها األدب‪ -‬وهو فعل‬
‫الفرنيس يقيم تفريقاً‬
‫َّ‬ ‫القيّم «التداوليَّة أدوات للتحليل األد ّيب» أ َّن اللّسان‬ ‫إبداعي عامده التعريض والتلميح واإلخفاء والتلطّف يف بناء املعنى‪ .‬فكلّام‬
‫ٌّ‬
‫بني مصطلحني متقاربني يبدوان مرتادفني للوهلة األوىل‪ ،‬وهام الل ّبس مبعنى‬ ‫كان املعنى أسرت كان أوغل يف التصوير والتعبري‪ ،‬لذلك يتجاوز الفعل اإليحا ّيئ‬
‫الغموض(‪ ) Ambigüité‬يقع يف ملفوظ (‪ )Enonce‬يفرتض تأويلني مختلفني‬ ‫الوظيفة التواصليَّة لتحقيق الوظيفة الجامليَّة التأثرييَّة‪ ،‬ناهيك أ َّن اإليحاء يُنجِز‬
‫ال يجوز األخذ بهام معاً (هذا الرضب من اللّبس عىل ثالثة أرضب حسب هذا‬ ‫يل‪ .‬ومع ذلك‬
‫معا َين مجازيَّة توحي بها العبارة امل ُستخدَمة يف غري معناها األص ّ‬
‫يعب عنه‬
‫تركيبي ولبس دال ّيل) واللبّس الذي ّ‬
‫ّ‬ ‫الباحث‪ :‬لبس معجمي ولبس‬ ‫يظل من املعاين الثواين املنتمية إىل معاين الداللة الترصيحيّة األصليَّة‬
‫فإ َّن اإليحاء ُّ‬
‫مصطلح ( ‪ )Ambivalence‬الذي نتب َّناه يف هذه الدراسة‪ ،‬ومؤدّاه أن يحتمل‬ ‫(‪ )Dénotation‬بحسب ما ذهبت إليه عاملة اللّسانيات أوركيوين يف كتابها‪:‬‬
‫معي تأويالً آخر‪ .‬ولعلّه من‬
‫تأويل َّ ٌ‬
‫ملفوظ من املالفيظ أكرث من تأويل ال يبطل ٌ‬ ‫يل بشكل واضح‪ ،‬لذلك يُتَ َو ّص ُل‬
‫«اإليحاء»‪ ،‬مؤكّدة أ َّن هذا املعنى اإليحا َّيئ غري ج ّ‬
‫املفيد أن نشري إىل أ َّن غوفار تع َّرض ملسألة اللبس يف الصفحة الثامنة والعرشين‬ ‫إليه بالسياق‪ .‬انظر‪:‬‬
‫من هذا القسم يف نطاق حديثه عن اإلحالة ( ‪ )Référence‬محدّدا ً مفهوم‬ ‫‪Catherine Kerbrat Orecchioni : la connotation, 3 éd, Presses‬‬
‫املرجعي (‪ .)Ambivalence Référentielle‬ويحسن بنا أ ْن نذكر أيضاً‬
‫ّ‬ ‫اللّبس‬ ‫‪universitaires de Lyon. 1977, pp.17-18.‬‬

‫‪317‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حاتم الساملي‬ ‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫عىل هذا النّحو يشمل ال ّلبس العنوان‪ ،‬ألنَّه قائم عىل احلذف‬ ‫ثم تتَّسع‬
‫فيتأهل للداللة عىل أكثر من معنى ‪ .‬ومن َّ‬
‫‪8‬‬
‫َّ‬ ‫الغموض‪،‬‬
‫يرصح‬ ‫الذي هو صورة من صور الغياب‪ .‬فعنوان الرواية ال ّ‬ ‫إن ال ّلبس‬
‫أدق َّ‬ ‫دائرة دالالته لقبول تأويالت شتَّى‪ ،‬أو ْ‬
‫لنقل بلغة ّ‬
‫باملبتدأ الذي يقدّ ره القارئ (هذا) وحتَّى اخلرب الكائن يف العنوان‬ ‫ا ُملج ِّلل العنوان هيبه عدَّ ة تأويالت ال يبطل بعضها بعض ًا‪.‬‬
‫النحوي الدال ُّيل حضور ًا‬
‫ُّ‬ ‫(ترصيح بالغياب) ال حيرض فيه اإلسناد‬
‫ثم فنحن لسنا إزاء‬ ‫تا َّم ًا‪ ،‬بل نقف عىل ما يشبه اإلسناد‪ .‬ومن َّ‬ ‫إن َّأول ما يطالعنا من هذه الرواية عنواهنا «ترصيح بالغياب»‬ ‫َّ‬
‫روائي واضح ومكتمل من الناحية الرتكيب َّية‪ ،‬وإنَّام نحن‬‫ّ‬ ‫عنوان‬ ‫إسنادي يقوم عىل مصدر‬ ‫ّ‬ ‫الوارد من الناحية النحو َّية مركَّب ًا شبه‬
‫مبني عىل بالغة احلذف‬ ‫حيال «شبه عنوان»‪ ،‬إن جازت العبارة‪ٌّ ،‬‬ ‫يدل بصيغته الرصف َّية االشتقاق َّية عىل مطلق احلدث (ترصيح)‬ ‫ُّ‬
‫والغياب‪ .‬ذلك أنَّنا ال نعلم علم اليقني َم ْن ا ُمل ِّ‬
‫رص ُح بالغياب؟ و َم ْن‬ ‫باجلر (بالغياب) املجرور فيه‬ ‫متع ّلق به مفعول به جاء مركًّب ًا حرف َّي ًا ّ‬
‫أي غياب يتحدَّ ث العنوان؟‬ ‫رص ُح له بالغياب؟ وعن ِّ‬‫ا ُمل َّ‬ ‫واللم («الـ القمر َّية» التي توحي‬‫معرفة باأللف َّ‬ ‫ورد كلمة مفردة َّ‬
‫بمعنى الغياب الرتباط القمر رغم ضيائه بالليل قسي ًام للنَّهار)‪.‬‬
‫أن الترصيح بأمر من األمور يقرتن باحلضور‬ ‫هذا عالوة عىل َّ‬ ‫ليعب عن‬
‫يتجرد من الزمن ِّ‬ ‫فهي أيض ًا من جهة االشتقاق مصدر َّ‬
‫واللم العنوان غموض ًا تو ّلد‬ ‫ال بالغياب الذي زاد تعريفه باأللف َّ‬ ‫ثم يتك َّثف املعنى ويصبح غائب ًا غائ ًام بفضل‬ ‫مطلق احلدث‪ ،‬ومن َّ‬
‫أن حييل عليه العنوان‪ ،‬الس َّيام َّ‬
‫أن‬ ‫مكن ْ‬ ‫منه لبس كبري يف املعنى ا ُمل ِ‬ ‫اإلطالق َّية التي استمدَّ ها من املصدرين املذكورين‪.‬‬
‫حمل املجرور املعرب بالكرسة‪ ،‬وقد ارتبط‬ ‫املصدر «غياب» جاء يف ّ‬
‫بمشتق قائم مقام الفعل مغرق يف التنكري (ترصيح)‪ .‬فهل يعني‬ ‫ٍّ‬ ‫الفرنيس‬
‫َّ‬ ‫يف هذا املضامر أ َّن ُمرت ِج َم ْي «معجم تحليل الخطاب» يع ّربان املقابل‬
‫أن الكرس الذي شمل العنوان تركيب َّي ًا هو وجه من وجوه بناء‬ ‫هذا َّ‬ ‫ِّمي املصطلح املذكور عىل هذا النحو «االلتباس‬
‫( ‪ )Ambigüité‬بالتباس مقد ْ‬
‫داللة روائ َّية تكرس القاعدة‪ ،‬وتُبنى بالتعريض الذي هو خالف‬ ‫ظاهرة ترتبط بإخراج امللفوظ يف صورة خطاب‪ .‬وتتولّد هذه الظاهرة عندما‬
‫ّ‬
‫والشك مثلام جاء يف‬ ‫املعب عن الباطن وال َب ْي‬
‫الترصيح وبالغياب ِّ‬ ‫تتوفَّر يف الجملة الواحدة معانٍ عدَّة‪ ،‬ومن ث َّم تكون قابلة لتُؤ َّول بطرق كثرية‪».‬‬
‫لسان العرب؟ ‪.9‬‬ ‫ا ُنظر‪:‬‬
‫‪Jean Michel Gouvard: la pragmatique outils pour l’analyse‬‬
‫يتأسس العنوان عىل شعر َّية التلميح وبالغة‬ ‫فعىل هذه َّ‬
‫الشاكلة َّ‬ ‫‪littéraire, Ed Armand colin .1998. p.28et pp.48 - 49.‬‬
‫معي أو حمدَّ د يمكن ْ‬
‫أن حييل‬ ‫ال ّلبس والغياب‪ ،‬فال حضور ملعنى َّ‬ ‫وانظر أيضاً‪:‬‬
‫متعي يف الواقع‪ .‬فإذا كان املصدر‬ ‫عىل حدث واضح وعىل مرجع ّ‬ ‫«معجم تحليل الخطاب» لباتريك شارودو ودومينيك منغنو‪ ،‬ترجمة عبد القادر‬
‫اجلر وفق‬‫«ترصيح» متعدّ ي ًا إىل مفعوله «بالغياب» بواسطة حرف ّ‬ ‫املهريي وحامدي صمود‪ ،‬نرش املركز الوطني للرتجمة‪ ،‬تونس‪ ،2008 ،‬ص ‪.36‬‬
‫فإن مضمون اخلرب الوارد يف العنوان‬ ‫صناعة النحاة وقواعدهم َّ‬ ‫‪  8‬ـ اشتغل قبلنا مح َّمد الخبو يف نطاق ندوة علميَّة دوليَّة نظَّمتها وحدة البحث‬
‫النيص وال يتعدَّ ى إىل اإلحالة عىل العامل‬
‫ّ‬ ‫الزم ال يفهم إال يف نطاقه‬ ‫يف التداول َّية بكل َّية اآلداب والعلوم اإلنسان َّية بالقريوان أيّام ‪30‬نوفمرب و‪-1‬‬
‫اخلارجي‪ ،‬ومن هنا ُي ْس ِهم ال ّلبس بمختلف جتل َّياته يف بناء شعر َّية‬
‫ّ‬ ‫‪2‬ديسمرب‪ 2006‬برواية «ترصيح بالغياب» ملنترص القفَّاش‪ ،‬مركِّزا ً عىل خصائص‬
‫الروائي‪ ،‬فيغدو العنوان من جهة كونه َّأول عتبة نلج‬ ‫ّ‬ ‫هذا العنوان‬ ‫اللبس املرجعي فيها‪.‬‬
‫من خالهلا عامل الرواية عتمة‪ .‬وهذا ‪ -‬يف تقديرنا ‪ -‬وجه من وجوه‬ ‫املرجعي يف الرواية املدروسة‪ ،‬فإنَّنا‬
‫ّ‬ ‫ولنئ ك َّنا نشرتك معه يف إثارة مسألة اللبس‬
‫توليد الشعر َّية يف رواية « ترصيح بالغياب»‪.‬‬ ‫نصل ذلك بقض َّية الشعريَّة التي هي أصل عملنا هذا وفصله‪ ،‬مستفيدين‬
‫استفادة كبرية من مقاله املذكور يف تفكُّر مبحث الشعريَّة يف رواية القفَّاش‪.‬‬
‫بنائي‬
‫مكون ّ‬ ‫هكذا نظرنا يف العنوان العتبة ‪ -‬العتمة باعتباره َّأول ِّ‬ ‫ا ُنظر‪:‬‬
‫يتعامل معه القارئ يف عالقته باألثر املدروس‪ ،‬فبدا لنا ُم ْلبِس ًا يف‬ ‫مح ّمد الخبو‪ :‬من خصائص اللّبس املرجعي يف الرواية «ترصيح بالغياب» ملنترص‬
‫قفّاش منوذجاً‪ ،‬ضمن أعامل ندوة (اإلحالة وقضاياها يف ضوء املقاربات اللّسان َّية‬
‫‪  9‬ـ ا ُنظر ابن منظور (جامل الدين)‪ :‬لسان العرب ‪ ،‬دار صادر‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت ـ‬ ‫والتداوليَّة)‪ ،‬منشورات مسكيلياين للنرش وكليَّة اآلداب بالقريوان‪ ،‬سبتمرب ‪،2008‬‬
‫لبنان‪ 1998 ،‬مادّة (غ‪.‬ي‪.‬ب)‪.‬‬ ‫ص ص ‪.166-157‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪318‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫يف آل َّيات الشعر َّية يف رواية «ترصيح بالغياب» ملنترص الق ّفاش‬

‫نالحظ َّأول ما نالحظ َّ‬ ‫ِ‬


‫أن الشاهد القو َّيل املستقدَ م يف هذا‬ ‫معي‪ ،‬قائ ًام عىل بالغة احلذف‬‫داللته‪ُ ،‬مْتنع ًا عن اإلحالة عىل مرجع َّ‬
‫تدل عىل وجود كالم سابق‬ ‫التصدير مسبوق بنقاط ثالث (‪ُّ )...‬‬ ‫خاصة من جهة النحو والرصف واملعجم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫والتلميح والغياب‪،‬‬
‫أن هلذا احلذف‬‫شك فيه َّ‬ ‫فمم ال َّ‬
‫خيص تعريف كلمة «اجليش»‪َّ .‬‬ ‫ُّ‬ ‫ثم فقد العنوان يف رواية الق َّفاش الوظيفة اإلشهار َّية‬ ‫ومن َّ‬
‫داللة‪ ،‬الس َّيام إذا وصلناه بمفهوم الغياب الراسخ يف عنوان‬ ‫الو ْسم التي تُناط به يف العادة ملا اكتنفه‬
‫اإلعالن َّية فقدانه وظيفة َ‬
‫‪10‬‬

‫الرواية‪ ،‬يضاف إىل ذلك توزيع القول املسرت َفد عىل ثالثة أسطر‬ ‫من لبس جعله مبن َّي ًا عىل غياب املعنى الرصيح ‪.‬‬
‫‪11‬‬

‫احلرة‪ ،‬ناهيك‬
‫تشبه من حيث بناؤها األسطر الشعر َّية يف القصيدة َّ‬
‫متدرجة من القرص إىل الطول الذي‬ ‫َّأنا جاءت يف تصدير الق َّفاش ّ‬ ‫نص مصاحب (‪)Paratexte‬‬ ‫أن التصدير(‪ٌّ )Epigraphe‬‬ ‫وبِ َم َّ‬
‫يبلغ أقىص مداه يف السطر األخري مع األخذ بعني االعتبار طريقة‬ ‫يب ويف استكشاف‬ ‫يسهم حسب جريار جونات يف إضاءة األثر األد ّ‬
‫رسم األسطر‪ ،‬إذ هي ليست باملتجانسة من جهة اإلخراج عىل‬ ‫أن نقف عىل طبيعته يف رواية‬ ‫مسارات املعنى فيه‪ ،‬فإنَّه من املفيد ْ‬
‫وجه الورقة من الناحية العمودية وال من الناحية األفق َّية‪ .‬فهي‬ ‫«ترصيح بالغياب» ‪.12‬‬
‫ال واحد ًا‪ِ .‬ز ْد عىل ذلك َّ‬
‫أن بناء اجلملة‬ ‫ال ختضع لتوزيع َيتَّخذ شك ً‬
‫األولني ونصف السطر الثاين‪.‬‬ ‫موزع عىل السطرين َّ‬ ‫األوىل متق ّطع َّ‬ ‫‪ .2‬يف شعر َّية التصدير‪ :‬بالغة اإلحياء‬
‫هلذا جاء التعريف متش ّظي ًا ال نظفر بمعناه للوهلة األوىل متى‬
‫ستضاف يف‬ ‫أن الق َّفاش أضفى بصمة ثانية ‪ 14‬عىل الشاهد ا ُمل َ‬ ‫أدركنا َّ‬ ‫ينص منترص الق َّفاش ـ مثلام جرت العادة يف معظم الروايات‬ ‫مل ّ‬
‫األصيل الذي قصده ابن منظور‪ ،‬إ ْذ‬
‫َّ‬ ‫حور بمقتضاها املعنى‬
‫روايته َّ‬ ‫العرب َّية ‪ -‬عىل كلمة تصدير‪ ،‬بل أورد شاهد ًا قول َّي ًا(‪)Citation‬‬
‫ِ‬
‫جاء يف كالم صاحب «لسان العرب»‪« :‬واجليش‪ :‬نبات له قضبان‬ ‫اسرتفده من معجم «لسان العرب» البن منظور(ت‪711‬هـ)‬
‫ض وله سنفة كثرية طوال مملوءة ح َّب ًا صغار ًا‪ .‬واجلمع‬ ‫طوال ُخ ْ ٌ‬ ‫ال عليه بعض التحوير دون كتابة عبارة تصدير‪ ،‬ممَّا جعل‬ ‫ُمدْ ِخ ً‬
‫جيوش» ‪.15‬‬ ‫هذه العتبة تنرصف عن الوظائف املوكولة إليها يف ا ُمل َ‬
‫تداول من‬
‫الكتابة األدب َّية املعارصة ‪.13‬‬
‫األصيل بالتصدير املكتوب يف الرواية تسرتعي‬ ‫َّ‬ ‫إذا قارنَّا الشاهد‬
‫تعمد عدم شكل الكلمة‬ ‫أن الق ّفاش َّ‬‫انتباهنا بعض األمور؛ منها َّ‬ ‫لقد جاء التصدير يف رواية «ترصيح بالغياب» عىل هذا النّحو‬
‫يعمق شعر ّية اللبس التي زرعها بدء ًا‬ ‫مدار احلدّ والتعريف حتَّى ّ‬ ‫ض‪ ،‬مملوء ح َّب ًا صغري ًا‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫طوال ُخ ْ ٌ‬ ‫نبات له ُقضبان‬
‫‪ ... «:‬واجليش ٌ‬
‫املعجمي‬
‫ّ‬ ‫«اجليش» املعن َّية بالضبط‬‫أن كلمة ِ‬ ‫خاصة َّ‬
‫َّ‬ ‫من العنوان‪،‬‬ ‫واجلمع جيوش»‪« .‬لسان العرب»‪.‬‬
‫والدال ّيل تبدأ بجيم مكسورة مثلام جاءت يف «لسان العرب»‬
‫«جيش» بفتح اجليم التي تعني اجلند ومجاعة‬ ‫لذلك تلتبس بكلمة َ‬
‫الناس يف احلرب‪ ،‬مثلام تعني غثيان النفس عندما جتيش وتفيض‬ ‫‪ 10‬ـ ذكر روالن بارت (‪ )1980-1915‬يف كتابه «املغامرة السيميولوج ّية» أ َّن‬
‫مؤذنة بموت صاحبها‪ ،‬ومنها حذف جزء من التعريف (وله‬ ‫العنوان ينهض أساساً بوظيفة إعالنيَّة إشهاريَّة من جهة كونه اختزاالً ملحتوى‬
‫سنفة كثرية طوال) العائد دالل َّي ًا عىل النبات‪ ،‬ومنها أيض ًا تغيري‬ ‫األثر‪ .‬ا ُنظر‪:‬‬
‫األصيل يف كالم ابن منظور واستبداله بعد ا َمل ْحو والتّبديل‬‫ّ‬ ‫املنعوت‬ ‫‪Roland Barthes : L’aventure sémiologique, Ed.Seuil, Paris. S D.‬‬
‫خب عن صفة املوصوف يف‬ ‫أن النعت ا ُمل ِ‬ ‫بمنعوت جديد‪ ،‬ذلك َّ‬ ‫‪p.33‬‬
‫أن النعت‬ ‫تصدير الق ّفاش يعود مبارشة عىل «نبات»‪ .‬عىل حني َّ‬ ‫‪  11‬ـ يعترب هيوك ( ‪ ) Hoek‬العنوان عالمة لغويَّة دالّة واسمة ملضمون األثر‬
‫األد ّيب‪ .‬ا ُنظر يف هذا النطاق كتابه‪:‬‬
‫‪  14‬ـ ا ُنظر‪:‬‬ ‫‪Leo. (H) Hoek : La marque du titre. la Haye. Paris .1981.‬‬
‫‪Antoine Compagnon: la Seconde main ou le travail de la citation,‬‬ ‫‪  12‬ـ ا ُنظر‪:‬‬
‫‪Ed Seuil 1979 Paris. pp. 68 - 70.‬‬ ‫‪Gérard genette: Seuils. Ed Seuil. Paris. 1987. pp. 134 - 149.‬‬
‫‪  15‬ـ ا ُنظر لسان العرب البن منظور‪ ،‬مادّة (ج‪ .‬ي‪ .‬ش)‪.‬‬ ‫‪  13‬ـ ا ُنظر‪.Ibid. pp.145 - 149 :‬‬

‫‪319‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حاتم الساملي‬ ‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫أن ال ّلبس يغشى التصدير املوسوم باحلذف‬ ‫ا ُملجتنَى من هذا ك ّله َّ‬ ‫كل‬‫األصيل موصول باملنعوت «سنفة» (وهي وعاء ِّ‬ ‫ّ‬ ‫يف الشاهد‬
‫اف‬
‫ستض َ‬ ‫َ‬
‫القول ا ُمل َ‬ ‫نح‬ ‫ال ومضمون ًا‪ ،‬ممّا ْ‬
‫يم ُ‬ ‫والبرت والتش ّظي شك ً‬ ‫ال كان أو مستدير ًا‪ .‬و ُي َق ُال ألكمة الباقالء واللوبياء‬ ‫ثمر‪ ،‬مستطي ً‬
‫أن أعمل فيه الق ّفاش معول احلذف والتغيري‬ ‫إىل الرواية ‪-‬بعد ْ‬ ‫والعدس وما أشبهها‪ :‬سنوف‪ ،‬واحدها سنف‪ .‬والسنف‪ :‬العود‬
‫والزيادة ‪-‬شعر ّي ًة ُم َضا َف ًة مدارها عىل خرق املألوف والسائد‬ ‫حيول الصفة من التأنيث‬ ‫وفضال عن ذلك ّ‬ ‫ً‬ ‫املجرد من الورق) ‪.16‬‬
‫َّ‬
‫واالحتكام إىل مجال َّية جديدة‪ ،‬هي مجال َّية التشظي( (�‪Fragmenta‬‬ ‫األصيل إىل صيغة املذكَّر لتعود‬
‫ّ‬ ‫لكوهنا راجعة عىل «سنفة» يف القول‬
‫أن يورد الق َّفاش تعريف ًا لكلمة‬
‫‪ .)tion‬فال عجب‪ ،‬واحلال هذه‪ْ ،‬‬ ‫بدالً النعت يف صيغة اجلمع «صغار ًا»‬ ‫الصفة عىل كلمة «نبات» م ِ‬
‫ُ‬
‫يؤهلها إلمكان َّية اإلحياء بمعنى‬ ‫«جيش» تُكتب بجيم مكسورة ممَّا ّ‬ ‫فكأن الق َّفاش يستعيض عن الكلّ‬ ‫َّ‬ ‫بنعت يف صيغة املفرد «صغريا»ً‬
‫املحور إحياء برغبة املؤ ّلف‬
‫َّ‬ ‫القضبان والقيد‪ .‬أليس يف هذا التصدير‬ ‫باجلزء الذي يرسم كتابته الشذر َّية املتش ّظية‪.‬‬
‫يف جتاوز قضبان القوالب األدب َّية اجلاهزة نحو كتابة روائ َّية ُم ْلبسة‬
‫َتن ِْسج خيوط رسد َّيتها عىل غري مثال سابق؟‬ ‫َأ ُي ْعزى حذف عبارة «سنفة» يف التصدير إىل كوهنا حتمل املعنى‬
‫ونقيضه مثلام ورد يف «لسان العرب» اخلصب واالمتالء يف مقابل‬
‫عىل هذا النحو وقفنا عىل بعض أرسار شعر َّية التصدير املتأتية‬ ‫الروائي يركّز عىل‬
‫ّ‬ ‫املجرد من الورق)؟ أم لكون‬ ‫َّ‬ ‫اجلدب (العود‬
‫أساس ًا من بالغة احلذف والغياب وكثافة اإلحياء الذي جعل‬ ‫األول من تعريف «جيش» الرتباطه بمعنى القضبان الذي‬ ‫القسم َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫متعي‬ ‫املعنى ملتبس ًا ممتنع ًا عن اإلحالة عىل مرجع واضح دقيق َّ‬ ‫للسلطة والتس ّلط‪َّ ،‬‬
‫خاصة‬ ‫يص الطويلة رموز ًا ُّ‬
‫حييلنا مبارشة عىل الع ّ‬
‫مهم‬
‫أن خطاب العتبات كالعنوان والتصدير باب ّ‬ ‫يف الواقع‪ ،‬وبِ َم َّ‬ ‫إذا أخذنا يف احلسبان إحلاح املتك ّلم يف الشاهد عىل طول القضبان‬
‫خارجي للرواية له بالغ‬ ‫ٌّ‬ ‫النص األ ّم وبنا ٌء‬
‫أن ندخل منه ّ‬ ‫يمكن ْ‬ ‫ولوهنا األخرض الذي يذكّرنا بالبدلة العسكر َّية والثكنات‬
‫الداخيل القائم أساس ًا عىل الرسد َّ‬
‫فإن قيمته الفن َّية‬ ‫ّ‬ ‫األثر عىل تركيبها‬ ‫والسجون؟ ور َّبام استخدم الق َّفاش كلمة «جيش» بكرس اجليم‬
‫الروائي‪ ،‬باعتباره عصب‬ ‫ّ‬ ‫حق الفهم بمعزل عن املتن‬ ‫ال تُفهم َّ‬ ‫انطالق ًا من جرياهنا يف ال ّلهجة املرص َّية لتسمية َّ‬
‫املؤسسة العسكر َّية‪،‬‬
‫الروائي‬ ‫يتوجه هبا‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫الكتابة الرسد َّية وجوهر الرسالة األدب َّية التي َّ‬ ‫«ج ْيش»‬ ‫ليعبوا عن معنى َ‬‫إذ يقول املرصيون «غيش» بكرس اجليم َّ‬
‫القراء‪ .‬و َّملا كان ذلك كذلك‪ ،‬نحاول يف هذا املستوى من عملنا‬ ‫إىل َّ‬ ‫يب الفصيح‪.‬‬ ‫بال ّلسان العر ّ‬
‫البحث يف بعض اآلل َّيات البانية لشعر َّية رواية «ترصيح بالغياب»‬
‫الروائي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يف مستوى املتن‬ ‫إن هذا التأويل ممكن متى ربطناه بمضمون الرواية الذي‬ ‫َّ‬
‫يتحدَّ ث عن حماولة الراوي استعادة روايته التي كان أودعها من‬
‫بالسد‬ ‫ِ‬
‫الروائي‪ :‬فتنة التصوير وبراعة التَّوقيع َّ‬
‫ّ‬ ‫‪ . 3‬يف شعر َّية املتن‬ ‫ذي قبل يف أحد املخازن بمدرسة متريض عسكر َّية قام فيها بواجبه‬
‫ب عىل‬‫العسكري وأزف موعد مغادرهتا مغادرة هنائ َّية‪ ،‬إال أنَّه ُي َ ُ‬
‫ّ‬
‫مستهل هذا القسم من العمل تقديم رواية «ترصيح‬ ‫ّ‬ ‫َ ْي ُسن بنا يف‬ ‫يعرفه عىل‬ ‫البقاء وتنتهي الرواية بتس ّلم الراوي ترصحي ًا بالغياب ّ‬
‫يتيس لنا يف موضع الحق التعامل مع متنها أثناء حماولتنا‬ ‫بالغياب» كي َّ‬ ‫هذا النحو‪« :‬هو ترصيح آخر بالغياب يبدو يف ط َّياته العديدة‬
‫تضم س َّت ًا‬
‫رصد آل َّيات الشعر َّية فيه‪ ،‬فهذه الرواية من احلجم الصغري ُّ‬ ‫رس مكنونة‪ ،‬وحمفوظة لكي ترس يف خدمة جديدة‪،...‬‬ ‫كلمة ٍّ‬
‫وستّني صفحة ذات مساحة نص َّية وجيزة ُو ّزعت فيها الفقرات بطريقة‬ ‫ترصيح تضعه يف حمفظتك جوار البطاقة الشخص َّية وال تدري إىل‬
‫قسمها‬ ‫شذر َّية َّاتذت أسلوب توزيع الكالم يف قصيدة النثر‪ .‬لذلك َّ‬ ‫متى ستحتفظ به ومن سيطلبه منك وملاذا‪ ،...‬اآلن وهذا الترصيح‬
‫ال جاءت أشبه ما تكون بمقاطع قصرية‬ ‫الق َّفاش إىل ستَّة وثالثني فص ً‬ ‫كل ما انتهت إليه الرواية التي جئت الستعادهتا‪.‬‬ ‫يف يدك يبدو كأنَّه ُّ‬
‫مبن َّية عىل طراز األقصوصة‪ ،‬و َم ُصوغة بلغة رسد َّية كثيفة تقرتب إىل‬ ‫صفحة منها‪ .‬اسمها‪ .‬هوامش كُتبت بحروف دقيقة جتهد يف‬
‫الشعر إيقاع ًا ومعج ًام وصور ًة وتركيب ًا‪.‬‬
‫حدٍّ كبري من ُروح ِّ‬ ‫قراءهتا كاملة »‪ .17‬‬

‫وإذا ما حاولنا ربط بنية الفصول وأشكاهلا النص َّية بالتصدير‬ ‫‪  16‬ـ ا ُنظر املرجع نفسه‪ ،‬مادّة (س‪.‬ن‪.‬ف)‪.‬‬
‫الذي‪ ‬وقفنا عليه من ذي قبل ِ‬
‫فه ْمنا سبب إحلاح منترص الق َّفاش‬ ‫‪  17‬ـ منترص القفّاش‪ :‬ترصيح بالغياب‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.74‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪320‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫يف آل َّيات الشعر َّية يف رواية «ترصيح بالغياب» ملنترص الق ّفاش‬

‫قصيص واضح‪ .‬وإىل ذلك فهي ال تُرسد‬ ‫ّ‬ ‫أحداث ت ُْروى يف مسار‬ ‫عىل استعامل صيغة اإلفراد يف نعت منعوت مجع (ح َّب ًا صغري َا)‬
‫وفق منطق قائم عىل التتابع واالنتظام‪ .‬فال وجود ألحداث تُنجز‬ ‫أن النعت يتبع املنعوت يف علم النَّحو فيطابقه يف عالمة‬ ‫واحلال َّ‬
‫أن الرسد‬‫عىل هيئة دقيقة ب ّينة فيمكن نقلها ورسدها‪ ،‬وآية ذلك َّ‬ ‫فيرتسخ لدينا حينئذ مبدأ كرس القاعدة‬
‫َّ‬ ‫اإلعراب واجلنس والعدد‬
‫وجه ًا بانفعاالت الذات الراوية متل ّبس ًا بعاملها‬
‫كثري ًا ما جييء ُم َّ‬ ‫النص الذي جاءت فصوله عىل شاكلة‬ ‫يف الكتابة الروائ َّية يف هذا ّ‬
‫الذهني وقد متكَّن منها احللم والالوعي َّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫الداخيل وبنشاطها‬
‫ّ‬ ‫ست وثالثني ح َّبة متناثرة ال رابط بينها سوى ما جييش يف الذات‬ ‫ٍّ‬
‫متكّن‪ .‬فاجلهة (‪ ) Modalité‬التي يصدر عنها الراوي يف هذا‬
‫‪20‬‬
‫املتك ّلمة يف الرواية من مشاعر وما يتوارد عليها من رؤى وأخيلة‪.‬‬

‫‪  20‬ـ تعني الجهة يف اللّغة واللّسانيات وجهة نظر املتكلّم إزاء امللفوظ الذي‬ ‫مدار هذه الرواية عىل حدث رئيس عىل غرار ما نجده يف‬
‫كل قول يتلفّظ به القائل يحمل مضموناً قضويّاً (املَقُول) ووجهة‬
‫ينجزه أل َّن َّ‬ ‫ويتلخص هذا احلدث الذي ُيم ّثل عصب املتن‬ ‫َّ‬ ‫األقصوصة‪،‬‬
‫اعتقاد تتَّصل مبوقف القائل من كالمه‪ ،‬لذلك ميكن أ ْن يكون املضمون يف جملتني‬ ‫تسلم الراوي ـ وهو موضوع الرسد يف اآلن نفسه ‪-‬‬ ‫الروائي يف ُّ‬
‫ّ‬
‫مختلفتني واحدا ً‪ ،‬ولك َّن جهة اعتقاد القائل يف كلتيهام مختلفة‪ ،‬عىل نحو ما‬ ‫ّ‬
‫كثري من الغموض واللبس‪ .‬ذلك‬ ‫الترصيح بالغياب الذي شابه ٌ‬
‫نالحظه مثالً يف الجملتني التاليتني‪:‬‬ ‫النص ليتس ّلم‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫أن الراوي يأيت إىل املدرسة العسكر َّية يف بداية‬
‫الجملة األوىل‪« :‬نزلت األمطار بكميَّات غزيرة»‪ .‬مضمون الجملة هاهنا مداره‬ ‫هذا الترصيح فال حيصل عليه بادئ األمر‪ .‬ولكن حيوز عليه يف‬
‫عىل نزول األمطار بكم َّيات غزيرة‪ .‬ووجهة نظر املتكلّم إزاءه هي اإلثبات امل ُد َرج‬ ‫النص والرواية قاب قوسني أو أدنى من هنايتها يف ظروف‬ ‫آخر ّ‬
‫يف دائرة الكالم «الواجب» املستق ّر الثابت يف ذهن املتكلّم عند سيبويه (ت‬ ‫غامضة جعلت النهاية بمنزلة َق ْفلة أقصوص َّية مباغتة ترتك انطباع ًا‬
‫‪180‬هـ)‪.‬‬ ‫حف بالنهاية‪ .‬ذلك‬ ‫وحيد ًا يف نفس القارئ مر ُّده إىل التعتيم الذي َّ‬
‫«لعل األمطار تنزل بكميَّات غزيرة»‪ .‬نالحظ أ َّن هذه الجملة‬
‫الجملة الثانية‪ّ :‬‬ ‫أن‬‫أن حمتوى الترصيح غري واضح وغري حمدَّ د بشكل حاسم‪ ،‬كام َّ‬ ‫َّ‬
‫تشرتك مع الجملة السابقة يف املضمون نفسه (نزول األمطار بكم ّيات غزيرة)‪،‬‬ ‫ظريف؟‬ ‫ّ‬ ‫هنائي أم هل هو‬
‫الراوي ال يعلم علم اليقني هل الترصيح ٌّ‬
‫التجي املنضوي إىل الكالم‬
‫غري أنَّها تختلف عنها يف جهة القول املوصولة مبعنى َّ‬ ‫كل‬ ‫لذلك يقول‪« :‬اآلن وهذا الترصيح يف يدك‪ ،‬يبدو كأنَّه (كذا) ُّ‬
‫أي إىل ما مل يثبت وقوعه أو عدم وقوعه يف ذهن‬
‫«غري الواجب» بتعبري سيبويه‪ْ ،‬‬ ‫ما انتهت إليه الرواية التي جئت الستعادهتا‪ .‬صفحة منها‪ .‬اسمها‪.‬‬
‫املتكلّم‪ ،‬عىل خالف الواجب الذي استق َّر يف ذهن املتكلّم وقوعه أو عدم وقوعه‪،‬‬ ‫هوامش كُتبت بحروف دقيقة جتهد يف قراءهتا كاملة‪ .‬يف يدك‪،‬‬
‫وباختصار فغري الواجب هو اإلمكان‪ .‬وبناء عىل ما سلف فحدث نزول املطر غري‬ ‫وأنت متدُّ ها لتحكم القايش حول وسطك‪ ،‬فتنتبه لعدم وجوده‪،‬‬
‫مستق ّر يف ذهن املتكلّم‪ .‬ويُستحسن يف هذا السياق اإلشارة إىل أ َّن سيبويه أدرج‬ ‫وإن شعرت بملمس نسيجه يف أناملك» ‪.18‬‬ ‫ْ‬
‫األمر والنهي والعرض واإلغراء والتَّحذير والتَّحضيض واالستفهام والدعاء والقسم‬
‫امل ُن َجز بال ُّنون الثقيلة وال ُّنون الخفيفة والرشط والجزاء والنفي والنداء والحروف‬ ‫أن أحداث الرواية تقع بني البداية‬ ‫فعىل هذه السبيل نالحظ َّ‬
‫لعل ‪ -‬كأنَّ» والفعل املضارع املنصوب يف مجال الكالم غري‬
‫امل ُش َّبهة بالفعل«ليت ـ َّ‬ ‫أن الكالم‬ ‫ا ُمل ْلبسة والنهاية املعتمة‪ ،‬الس َّيام إذا وضعنا نصب أعيننا َّ‬
‫الواجب يف العربيَّة‪ .‬ا ُنظر يف هذا النطاق‪:‬‬ ‫والتقني‬
‫ّ‬ ‫احلرصي‬
‫ّ‬ ‫الفني باملعنى‬
‫ّ‬ ‫عن األحداث يف هذا العمل‬
‫سيبويه‪ :‬الكتاب (‪4‬أجزاء)‪ ،‬تحقيق عبد السالم مح ّمد هارون‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬الطبعة‬ ‫والتجوز ‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫ُّ‬ ‫التسمح‬
‫ُّ‬ ‫ملفهوم حدث يف القصص‪ ،‬إنَّام هو من باب‬
‫الثالثة‪.1983 ،‬‬
‫السد عموماً ال‬
‫ولعلّه من املفيد أ ْن نشري أيضاً إىل أ َّن استخالص الجهة يف َّ‬ ‫يعزز هذا االستنتاج أنَّنا ال نقف يف متن الرواية عىل‬
‫والذي ّ‬
‫يتأت من تحليل الجمل والوحدات اللغويَّة بِقدْر َما يُستَصفى من طرائق بناء‬
‫َّ‬
‫عنارص الرسد أحداثاً وشخص َّيات وأمكنة وأزمنة ومنظورا ً تُنقل منه الحكاية‬ ‫‪  18‬ـ ترصيح بالغياب‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫النص‪ .‬لهذا فالجهة يف الرسد هي وجهة نظر الراوي حول مرسوده‬
‫عىل امتداد ّ‬ ‫‪  19‬ـ الحظ قبلنا مح َّمد الخبو هذه الظاهرة الفنيّة الرسديَّة يف الرواية مجال‬
‫ووجهة نظر الشخص َّية أيضاً إزاء ما تقول‪ .‬وهذه الفكرة يف التعامل مع الجهة‬ ‫عملنا‪ .‬ا ُنظر‪:‬‬
‫القصيص استمدَّها مح َّمد الخبو من أعامل ثلّة من علامء القصص‬
‫ّ‬ ‫النص‬
‫يف ّ‬ ‫املرجعي يف رواية «ترصيح بالغياب» ملنترص‬
‫ّ‬ ‫مح َّمد الخبو‪ :‬من خصائص اللّبس‬
‫األنجلوسكسون ّيني ُمحاوالً تطوير فرضياتها النظريَّة وتنصيصها يف ما اهت َّم به من‬ ‫قفّاش منوذجاً‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.160‬‬

‫‪321‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حاتم الساملي‬ ‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫مطوي أكثر من ط َّية‪ ،‬ومل‬


‫ٌّ‬ ‫املثال التَّاسع‪ :‬كأنَّه يف يدي اآلن‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫الشك‬ ‫النص يغلب عليها طابع نفي حصول احلدث ويرين عليها‬ ‫ّ‬
‫تشذب أطرافه‪ ،‬وكلامته عميقة السواد‪( .‬ص‪.)73‬‬ ‫َّ‬ ‫والتوهم‪ ،‬واألمثلة عىل ذلك كثرية‪ ،‬نكتفي يف هذا املقام بذكر‬
‫ُّ‬
‫بعضها‪:‬‬
‫تدل هذه النامذج املنتقاة من فصول خمتلفة من الرواية عىل ما‬ ‫ُّ‬
‫ّك يف األفعال‬ ‫ترشح به امللفوظات املرسودة من توجيه ُيشك ُ‬ ‫األول‪ :‬مل ْ َيكن الدخول سهالً‪ .‬ر َّبام ألنَّني تع َّثرت يف درجة‬
‫املثال َّ‬
‫وحجتنا عىل‬‫َّ‬ ‫املتحدَّ ث عنها‪ ،‬وينفي عنها طابع اليقني واإلثبات‪،‬‬ ‫حجر َّية من س ّلم الصغري‪ .‬ألنَّني كنت مرسع ًا فاصطدمت بأحد‬
‫والتوهم (ر َّبام‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫والشك‬ ‫ذلك هذه العبارات الطافحة بجهات الظ ّن‬ ‫أن هناك باب ًا‪( .‬ص‪)9‬‬ ‫توهت َّ‬
‫هيم باخلروج‪ ،‬أو ًّ‬ ‫ُّ‬
‫توهت ‪ -‬خت َّيلت ـ ظننت ‪ -‬كأنَّني‪ -‬كيف ـ تبدو‪ -‬كأنَّه)‪ .‬ففي‬ ‫‪َّ -‬‬
‫األول ال يتناول املتك ّلم احلدث (حدث الدخول) بقدر ما‬ ‫املثال َّ‬ ‫ظننت األمر ك ّله يف مت ِ‬
‫َناول يدي‪ْ .‬‬
‫أن أستعيد تلك‬ ‫ُ‬ ‫املثال ال ّثاين‪:‬‬
‫ُ‬
‫يركّز عىل طبيعته نافي ًا عنه معنى السهولة «مل يكن الدخول سهالً»‪.‬‬ ‫الرواية وأرحل‪( .‬ص‪)9‬‬
‫ُعمق جهة النَّفي الواسمة لكالم الراوي ال ّلبس املقرتن‬ ‫وعليه ت ِّ‬
‫أن نعرف ب ُيرس املكان املستهدَ ف‬ ‫باحلدث واملكان‪ .‬فال يمكن ْ‬ ‫العسكري الذي جيب ْ‬
‫أن يستلم خدمته‬ ‫ُّ‬ ‫املثال ال َّثالث‪ :‬كأنَّني‬
‫أن جهة االحتامل املر َد َفة بالتعبري عن‬ ‫املتحدَّ ث عنه‪ ،‬الس َّيام َّ‬ ‫الشنجي اآلن‪ .‬كأنّني‪(...‬ص‪)10‬‬
‫املرجعي من‬
‫ّ‬ ‫صعوبة حدث الدخول تسهم يف رفع درجة اللبس‬
‫ّ‬
‫والشك‬ ‫اللغوي «ر َّبام» ّ‬
‫الدال عىل االحتامل‬ ‫ّ‬ ‫املؤش‬
‫خالل استعامل ّ‬ ‫الرابع‪ :‬ور َّبام تنفتح أبواب متالصقة دفعة واحدة‪ ،‬فتشعر‬ ‫املثال َّ‬
‫املعب عن التخيري بني أكثر من إمكان متبوع ًا بالفعل‬ ‫واحلرف«أو» ّ‬ ‫وقتها باإلجهاد ‪ ...‬بداية ك ّلام مهمت بتذكّرها‪ ،‬استحالت إىل نقطة‬
‫«توهت» الذي يشكّك يف وجود باب يدخل منه املتك ّلم أصالً‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ضمن نقاط عديدة‪ .‬نقطة ر َّبام تتصدَّ ر املشهد ك ّله أو تكتفي بدور‬
‫ثم فنحن لسنا إزاء رسد حلدث واضح‪ ،‬بقدر ما نحن أمام‬ ‫ومن َّ‬ ‫الكورس أو بتذكّر َّأنا كانت بداية فقط يف يوم من األ َّيام‪( .‬ص‪.)11‬‬
‫أن هذه الصيغة ا َمل ُشو َبة‬
‫انطباع الراوي حيال ما حييل عليه‪ ،‬ناهيك َّ‬
‫والشك يف وقوع احلدث ُمتواتِرة يف الرسد عىل غرار ما‬ ‫ّ‬ ‫باالحتامل‬ ‫املثال اخلامس‪ :‬ظننت يف البداية َّأنا ستكون كلامت متداولة‬
‫نجده يف املثال الرابع «ور َّبام تنفتح أبواب متالصقة دفعة واحدة»‪.‬‬ ‫بينهم‪ ،‬متّفق ًا عليها من اجلميع‪( .‬ص‪.)12‬‬
‫ونالحظ يف املثال الثاين هيمنة جهة الظ ّن عىل خطاب الراوي‪،‬‬
‫ال قام به‪ ،‬وإنَّام يفصح عن جهة اعتقاده يف طبيعة‬ ‫فهو ال يرسد عم ً‬ ‫َ‬
‫نفسك فيام سيأيت من أ َّيام‪ ،‬تضيف‬ ‫السادس‪ :‬وخت ّي َ‬
‫لت‬ ‫املثال َّ‬
‫احلدث «ظننت األمر ك ّله يف متناول يدي أن أستعيد تلك الرواية‬ ‫وتنضم إىل حلقتهم‪ ،‬وترغب يف مقاطعة من‬
‫ُّ‬ ‫حقائق جديدة‪،‬‬
‫وأرحل»‪ ،‬لذلك فهو يقوم بإنجاز عمل النفي يف خصوص ُيرس‬ ‫يتك ّلم‪( .‬ص‪)13‬‬
‫الطِلبة التي جاء من أجلها (استعادة الرواية ومغادرة املدرسة‬
‫وجهة‬‫املعب عن جهة الظ ّن ا ُمل ّ‬ ‫ال بالفعل «ظ َّن» ّ‬‫متوس ً‬‫ّ‬ ‫العسكر َّية)‬ ‫السابع‪ :‬كيف ستصبح مسؤوالً عن تكدير طالبة تقف‬
‫املثال َّ‬
‫لكالم الراوي‪ .‬ونقف عىل األمر نفسه يف املثال اخلامس الذي‬ ‫أمامك (ص‪.)16‬‬
‫يبطل فيه املتك ّلم اعتقاده بوجود اتّفاق بني املوجودين يف هذه‬
‫املؤسسة العسكر َّية عىل خالف ما كان يعتقده يف بداية األمر‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫وستظل ظالل احلقائب‪ ،‬وتبدو مماثلة لظالهل ّن‪،‬‬ ‫املثال ال ّثامن‪:‬‬
‫ممَّا جيلل اللبس املقرتن بالرسد‪ ،‬ويف ذلك موطن من مواطن‬ ‫ّ‬ ‫وتتعدَّ د أشكال يدين ممسكتني إحدامها باألخرى‪ :‬نصف دائرة‬
‫نجز بالتقرير‪ ،‬وإنَّام ُيؤ َّدى باإلحياء‬
‫الشعر َّية يف بناء الرسد الذي ال ُي َ‬ ‫مث ّلث بدون قاعدة‪( .‬ص‪.)66‬‬
‫والتصوير املاثلني يف طغيان النزعة الذات َّية يف الرسد املتأتية أساس ًا‬
‫الشك والظ ّن واالحتامل واإلمكان املوصولة بالقائل‬ ‫ّ‬ ‫من جهات‬ ‫روايات عرب َّية عىل وجه الخصوص‪ .‬ا ُنظر‪:‬‬
‫وا َمل ُقول‪ ،‬الس َّيام إذا تد َّبرنا شحنة االنفعال واالستغراب املصاحبة‬ ‫مح ّمد الخبو‪ :‬مداخل إىل الخطاب اإلحا ّيل يف الرواية‪ ،‬مكتبة عالء الدين‪ ،‬صفاقس‬
‫لعمل االستفهام يف املثال السابع (كيف ستصبح مسؤوالً عن‬ ‫ـ تونس‪ ،2006 ،‬ص ص‪.201-162‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪322‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫يف آل َّيات الشعر َّية يف رواية «ترصيح بالغياب» ملنترص الق ّفاش‬

‫املثال التايل «أبواب تتواجد أمامك تفتحها وتدخل‪ ،‬ال تسمع‬ ‫تكدير طالبة تقف أمامك؟)‪.‬‬
‫يظل مفتوح ًا أو ُّ‬
‫حيل يف مكانه اجلديد‬ ‫صوت الغلق‪ ،‬جتد الباب ُّ‬
‫حتَّى تفتحه يف خطوة أخرى‪ .‬أحيان ًا كنت تطيل السري يف املسافة‬ ‫ومتى أنعمنا النظر يف األمثلة ا ُملستَدَ ّل هبا عىل كيف َّية بناء شعر َّية‬
‫التي تفصل بني بابني حتَّى تشتاق لفتح باب آخر» (ص‪.)11‬‬ ‫التوهم املستبدّ ة‬ ‫ُّ‬ ‫الرسد يف هذه الرواية ألفينا حضور ًا كثيف ًا جلهة‬
‫بكالم الراوي‪ ،‬من نحو ما نقف عليه يف املثال الثالث «كأنَّني‬
‫أن الباب بِ َم هو املرجع املحال عليه يف الرواية غري‬ ‫نتبي َّ‬ ‫هكذا َّ‬ ‫العسكري ‪...‬كأنَّني»‪ ،‬واملثال السادس «وخت َّيلت نفسك فيام سيأيت‬ ‫ّ‬
‫متحرك ًا‬
‫ّ‬ ‫ومرة أخرى‬ ‫مرة ثابت ًا َّ‬
‫مستقر عىل حال واحدة‪ ،‬إذ نلفيه َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫من أ َّيام تضيف حقائق جديدة »‪ ،‬واملثال الثامن «وستظل ظالل‬
‫غيش‬‫َ‬ ‫حيل يف مكانه اجلديد) ومن هنا نكتشف ما‬ ‫متبدّ الً (أو ُّ‬ ‫احلقائب‪ ،‬وتبدو مماثلة لظالهل َّن»‪ ،‬فصورة احلقائب مماثلة لظالل‬
‫تغي مر ُّده إىل أحوال الذات املتك ّلمة املتق ّلبة‪ ،‬مع العلم‬ ‫املرجع من ُّ‬ ‫ولعل الفعل‬ ‫الفتيات ال تبدو عىل هذا النحو إال يف ذهن املتك ّلم‪َّ ،‬‬
‫أن املرجع الواحد أحيان ًا يشمل أكثر من موضوع واحد موصوف‬ ‫َّ‬ ‫الدال عىل احلال منسوب ًا إىل الراوي خري‬ ‫«تبدو» يف صيغة املضارع ّ‬
‫«الظل» يف املثال الثامن‬‫ّ‬ ‫وفق مبدأ االنعكاس‪ ،‬من ذلك مرجع‬ ‫التوهم تتأكَّد حدَّ هتا يف تكرار‬ ‫ُّ‬ ‫أن جهة‬ ‫دليل عىل ذلك‪ ،‬خصوص ًا َّ‬
‫الذي سقناه منذ حني ينعكس عىل احلقائب والفتيات واليدين‬ ‫مطوي‬
‫ٌّ‬ ‫(كأن) يف املثال التاسع « كأنَّه يف يدي اآلن‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫حرف التشبيه‬
‫فتصبح هلذه املوصوفات ظالل متامثلة قائمة يف ذهن الراوي‬ ‫أكثر من ط َّية »‪ ،‬فحدث احلصول عىل الترصيح يغشاه االشتباه‬
‫املدرك هلذه املراجع غري خارجة عن نطاق وعيه هبا ‪.22‬‬ ‫والتوهم‪ .‬فهو ليس بيد املتك ّلم حتت ُّ‬
‫ترصفه متام ًا‪ ،‬وإنَّام يظ ُّن أنَّه‬ ‫ُّ‬
‫بحوزته‪ ،‬من جهة كون املتك ّلم فاقد ًا إرادته ووجوده يف هذه‬ ‫ْ‬
‫إن اإلحياء يف الرسد نابع أساس ًا من هتافت احلكاية بمفهومها‬ ‫َّ‬ ‫املدرسة العسكر َّية‪ ،‬شأنه يف ذلك شأن الترصيح موجود وغري‬
‫حدثي وهناية مرتوبة‬
‫ّ‬ ‫وحتول‬
‫التقليدي القائمة عىل بداية معلومة ُّ‬
‫ّ‬ ‫«كأن» يف‬ ‫َّ‬ ‫موجود يف آن واحد الندراج التشبيه بواسطة احلرف‬
‫قصيص متامسك يقوم عىل ربط األسباب بالنتائج‪ .‬ففي‬ ‫ّ‬ ‫وفق منطق‬ ‫تصور سيبويه‬ ‫الدال عىل اإلمكان وفق ُّ‬ ‫دائرة الكالم غري الواجب ّ‬
‫احلكائي حتَّى يغدو كاحل َّبة الصغرية‬
‫ّ‬ ‫املكون‬
‫هذه الرواية يتضاءل ّ‬ ‫تعرضنا له يف موضع سابق ‪ .‬فمن هذا املنطلق نالحظ َّ‬
‫أن‬ ‫‪21‬‬
‫الذي َّ‬
‫َضمر‬ ‫التي يتحدَّ ث عنها التصدير الذي اصطنعه الق َّفاش‪ ،‬لذلك ت ُ‬ ‫الشك‬ ‫ُّ‬ ‫كالم الراوي عىل التَّرصيح املوصوف يف خطابه يكتنفه‬
‫ّ‬
‫الشك والظ ّن‬ ‫املوجه بجهات‬‫َّ‬ ‫الرسدي‬
‫ّ‬ ‫احلكاية فيبسط اخلطاب‬ ‫مستقر يف ذهنه‪ ،‬غري ثابت يف اعتقاده‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن هذا األمر غري‬ ‫نظر ًا إىل َّ‬
‫والتوهم سلطانه عىل الرواية من أ ّم رأسها إىل أمخص قدميها ‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫ُّ‬ ‫ال للتَّعبري عن املعنى الذي أنجزه الراوي يف‬ ‫وإذا ما استعملنا فع ً‬
‫وعليه فتهافت احلبكة يف الظاهر يبطن منطق ًا غري ظاهر‪ ،‬هو يف‬ ‫أن الترصيح يف يدي اآلن»‪.‬‬ ‫«أشك يف َّ‬‫ُّ‬ ‫املثال التاسع قلنا‪:‬‬
‫حدِّ ذاته حبكة فيها جدَّ ة وطاقة تصوير َّية عالية‪ ،‬من جهة كون‬
‫حتول يف سامت املراجع املحال عليها‬ ‫هذه احلبكة تنهض عىل ُّ‬ ‫وبناء عىل ما سلف كان لغياب التأكُّد من وقوع احلدث عظيم‬
‫ال يف األحداث املرسودة‪ ،‬ألنَّنا يف «ترصيح بالغياب» لسنا إزاء‬ ‫ُّ‬
‫الشك يف‬ ‫األثر يف صياغة الرسد القائمة عىل وجهة نظر ملؤها‬
‫حتول يف أحوال الشخص َّية‬ ‫أحداث ماد َّية مثبتة‪ ،‬بقدر ما نحن إزاء ُّ‬ ‫يت‬
‫املرو ِّيات ويف بناء املرجع غري الثابت اخلاضع للتوجيه الذا ّ‬
‫الراوية السجينة احلسرية التي أرهقها االستبداد واإلكراه والظلم‬ ‫للمتك ّلم‪ ،‬من قبيل ما نقف عليه من ُّ‬
‫حتول يف صفات الباب يف‬

‫‪ - 22‬هذا االستنتاج سبقنا إليه مح ّمد الخبو‪ ،‬ا ُنظر مقاله «من خصائص اللّبس‬ ‫‪ 21‬ـ ذكر خالد ميالد يف أطروحته أ ّن سيبويه أدرج التشبيه بالحرف «كأنّ» يف‬
‫املرجعي يف الرواية «ترصيح بالغياب» ملنترص قفاش منوذجا»‪ ،‬مرجع مذكور‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نطاق الكالم غري الواجب القرتاب هذا الحرف من إفادة معنى ّ‬
‫الشك‪ ،‬انطالقاً من‬
‫ص‪.165‬‬ ‫املثال الذي ساقه صاحب«الكتاب» (كأ ّن زيدًا ُمنطلِ ٌق)‪ ،‬ففي هذا املثال تقرتب‬
‫والشك والوهم لَيُخْر ُجه‬
‫ّ‬ ‫‪  23‬ـ إ َّن قيام كتاب «ترصيح بالغياب» عىل الظ ّن‬ ‫أداة التشبيه من إفادة معنى ّ‬
‫الشك يف حدث االنطالق وعدم ثبوته يف اعتقاد‬
‫بحسب ما ذهب إليه سريل يف تعريفه للقصص امل ُف َرتض قيامه عىل األعامل‬ ‫املتكلّم‪ .‬ا ُنظر‪:‬‬
‫اإلثباتيّة امل ُصط َن َعة ( ‪ )Actes assertifs feintes‬من الدائرة القصصيّة‪ .‬ا ُنظر‪:‬‬ ‫خالد ميالد‪ :‬اإلنشاء يف العربيّة بني الرتكيب والداللة‪ ،‬منشورات كليَّة اآلداب‬
‫ ‪John. Searle, Sens et expression, Éd Minuit, Paris, 1982. p.115.‬‬ ‫مب ّنوبة ‪ ،2001 ،‬ص ‪.156‬‬

‫‪323‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حاتم الساملي‬ ‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫الضمني ا ُملن َْجز يف هذا ّ‬


‫النص هو الدعوة‬ ‫ّ‬ ‫‪)26 acte de langage‬‬ ‫املصورة يف التصدير تصوير ًا‬ ‫َّ‬ ‫كاحلب الصغار‬‫ّ‬ ‫فانشطرت أجزاء‬
‫إىل االنتصار عىل الغياب والقهر واحلرمان بحر َّية القلم وبسحر‬ ‫إحيائ َّي ًا غائر الداللة‪ ،‬ممَّا جعل املراجع أيض ًا يصيبها ما أصاب‬
‫محال معنى‬
‫البيان‪ :‬ذلك أنَّه« ال يوجد فعل خطاب ال يكون َّ‬ ‫ولعل هذا اإلحياء الكثيف‬ ‫َّ‬ ‫الشخص َّية من انشطار وانفصام ‪.24‬‬
‫ضمني أو أكثر»‪.27‬‬
‫ّ‬ ‫تفرد خطاهبا‬ ‫من أرسار شعر َّية الرواية املدروسة ومن دالئل ُّ‬
‫أن اإلحياء يتشكَّل بطرائق الرسد‬ ‫ثم نستخلص َّ‬ ‫الرسدي‪ ،‬ومن َّ‬
‫ّ‬
‫أن شعر َّية الرسد ال ُتتَم ّث ُل خارج إطار الصورة املبن َّية‬ ‫واحلق َّ‬
‫ُّ‬ ‫الرمز َّية والشعر َّية املتأتية‬ ‫القصيص املوغل يف َّ‬
‫ّ‬ ‫وبكيف َّيات القول‬
‫ِ‬
‫املتعاودة وبالصيغ الرصف َّية‬ ‫نجز بالرتاكيب النحو َّية‬‫عىل اإليقاع ُي َ‬ ‫التصويري يك ّثف الكالم عىل‬ ‫ّ‬ ‫بالسد‬
‫نجز َّ‬ ‫من بالغة العدول ا ُمل َ‬
‫املعجمي‪ .‬لذلك‬ ‫ّ‬ ‫املتواتِرة يف كثري من مقاطع الرواية وبالتشقيق‬ ‫املرجع تكثيف ًا كبري ًا جيعل الشعر َّية متو ّلدة من إحياءات الصور‬
‫فإن لتكرار بعض العبارات يف مواطن خمتلفة من األثر املدروس‬ ‫َّ‬ ‫توهات وأخيلة وظالل وأضغاث أحالم وما‬ ‫الرسد َّية‪ .25‬فالرواية ُّ‬
‫ثم تغرتف هذه العبارات‬ ‫مهم يف مضاعفة شعر َّية الرسد‪ .‬ومن ًّ‬ ‫دور ًا َّ ً‬ ‫تتحرك يف باطن الراوي الشخص َّية‬ ‫نسم ّيه أحداث ًا عىل وجه املجاز َّ‬
‫ا ُملو َّق َعة شحنتها التصوير َّية من تعاودها الكثيف الذي يذكّرنا‬ ‫وتتوارد عىل خلده وهو يف مدرسة متريض عسكر َّية جاءها بغية‬
‫ولعل أبرز مثال يؤكّد‬‫اإلحيائي الذي متتاز به األقصوصة‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بالتكرار‬ ‫هنائي بالغياب‪ ،‬فإذا به يدخل قضبان القهر‬ ‫ّ‬ ‫احلصول عىل ترصيح‬
‫ما ذهبنا إليه تكرار عبارة «ظالل» التي است ّظلت الرواية بوافر‬ ‫واالستعباد من جديد‪ ،‬وتنتهي الرواية بطريقة رسد َّية موغلة يف‬
‫ظل الذي ال أراه يتبع‬ ‫كأن ّ‬ ‫ال ملن سيأيت ص ‪َّ 20-‬‬ ‫ظالهلا (لست ظ ً‬ ‫أن الترصيح‬ ‫اإلحياء عندما نكتشف بمش َّقة يف القراءة والتأويل َّ‬
‫بظل ص‪ - 40‬تنترش ظالل‬ ‫وأكف عن مناداته ّ‬ ‫ُّ‬ ‫أثري ص ‪- 44‬‬ ‫النص هو الرواية نفسها التي جاء يف فاحتة‬ ‫بالغياب ا ُمل َس َّلم يف هناية ّ‬
‫الطالبات بعد الدراسة يوم اخلميس‪ ،‬األشجار يف أرجاء هذه‬ ‫النص الستعادهتا‪.‬‬‫ّ‬
‫املنطقة تنكرس عىل جذورها الظالل‪ ،‬وتستطيل ظالل احلقائب‬
‫ظل املبنى القريب الظالل التي‬ ‫وتبدو مماثلة لظالهل َّن‪ ،‬وحيجب ُّ‬ ‫نجود النظر يف هذه اخلامتة امللغزة حتَّى نقف‬ ‫أن ّ‬ ‫وحسبنا ْ‬
‫تدخله ص‪ 66-‬واضحة ظالل عساكر البوابة‪ ،‬وقد يصري ِّ‬
‫لكل‬ ‫عىل شعر َّية اإلحياء بالرسد ويف الرسد‪« :‬اآلن وهذا الترصيح‬
‫جسد من األجساد ظالن‪ :‬واحد يتقدَّ مه وآخر يتبعه ص‪67-‬‬ ‫كل ما انتهت إليه الرواية التي جئت‬ ‫يف يدك‪ ،‬يبدو كأنَّه (كذا) ُّ‬
‫تصحبها الظالل ص‪.)72‬‬ ‫األيدي تغادر مطارحها دون أن ْ‬ ‫الستعادهتا‪ .‬صفحة منها‪ .‬اسمها‪ .‬هوامش كتبت بحروف دقيقة‬
‫أن احلدث‬‫جتهد يف قراءهتا »‪( .‬ص‪ )74‬نستخلص من هذا الشاهد َّ‬
‫َنسج كلمة «ظالل» يف صيغة اجلمع أو‬ ‫فعىل هذه الشاكلة ت ُ‬ ‫الضمني املترسبِل باإلحياء يتم ّثل يف كتابة رواية «ترصيح‬
‫َّ‬ ‫الرسدي‬
‫َّ‬
‫التثنية أو اإلفراد شبكة معجم َّية كثيفة اإلحياء تبني بتواترها يف‬ ‫أن الكتابة حدث يستبدل الغياب باحلضور‬ ‫بالغياب» طاملا َّ‬
‫تتحرك يف معاين االنشطار‬ ‫مواضع كثرية من الرواية صورة رسد َّية َّ‬ ‫والترصيح بالتلميح ويتجاوز النسيان والفناء والسجن والقضبان‬
‫واالنفصام والرقابة والقمع املس ّلط عىل الشخص َّية املحور َّية‬ ‫بالصياغة واإلنشاء‪ .‬فام أبعد درجات شعر َّية هذه الرواية! فهي‬
‫داخل َّي ًا وخارج َّي ًا‪َ ،‬أل ْيست «ظالل» هبذا املعنى صورة جماز َّية‬ ‫أشبه ما تكون بلوحة تشكيل َّية ترسم أمام ناظرينا إ َّبان قراءهتا‪،‬‬
‫وتكررت بصيغ‬ ‫َّ‬ ‫للسجن والقضبان التي ُذكرت يف التصدير‬ ‫ولب الرسد وغايته ومنتهاه‪ .‬وعليه‬ ‫فتغدو الكتابة مرجع املراجع َّ‬
‫خمتلفة يف متن الرواية؟ فيغدو «الترصيح بالغياب» عالمة عىل‬ ‫غوي األكرب(‪Macro-‬‬ ‫إن العمل ال ُّل َّ‬
‫لع ّلنا ال نبالغ يف يشء إذا قلنا َّ‬
‫يب‪ ،‬وعىل استمرار بشاعة‬ ‫تواصل سلب احلر َّيات يف العامل العر ّ‬
‫تقتص منه يف اليقظة‬ ‫َّ‬ ‫السلطة تالحق املواطن العريب وتريد ْ‬
‫أن‬ ‫املرجعي يف الرواية‪ ،‬مرجع مذكور‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ 24‬ـ مح ّمد الخبو‪ :‬من خصائص اللبس‬
‫كالظل الذي يالزمه إىل آخر‬ ‫ّ‬ ‫وحتّى يف منامه وأحالمه‪ .‬فهي‬ ‫ص‪.166‬‬
‫فإن كلمة «ظالل»‬ ‫رمق يف حياته‪ ،‬ور َّبام تالحقه بعد مماته‪ .‬لذلك َّ‬ ‫‪  25‬ـ يعترب كوهني يف كتابه «اللّغة السامية» تكثيف الكالم بشحنه بإيحاءات‬
‫مختلفة من أبرز الوظائف امل َنوطة بالصورة الشعريّة‪ .‬ا ُنظر‪:‬‬
‫‪  26‬ـ معجم تحليل الخطاب‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.349‬‬ ‫‪Jean Cohen : Le haut langage. Ed Flammarion. Paris. 1979. pp.‬‬
‫‪  27‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪138 - 141.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪324‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫يف آل َّيات الشعر َّية يف رواية «ترصيح بالغياب» ملنترص الق ّفاش‬

‫إن هذا اإليقاع املنتظم القائم عىل تكرار املركَّب اإلضايف ( صدى‬ ‫َّ‬ ‫وغريها من الكلامت اإلحيائ َّية يف هذه الرواية مثل ( دخول‪-‬‬
‫احلوش‪ -‬صدى احلامم‪ -‬صدى مكتب الرس َّية ـ صدى املخزن‪-‬‬ ‫خروج‪ -‬س ّلم‪ -‬صوت ـ ترصيح‪ -‬غياب‪ -‬سجن‪ -‬خمزن‪ -‬ظلمة‬
‫صدى الطرقة ـ صدى السكن‪ -‬صدى مكتب املقدَّ م) املتع ّلق به‬ ‫‪ -‬الباب‪ -‬إغالق‪ -‬من الداخل‪ -‬من اخلارج‪ -‬الرائحة‪ -‬صدى ‪-‬‬
‫اسمي مسبوق بنقطتني عموديتني‬ ‫ّ‬ ‫جل األمثلة املذكورة مركَّب‬ ‫يف ّ‬ ‫نجز بميزان التفعيلة‬‫احلائط ‪ )...‬ختلق بتعاودها إيقاع ًا رسد َّي ًا ال ُي َ‬
‫(انتصاب سارية علم ‪: -‬مياه تندلق حتّى تغرقه متام ًا ‪ :-‬مصباح دائ ًام‬ ‫وموسيقى الشعر‪ ،‬بقدر ما ُيو َّقع بالصورة الرسد َّية القائمة عىل‬
‫يبحث‪ : -‬أبواب تتوارى‪ -‬األيدي تغادر مطارحها‪ :-‬س ّلم ينتبه عندما‬ ‫واملعجمي لبعض الكلامت‪ .‬وهذا‬ ‫ّ‬ ‫الرتكيبي والصويت‬
‫ّ‬ ‫التكرار‬
‫جتعله األقدام قبو ًا خلطواهتا‪ :-‬طالء حوائط‪ ،‬سجادة‪ ،‬مقبض حديد)‬ ‫اإليقاعي تتحدَّ د هيئته وفق ما تعيشه الشخص َّية املتك ّلمة‬‫ّ‬ ‫النظام‬
‫يصنع صورة رسد َّية مدارها عىل إحساس الراوي املسلوب حر ّيته يف‬ ‫الكم اهلائل من‬ ‫ّ‬ ‫من أحوال نفس َّية ومن انفصام وانشطار‪ ،‬بدليل‬
‫املجسمة يف‬‫َّ‬ ‫املدرسة العسكر َّية بمعاين الرتابة واالستالب واملعاناة‬ ‫ثم‬
‫النقاط السوداء املتناثرة يف الرواية كح َّبات التصدير‪ .‬ومن َّ‬
‫إضايف ويف تعاود‬
‫ّ‬ ‫كل مركَّب‬‫«الصاد» يف رأس ّ‬
‫الصفريي ّ‬
‫ّ‬ ‫تعاود احلرف‬ ‫فإن اإليقاع املنشطر القائم عىل تراكيب نحو َّية غري مكتملة وعىل‬ ‫َّ‬
‫األسامء الدا ّلة ‪-‬عىل خالف األفعال ‪ -‬عىل الثبات واستمرار الوضع‬ ‫مجل ُمت ََز َلة مبن َّية عىل احلذف وج ٌه من وجوه الشخص َّية احلبيسة‬
‫املعمقة ملعنى الغموض‬ ‫السلبي القائم‪ ،‬ويف تكرار املفردات النكرة ّ‬
‫ّ‬ ‫املنشطرة‪ ،‬فتُعاضد البنية اإليقاع َّية الصورة الرسد َّية يف بناء املعنى‬
‫وانسداد األفق والسلب َّية (مياه مغرقة ‪ -‬مصباح يبحث عن اإلنارة‪-‬‬ ‫التصويري‬
‫َّ‬ ‫أن نعترب اإليقاع‬‫النص الق َّفايش‪ .‬ويمكن ْ‬ ‫ال ّلطيف يف ّ‬
‫حرفان يتامديان يف الصغر‪ -‬س ّلم َّ‬
‫يتحول إىل قبو)‪.‬‬ ‫النص‪ ،‬متأتّية من هذه‬ ‫حينئذ خصلة فن َّية منشئة لشعر َّية عالية هلذا ّ‬
‫«ال ّلغة السامية» التي كُتب هبا‪ ،‬إذا ما استعرنا العبارة من «جون‬
‫فلعل ما يك ّثف شعر َّية هذه الصورة وقع األصوات املختلفة‬ ‫َّ‬ ‫كوهني»‪ .‬وكفى بنا شاهد ًا عىل ما نقول هذا املقطع املو َّقع احلامل‬
‫التي تعتمل يف باطن الراوي الشخص َّية‪ :‬أصوات القمع والكبت‬ ‫لصورة رسد َّية كثيفة‪:‬‬
‫الرمزي‬
‫ّ‬ ‫بح ُث عنها يف صوته املعادل‬
‫واحلرمان واحلر َّية التي َي َ‬
‫وثمر ُت ُه روايت ُه املنسوج ُة بحضور الكلمة نفي ًا للغياب‬
‫لقلمه َ‬ ‫« صدى احلوش‪ :‬انتصاب سارية علم‪ ،‬يرفرف فوق رؤوسهن‬
‫وحتدّ ي ًا لسلطة الرقابة واملنع‪.‬‬
‫صدى احلامم‪ :‬مياه تندلق حتى تغرقه متام ًا‬
‫الرسدي وجه ًا آخر متو ّلد ًا من الصوت‬ ‫ّ‬ ‫عىل َّ‬
‫أن لإليقاع‬
‫يستقر عىل سمت واحد‬ ‫ُّ‬ ‫القص‪ .‬فهو ال‬
‫ّ‬ ‫الرسدي القائم بوظيفة‬
‫ّ‬ ‫صدى مكتب الرس َّية‪ :‬مصباح دائ ًام يبحث عن وسيلة لينري يف‬
‫يف تصوير املشاهد واألحداث وما يعتمل يف النفس‪ ،‬وآية ذلك‬ ‫مكان آخر‬
‫الرواية يرسد بضمري املتك ّلم املفرد حكاية‬ ‫األول من ّ‬
‫أنَّه يف الفصل َّ‬
‫األول املأخوذ من‬ ‫هو أبرز أطرافها عىل غرار ما رأيناه يف املثال َّ‬ ‫صدى املخزن‪ :‬أبواب تتوارى لتبطل عمل املفاتيح‪.‬‬
‫يتحول إىل‬
‫َّ‬ ‫النص رسعان ما‬ ‫الصفحة التاسعة من الرواية‪ .‬ولك َّن َّ‬
‫القص بضمري املخا َطب املفرد املذكَّر (أنت)‪ ،‬عىل نحو ما وقفنا‬ ‫ّ‬ ‫صدى الفصول‪ :‬األيدي تغادر مطارحها دون أن تصحبها‬
‫القص يبسط‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫عليه يف املثالني (‪ )6،7‬الس َّيام أن هذا الرضب من‬ ‫الظالل‪.‬‬
‫األول والفصل الثاين‬ ‫نفوذه عىل معظم الفصول ماعدا الفصل َّ‬
‫ش والفصل الثاين والعرشين‪ .‬ومن هنا «يزدوج املرجع القو ّيل‪:‬‬ ‫َع َ َ‬ ‫صدى الطرقة‪ :‬من‪...‬إىل‪ ...‬حرفان يتامديان يف الصغر‬
‫ال خيتلف عن مقوله يف مقام‬ ‫ال ومقوالً‪ ،‬ويكون قائ ً‬ ‫يكون قائ ً‬
‫وتذررت‪ ،‬وتش َّظت‬ ‫َّ‬ ‫الذ َات فيها‬
‫اخلدمة العسكر َّية التي تفتَّتت ّ‬ ‫صدى السكن‪ :‬س ّلم ينتبه عندما جتعله األقدام قبو ًا خلطواهتا‬
‫حممد اخلبو ‪. 28‬‬‫حتَّى َلتنكر الذات ذاهتا»‪ ،‬عىل حدّ تعبري َّ‬
‫صدى مكتب املقدم‪ :‬طالء حوائط‪ ،‬سجادة‪ ،‬مقبض باب»‪(.‬ص‬
‫املرجعي يف الرواية‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.162‬‬
‫ّ‬ ‫‪ 28‬ـ مح َّمد الخبو‪ :‬من خصائص اللبس‬ ‫ص‪)62-61‬‬

‫‪325‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حاتم الساملي‬ ‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬

‫واآلخرين إدراك ًا مبن َّي ًا عىل الوهم والتخاييل ‪.31‬‬ ‫ولعل يف هذه املرواحة بني الصوتني الرسديني داخل أعامق‬ ‫َّ‬
‫متزق بني الواقع‬ ‫حتس به من ُّ‬ ‫الشخص َّية القائلة احلبيسة جتسي ًام ملا ُّ‬
‫الرسدي القائم عىل صوتني‬
‫ُّ‬ ‫عىل هذا النحو يكون اإليقاع‬ ‫يعزز ما ذكرناه سابق ًا‬ ‫والوهم وبني املوجود واملنشود‪ .‬فهذا األمر ّ‬
‫يبدوان يف البداية خمتلفني صورة تعبري َّية ملا تعيشه الشخص َّية‬ ‫حول اهتامم الرواية برصد احلركة الباطن َّية الذهن َّية للشخص َّية‪ ،‬ممَّا‬
‫يف املدرسة العسكر َّية من انفصام وازدواج ترتَّب عليهام فقدان‬ ‫إن أغلب األقوال يف «ترصيح بالغياب» هي‬ ‫يسمح لنا بالقول َّ‬
‫فعمه‬ ‫الراوي باعتباره العون الناهض بعمل َّية الرسد هو َّيته َّ‬ ‫حرة مبارشة‬ ‫أقوال غري منطوقة تنبثق من أعامق الشخص َّية بطريقة َّ‬
‫الرسدي املزدوج الذي ذكرنا ومن‬ ‫ّ‬ ‫املتأت من اإليقاع‬
‫الغموض ِّ‬ ‫فوري حلظة ُماطبة ذاهتا خطاب ًا باطن َّي ًا غري مسموع وغري‬ ‫ّ‬ ‫وبشكل‬
‫احلر(‪)Style indirect libre‬‬ ‫يح ًة للقارئ فرصة‬ ‫ِ‬
‫استدعاء األسلوب غري املبارش ّ‬ ‫بأي أفعال القول وبأ َّية عالمة تقديم ُمت َ‬ ‫مسبوق ّ‬
‫أيض ًا يف بعض املواطن من الرواية إيقاع ًا رسد َّي ًا كأنَّه حم َّطة‬ ‫اال ّطالع عىل ما يعتمل يف باطنها إ َّبان انبثاقه ‪.‬‬
‫‪29‬‬

‫اسرتاحة بني اخلطاب بضمري املتك ّلم واخلطاب بضمري املخا َطب‬
‫املؤسس عىل‬ ‫َّ‬ ‫(أنت)‪ .‬فيسهم عندئذ يف كرس نسق إيقاع الرسد‬ ‫فالنص بر َّمته يمكن أن يكون خطاب ًا مبارش ًا‬
‫ُّ‬ ‫وبناء عىل ذلك‬
‫الضمريين املذكورين سابق ًا إسهامه يف تدثري الراوي املتك ّلم‬ ‫يتوجه به املتك ّلم إىل وجه اآلخر أي إىل ظ ّله‪ ،‬إ ْذ يقول يف الفصل‬ ‫َّ‬
‫بغاللة من الغموض جعلته متعدّ د الوجوه أو الظالل‪ ،‬ولنا يف‬ ‫ِ‬ ‫ظل الذي ال أراه يتبع أثري يف هذه احللكة‬ ‫َّ‬
‫الثاين والعرشين‪« :‬كأن ّ‬
‫هذا املثال املأخوذ من الفصل األخري من الرواية شاهد بليغ‬ ‫أن‬ ‫وددت ْ‬ ‫ُ‬ ‫قوة دون صوت‪.‬‬ ‫العميقة املمتلئة بأبواب تتخابط يف َّ‬
‫عىل ما نقول‪ « :‬يف صعوده ال يركن إىل مسارات منتظمة‪ ،‬تألفها‬ ‫عم تب َّقى من خطوي‪ ،‬أصف له حركتي يف‬ ‫أستدير إليه وأحدّ ثه َّ‬
‫العني املتت ّبعة‪ .‬رؤوس ُمسندَ ة إىل رؤوس مثلها‪ .‬إىل أفخاذ متدَّ دت‬ ‫بكل ما يعكسه منّي‪ .‬كأنَّني‬ ‫وكأنا ملرآته املصقولة ّ‬ ‫َّ‬ ‫هذا املكان‪،‬‬
‫سيقاهنا‪ ،‬واسرتاحت أصابع األقدام من خنقة البيادة» ‪.32‬‬ ‫بـ«ظل»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وأكف عن مناداته‬
‫ُّ‬ ‫فكَّرت يف اختيار اسم جديد له‪،‬‬
‫ال تكفي تلك التسمية التي تُوهم أنَّه دائ ًام موجود‪ ،‬يتبعني‪ ،‬ال‬
‫اخلتامي‬
‫ّ‬ ‫نالحظ انطالق ًا من هذا الشاهد انفتاح الفصل‬ ‫التجول‬
‫َّ‬ ‫لك‬ ‫أن ت َ‬
‫َكون يف أثر آخر ال يتيح َ‬ ‫يفارقني‪ ،‬يشء صعب ْ‬
‫أخص خصائصه‬ ‫ِّ‬ ‫احلر الذي من‬
‫للرواية باألسلوب غري املبارش ّ‬ ‫تك»‪.30‬‬ ‫يف املكان بحر َّي َ‬
‫ِ‬
‫بمهمة الكالم بدالً من الشخص َّية أولنَ ُقل بتعبري‬ ‫اضطالع الراوي‬
‫َّ‬
‫ثم‬
‫الراوي‪ ،‬ومن َّ‬ ‫إن الشخص َّية هي املتك ّلمة بصوت َّ‬‫«جونات» َّ‬ ‫باطني‬
‫ّ‬ ‫أن الكالم الطاغي عىل الرواية هو كالم‬ ‫نتبي َّ‬
‫وهكذا َّ‬
‫الراوي ‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫يمتزج صوت الشخص َّية بصوت َّ‬ ‫صامت خياطب به الراوي ظ َّله أو لنقل بعبارة أخرى وجهه‬
‫النص ك ّله بحسب ما ذهب‬‫الغائب‪ ،‬وعىل هذا األساس يغدو ُّ‬
‫املجسم يف الع ّينة التي أوردنا‬
‫َّ‬ ‫احلر‬
‫إن األسلوب غري املبارش ّ‬ ‫َّ‬ ‫إليه اخلبو ختاييل وأوهام ًا ال خترج عن بؤرة الذات املدركة نفسها‬
‫ال عن وظيفته يف الكشف عن باطن الشخص َّية (رغبة ا ُملتحدَّ ث‬
‫فض ً‬
‫التحرر من شتَّى‬
‫ُّ‬ ‫عنه يف ركوب األقايص عىل غري منوال سابق ويف‬ ‫‪  29‬ـ يطلق جونات يف كتابه «صور ثالث» عىل هذا الرضب من الكالم املبارش‬
‫القيود والعادات) يضاعف اللبس املكتنف القائل وا َمل ُقول يف‬ ‫كل آثار الراوي‪ ،‬وينبني عىل جمل نحويَّة ناقصة من الناحية‬
‫الذي متَّحي فيه ُّ‬
‫أنت‬
‫هذه الرواية‪ .‬ذلك أنَّنا إزاء ضامئر يف الرسد خمتلفة ( أنا ‪َ -‬‬ ‫الفوري» (‪ )Discours immédiat‬فتتكلّم شخصيَّة‬
‫ّ‬ ‫الرتكيبيَّة أو مختلّة «الخطاب‬
‫الروائي‪ ،‬وهي يف األصل ترجع إىل‬ ‫ّ‬ ‫تذررت يف اخلطاب‬‫ـ هو) َّ‬ ‫مبارشة متح ّررة متاماً من سلطة الراوي‪ .‬وتس ّمي دوريت كوهن (‪)Dorrit Cohn‬‬
‫متك ّلم واحد انشطر نتيجة شعوره بالضياع واحلصار يف املدرسة‬ ‫يف كتابها « الشفافيَّة الداخليَّة» هذا الكالم «منولوجاً مست ِقالّ» (‪Monologue‬‬
‫‪ .)autonome‬ا ُنظر‪:‬‬
‫‪  31‬ـ مح ّمد الخبو‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.163‬‬ ‫‪G. Genette, Figures III, op. cit. pp. 193 - 194.‬‬
‫‪  32‬ـ ترصيح بالغياب‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.72‬‬ ‫‪Dorrit Cohn, La transparence intérieure, Ed. Seuil, Coll.Poétique,‬‬
‫‪  33‬ـ ا ُنظر يف هذا النطاق‪:‬‬ ‫‪1981. pp.245 - 246.‬‬
‫‪Gérard Genette: Figures III, Op. cit. p. 194.‬‬ ‫‪ 30‬ـ ترصيح بالغياب‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.44‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪326‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬نقد‬ ‫يف آل َّيات الشعر َّية يف رواية «ترصيح بالغياب» ملنترص الق ّفاش‬

‫املعجمي أدب َّية متم ّيزة‪ ،‬لذلك يمكن احلديث عن شعر َّية‬‫ّ‬ ‫واالنتقاء‬ ‫العسكر َّية‪ .‬لذلك فضمري الغائب «هو» املقموع ا ُمل ِ‬
‫غرتب يف املثال‬
‫السد القائم عىل‬ ‫ذات قيمة ُم َضافة يف هذه الرواية نابعة من بالغة َّ‬ ‫الذي سقناه منذ قليل ليس سوى قناع للضمريين « أنا‪ -‬أنت»‪.‬‬
‫الشك والوهم‬ ‫ّ‬ ‫مجال َّية قصص َّية جديدة خترق بفضل كثافة جهات‬
‫والظ ّن ما رسمه سريل من حدود للقصص املتخ ّيل القائم عنده‬ ‫توخي مثل هذا األسلوب القائم عىل ثالوث من‬ ‫َّ‬
‫ولعل يف ّ‬
‫حداثي كهذا ْ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫روائي‬
‫ّ‬ ‫لنص‬
‫عىل أعامل إثبات َّية ُمصطنعة‪ .‬فأنَّى ّ‬ ‫األصوات الرسد َّية يف بناء الرسد دالل ًة عىل متكُّن الشعر َّية من‬
‫تامسك البنَى الرسدية واضح املالمح يف عامل متشظٍ‬ ‫يكون م ِ‬ ‫كل التمكّن‪ ،‬باعتبار هذه األصوات‬ ‫رواية «ترصيح بالغياب» َّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يب اليوم صورة جماز َّية ُم َص َّغرة‬
‫الروائي العر ُّ‬
‫ُّ‬ ‫النص‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مفكّك؟ أل ْي َس ُّ‬ ‫املختلفة يف الظاهر‪ ،‬املؤتلفة يف الباطن‪ ،‬أقنعة للمتك ّلم الذي‬
‫ملا يعيشه أهل الضاد من ُفرقة وانقسام وانشطار؟‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كالظل الذي ال‬ ‫وتغيت‬
‫َّ‬ ‫انشطر نتيجة القمع فتعدَّ دت وجوهه‬
‫يستقر عىل صورة واحدة‪.‬‬
‫ُّ‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫حاولنا يف هذا العمل استجالء بعض اآلل َّيات ا ُملو ّلدة للشعر َّية‬
‫يف رواية «ترصيح بالغياب» ملنترص الق َّفاش يف مستوى خطاب‬
‫العتبات من خالل الوقوف عىل العنوان والتصدير حتديد ًا ويف‬
‫أن اللبس الذي اكتنف العتبتني‬ ‫الروائي‪ ،‬فبان لنا َّ‬
‫ّ‬ ‫مستوى املتن‬
‫غذي‬ ‫املدروستني واملراجع املتحدَّ ث عنها يف الرواية هو املعني ا ُمل ّ‬
‫رس مجال َّيته إذا ما وضعنا يف احلسبان‬ ‫النص الق َّفايش ومن ّ‬
‫لشعر َّية ّ‬
‫أن الرواية تصنع بالرسد إحياء وإيقاع ًا ومعج ًام وصورة مراجعها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫تعارف عليه من خالل سعي‬ ‫وقد هتافتت فيها احلكاية بمفهومها ا ُمل َ‬
‫ثم بدا‬‫يت‪ ،‬ومن َّ‬ ‫داخيل له اتّساقه الذا ّ‬
‫ّ‬ ‫نيص‬
‫الروائي إىل بناء منطق ّ‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫الروائي شديد التكثيف واإلحياء الزما ال حييل عىل‬ ‫ُّ‬ ‫النص‬
‫هذا ُّ‬
‫يسوغ لنا الكالم عن‬ ‫عامل خارج أحياز الرواية ذاهتا‪ ،‬األمر الذي ّ‬
‫الرسدي املوصول بعدم‬ ‫ّ‬ ‫«شعر ّية ال ّلزوم» يف هذه الرواية باملفهوم‬
‫النص الق ّف َّ‬
‫ايش‬ ‫ألن َّ‬ ‫الروائي عىل مرجع خارجه‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫النص‬
‫ّ‬ ‫إحالة‬
‫يشكّل مراجعه من الداخل بال ّلغة ومن ال ّلغة ال س َّيام إذا أخذنا‬
‫والتوهم التي بسطت سلطاهنا‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫الشك والظن‬ ‫بعني االعتبار جهات‬
‫ِ‬
‫عىل القائل وا َمل ُقول مضاعفة مقدار اللبس يف هذه الرواية‪ ،‬فهي‬
‫تبع ًا لذلك القلب النابض لشعر َّية الرسد يف هذه الرواية‪ ،‬هلذا‬
‫والتوهم السائدة يف «ترصيح بالغياب»‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫الشك والظ ّن‬ ‫فجهات‬
‫تساهم يف بناء وجهة نظر رسد َّية غامضة جت ّلت خصوص ًا يف‬
‫الفوري املبارش بشكل مك َّثف‬ ‫ّ‬ ‫انشطار الرسد ويف اعتامد اخلطاب‬
‫ِ‬
‫ب فيه الشخص َّية احلبيسة ذاهتا‪ ،‬واجلنوح يف مواضع قليلة‬ ‫ُتاط ُ‬
‫احلر الذي يلتبس فيه صوت الشخص َّية‬ ‫إىل األسلوب غري املبارش ّ‬
‫السد حم ّققة‬ ‫بصوت الراوي فتتضاعف اخلصائص الذات َّية للغة َّ‬
‫أن الشعر َّية تتح َّقق‬
‫ثم انتهينا إىل َّ‬
‫أعىل درجات الشعر َّية‪ .‬ومن َّ‬
‫بطرائق الرسد التي تُنجز يف هذه الرواية بالتصوير والتوقيع‬

‫‪327‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫أدب وفنون‪ :‬سينام‬

‫فيلم‬
‫«لو ح َّركت ال ِّريح الرمال»‬
‫ٌ‬
‫قابل للتصوير؟‬ ‫هل الموت‬

‫حممد اشويكة*‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫ّ‬
‫حركت الريح الرمال»‬ ‫تستدعي العودة لفيلم «لو َّ‬
‫(‪ 2006 )Si le vent soulève les sables‬ملخرجته الفرنكوبلجيكية‬
‫«ماريون هانسيل» (‪ ،)Marion Hänsel‬ويف هذا الوقت بالذات‪،‬‬
‫أكثر من داللة ما دامت الصحراء تشكل جماالً اسرتاتيجي ًا للتنافس‬
‫كل القوى سواء‬ ‫بني القوى العظمى من جهة‪ ،‬واهلاربني من بطش ِّ‬
‫كانت كبرية أم صغرية من جهة أخرى‪ ،‬وهي جمال حيوي لكونه‬
‫مهم من الثروات ذات احلساسية البالغة يف رسم‬ ‫حيوي عدد ًا َّ ً‬
‫خريطة املعامالت االقتصادية الضخمة التي تتحكم يف حتديد‬
‫السياسات اخلارجة للدول العظمى‪.‬‬

‫بالرغم من َّ‬
‫أن بناء فكرة الفيلم أراد الرتكيز عىل عدم االرتباط‬
‫كل من‬ ‫جمردة لتنطبق عىل ِّ‬
‫بحيز جغرايف معني‪ ،‬وترك فكرته َّ‬
‫فإن تصوير‬‫تدفعه قساوة الظروف للهجرة االضطرارية‪َّ ،‬‬
‫أحداث الفيلم قد متَّت بجيبويت؛ إذ تغادر أرسة إفريقية البلد‬
‫للبحث عن املاء‪.‬‬

‫‪-I-‬‬

‫ركَّز الفيلم عىل االستثامر الفني للرحيل االضطراري الذي‬


‫قامت به األرسة َج َّرا َء نضوب املاء بالوسط الذي تعيش فيه‪ ،‬تاركة‬
‫وكان ذلك بمثابة الذريعة التي سامهت يف حتديد هو َّية الفيلم‬ ‫املوضع الذي كان يوفر هلا وملاشيتها املاء والكأل واألمان‪،...‬‬
‫الدرامية‪ ،‬وإيقاعه ا ُمل ْست ََمدِّ من السفر الوعر الذي تقوم به‬
‫األرسة‪ ،‬والطرق امللتوية التي تنهجها‪ .‬فأن يضطر الشخص إىل‬ ‫*كاتب وناقد من املغرب‪..‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪328‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬سينام‬ ‫الريح الرمال» هل املوت ٌ‬
‫قابل للتصوير؟‬ ‫حركت ِّ‬
‫فيلم «لو َّ‬

‫‪-II-‬‬ ‫رحالة بطبعه)‪ ،‬وهو مرغم عىل‬ ‫مغادرة مسكنه ووطنه (ولو كان َّ‬
‫القيام هبذا‪ ،‬هلو فِ ْع ٌل بالغ القسوة والتعقيد‪ ،‬ممَّا يضع املخرج أمام‬
‫تنتهج خمرجة الفيلم أسلوب ًا متفرد ًا يف تصوير الصحراء‪ ،‬فقد‬ ‫رهانات صعبة تتجىل يف القدرة عىل االنغامس بالكامريا يف أعامق‬
‫ألن الفضاءات متنوعة ووعرة وموحشة‪،‬‬ ‫اختارت الصعب َّ‬ ‫املأساة‪ .‬وقد نجح الفيلم يف إيصال صوت هذه الع ِّينة من الناس‬
‫تصور ًا برصي ًا لألحداث واملكابدات التي‬ ‫ُّ‬ ‫وحاولت أن تقرتح‬ ‫بشكل ملتزم بالدفاع عن قضايا حقوقية واضحة يف املجتمعات‬
‫عانتها األرسة‪ ،‬موضوع الفيلم‪ ،‬ومعها كافة احلاالت الشبيهة‪.‬‬ ‫اإلفريقية‪ :‬وضعية الطفولة‪ ،‬واقع املرأة‪ ،‬املسألة األمن َّية‪ ،‬األمن‬
‫بالتصور هنا ما أوضحه إدغار موران بشمولية املفهوم؛‬ ‫ُّ‬ ‫ونقصد‬ ‫الغذائي‪ ،‬الصحة‪ ،‬املساواة‪ ،‬الديمقراط َّية‪.‬‬
‫كل احلقول االجتامعية والسياسية والتطبيقية والتقنية‬ ‫إذ يغطي َّ‬
‫للنشاط اإلنساين‪ :‬هكذا يكون تشكيل مجهورية وبرنامج حزب‬ ‫الر َّحل يف صحراء دول الساحل‬ ‫ينقل الفيلم نمط عيش البدو ُّ‬
‫أو حكومة وبناء نظرية وعمل فني وخمطط حضاري وابتكار‬ ‫ٍ‬
‫اإلفريقي وما يشاهبه افرتاض ًا‪ ،‬وهو نظا ُم حياة صارم يستمدُّ‬
‫التصور)‬
‫ُّ‬ ‫صممة من أجل‬ ‫تصور اآلالت ا ُمل َّ‬
‫أداة أو آلة (ومن بينها ُّ‬ ‫أسسه من التعامل مع الفضاء الذي ينبثق منه‪ ،‬فالصحراء متقلبة‬
‫التصور ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫ُّ‬ ‫واإلخراج املرسحي أو السينامئي من عمل‬ ‫كل يشء‪ ،‬واالكتفاء‬ ‫وشحيحة املوارد ممَّا يفرض االقتصاد يف ِّ‬
‫ف البقايا؛ إذ ال يمكن لقاطنيها أو‬ ‫بشظف العيش‪ ،‬ومللمة ُشدَ ِ‬
‫جلامل املوحش الذي يدثر‬ ‫ت ََص َّيدَ ت كامريا املخرجة ذلك ا َ‬ ‫قاطعيها الثقة يف ظروفها املناخية‪ .‬ولذلك بدأ الفيلم برصد أجواء‬
‫الصحراء‪ ،‬والذي يقوم يف جوهره عىل الشساعة املخيفة والفاتنة‪،‬‬ ‫الفرحة البادية عىل بعض الناس املتحوطني حول غدير ماء صغري‪:‬‬
‫واالختالف البيئي واملناخي املختلف‪ .‬وتكشف مجالية ا َمل َش ِ‬
‫اهد‬ ‫األطفال يلعبون‪ ،‬النساء يتطهرن وينظفن املالبس‪ ،‬احليوانات‬
‫خاصة لإلحاطة بتلك الشساعة وحرصها‬ ‫َّ‬ ‫واللقطات عن رؤية‬ ‫أن املاء أساس احلياة‬ ‫ُّ‬
‫والكل مستقر ومتآلف‪ ،‬ممَّا يعني َّ‬ ‫ترشب‪،...‬‬
‫جلامل‪:‬‬
‫يف إطارات برص َّية تسعى يف جمملها إلبراز تناقضات ذلك ا َ‬ ‫يف الصحراء وغريها‪.‬‬
‫جمال للتحرر والتسرت واالختفاء واملغامرة‪ .‬وقد راكمت املخرجة‬
‫خربات أظهرها انتقاؤها املو َّفق لفضاءات وأمكنة التصوير‪،‬‬ ‫يضع الفيلم األحداث يف سياقها الثقايف واالجتامعي‪ ،‬ويرسم‬
‫وذلك إثر زياراهتا واستطالعاهتا املتعدّ دة هلا‪ ،‬وهي األمور التي‬ ‫أهم سامت ومالمح التاريخ االجتامعي والثقايف والسيايس‬ ‫َّ‬
‫سامهت يف حتقيق املالءمة الواقعية لعوامل الفيلم التخييلية التي‬ ‫وخاصة عىل مستوى العالقات األرسية املتميزة للبدو‬ ‫َّ‬ ‫للمنطقة‪،‬‬
‫تكاد تكون وثائقية بسبب القدرة عىل االنغراس يف البيئة الطبيعية‬ ‫احلب النموذجي املسترشي بني األرسة‬ ‫ِّ‬ ‫الرحل‪ ،‬والتي تتجىل يف‬
‫َّ‬
‫حيس فيه املتفرج‬ ‫للصحراء‪ ،‬واالقرتاب من احلياة بشكل ال ُّ‬ ‫التي يقدمها الفيلم‪ ،‬وخاصة بني األب وزوجه‪ ،‬ومها مع ًا واألوالد‬
‫بتدخل التقنيات التي تفصل يف السينام بني واقع احلياة وواقع‬ ‫ال عن عالقة األب بابنته بعد وفاة األم‪ .‬فمن خالل‬ ‫الثالثة‪ ،‬فض ً‬
‫الفيلم‪ ،‬وجتعلهام يتامهيان وخيلقان االلتباس‪.‬‬ ‫ونستشف أن‬
‫ُّ‬ ‫تراصها وتضامنها نفهم معنى اللحمة اجلامعة هلا‪،‬‬
‫يمر عرب بناء أرسة قوية متامسكة‪ ،‬ويساهم‬ ‫جتاوز قساوة الصحراء ُّ‬
‫جمرد ديكور‪ ،‬بل كان فاع ً‬
‫ال‬ ‫مل يكن فضاء الصحراء يف الفليم َّ‬ ‫خاصة للعيش فيها‪ .‬وتشري بعض البحوث إىل‬ ‫يف تكييف مهارات َّ‬
‫حيو َّي ًا يف تنامي األحداث‪ ،‬وصانع ًا هلا‪ ،‬فك ّلام تقدَّ مت األرسة يف‬ ‫عمق معرفته ببيئة الصحراء عىل حقيقتها‬ ‫أنَّه كان عىل البدوي أن ُي ِّ‬
‫طريقها تفاجأت بمعطى جديد‪ ،‬وهنا تربز قدرة املخرجة وينجيل‬ ‫ليعزز فرصه يف البقاء والوجود‪ ،‬وليتغلب عىل حتدّ يات املعيشة‬ ‫ّ‬
‫وعيها بخصوصية تصوير الفضاءات الشاسعة (الصحارى‪،‬‬ ‫الصحراوية وخماطرها التي حتدق به ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫عي‬‫البحور واملحيطات‪ )...‬التي تكون جماالً للتعبري عن ت ََص ُّو ٍر ُم َّ‬


‫للوجود اإلنساين يف عالقته بالكون ككل (‪ .)Cosmos‬وعليه‪،‬‬
‫‪ - 1‬سعد العبد الله الصويان؛ الصحراء العربية‪ :‬ثقافتها وشعرها عرب العصور‬
‫‪ - 2‬إدغار موران؛ املنهج‪ :‬الجزءان الثالث والرابع‪ :‬معرفة املعرفة ـ األفكار؛ ترجمة‪:‬‬ ‫ـ قراءة أنرثوبولوجية؛ الشبكة العربية لألبحاث والنرش؛ الطبعة األوىل؛ بريوت‬
‫يوسف تيبس؛ إفريقيا الرشق؛ الطبعة األوىل؛ الدار البيضاء ‪2013‬؛ ص‪.194 :‬‬ ‫‪2010‬؛ ص‪.621 :‬‬

‫‪329‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حممد اشويكة‬ ‫أدب وفنون‪ :‬سينام‬

‫‪-III-‬‬ ‫فالفيلم ُم ْق َت ٌح للزمان واملكان يعي انغراسه ضمن فضاء كوين‬


‫(‪ )Univers‬الستغالل الطاقة البرشية وتفاعلها مع املادة ضمن‬
‫نجح الفيلم يف تصوير تراجيديا املوت‪ ،‬وكشف بعض جوانبه‬ ‫منظور إيكولوجي يضمن وحدة البرش بالطبيعة‪.‬‬
‫والتوجس واخلوف من املجهول‪ ،‬فغالب ًا ما يكون‬ ‫ُّ‬ ‫القامتة كالرهبة‬
‫املوت يف أفالم احلركة والرعب واحلرب عاد َّي ًا ومبتذالً‪ ،‬ولك َّن‬ ‫ت َُرك ُِّز املخرجة عىل بعض األحداث التي قد تظهر عابرة يف‬
‫تصوير املوت يف هذا الفيلم الذي يعترص احلياة اعتصار ًا‪ ،‬ويشنق‬ ‫الفيلم بحكم طول الطريق وصعوبتها‪ ،‬ولكنَّها عميقة الداللة‪،‬‬
‫ب بالفعل عن قدرة السينام عىل استدراج بعض‬ ‫املوت شنق ًا‪َ ،‬ل ُي َع ِّ ُ‬ ‫وقاسية املعنى‪َ ،‬فنُ ُف ُ‬
‫وق العنزة «ميمي» (آخر العنزات يف القطيع)‬
‫األفكار الوجود َّية وامليتافيزيق َّية نحو الضوء وإخراجها من العتمة‬ ‫له عالقة هبيمنة املوت وسطوته‪ ،‬خاصة وأنَّه جاء مبارشة بعد‬
‫لوضع املتفرج أمام فداحة املوقف وقساوته‪ ،‬وقيادته نحو زعزعة‬ ‫موت األم «منى» (كارول كارمريا) [‪ ]Carole Karemera‬بعدما‬
‫يقينياته‪ .‬وما َي ْسنِد تأويلنا هذا هو القدرة عىل النزول إىل الدرجة‬ ‫انتهت مقاومتها البيولوجية جتاه تشبثها باحلياة‪ .‬لقد كانت النواة‬
‫وأرصت عىل‬ ‫َّ‬ ‫ألن الفتاة مل تفهم معنى املوت‪،‬‬ ‫الصفر للموت‪َّ ،‬‬ ‫األساسية لألرسة‪ ،‬والضامن لوحدهتا بفضل سخائها العاطفي‪.‬‬
‫البقاء قرب أ ِّمها امليتة‪ ،‬لك َّن األب كان مثالي ًا يف عاطفته‪َ ،‬فذ َّل َل‬ ‫ان» (إيساكا سوادوجو)‬ ‫«ر َه ْ‬
‫مل تستطع مواصلة السفر رفقة األب َ‬
‫صدمة املوت‪ ،‬ودفع بالبنت ملواصلة الطريق واالنخراط يف احلياة‬ ‫ِ‬
‫[‪ ]Isaka Sawadogo‬وابنته «شاشا» (أسامء نعامن َأد ْن) بعد أن‬
‫كمعطى إنساين واقعي تنترص فيه إرادة احلياة‪.‬‬ ‫أخذ فيصل من املتمردين الطفل األكرب «أكو» (سعيد عبد اهلل‬
‫ال للسالح ضمن عصاباهتم‪ ،‬وقتل أفراد‬ ‫حممد) ليصبح حام ً‬
‫يضع اإلنسان حلظات الوالدة والوفاة ضمن طقوس حمدَّ دة‪،‬‬ ‫عصابة أخرى ‪ -‬مسلحة ‪ -‬شقيقه األصغر «راڤيل» (أمحد إبراهيم‬
‫ُسمى ضمن‬ ‫تصور فلسفي للحياة‪ ،‬وت َّ‬ ‫ُّ‬ ‫غالب ًا ما تدخل ضمن‬ ‫حممد)‪.‬‬
‫األنرتوبولوجيا «طقوس العبور» التي تعني مجاع املامرسات‬
‫والطقوس واملعتقدات التي تقوم هبا مجاعة مع َّينة للمرور من حالة‬ ‫ستحترض األم بطريقة بالغة األنفة‪ ،‬فقد غالبت أمل اجلوع‬
‫إىل أخرى أو من وضع سابق إىل آخر الحق‪ ،‬كتغيري اجلنس أو‬ ‫نستشف منها‬
‫ُّ‬ ‫والعطش‪ ،‬وأخفت معاناهتا عن ابنتها بشجاعة‬
‫وهيمنا يف هذا السياق توديع الزوج لزوجه‬ ‫الوالدة أو غريمها‪ُّ ،...‬‬ ‫صمود اإلنسان ككائن ضعيف وقوي جتاه جتربة املوت‪ .‬ولكي‬
‫بعدما غادرت الروح اجلسد‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬العبور هبا (ومع روحها)‬ ‫تبئر املخرجة املوقف‪ ،‬وتزيده مأساوية‪ ،‬جعلت الرحلة يف‬
‫اركة يف طقس‬ ‫من حالة احلياة إىل املوت رغم غياب اجلامعة ا ُمل َش ِ‬ ‫عموميتها رحلة للفقدان واعتصار األمل؛ إذ تضيق دائرة احلياة‬
‫الوداع‪ ،‬والتي يمثلها األب كرمز ضامن الستمرارها وإعادة‬ ‫وكأنا ذاهبة‬ ‫َّ‬ ‫أمام األرسة وتتقلص ك ّلام تقدَّ مت يف مسريهتا‪،‬‬
‫إنتاجها وتنشئة ابنته عليها‪ .‬لقد كان يو ّدعها كحبيبة ورشيكة‬ ‫نحو املجهول‪ :‬اختفى املرافقون واألوالد واملاشية‪ ،‬وانقطع‬
‫مرر أصابعه عىل تفاصيل‬ ‫منخرطة يف احلياة إىل آخر رمق‪ .‬كان ُي ّ‬ ‫املاء‪ ،‬ونضب رضع الناقة التي حاول الزوج استدرار قطرات‬
‫وجهها كام يداعب العشاق عشيقاهتم‪ ،‬وو َّدعها بقلب مستسلم‬ ‫ولكن الظروف‬ ‫َّ‬ ‫حليبه لتسعفه يف إنقاذ زوجه من املوت‪،‬‬
‫أعز‬
‫جردته من ِّ‬ ‫ِ‬ ‫َصدَّ ت َّ‬
‫كل حماوالت األمل‪ ،‬و َف َر َض االنتقا ُء‬
‫َوجل يتمنى اخلروج من متاهات البيداء التي َّ‬ ‫الطبيعي نفس ُه‪.‬‬
‫ُّ‬
‫يبق له إال ابنته التي جيب‬ ‫الناس عليه‪ ،‬وأفقدته متاعه وهبيمته‪ ،‬ومل َ‬ ‫ولكن ما جيعل اإلنسان قادر ًا عىل جتاوز احلقيقة ا ُمل َّرة للموت‬
‫إفالهتا من براثن املفازة‪.‬‬ ‫ما يمكن أن يطرحه األطفال من أسئلة الوجودية الربيئة‪،‬‬
‫كالذي طرحته البنت عىل أبيها حني توالت عليها عاصفة‬
‫األول عىل‬‫ُيقدِّ م الفيلم مشهدين هللوسات الطفلة وختيالهتا‪َّ :‬‬ ‫املوت‪ :‬متى نموت؟‬
‫ويفسان من وجهة‬ ‫ِّ‬ ‫شكل فالش باك‪ ،‬واآلخر مشهد عادي‪،‬‬
‫نظر حتليلية نفسية خمتلف الضغوطات التي استضمرهتا الصب َّية‬ ‫هنا تكمن عظمة السينام حينام تنجح يف إضفاء طابع البداهة عىل‬
‫طوال رحلتها (جتربتها) الشاقة‪ ،‬وهي التي كان من حقها أن‬ ‫املوت‪ ،‬وتزويد الفرد بالطاقة الكافية ملواجهته‪ ،‬وفتح بؤر األمل‬
‫لدن اجليش‬ ‫تعرضت لالضطهاد من ِّ‬ ‫تنعم بطفولة هادئة‪ :‬فقد َّ‬ ‫ضدَّ ًا عىل االستسالم‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪330‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬سينام‬ ‫الريح الرمال» هل املوت ٌ‬
‫قابل للتصوير؟‬ ‫حركت ِّ‬
‫فيلم «لو َّ‬

‫الذي تقاسمت ميليشياته املناطق االسرتاتيجية فيام بينها‪ ،‬وعملت‬


‫عىل إدارة املياه‪ ،‬واستخالص مكوس استغالهلا بشكل ال إنساين‬
‫بشع يساهم يف إغناء العسكر وإفقار الناس وإخضاعهم‪ ،‬بل‬
‫التحرش واالغتصاب‬ ‫ُّ‬ ‫وقتل الرافض أو املقاوم منهم‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن‬
‫الترصفات الرعناء التي يقوم‬
‫ُّ‬ ‫واخلطف والسحل‪ ،‬وما إىل ذلك من‬
‫هبا بعض أفراد اجليوش يف حاالت الفوىض‪.‬‬

‫استعملت إحدى العصابات الطفلة وسيلة الختبار األلغام‪،‬‬


‫تتجول بني النباتات واألحجار‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وهي الربيئة التي ذهبت فرحة‬
‫وكأنا تلهو مع رفيقاهتا يف اجلنينة‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن قلوب أرسهتا تتمنَّى‬ ‫َّ‬
‫وتتحول البنت إىل شظايا ونقط دم يف عراء‬ ‫َّ‬ ‫أال حيصل األسوأ‪،‬‬
‫وحش‪ .‬لقد شهدت برباءة عينيها قتل العنزات الوديعات‬ ‫البيداء ا ُمل ِ‬
‫والناقة الصبور املعطاء‪ ،‬وعاينت اخلطف والقتل‪ ،‬وعايشت شتَّى‬
‫وكأنا عاشت ردح ًا من الدهر‪.‬‬
‫أنواع االحتقار واإلذالل‪َّ ،...‬‬

‫أال تقود مثل هذه األحداث اإلنسان نحو اجلنون عوض االكتفاء‬
‫باهللوسة؟‬
‫يا هلا من فتاة نموذجية يف جتاوز املحن واملشاق!‬
‫فس التزامه‪.‬‬
‫ذلك جزء من رسالة الفيلم‪ ،‬وما ُي ِّ‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫نجح الفيلم يف نقل روح الرواية التي انطلق منها‪ ،‬وترمجها‬
‫‪3‬‬

‫مصورة من اجلنوب نحو الرشق‪ ،‬رحلة ملؤها السعي‬ ‫َّ‬ ‫إىل رحلة‬
‫جل َلد والقدرة الفائقة‬ ‫واألمل‪ ،‬مفعمة باحلياة واملوت‪ ،‬وطافحة با َ‬
‫التحمل واملجاهبة‪ .‬تسائل الصورة السينامئية هشاشة اإلنسان‬ ‫ُّ‬ ‫عىل‬
‫جتاه احلتم َّيات البيولوج َّية والطبيع َّية (اإليكولوج َّية) واحلامقات‬
‫والتطور‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫جمرد مكون بسيط يف دائرة النشوء‬‫اإلنسان َّية التي حتيله إىل َّ‬
‫فالربغم من املجرى اخل ّطي الذي انتهجه الفيلم‪ ،‬فالوعي بالقضايا‬
‫التي يعاجلها‪ ،‬واحلمولة اإلنسانية التي حيملها‪ ،‬تتط ّلب ذلك‬
‫االختيار الذي‪ ،‬وإن رام التبسيط‪ ،‬فإنَّه يتغ َّيا إيصال رسائل مكثفة‬
‫وواضحة للبرشية‪ ،‬وأن يع ّلق اجلرس يف آذان املسؤولني لتأ ُّمل ما‬
‫يقع من حوهلم‪ ،‬والتخفيف من املأساة التي يتس َّبب فيها الرصاع‬
‫السلطة واملوارد االقتصاد َّية‪.‬‬
‫البشع واجلشع حول ُّ‬

‫‪3 - Marc Durin-Valois; Chamelle; JC Lattès; Paris 2002.‬‬

‫‪331‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫أدب وفنون‪ :‬تشكيل‬

‫مصطفى بوجمعاوي‬
‫العبور نحو‬
‫الماورائيات‬

‫بنيونس عمريوش*‬

‫تُعترب أعامل الفنان مصطفى بومجعاوي‬


‫األخرية ثمرة جمهود َب ْحثي عىل مدار‬
‫كرسها‬ ‫السنوات اخلمس األخرية التي ّ‬
‫لالشتغال اليومي واملتوايل‪ ،‬حتى‬
‫يتسنّى له إضفاء ملسة مبتكرة ملنجزه‬
‫التصويري الذي بات يعمل عىل ِ‬
‫بنائه‬
‫بصدق وت َُؤدة منذ مطلع ثامنينيات القرن‬
‫املايض بعد عودته من باريس‪ .‬يف جتربته‬
‫حتوالً ملحوظ ًا يسم‬
‫األخرية هذه حيقق ّ‬
‫املنوطة برتمجة الذات والشعور اآلين كام لدى سورا وفان غوغ‪،‬‬ ‫مرحلة جديدة‪ ،‬يروم من خالهلا املراجعة واالستعادة الشاملة‬
‫غري ّأنا عند بومجعاوي تبتعد عن ترمجة املرئي يف حدّ ذاته‪ ،‬لتتبوأ‬ ‫ألهم املقاربات التي تبنّاها بوعي حداثي عميق‪ ،‬من «احلدائق‬ ‫ّ‬
‫صدارة الرتميز الذي يغلف تنقيطيته التعبريية‪ ،‬املوسومة بنورانية‬ ‫اخليالية» و«البيكْتوجورنال»(‪ )Le picto-journal‬إىل «القافلة»‬
‫ُمدَ ْو َزنَة‪ ،‬ال يمكن استيعاهبا إال باستحضار النظام الكروماتيكي‬ ‫والنَّ َفس التَّدْ قيقي مع «حبات الشاي»‪ .‬هكذا يستعيد «كأس‬
‫التاكُبي (لون‬ ‫الذي يعتمده الفنان يف عملية التفريش اللوين َّ‬ ‫حيايت» شفافيته وبِنْ َيته العمودية كمط ّية لالستكشاف‪ ،‬ومنفذ ًا‬
‫فوق لون)‪ ،‬ممّا جيعل املادة الصباغية وطريقة معاجلتها فاع ً‬
‫ال يف‬ ‫الستحضار الوجوه املالئكية واستبطان صور الذاكرة واألفق‪.‬‬
‫توزيع الضوء واستنبات الشفافية (‪ )Transparance‬التي تُعدّ من‬ ‫ّإنا التجربة التي اختار هلا الفنان ُعنوانَه «عبور» (بصيغة اجلمع‪:‬‬
‫الرئيسة يف خلق مناخ اللوحة وإحياءاهتا‪.‬‬
‫َ‬ ‫العنارص‬ ‫رشك بني عوامل جمموع األعامل‬ ‫‪ ،)Passages‬العبور الرمزي الذي ُي ِ‬
‫التي احتضنها رواق «التولييه ‪ »21‬بالدار البيضاء يف ‪.2015‬‬
‫إذا كانت الرضورة اهلندسية البسيطة وا ُملحك ََمة مرشوطة‬
‫هبيكَلة مساحة اللوحات أساس ًا‪ ،‬وهبيئة الكأس (كأس حيايت)‬ ‫بانعزالية تامة يف مرسمه (حتت األريض) بالرباط‪ ،‬ينصت‬
‫ذر َوة األَ ْس َل َبة‪ّ ،‬‬
‫فإن البعد اهلنديس اختذ يف لوحت َْي‬ ‫هلواجسه‪ ،‬بقدر ما يستجيب هلمسات فرشاته املوجهة بيده ِ‬
‫الذي أرشف عىل ْ‬ ‫احلذرة‪،‬‬ ‫َ َّ َ‬
‫«ليل وهنار» (التقنية وا َملقاس والفرتة نفسها‪ :‬أكريليك عىل ورق‬ ‫ا َمل ْم َ‬
‫سوسة بحساسية االنطباعيني‪ ،‬وهو املعروف بمتوالية اللمسة‬
‫صحيفة مدعوك ‪ 200x200 ،Marouflé‬سم‪)2014 -2008 ،‬‬
‫ُبعد ًا داالً ملشهدية ُمضا َع َفة تو ِّلد ازدواجية اخللفية كام لدى رونيه‬ ‫*فنان تشكييل وناقد من املغرب‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪332‬‬
‫أدب وفنون‪ :‬تشكيل‬ ‫مصطفى بومجعاوي‪ :‬العبور نحو املاورائيات‬

‫وتوابع الفضيلة ونقيضها‪ .‬عرب هذه الرؤية املجازية تندلع األسئلة‬ ‫ماغريت الذي َخ َّصه بومجعاوي هبذه االستعارة املتسامية ذات‬
‫الوجودية باستحضار ماه ّية احلياة واملوت‪ ،‬الروح واجلسد‪ ،‬اجلواين‬ ‫الصلة بالروح السوريالية‪ ،‬ضمن عبور يغرف من الرتاكم الفني‬
‫والرباين‪ ،...‬ولذلك‪« ،‬حتولت العنارص إىل فضاءات ُم ْس ِهبة‪ ،‬إىل‬ ‫تتحول الكأس داخل «شاشة» حالِة‬ ‫ّ‬ ‫املشرتك‪ .‬يف «ليل وهنار»‪،‬‬
‫نمط من لوح مقدّ س يستقدم َح ْفر نظرنا فيام يستقطب الشحنة‬ ‫إىل مقطع َق َمري‪ ،‬يستدعي البرص الستكشاف التوريقات اخلطية‬
‫االنفعالية التي تبعثها القامشة»‪(  ‬فريد الزاهي‪ .)2015 ،‬بينام مل متنع‬ ‫تتوجه اللوحة نحو التخلص من‬ ‫احلجب‪ .‬هنا‪ّ ،‬‬‫املتوغلة يف سديم ْ‬
‫حل ْلمية» صاحبها من استدراك فعل‬ ‫هذه التصويرية «ال َغ ْيبِية‪ /‬ا ُ‬ ‫مادية العنارص‪ ،‬لتستحيل النقط الدقيقة أكثر انسياب ًا وتداخ ً‬
‫ال‬
‫(الس ِجل) والقلم بصفيحة‬ ‫ليتم استبدال الورق ِّ‬
‫التشكيل داخلها‪ّ ،‬‬ ‫ضمن بناء مرتاص‪ُ ،‬يضحي معه النظام اخلطي نسيج ًا برصي ًا‬
‫األلوان(‪ )Palette‬والريشة بأصابع ا َملالك َْي‪ ،‬إيامن ًا منه بكون‬ ‫منفتح ًا عىل غنى التأمل واإلحياء الرمزي‪.‬‬
‫اإلبداعية التشكيلية هي األخرى تدوين بدورها كتابة ال تستثني‬
‫فعل التفلسف وإثارة األبعاد األنطولوجية الكامنة بني املرئي‬ ‫تم توظيف « ثقب‬ ‫لشساعة النظر‪ّ ،‬‬ ‫يف مقابل الشاشة العاكسة َ‬
‫والالمرئي‪ .‬يف حني‪ ،‬قد تلبس أيقونة املالك «روحانية» الفنان ذاته‪،‬‬ ‫خمتص يستدرج العني للدُّ نُو‪،‬‬ ‫املفتاح» املحدد بالضوء‪ ،‬كشكل َ‬
‫املوصوف بالعيش يف وضع ت ََو ُّحد إرادي‪ ،‬يروم االعتكاف لبلوغ‬ ‫ت ّقب «املاورائيات» التي جتعل اإلطاللة موسومة باستكشافية‬ ‫ِ‬
‫لََ‬
‫أقىص مدارك الصوفية باعتبارها حالة استعالء إبداعي‪.‬‬ ‫زوج ْي يف حالة حتاور‬‫َ‬ ‫ُح ْل ِمية‪ ،‬ختتزل تصاوير مالئكية ضمن‬
‫وجتاوب وانسجام‪ ،‬فيام يطلع الوجهان املليحان بوضعية جانبية‬
‫املسمة «حمادثات»(‪)Conversations‬‬
‫إحدى املقاطع من لوحاته ّ‬ ‫(‪ )Profil‬إىل دائرة «ال ُّث ْقب» ليشكّال تكوين ًا جنيني ًا لتوأم وديع‪.‬‬
‫(أكريليك عىل قامش‪ 114x160 ،‬سم‪ ،)2013 -2008 ،‬املطبوعة‬ ‫ذلك ما يدعونا للوقوف عند الشخوص املجنحة التي تُعدّ‬
‫العالمة األيقونية اجلديدة‪ ،‬وا ُمل ْل َحقة‬
‫بالعنارص األيقونية املعهودة‪ ،‬كإضافة‬
‫متس‬ ‫تشخيصية تزكي التعبري‪ ،‬دون أن ّ‬
‫األسلوب الذي أمسى معها ُمتجاوز ًا‬
‫للموضوع(‪ )L’objet‬ودالالته املرتبطة‬
‫فإن‬‫ّ‬ ‫باليومي وا َملعيش‪ .‬من ّ‬
‫ثمة‪،‬‬
‫استثامر هذه األيقونات التي ترسم‬
‫«العبور املالئكي»‪ ،‬يفيد ختصيب‬
‫األسلوب باستدعاء التخييل ومنحه‬
‫صبغة «ميتافيزيقية» متنح غنى التوليف‬
‫والتأويل واملساءلة‪.‬‬

‫ثمة‪ ،‬صارت أزواج الكائنات‬ ‫من ّ‬


‫امللغزة تفرش أجنحتها عىل أركان‬
‫القامشة‪ ،‬مانحة هيمنتها امل َل َّطفة ُ‬
‫بم َح َّيا‬
‫الصبا‪ :‬الوجهان ثابتان يف ديمومة تقابل‬ ‫ِّ‬
‫تفا ُعيل‪ ،‬بينام األيادي يف حالة حركة‬
‫ُيمليها ما جيمع بني القلم والقرطاس‪،‬‬
‫لإلحالة عىل أجواء تدوين «ما تقدّ م‬
‫وتأخر»‪ ،‬ومتثيل ِس ِجل الكائن اإلنساين‬

‫‪333‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫بنيونس عمريوش‬ ‫أدب وفنون‪ :‬تشكيل‬

‫أن هذا التميز ينبثق من التقاليد البرصية الشبيهة‪ ،‬ومن املامرسة‬ ‫غري ّ‬ ‫تشع من خالهلا أناقة‬ ‫بألوانه الرمادية (‪ )Les gris colorés‬التي ّ‬
‫اليومية‪ ،‬وذلك موازاة مع ارحتاالت عرب املعطى اإلنساين بوصفه‬ ‫األصفر والوردي‪ ،‬أعادتني ّتو ًا إىل «حدائقه اخليالية» (قاعة‬
‫حضارة» كام جاء يف ورقة عبد الرمحن أجبور التقديمية (كاتالوغ‬ ‫املرسم‪ ،‬الرباط‪ .)1984 ،‬فمن داخل تقاسيم ومناخات قامشاته‬
‫ثمة‪ ،‬عمل بومجعاوي عىل َمْو املسافة يف هذا‬ ‫املعرض‪ .)2015 ،‬من ّ‬ ‫األخرية املنذورة للغوص بعيد ًا يف الذات والنفس واهلواجس‪،‬‬
‫ِ‬
‫«العبور احلضاري» الذي يكتيس ص ْب َغة اجلمع‪ ،‬ليقحمنا وإ ّياه يف‬ ‫وعالقة ذلك بالسرية الشخصية‪ ،‬هناك عو ٌد عىل َبدْ ء‪َ ،‬ع ْودة‬
‫ترحاله إىل اجلذور املشرتكة‪ ،‬حيث تُضحي االحتامالت أنساق ًا‬ ‫ل َّلعب ببهاء اللون‪ ،‬واصطفاء بصيص النور الذي ينبعث رويد ًا‬
‫تشكيلية ُمتزلة باملعنى الفضائي‪ ،‬إال ّأنا مفتوحة عىل طراوة‬ ‫رويد ًا‪ ،‬من حتت التفريش الصباغي ا َمل ْوزون بمعيار الكيميائي‬
‫التصور املدفوع بمرجعية مفاهيمية‬ ‫ُّ‬ ‫رش َعة عىل نداوة‬
‫الرمز‪ ،‬و ُم َّ‬ ‫ا ُمل َحنَّك‪ .‬ما يعني استعادة الديار األصلية املقرونة بالنفسية الرائقة‬
‫متس ذات ا ُمل َص ِّور(‪)Le peintre‬‬ ‫جو َهرانية ّ‬
‫تستدعي مدلوالت ْ‬ ‫والطموحة التي تستبدل جفاء املكان (وجدة) برونق اخليال‪ ،‬ما‬
‫متس اإلنسان من منظور حتققه الفيزيقي يف امتداده الزمني‪.‬‬ ‫بقدر ما ّ‬ ‫يؤكد باستمرار ن َفس املغامرة ا ُملكابِر لديه‪ ،‬واستعداده اجلسدي‬
‫واإلبداعي مهام استوطن أمام أفق متمنّع‪.‬‬

‫بحكم تت ّبعي احلثيث ملعارض بومجعاوي وجتارب فنانني‬


‫استقر استنتاجي‬
‫ّ‬ ‫آخرين مثل حممد القاسمي عىل وجه اخلصوص‪،‬‬
‫إىل كوهنام (بومجعاوي والقاسمي) َو َسام سنوات الثامنينيات‬
‫والتسعينيات ومطلع األلفية اجلديدة إىل حني رحيل القاسمي يف‬
‫‪ ،2003‬بنشاط وإنتاجية وازن َْي يف املشهد الفني املغريب‪ ،‬ليس من‬
‫حيث احلضور املستدام فحسب‪ ،‬بل من حيث القدرة التجديدية يف‬
‫جتارهبام التصويرية‪ :‬يف الوقت الذي ينتقل فيه القاسمي من جتربة إىل‬
‫أخرى بتسجيل تغيري بارز أو بشكل يكاد يكون جذري ًا يف األسلوب‬
‫والرؤية ودون أن يفقد نقط القوة يف عمله‪ ،‬يتخذ بومجعاوي مقاربة‬
‫كل جتربة سابقة ُمك َِّملة للقادمة ضمن إنتاجية‬‫تسلسلية جتعل ّ‬
‫مسرتس َلة (يسميها «املداومة» ‪ ،)La permanance‬مع‬ ‫َ‬ ‫توليدية‬
‫إدماج عنارص شكلية‪ /‬عالمات أيقونية عىل التوايل (اجلمل‪،‬‬
‫الكأس‪ ،‬حبات الشاي‪ ،‬املالك‪( )...‬ما يدعوه بـ«الالمداومة»‬
‫‪ . )La non permanance‬بحيث نجد خلفية «البيكتوجورنال»‬
‫(كتقنية وتعبري‪ :‬األلف حتول إىل نقطة) حارضة يف جممل أعامله منذ‬
‫ثامنينيات القرن املايض‪ ،‬مع االحتفاظ بالزمته الثالثية‪ :‬العالمة‬
‫والتكرار والشفافية‪ .‬ولذلك‪ ،‬بخالف هذه التجربة املطبوعة بتحول‬
‫ُم ِ‬
‫فارق‪ ،‬يصعب لغري املتتبع املتذوق استكناه منطق التغيري ومساحته‬
‫ألن عمل بومجعاوي يتحول من الداخل‪ ،‬من داخل‬ ‫بسهولة‪ ،‬فقط ّ‬
‫التشكيلية ( ‪ )Plasticité‬نفسها‪ ،‬ضمن تفاعالت الذهاب واإلياب‪،‬‬
‫مع ديمومة االرتباط الوثيق بالرشط اجلاميل‪.‬‬

‫هكذا‪ّ ،‬‬
‫يظل بومجعاوي مبدع ًا استثنائي ًا‪ ،‬لكونه «اختذ مسلك ًا‬
‫فريد ًا قائ ًام عىل األسئلة والدراسات واجلرأة والبحوث املستمرة‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪334‬‬
‫بريشة الفنان مصطفى أمناين من املغرب‬
‫قطوف‬

‫الترجمة بوصفها ثقافة‬


‫حوار مع باربارا كاسان‪ ،‬حاورتها‪:‬‬
‫كوليت بريفار*‬

‫ترمجة وتقديم وتعليق‪ :‬حممد شوقي الزين‬

‫تقديم‬
‫مل يتس َّن يل حماورة باربارا كاسان مبارشة ألطرح عليها جمموعة‬
‫بأهم معجم فلسفي يف تاريخ الفكر املعارص‬ ‫من األسئلة تتع َّلق ِّ‬
‫قامت باإلرشاف عليه‪ ،‬وهو «املعجم األورويب للفلسفات‪:‬‬
‫ألن هذا القاموس ينطوي عىل مفاهيم‬ ‫قاموس املتعذر ترمجته»‪َّ ،1‬‬
‫أترجم هذا احلوار الذي يطرح تقريب ًا األسئلة نفسها التي ُ‬
‫كنت‬ ‫فلسفية مستخلصة من اللغة العربية‪ 2‬باملقارنة مع حجم الفلسفة‬
‫أنوي أن أطرحها عليها‪.‬‬ ‫العربية اإلسالمية يف العرص الوسيط عرب أعالمها الشهريين مثل‬
‫الكندي‪ ،‬وابن سينا‪ ،‬والفارايب‪ ،‬وابن رشد‪ ... ،‬إلخ‪ .‬مل يتس َّن يل‬
‫باربارا كاسان فيلسوفة فرنسية معارصة‪ ،‬ه ّلينية وجرمانية‬ ‫ارتأيت أن‬
‫ُ‬ ‫املتكرر هبا‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫إذن حماورة السيدة كاسان رغم االتصال‬
‫متخصصة يف الثقافتني اليونانية العريقة‬
‫ِّ‬ ‫التخصص‪ ،‬يعني‬
‫ُّ‬
‫واألملانية‪ ،‬مرتمجة ومديرة البحث يف املركز الوطني للبحث‬ ‫‪* Colette Briffard et Barbara Cassin, « Entretien », Revue Texto,‬‬
‫العلمي يف باريس (‪ ،)CNRS‬ترأست ابتدا ًء من ‪ 2010‬الكوليج‬ ‫‪vol. XI, n°2, Juin 2006, Institut Fernand de Saussure, Paris.‬‬
‫الدويل للفلسفة‪ ،‬ومديرة جملة «شارع ديكارت»( (�‪Rue Des‬‬ ‫‪1 . Barbara Cassin (éd.), Vocabulaire européen des philosophies.‬‬
‫املرتجم عن‬
‫َ‬ ‫‪ )cartes‬التي يصدرها الكوليج‪ .‬تكشف يف احلوار‬ ‫‪Dictionnaire des intraduisibles, Paris, Seuil/Le Robert, 2004, 1532‬‬
‫جوانب من سريهتا الذاتية والعلمية‪ .‬من أشهر أعامهلا‪« :‬املفعول‬ ‫‪pages.‬‬
‫السفسطائي» (‪« ،)1995‬أرسطو واللوغوس‪ :‬حكايات يف‬ ‫‪ 2‬ـ الكلامت العربية الواردة يف املرسد (ص‪ )1494‬ويف املقاالت املخصصة‬
‫الفينومينولوجيا العادية» (‪« ،)1997‬جاك السفسطائي‪ :‬الكان‪،‬‬ ‫للمباحث التوجيهية‪ ،‬هي‪ :‬العامل‪ ،‬الله‪ ،‬املصورة‪ ،‬املتخيلة‪ ،‬القوة املفكرة‪ ،‬العقل‪،‬‬
‫اللوغوس والتحليل النفيس» (‪« ،)2012‬أكثر من لغة» (‪،)2012‬‬ ‫الرشيعة‪ ،‬الذكاء‪ ،‬الفلسفة‪ ،‬الفؤاد‪ ،‬الجوهر‪ ،‬الحد‪ ،‬الحدس‪ ،‬الحقيقة‪ ،‬الحق‪،‬‬
‫«أرخبيل أفكار باربارا كاسان» (‪.3)2014‬‬ ‫الهيوىل‪ ،‬الحكمة‪ ،‬العلة‪ ،‬االتصال‪ ،‬الكل َّيات‪ ،‬اللطيف‪ ،‬اللب‪ ،‬اللطف‪ ،‬املعنى‪ ،‬املادة‪،‬‬
‫املاهية‪ ،‬املقول‪ ،‬املركز‪ ،‬املوجود‪ ،‬امليثاق‪ ،‬املطابق‪ ،‬الناموس‪/‬النواميس‪ ،‬القلب‪،‬‬
‫‪3 . Barbara Cassin, L’effet sophistique, Paris, Gallimard, 1995,‬‬ ‫السنة‪ ،‬الصورة‪ ،‬الطبع‪/‬الطبيعة‪،‬‬
‫السبب‪ ،‬الصادق‪ ،‬اليشء‪ ،‬الشيئية‪ ،‬الصدق‪ُ ،‬‬
‫‪Aristote et le logos : contes de la phénoménologie ordinaire, Paris,‬‬ ‫التلطف‪ ،‬العنرص‪ ،‬األسطقس‪ ،‬الوجود‪ .‬من أهم املرتجمني واملعربني الذين‬
‫‪PUF, 1997, Jacques le Sophiste. Lacan, logos et psychanalyse,‬‬ ‫تخصصوا يف الفلسفة العربية اإلسالمية والذين شاركوا يف تدوين املعجم تحت‬
‫‪Paris, EPEL, 2012, Plus d’une langue, Paris, Bayard, 2012, coll.‬‬ ‫إرشاف باربارا كاسان‪ ،‬ميكن ذكر‪ :‬رميي براغ (‪ ،)Rémi Brague‬أالن دو ليبريا‬
‫‪«Les petites conférences», L’archipel des idées de Barbara Cassin,‬‬ ‫(‪ ،)Alain de Libéra‬جون فرانسوا كورتني (‪.)Jean-François Courtine‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪336‬‬
‫قطوف‬ ‫حوار مع باربارا كاسان‪ ،‬حاورهتا‪ :‬كوليت بريفار‬

‫خاصة يف كلامت لغة أخرى‪ :‬هل‬ ‫ترمجة كلامت أجنبية ذات محولة َّ‬ ‫جمموع األجوبة التي قدَّ متها كاسان يمكن إمجاهلا يف العبارات‬
‫حتتفظ الكلامت عىل معقوليتها اخلاصة يف اللغة األصلية أم تفقدها‬ ‫التالية التي نبني عليها تقديمنا القصري للحوار‪« :‬النص هو دائ ًام‬
‫يف عملية النقل والرتمجة؟ بعض الكلامت تفقد من معقوليتها ألنَّه‬ ‫نص لنصوص أخرى»‪« ،‬اللغة تفعل شيئ ًا»‪« ،‬تعني الرتمجة قبل‬ ‫ٌّ‬
‫ثمة كلامت حتتفظ يف‬ ‫يتم تكييفها مع مضامني اللغة اجلديدة‪ ،‬لكن َّ‬
‫ُّ‬ ‫كل يشء القراءة»‪« ،‬هذا ما أقصده بالرتمجة‪َّ :‬إنا تتيح فهم اللسان‬
‫التاريخ بعراقتها وأصالتها من فرط القوة الداللية والرمزية التي‬ ‫النص يف جوهره تناص‪،‬‬ ‫اخلاص بإدراك وجود ألسنة أخرى»‪ُّ .‬‬
‫َّ‬
‫املتعذر ترمجته( (�‪intraduis‬‬ ‫حتملها‪ ،‬وأصبحت بالتايل يف عداد‬ ‫ويمهد لنصوص قادمة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫يتفاعل مع نصوص‪ ،‬يأخذ من نصوص‬
‫‪ )ible‬مثل كلامت «ديمقراطية»‪« ،‬فلسفة»‪« ،‬ميتافيزيقا»‪ ،‬التي‬ ‫فهو ُينجز يف ذاته األصل االشتقاقي الذي انحدر منه‪« :‬نسيج»‬
‫احتفظت هبذا املنطوق يف لغات العامل كلها تقريب ًا‪.‬‬ ‫(‪ .)textus‬النص نسيج متشابك من العالمات والدالالت‪ .‬ال‬
‫متحرر ًا من جدل التأ ُّثر والتأثري‪ ،‬بل‬
‫ّ‬ ‫يمكنه أن يكون نص ًا مطلق ًا‬
‫مهمة الرتمجة عسرية من حيث إعادة الكتابة والرتكيب‪،‬‬ ‫تبدو هنا َّ‬ ‫هو امتداد لنصوص سابقة وإمداد لنصوص الحقة؛ يتفاعل مع‬
‫ألنا تصطدم هبذا املتعذر ترمجته واألمر الغامض أو امللتبس الكامن‬‫َّ‬ ‫نصوص حارضة‪ ،‬يتحاور معها وجيادل بشأهنا‪ .‬ال يمكن مت ُّثل‬
‫فيه‪ .‬لذا‪ ،‬عن حق‪ ،‬حتدِّ د باربارا كاسان مهام الرتمجة أو نشاطاهتا‬ ‫النص سوى كسديم من العالمات والدالالت‪ ،‬وعندما نتحدَّ ث‬
‫كل يشء‪ ،‬قراءة تارخيية وفكرية‬ ‫يف القراءة‪ .‬الرتمجة قراءة قبل ِّ‬ ‫عن السديم‪ ،‬باملعنى الكوسمولوجي للكلمة‪ ،‬فإنَّنا نستحرض‬
‫ٍ‬
‫ومضن عىل الكلامت‬ ‫للنصوص املراد ترمجتها واشتغال دقيق‬ ‫بدهي ًا جانب التبعثر أو الكاوس (‪ ،)chaos‬لكنَّه كاوس منتظم‬
‫واملصطلحات بتحليلها وإعادة تركيبها‪ ،‬بنحتها والغوص يف‬ ‫وخلق (نلمس هنا تناقض ًا يف احلدود)‪ ،‬يعطي للنص معنى‪ ،‬وإن‬ ‫َّ‬
‫معقوليتها‪ .‬جعل الرتمجة عبارة عن قراءة هو املدخل األساس نحو‬ ‫كان حيمل يف طياته التناقض واملفارقة‪.‬‬
‫ألن الرتمجة والتأويل مرادفان لبعضهام بعض ًا‪ُّ .‬‬
‫كل‬ ‫جعلها تأويالً‪َّ ،‬‬
‫ترمجة هي تأويل يف النص املراد ترمجته‪ ،‬ونلمس ذلك يف ترمجة‬ ‫سمى النص هو الرهان األول‬ ‫واخللق» ا ُمل َّ‬
‫َّ‬ ‫هذا «الكاوس املنتظم‬
‫مارتن لوثر لإلنجيل بإعادة تأويله وفق مقتضيات اإلصالح الديني‬ ‫ألنا أمام شبكة من الكلامت واألفكار ذات‬ ‫واألخري للرتمجة‪َّ ،‬‬
‫الذي شهد االنشقاق الداخيل الذي وقع يف املسيحية بني طائفتني‬ ‫جذور متشعبة ومتداخلة يصعب إجياد مكافئ هلا بدقة‪ .‬عىل الرغم‬
‫متصارعتني‪ :‬الكاثوليكية والربوتستانتية‪ .‬ما كان هلذا أن يقع لوال‬ ‫فإن الرتمجة تنتظم وفق هذه املهمة يف إعادة كتابة النص‬ ‫من ذلك‪َّ ،‬‬
‫كل تأويل‬ ‫ال جديد ًا لإلنجيل‪ .‬كذلك ُّ‬ ‫الرتمجة التي أتاحت تأوي ً‬ ‫يف لغة أخرى‪ .‬هذه اإلعادة يف الكتابة (‪ )récriture‬التي شدَّ د عليها‬
‫هو ترمجة‪ ،‬بحكم أنَّه يرجع إىل سرية املصطلح األصلية‪ ،‬ينبش يف‬ ‫يتم فيها نقل مضامني لغة أجنبية‬ ‫مارك دولوين هي الطريقة التي ُّ‬
‫‪4‬‬

‫أرضيته‪ ،‬يفتّش يف تارخيه‪ ،‬بمعنى أنَّه يرتجم املضامني التي انتقلت‬ ‫إىل اللغة األم وفق معقولية يقوم املرتجم بتحديدها وإبرازها‪ .‬إذا‬
‫إليه من مصطلحات لغات أخرى سابقة أو معارصة للمصطلح‪.‬‬ ‫كانت الرتمجة هي نقل نصوص لغة أجنبية إىل لغة أخرى بإجياد‬
‫أن تاريخ اللغة من ثقافة إىل أخرى خيتلف‬ ‫مكافئ نسبي‪ ،‬مع العلم َّ‬
‫هبذه القراءة املزدوجة‪ ،‬التي تعني الرتمجة والتأويل يف الوقت‬ ‫من حيث االشتقاق والتعبري واملضامني الفكرية والرمزية‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫نفسه‪ ،‬ندرك بدون لبس التفاعل اجلوهري بني اللغات‪ ،‬وأنَّه ال‬ ‫يتم النطق هبا‬‫بمجرد أن َّ‬
‫َّ‬ ‫أن اللغة تفعل شيئ ًا‬ ‫هذا دليل ساطع عىل َّ‬
‫انفكاك للغة عن أخرى‪ .‬تواجدها املشرتك (‪ )Mitsein‬هو ما يتيح‬ ‫وحتيينها‪ .‬فهي تؤدي إذن أدوار ًا تداولية يصدِّ قها السياق والظرف‬
‫فهم كينونتها اخلاصة (‪ .)Dasein‬ونعرف ببداهة ال نقاش فيها‬ ‫والذات الناطقة‪ .‬اللغة تفعل شيئ ًا‪ ،‬وليست الرتمجة سوى الوسيط‬
‫كل ترمجة هي اشتغال عىل اللغة األم فيام هي تنقل لغة أخرى‬ ‫أن َّ‬
‫َّ‬ ‫(‪ )médium‬الذي ُي ِّقق الطابع األدائي (‪ )performatif‬للغة يف‬
‫ٍ‬
‫لتستضيفها يف بيتها‪ .‬عندما نرتجم فإنَّنا ال نتفاعل فقط مع اللغة‬ ‫يتم‬‫أي لسان كانت‪ .‬تبدو هذه األدائية أكثر إحلاح ًا وإشكاالً عندما ُّ‬ ‫ِّ‬
‫األجنبية‪ ،‬لكن نتعامل أيض ًا مع اللغة األم التي ننتمي إليها‪َّ ،‬‬
‫ألن‬
‫الرتمجة تدفعنا لنقوم بعملية حرث وتقليب يف اللغة األم بالبحث‬ ‫‪Paris, MSH, 2014, coll. «L’archipel des idées».‬‬
‫عن مصطلحات دقيقة ونحت كلامت مناسبة واالنغامس يف‬ ‫‪4 . Marc de Launey, Qu’est-ce que traduire ? Paris, Vrin, 2006, coll.‬‬
‫تاريخ الكلامت‪« .‬ضيافة» اللغة األجنبية هي بشكل ما «إضافة»‬ ‫‪«Chemins Philosophiques», p. 14 - 15‬‬

‫‪337‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ترمجة وتقديم وتعليق‪ :‬حممد شوقي الزين‬ ‫قطوف‬

‫يمكن أن نكون سابقني عىل سقراط (‪ )présocratiques‬بشكل‬ ‫يف اللغة األم‪ ،‬اشتغال حثيث عليها‪ ،‬جتديد جوهري يف هيكلها‬
‫أن شعر‬‫آخر؛ استعامل مغاير للغة‪ :‬لقد أظهر جورجياس كيف َّ‬ ‫ومضامينها‪ .‬الرتمجة بالتعريف عبارة عن حتديث يف اللغات‪ ،‬هي‬
‫بارمنيدس بدالً من أن ينطلق‪ ،‬كام يزعم‪ ،‬من «يوجد» الكائن (‪il y‬‬ ‫بالدرجة القصوى عبارة عن حداثة الفكر يف اصطناعه حلدث‬
‫«ثمة» كائن كام يقول هايدغر‪،)es gibt Sein( 6‬‬ ‫‪ )a de l’être‬أو َّ‬ ‫الفكرة بالكلمة‪ .‬هذا ما يمنح الرتمجة الدور األساس واخلطري‬
‫فهو يصنع باألحرى كائن ًا بالتعبري عنه‪ ،‬جيعله كائن ًا (‪.)le fait être‬‬ ‫يف الوقوف جرس ًا بني اللغات والثقافات‪ ،‬عىل أساس اجلسارة يف‬
‫بكل وفاء وتطابق‪ ،‬لكن‬ ‫ال نذهب من الكائن إىل التعبري عن الكائن ِّ‬ ‫الكلمة والفكرة والشجاعة يف احلقيقة‪.‬‬
‫عىل العكس من ذلك الكائن هو مفعول القول‪ ،‬منتوج القصيدة‪،‬‬ ‫***‬
‫اشتغلت مع جون‬ ‫ُ‬ ‫بدأت من هنا‪.‬‬‫ُ‬ ‫حصيلة أدائية اخلطاب‪ .‬لقد‬ ‫ترجمة‬
‫بوالك (‪ )Jean Bollak‬وهاينز ويزمان (‪ )Heinz Wismann‬يف‬ ‫هل يمكنك أن تقدّ مي لنا حمتوى بحوثك‪ ،‬من الوجهتني‬
‫عيل أن أعرف اللغة اليونانية‬ ‫[مدينة] ليل (‪ ،)Lille‬ألنَّه كان لزام ًا َّ‬ ‫الفلسفية والفيلولوجية‪ ،‬وحتى «املعجم األورويب للفلسفات‪:‬‬
‫كنت أريد معرفة‬ ‫درست اآلداب الكالسيكية‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت قد‬
‫أكثر‪ ،‬وإن ُ‬ ‫ّ‬
‫املتعذر ترمجته»؟‬ ‫قاموس‬
‫يتم حتقيق النصوص بتمحيصها‪،‬‬ ‫مغزى الفيلولوجيا‪ ،‬كيف ُّ‬
‫مثل «رسالة الالوجود»‪ ،‬عىل غرار عظام احليوان قبل التاريخ‪،‬‬ ‫متخصصة يف الفلسفة اليونانية‪ ،‬عىل وجه التحديد اخلطابة‬ ‫ّ‬ ‫إنَّني‬
‫حيوان مستهان وحمت َقر من طرف الرتاث؛ وذلك بإعادة تركيب‬ ‫بكل ما من شأنه أن ُي َفهم اليوم من هذه املعارف‪.‬‬ ‫والسفسطة‪ ،‬وأهتم ِّ‬
‫مت رسالتي يف الدكتوراه‪ ،‬قال‬ ‫هيكله العظمي‪ .‬أتذكَّر عندما قدَّ ُ‬ ‫شاركت يف ملتقى تور (‪ )Thor‬مع مارتن هايدغر عند رونيه‬ ‫ُ‬ ‫لقد‬
‫فهمت‬
‫ُ‬ ‫يل جون بول دومون (‪« :)Jean-Paul Dumont‬آه! لقد‬ ‫كنت وقتها‬ ‫شار (‪ )René Char‬سنة ‪ ،1969‬بعد أحداث ماي ‪ُ .68‬‬
‫قمت بجعله يف األعىل!»‪.‬‬ ‫كل ما كان يف األسفل‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬
‫أردت فعله‪ُّ .‬‬ ‫ما‬ ‫طالبة عند الفيلسوف والشاعر ميشال ديغي (‪،)Michel Deguy‬‬
‫حاولت إعادة نرش النص الذي مل يفقهه النارشون‪ ،‬واعتربوا‬ ‫ُ‬ ‫لقد‬ ‫وتابعت أيض ًا حمارضات جون بوفري (‪ :)Jean Bauffret‬رابطة‬ ‫ُ‬
‫ألن أفالطون‬‫جمرد مترين أسلويب رديء دون معنى فلسفي‪َّ ،‬‬ ‫ذلك َّ‬ ‫حض ُت إجازة حول ليبنتز‪،‬‬ ‫كنت وقتها قد َّ‬ ‫من الشخصيات‪ُ .‬‬
‫األبة النقدية‬‫وكل أخيار الناس َّقرروا ذلك‪ .‬قامت َّ‬ ‫وأرسطو َّ‬ ‫اندهشت‬
‫ُ‬ ‫«مقالة حول امليتافيزيقا» و«مراسلة بني ليبنتز وأرنولد»‪.‬‬
‫بـ«الصعود» جزئي ًا يف النص حتت دهشة دومون‪.‬‬ ‫أي يشء‪ ،‬وقاال اليشء نفسه تقريب ًا‪ ،‬بكلامت‬ ‫من كوهنام مل يتفقا يف ِّ‬
‫كل واحد منهام شدَّ د‬ ‫متشاهبة‪« :‬ما ليس بكائن‪ ،‬فهو ليس بكائن»‪ُّ .‬‬
‫ورأيت َّ‬
‫أن اللغة هي‬ ‫ُ‬ ‫لقد تع َّل ُ‬
‫مت االشتغال عىل مادية النصوص‪،‬‬ ‫عىل العبارة‪ ،‬وحصل بعد ذلك نوع من اجلمود‪ .‬لقد كانت أوىل‬
‫أن ملتقى (تور) كان‬ ‫جتاريب متع ّلقة باللغة‪ ،‬بطريقة التعبري‪ .‬يبدو َّ‬
‫‪Pierre Aubenque, Le problème de l’être chez Aristote, Paris, PUF,‬‬ ‫قمت باستبطان ما اقرتحه هايدغر‬ ‫يف جممله حول ليبنتز‪ .‬مذ ذاك ُ‬
‫‪1962 ; La prudence chez Aristote, Paris, PUF, 1963 ; Concepts‬‬ ‫فهمت أيض ًا كيف‬‫ُ‬ ‫بشأن العالقة بني الفلسفة وتاريخ الفلسفة‪.‬‬
‫‪et catégories dans la pensée antique, Paris, 1980 ; Problèmes‬‬ ‫تم تقديسهام اليوم بشكل‬ ‫تتداخل األملانية مع اليونانية‪ ،‬وكيف َّ‬
‫;‪aristotéliciens, 1- Philosophie théorique, Paris, Vrin, 2009 ‬‬ ‫أدركت وقتها َّأنام لغتان متفلسفتان (‪langues‬‬ ‫ُ‬ ‫خطري‪ ،‬رغم أنَّني‬
‫‪Problèmes aristotéliciens, 2- Philosophie pratique, Paris, Vrin, 2011.‬‬ ‫اشتغلت عىل «رسالة الالوجود»‬ ‫ُ‬ ‫‪ .)philosophantes‬ثم‬
‫‪  6‬ـ الكلمة األملانية ‪ es gibt‬تعني حرفياً «هذا مي ُّد أو يُعطي» (‪،)ça donne‬‬ ‫عيل بيري‬
‫جلورجياس (لقد كان موضوع الدكتوراه الذي اقرتحه َّ‬
‫والعبارة ‪ es gibt Sein‬حرفياً‪« :‬الكائن هذا املعطى» أو «الكائن كام هو‬ ‫شق الطريق‪ ،‬أنَّه‬ ‫واكتشفت‪ ،‬بعد ِّ‬
‫ُ‬ ‫أوبينك‪،)Pierre Aubenque 5‬‬
‫معطى»‪ ،‬والعبارة تدور فلسفياً حول الوجود بوصفه منحة أو عطية‪ .‬ميكن‬
‫الرجوع إىل الفيلسوف الفرنيس املتخصص يف الفينومينولوجيا جون لوك ماريون‬ ‫املتخصصني الغربيني يف‬
‫ِّ‬ ‫‪ 5‬ـ بيري أوبينك ‪( Pierre Aubenque‬ولد سنة ‪ ،)1929‬أحد أهم‬
‫لفهم الطابع الجودي للوجود (املرتجم)‪ .‬طالع كتابه‪:‬‬ ‫أرسطو‪ .‬من أشهر أعامله‪« :‬مشكلة الوجود عند أرسطو» (‪« ،)1962‬الحصافة عند أرسطو»‬
‫‪Jean-Luc Marion, Etant donné. Essai d’une phénoménologie de la‬‬ ‫(‪« ،)1963‬مفاهيم ومقوالت يف الفكر العريق» (‪« ،)1980‬مشكالت أرسطية‪ 1- :‬الفلسفة‬
‫‪donation, Paris, PUF, 1997.‬‬ ‫النظرية» (‪« ،)2009‬مشكالت أرسطية‪ 2- :‬الفلسفة العملية» (‪( )2011‬املرتجم)‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪338‬‬
‫قطوف‬ ‫حوار مع باربارا كاسان‪ ،‬حاورهتا‪ :‬كوليت بريفار‬

‫أصناف ًا مهدَّ د ًة باالنقراض‪ :‬الفرنسية‪ ،‬األملانية‪ ،‬اإلسبانية‪ ... ،‬إلخ‪.‬‬ ‫يشء يف صدد التشكيل‪ .‬كام يقول شاليرماخر بشأن العالقة بني الكاتب‬
‫وإن كانت الفلسفة التحليلية األنجلوسكسونية تويل اهتامم ًا خاص ًا‬ ‫ولغته‪« :‬إنَّه عضوها‪ ،‬وهي عضوه»‪ .‬بالنسبة إىل السفسطائية واهلراطقة‬
‫باللغة‪ ،‬فهي تساهم يف دعم هذه احلالة‪ .‬تتداول فكرة مفادها أنَّنا‬ ‫ثمة صيغ يف التعبري ينبغي ابتكارها‪ ،‬التي هي‬ ‫عموم ًا هذا يشء مهم‪َّ :‬‬
‫نفكر كلنا بالطريقة نفسها‪ ،‬وتتنكَّر للتاريخ وللغات (أرسطو‪،‬‬ ‫يف صدد االبتكار يف النص‪ ،‬والتي مل توضع مسبق ًا بشكل معياري‪.‬‬
‫أن اللغة ليست سوى‬ ‫زمييل يف أكسفورد‪ ،)...‬عىل الرغم من َّ‬ ‫جاءت هذه اجلمل إجاب ًة عن ُجل أخرى‪ .‬كام يشري نيتشه‪ ،‬النصوص‬
‫أن اإلنجليزية هي لغة اإلمرباطورية‪،‬‬ ‫ثياب عديمة الفائدة‪ .‬بحكم َّ‬ ‫أن جورجياس استعاد بارمنيدس‪،‬‬ ‫شك يف َّ‬
‫اليونانية هي أطراس‪ .‬ال َّ‬
‫لغة القوة السياسية‪-‬االقتصادية‪ ،‬لغة التحا ُدث‪ ،‬اللغة العادية دون‬ ‫كل هذا يمكن قراءته‪ ،‬لكن يتطلب‬ ‫وأن بارمنيدس استعاد هومريوس‪ُّ .‬‬ ‫َّ‬
‫االنتفاخ امليتافيزيقي‪ ،‬فاللغة التي ُيتعا َمل هبا هي إذن اإلنجليزية‪.‬‬ ‫حاولت اقتناءها قدر املستطاع وما أزال أقتنيها‪ .‬أعتقد أنَّه‬
‫ُ‬ ‫معرفة وفرية‬
‫ال القومية األنطولوجية وال الكل‪-‬باإلنجليزية‪ ،‬ها نحن أوالء‬ ‫نص‬ ‫هبذه الفكرة نعرف ما نقصده من كلمة «ثقافة»‪ :‬النص هو دائ ًام ٌّ‬
‫نجد هايدغر‪ ،‬من جهة‪ ،‬والفلسفة التحليلية‪ ،‬من جهة أخرى‪،‬‬ ‫لنصوص أخرى‪ ،‬خصوص ًا عند اإلغريق‪ .‬ما تعلمته من اخلطابة‬
‫عب عن‬ ‫حتت اإلقامة اجلربية يف القاموس‪ :‬ال أحدمها وال اآلخر ُي ِّ‬ ‫أن اللغة «تفعل» شيئ ًا‪ ،‬أنَّه يمكننا أن نجعل كائن ًا بالتعبري‪ ،‬وهبذه‬‫هو َّ‬
‫الفلسفة يف جمملها‪.‬‬ ‫تم ابتكار املدينة والسياسة‪ ،‬احلارضة اليونانية‪ ،‬العامل «األكثر‬ ‫الطريقة َّ‬
‫ثرثر ًة من غريه»‪ ،‬تقول حنَّه أرنت (‪ )Arendt‬باستشهادها ببوركهرت‬
‫ما معنى الترجمة بالنسبة إليك؟‬ ‫(‪ .)Burkhardt‬إذا قمنا بمقابلة هذا ال ُبعد األدائي (‪dimension‬‬
‫كل يشء القراءة‪َّ .‬إنا عملية قراءة النصوص‬ ‫تعني الرتمجة قبل ِّ‬ ‫ال عىل‬ ‫كل فيلسوف يشتغل قلي ً‬ ‫‪ )performative‬للغة بانشغاالت ِّ‬
‫ألن الكتابة عبارة عن طِرس ‪،8‬‬ ‫يف لساهنا‪ .‬وهي مع َّقدة للغاية‪َّ ،‬‬ ‫اليونانية‪ ،‬بمعنى انشغاالت الرتمجة‪ ،‬فإنَّنا نقوم بغمر هذه األدائية يف‬
‫كل ما يوجد حتت النص‪،‬‬ ‫والقراءة عبارة عن َع ْرض‪ .‬ينبغي معرفة ِّ‬ ‫متا ُيز اللغات‪ :‬هذا بالضبط ما دفعني إىل القاموس‪ .‬يساهم القاموس يف‬
‫كل يشء‪ ،‬وهذا ما ال‬ ‫ومعرفة ما نضيفه عليه‪ .‬يتطلب األمر سامع‪ِّ 9‬‬ ‫نزع القداسة (‪ )désacraliser‬عن اليونانية واألملانية‪.‬‬
‫ثم االنتقال من لسان إىل آخر بمراعاة املفاجأة‬ ‫نفعله يف الغالب‪َّ .‬‬
‫ثمة طريقتان‬ ‫األصلية يف لغة الوصول‪ .‬كام يقول شاليرماخر‪َّ ،‬‬ ‫ليست اليونانية واألملانية اللغتني الوحيدتني اللتني تتقنهام‬
‫ُقرب القارئ من الكاتب‪ ،‬والرتمجة‬ ‫يف الرتمجة‪ :‬الرتمجة التي ت ِّ‬ ‫الفلسفة‪ .‬يقوم القاموس بإبعادنا عن «القومية األنطولوجية»‬
‫أن هناك‪ ،‬يف احلقيقة‪،‬‬ ‫ُقرب الكاتب من القارئ‪ .‬ويضيف َّ‬ ‫التي ت ِّ‬ ‫(عبارة جلون بيري لوفيفر ‪ ،)Jean-Pierre Lefebvre‬ألنَّه ينطلق‬
‫ترمجة واحدة‪ ،‬تلك التي يقرتب فيها القارئ من الكاتب‪ .‬الرتمجة‬ ‫من املتعدِّ د‪ ،‬وليس من وحدة أصلية ذات منبع وحيد‪ ،‬تنفرد هبام‬
‫األخرى هي الرتمجة الفورية (‪ .10)interprétariat‬االهتامم بام‬ ‫هاتان اللغتان (اليونانية واألملانية التي هي يونانية أكثر من اليونانية‬
‫ذاهتا)‪ .‬فهو يقوم بنزع األقلمة (‪ )déterritorialise‬ويدفعنا ببهجة‬
‫نحو ما بعد بابل‪ .‬عالو ًة عىل هذه اهليدغرية الكاريكاتورية نوع ًا‬
‫لكل مخطوط مصنوع من مادة جلدية‬
‫‪  8‬ـ يُقال الطرس (‪ِّ )palimpseste‬‬ ‫عدونا هو «الكل‪ -‬باإلنجليزية» (‪)tout-à-l’anglais‬؛‬ ‫ما‪َّ ،‬‬
‫فإن َّ‬
‫مستعملة (برشامن)‪ ،‬ميكن محو الكتابة فيها إلعادة كتابة يشء آخر (املرتجم)‪.‬‬ ‫اإلنجليزية التي مل ت ُعد لسان ًا‪ ،‬املنقطعة كل َّي ًة عن أصحاهبا وعن‬
‫‪  9‬ـ الكلمة ‪ entendre‬تعني «السامع» وأيضاً «الفهم»‪ .‬أضع السامع بدالً من الفهم‪،‬‬ ‫التداول العاملي‪ ،‬يشء من قبيل اللغة الشائعة‬ ‫ُ‬ ‫جمرد لغة يف‬
‫أعامهلا‪َّ ،‬‬
‫ألنَّه يفيد االنتباه ويفيد سريورة العملية اإلدراكية نفسها‪ .‬الفهم يُت ّوج هذه العملية‬ ‫تواصل‪ ،‬لكنَّها‬
‫ُ‬ ‫(‪ )koinè‬التي ال نستغني عنها بال شك يف ِّ‬
‫كل‬
‫اإلدراكية‪ ،‬وقد يأيت ناقصاً أو سيّئاً‪ .‬نركِّز إذن عىل السريورة وليس عىل الغاية (املرتجم)‪.‬‬ ‫التواصل العاملي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫جمرد أداة سهلة يف‬
‫ليست يف يشء لغة الثقافة‪َّ .‬إنا َّ‬
‫قسم شاليرماخر الرتجمة إىل قسمني‪ :‬الرتجمة األصيلة (‪)Übersetzung‬‬
‫‪  10‬ـ يُ ّ‬ ‫تنطوي عىل العديد من املفاعيل الفاسدة‪ .‬تكمن اخلطورة يف َّأل‬
‫والرتجمة التقنية (‪ .)Dolmeschung‬الرتجمة األوىل تأويلية وفلسفية‪ ،‬كتابية‬ ‫‪7‬‬
‫تكون هنالك لغة أخرى غريها‪ ،‬يش ٌء من قبيل األنجلوكوكبية‬
‫يف جوهرها‪ ،‬ت ُفكّر يف الكلامت فيام هي ترتجمها أو تنقلها من لسان إىل آخر؛‬ ‫املعوملة‪ ،‬وهلجات نتحدث هبا يف املنزل‪ ،‬تتطلب االحتفاظ بوصفها‬
‫والثانية هي لغوية وتلقائية‪ ،‬شفهية يف الغالب‪ ،‬كام هو الحال مع االجتامعات‬
‫والندوات‪ .‬تنخرط الرتجمة الفورية يف هذه الرتجمة التقنية (املرتجم)‪.‬‬ ‫‪  7‬ـ الكلمة ‪ُ Globish‬مركَّبة من الكوين أو الكوكبي (‪ )Global‬واإلنجليزية (‪( )English‬املرتجم)‪.‬‬

‫‪339‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ترمجة وتقديم وتعليق‪ :‬حممد شوقي الزين‬ ‫قطوف‬

‫هل يمكنك أن تقدّ مي لنا‪ ،‬عرب أمثلة‪ ،‬احلدود واإلسهامات‬ ‫َّ‬


‫يتعذر ترمجته‪ )les intraduisibles( 11‬هو االهتامم بالنقاط الصعبة‬
‫اخلاصة بفعل الرتمجة نفسه؟‬ ‫من الرتمجة‪ ،‬بالعالمات األساسية يف االختالف بني األلسنة‪.‬‬
‫الكف عن الرتمجة‪ .‬وهذه‬
‫ِّ‬ ‫هذا ال يعني عدم الرتمجة‪ ،‬وإنَّام عدم‬
‫عندما نرتجم‪ ،‬فإنَّنا نصطدم مبارشة بالدال (‪ِّ ،)signifiant‬‬
‫بكل‬ ‫الصعوبات املرتابطة هي يف الواقع مكاسب وفتوحات‪ .‬نعمل‬
‫َّ‬
‫املتعذر ترمجته لأللسنة»‪:‬‬ ‫يرن؛ ما يسميه جاك دريدا «اجلسد‬ ‫ما ُّ‬ ‫عىل حتريك معرفتنا بالنصوص األصلية وبلساننا بوصفه لغة‬
‫حتركه النصوص الفلسف َّية‬
‫كل ما ّ‬‫كل ما يستعمله الشعر‪ ،‬وأيض ًا ُّ‬‫ُّ‬ ‫الوصول‪ .12‬طريقة يف الفهم‪ ،‬فهم أفضل وشعور أمثل باللغات‪.13‬‬
‫بوصفها نصوص ًا أدبية‪ .‬هنا يكمن الفرق مع الفلسفة التحليلية‬
‫األنجلو‪-‬سكسونية التي ال تعترب دريدا فيلسوف ًا‪ ،‬وأنَّه [كان]‬ ‫‪  11‬ـ ما يتعذَّر ترجمته (‪ )intraduisible‬ليس ما يستحيل ترجمته‪ ،‬وإنَّ ا فقط‬
‫درس فقط يف أقسام األدب املقارن يف اجلامعات‪ .‬ارتأينا‪ ،‬يف هذا‬ ‫ُي ّ‬ ‫الصعوبة أو العائق يف نقل كلمة لها شحنة خاصة يف لسانها األصيل ال تتوفر‬
‫يتغي بالتفلسف باللغات‪ ،‬وأن‬ ‫القاموس‪ ،‬أن ن ُّبي ما األمر الذي َّ‬ ‫عليها يف اللسان املرت َجم إليه‪ .‬تاريخ الرتجمة زاخر بأشكل املتعذر ترجمته‪ 1- :‬إ َّما‬
‫نعي أنَّنا نستعمل كلامت وليس مفاهيم فقط‪ .‬لنأخذ عىل سبيل‬ ‫أل َّن الكلمة األصلية ملتبسة‪ُّ ،‬‬
‫تدل عىل اليشء ونقيضه‪ ،‬مثل كلمة «فارماكون»‬
‫املثال الكلمة التي نعتربها صعبة الرتمجة وهي كلمة «لوغوس»‬ ‫اليونانية (‪ )Pharmakon‬التي ُّ‬
‫تدل عىل «السم» وعىل «الرتياق» يف الوقت‬
‫ألن هلا سعة كبرية‪ ،‬لكن‬ ‫متعذرة الرتمجة‪َّ ،‬‬‫ّ‬ ‫(‪ .)logos‬فهي كلمة‬ ‫نفسه‪ ،‬أو كلمة «أوفيبونغ» األملانية (‪ )Aufhebung‬التي ُّ‬
‫تدل عىل االحتفاظ‬
‫نقطة الربط سهلة البيان‪ ،‬وهي العالقة التناسبية‪ :‬أ‪/‬ب = ج‪/‬د‪.‬‬ ‫واملجاوزة يف الوقت نفسه؛ ‪ 2-‬وإ َّما أل َّن الكلمة األصلية لها مجال نظري وعميل‬
‫يتم التقريب بينها‪ ،‬الربط‬ ‫هذا هو اللوغوس‪ ،‬أي عنارص منتقاة ُّ‬ ‫ال يتوفر يف اللسان املرت َجم إليه‪ ،‬مثل الكلمتني «تراجيديا» و«كوميديا» يف املرسح‬
‫بينها‪ ،‬بمعنى «عالقة»‪ .‬انطالق ًا من هذه الداللة‪ ،‬نفهم كيف َّ‬
‫أن‬ ‫اليوناين‪ ،‬وقف إزاءهام ابن رشد موقف العجز يف الرتجمة‪ ،‬نظرا ً أل َّن املجال‬
‫تدل عىل أنامط خمتلفة من العمليات الرياضية‪ ،‬والعقالنية‪،‬‬ ‫الكلمة ُّ‬ ‫الفني املسمى املرسح مل يكن موجودا ً عند العرب‪ .‬استعمل ابن رشد «التقريظ»‬
‫جلمل‪،‬‬ ‫تدل عىل وحدات الكلامت وا ُ‬ ‫واخلطابية‪ ،‬واللغوية؛ وكيف ُّ‬ ‫و«الهجاء» يف نعت الكلمتني‪ ،‬أي أنَّه استعمل لفظتني من وحي املجال الفني‬
‫الرتكيب نفسه‪ ،‬اخلطاب‪ ،‬القول‪ ،‬األلسنة‪ ...،‬إلخ؛ والربط‬ ‫اختص به العرب‪ ،‬وهو الشعر والقصيدة (املرتجم)‪.‬‬
‫الذي َّ‬
‫كل ما له عالقة بالفكر‪ .‬عندما حاول املفكرون الالتني‪،‬‬ ‫املفهومي‪ُّ ،‬‬ ‫حول قصة ابن رشد يف ترجمة الكوميديا والرتاجيديا‪ ،‬طالع دراسة خورخي لويس‬
‫وعىل رأسهم شيرشون‪ ،‬إجياد مكافئ‪ ،‬اقرتحوا مفاتيح لغوية يف‬ ‫بورخيس‪« ،‬مسعى ابن رشد» يف كتاب «األلف»‪:‬‬
‫غاية العبقرية‪« :‬العقل والكالم» (‪ .)ratio et oratio‬نرى كيف‬ ‫‪Jorge Luis Borges, « La quête d’Averroès », in : L’Aleph, tr. Roger‬‬
‫تراجعي ًا انطالق ًا ممَّا توحيه كلمة «لوغوس»‪ .‬يف‬
‫َّأنم اقرتحوا فه ًام ُ‬ ‫‪Caillois et René L.-F. Durand, Paris, Gallimard, 1967.‬‬
‫املادة «لوغوس» [من املعجم األورويب للفلسفات]‪ ،‬قلنا إنَّنا لن‬ ‫‪  12‬ـ «لسان املنطلق» (‪ )langue de départ‬و«لسان الوصول» (‪langue‬‬
‫أن ما كان‬ ‫نصل مبارشة [إىل مضمون الكلمة]‪ .‬انطلقنا من فكرة َّ‬ ‫‪ )d’arrivée‬من ابتكار املنظّر املعارص للرتجمة جون رونيه الدمريال الذي يتحدَّث‬
‫هيم هو الوسائل التقريبية يف الرتمجة التي اقرتحتها األلسنة‪ .‬رأينا‬‫ُّ‬ ‫أيضاً عن «اللسان‪-‬املنبع» (‪ )langue-source‬و«اللسان‪-‬الهدف» (‪langue-‬‬
‫أن هذه الوسائل شغلت دور املفاتيح اللغوية‪« .‬العقل والكالم»‬ ‫َّ‬ ‫‪( )cible‬املرتجم)‪ .‬طالع‪:‬‬
‫ثم يف الفرنسية «احلساب واحلكاية»‬ ‫(‪ )ratio et oratio‬هو األول؛ َّ‬ ‫‪Jean-René Ladmiral, Traduire : théorèmes pour la traduction,‬‬
‫كل األشكال املمكنة من الكتابة؛ ويف‬ ‫(‪ )compte, conte‬يف ِّ‬ ‫‪Paris, Payot, 1979.‬‬
‫اإلنجليزية بمقابل حساب (‪ )count‬وعرض (‪ )account‬ورسد‬ ‫‪  13‬ـ الشعور باللغة (‪ )das Gefühl‬مسألة أساسية لدى املنظرين للغة األملان‬
‫(‪ )recount‬هناك يشء مثل حكاية (‪ ،)tale‬روى (‪ ،)tell‬عصا‬ ‫يف العرص الحديث أمثال يوهان هردر (‪ )J. Herder‬وفلهلم هومبولت (‪W.‬‬
‫احلساب (‪)tally‬؛ ويف األملانية‪ ،‬بجانب العدد (‪ ،)Zahl‬والرسد‬ ‫‪ )Humboldt‬أل َّن اللغة تكتيس هنا قيمة حيوية‪ ،‬داللة يف الطاقة أو القوة (‪die‬‬
‫(‪ ،)Erzählung‬تلعب اللغة‪ ،‬مع هايدغر خصوص ًا‪ ،‬عىل الفعل‬ ‫‪ )Kraft‬وليست مج َّرد كلامت نربط بينها بشكل ميكانييك جاف‪ .‬اللغة كائن حي‪،‬‬
‫وضع (‪ ،)legen‬قرأ (‪ )liesen‬يف األملانية القديمة‪ ،‬وقرأ (‪)lesen‬‬ ‫ُعب عن رؤية مع َّينة للعامل (‪ ،)Weltanschauung‬فهي تع ّبئ إذن اإلحساس‬
‫ت ّ‬
‫يف األملانية احلديثة‪ ...،‬إلخ‪ .‬باالنتشال اإلقليمي( (�‪déterritori‬‬ ‫والشعور (مباحث رومانسية بامتياز)‪ ،‬وليس فقط العقل والحكم (مباحث تنويرية‪،‬‬
‫‪ ،)aliser‬تبع ًا لفكرة دولوز‪ ،‬نعرف ما جيري‪ .‬ال نفهم هو َّية ما‬ ‫أو سليلة األنوار‪ ،‬املوازية وأحياناً املتعارضة مع املباحث الرومانسية) (املرتجم)‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪340‬‬
‫قطوف‬ ‫حوار مع باربارا كاسان‪ ،‬حاورهتا‪ :‬كوليت بريفار‬

‫اهلم األساس الذي اعرتانا)‪ ،‬وهو‬‫الغرض من القاموس (كان ُّ‬ ‫سوى بيشء خارج عنها‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ال يتك َّلم الشخص لسانه‬
‫تبيان االنتقاالت والتحويالت‪ ،‬أي كيف تؤ ِّثر اللغات الفلسفية‬ ‫جيد ًا سوى بمقارنته بلسان آخر‪ .‬ال نُدرك نظام اشتغال اللسان‬
‫حتدثت من‬
‫ُ‬ ‫والنصوص يف بعضها بعض ًا‪ ،‬وكيف تتفاعل‪ .‬لقد‬ ‫ّإل عندما نقارنه بنمط اشتغال لسان آخر‪ .‬هذا ما أقصده بالرتمجة‪:‬‬
‫قبل عن اليونانية لغة طرسية (‪ ،)palimpsestique‬لكن يبدو‬ ‫بأنا‬
‫َّإنا تتيح فهم اللسان اخلاص بإدراك وجود ألسنة أخرى َّ‬
‫أن الثقافة األوروبية يف جمملها (وفيام وراءها بال شك) ذات‬‫َّ‬ ‫ألسنة خمتلفة‪ ،‬وملاذا هي خمتلفة‪ .‬هذا حييلني إىل جتربة ال أحتدَّ ث‬
‫طرس خاص باللسان (‪ ،)interlingual‬إذا جاز يل التعبري‬ ‫كنت مربية‬‫عنها غالب ًا‪ ،‬لكن كانت حاسمة كاللقاء هبايدغر‪ُ .‬‬
‫هبذه الصيغة‪ .‬مل تكن فرنسية ديكارت كذلك سوى باالنتقال‬ ‫أطفال يعانون من الذهان يف مستشفى األمراض العقلية‪ .‬لقد‬
‫إىل الالتينية التي محلت هي األخرى اليونانية وقامت بقولبتها؛‬ ‫تعذر عليهم الكالم‪،‬‬ ‫كانوا أطفاالً يعانون من كسب لغة أم‪َّ ،‬‬
‫معي من اليونانية‪ .‬هذا‬ ‫وأيض ًا نفي نمط َّ‬
‫معي من الالتينية‪ ،‬ونمط َّ‬ ‫تساءلت ما‬
‫ُ‬ ‫وكانوا أحيان ًا يبثون أصوات ًا‪ ،‬رغم َّأنم كانوا أذكياء‪.‬‬
‫هو املثري لالهتامم‪َّ :‬أل تكون هنالك هو َّية سوى باملقارنة مع هو َّية‬ ‫العمل إلقناعهم بأنَّه لدهيم لغة أم‪ ،‬أي لغة أكثر أمومة من غريها‪.‬‬
‫وأن هذا النوع من املقارنات غري ثابت أو فج؛ بل هناك‬ ‫أخرى‪َّ ،‬‬ ‫أخذت حماورة «كراتيلوس» األفالطونية حول استقامة األسامء‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ارتباطات‪ ،‬انتحاالت‪ ،‬خمالفات‪ ،‬وهذا ُيش ِّغل من جديد األلسنة‬ ‫وكتبت بعض الكلامت اليونانية عىل السبورة‪ .‬لقد كانوا ينظرون‬ ‫ُ‬
‫كل لسان بالشبكة التي نرميها عىل‬ ‫واألفكار‪ .‬يقارن هومبولت َّ‬ ‫وكأنا يشء غريب حيصل يف حياهتم‪ .‬قرأنا بعض‬ ‫َّ‬ ‫إىل األبجدية‬
‫العامل لنستخرج جزء ًا آخر من العامل‪ .‬ينبغي املقارنة إذن بني ما‬ ‫اجلمل من «كراتيلوس»‪ ،‬وأدركوا أنَّه يمكن اللعب باللغة‪َّ ،‬‬
‫وأن‬
‫حتتويه الشبكة‪.‬‬ ‫أفالطون كان يلعب باللغة اليونانية‪ ،‬التي مل تكن لغتهم األم‪.‬‬
‫دفعني األمر ألن أفرس هلم اللعب بالكلامت يف «كراتيلوس»‪،‬‬
‫صادفت حاالت خت َّل ِ‬
‫يت فيها عن إدراج كلمة يف القاموس؟‬ ‫ِ‬ ‫هل‬ ‫وقلت هلم‪« :‬وأنتم‪ ،‬ماذا بإمكانكم فعله بلغتكم؟»‪ .‬الكلمة‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫ثمة حدود قمت بوضعها وتوضيحها؟‬ ‫هل َّ‬ ‫«بواب»( (�‪con‬‬‫عيل اشتقاقها كانت الكلمة َّ‬ ‫األوىل التي اقرتحوا َّ‬
‫مقسمة إىل اثنني‪ ،‬أتتخ َّيلني ذلك؟‬
‫‪َّ ، )cierge‬‬
‫‪14‬‬

‫كل يشء‪ .‬لقد اشتغلت بام كان بالنسبة‬ ‫َّإنا حدود قوانا قبل َّ‬
‫إلينا عبارة عن عالمة بارزة دون ا ِّدعاء الشمول َّية‪ .‬لقد تقاسمنا‬ ‫هل تقبلني بصورة املرتجم بوصفه عابر ًا ألنامط الفكر؟‬
‫بعض املجاالت الكربى التي قمنا بتغطيتها إرادي ًا‪ ،‬مثل الذاتية‬
‫واملوضوعية‪ ،‬احلق والقانون‪ ،‬التاريخ والزمن‪ ،‬اجلامليات‪،‬‬ ‫أعترب هذا صحيح ًا جدَّ ًا‪ .‬االنتقال من لسان إىل آخر هو‬
‫األخالق؛ وبحثنا عن األمر الذي شدَّ نا مجيع ًا‪ ،‬مع العلم أنَّنا‬ ‫بالضبط االنتقال من فكر إىل آخر‪ ،‬ومن ثقافة إىل أخرى‪ .‬ال ُبعد‬
‫مزدوجو اللسان عىل األقل‪ ،‬ويف احلقيقة كنا نتقن أربع لغات‪،‬‬ ‫مهم جدَّ ًا‪ .‬ال نتك َّلم لسان ًا وال نفكر به‪ ،‬وبنمط َّ‬
‫معي‬ ‫املقارنايت ٌّ‬
‫ليس إىل درجة احلديث هبا بطالقة‪ ،‬وإنَّام من أجل مواجهتها بلغات‬ ‫ثمة ألسنة أخرى‪ .‬لكن‪ ،‬ال ينبغي‬ ‫من التفكري سوى بالقناعة َّ‬
‫بأن َّ‬
‫كنت الوحيدة التي كانت‬ ‫أخرى‪ ،‬وقراءهتا وحماولة الرتمجة منها‪ُ .‬‬ ‫السكون مع هويات ثابتة‪ ،‬الواحدة بجانب األخرى‪ .‬كان هذا‬
‫وانسحبت أحيان ًا‪ .‬أترين كيف متَّت عملية بناء‬
‫ُ‬ ‫لدهيا رؤية عا َّمة‪،‬‬
‫ثمة مداخل مشكَّلة من كلمة واحدة يف لسان واحد‬ ‫القاموس؟ ‪َّ -1‬‬ ‫‪  14‬ـ يف الفرنسية الكلمة ‪ concierge‬تعني البواب يف مدرسة أو عامرة أو‬
‫ثم مداخل‬ ‫(«لوغوس» ‪ logos‬أو «أوفبونغ» ‪)Aufhebung‬؛ ‪َّ -2‬‬ ‫مؤسسة‪ ،‬وشق الكلمة إىل نصفني (‪ )con-cierge‬يُعطي داللة مغايرة متاماً‬
‫مشكَّلة من شبكات يف املقارنة (حول «النف س ‪ ،âme‬الروح �‪es‬‬ ‫وغريبة‪ ،‬وهي ‪ con‬وتعني أحمق أو مغفَّل و‪ cierge‬وتعني شمعة طويلة‬
‫‪ »prit‬مثالً‪ ،‬مع مرادفاهتا يف اللغات األخرى‪soul, spirit, :‬‬ ‫تُستعمل يف الكنائس‪ .‬هل البواب إذن «شمعة حمقاء»؟ كشفت بعض الدراسات‬
‫‪ mind, will, Geist, Gemüt, Witz‬أو أيض ًا «بنية ‪،structure‬‬ ‫السيكولوجية كيف أ َّن الذي يعاين من الذهان أو ال ُعصاب له القدرة الفائقة عىل‬
‫ثم مداخل أوسع (التي‬ ‫نموذج ‪ ،pattern‬صورة ‪)»Gestalt‬؛ ‪َّ -3‬‬ ‫شق الكلامت الستخالص داللة مغايرة أو قلب الكلامت‪ ،‬وهذا ما تحدَّثت عنه‬
‫ِّ‬
‫سميناها فيام بيننا مداخل من النظام الثاين)‪ ،‬تأخذ بعني االعتبار‬ ‫َّ‬ ‫كاسان وهو اللعب بالكلامت‪ ،‬بشكل طريف يف بعض الحاالت‪ ،‬وأحياناً بشكل‬
‫خاصة (مثالً‪ ،‬يف اإلسبانية‬ ‫َّ‬ ‫جمموع اللغة انطالق ًا من وجهة نظر‬ ‫غريب متاماً (املرتجم)‪.‬‬

‫‪341‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ترمجة وتقديم وتعليق‪ :‬حممد شوقي الزين‬ ‫قطوف‬

‫طبع ًا‪ ،‬صادفنا هذا النوع من العوائق‪ ،‬لكن قمنا بتذليلها بطريقة‬ ‫االختالف بني ‪ ser‬و‪ ،)estar‬أو جمموع املشكلة املغمورة يف خمتلف‬
‫جتريبية فاعلة‪ .‬قمنا بضبط َّأول جمموعة من الكلامت ارتأينا أن‬ ‫ثمة مداخل‬ ‫ال نظام التتابع يف الكلامت)؛ ‪ -4‬أخري ًا‪َّ ،‬‬
‫األلسنة (مث ً‬
‫ألنا كانت تزعجنا وكنَّا يف حاجة إليها‪ .‬لقد أدركنا‬ ‫تكون واردة‪َّ ،‬‬ ‫«توجيهية» تقود القارئ انطالق ًا من كلمة فرنسية نحو ما مل خيطر‬
‫ال اللغات السالفية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫أنَّنا كنا نفتقر إىل معرفة قدر من اللغات‪ ،‬مث ً‬ ‫عىل باله البحث عنه‪ ،‬وختترص االختالفات‪ ،‬دون نسيان املسارد‪،‬‬
‫وقمنا باالستشارة‪ .‬األمر نفسه مع الربتغالية واإلسبانية اللتني كانتا‬ ‫ذات أمهية قصوى لقاموس يسعى ألن يكون وسيلة تعليمية‬
‫تقتضيان إعادة التفكري يف احلدود الكائنة بني األدب والفلسفة‪.‬‬ ‫( ُكتَّاب‪ ،‬مرتمجون‪ ،‬نصوص مستشهد هبا‪ ،‬كلامت معاجلة لغة بلغة)‪.‬‬
‫قام قسطنطني سيكوف‪ 16‬باإلرشاف عىل جمموعة البحث التي‬
‫اهتمت باللغة السالفية‪ .‬األوكرانيون من كييف الذين اشتغلوا‬ ‫َّ‬ ‫هناك مداخل أتأسف عىل غياهبا‪ ،‬يف املداخل ذات النظام‬
‫معنا اقرتحوا كلامت اعتربوها من أغرب وأهم ما يوجد يف‬ ‫أردت إدراجه‪ ،‬يعالج الطابع االستعاري‬ ‫ُ‬ ‫ثمة مدخل‬ ‫الثاين َّ‬
‫ال (وهنا نسقط يف املشكلة عينها) «مري»‬ ‫اللغة الروسية‪ .‬هكذا مث ً‬ ‫اعتقدت أنَّه بإمكاين إدراجه بجانب من‬ ‫ُ‬ ‫االختاليف بني اللغات؛‬
‫(‪ )mir‬تعني يف الوقت نفسه «العامل» و«السلم» و«بلدة ريفية»‬ ‫املخصص‪ :‬هل نتحدَّ ث باألحرى عن حدود أم إطار أم‬ ‫َّ‬ ‫املكان‬
‫و«سفيت» (‪ )svet‬التي تعني «العامل» و«النور»‪ ،‬أو «برافدا»‬ ‫ْ‬ ‫مساحة أم ُبعد‪ ،‬أم أفق أيض ًا‪ ،‬واليشء نفسه مع ال ُعمق واألساس؟‬
‫ً‬
‫(‪ )pravda‬التي تعني «العدالة» و«احلقيقة» بقدر مماثل‪ .‬أ َّيا كانت‬ ‫ما االستعارات التي تتيح لنا احلديث عن الفكر يف املكان؟ يف‬
‫يتم التح ُّقق عرب القاموس من‬ ‫اللغة‪ ،‬بام يف ذلك الفرنسية عندنا‪ُّ ،‬‬ ‫الفرنسية‪ ،‬هل رسم احلدود هو ما يسمح بالتعبري عن( ‪) Grund‬‬
‫أن «اللغة ليست شيئ ًا آخر سوى جمموع االلتباسات التي خ َّلدها‬ ‫َّ‬ ‫وهو األساس يف األملانية؟ إنَّه مقال مهم‪ .‬لكنَّه مقال لعني‪ ،‬مل ُي َف َّعل‬
‫تارخيها»‪ ،‬عبارة جلاك الكان أعتربها صحيحة عىل نحو بارز‪ ،‬يف‬ ‫أسميها ظرفية‪ ،‬ينعدم فيها املحاربون‪ ،‬سلسلة مؤملة من‬ ‫ألغراض ِّ‬
‫«املذهل»‪ .17‬اللغة هي إذن جمموع االلتباسات واملجانسات التي‬ ‫االنشقاقات ‪ .‬مل نصل أيض ًا بتات ًا إىل هناية املقال حول السلب‬‫‪15‬‬

‫اهلوة الكائنة بني‬‫ال تظهر سوى باملقارنة مع لغة أخرى‪ .‬بشأن َّ‬ ‫(‪ :)négation‬خمتلف أشكال النفي أو السلب يف اللغات‪ .‬يف‬
‫لغة وأخرى‪ ،‬يتعلق األمر ربام بالتباسات مل ندركها جيد ًا‪ ،‬فقط‬ ‫قمت بإرساء توجيه يقود نحو جمموعة من املقاالت مثل(‬ ‫النهاية‪ُ ،‬‬
‫يف حالة ما إذا رأيناها من اخلارج وبالتحكُّم يف اللغتني‪ .‬هذا أمر‬ ‫‪ ،)Verneinungg‬بمعنى املحتوى الداليل («النكران» �‪dénéga‬‬
‫مهم‪ .‬يمكن هلذه االلتباسات أن تكون نحوية‪ ،‬وليس فقط داللية‬ ‫‪ tion‬عند فرويد‪ ،‬مثالً)‪ ،‬أو مقال صغري حول «ال» (‪ )ne‬الزائدة‪.‬‬
‫(سيامنطيقية)؛ يمكنها أيض ًا أن تتع َّلق بنظام الكلامت‪ .‬يمكنني‬ ‫يدل عىل طريقة يف االشتغال‪ ،‬فهو فعل‬ ‫يتوسع‪ُّ ،‬‬‫أن املعجم عامل َّ‬ ‫غري َّ‬
‫ألن القاموس‬ ‫أن أحكي لك قصة‪ .‬مل نشتغل عىل اللغة الصينية َّ‬ ‫ال مكتمالً‪.‬‬ ‫كونه عم ً‬
‫ال وطموح ًا‬ ‫هو معجم أورويب؛ ينبغي فعل ذلك‪ ،‬وسيكون عم ً‬
‫سافرت إىل الصني مع فرانسوا جوليان‪ 18‬قبل أسابيع‪،‬‬‫ُ‬ ‫آخر‪ .‬عندما‬ ‫وجدت نفسك‬ ‫ِ‬ ‫صادفت عوائق يف اجلانب األلسني؟ هل‬ ‫ِ‬ ‫هل‬
‫أمام وضعية ال تفعلني فيها شيئ ًا ملعرفة ناقصة بلغة مع َّينة؟ هذا‬
‫‪  16‬ـ قسطنطني سيكوف (‪ )Constantin Sigov‬هو مدير «املركز األورويب‬ ‫ألن األطفال الذين يأتون بكفاءة لغوية أخرى‪ ،‬فمن‬ ‫هيمنا كثري ًا‪َّ ،‬‬
‫لألبحاث يف العلوم اإلنسانية»‪ ،‬جامعة كييف ‪ -‬مويال (أكرانيا)؛ ومدير دار النرش‬ ‫املحتمل وجود عقبات يستحيل خت ِّطيها‪.‬‬
‫«الروح والكلمة» (املرتجم)‪.‬‬
‫‪17 . Jacques Lacan, « L’Etourdit », Scilicet, n°4, Paris, Seuil, 1973, p. 47‬‬ ‫‪  15‬ـ تقصد كاسان أ َّن القاموس الذي وضعته مل يتح لها الذهاب إىل أبعد الحدود‬
‫‪  18‬ـ فرانسوا جوليان ‪( François Jullien‬ولد سنة ‪ 1951‬يف مدينة أمربان‬ ‫املمكنة من اإلتقان والشمولية‪ ،‬أي إدراج املباحث واملفاهيم كلها‪ ،‬مخافة أن‬
‫‪ Embrun‬يف فرنسا) هو فيلسوف فرنيس معارص‪ ،‬هلّيني متخصص يف العامل‬ ‫يتعدى ذلك املساحة املخصصة للقاموس (عدد صفحاته ‪ 1532‬صفحة)‪ ،‬ومخافة‬
‫اليوناين العريق‪ ،‬وعامل الصينيات‪ ،‬متخصص يف الحضارة الصينية؛ درس يف‬ ‫أن يهجر الكُتاب عملية تدوين القاموس التي كانت مرهقة من حيث الدقة‬
‫جامعات بيكني وشنغهاي وطوكيو‪ .‬من أشهر أعامله‪« :‬االنعطاف والوصول‪:‬‬ ‫التقنية والعرض التاريخي واملقارنة بالقراءة يف لغات متعددة‪ .‬لذا‪ ،‬تخلت كاسان‪،‬‬
‫اسرتاتيجيات املعنى يف اليونان ويف الصني» (‪« ،)1995‬الحكيم بال فكرة أو آخر‬ ‫بوصفها املرشف عىل القاموس‪ ،‬عن املدخل الخاص بالطابع االستعاري للكلامت‬
‫الفلسفة» (‪« ،)1998‬يف الطريق‪ :‬معرفة الصني‪ ،‬استئناف الفلسفة» (‪« ،)2006‬من‬ ‫املدروسة‪ ،‬سوى رمبا ما كان يقتضيه االشتقاق (املرتجم)‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪342‬‬
‫قطوف‬ ‫حوار مع باربارا كاسان‪ ،‬حاورهتا‪ :‬كوليت بريفار‬

‫يدل عىل فتحة بني خيوط السلسلة وخيوط‬ ‫أن «كايروس» ُّ‬ ‫مفادها َّ‬ ‫وقمنا بإجراء حلقة دراسية حول احلقيقة‪ ،‬كلمة غري موجودة يف‬
‫الشبكة يف ِحرفة النسج‪ .‬انطالق ًا من هذه الفكرة‪ ،‬يطرأ يشء ال‬ ‫قمت يف هذا‬
‫اللغة الصينية‪ ،‬عىل األقل ليس بالصيغة التي نعرفها‪ُ .‬‬
‫نتوقع حدوثه؛ وعندما يبلغ السهم الكايروس (يف خياطة الصدغ‬ ‫الدرس باحلديث عن أرسطو‪ ،‬وكيف تشكَّل مفهوم احلقيقة يف‬
‫أن الفكرة تنطبق عىل مت ُّثل‬
‫مثالً)‪ ،‬فإنَّه يكون مميت ًا‪ .‬نرى جيد ًا كيف َّ‬ ‫تكلمت عن البنية النحوية للمبتدأ واخلرب يف‬
‫ُ‬ ‫التصور اليوناين‪.‬‬
‫ُّ‬
‫الكايروس عىل غرار الشاب الوسيم واألصلع من اخللف الذي‬ ‫عالقتها بالبنية الفيزيائية أو امليتافيزيقية للجوهر وال َع َرض‪ .‬يف‬
‫ينبغي أخذه من اخلصلة األمامية قبل فوات األوان‪ .‬هناك مقاالن‬ ‫هناية الدرس‪ ،‬جاء أحد الطلبة النبيهني األذكياء ليتحدَّ ث معي‬
‫ٍ‬
‫ماض‬ ‫من القاموس جييبان مبارشة عن تساؤلك‪ :‬املقال «حارض‬ ‫قائالً‪« :‬سيديت‪ ،‬املرتجم الذي كان معك مرتجم جيد‪ ،‬مرتجم‬
‫مستقبل» (‪ ،)Présent passé futur‬ومقال آخر حول اهليئة‬ ‫حم َّلف‪ ،‬مرتجم بارع‪ ،‬لكنَّه يرتجم الكلامت وال يرتجم املعنى؛‬
‫(‪ ،)aspect‬يف تعارض مع الزمن النحوي‪ُ .‬ي ِّبي هذا األخري‪ ،‬يف‬ ‫يف قوله « َع َرض»‪ ،‬يأخذ كلمة نستعملها للداللة عىل حادث‬
‫اليونانية والروسية خصوص ًا‪ ،‬شيئ ًا ال نستطيع إدراكه يف الفرنسية‪،‬‬ ‫السيارة (‪ .»)accident‬مل أنتبه لاللتباس‪ ،‬وأتساءل ما كان بإمكان‬
‫والذي حييل إىل الطريقة التي جيري فيها الفعل (لقد أكل‪ ،‬أكل‪،‬‬ ‫احلارضين أن يفهموه من الدرس‪.‬‬
‫أكل فعالً)‪ ،20‬وليس فقط الزمن (كُل‪ ،‬أكل‪ ،‬سيأكل)‪ .21‬أ َّما‬
‫أن الكلامت‬ ‫ٍ‬
‫ماض مستقبل»‪ ،‬فإنّنا نرى َّ‬ ‫بالنسبة إىل املقال «حارض‬ ‫أن أحسن ناقل للغة ما‪ ،‬عليه أن يكون‬ ‫هذا يدفعنا إىل اعتبار َّ‬
‫«ماض»‪« ،‬مستقبل» مل يكن يعرفها اليونان القدامى‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫«حارض»‪،‬‬ ‫عىل األقل ثنائي اللغة (‪ ،)bilingue‬ليتسنَّى له فهم العوائق التي‬
‫للداللة عىل هذه اللحظات البدهية بالنسبة إلينا‪ ،‬كانوا يقولون‪:‬‬ ‫جياهبها املتلقي يف سعيه نحو تع ُّلم إحدى اللغات‪ .‬هل يمكن أن‬
‫«األشياء التي فاتت»‪« ،‬األشياء التي ستأيت»‪« ،‬األشياء احلارضة»‪،‬‬ ‫توضحي لنا الطريقة التي نتكلم هبا عن الزمن يف خمتلف اللغات‪،‬‬
‫ثمة‬ ‫بمعنى انطالق ًا من املحتوى‪ ،‬ال من احلاوي‪ .‬نرى أيض ًا َّ‬
‫أن َّ‬ ‫وبالتايل التفكري يف هذا الزمن؟‬
‫طريقتني يف احلديث عن املايض يف األملانية‪ .‬نقول «املايض الزائل»‬
‫(‪ )Vergangen‬و«املايض املحت َفظ يف احلارض» (‪ )Gewesen‬الذي‬ ‫جمموع اإلشكاليات املتعلقة بمختلف أشكال التعبري عن الزمن‬
‫يمكنه أن يدخل يف احلركة اجلدلية اهليغلية؛ وطريقتني يف التعبري‬ ‫موضوعة حتت مدخل توجيهي «زمن» (‪ )Temps‬الذي يقود‬
‫عن احلارض‪« :‬األمر الذي نحن أمامه» (‪ )Gegenwart‬و«احلضور‬ ‫مهم جد ًا‪ .‬نعالج فيه‬
‫إىل «حلظة» (‪ ،)Moment‬وهو مقال أعتربه َّ ً‬
‫اخلالص للحارض» (‪ )Anwesenheit‬العزيز عىل هايدغر‪ .‬بينام يف‬ ‫خصوص ًا الكلمة «زمن مالئم» (‪ )kairos‬باملعنى اليوناين العريق‪.‬‬
‫الفرنسية‪ ،‬يكمن االختالف باألحرى بني «الزمن القادم» (‪)futur‬‬ ‫ما معنى القطيعة يف خط الزمن‪ ،‬اقتحام‪ ،‬ثغرة يف الزمن‪ ،‬التي‬
‫ألنا مفتوحة‬ ‫و«املستقبل» (‪ .)avenir‬ينبغي قراءة هذه املقاالت‪َّ ،‬‬ ‫قمت برتمجته ونرشه‬‫يتس َّلل منها اإلمكان؟ أنصح بقراءة كتاب ُ‬
‫عىل مسائل جوهرية كالتاريخ والذاكرة‪.‬‬ ‫يف سلسلة «النظام الفلسفي» (‪،)L’Ordre philosophique‬‬
‫منشورات سوي (‪ ،)1999‬عنوانه «أصول الفكر األورويب»‬
‫هل هناك خاص َّية تريدين إثارة انتباهنا إليها؟‬ ‫للكاتب ريتشارد بروكستن أنيانس‪ .19‬نجد يف الكتاب فكرة رائعة‬

‫قمت بتدريس الفلسفة يف الثانويات‪ ،‬وحتى يف أماكن‬


‫عندما ُ‬ ‫الكينونة إىل املعيش‪ :‬معجم أورويب‪-‬صيني للفكر» (‪ ،)2015‬إلخ (املرتجم)‪.‬‬
‫لدي‬
‫َّ‬ ‫غريبة مثل «الربيد‪ ،‬التلغراف واهلواتف» ‪( PTT‬كان‬ ‫‪François Jullien, Le Détour et l’accès. Stratégies du sens en Chine,‬‬
‫‪en Grèce (Grasset, 1995), Un sage est sans idée ou l’Autre de la‬‬
‫‪1951 ; Les origines de la pensée européenne. Sur le corps, l’esprit,‬‬ ‫‪philosophie (Seuil, 1998), Chemin faisant. Connaître la Chine,‬‬
‫‪le monde, le temps et le destin, tr. Barbara Cassin, Paris, Le Seuil,‬‬ ‫‪relancer la philosophie (Seuil, 2006), De l’être au vivre. Lexique‬‬
‫‪coll. «L’Ordre philosophique», 1999.‬‬ ‫‪euro-chinois de la pensée (Gallimard, 2015).‬‬
‫‪20  Il mangeait, mangea, a mangé.‬‬ ‫‪19 . Richard Broxton Onians, The Origins of European Thought.‬‬
‫‪21  Mange, mangea, mangera.‬‬ ‫‪About the Body, the Mind, the World, Time and Fate, Cambridge,‬‬

‫‪343‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫ترمجة وتقديم وتعليق‪ :‬حممد شوقي الزين‬ ‫قطوف‬

‫وهيم‬
‫هيمني ُّ‬ ‫أدركت َّ‬
‫أن ما كان ُّ‬ ‫ُ‬ ‫بالفعل مسار خيلو من النمطية)‪،‬‬
‫تالميذي‪ ،‬أ َّي ًا كان مستواهم‪ ،‬كان االشتغال عىل النصوص‪ ،‬يف‬
‫املساحات التي كانت تعتمل فيها األشياء‪ ،‬وليس يف األفكار‬
‫واملجردة‪ .‬كان االشتغال عىل النصوص يف لغات متعددة‬‫َّ‬ ‫العا َّمة‬
‫طبع ًا‪ .‬إنَّه اشتغال يذهب إىل أبعد من «استجواب ذي خيارات‬
‫متعددة»‪ ،)QCM( 22‬ومن ضبط املعارف الذي نستعمله اليوم‪،‬‬
‫ومن الفكر اجلاهز (‪ .)prêt-à-penser‬أعتقد َّ‬
‫أن «قاموس املتعذر‬
‫يتم‬
‫ترمجته» أداة تُربز الطريقة الصحيحة يف العمل‪ ،‬الكيفية التي ُّ‬
‫هبا العمل اليومي‪.‬‬

‫‪  22‬ـ يف الدراسات التعليمية‪ ،‬االستجواب عبارة عن وسيلة يف البحث والتقييم‬


‫تُقرتح فيها أجوبة عديدة للسؤال الواحد‪ ،‬ويت ُّم اختيار األهم واألقرب إىل الصحة‪.‬‬
‫بهذه الطريقة يت ُّم امتحان قدرة التلميذ أو الطالب عىل االنتباه وإدراك الخطأ‬
‫من بني أجوبة عديدة (املرتجم)‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪344‬‬
‫بريشة الفنانة نادية شبال من املغرب‬
‫علوم وثقافة‬

‫موضوع الصحراء في التجربة‬


‫الفوتوغراف ّية المغرب ّية‬
‫عمل فوتوغرايف للتهامي بنكريان‪ ،‬مرزوكة‪2008 ،‬‬

‫جعفر عاقل*‬

‫إن الدارس للمقاربات الفوتوغرافية املحدودة التي تناولت‬ ‫ثم ّ‬ ‫يكاد يأخذ موضوع فضاء الصحراء يف املنتج اإلبداعي‬
‫موضوع الفضاء الصحراوي املغريب‪ ،‬تثري نظره جمموعة من‬ ‫املغريب‪ ،‬بمختلف أجناسه وأشكاله التعبريية‪ ،‬وضع ًا استثنائي ًا‪.‬‬
‫التأطريات واملوضوعات واألساليب البالغية التي يقوم عليها‬ ‫خصصت حيز ًا متميز ًا هلذا‬ ‫إذ قليلة هي األعامل اإلبداعية التي ّ‬
‫هذا الربريتوار اإليكونوغرايف‪ ،‬سواء عىل مستوى املحتوى أو‬ ‫الفضاء الغني بأناسه وجغرافيته وعاداته وعالقاته اإلنسانية‪...،‬‬
‫عىل مستوى الشكل‪ .‬وذلك مقارنة مع باقي املتن الفوتوغرافية‬ ‫إلخ‪ .‬ويمكن احلديث‪ ،‬وبالنَ َفس ذاته‪ ،‬عن التجربة الفوتوغرافية‬
‫صورت لنا احلياة اليومية باملغرب‪ .‬ويمكن التمييز إجرائي ًا‬
‫التي َّ‬ ‫باملغرب يف اهتاممها أو انشغاهلا هبذا املوضوع وإعادة بناء معانيه‬
‫يف هذا املوضوع بني نموذجني من الصور‪ :‬األول‪ :‬التقطته عيون‬ ‫ثم إنتاج دالالته‪ .‬فاملتأمل يف جتارب الفوتوغرافيني املغاربة‬
‫اآلخر‪/‬عيون األجنبي وهي ختضع بشكل عام لنظر وبالغة‬ ‫أن االهتامم بتمثيل موضوع الصحراء مل يشغل سوى‬ ‫يلمس ّ‬
‫األسلوب اإلثنوغرايف أو باألحرى الكولونيايل يف متثيل اليومي‬ ‫فضول وانشغاالت أسامء حمدودة جد ًا‪ ،‬األمر الذي يطرح أسئلة‬
‫املغريب ورسد حكاياته‪ ،‬ويمكن تقسيم هذا املوروث البرصي‬ ‫عديدة بخصوص هذا الغياب‪ .‬هل يعود األمر إىل حواجز نفسية‬
‫بدوره إىل صنفني أو مقاربتني إذا صح التعبري‪ .1‬ونموذج ٍ‬
‫ثان‬ ‫فتحولت إىل‬ ‫تطورت فصوهلا مع مرور الزمن‬
‫ّ‬ ‫أو لغوية أو فكرية‪ّ ،‬‬
‫سياج سميك بني الفوتوغرايف وبني الفضاء الصحراوي وما حيبل‬
‫‪ . 1‬ميكن عودة القارئ بخصوص هذه املسألة إىل كتابنا املعنون بـ«نظرة عن‬ ‫أن املسألة متعلقة بالغياب‬ ‫به من تفاصيل وجزئيات ثقافية؟ أم ّ‬
‫الصورة الفوتوغرافية باملغرب»‪ ،‬منشورات الفنك‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،2015 ،‬وتحديدا ً‬ ‫الشبه التام هلذا املوضوع عن ذهن الفوتوغرافيني وأسئلتهم‬
‫(ص ص‪ 17‬ـ ‪ .)23‬حيث تناولنا بنوع من التفصيل كيف أ ّن هذا الصنف من‬ ‫الفنية؟‬
‫الفوتوغرافيات كان يندرج يف إطار السياسة العامة التي نهجها املستعمر بأرض‬
‫املغرب من أجل التعرف عىل طبائع ساكنته وجغرافيته وطبيعته وعمرانه‪،‬‬ ‫* فوتوغرايف وأستاذ باحث يف الفوتوغرافيا باملغرب‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪346‬‬
‫علوم وثقافة‬ ‫موضوع الصحراء يف التجربة الفوتوغراف ّية املغرب ّية‬

‫ها ّمة يف موروثنا البرصي‪ .‬أكثر من ذلك‪ ،‬هناك بعض املقاربات‬


‫عمل فوتوغرايف للتهامي بنكريان‪ ،‬مرزوكة‪2008 ،‬‬

‫«الغريية» املتنورة والطالئعية‪ ،‬أبطاهلا أيض ًا فوتوغرافيون أجانب‪،‬‬


‫تناولت هي األخرى بعض قضايا املجتمع الصحراوي ووقفت‬
‫املرة بعيون ومتثيالت أكثر‬‫عند تفاصيل فضاءاته‪ ،‬لكن هذه ّ‬
‫إجيابية وأكثر محيمية‪ .‬وقد مكَّنت هذه الطريقة يف االشتغال هؤالء‬
‫الفوتوغرافيني من إضافة صور جديدة للذاكرة البرصية املغربية‪،‬‬
‫ثمة إغنائها وجتديدها بإنتاجاهتم‪ .‬ويمكن مالمسة ذلك من‬ ‫ومن ّ‬
‫خالل اللغة الفوتوغرافية التي ختاطبنا هبا صورهم سواء عىل‬
‫مستوى انتقاء املواضيع أو طريقة تأطريها أو العالقات املنسوجة‬
‫املصورة‪ ،‬وأيض ًا من خالل تبنّيهم حلساسية رقيقة‬
‫َّ‬ ‫بني العنارص‬
‫تفوح بالدفء اإلنساين املطلوب يف مثل هاته احلاالت اإلنسانية‪،‬‬
‫مكونات ومفردات برصية مكّنتهم من إقامة مسافة واضحة‬ ‫وكلها ّ‬
‫عودتنا عليها عني‬
‫بينهم وبني الكليشيهات والصور املسكوكة التي ّ‬
‫الفوتوغرايف الكولونيايل‪.2‬‬

‫وقد جيد الدارس هلذه التمثيالت والتمثالت أثر ًا‪ ،‬إ ّما بشكل‬
‫مبارش أو غري مبارش‪ ،‬يف جتارب ومسارات بعض الفوتوغرافيني‬
‫املغاربة الذين اختذوا هم أيض ًا من موضوع فضاء الصحراء جماالً‬
‫ّ‬
‫ويتجل ذلك يف الطريقة التي يؤثث هبا‬ ‫إلبداعاهتم الفوتوغرافية‪.‬‬
‫هؤالء الفوتوغرافيون النتف البرصية التي التقطتها كامرياهتم‪،‬‬ ‫أبدعته العني املغربية‪/‬عني الفوتوغرايف املحيل بأساليب فنية‬
‫وكذلك من خالل احلموالت الداللية التي منحوها أو شحنوا هبا‬ ‫وبجهات نظر متفاوتة‪.‬‬
‫فوتوغرافياهتم‪ ،‬والتي حتكي لنا قصص ًا عن الفضاءات الصحراوية‬
‫باملغرب وحيوات الناس هبا‪ .‬ويمكن مالمسة جزء وافر من هذه‬ ‫إن الدارس لتاريخ الفوتوغرافيا باملغرب ال يمكنه جتاوز‬ ‫ّ‬
‫باحلس‬
‫ّ‬ ‫األسئلة والقضايا بدء ًا بأعامل أوالد السيد داود‪ ،‬مرور ًا‬ ‫هذا املتن الفوتوغرايف الكولونيايل‪ ،‬ألنّه بالرغم من العيوب‬
‫التجريبي لبنكريان التهامي‪ ،‬وصوالً إىل فوتوغرافيات التازي‬ ‫واهلفوات واألدجلة التي أبان عنها يف مناسبات عديدة فهو‬
‫إن احلياة الصحراوية يف تعدّ دها املناخي والبيئي‬‫سعد وغريهم‪ّ .3‬‬ ‫يتوفر عىل بعض النقاط اإلجيابية التي تؤهله ألن يشغل مساحة‬

‫‪ 2‬ـ ميكن االستئناس يف هذا الباب‪ ،‬عىل سبيل املثال ال الحرص‪ ،‬بفوتوغرافيات‬ ‫مبعنى أشمل ثقافته‪ .‬وقد خلصنا إىل أ ّن أغلب الصور امللتقطة رغم تعدّد مشارب‬
‫كتاب‪:‬‬ ‫فوتوغرافييها‪ :‬رحالة‪ ،‬باحثني‪ ،‬جنود‪...‬إلخ؛ ورغم تعدد أسنادها‪ :‬بطاقات بريدية‬
‫‪- LE CLEZIO J.M.G et JEMIA (1997), Gens des nuages, photographies‬‬ ‫وصور سياحية أو توضيحية‪...‬إلخ‪ ،‬فقد تحكم يف نظر ملتقطها ومتخيله هاجسان؛‬
‫‪de Bruno Barbey, éd. Stock, Paris, 1997, (p.p 44 - 45, p. 48, p. 52, p.‬‬ ‫األول‪ :‬جمع أكرب عدد ممكن من املعلومات واملعطيات عن مغاربة هذه الفرتة‬
‫‪54, p. 63, p. 77, p.p 88 - 89, p. 92, p. 100, p. 102, p. 119).‬‬ ‫التاريخية من خالل سند الصورة‪ ،‬للقيام بعد ذلك بعملية جردها وتصنيفها‬
‫‪  3‬ـ هناك أعامل لفوتوغرافيني آخرين تستحق هي األخرى التأمل والتفكري يف‬ ‫ومعالجتها فتحليلها‪ ،‬وذلك بهدف توظيف نتائجها يف اسرتاتيجية العامة لنظام‬
‫خصوصياتها ولغتها البرصية كبعض إنتاجات مايل محمد وبوبلغيثي الحسني التي‬ ‫الحامية‪ .‬ثم هاجس ثانٍ ‪ ،‬وميكن تلخيصه يف االستجابة الستيهامات املستهلك‬
‫اتخذت من الفضاءات الصحراوية للجنوب الرشقي للمغرب موضوعاً للتجريب‬ ‫الغريب وأفق انتظاراته ورغباته النفسية واللغوية والفنية والثقافية قصد‬
‫الفوتوغرايف‪.‬‬ ‫استدراجه والتأثري فيه لالفتتان باملغرب‪.‬‬

‫‪347‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫جعفر عاقل‬ ‫علوم وثقافة‬

‫والبغداد وغريها من العنارص واألكسسوارات ذات الطابع الثقايف‬ ‫والبرشي واللغوي والثقايف حترض بقوة‪ ،‬طبع ًا إىل جانب سامت‬
‫مقربة‬
‫الصحراوي‪ ،‬إنّام الغاية من ذلك اإلرصار هي رسم صورة ّ‬ ‫أخرى‪ ،‬يف السجل الفوتوغرايف هلذه التجارب املغربية‪ ،‬وذلك‬
‫ومفصلة ومغايرة يف ذهن املشاهد عن هاته الفضاءات وساكنتها‬ ‫بدرجات فكرية ومقاربات فنية متفاوتة‪.‬‬
‫وعن العالقات التي جتمع بينهام‪ ،‬وهي يف اآلن نفسه حماولة‬
‫لوصف وكشف وحتليل ثم تأويل كيف هلذه املشاهد الطبيعية‬ ‫واملتصفح أللبوم «مغاربة» ألوالد السيد ولكاتالوغات‬
‫املتنوعة وهلذه الفضاءات املفتوحة عىل الالمتناهي تأثريات قوية‬ ‫معارض بنكريان وملجموع فصول إصدارات التازي‪ ،4‬سيقف‬
‫وأحيان ًا حاسمة يف العالقات االجتامعية ومتخيالت األفراد‬ ‫عىل الرغبة الكبرية عند هؤالء الفوتوغرافيني من أجل ختييل‬
‫إن هاجس الفوتوغرايف أثناء التقاطه هلذه‬‫وسلوكات اجلامعات‪ّ .‬‬ ‫أو تسجيل أو توثيق بعض الشذرات واللحظات واحلاالت‬
‫املشاهد واللقطات‪ ،‬كان ومايزال هو تقديم منتج برصي يقطع‬ ‫والواقعات واألحداث التي متيز املجتمع الصحراوي يف كل ّيته‪.‬‬
‫والـم َسنَّنَة التي برعت‬
‫ُ‬ ‫من جهة مع أسلوب املشاهدة الكسولة‬ ‫ّ‬
‫إن اهتاممهم بتمثيل‪ ،‬أو إعادة متثيل‪ ،‬فوتوغرافيا هذه الفضاءات‬
‫فيها الفوتوغرافية الكولونيالية من خالل استعانتها بكليشيهات‬ ‫املنسية باملغرب مثل زاكورة وطاطا وعقا وأسا وغريهم‪ ،‬والتقاط‬
‫السياح واإلثنوغرافيني واملتلصصني‪ ،‬ومن جهة أخرى العمل‬ ‫صور للتحوالت الرسيعة التي يعرفها الفضاء العمراين لبعض‬
‫عىل تأسيس مقاربة فوتوغرافية جديدة تقوم عىل مبدأي التوثيق‬ ‫املدن الصحراوية كالداخلة وبوجدور وسامرة والعيون وغريها‬
‫والتعبري يف اآلن نفسه‪.‬‬ ‫من املدن والقرى؛ تشهد عىل انشغاالت الفوتوغرايف املغريب‬
‫املعارص بطبائع احلياة ومظاهرها وإيقاعها يف املجتمع املغريب‬
‫الـمهيب الذي يفوح‬ ‫َ‬ ‫وقد كان لتجربة ُم َابة الصمت‬ ‫عموم ًا والصحراوي حتديد ًا‪ .‬وكذلك عىل فضول فكري متجدد‬
‫به الفضاء الصحراوي بكثافة أثر يف الفوتوغرافيني للتزهد‬ ‫ونظر برصي جتريبي من أجل فهم أرسار هذا املجتمع وخفاياه‪،‬‬
‫والتساؤل‪ ،‬والغوص يف البحث عن اآلليات الناجعة واملمكنة‬ ‫وإيقاع حتوالته ومتغرياته‪ ،‬وطبيعة أفراحه وانكساراته‪...‬إلخ‪ّ .‬‬
‫إن‬
‫إلبداع أساليب مشاكسة ومغايرة عن التجارب السابقة‪ .‬وقد‬ ‫مرة ومن خالل‬ ‫إرصار الفوتوغرايف عىل متثيل وإبراز‪ ،‬أكثر من ّ‬
‫متكنوا يف مناسبات عديدة‪ ،‬كام أخفقوا يف أخرى‪ ،‬من االنزياح‬ ‫استعامل سياقات خمتلفة‪ ،‬جزئيات وتفاصيل وخصوصيات‬
‫عن أشكال وأساليب ورؤى املوروث البرصي الذي تركه لنا‬ ‫املكونات الطبيعية للفضاء الصحراوي مثل الصخور والكثبان‬
‫بعض فوتوغرافيي اإلدارة الكولونيالية واملؤسسات املوازية هلا‪:‬‬ ‫الرملية والنباتات الشوكية واألعشاب والشجريات القصرية‪،‬‬
‫دور نرش البطاقات الربيدية‪ ،‬االستوديوهات‪ ،‬املنابر اإلعالمية‪...‬‬ ‫وكذلك األلبسة التقليدية كالدراعة وامللحفة واللثام األسود‬
‫إلخ‪ .‬كام متكنت جتارهبم بتوظيفها تارة للمكونات التشكيلية‬ ‫الذي يوضع عىل الرأس‪ ،‬ثم احليل كاملبايل والليات واخلالخل‬
‫وأحيان ًا أخرى للعنارص الكرافيكية أو بتوظيفها لطرق اإلخراج‬
‫الفوتوغرايف‪ ،‬من أن تنتقل وترقى بنظر املشاهد من زمن االنبهار‬ ‫‪4  - AOULAD SYAD, Daoud, Marocains, préface de Abdelkébir‬‬
‫بىسحر الفضاء الطبيعي إىل زمن التمثل واإلدراك والتفكيك ثم‬ ‫‪Khatibi, éd. Contrejour / Belvisi, Paris, 1989, p72.‬‬
‫إعادة البناء‪ .5‬ويتمثل ذلك جل ّي ًا بإعطاء األولوية يف انشغاالهتم‬ ‫‪- AOULAD SYAD, Daoud, Territoires de l’instant, Poèmes de‬‬
‫لفضاءات العامل الصحراوي يف تعدده واختالفه وأيض ًا اشتغاهلم‬ ‫‪Ahmed Bouanani, éd. La Croisée des Chemins / Editions de l’œil,‬‬
‫عىل مواضيع وأشياء ال تقف عليها العني العادية كحركات‬ ‫‪Casablanca / Paris, 2000.‬‬
‫الرحل‪ ،‬وبعض املواد املنسية أو‬
‫الرمل‪ ،‬واجلزئيات الدقيقة ملعيش ّ‬ ‫‪- TAZI Saâd, Maroc saharien, éd. CITADELLES et MAZENOD,‬‬
‫املرتوكة للنسيان فوق حبات الرمل‪ ،‬وأثر احليوانات ورسومات‬ ‫‪Paris, 2012.‬‬
‫‪- TAZI Saâd et BOUBRIK Rahal, Al Khayma - Tente noire du‬‬
‫‪  5‬ـ ميكن العودة بخصوص هذا النموذج الفوتوغرايف إىل أعامل بنكريان التهامي‬ ‫‪Sahara, préface Ali Squalli, éd. Marsam, Rabat, 2008.‬‬
‫املوسومة‬ ‫‪- TAZI Saâd, Sahara Atlantique - Splendeurs Du Désert Marocain,‬‬
‫بــ ‪»Globes du silence» 2008 et «Ombres sur dunes» 2009 :‬‬ ‫‪texte de Aziz Daki, éd. La Croisée des Chemins, Casablanca, 2006.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪348‬‬
‫علوم وثقافة‬ ‫موضوع الصحراء يف التجربة الفوتوغراف ّية املغرب ّية‬

‫احلرشات الصحراوية عىل الغطاء الرميل‪ ،...‬وكلها اختيارات‬


‫هتتم ببعض‬‫وجتارب سامهت يف إنتاج مقاربات فوتوغرافية ّ‬
‫اجلوانب الدقيقة واخلفية هلذا املجتمع وأحوال أناسه وثقافتهم‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن العالقة التي يؤسسها الفوتوغرايف مع فضاء الصحراء وثقافته‬
‫وخاصة التعبري عن‬
‫ّ‬ ‫أمست مسكونة هباجس البحث والتجريب‪،‬‬
‫الوجدان‪.‬‬

‫‪349‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫شخصيات وأعالم‬

‫القديس أوغسطين‬‫ّ‬
‫مؤسس الالهوت المسيحي وملهم فالسفة الغرب‬
‫ّ‬

‫احلسني سحبان*‬

‫‪ 75‬و‪ 100‬صفحة»‪ .5‬هكذا يبدو فكر أوغسطني يف سعته وعمقه‬ ‫مدخل‬


‫أشبه بينبوع إهلام ف َّياض ال ينضب‪ ،‬بل يـَـثـ ُِّر معينه كلام متح منه‬ ‫يتَّسم فكر أوغسطني بخصوبة وغزارة مذهلة‪ ،‬فتكاد فواتح‬
‫املاحتون‪.‬‬ ‫املخصصة ألعامله ال ختلو من اإلقرار‬
‫َّ‬ ‫الكالم يف الكتب واملقاالت‬
‫أي‬ ‫بذلك‪« :‬ترك لنا أوغسطني من الكتب ما يفوق ما تركه لنا ُّ‬
‫هورسل (الوعي الباطني للزمن)‪ ،‬وهايدغر (الكينونة‬ ‫مفكر قديم آخر‪ ،‬إذ حتوي كتبه أكثر من مخسة ماليني كلمة (بينام‬
‫والزمان)‪ ،‬وحنا أرنت (احلب عند أوغسطني)‪ ،‬وفرويد (عقدة‬ ‫مل يرتك لنا شكسبري‪ ،‬عىل سبيل املقارنة‪ ،‬سوى قرابة تسعامئة ألف‬
‫أوديب) وقبلهم ديكارت (الكوجيطو)‪ ،‬أمثلة لتأثري أوغسطني يف‬ ‫ويتكون جمموع «مؤلفاته من ‪ 113‬مؤلف ًا‪ ،‬ومنها الضخم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫كلمة)»‪.1‬‬
‫مر العصور‪ ،‬وله تأثري أقوى من ذلك‬ ‫الفكر الفلسفي الغريب عىل ّ‬ ‫و‪ 218‬رسالة‪ ،‬و‪ 500‬عظة تقريب ًا»‪ .2‬وترمجت أعامله الكاملة هذه‬
‫يف الالهوتيني الغربيني‪ .‬فكيف أمكن ألوغسطني أن يمتدَّ تأثريه‬ ‫إىل مجيع اللغات الغرب َّية‪ ،‬وآخرها تلك التي نرشهتا غاليامر‪.3‬‬
‫عىل هذا النحو يف الفكر الغريب والعاملي (واإلسالمي)؟ أال يذكي‬ ‫أ َّما الدراسات والتحليالت والتأويالت التي ظهرت وتظهر‬
‫ذلك الرغبة يف أن ُيعرف و ُيقدَّ م؟‬ ‫بغري انقطاع حول هذه األعامل فهي تفوق احلرص‪ ،‬بحيث ُيعدُّ‬
‫«أوغسطني املفكر الذي كتب عنه أكثر ممَّا كتب عن اإلكلريوس‬
‫لكن كيف ُيقدَّ م أوغسطني وهو من كتب «سريته الذات َّية»‬ ‫اآلخرين أمجعني»‪ ،4‬وتصدر جملة الدراسات األوغسطين َّية‬
‫بنفسه‪ ،‬االعرتافات (‪ ،)Confessions‬وصارت من روائع الرتاث‬ ‫«بيبليوغرافيا سنو َّية لألعامل التي تصدر حول فكره‪ ،‬ترتاوح بني‬
‫األديب والفلسفي العاملي؟‬

‫أن ما هلذه السرية الذات َّية (التي ليست «سرية ذات َّية»‬ ‫بيد َّ‬ ‫* أكادميي من املغرب‬
‫املتداول) من سامت إبداع َّية و«مرسح َّية درام َّية»‪،‬‬
‫َ‬ ‫باملعنى املحدَّ د‬ ‫‪1 . Thomas F. Martin, Allan D. Fitzgerald, Augustine of Hippo.‬‬
‫وقصديتها‪ ،‬يطبعها بطابع املفارقة‪ :‬بدالً من أن تكون كشف ًا‬ ‫‪Faithful Servant, Spiritual Leader, Prentice Hall, Pearson‬‬
‫وانكشاف ًا تام ًا وكل َّي ًا ألوغسطني‪ ،‬صارت ستار ًا خيفيه أكثر ممَّا‬ ‫‪Education, 2011, p. VIII.‬‬
‫يلف أوغسطني غموض والتباس‪ ،‬فظلت مشكلة‬ ‫يبينه‪ .‬لذلك ُّ‬ ‫‪ .  2‬مارو‪ ،‬هرني‪-‬إيريني‪ ،‬القديس أوغسطني واألوغسطينيَّة‪ ،‬ترجمة سعد الله‬
‫نصه؟‬‫صدقه مطروحة‪ :‬من هو أوغسطني احلقيقي املسترت وراء ّ‬ ‫سميح جحا‪ ،‬دار املرشق‪ ،‬بريوت‪ ،2007 ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪3 . Augustin, Saint, Œuvres, Paris, La Pléiade, 1998 - 2002. (Trois‬‬
‫‪tomes).‬‬
‫‪5 . Thomas, Williams, Philosophical Books, Jul. 2000, Vol. 41, Issue‬‬ ‫‪4 . Alfaric, Prosper, L’Evolution intellectuelle de Saint Augustin,‬‬
‫‪3, p. 145. 9p.‬‬ ‫‪Paris, Emile Nourry Editeur, 1918, p. I.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪350‬‬
‫شخصيات وأعالم‬ ‫القدّ يس أوغسطني‬

‫الرضائب‪ ...،‬إلخ‪ .‬وقد عارص أوغسطني سقوط روما سنة ‪410‬‬ ‫يبدو فكره يف نظرة إمجال َّية متحرك ًا‪ ،‬يعكس حياة قلقة َّأرقها‬
‫ميالد َّية من قبل جيش أالريك (‪ )Alaric‬الذي عاث فيها هنب ًا‬ ‫رصاع نفيس ضار‪ ،‬وسؤال ميتافيزيقي مسيطر‪ ،‬فاختذت شكل‬
‫وختريب ًا وتقتيالً‪ ،‬وقد تويف أوغسطني حتت حصار الوندال ملدينة‬ ‫«ترحال» فكري وروحي‪ ،‬وبحث مستمر عن احلقيقة استبدَّ‬
‫هيبون ( ‪ )Hippone‬التي كان أسقف ًا هلا‪.‬‬ ‫بعقله وقلبه‪ ،‬يتعلم ويقرأ بنهم‪ ،‬ويفكر يف معمعة املجادلة والر ّد‬
‫عىل خصوم وأعداء‪ .‬جعل ذلك كله فكره «فوضوي ًا»‪ ،‬فاقد ًا‬
‫يف دوامة هذا التحول التارخيي السيايس اهلائل أخذت‬ ‫لصبغة «نسق» مغلق‪« :‬كان عاجز ًا عن االنغالق إىل األبد داخل‬
‫تربز مالمح اإلمرباطور َّية املسيح َّية املقبلة‪ ،‬التي ستقوم‬ ‫أ َّية منظومة فكر َّية‪ .‬كان فكره القلق يدفعه بدون انقطاع إىل األمام‪،‬‬
‫عىل أنقاض عامل اإلمرباطور َّية الرومان َّية‪ ،‬بدء ًا من اعتناق‬ ‫وإىل التوسيع املستمر ألفقه‪ .‬وتتقدَّ م أمامنا حياته الفكر َّية مثل‬
‫قسطنطني للمسيح َّية وإيقافه الضطهاد املسيحيني‪ ،‬الذي كان‬ ‫صعود بطيء نحو ذرى تبتعد باستمرار»‪ .6‬وقد قال أوغسطني‬
‫أشدّ أشكاله قسوة وأطوهلا أمد ًا يف القرن الثالث امليالدي يف‬ ‫عن نفسه يف إحدى رسائله‪« :‬أنا من أولئك الذين يفكرون وهم‬
‫عهد اإلمرباطور دوكليانوس‪ .‬وهو اضطهاد حفظت الذاكرة‬ ‫إن الصعوبة الكربى يف‬ ‫يتقدمون‪ ،‬ويتقدمون وهم يفكرون»‪َّ .‬‬
‫املسيح َّية آثاره‪ ،‬خاصة يف إقليم شامل أفريقية الروماين‪ ،‬يف ختليد‬ ‫تقديم أوغسطني هي أنَّنا حيثام نبدأ فكره حيرض كله‪ ،‬حي ًا متوتر ًا‪،‬‬
‫ذكريات الشهداء املسيحيني الذين سقطوا يف محالته‪ ،‬واحلفاظ‬ ‫وممتزج ًا ومتشابك ًا بحياته وواقعه الدراميني‪.‬‬
‫عىل طقوس إكرام أولئك الشهداء ضمن طقوس العبادة‬
‫املسيح َّية‪.8‬‬ ‫نغامر بمحاولة رسم صورة تقريب َّية هلذا الفكر ولصاحبه‪،‬‬
‫مستمدّ ين خطوط هذا الرسم وألوانه من سياقه التارخيي‪،‬‬
‫لكن كان عىل املسيح َّية أيض ًا أن ختوض حرب ًا خارج َّية ضدَّ‬ ‫من هويته االنتامئ َّية والشخص َّية‪ ،‬من مسار حياته وارتداداته‬
‫مكون ًا‬
‫َّ‬ ‫وثنية العامل الروماين‪« .‬كان العامل الديني ألوغسطني‬ ‫الفكر َّية‪ ،‬من اإلشكاالت الفلسف َّية التي طرحها وآرائه فيها‪ ،‬من‬
‫سمون‬ ‫عىل وجه العموم من املسيحيني واليهود‪ ،‬وممَّن كانوا ُي َّ‬ ‫تطور فكره من خالهلا عرب التاريخ‪ ،‬وأخري ًا من‬
‫األوغسطين َّية التي َّ‬
‫«الوثنيني»( ‪ ...)païens‬وهو اسم قدحي يطلق عىل من يعبدون‬ ‫الرجوع إىل أوغسطني يف عرص احلداثة وما بعد احلداثة‪.‬‬
‫آهلة متعدّ دة‪ ،‬أو إهل ًا آخر غري اإلله العربي‪-‬املسيحي‪ .‬إنَّه يدل‬
‫يف آخر املطاف عىل من حيافظون عىل املامرسات الدين َّية القديمة‬ ‫أفول اإلمبراطور َّية الرومان َّية وانتصار المسيح َّية على‬
‫أن املانو َّية‬‫عالوة عىل املسيح َّية أو ضدها»‪ .9‬وعىل الرغم من َّ‬ ‫الوثن َّية‬
‫دين كتايب فقد عُدَّ ت هي أيض ًا وثن َّية‪ ،‬وكانت قد تغلغلت يف‬ ‫عاش أوغسطني يف عرص اإلمرباطور َّية الرومان َّية املتأخرة‪ ،‬يف‬
‫أوساط الطبقات األرستقراط َّية واملثقفني ورجال الدولة‪ .‬كام‬ ‫مرحلة بدأ التفكك والضعف واالنحالل يرسي يف جسمها‪،7‬‬
‫ومتزق ًا داخلها‪ :‬اتسمت‬ ‫كان عىل املسيح َّية أن تواجه غليان ًا ُّ‬ ‫ويسري هبا نحو الزوال‪ :‬حروب منهكة مع بربر الشامل الزاحفني‬
‫الكنسية اإلفريق َّية بتفكري ضيق جد ًا وبنزعة حمافظة متزمتة‪ ،‬يتشدد‬ ‫عىل ثروات روما وأراضيها مثل اجلراد‪ ،‬ومع العدو الفاريس‬
‫أي معارضة أو احتجاج أو تغيري لنصوص الكتاب‬ ‫أساقفتها جتاه ّ‬ ‫الساساين الرهيب يف الرشق؛ فوىض وانقسامات داخل َّية‬
‫املقدَّ س‪ .‬كان هذا املناخ املتوتر يثري بكيف َّية متواترة لدى املسيحيني‬ ‫للسلطة السياس َّية قضت عىل االستقرار واألمن؛‬ ‫واغتصابات ُّ‬
‫األفارقة ردود أفعال عنيفة جد ًا‪ .‬فنشأت رصاعات داخل َّية بني‬ ‫أزمة اقتصاد ّية تتفاقم بإرهاق املواطنني بالزيادات املتتالية يف‬
‫الكنيسة الكاثوليك َّية الرسم َّية وبني فرق مسيح َّية منشقة‪ ،‬أمهها‪:‬‬
‫‪6  . Alfaric prosper, op. cit. p. III.‬‬
‫‪ .  7‬انظر حول هذا السياق التاريخي‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬تاريخ الحضارات العام‪،‬‬
‫‪ .  8‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪ 566‬ـ ‪.567‬‬ ‫املجلد الثاين‪ :‬روما وإمرباطوريتها‪ ،‬أندريه أميار‪ ،‬جانني أوبوايه‪ ،‬ترجمة فريد م‪.‬‬
‫‪9 . Martin, Thomas F.; Fitzigerald, Allan D., Augustine of Hippo,‬‬ ‫داغر‪ ،‬فؤاد ج‪ .‬أبو ريحان‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬باريس‪ -‬بريوت‪ ،‬الطبعة الثالثة‪،‬‬
‫‪Faihtful Servant, Spiritual Leader, Boston, Prtentice Hall, 2011, p. 4.‬‬ ‫‪ ،1994‬الصفحات ‪ 541‬ـ ‪.570‬‬

‫‪351‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫احلسني سحبان‬ ‫شخصيات وأعالم‬

‫تتمجد به مدينة مداوروش (‪ ،)Madaure‬القريبة من مسقط‬ ‫الدونات َّية‪ 10‬والبالج َّية‪ 11‬واألريان َّية‪.12‬‬
‫رأس أوغسطني‪ ،‬والتي تلقى فيها تعليمه الثانوي‪ .‬ومن أهم‬
‫مؤلفات أبويل التي بقيت كتاب شيطان سقراط (‪Le Démon de‬‬ ‫خالف ًا للحالة يف روما‪ ،‬وإيطاليا عا َّمة‪ ،‬كان اإلقليم الروماين‬
‫‪ ،)Socrate‬وروايته األدب َّية االنمساخات (‪)Métamorphoses‬‬ ‫لشامل أفريقية جهة خلف َّية رومان َّية آمنة نسبي ًا‪ ،‬ومزدهرة اقتصادي ًا‪،‬‬
‫أو محار الذهب (‪ ،)L’Ane d’or‬التي تُعدُّ إىل جانب اعرتافات‬ ‫إذ كانت نوميديا عىل اخلصوص ذات األرض الفالحية اخلصبة‬
‫أوغسطني من روائع األدب العاملي‪ .‬وكانت قرطاجة يومئذ أعظم‬ ‫«هري روما» (خزان ًا للقمح)‪ ،‬منه تتزود باملنتجات الفالح َّية‬
‫مدن شامل أفريقية الروماين‪ ،‬وثانية املدن الرومان َّية بعد روما‪ ،‬وقد‬ ‫الرضور َّية‪ :‬القمح يف املقام األول‪ ،‬ثم زيت الزيتون واخلمر‬
‫أنجبت الهوتيني مسيحيني كبار ًا أمثال طورطيليان( (�‪Tertul‬‬ ‫واخلشب والفواكه‪.13‬‬
‫‪ ،)lien‬أحد آباء الكنيسة الكاثوليك َّية الذي أسهم قبل أوغسطني‬
‫يف فتح أفق الالهوت املسيحي‪ ،‬ويف قرطاجة سيتل َّقى أوغسطني‬ ‫ظهر يف شامل أفريقية الروماين هذا (خاصة نوميديا) مفكرون‬
‫تعليمه اجلامعي‪.‬‬ ‫وفالسفة والهوتيون عظام‪ ،‬أمثال الفيلسوف األفالطوين‬
‫واألديب األمازيغي النوميدي أبويل (‪ )Apulée‬الذي كانت‬
‫هو َّية أوغسطين االنتمائ َّية‬
‫روماني أم أمازيغي؟‬ ‫‪.  10‬الدوناتية ‪ Donatisme‬مذهب مسيحي منشق ‪ ،Chisme‬منسوب ملؤسسه‬
‫اسم أوغسطني أوريليوس أوغسطينو(س(�‪Aurilius Au‬‬ ‫أسقف قرطاجة ‪ ،Donat‬انطلق من إقليم نوميديا ثم انترش يف شامل أفريقية‬
‫‪ )gustinus‬ازداد بمدينة تاغاست ( ‪( ) Thagast‬اسمها يف الوقت‬ ‫برمته‪ .‬نشأ هذا االنشقاق أصالً عن موقف متشدد من قبل دونات ض َّد تساهل‬
‫احلارض سوق أهراس باجلزائر) مواطن ًا روماني ًا سنة ‪ 345‬ميالدية‪،‬‬ ‫الكنيسة الكاثوليكيَّة يف انتخاب أساقفة م َّمن وصفوا بالخونة ‪،traditores‬‬
‫ألبوين مها‪ :‬مونيكا (‪ )Monnic‬وباتريكيوس (‪.14)Patricius‬‬ ‫لكونهم سلموا أيام اضطهاد املسيحيني العنيف‪ ،‬بني سنتي ‪ 303‬و‪ ،305‬الكتب‬
‫مدينة تاغاست أمازيغ َّية‪ ،‬واسم أ ّمه كذلك‪ .‬لك َّن أوغسطني‬ ‫املقدَّسة للسلطات الرومانيَّة إلحراقها وإتالفها‪ .‬بعد ذلك اقرتنت الدوناتيَّة بحركة‬
‫سكت عن نسبه‪ ،‬ففتح الباب للنقاش بني املؤرخني حول هويته‬ ‫مت ُّرد واحتجاج اجتامعي خصوصاً من قبل الفالحني والقرويني الفقراء املعادين‬
‫االنتامئ َّية‪ :‬هل هو أمازيغي ُم َرو َم ٌن أم روماين؟ والراجح حسب‬ ‫لالستعامر الروماين لنوميديا‪.‬‬
‫جون أومريا‪ 15‬وكلود لوبليه‪ 16‬أنَّه بربري نوميدي‪ .‬ويرى بيرت‬ ‫‪ .  11‬البالجية‪ ، Pélagianisme‬مذهب الهويت انطلق من ‪ Pélage‬بروما‪ ،‬طرح‬
‫أن «من املحتمل جد ًا أن ال يكون أوغسطني قد تكلم بلغة‬ ‫براون َّ‬ ‫قضايا الهوتيَّة‪ ،‬وقدَّم حولها تصورا ً مخالفاً ملذهب الكنيسة الرسمي‪ :‬الخطيئة‬
‫أخرى غري اللغة الالتين َّية»‪ .17‬لك َّن مسألة ما إذا كان يعرف اللغة‬ ‫األصل َّية محصورة يف آدم وال تنتقل إىل ذريته‪ ،‬كام أ َّن تعميد األطفال الصغار‬
‫األمازيغ َّية (البونيقية) فقد كانت موضع نقاش طويل‪ .‬ترى نصرية‬ ‫لتطهريهم وهم بريئون من أي ذنب ال معنى له‪ ،‬والعناية اإللهيَّة ال تتدخل يف‬
‫فعل اإلنسان الذي تفرتض محاسبته عليه يوم القيامة أن يكون حرا ً مسؤوالً‪.‬‬
‫‪14 . O’Meara, John J. La Jeunesse de Saint Augustin, tr. fr. Jeanne‬‬ ‫انتقل هذا املذهب إىل شامل أفريقية بعد نهب روما من قبل جيش أالريك‬
‫‪Henri Marrou, Editions universitaires Fribourg Suisse ; Cerf Paris,‬‬ ‫‪ Alaric‬سنة ‪ ،410‬فأحدث ذلك املذهب بلبلة يف الكنيسة الكاثوليك َّية األفريقية‪.‬‬
‫‪1988, p. 32.‬‬ ‫‪ .  12‬ينسب هذا التيار إىل الكاهن اإلسكندري أريوس‪ ،‬ويتلخص مذهبه يف‬
‫‪15 . Opt. cit. p. 35 - 36.‬‬ ‫مناقشة مسألة التثليث يف العقيدة املسيح َّية‪ .‬فانتهى إىل رفض القول بألوه َّية‬
‫‪16 . Leeplley, Claude, « Témoignage de Saint Augustin sur l’ampleur‬‬ ‫املسيح‪ ،‬أل َّن رشط األلوهيَّة أن ال يكون اإلله مخلوقاً وال مولودا ً‪ ،‬وهذا الرشط ال‬
‫‪et les limites de l’usage de la langue punique dans l’Afrique de son‬‬ ‫يتوفر سوى يف األب‪ ،‬لذلك فإ َّن االبن‪ ،‬املسيح‪ ،‬ليس إلهاً‪ .‬أثار هذا املذهب تدخل‬
‫‪temps », in Claude Biriand-Ponsart (dir.), Identités et culture dans‬‬ ‫الكنيسة‪ ،‬فقد ح َّرمته واعتربته هرطقة‪ ،‬كام أثار خالفات ومشاحانات وأحقادا ً‬
‫‪l’Algérie antique, Havre, Publications de Universités de Rouen et‬‬ ‫داخل الكنيسة دامت قرابة ‪ 60‬عاماً‪.‬‬
‫‪du Havre, 2005, p.127 - 145.‬‬ ‫‪13 . Brown, Peter, La vie de Saint Augustin, tr. Fr. Jeanne-Henri‬‬
‫‪17 . Brown, p., Opt. cit. p. 18 - 19.‬‬ ‫‪Marrou, Seuil, 1971, p.16 - 17.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪352‬‬
‫شخصيات وأعالم‬ ‫القدّ يس أوغسطني‬

‫فستبقى إذن هويته االنتامئ َّية موضوع ًا للتساؤل‪ ،‬وسيحول ذلك‬ ‫أن اعتبار «أوغسطني ذا ثقافة التينَّية عىل وجه‬ ‫بنصديق‪ ،‬مثالً‪َّ ،‬‬
‫دون معرفة عالقته احلقيق َّية بأصله اإلثني‪ ،‬وما إذا كان إخفاؤه‬ ‫احلرص‪ ،‬ال خيلو من عدم االحرتاس‪ .‬إذ كانت أرسة أوغسطني‪،‬‬
‫سبب ًا من أسباب التوتر يف نفسه‪.‬‬ ‫رغم اسمها العائيل أوريليوس الذي يشري إىل اكتساب املواطنة‬
‫الرومان َّية يف عهد مارقوس أوريليوس [‪ ،]...‬أرسة بربر َّية‪.‬‬
‫ابن أرستقراطي «فقير»!‬ ‫فلقب أ ّمه مونيكا (‪ )Monnica‬اسم من تلك األسامء الليب َّية‬
‫كان بارتيكيوس أبو أوغسطني يف مرتبة اجتامع َّية مرموقة‪ ،‬حيمل‬ ‫(‪ )libyques‬الكثرية التي شكلت من اجلذر مون (‪)MONN‬‬
‫صفة ديكوريون (‪ ،)décurion‬أي مستشار يف املجلس البلدي‬ ‫مثل مونا (‪ )monna‬وموناتا (‪ .18»)...monnata‬وتضيف‪َّ :‬‬
‫«إن‬
‫فلحي ًا‬‫ملك ًا َّ‬
‫للمدينة‪ .‬ومع ذلك يبدو‪ ،‬حسب رواية أوغسطني‪َّ ،‬‬ ‫بأن أوغسطني كان جيهل‬ ‫احلس السليم البسيط يمنعنا من الظن َّ‬ ‫َّ‬
‫متوسط احلال‪ .‬ويظن أومريا‪ 22‬أنَّه كان ميسور ًا‪ ،‬ثم خرس ثروته‪،‬‬ ‫احلضور الكيل للغة الليب َّية يف منطقة «ذات ثقافة فالح َّية» ‪،...‬‬
‫ربام بسبب رضائب ثقيلة‪ ،‬أو الوفاء بالواجبات التي يفرضها تقلد‬ ‫والتي اكتشف فيها ‪ %72‬من جمموع ما اكتشف من املنقوشات‬
‫ذلك املنصب‪ .‬إذ كان عىل هؤالء املستشارين أن يسدّ دوا من أموهلم‬ ‫الليب َّية يف تونس واجلزائر‪ ،‬حسب جابرييل كامب (‪Gabriel‬‬
‫اخلاصة النقص يف املداخيل الرضيب َّية‪ ،‬وأن يسهموا يف تكاليف‬ ‫‪ .19») Camps‬عىل عكس ذلك ينكر املؤرخ مارو هنري ‪ -‬إرينيه‬
‫يعرضهم أحيان ًا‬ ‫األلعاب واألنشطة الثقاف َّية للمدينة‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫هذا النسب الرببري‪« :‬إنَّه [أوغسطني] روماين من أفريقية‪ .‬وقد‬
‫للفقر أو اإلفالس‪ .‬لك َّن املؤكد‪ ،‬حسب ما خيربنا به أوغسطني يف‬ ‫ينساق البعض بسذاجة إىل االعتقاد أنَّه من أصل بربري‪ ،‬ملا بدا‬
‫أن تكاليف تعليمه املاد َّية كانت فوق طاقة أرسته‬ ‫االعرتافات‪ ،‬هو َّ‬ ‫هلم من حدَّ ة طبعه وغرابة سريته‪ ...‬فقد ولد القديس مواطن ًا‬
‫فلجأت إىل االقتصاد والتقشف الشديد‪ ،‬ووجدت صعوبات‬ ‫روماني ًا»‪ .20‬وانطلق كلود لو بوليه (‪ )Claude Lepeley‬فيام يتعلق‬
‫كربى يف توفري املال الالزم ملتابعة دراسته اجلامع َّية يف مدينة‬ ‫أن‬ ‫بمسألة معرفة أوغسطني للغة األمازيغ َّية النوميد َّية من فرض َّية َّ‬
‫قرطاجة‪ .‬ولوال كرم‪  ‬ورعاية حمسن من أغنياء تاغاست‪ ،‬وصديق‬ ‫برابرة شامل إفريقيا كانوا يومئذ‪ ،‬كام ما يزالون إىل اليوم‪« ،‬متعددي‬
‫لباتريكيوس (وهو رومانيانوس ‪ 23) Romanianus‬لضاع حلم‬ ‫اللغات؛ إذ يتبني َّأنم عرفوا عرب العصور كيف يوافقون بني تبني‬
‫أوغسطني وحلم أرسته يف اإلفالت من مهمة املستشار البلدي‬ ‫ثقافات ولغات مهيمنة (البونيق َّية والالتين َّية والعرب َّية والفرنس َّية)‬
‫ومن خماطرها‪ ،‬واالنعتاق من الفقر‪ .‬ال بدَّ أن يكون أوغسطني قد‬ ‫وبني الوفاء لتقاليدهم اخلاصة‪ ،‬السيام اللغو َّية [الليب َّية] »‪.21‬‬
‫عانى من هذا التناقض‪ :‬انتامء طبقي أعياين وفقر‪.‬‬
‫تتعزز هذه االفرتاضات والرتجيحات بتسمية أوغسطني البنه‬ ‫َّ‬
‫أوغسطين «األفريقي»‪ ،‬أو السياق السوسيوثقافي‬ ‫باسم أمازيغي نوميدي‪ ،‬أديودا (‪ ،)Adeodat‬وهو ترمجة التين َّية‬
‫رسم كثري من ُكتَّاب سرية أوغسطني الغربيني مالمح شخصيته‬ ‫لعبارة أمازيغ َّية معناها «عطاء اهلل»‪ ،‬ثم بالعنف النقدي والتهكمي‬
‫انطالق ًا من النموذج ـ املثايل لـ«األفريقي» (‪ )l’Africain‬عىل‬ ‫اجلارح والقايس‪ ،‬يف كتابه مدينة اهلل‪ ،‬لكل ما هو روماين‪ :‬املرسح‬
‫غرار النموذج‪ -‬املثايل لـ«الرشقي»‪ :‬الرجل األفريقي (النوميدي‬ ‫والشعر والتاريخ والسياسة‪ .‬إذ لو كانت الدماء الرومان َّية جتري‬
‫القروي الفالح خاصة) هو من جهة‪ ،‬بسيط‪ ،‬قوي البنية‪ ،‬حذر‬ ‫يف عروقه ملا وصل إىل تلك الدرجة من العنف النقدي يف حق‬
‫من األجنبي الغريب‪ ،‬متقد الذكاء‪ ،‬م َّيال إىل التكتل يف مجاعات‬ ‫الرومان‪ .‬وال يكفي دفاعه عن املسيح َّية لتربير عنف ذلك النقد‪.‬‬
‫أو طوائف مرتاصة ومتالمحة‪ ،‬قادر عىل نسج عالقات صداقة‬
‫مستديمة والوفاء هلا مدى احلياة‪ ،‬ميال إىل املحافظة والتمسك‬ ‫‪18 . Benseddik, Nacéra, Thagaste,Souk Ahras. Patrie de Saint‬‬
‫‪Augustin, Alger, Editions INAS, 2005, p. 25.‬‬
‫‪22 . O’Meara, John J., La Jeunesse de Saint Augustin, tr. fr. Jeanne‬‬ ‫‪19 . Ibid, p. 24.‬‬
‫‪Henri Marrou, Editions universitaires Fribourg Suisse ; Cerf Paris,‬‬ ‫‪ .  20‬هرني ‪ -‬إريني ما ُّرو‪ ،‬القديس أوغسطني واألوغسطين َية‪ ،‬ترجمة سعد الله‬
‫‪1988, p. 32.‬‬ ‫سميح جحا‪ ،‬دار املرشق‪ ،‬بريوت‪ ،2007 ،‬ص‪.18 .‬‬
‫‪23 . Brown, p., Opt. cit. p.17 - 18.‬‬ ‫‪21 . Lepelley, Claude, Opt. cit. p. 128.‬‬

‫‪353‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫احلسني سحبان‬ ‫شخصيات وأعالم‬

‫أوغسطني بجانب هذا الضعف وامليل إىل االعتزال وجه ًا خميف ًا‪:‬‬ ‫الشديد بتقاليد عتيقة «مل تتغري كثري ًا منذ ما قبل التاريخ»‪ ،24‬ثرثار‬
‫اللإنسان َّية (لقد اخرتت هذا‬ ‫«إن يف شخصية أوغسطني سامت َّ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫بمعان تقريب َّية؛‬ ‫مولع بالكالم‪ ،‬هيوى اللعب بالكلامت واستعامهلا‬
‫يتم جتاهلها بسهولة مفرطة؛ ففي إمكاننا أن‬ ‫اللفظ بعناية)‪ُّ ،‬‬ ‫وهو من جهة أخرى‪ ،‬رجل يتلذذ بالسخرية الالذعة واجلارحة‬
‫نتحدث عىل حد سواء عن افتقاره إىل االحرتام جتاه النساء‪ ،‬أو عن‬ ‫من اآلخرين‪ ،‬حاد الطبع رسيع الغضب واالنفعال اهلائج‪،‬‬
‫ال مباالة باردة يف عالقاته البرش َّية»‪ .27‬ويرشح ياسربز هذه السمة‬ ‫يضمر األحقاد والضغائن‪ ،‬متعصب آلرائه‪ ،‬باتريارك‪ ،‬أي س ّيد‬
‫اللإنسانَّية يف شخص َّية أوغسطني بقوله‪ ...« :‬كان أوغسطني يعترب‬ ‫َّ‬ ‫مطلق السلطة يف أرسته‪ ،‬حمتكر النتساب أبنائه‪ ،‬مزهو ومتغطرس‬
‫اجلنسان َّية سيئة وخبيثة يف ذاهتا‪ ،...‬هنا أيض ًا يبدو من املستحيل أن‬ ‫بفحولته وبصوالته اجلنسان َّية يف إطار الزواج وخارجه‪ ،‬هيوى‬
‫ال نعترب ال إنساني ًا هذا الفصل الذي يقيمه بني اجلنسان َّية واحلب‪.‬‬ ‫النميمة والغيبة‪ ،‬يمتلئ قلبه باحلسد‪ ،‬ولذلك خيشى العني املؤذية‬
‫إذ َّملا كان أوغسطني إ َّما متهتك ًا وإ َّما زاهد ًا فإنَّه جيهل احرتام املرأة‪،‬‬ ‫كم التامئم التي كان النوميدي يصنعها‬ ‫(كام يشهد عىل ذلك ُّ‬
‫يمس بكرامتها»‪. 28‬‬
‫ويف كلتا احلالتني ُّ‬ ‫ألطفاله حلاميتهم منها)‪ ،‬وخياف اجلن والشياطني‪ ،‬ويلجأ إىل‬
‫السحر والشعوذة التقاء رشورها أو تسخريها لتلبية رغباته‪،‬‬
‫هشة‪ :‬كانت صحته‬ ‫يبدو أوغسطني من الناحية البدن َّية بصحة ّ‬ ‫ويعبد آهلة ج َّبارة خميفة عىل نموذج هيوه إله العربيني‪ ،‬ويصدق‬
‫ضعيفة مرهفة‪ .‬أصيب إ َّبان دراسته يف تاغاست بأزمة صدر َّية‪،‬‬ ‫ِرؤى األحالم باعتبارها خطاب ًا غيبي ًا منذر ًا أو مبرش ًا‪ ،‬ويستشري‬
‫ربام كانت بسبب الربو‪ .‬عاودته مثلها يف الثالثني من عمره بسبب‬ ‫املنجمني والعرافني الستطالع املستقبل‪ .25‬أ َّما النموذج‪ -‬املثايل‬
‫إجهاد رئتيه‪ ،‬من فرط الكالم يف إلقاء دروس اخلطابة‪ .29‬ويظن أنَّه‬ ‫للمرأة «األفريق َّية» (النوميد َّية عىل نحو خاص) فهي خاضعة‬
‫مات بمرض محى املالريا أو السل‪ .‬لكنَّه يبدو أيض ًا ذا قدرة كبرية‬ ‫للرجل خضوع العبد لس ّيده‪ ،‬تتكفل بأشغال البيت وتربية‬
‫حتمل العمل املضني‪ ،‬ومشاق مهنة األسقف َّية‪ ،‬والتأليف‪،‬‬ ‫عىل ُّ‬ ‫األطفال إن كانت األرسة فقرية‪ ،‬وتتكفل إن كانت زوجة يف أرسة‬
‫والسفر الطويل‪ ،‬للمحارضة أو للحضور يف املجامع الكنس َّية‪،‬‬ ‫ميسورة باإلرشاف عىل اخلدم والعبيد واملربيات‪ ،‬وتلبية رغبات‬
‫وظل يتمتع بحواسه سليمة حتى النهاية‪ .‬وهو من الناحية‬ ‫َّ‬ ‫الزوج‪ .‬وهبذا االتصال الوثيق بني األم وأطفاهلا تقوم بدور نقل‬
‫السيكولوج َّية الوجدان َّية ذو حساس َّية مرهفة‪ ،‬ور َّقة يف العواطف‪،‬‬ ‫التقاليد (الرببر َّية) واملحافظة عليها‪ .‬وقد متارس املرأة رغم مظهر‬
‫وقابل َّية للتأثر الرسيع والبكاء بغزارة‪ ،‬وأبان عن ذكاء ونبوغ‬ ‫«سلطة سلب َّية» خفية داخل البيت‪ ،‬جتعلها هي‬ ‫اخلضوع الظاهر ُ‬
‫مبكرين‪ ،‬وسهولة فائقة يف التعلم ويف اكتساب اللغة الالتين َّية‪،‬‬ ‫املتحكمة يف الرجل رغم املظاهر‪.‬‬
‫وكان لديه ميل إىل التعلم الذايت وهنم شديد للقراءة‪ ،‬وكانت‬
‫تستحوذ عليه شهوان َّية جنسان َّية طاغية ظهرت يف مراهقة متأخرة‬ ‫كان كثري من هذه املالمح يف شخص َّية أوغسطني‪ ،‬تراكبت مع‬
‫أهنيت برسعة خطرية‪ .30‬كانت له ذاكرة خارقة حفظت اإلنجيل‬ ‫اخلاصة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫سامته الشخص َّية‬
‫ال وروائع من األدب الروماين الكالسيكي‪ ،‬دائم القلق‬ ‫كام ً‬
‫والشعور املستديم بالذنب والندم‪ ،‬وكان لديه طموح للمجد‬ ‫الهو َّية الشخص َّية ألوغسطين‬
‫والسلطة والثروة‪ ،‬ويؤرقه بحث مستمر عن احلقيقة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫واجلاه‬ ‫كتب كارل ياسربز يف وصف شخص َّية أوغسطني‪« :‬إنَّه كائن‬
‫و َّملا صار أسقف ًا أصبح متشدّ د ًا متزمت ًا قاسي ًا ومستبد ًا برأيه جتاه‬ ‫بالسلطة املطلقة؛‬
‫يعيش حالة اضطراب وفوىض‪ ،‬ولذلك يلوذ ُّ‬
‫اخلصوم‪ .‬وله قدرة خارقة عىل الكتابة واملجادلة‪.‬‬ ‫يميل إىل العدم َّية‪ ،‬ولذلك حيتاج إىل ضامنة مطلقة؛ يظل يف العامل‪،‬‬
‫دون تعلق حقيقي‪ ،‬دون زوجة‪ ،‬دون صديق‪ ،‬ومن هنا أتى بحثه‬
‫‪Hersh, H. Naef, Paris, Plon, 2009. p. 289.‬‬ ‫عن اهلل وحده‪ ،‬مستبعد ًا العامل »‪ .26‬ويكشف ياسربز يف شخص َّية‬
‫‪27 . Ibid, p. 292.‬‬
‫‪28 . Ibid, p. 293.‬‬ ‫‪24 . Brown, Peter, Opt. cit. p. 16.‬‬
‫‪29 . Prosper, Alfaric, Opt. cit. p. 40.‬‬ ‫‪25 . Ibid, p. 1921- ; p. 31 - 34.‬‬
‫‪30 . Brown, p. Opt. cit. p. 40.‬‬ ‫‪26 . Jaspers, Karl, Les Grands Philosophes, t. 2, tr. fr. G. Floquet, J.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪354‬‬
‫شخصيات وأعالم‬ ‫القدّ يس أوغسطني‬

‫وسيلة النتزاعي‪ ،‬ولوضع حد هلذه الشهوات نفسها؛ أ َّما شهوهتا‬ ‫َّإنا إذن شخص َّية متعدّ دة األوجه‪ ،‬ومركَّبة‪ ،‬وحافلة بعنارص‬
‫هي‪ ،‬تلك الشهوة التي هي كالم اجلسد‪ ،‬فقد رضبت بالسوط‬ ‫التوتر وعدم االستقرار‪ ،‬ومهيأة لتجارب درام َّية‪ ،‬كام يتضح يف‬
‫حتب حضوري بالقرب منها‪ ،‬مثل‬ ‫العادل لألمل‪ .‬كانت يف الواقع ُّ‬ ‫جتربة ح ّبه أل ِّمه‪.‬‬
‫حتب ذلك أكثر بكثري من عدد كبري منهن‪،‬‬‫األمهات‪ ،‬لكنَّها كانت ُّ‬
‫ومل تكن تعلم ما يف وسعك‪ ،‬أنت‪ ،‬أن تستخلصه من أجلها من‬ ‫َّ‬
‫معذبة‪ ،‬وابن‬ ‫أم مسيح َّية‬
‫وأمه (مونيكا)‪ٌّ :‬‬
‫أوغسطين ّ‬
‫أفراح بغيايب‪ .‬مل تكن تعلم ذلك‪ ،‬ولذلك كانت تبكي وتشكو‪،‬‬ ‫وأب وثني غائب‬
‫شهواني حائر‪ٌ ،‬‬
‫ومن تباريح أوجاعها كان ينكشف مرياث حواء‪ :‬تبحث يف نوح‬ ‫كانت أ ُّم أوغسطني‪ ،‬مونيكا‪ ،‬كام وصفها يف االعرتافات‪ ،‬مؤمنة‬
‫عم ولدته يف نوح»‪.33‬‬
‫َّ‬ ‫مسيح َّية تق َّية ورعة‪ ،‬وديعة وخاضعة لزوجها‪ ،‬حم َّبة للسلم‪ ،‬تسعى‬
‫للحفاظ عىل ابنها مؤمن ًا مسيحي ًا‪ ،‬بينام كان أبوه‪ ،‬باتريكيوس‪،‬‬
‫أغرت هذه العالقة املثرية أصحاب التحليل النفيس بمقاربتها‬ ‫وثني ًا‪ ،‬تعرتيه سورات من الغضب الشديد‪ ،‬وخيون زوجته‪.‬‬
‫من منظور العالقة‪ :‬االبن‪/‬األم‪.‬‬ ‫كان هذا االختالف والتباين املزدوج (مسيح َّية‪ /‬وثن َّية‪ ،‬أب‬
‫باترياركايل‪ /‬أم خاضعة) وااللتباس يف عالقة أبوي أوغسطني‬
‫يقدّ م راين ناوتا (‪ ،34)Rein Nauta‬تركيب ًا مكثف ًا ملجموعة‬ ‫مصدر ًا لتوتر شديد صامت‪ ،‬ظلت آثاره السلب َّية تعتمل يف نفسه‪،‬‬
‫كبرية من الدراسات التحليل َّية‪ -‬النفس َّية لشخص َّية أوغسطني من‬ ‫يتبي يف وصفه لفراق أ ّمه من أجل‬ ‫وجتعلها «نفس ًا منشطرة»‪ ،‬كام َّ‬
‫نص االعرتاف‪ ،‬حماوالً «كشف الديناميات السيكولوج َّية‬ ‫خالل ّ‬ ‫السفر للعمل يف روما‪:‬‬
‫املعذبة‪ ،‬واالبن الضال‪ ،‬والدور الذي أداه‬ ‫لألب الغائب‪ ،‬واألم َّ‬
‫ذلك يف توبة أوغسطني وارتداده إىل املسيح َّية» ‪ .‬ويقدم استناد ًا‬
‫‪35‬‬
‫«هكذا كنت مؤمن ًا [منذ طفولتي]‪ ،‬كام كانت أمي ومجيع أهل‬
‫إىل كتاب االعرتافات قراءتني ألرسة أوغسطني‪ :‬قراءة أوديب َّية‬ ‫البيت مؤمنني‪ ،‬ما خال أيب‪ ،‬الذي مل ينزع من أمي مع ذلك حقها‬
‫حمورها أبو أوغسطني‪ ،‬وقراءة نرجس َّية حمورها أ ُّم أوغسطني‪،‬‬ ‫يف تقواي‪ ،‬من أجل أن ال أومن باملسيح لكونه مل يؤمن به بعد‪ .‬لقد‬
‫وأوغسطني نفسه‪.‬‬ ‫كل ما يف وسعها لكي تكون أنت‪ ،‬يا إهلي‪،‬‬ ‫كانت بالتأكيد تفعل َّ‬
‫أيب‪ ،‬بدالً منه هو‪ .‬وكنت يف ذلك تعينها عىل الفوز عىل زوجها‬
‫تبدو أرسة أوغسطني نموذج ًا لألرسة الفاقدة للتأثري أو‬ ‫ألنا إذ ختضع له إنَّام‬
‫الذي ظلت‪ ،‬مع كوهنا أفضل منه‪ ،‬خاضعة له‪َّ ،‬‬
‫للحضور الفعيل لألب (‪ ،)father-ineffective families‬توجد‬ ‫حب أ ّمه‬ ‫ختضع لك أنت‪ ،‬أنت الذي أمرهتا هبذا اخلضوع » ‪ .‬كان ُّ‬
‫‪31‬‬

‫السلطة الفعل َّية بني يدي األم‪ ،‬بحيث يعترب األب كأنَّه غائب‪،‬‬ ‫فيه ُّ‬ ‫له حب ًا «مفرتس ًا»‪ ،32‬وفيه جانب «جسدي مفرط»‪« :‬كنت تعلم‪،‬‬
‫ومهمش رغم تظاهره بمظهر الس ّيد املسيطر‪ .‬هكذا يبدو أبو‬ ‫َّ‬ ‫يا إهلي‪ ،‬ملاذا كنت أتأهب للرحيل من هنا [قرطاجة] إىل هناك‬
‫ال نموذجي ًا للرجل الذي يعاين من‬ ‫أوغسطني‪ ،‬باتريكيوس‪ ،‬متثي ً‬ ‫[روما]‪ ،‬لكن دون أن تنبه أ َّي ًا منا ال أنا وال أمي‪ ،‬التي بكت رحييل‬
‫استمر‬
‫َّ‬ ‫عقدة الذكر املسيطر(‪ ،)machism complex‬وهي ظاهرة‬ ‫بكاء مروع ًا‪ ،‬وتبعتني حتى البحر‪ .‬غري ّأن خدعتها‪ ،‬بينام كانت‬
‫وجودها يف البلدان املتوسط َّية‪َّ .‬إنا «إيديولوج َّية مركز َّية الذكر‪،‬‬ ‫متسك بتالبيبي بعنف‪ ،‬إ َّما إلرجاعي وإ َّما للرحيل معي[‪.]...‬‬
‫التي تشجع الرجال عىل أن يكونوا عنيفني جنساني ًا‪ ،‬وأن يتباهوا‬
‫ببسالتهم اجلنسان َّية‪ ،‬وبخصائصهم التناسل َّية‪ ،‬وبالسيطرة عىل‬ ‫[أقلعت السفينة] وغاب عن أنظارنا الساحل حيث كانت‬
‫أمي عند الصباح متأل‪ ،‬بعد أن ج َّن جنوهنا من فرط األمل‪ ،‬آذانك‬
‫‪ .  33‬املرجع نفسه‪ ،V, VIII, 15 ،‬ص‪.87 – 86 .‬‬ ‫باألنني والعويل‪ .‬مل ِ‬
‫تبال [أنت] بذلك؛ أ َّما شهوايت أنا فقد اختذهتا‬
‫‪34 . Nauta, Rein, «The Prodigal Son : Some Psychological Apsects‬‬
‫‪of Augustine’s Conversion to Christianity», Journal of Religion‬‬ ‫‪ .  31‬االعرتافات‪ ،‬مرجع مذكور‪ .‬مع إجراء بعض التعديالت يف الرتجمة‪ ،‬بغاية‬
‫‪and Health, n° 47, published online 1 August 2007, p. 75- 87.‬‬ ‫مزيد من الدقة والوضوح‪.‬‬
‫‪35 . Ibid, p. 75.‬‬ ‫‪32 . P. Brown, Opt. cit. p.29.‬‬

‫‪355‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫احلسني سحبان‬ ‫شخصيات وأعالم‬

‫يف وسعنا أن نستخلص من هذا التحليل َّ‬


‫أن الوجه الذي قدَّ م به‬ ‫املرأة جنسان َّي ًا»‪ .‬تعترب هذه النزعة الذكور َّية نتيجة جتربة األطفال‬
‫أوغسطني نفسه يف اعرتافاته متواضع ًا بإفراط‪ ،‬مبالغ ًا يف لوم نفسه‬ ‫الذكور للتامهي مع أنوثة األم بسبب غياب األب‪ ،‬والقرب‬
‫واهتامها بارتكاب ذنوب ما هي بذنوب (مثل هنمه يف الرضاعة‬ ‫احلميمي لألم املستحوذة‪ .‬ينتج عن هذه التجربة رصاع نفيس‬
‫من ثدي أمه‪ ،‬ورصاخه من أجل تلبية حاجاته‪ ،‬ورسقة أجاص‬ ‫بني الدور األنثوي الذي ينشأ عليه االبن يف عالقته باألم‪ ،‬وبني‬
‫مع مجاعة من رفاق طفولته)‪ ،‬هو وجه ذو داللة عكس َّية‪« :‬تواضع‬ ‫الدور الذكوري الذي ينتظره منه املجتمع عندما يكرب ويكتشفه‪.‬‬
‫ال متواضع»‪ ،‬وإثبات استحقاق االعرتاف والتقدير واإلعجاب‪.‬‬ ‫ويرتتب عن تأنث االبن يف أرسة األب الغائب انغامسه عندما‬
‫أن قول كارل ياسربز يف التعقيب عىل وصفه السيكولوجي‬ ‫غري َّ‬ ‫يكرب يف سلوك ذكوري مبالغ فيه‪ ،‬تعبري ًا عن توق نرجيس إىل‬
‫لشخص َّية أوغسطني‪« :‬إن يكن هذا النوع من الدراسة‬ ‫اإلعجاب والتقدير من قبل اآلخرين‪ .‬كام يمكن أن ينتج عن ذلك‬
‫السيكولوج َّية الكاشفة عن التناقض والتباين ييضء شخص َّية‬ ‫التامهي اشتهاء جنساين (ال واعٍ) متبادل بني األم واالبن‪ ،‬ولكنَّه‬
‫فإن جدّ ية التأمل األوغسطيني تفلت‬ ‫أوغسطني يف مستوى معني‪َّ ،‬‬ ‫يظل‬‫مقموع بشدَّ ة يف االجتاهني مع ًا‪ ،‬بسبب وجود األب الذي ُّ‬
‫ألن اإلبداع الفكري‬ ‫منه عىل نحو تام»‪ 36‬هو قول جدير باالعتبار‪َّ ،‬‬ ‫غري ًام لالبن‪ ،‬ويؤدي اخلوف من انتقامه القايس إىل القمع الشديد‬
‫لدى أوغسطني واقع ال ينكر‪ ،‬أكانت شخصيته سو َّية أم مرض َّية‪.‬‬ ‫ملثل هذا االشتهاء وكبته أو تصعيده‪ .‬وينشأ عن هذا الكبت اقرتان‬
‫االشتهاء اجلنساين وإشباعه بالشعور بالقلق وبالذنب وبالندم‪.‬‬
‫مسار وارتدادات‬
‫امتدَّ ت حياة أوغسطني بني ميالده بمدينة تاغاست يوم ‪13‬‬ ‫فإنا تبدو امرأة حرمت يف طفولتها األوىل‬ ‫أ َّما أم أوغسطني َّ‬
‫نوفمرب ‪ 354‬ميالد َّية‪ ،‬وبني وفاته وهو أسقف بمدينة هيبون (عنابة‬ ‫من التقدير واالعرتاف هبا من قبل أبوهيا‪ ،‬إذ أسندت تربيتها‪،‬‬
‫باجلزائر) يوم ‪ 28‬غشت ‪ 430‬ميالدية‪ .‬أحيط ميالد أوغسطني‬ ‫مع أخواهتا‪ ،‬المرأة مسنَّة‪ ،‬هنجت التشدُّ د والرصامة يف تنشئتهن‪.‬‬
‫بطقوس مسيح َّية وعادات نوميد َّية قديمة‪ُ :‬و ِضع امللح عىل‬ ‫وقعت يف عادة اإلدمان اخلفي عىل رشب اخلمر‪ ،‬وقد بالغت‬
‫ورسمت عالمة الصليب عىل صدره‪ ،‬ونُظر إليه من وراء‬ ‫شفتيه‪ُ ،‬‬ ‫مربيتها يف حتذيرها من رشهبا‪ ،‬ومل تشف من ذلك اإلدمان إال‬
‫وصنعت له متائم كثرية لوقايته من العني املؤذية وحفظه‬ ‫غربال‪ُ ،‬‬ ‫بالتقوى الدين َّية‪ .‬كام مل تكن تلقى التقدير واالعرتاف من زوجها‬
‫من القوى الرشيرة التي يعتقد َّأنا حترض بكثافة يف فرتة اخلريف‬ ‫الذي كانت تأخذه سورات الغضب الشديد عليها‪ ،‬ويعطي‬
‫بالرضع والزرع واملاشية‪.‬‬
‫َّ‬ ‫فتلحق أرضار ًا بليغة‬ ‫لنفسه احلر َّية يف ممارسة الزنى خارج فراش الزوج َّية‪ ،‬وهي‬
‫معذبة‪ ،‬جرحية نرجسي ًا‪،‬‬
‫تعلم ذلك‪ .‬فأ ُّم أوغسطني هي إذن أم َّ‬
‫التنشئة األسر َّية والتعلم المدرسي‬ ‫بحب‬
‫ّ‬ ‫حتاول تعويض ما مل تلقه من اآلخرين بتقواها أوالً‪َّ ،‬‬
‫ثم‬
‫تلقى أوغسطني يف صغره تربية مسيح َّية من قبل أ ّمه‪ ،‬مونيكا‪،‬‬ ‫ابنها واحلرص عىل تربيته تربية مسيح َّية‪ ،‬ودفعه إىل النجاح وبناء‬
‫والترضع إىل اهلل‬
‫ُّ‬ ‫وحب املسيح‪،‬‬‫ّ‬ ‫غرست يف وجدانه اإليامن باهلل‬ ‫مستقبل زاهر‪.‬‬
‫طلب ًا للعون واحلامية والطمأنينة‪ .‬وتلقى تعليمه األويل يف مدرسة‬
‫بتاغاست عىل أيدي معلمني وثنيني‪ ،‬قائمة عىل العنف واإلكراه‪.‬‬ ‫مر‪ ،‬بسبب غياب األب‪،‬‬ ‫يفرتض أن يكون أوغسطني قد َّ‬
‫وقد وصف ذلك يف اعرتافاته وصف ًا بليغ ًا‪:‬‬ ‫بتجربة التامهي مع أنوثة أ ّمه‪ ،‬ومن ثم كان عليه يف مراهقته وشبابه‬
‫أن يتحمل أداء دور ذكوري مبالغ فيه‪ ،‬إلخفاء متاهيه األنثوي يف‬
‫«يا إهلي‪ ،‬يا إهلي‪ ،‬كم عرفت هنا من الويالت ومن خيبات‬ ‫شهوانيته‪ .‬إذ يشبه أوغسطني يف سحنته الذكور َّية املتطرفة أباه‪.‬‬
‫األمل‪ ،‬بسبب ما كان ُيقدَّ م للطفل الذي كنته‪ ،‬يف تلك السن‪،‬‬ ‫لكنَّه يتوق مثل أ ّمه لالعرتاف والتقدير واالستقالل عن أبويه‬
‫عىل أنَّه احلياة املستقيمة‪ :‬أن أمتثل للمربني كي أتألق يف هذه الدنيا‬ ‫اللذين فرضا عليه طموحاهتام‪ ،‬ومل يدعا له فرصة للتمتع باللعب‬
‫وأمتاز يف فنون الثرثرة اخلادمة للحظوة بني الناس وللثروات‬ ‫يف طفولته‪ ،‬والختيار مساره كام هيواه‪ ،‬وسخرا منه بعد أن بكى من‬
‫تعمده أ ُّمه َّملا كان مريض ًا‬
‫تعرض له يف املدرسة‪ ،‬ومل ّ‬ ‫الرضب الذي َّ‬
‫‪36 . Jaspers, Karl, Opt. cit. p. 289.‬‬ ‫جد ًا‪ ،‬ومل جتد له زوجة َّملا كان معذب ًا بشهواته اجلنس َّية‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪356‬‬
‫شخصيات وأعالم‬ ‫القدّ يس أوغسطني‬

‫أحب‪.‬‬‫أحب أن ّ‬ ‫أحب بعد‪ ،‬وكنت ّ‬ ‫كل مكان من حويل‪ .‬وكنت مل ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجهت إىل املدرسة ألتعلم احلروف‪ .‬كنت‪ ،‬أنا‬ ‫الزائفة! ثم ّ‬
‫أقل حاجة [إىل احلب]‪.‬‬ ‫كانت حاجة دفينة جتعلني أكره نفيس لكوين َّ‬ ‫رضب إذا تكاسلت‬ ‫البائس‪ ،‬أجهل فائدهتا‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬كنت ُأ َ‬
‫للحب‪ .‬كنت أكره األمن‪ ،‬والطريق‬ ‫ّ‬ ‫أحب‪ ،‬حمب ًا‬
‫عمذا ّ‬‫كنت أبحث َّ‬ ‫عن حفظها‪ .‬وكان الكهول حيبذون ذلك‪ .‬والكثريون قبلنا عاشوا‬
‫اخلالية من كامئن»(‪ . )I. I. 1‬قد تكون قرطاجة كذلك‪ ،‬لكن‬
‫‪38‬‬
‫هذه احلياة‪ ،‬وأعدوا لنا السبل الشاقة التي كنا ـ نحن بني آدم ـ‬
‫أن نفس أوغسطني هي التي كانت تغيل غليان ًا داخلي ًا‪.‬‬ ‫أغلب الظن َّ‬ ‫جمربين عىل العبور منها بعناء وشقاء مضاعفني[‪ ]...‬بدأت أترضع‬
‫إليك أنا الطفل الصغري بورع كبري‪ ،‬حتى ال أرضب يف املدرسة‪.‬‬
‫وصف بيرت براون برنامج الدراسة التي تلقاها أوغسطني‬ ‫وعندما ال تستجيب لدعائي‪ ،‬وكان يف ذلك خري يل‪ ،‬كان الكبار‬
‫يف جامعة قرطاجة عىل النحو التايل‪« :‬وجهت تربية أوغسطني‬ ‫أي أذى) يضحكون من‬ ‫(حتى والداي اللذان مل يكونا يريدان يل َّ‬
‫ال ووثني ًا‪،‬‬
‫بأكملها للتحكم يف الكالم‪ .‬كان حمتوى تلك الرتبية قاح ً‬ ‫كدمات السوط‪ ،‬وهي آنذاك يف نفيس أذى وأمل كبري[‪ .]...‬كنت‬
‫وكان الربنامج حمدود ًا بصورة غريبة‪ .‬كان املؤلفون الوحيدون‬ ‫أحب اللعب‪ ،‬وكان العقاب يأيت ممَّن كانوا يفعلون مثلنا بالضبط‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الذين درست مؤلفاهتم هم فرجيل‪ ،‬وشيشريون‪ ،‬وسالوست‬ ‫َّ‬
‫سمى عمالً‪ ،‬وعىل الرغم من أن لألطفال‬ ‫َّ‬
‫غري أن لعب الكهول ُي َّ‬
‫(‪ ،)Salluste‬وتريانس (‪ . )Térence‬وكان التكوين أدبي ًا عىل وجه‬ ‫فإن الكهول يعاقبوهنم‪ ،‬وال أحد يرأف باألطفال [‪ ]...‬فهل‬ ‫مثله‪َّ ،‬‬
‫احلرص‪ :‬فقد أمهلت الفلسفة والعلوم والتاريخ»‪ .39‬كانت طريقة‬ ‫يعقل أن يقبل حاكم نزيه أن أعاقب بالرضب النرصايف‪ ،‬وأنا‬
‫املقررة كلمة كلمة‪ ،‬وحفظها عن‬ ‫الدراسة رشح نصوص املؤلفات َّ‬ ‫طفل‪ ،‬بسبب لعب كرة الراحية‪ ،‬عن اإلقبال عىل أن أحفظ برسعة‬
‫جتسد‬ ‫ظهر قلب‪ ،‬إذ كانت تلك املؤلفات‪ ،‬خاصة إنيادة فرجيل‪ّ ،‬‬
‫‪37‬‬
‫ال لعبة أبشع؟»‬‫دروس ًا سألعب هبا كه ً‬
‫الكامل اللغوي واألديب والثقايف‪.‬‬
‫التعليم الجامعي بقرطاجة‬
‫قراءة كتاب شيشيرون هورتنسيوس (‪:)Hortensius‬‬ ‫َّملا انتقل أوغسطني الستكامل تعليمه العايل إىل قرطاجة‪،‬‬
‫ارتداد(‪ )conversion‬فكري َّ‬
‫أول‬ ‫عاصمة العلم والثقافة الراقية يومئذ‪ ،‬انبهر هبا انبهار ًا شديد ًا‪،‬‬
‫للحث عىل دراسة الفلسفة‪ ،‬بتبيان‬ ‫ّ‬ ‫أ َّلف شيشريون هذا الكتاب‬ ‫هو الذي جاء إليها من تاغاست الصغرية واملتواضعة‪ .‬لكنَّه َّملا‬
‫طبيعتها وقيمتها ورشوطها‪ .‬وكانت الفلسفة يومئذ تُسمى حكمة‪،‬‬ ‫اسرتجع ذكرياته عن قرطاجة يف اعرتافاته‪ ،‬حتدث عنها حديث‬
‫وهي كلمة كانت مفعمة بداللة مزدوجة فلسف َّيةـ دين َّية‪ ،‬ونظر َّية‪-‬‬ ‫ندم أخالقي ازدرائي‪ ،‬ناكر ًا مراهقته التي قضاها فيها‪ ،‬بحر َّية‬
‫تبق منه سوى املقتطفات التي‬ ‫عمل َّية‪ .‬ضاع هذا الكتاب ومل َ‬ ‫مطلقة واستمتاع وابتهاج باحلب واملرسح‪ ،‬بعيد ًا عن مراقبة أ ّمه‬
‫أوردها أوغسطني يف بعض مؤلفاته‪ .‬مقتطف أول‪« :‬فينا نفس‬ ‫وحصارها األخالقي الديني له‪:‬‬
‫خالدة إهل َّية‪ ...‬علينا أن نفكر يف أنَّه عىل قدر ما يعمل اإلنسان دون‬
‫االنحراف عن طريقه‪ ،‬أي وفق ًا للعقل والرغبة يف تعميق أبحاثه‪،‬‬ ‫يئز يف‬
‫«ووصلت إىل قرطاجة‪ ،‬وكان مرجل الغرام َّيات املخجلة ُّ‬
‫وعىل قدر ما يقلل من انغامسه يف الرذائل ويف ضالالت الناس‪،‬‬
‫يكون أيرس عليه السمو والرجوع إىل حياة اخللد»‪ .40‬مقتطف ٍ‬
‫ثان‪:‬‬ ‫‪ . 37‬أوغسطني‪ ،‬القديس‪ ،‬االعرتافات‪ ،‬الكتاب األ َّول‪ .14 .IX ،‬ترجمة إبراهيم‬
‫«أينبغي السعي إىل ملذات اجلسد التي وصفها أفالطون بكثري‬ ‫الغريب‪ ،‬املجمع التونيس للعلوم واآلداب والفنون‪ ،‬بيت الحكمة‪ ،‬تونس‪ ،‬طبعة‬
‫بأنا أحابيل‪ ،‬ومصادر مجيع الرشور؟‬ ‫من الصواب والرزانة‪َّ ،‬‬ ‫ثانية‪ ،2015 ،‬ص‪.23 - 22 .‬‬
‫ثم هي‬ ‫والبواعث الشهو َّية هي أقوى البواعث اجلسد َّية‪ ،‬ومن َّ‬ ‫ملحوظة‪ :‬سنلجأ أحياناً إىل إدخال بعض التعديالت عىل ترجمة النصوص ‪َّ -‬‬
‫وربا‬
‫أسوأ أعداء الفلسفة‪ .‬من ذا الذي ينغمس يف هذا االستمتاع‬ ‫إعادة ترجمتها متاماً ‪ -‬التي نستشهد بها من هذه الرتجمة‪ ،‬الجيدة عىل العموم‪،‬‬
‫وذلك استنادا ً إىل آخر ترجمة فرنسيَّة لألعامل الكاملة ألوغسطي‪: ‬‬
‫‪38 . Augustin, Saint, Les Confessions, Opt. cit. p. 817.‬‬ ‫‪Saint Augustin, Complètes, Œuvres, t. 1, tr., fr. Jean-Yves‬‬
‫‪39 . Brown, peter, Opt. cit. p. 36.‬‬ ‫‪Boriaud, Patrice Cambronne, Jean-Louis Dumaset Sophie Dupuy-‬‬
‫‪40 . Augustin, Saint, Œuvres, Opt. cit. p. 821.‬‬ ‫‪Trudelle Paris, Collection La Pléiade, 1998.‬‬

‫‪357‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫احلسني سحبان‬ ‫شخصيات وأعالم‬

‫وسيلة للخالص وتطهري النفس من رشور اجلسد‪ .‬فقد كان‬ ‫كل رضوب االستمتاع األخرى‪ ،‬ويكون يف وسعه مع‬ ‫األقوى من ّ‬
‫املسيح شخص َّية رئيس َّية يف مذهبهم‪ ،‬إذ اعترب ماين نفسه رسوالً‬ ‫أي يشء‬‫ذلك تركيز انتباهه واستخدام عقله‪ ،‬بل حتى التفكري يف ّ‬
‫(باراكليت) للمسيح‪ ،‬وكانت صورته لدهيم مطابقة متام ًا لتمثل‬ ‫من األشياء؟»‪ .41‬ويقول عن االرتداد الفكري الذي أحدثته لديه‬
‫أوغسطني له‪ :‬مبدأ للحكمة بأكمل معناه‪.43‬‬ ‫قراءة هذا الكتاب‪:‬‬

‫انخرط أوغسطني بحامسة يف العقيدة املانو َّية‪ ،‬وواظب عىل‬ ‫ووجه شطرك أنت‪ ،‬سيدي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫«غي هذا الكتاب مشاعري‪،‬‬ ‫َّ‬
‫حضور جلسات نقاشها بوصفه «مستمع ًا» (كانت املانو َّية تن ّظم‬ ‫ال أماين ورغبايت غري ما كانت إ َّياه متاما‪ً.‬‬
‫دعوايت التي غريها‪ ،‬جاع ً‬
‫جلسات أخرى خاصة ألعضائها الـ«خمتارين» الذين ُيسمح هلم‬ ‫كل أمل باطل‪ .‬فـ[رصت] أشتهي خلود‬ ‫فقد سفل فجأة يف عيني ُّ‬
‫باالطالع عىل كتب ماين وتعاليمه الرس َّية‪ ،‬ويلزمون باتباعها)‪،‬‬ ‫احلكمة‪ ،‬وقلبي يغيل غليان ًا ال يصدق‪ ،‬وكنت قد بدأت يف النهوض‬
‫ال للقلق‬ ‫واعتقد أنَّه وجد فيها جواب ًا عن سؤال أصل الرش‪ ،‬وح ً‬ ‫ألذهب نحوك‪ .‬وليس من أجل صقل لغتي كنت أستعمل قراءة‬
‫األخالقي والتوتر النفيس الذي يؤرقه‪« :‬فمصدر الرش هو غزو‬ ‫تذوق‬
‫هذا الكتاب‪ ،...‬وال من أجل هتذيب أسلويب‪ ،‬بل من أجل ُّ‬
‫إله اخلري ـ أمري مملكة النور ـ من قبل قوة رشيرة مساوية لقوة‬ ‫الفكر املعرب عنه فيه »(‪. 42)III, IV, 7‬‬
‫اخلري وأبد َّية‪ ،‬هي أمري مملكة الظلامت‪ .‬بناء عىل هذا املبدأ الثنائي‬
‫الرش ال يوجد يف النفس‪ ،‬وال‬ ‫األسايس يف العقيدة املانو َّية‪َّ ،‬‬
‫فإن َّ‬ ‫عدل أوغسطني بسبب ذلك عن إعداد نفسه ملهنة املحاماة التي‬
‫مسؤول َّية لإلنسان وال هلل عليه‪ .‬فنحن نفعل اخلطيئة رغ ًام عنَّا‪،‬‬ ‫كان أبوه وراعيه هييئانه هلا‪ .‬فأصبح مثله األعىل منذئذ حياة فلسف َّية‬
‫ونخضع لقهر جوهر مضاد لنا وعدو لنا‪ .‬وسبيل اخلالص من‬ ‫معتزلة زاهدة‪.‬‬
‫الرش يف نفوسنا هو معرفة األشياء وعلمها‪ ،‬وحتطيم التقاليد‬
‫والديانة اليهود َّية املبنية عىل اخلوف»‪.44‬‬ ‫و َّملا كانت احلكمة عند املسيحيني يف وقت أوغسطني هي‬
‫اإلنجيل‪ ،‬فقد أقبل عىل قراءته بعهديه القديم واجلديد‪ .‬لك َّن‬
‫خترج أوغسطني أستاذ ًا للخطابة‪ ،‬وعاد إىل تاغاست وفتح‬ ‫أمله خاب بسبب اللغة الركيكة واملبتذلة هلذه الكتب‪ ،‬وانحطاط‬
‫مدرسة لتدريس اخلطابة‪ .‬وبعد فرتة انتقل للتدريس يف قرطاجة‪.‬‬ ‫مضموهنا‪ ،‬وعدم متاسكه يف كثري من األحيان‪ ،‬بحيث بدت له‬
‫ويف مساره هذا اكتشف تدرجيي ًا‪ ،‬خالل السنوات التسع التي‬ ‫تلك الكتب غري الئقة بمستواه الفكري‪ .‬يف أثناء ذلك كان قد‬
‫قضاها داخل املانو َّية‪َّ ،‬أنا «كذب»‪ ،‬بعد أن اكتشف اعتامدها‬ ‫تزوج زواج ًا غري رشعي‪ ،‬لكنَّه أخلص لعشيقته مدَّ ة مخس عرشة‬
‫عىل األساطري والسحر والتنجيم‪ ،‬ومل يستطع كبري املانويني آنئذ‪،‬‬ ‫سنة‪ ،‬وأنجبت له ابن ًا َّ‬
‫سمه ديودا‪ ،‬قال عنه فيام بعد إنَّه أبان عن ذكاء‬
‫األسقف الذائع الصيت فاوستوس امليليفي( (�‪Faustus de Mi‬‬ ‫خميف‪ .‬كام تويف أبوه قبل أن يكمل دراسته اجلامع َّية‪.‬‬
‫‪ ،)lev‬اإلجابة عن أسئلته يف لقاء خاص بينهام‪ .‬فبدأ منذئذ يشعر‬
‫بفقدان األمل فيها‪ ،‬ويضطرم من جديد يف نفسه قلق السؤال‬ ‫أول‬
‫المانو َّية‪ :‬ارتداد عقدي َّ‬
‫ختب‬
‫حب احلكمة الذي أيقظه فيه شيشريون مل ُ‬ ‫والبحث‪ .‬بيد َّ‬
‫أن َّ‬ ‫اجتذبه أثناء دراسته بقرطاجة نشاط تبشريي ف َّعال إىل املانو َّية‪،‬‬
‫جذوته‪ ،‬فام زال شغفه باحلكمة (الفلسفة) ح َّي ًا يف فكره ووجدانه‪.‬‬ ‫كان يقوم به مانويون مثقفون وفصحاء يف صفوف الطلبة والنخبة‬
‫املثقفة بقرطاجة‪ :‬كانوا يقدّ مون املانو َّية بوصفها املسيح َّية احلقيق َّية‪،‬‬
‫األفالطون َّية الجديدة‪ :‬ارتداد فكري ثالث‬ ‫القائمة عىل العقل وحر َّية النقاش‪ ،‬والتي تتخذ املعرفة والعلم‬
‫يف حالة خيبة األمل الفكر َّية تلك انتقل أوغسطني‪ ،‬بفضل ما‬
‫أتاحته له وظيفته التعليم َّية من نسج عالقات مع شخصيات نافذة‬ ‫‪41 . Brown, p. Opt. cit. p. 56.‬‬
‫‪ . 42‬مل ِ‬
‫نكتف يف هذا النص بتعديالت طفيفة‪ ،‬بل ترجمنا النص ترجمة كاملة‬
‫‪43 . Brown, Peter, Opt. cit. p. 47.‬‬ ‫استنادا ً إىل الرتجمة الفرنسيَّة التالية‪:‬‬
‫‪44 . Ibid, p. 53.‬‬ ‫‪Augustin, Saint, Œuvres, Opt. cit. p. 821- 822.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪358‬‬
‫شخصيات وأعالم‬ ‫القدّ يس أوغسطني‬

‫أكثر ما يمكن من املادة (اجلسد)‪ ،‬وأن نتحمل مسؤول َّية األلوه َّية‬ ‫يف السلطة الرومان َّية‪ ،‬إىل روما ملامرسة مهنة تدريس اخلطابة‪ ،‬لكنَّه‬
‫التحرر من جسدنا ونستعيد احتادنا‬ ‫ُّ‬ ‫املوجودة فينا‪ ،‬إىل أن نصل إىل‬ ‫مل يمكث يف روما سوى سنة‪ ،‬غادرها بعدها إىل مدينة ميالن التي‬
‫مع العقل الكيل األعىل‪ .‬ومن هناك نستطيع أخري ًا أن نصعد إىل‬ ‫أسند له فيها منصب أستاذ اخلطابة الرسمي للدولة‪ ،‬وبدا حتقيق‬
‫االحتاد الصويف مع الواحد‪ ،‬واخلري األسمى‪ .‬ولعلنا نقرتب من‬ ‫حلمه يف منصب حاكم والية رومان َّية قريب املنال‪ ،‬إذ أصبحت له‬
‫وأول كاتب سريته‬ ‫انبهار أوغسطني بأفلوطني إن سمعنا تلميذه‪َّ ،‬‬ ‫صالت بوسطاء مؤثرين لدى البالط الروماين‪.‬‬
‫فورفوريوس‪ ،‬وهو يقول عنه‪« :‬كان الفيلسوف أفلوطني الذي‬
‫عاش يف وقتنا احلارض يبدو أنَّه خيجل ويستحي من أن يكون‬ ‫بدأ باعتناق مذهب «األكاديميني» الشكّي (ارتداد فكري‬
‫له جسد‪ .‬لذلك مل يكن يتحدث أبد ًا عن أرسته وال عن وطنه‪.‬‬ ‫ثان)‪ ،‬الذي يتالءم وحالة اخليبة وفقدان األمل التي اعرتته‬
‫ومل يقبل أن يصور أو يصنع له متثال»‪ ،46‬واألفضل من ذلك إن‬ ‫يف الوصول إىل معرفة احلقيقة‪ .‬ثم قاده لقاؤه بأسقف ميالن‪،‬‬
‫«إن ربام خلوت بنفيس وخلعت بدين ورصت‬ ‫سمعناه هو نفسه‪ّ :‬‬ ‫أمربواز‪ ،‬أوالً‪ :‬إىل اكتشاف التأويل الرمزي لنصوص الكتب‬
‫ال يف ذايت راجع ًا إليها‬ ‫جمرد بال بدن‪ ،‬فأكون داخ ً‬‫كأن جوهر َّ‬ ‫ّ‬ ‫املقدَّ سة‪ ،‬واالنكباب عىل قراءة رسائل بولس‪ ،‬ثاني ًا‪ :‬إىل قراءة‬
‫خارج ًا من سائر األشياء‪ ،‬فأكون العلم والعامل واملعلوم مجيع ًا‪،‬‬ ‫سمهم «األفالطونيني» يف ترمجاهتا الالتين َّية‪ ،‬فعاش من‬ ‫كتب من َّ‬
‫فأرى يف ذايت من احلسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجب ًا هبت ًا‪،‬‬ ‫وحتول فكري‪ ،‬خرج به من عامل الفكر املانوي‬ ‫جديد جتربة ارتداد ُّ‬
‫فأعلم ّأن جزء من أجزاء العامل الرشيف الفاضل اإلهلي‪ ،‬ذو حياة‬ ‫األسطوري إىل عامل الفلسفة اإلغريق َّية العقالن َّية املمزوجة بطابع‬
‫ف َّعالة»‪.47‬‬ ‫صويف‪ :‬األفالطون َّية اجلديدة‪.‬‬

‫يرجح أن يكون أوغسطني قد قرأ‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬كتاب يف‬ ‫نواة فلسفة أفلوطني هي نظر َّية الفيض األفلوطين َّية‪ :45‬هناك‬
‫اجلامل‪ ،‬ضمن تساعيات أفلوطني‪ ،‬وكتاب صعود النفس لتلميذه‬ ‫سمى‬‫أقانيم ثالثة‪ :‬أقنوم الواحد أو اخلري األسمى (‪ )le Bien‬و ُي َّ‬
‫أن ما استخلصه من هذين الكتابني حول‬ ‫فورفريوس‪ .‬وال بدَّ َّ‬ ‫أحيان ًا األب (‪ ،)le Père‬وهو غري قابل للوصف ألنَّه مبدأ‬
‫مصري اإلنسان كان له أثر عميق يف نفسه‪ .‬ففي إمكان النفس‬ ‫ثم العقل (نوس ‪ ،)Nous‬ثم أقنوم‬ ‫ثم يعلو عليه‪َّ ،‬‬
‫الوجود‪ ،‬ومن َّ‬
‫البرش َّية أن ترجع إىل اهلل‪ ،‬الذي يتجىل هلا حني تبلغ الوجد( (�‪ex‬‬ ‫النفس الكل َّية (‪ .)l’Ame‬تصدر أو «تفيض» كثرة املوجودات عن‬
‫‪ )tase‬يف التجربة الصوف َّية‪.‬‬ ‫الواحد بتوسط تعقل العقل للواحد ولذاته‪ ،‬وتتسلسل يف مراتب‬
‫تفقد فيها الكامل واخللود كلام ابتعدت عن الواحد‪ ،‬وآخر املراتب‬
‫وقع أوغسطني فريسة ألزمة روح َّية (ال يوضح كيف أصابته)‪،‬‬ ‫موجودات عامل املادة السفيل األريض‪ ،‬عامل «الكون والفساد»‪ .‬إىل‬
‫وصف خروجه منها بتوبته إىل املسيح َّية (ارتداد عقدي ثان)‪ ،‬يف‬ ‫هذا العامل أهبطت النفس (النفوس) البرش َّية‪ ،‬وسجنت يف اجلسد‬
‫«مشهد احلديقة» الشهري‪«:‬يف خضم تلك املعركة الباطن َّية الكربى‬ ‫البرشي‪ .‬ففينا إذن‪ ،‬نحن البرش‪ ،‬قبس نوراين إهلي‪ ،‬وهو نفسنا‪،‬‬
‫التي كنت أخوضها حينئذ ببسالة ضدَّ نفيس‪ ،‬يف بيتنا احلميم ـ‬ ‫املق َّيدة إىل املادة (اجلسد)‪ ،‬واملشتتة يف تعدُّ د احلواس‪ ،‬والشهوات‬
‫قلبي‪ -‬ألقيت بنفيس عىل أليبيوس‪ ،‬ووجهي شاحب ومبعثر مثل‬ ‫والرغبات‪ ،‬وحتوهلا وتغريها‪ .‬ما نحتاجه إذن لكي نحيا حياة‬
‫فكري‪ ،‬ورصخت يف وجهه‪« :‬أو نقبل ذلك؟ ماذا؟ أسمعت؟‬ ‫الكامل واخللود هو أن نتجمع يف ذواتنا ونعود إىل أنفسنا ونتذكر‬
‫جهلة ينتصبون‪ ،‬ويستولون بالقوة عىل السامء‪ ،‬وها نحن‪ ،‬مع علمنا‬ ‫طبيعتنا اإلهل َّية ونعيها‪ .‬لك َّن هذا التذكر وهذا الوعي يكاد يكون‬
‫ال أو يف غاية الصعوبة عملي ًا بالنسبة إىل معظم البرش‪.‬‬ ‫مستحي ً‬
‫‪46 . Arbre d’Or, Genève, juin 2004, p.4.‬‬ ‫لذلك ينبغي لنا أن نحاول بدون انقطاع تطهري أنفسنا لنتخلص‬
‫‪http://www.arbredor.com‬‬
‫‪ .  47‬أفلوطني‪ ،‬إيثولوجيا أرسطاليس (وهو كتاب تساعيات أفلوطني الذي ترجم‬ ‫‪ .  45‬اعتمدنا يف أخذ كثري من عنارص هذا التلخيص لنظريَّة أفلوطني األنطولوج َّية‬
‫إىل العربيَّة منسوباً خطأ إىل أرسطو)‪ ،‬ضمن كتاب أفلوطني عند العرب‪ ،‬عبد‬ ‫عىل كتاب ‪ ،John J. O’Meara, La Jeunesse de Saint Augustin‬وهو مرجع‬
‫الرحمن بدوي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،1966 ،‬ص‪.22 .‬‬ ‫سبق ذكره‪ ،‬وذلك يف الصفحتني ‪.176-175‬‬

‫‪359‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫احلسني سحبان‬ ‫شخصيات وأعالم‬

‫كل طموحاته‬ ‫بعد هذه التوبة هجر أوغسطني املهنة وختىل عن ّ‬ ‫البارد‪ ،‬حيث نتمرغ يف اللحم والدم! أيكون من العار أن نتبعهم‬
‫فكون مع ثلة من أصدقائه‪ ،‬رفقة أ ّمه وابنه‪ ،‬مجاعة‬ ‫الدنيو َّية‪َّ ،‬‬ ‫بذريعة َّأنم سبقونا؟ أال يكون باألحرى من العار أن ال نحاول‬
‫للتأمل الفلسفي‪ ،‬يف خلوة واعتزال بالقرب من مدينة ميالن‪.‬‬ ‫بأي ألفاظ‬ ‫عىل األقل اتباعهم؟»‪ ،‬بعد أن قلت ذلك ـ ال أدري ّ‬
‫كتب يف هذه اخللوة َّأول جمموعة من كتبه يف شكل حماورات‪.‬‬ ‫بالضبط‪ -‬انتزعني غلياين الداخيل من حوله‪ .‬كان صامت ًا حيدّ ق َّيف‬
‫و َّملا قفل راجع ًا إىل بلدته تاغاست توفيت أ ُّمه يف الطريق بمدينة‬ ‫مذهوالً‪ :‬كان صويت ُّ‬
‫يرن رنين ًا غريب ًا‪ .‬كان ما يعتمل يف نفيس ينجيل‬
‫نص صويف رائع من اعرتافاته‪.‬‬ ‫أوستي(‪ ،)Ostie‬وصف فراقها يف ٍّ‬ ‫يف جبيني‪ ،‬وخدي‪ ،‬ويف عيني ولون حمياي‪ ،‬ونربة صويت‪ ،‬أكثر ممَّا‬
‫َّملا وصل إىل تاغاست‪ ،‬باع إرثه‪ ،‬واشرتى أرض ًا بنى فيها منزالً‬ ‫كان ينجيل بالكلامت التي كنت أنطق هبا »(‪.48)VIII,19‬‬
‫للتأ ُّمل الفلسفي مع جمموعة من أصدقائه‪ .‬لك َّن املصادفة قضت‬
‫بتقليده منصب قس‪ ،‬ثم أسقف يف كنيسة مدينة هيبون‪ ،‬التي َّ‬
‫ظل‬ ‫والتوسل‬
‫ُّ‬ ‫استمرت يف نفس أوغسطني بعد ذلك معركة الرت ُّدد‬ ‫َّ‬
‫يسريها حتى وفاته‪« .‬فرض يف ديره تنظي ًام متشدد ًا‪ ،‬ونظام تغذية‬ ‫إىل نعمة اهلل ولطفه هلدايته وعونه عىل اختاذ القرار‪ ]...[« :‬أ َّما أنا‬
‫نباتي ًا تقريب ًا‪ ،‬ومنع بصورة قاطعة زيارات النساء ولقاء امرأة عىل‬ ‫فقد ذهبت‪ ،‬مل أعد أدري كيف‪ ،‬ألمتدَّ د إزاء جذع شجرة تني‪،‬‬
‫بكل‬‫وظل يكافح ضدَّ الوثن َّية والفرق املسيح َّية املنشقة ّ‬ ‫انفراد»‪َّ .‬‬ ‫وأطلقت العنان لدموعي‪ ،‬ففاضت غزيرة من عيني‪ ،‬قربان ًا‬
‫ما أويت من وسائل املجادلة والكتابة والدحض‪ ،‬إىل حدّ تأليب‬ ‫مستطاب ًا أمامك‪ .‬وخاطبتك بكالم كثري‪ ،‬ها هو ذا ليس بحروفه‬
‫تأسف له َّملا اشتد‬
‫السلطة الدين َّية والسياس َّية ضدَّ اخلصوم‪ .‬وهو ما َّ‬
‫ُّ‬ ‫بالتأكيد بل بمعناه‪ :‬وأنت موالي‪ ،‬إىل متى؟ إىل متى‪ ،‬موالي‬
‫السلطة بالدوناتيني‪.‬‬
‫بطش هذه ُّ‬ ‫ستتامدى يف غضبك حتى النهاية؟ ال تكن متذكر ًا لرضوب‬
‫بأنا هي التي كانت‬ ‫مناكرنا القديمة»‪« .‬كان خيامرين شعور َّ‬
‫اإلشكاالت واآلراء‬ ‫متنعني‪ .‬وأطلقت رصخات مثرية للشفقة «‪:‬كم بقي من وقت؟‬
‫‪50‬‬
‫الفلسفة والالهوت‬ ‫كم بقي من وقت؟ غد ًا! غد ًا! مل َ ال يكون ذلك فور ًا؟ مل َ ال أختلص‬
‫كان طورطليان قد اختذ موقف الرفض اجلذري للفلسفة‬ ‫خستي؟»‬ ‫من َّ‬
‫«الوثن َّية» (اإلغريق َّية)‪ ،‬معترب ًا إ َّياها منافية للعقيدة املسيح َّية‪،‬‬
‫أن هذا املوقف غري واقعي‪،‬‬ ‫ولعل أوغسطني أدرك َّ‬ ‫ومرضة هبا‪َّ .‬‬‫َّ‬ ‫كنت وأنا أقول ذلك أبكي وقلبي ينفطر مرارة‪ .‬وإذا يب أسمع‬
‫ألن املسيح َّية والفلسفة اإلغريق َّية كانتا متناسجتني‪ ،‬بحيث ال‬ ‫َّ‬ ‫من الدار املجاورة صوت ًا ـ لست أدري إن كان لطفل أو لطفلة‬
‫يمكن فصل إحدامها عن األخرى يف تلك الفرتة‪ ،‬كام أوضح‬ ‫‪ -‬ير ّدد بطريقة غنائ َّية مرات عديدة‪« :‬خذ‪ ،‬اقرأ! خذ اقرأ!»[‪]...‬‬
‫هايدغر‪.51‬‬ ‫مؤوالً ذلك عىل أنَّه أمر إهلي‪ُّ :‬‬
‫كل‬ ‫كفكفت دموعي‪ ،‬فنهضت ّ‬
‫عيل أن أفعله أن أفتح الكتاب وأقرأ َّأول فصل تقع عليه‬ ‫ما َّ‬
‫درس أوغسطني تلك الفلسفة (قارئ ًا هاوي ًا وعصامي ًا‪ ،‬وليس‬ ‫عيناي[‪ ]...‬عدت مرسع ًا مكان جلوس أليبيوس‪ ،‬حيث كنت قد‬
‫عىل يد أساتذة يف جامعة اإلسكندر َّية أو أثينا)‪ ،‬و«استوعبها»‬ ‫وضعت كتاب احلواري َّملا ذهبت منذ قليل‪ ،‬فتحته‪ ،‬وقرأت يف‬
‫و«متثلها» (باملعنى الغذائي)‪ ،‬واختذها أداة للتفكري والتحليل‪،‬‬ ‫صمت أول فصل وقعت عليه عيناي‪« :‬ال قصف بعد اليوم‪ ،‬وال‬
‫فجور وال فحشاء‪ ،‬وال خصام وال حسد‪ .‬البسوا السيد املسيح‪،‬‬
‫‪50 . cf. Rist, John, « Faith and reason », in Eleonore Stump, The‬‬ ‫وال جتعلوا من أنفسكم مزودي اجلسد يف الشهوات»‪ .‬مل أرد أن‬
‫‪Cambridge Companion to Augustine, Cambridge, Cambridge‬‬ ‫أقرأ أكثر من ذلك‪ ،‬ما عاد ذلك رضوري ًا‪ .‬وما إن أكملت قراءة‬
‫‪University Press, 2001, p. 26 - 39.‬‬ ‫كل‬ ‫شع يف قلبي نور مثل نور أمان ذائب‪ ،‬بدَّ د َّ‬
‫هذه اجلملة‪ ،‬حتى َّ‬
‫‪51 . Caputo, John D. «  Toward a Postmodern Theology of‬‬ ‫ظلامت الشك»‪.49‬‬
‫‪the Cross. Augustin, Heidgger, Derrida », in Augustine and‬‬
‫‪Philosophy, Phillip Cary, John Doody, Kim Paffenroth (edited),‬‬ ‫‪ .  48‬ترجمنا املصدر املذكور‪ ،‬ص‪942 .‬‬
‫‪Lanham, Lexington Books, 2010, p. 246.‬‬ ‫‪ .  49‬ترجمنا النص من املصدر الذكور‪ ،‬ص‪.951-950 .‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪360‬‬
‫شخصيات وأعالم‬ ‫القدّ يس أوغسطني‬

‫يستطيعون رؤيته بالعقل‪ ،‬ولكنَّهم يصلون إليه عملي ًا‪ .‬إن تكن‬ ‫بحيث «ال يدري املرء أبد ًا ما إذا كان أوغسطني يتكلم بوصفه‬
‫الفلسفة مفيدة لألولني فليست رضور َّية لألخريين‪ .‬أ َّما املتكربون‬ ‫فيلسوف ًا أم بوصفه الهوتي ًا»‪ ،52‬كام قال إتيان جيلسون‪.‬‬
‫فهم الفالسفة (الوثنيون األفالطونيون اجلدد) الذين يرون اخلري‬
‫األسمى‪ ،‬ولكنَّهم يرفضون االعرتاف بالتجسيد‪ ،‬وبتواضع‬ ‫استمدَّ أوغسطني املبادئ األساس َّية التي ناقش عىل أساسها‬
‫املسيح‪ ،‬فيتغطرسون بثقتهم يف العقل ويف استقالله عن الوحي‬ ‫عالقة الفلسفة بالدين املسيحي من الكتاب املقدَّ س ومن الواقع‬
‫وإنكارهم لرضورة النعمة اإلهل َّية‪.‬‬ ‫التارخيي الفعيل للفلسفة‪ .‬فقد جاء يف األصحاح السابع من سفر‬
‫أشعياء‪« :‬إن مل تؤمنوا‪ ،‬فلن تفهموا» (‪ .)7: 9‬يدقق أوغسطني‬
‫الفلسفة إذن تكون يف وفاق مع الوحي (العقل مع اإليامن) إن‬ ‫هذا املبدأ (أسبق َّية اإليامن عىل العقل) يف كتابه يف النظام بقوله‪:‬‬
‫ثم استخدمت أداة لتعزيز‬ ‫أفرغت من حمتواها غري املطابق للوحي‪َّ ،‬‬ ‫السلطة الدين َّية هي األوىل‪ ،‬وباعتبار الواقع العقل‬ ‫«باعتبار الزمن ُّ‬
‫ثمة يف العمق توافق‬‫العقيدة الدين َّية وعرضها عرض ًا مقنع ًا‪ .‬فليس َّ‬ ‫هو األول» (‪ .)II, 9, 22‬يرى أوغسطني َّ‬
‫أن هذه األسبق َّية أساس َّية‬
‫استمرت هذه‬
‫َّ‬ ‫حقيقي‪ ،‬بل تسخري الفلسفة خدمة للوحي‪ .‬لذلك‬ ‫يف الدين والالهوت‪ .‬فالعقل البرشي هنا ضعيف ال يستطيع‬
‫املشكلة مطروحة يف العصور التالية كلها‪ ،‬وربام إىل يومنا هذا‪.‬‬ ‫السلطة‬ ‫معرفة مجيع احلقائق الدين َّية بنفسه‪ ،‬لذلك حيتاج إىل سند ُّ‬
‫بأن العقل كام يثبت واقع‬ ‫الدين َّية‪ .‬ويف كتاب مدينة اهلل‪ ،‬يعرتف َّ‬
‫َّ ‪54‬‬
‫الخطيئة األصل َّية والشر‬ ‫الفلسفة األفالطونَّية واألفلوطين َّية قادر عىل بلوغ احلقيقة بنفسه‪،‬‬
‫تتلخص مشكلة وجود الرش يف العامل (التغري‪ ،‬الفناء‪ ،‬األمل‪،‬‬ ‫أن «اهلل هو‬ ‫توصل أفالطون إىل َّ‬ ‫يف استقالل عن الوحي‪ :‬لقد َّ‬
‫الشهوة اجلنسان َّية‪،‬‬ ‫املرض‪ ،‬املوت‪ ،‬الكربياء‪ ،‬احلسد‪ ،‬اجلشع‪َّ ،‬‬ ‫علة الوجود ومبدأ العقل ونظام احلياة» (‪ .)VIII, 4‬بيد َّ‬
‫أن‬ ‫‪53‬‬

‫ال خري ًا خالد ًا‬ ‫احلروب‪ )...‬يف السؤال التايل‪ :‬إذا كان اهلل كائن ًا كام ً‬ ‫أن الفلسفة (ومن ثم العقل)‬ ‫ال عىل َّ‬
‫أوغسطني وجد يف جتربته دلي ً‬
‫الش يف العامل ممكن ًا؟‬ ‫ثابت ًا وخالق ًا للكون‪ ،‬فكيف يكون وجود َّ‬ ‫فيحورها‬‫ّ‬ ‫غري كافية‪ .‬هنا يعود إىل أمثولة الكهف عند أفالطون‪،‬‬
‫ويوسعها‪ :‬لن جيد سجني الكهف الذي كرس أغالله وخرج منه‬
‫الوجود نفسه خري‪ ،‬ألنَّه نتج عن خلق اهلل‪ ،‬وما خلقه اهلل هو‬ ‫مثال اخلري األسمى أمامه مبارشة‪ ،‬بل عليه أوالً أن يصعد إىل‬
‫الش‬ ‫الش‪ ،‬وكيف؟ َّ‬ ‫أحسن ما يمكن أن يكون‪ .‬فمن أين أتى َّ‬ ‫قمة جبل يرى منها عن بعد وطن هذا املثال‪ ،‬وراء بحر‪ ،‬ويتبني‬ ‫َّ‬
‫مفهوم وليس جوهر ًا مادي ًا (كام قالت املانو َّية)‪ .‬يستعري أوغسطني‬ ‫السبيل إليه‪ ،‬فينزل ليقطع البحر عىل ظهر سفينة من خشب‪ .‬يرمز‬
‫املفهوم األرسطي للمعدوم َّية أو احلرمان(‪ )privation‬لتعريف‬ ‫قمة اجلبل للرؤية العقل َّية الفلسف َّية للخري األسمى‪،‬‬ ‫الصعود إىل َّ‬
‫الش عدم‪ ،‬وليس شيئ ًا‬ ‫الش خري معدوم‪ ،‬أو عدم اخلري‪َّ .‬‬ ‫الش‪َّ :‬‬
‫َّ‬ ‫والبحر للحياة اإلنسان َّية بمخاطرها املحتملة‪ ،‬والسفينة للصليب‪،‬‬
‫قائ ًام بذاته‪ ،‬بل هو فقدان ليشء كان موجود ًا‪ ،‬أو يمكن أن يوجد‪.‬‬ ‫أي للديانة املسيح َّية‪ .‬الرؤية العقل َّية الفلسف َّية للخري األسمى‬
‫وهذا العدم يأيت من كون املخلوقات قابلة للتغري والفساد‪ ،‬ويأيت‬ ‫ألنا تبقى بعيدة‬ ‫مفيدة يف معرفة موقعه واجتاهه‪ ،‬لكنَّها غري كافية َّ‬
‫رشير»‪.‬‬ ‫بالنسبة إىل اإلنسان من «استخدام ما هو خري عىل نحو ّ‬ ‫عنه‪ ،‬ال بدَّ من اجتياز البحر يف سفينة املسيح (العقيدة املسيح َّية)‬
‫ويتضمن ذلك إرادة واختيار ًا حر ًا‪ .‬فاإلرادة البرش َّية هي سبب‬ ‫اآلمنة‪ .‬يضيف إىل تلك األمثولة تصنيف الناس ثالثة أصناف‪،‬‬
‫الش البرشي الذي نتج عن اخلطيئة األصل َّية‪ ،‬بعصيان األمر‬ ‫َّ‬ ‫واملتكبون)‪ .‬العظامء قادرون عىل‬ ‫ّ‬ ‫هي‪( :‬العظامء‪ ،‬والبسطاء‪،‬‬
‫اإلهلي من قبل آدم وحواء‪ ،‬أي بابتعاد إرادهتام عن اهلل‪ ،‬وعن‬ ‫الرؤية العقل َّية للخري األسمى وعىل بلوغه عملي ًا‪ ،‬والبسطاء ال‬
‫اخلري األبدي األسمى يف اجلنَّة‪َّ .‬‬
‫ألن اإلرادة البرش َّية تتمتع بقوة‬
‫كبرية‪ ،‬تتجىل يف قدرهتا عىل انحرافها عن خري أسمى نحو خري‬ ‫‪52 . Gilson, Etienne, Introduction à la lecture de Saint Augustin,‬‬
‫املحرمة بدالً من نعيم اجلنَّة)‪ ،‬وعدم‬
‫َّ‬ ‫أدنى (اختيار ثمرة الشجرة‬ ‫‪Paris, Vrin, 1969, p. 311.‬‬
‫‪ .  53‬أوغسطني‪ ،‬القديس‪ ،‬مدينة الله‪ ،‬ترجمة الخور أسقف يوحنا الحلو‪ ،‬مج‪.‬‬
‫‪ .  54‬اعتمدنا يف تناول هذا املوضوع عىل مقالة لـ‪ William E. Mann‬بعنوان‬ ‫‪ ،1‬دار الرشق‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪ . 371.‬قمنا بتعديل طفيف يف الرتجمة ليطابق النص‬
‫«‪ ،»Augustine on evil and original sin‬ضمن ‪CC A p. 40 - 48‬‬ ‫األصيل بدقة‪.‬‬

‫‪361‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫احلسني سحبان‬ ‫شخصيات وأعالم‬

‫طبيعة اهلل‪ ،‬التثليث‪ ،‬اخللق‪ ،‬الزمن‪ ،‬النفس واجلسد‪ ،‬اإلرادة‬ ‫رضوخها دائ ًام للعقل وحكمه‪ ،‬فقد يعقل اإلنسان اخلري وال‬
‫احلرة‪ ،‬الذاكرة‪ ،‬اإلرشاق‪ ،‬اللغة‪ ،‬التعليم‪/‬التعلم‪ ،‬التاريخ‪ ،‬تلك‬‫َّ‬ ‫يفعله‪ ،‬عن جهل كام قال أفالطون «العارف ال يرتكب الرش»‪،‬‬
‫أهم القضايا التي صاغ أوغسطني إشكاالهتا الفلسف َّية‪-‬الالهوت َّية‬‫ُّ‬ ‫تكب ًا وغرور ًا (تش ُّبه ًا باهلل)‪ ،‬أو حتت تأثري الشهوة (خاصة‬ ‫أو ُّ‬
‫صياغة جديدة متميزة‪ ،‬وقدَّ م حوهلا تصورات ومفاهيم شغلت‬ ‫الش إىل العامل عرب اإلنسان‪ ،‬عرب كربيائه‬ ‫ترسب َّ‬
‫اجلنسان َّية)‪ .‬فقد َّ‬
‫الفكر الفلسفي والالهويت يف العصور الالحقة إىل اليوم‪.‬‬ ‫وغطرسته‪ .‬وبسبب ذلك دخلت اخلطيئة األصل َّية إىل العامل‪،‬‬
‫باعتبارها حالة فرضها اهلل عىل آدم وحواء عقاب ًا لعصياهنام‪َّ .‬إنا‬
‫خصص أوغسطني الكتاب العارش من اعرتافاته للذاكرة‪،‬‬‫َّ‬ ‫نزع للخلود و«اكتساب للقابل َّية البدن َّية لألمل والتعب واملرض‪،‬‬
‫والكتاب احلادي عرش منها للزمن‪ .‬ومها من أروع النصوص‬ ‫املتمردة‪ ،‬خاصة يف الشهوة اجلنسان َّية»‪ .‬انتقل‬‫ّ‬ ‫والفوىض اجلسد َّية‬
‫ٍ‬
‫مجاالً وعمق ًا وإشكاالت‪ ،‬ال يمكن ُّ‬
‫تذوقهام إال باالستامع‬ ‫رش اخلطيئة األصل َّية مثل مرض معد بالوراثة إىل مجيع بني آدم‪،‬‬
‫إليهام‪:‬‬ ‫وأصبح فطري ًا فيهم‪ ،‬يظهر يف احلدود التي حتدُّ من قدراهتم النفس َّية‬
‫والعقل َّية واإلراد َّية‪ ،‬لكن دون أن تعدمها‪.‬‬
‫الذاكرة‬
‫«عظيمة هي قوة الذاكرة‪ ،‬عظيمة حد اإلفراط‪ ،‬يا إهلي! أي‬ ‫‪55‬‬
‫القدر(‪)prédestination‬‬
‫معبد فسيح وال ٍ‬
‫متناه! من ذا الذي غاص إىل قعرها؟ إن هي إال‬ ‫طرحت مشكلة القدر عىل أوغسطني يف شكل جدايل عنيف بينه‪،‬‬
‫قوة فكري‪ ،‬والتي تتعلق بطبيعتي؛ ومع ذلك ال أستطيع أن أدرك‬ ‫ومن ورائه الكنيسة الكاثوليك َّية األفري َّقية‪ ،‬وبني بيالج (‪)Pélage‬‬
‫َّ‬
‫كل ما أنا إياه‪ .‬أفيكون الفكر إذن أضيق من أن يمتلك نفسه هو‬ ‫وأتباعه‪ ،‬خاصة كايليستوس (‪ .)Caelestius‬أساس اخلالف‬
‫ذاته؟ لكن أين يمكن أن يكون ما يفلت منه من كينونته؟ خارج ًا‬ ‫«أن بعض البرش قادرون بالفعل عىل‬ ‫تصوروا َّ‬ ‫بينهام َّ‬
‫أن البالجيني َّ‬
‫عنه‪ ،‬وليس يف ذاته؟ لكن كيف ال يدركه؟ ها نحن أمام موضوع‬ ‫َّ‬
‫فيها؛‪ ‬وأن بني آدم األولني الذين عاشوا‬ ‫أن حييوا حياة ال خطيئة‬
‫يدهشني دهشة عظيمة‪ ،‬ويستبد يب الذهول [أمامه]‪.‬‬ ‫بعد اخلطيئة ولدوا بريئني من اخلطيئة» ‪ ،‬بحيث ال يستدعي‬
‫‪56‬‬

‫ألنم أبرياء مل‬ ‫تعميد األطفال استحضار فكرة اخلطيئة األصل َّية‪َّ ،‬‬
‫أن الناس يذهبون بعيد ًا ليفتتنوا بذرى اجلبال‪،‬‬
‫كيف يصدق َّ‬ ‫أي ذنب‪ ،‬وال يعقل أن يعاقب من تويف وهو طفل عىل‬ ‫يرتكبوا بعد َّ‬
‫وأمواج البحر العاتية‪ ،‬وجماري األهنار الواسعة‪ ،‬وبالبحر‬ ‫ذنب مل يرتكبه‪ .‬ر ّد أوغسطني عىل هذا التصور هو أنَّه حتدَّ د مسبق ًا‬
‫املحيط باألرض‪ ،‬وبحركات األفالك‪ ،‬بينام هيملون أنفسهم!‬ ‫يف علم اهلل من ستنقذهم النعمة اإلهل َّية فيحيون حياة خالصة من‬
‫وال يندهشون من ّأن قادر عىل الكالم عىل ذلك كله دون أن‬ ‫األول األنبياء والرسل‪ ،‬واملسيح‪ ،‬كلمة اهلل‪،‬‬ ‫اخلطيئة‪ ،‬وهم يف املقام َّ‬
‫يكون حارض ًا أمام عيني‪ ،‬وال من أنَّني ما كنت ألستطيع أن‬ ‫ومن هيدهيم اهلل ملحبته وعبادته‪ ،‬وما عداهم من البرش كتب عليهم‬
‫أتكلم عن تلك اجلبال واألمواج واألهنار‪ ،‬والكواكب (التي‬ ‫أن يعيشوا حياة الضياع والضالل ويف اخلطيئة‪ .‬ويف محأة اجلدال‬
‫رأيتها)‪ ،‬وهذا البحر املحيط (الذي أعتقد يف وجوده)‪ ،‬لو مل‬ ‫الذي أثاره هذا الرأي جلأ أوغسطني يف موقفه الدفاعي إىل فكرة‬
‫وكأن أراها أمامي »(‪X,‬‬
‫أرها َّيف أنا‪ ،‬يف ذاكريت‪ ،‬باتساعها نفسه‪ّ ،‬‬ ‫وجود أرسار غامضة (منها النعمة اإلهل َّية‪ ،‬والتجسيد‪ ،‬والتثليث‪،‬‬
‫‪.57)VIII, 15‬‬ ‫والتعميد‪ )...‬يف الوحي ستبقى فوق الفهم البرشي‪ ،‬ينبغي اإليامن‬
‫هبا كام نزلت‪.‬‬
‫يواصل أوغسطني يف بقية هذا النص حركة صعود للنفس‪،‬‬
‫باالرتقاء َّأوالً من العامل احليس إىل عامل الصور والتمثالت الذهن َّية‬ ‫‪55 . Wetzel, James, « Predestination, Pelagianism, and‬‬
‫التي يصنع منها الفكر‪« ،‬اإلنسان الداخيل»‪ ،‬األفكار‪ ،‬ويتوقف‬ ‫‪foreknowledge », in The Cambridge Companion to Augustine,‬‬
‫الش التي تؤدهيا الذاكرة‪ ،‬باختزاهنا لذكريات األفعال‬ ‫عند وظيفة َّ‬ ‫‪Opt. cit., p. 49 - 59.‬‬
‫‪56 . Wetzel, James, « Predestination, and foreknowledge », in CCA,‬‬
‫‪ .  57‬ترجمتنا‪ ،‬املرجع املذكور‪ ،‬ص‪.991 .‬‬ ‫‪Opt. cit., p.49 - 54.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪362‬‬
‫شخصيات وأعالم‬ ‫القدّ يس أوغسطني‬

‫‪60‬‬
‫التاريخ الالهوتي‬ ‫واألشياء السيئة املقرتنة باللذة‪ ،‬فتصبح بتكرارها مصحوبة‬
‫بعد وقوع كارثة هنب روما سنة ‪ ،410‬اهتم الوثنيون الرومانيون‬ ‫بذكرى لذته عادات راسخة يف النفس‪ ،‬ال يستطيع اإلنسان‬
‫املسيح َّية التي حرمت بسببها عبادة آهلتهم بكوهنا سبب ًا لتلك‬ ‫التخلص منها إال بفضل العناية اإلهل َّية‪ .‬لك َّن الذاكرة هي أيض ًا‬
‫الكارثة‪ .‬يروي أوغسطني أنَّه ألف كتابه مدينة اهلل (وهو أضخم‬ ‫ألنا مأوى اهلل‪ ،‬ففيها عثر أوغسطني عىل اهلل الذي «رضع‬ ‫خري‪َّ ،‬‬
‫مؤلفاته‪ ،‬استغرق يف كتابته مخس عرشة سنة‪ ،‬ويتألف من ‪22‬‬ ‫اإليامن به من ثدي أمه»‪.‬‬
‫كتاب ًا) للر ّد عىل هذه التهمة‪ ،‬وتربئة املسيح َّية منها‪.‬‬
‫الزمن‬
‫يصوغ أوغسطني دفاعه عن املسيح َّية ضدّ هتمة الوثنيني‬ ‫«ما الزمن إذن؟ من يستطيع أن يقدّ م بسهولة تفسري ًا وجيز ًا له؟‬
‫تصور أنثروبولوجي‬ ‫الرومان يف قالب تارخيي نقدي انطالق ًا من ُّ‬ ‫من يستطيع أن يمسك به ولو يف الفكر‪ ،‬ليقول عنه كلمة؟ ومع ذلك‬
‫احلب‬
‫ّ‬ ‫لالجتامع البرشي‪ :‬تقوم احلياة البرش َّية واالجتامع َّية عىل‬ ‫أي ذكر أكثر ألفة واعتياد ًا من ذكر الزمن يف املحادثة؟ نفهمه فه ًام‬
‫ّ‬
‫املحرك للبرش يف عالقاهتم باألشياء وببعضهم بعض ًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الذي هو‬ ‫ً‬
‫جيدا حني نتكلم عنه؛ ونفهمه أيضا حني نسمع الغري يتحدث عنه‪.‬‬ ‫ً‬
‫حب «استمتاع»‪،‬‬ ‫حب يشء لذاته‪ ،‬وهو ُّ‬ ‫احلب ح َّبان‪ُّ :‬‬
‫ُّ‬ ‫وهذا‬ ‫فإن أعرفه‪ .‬وإذا ما‬‫أي أحد ما هو‪ّ ،‬‬ ‫فام الزمن إذن؟ إن مل يطلب مني ّ‬
‫حب «استعامل»‪ .‬واليشء الذي‬ ‫ُّ‬ ‫وحب يشء لغرض‪ ،‬وهو‬ ‫ُّ‬ ‫فإن ال أعود أعرفه‪.‬‬ ‫طرح أحد السؤال وأردت أن أرشح له ما هو‪ّ ،‬‬
‫حيب لذاته عىل نحو تام هو الذي يمكنه أن يمنح‬ ‫يستحق أن َّ‬
‫حيب لذاته عىل نحو‬ ‫السعادة‪ .‬واهلل وحده هو الذي يستحق أن َّ‬ ‫عىل ّأن أؤكد بقوة ما ييل‪ :‬إن مل حيدث أي يشء‪ ،‬فلن يكون هناك‬
‫تام‪ .‬وال يشء ممَّا سواه من املخلوقات يستحق مثل هذا احلب‪،‬‬ ‫أي يشء‪ ،‬فلن يكون هناك مستقبل؛ وإن مل يكن‬ ‫ٍ‬
‫ماض؛ وإن مل يطرأ ّ‬
‫ألنا ال تشبع الرغبات إشباع ًا تام ًا‪ .‬يميل البرش إىل قلب احلبني‬ ‫َّ‬ ‫قد مىض يشء‪ ،‬فلن يكون هناك حارض‪ .‬لك َّن هذين الزمنني ـ املايض‬
‫وعكسهام‪ :‬يستمتعون بام هو لالستعامل‪ ،‬ويستعملون ما هو‬ ‫واملستقبل‪ -‬كيف يمكن أن يقال َّإنام «موجودان»‪ ،‬ما دام املايض مل يعد‬
‫لالستمتاع‪ .‬وهذا هو سبب الفوىض واالضطراب يف النفس‬ ‫موجود ًا‪ ،‬واملستقبل ما زال مل يوجد؟ أ َّما احلارض فإنَّه إن بقي حارض ًا‬
‫واملجتمع‪ .‬كام يميل البرش إىل البحث عن السعادة بامتالك أشياء‬ ‫كف عن كونه «زمن ًا» ليكون «أبد َّية»‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ماض‪َّ ،‬‬ ‫دائ ًام دون أن َّ‬
‫يتحول إىل‬
‫ال تستطيع أن متنحها‪ ،‬مثل اللذات اجلسد َّية واملجد والشهرة‪،‬‬ ‫ماض‪ ،‬كيف‬ ‫ٍ‬ ‫إذا كان عىل احلارض إذن لكي يكون «زمن ًا» أن َّ‬
‫يتحول إىل‬
‫والسيطرة عىل اآلخرين‪.‬‬ ‫نستطيع أن نقول إنَّه «موجود»‪ ،‬ما دام الداعي الوحيد لوجوده‪ ،‬هو َّأل‬
‫يعود موجود ًا‪ ،‬وذلك إىل حدّ أنَّنا ال نستطيع‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬أن نتحدث‬
‫التصور استند أوغسطني يف تفسري أصل املدينتني‬ ‫ُّ‬ ‫عىل هذا‬ ‫عن وجود الزمن إال ألنَّه يسري نحو الالوجود»‪. 58‬‬
‫حب الذات إىل حدّ‬ ‫وتقدّ مهام عرب الزمن‪« :‬ح َّبان بنيا مدينتني‪ُّ :‬‬
‫وحب اهلل إىل حدّ احتقار الذات‬
‫ُّ‬ ‫احتقار اهلل بنى املدينة األرض َّية؛‬ ‫ابتغى أوغسطني من وراء طرح إشكال َّية الزمن عىل هذا النحو‬
‫بالرب‬
‫ّ‬ ‫بنى املدينة السامو َّية‪ .‬الواحدة تفاخر بنفسها‪ ،‬والثانية‬ ‫حل معضلة تفسري اخللق يف الزمن يف سفر التكوين‪ .‬فقد انتهى يف‬ ‫َّ‬
‫تفاخر‪ ،‬الواحدة تستجدي جمدها من البرش‪ ،‬واهلل‪ ،‬الشاهد عىل‬ ‫الش‪ ،‬وبالتايل‬ ‫حتليله ملفهوم الزمن إىل َّ‬
‫أن الزمن شبيه بالعدم مثل َّ‬
‫الضمري‪ ،‬جمد الثانية األعظم‪.‬الواحدة ترفع الرأس مزهوة بذاهتا‪،‬‬ ‫‪59‬‬
‫فهو مفهوم ال وجود له إال يف الفكر‪ .‬وقد تناول بول ريكور‬
‫والثانية تقول إلهلها‪« :‬أنت جمدي ورافع رأيس»‪( .‬مزمور‪) 3: 4 ‬‬ ‫بالش وبالذاكرة انطالق ًا من بيان َّ‬
‫أن‬ ‫مسألة الزمن يف عالقته َّ‬
‫السلطة فتنقاد إىل امللوك واألمم؛ والثانية مجيع من‬ ‫األوىل تستهوهيا ُّ‬ ‫أوغسطني طرح مشكلة الزمن بعمق لكنَّه تركها بدون حل‪.‬‬
‫فيها خدَّ ام للقريب يف املحبة [‪ ]...‬املدينة األوىل بشخص رئيسها‬
‫«يارب‪ ،‬يا قويت»(مزمور‪ .»)17 : 2‬ينتج‬
‫ّ‬ ‫تزهو بالقوة‪ ،‬والثانية تقول‬

‫‪60 . Weithman, Paul, « Augustine’s political philosophy », in The‬‬ ‫‪ .  58‬ترجمتنا‪ ،‬نفسه‪ ،‬ص‪ 1040 .‬ـ ‪.1041‬‬
‫‪Cambridge Companion to Augustine, Opt. cit., p. 239 - 252.‬‬ ‫‪59  . Ricoeur, Paul, Temps, mal et récit, Paris, Seuil, 1983 - 1985.‬‬

‫‪363‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫احلسني سحبان‬ ‫شخصيات وأعالم‬

‫احلرة‬
‫حمدَّ د ملذهب اخلطيئة األصل َّية والنعمة اإلهل َّية (اإلرادة َّ‬ ‫عن اختالف أساس املدينتني‪ ،‬وحتكم شهوة السيطرة عىل شعوب‬
‫والقدر)»‪ .‬وبشهادته يكون «الهوت العرص الوسيط قد‬ ‫أخرى يف املدينة األرض َّية‪ ،‬تشتتهام يف الزمن‪ .‬بدأت املدينة األرض َّية‬
‫تأسس عىل [فكر] أوغسطني»‪ .62‬ومل تستطع األرسط َّية أن‬ ‫َّ‬ ‫أسسها قابيل بعد أن قتل أخاه هابيل‪ ،‬أ َّما املدينة‬ ‫باملدينة التي َّ‬
‫تكون منافسة لألوغسطين َّية إال مع ظهور توما األكويني‪،‬‬ ‫أن هلا أشباه ًا يف األرض (أورشيليم‪،‬‬ ‫السامو َّية فهي يف السامء‪ ،‬عىل َّ‬
‫الذي أخذ من أوغسطني كثري ًا من أفكاره‪ ،‬واستدجمها يف‬ ‫يضم مواطنني لكلتا املدينتني‬‫ُّ‬ ‫كل جمتمع سيايس‬ ‫الكنيسة)‪ ،‬لك َّن َّ‬
‫النسق الالهويت الذي بناه عىل فلسفة أرسطو‪ ،‬بعد أن أصبحت‬ ‫يعيشون جنب ًا إىل جنب‪ .‬والتمييز بني املدينتني الهويت أخروي أكثر‬
‫يف متناول الفالسفة الغربيني عرب ترمجاهتا العرب َّية ثم الالتين َّية‪،‬‬ ‫ممَّا هو سيايس‪ .‬خيتلط أعضاء املدينتني يف عامل الوجود يف الزمن‪،‬‬
‫وعرب رشوحها وتطويرها عىل يدي الفيلسوفني اإلسالميني‬ ‫الذي تتخذ فيه السياسية مكاهنا‪.‬‬
‫ابن سينا وابن رشد‪ .‬ونشأت معركة ضارية بني التيارات‬
‫خاصة‬ ‫األوغسطين َّية وبني التوماويني والسينويني والرشديني‪َّ ،‬‬ ‫استخدم أوغسطني التاريخ ليثبت َّ‬
‫أن روما مل تكن كام يدَّ عي‬
‫تغذى‬ ‫يف جامعة باريس خالل القرن الثالث عرش‪ .‬كذلك َّ‬ ‫املؤرخون والفالسفة واألدباء الرومان مدينة فاضلة وال عادلة‪.‬‬
‫التصوف واملامرسة الكهنوت َّية للعقيدة‬ ‫ُّ‬ ‫من فكر أوغسطني‬ ‫السلطة‪ ،‬ومل يكن نبالؤها‬ ‫تأسست روما عىل اغتصاب ُّ‬ ‫فقد َّ‬
‫التنسك والزهد‬ ‫املسيح َّية يف العرص الوسيط‪ ،‬وكذلك حركات ُّ‬ ‫عادلني‪ .‬ثم يأخذ بعد ذلك يف نقد العبادات الوثن َّية والتخليد‬
‫والرهبنة‪ ،‬وتأثر به مارتن لوثر‪ ،‬وحظي لدى الربوتستان َّية‬ ‫الثقايف هلا يف املرسح واالحتفاالت‪ ،‬والسخرية الالذعة من‬
‫بتقدير يفوق تقدير غريه من آباء الكنيسة أمجعني‪« .‬أحيي فكر‬ ‫املؤرخني والفالسفة واألدباء الرومان‪.‬‬
‫أوغسطني أيض ًا يف الكنيسة الكاثوليك َّية‪ ،‬خصوص ًا يف فرنسا‬
‫خالل القرن السابع عرش (ديكارت‪ ،‬مابرانش‪ ،‬باسكال‪،‬‬ ‫مدينة اهلل مغتصبة من قبل شهوة السيطرة التي متيز املدينة‬
‫وظل منذ ذلك احلني مألوف ًا‬ ‫َّ‬ ‫اجلنسين َّية‪ ،‬بوسويه‪ ،‬فينيلون)‪.‬‬ ‫إن احلب والنزاع مها القوتان املحركتان للتاريخ‬ ‫األرض َّية‪َّ .‬‬
‫خاصة يف فرنسا‪ ،‬حتى املدرسة احلديثة للمدافعني‬ ‫َّ‬ ‫بصورة‬ ‫يتطور التاريخ بوصفه نتيجة للتنازع بني‬ ‫َّ‬ ‫السيايس‪ ،‬بحيث‬
‫الكاثوليكيني الذين أخذوا يف الوقت ذاته أفكار ًا برجسون َّية‬ ‫املدينتني‪ .‬ال يشء جيري خارج هذه الثنائ َّية‪ .‬ومن أجل تلبية حاجة‬
‫(متأثرة بأفلوطني) »‪.63‬‬ ‫الناس إىل الردع والكبح ُوجدت احلكومة‪.‬‬

‫لك َّن تلقي فكر أوغسطني كان ذا أوجه متعدّ دة‪ ،‬منها املعتدل‬ ‫مل ينشغل أوغسطني بمسألة نظم احلكم السياس َّية مثل أفالطون‬
‫الرصني‪ ،‬واملتطرف الذي سار ببعض آرائه املتشدّ دة‪ ،‬خاصة‬ ‫تتكون هبا تلك‬ ‫هتمه السريورة التارخي َّية التي َّ‬
‫وأرسطو‪ .‬إذ مل تكن ُّ‬
‫يف القدر واخلطيئة األصل َّية‪ ،‬إىل نتائج بعيدة اخلطورة‪ ،‬أ َّدت إىل‬ ‫النظم وتزول‪« .‬كان مهت ًام بمعرفة كيف تعمل العناية اإلهل َّية عرب‬
‫تطاحنات ومشاحنات ومعارك أنست عمق تفكريه وثرائه‪.‬‬ ‫التاريخ السيايس‪ ،‬أكثر من اهتاممه بتوقف التاريخ عىل القوى‬
‫بأن حماكم التفتيش مستوحاة من آرائه‬ ‫بحيث اهتم أوغسطني َّ‬ ‫االجتامع َّية التي يستخدمها هذا الشكل أو ذاك من أشكال‬
‫أن األوغسطين َّية مل متت‪ ،‬رغم انتصار األرسط َّية‬ ‫تلك‪ .‬بيد َّ‬ ‫املؤسسات السياس َّية»‪.‬‬
‫والعقالن َّية‪ .‬بل يشهد العرص الراهن أوغسطين َّية جديدة تستلهم‬
‫فكر أوغسطني يف تناول قضايا العرص‪ ،‬ويف مقدمتها قض َّية الديني‬ ‫األوغسطين َّية‬
‫والساييس‪ ،‬وقض َّية اهلو َّية‪.‬‬ ‫حيدّ د هايدغر مدلولني ملصطلح «أوغسطين َّية»‪ُّ :‬‬
‫تدل‬ ‫‪61‬‬

‫ملونة بلون املسيح َّية‬ ‫من الناحية الفلسف َّية عىل «أفالطون َّية َّ‬
‫«تصور‬‫ُّ‬ ‫موجهة ضدَّ أرسطو»‪ ،‬ومن الناحية الالهوت َّية‪ ،‬عىل‬ ‫َّ‬

‫‪62 . Ibid., p. 177.‬‬ ‫‪61 . Heidegger, Martin, Phénoménologie de la vie religieuse, tr. Fr.‬‬
‫‪63 . Ibidem.‬‬ ‫‪Jean Greisch, Paris, Gallimard, 2012, p. 178.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪364‬‬
‫شخصيات وأعالم‬ ‫القدّ يس أوغسطني‬

‫لفض غطاء‬ ‫أوغسطني‪ ،‬ليخضعه لقراءة فينومينوجل َّية تفكيك َّية ّ‬ ‫‪64‬‬
‫أوغسطين وما بعد الحداثة‬
‫امليتافيزيقا األفلوطين َّية الذي غ ّطى به أوغسطني جتربته املسيح َّية‪،‬‬ ‫قرئ أوغسطني يف ما بعد احلداثة بطريقتني‪ :‬من جهة‪ ،‬قراءة‬
‫فحجب أصالتها‪ ،‬وذلك هبدف الرجوع إىل الشكل األويل النقي‬ ‫الهوت َّية أحيت بناءه الفكري حتت اسم «أوغسطين َّية جديدة»‬
‫هلذه التجربة‪ ،‬بوصفه جتربة دين َّية قابلة للتجريد والتعميم‪ .‬تناول‬ ‫لشفاء واقع راهن زعم أنَّه فريسة ملرض العدم َّية والنسب َّية‪ .‬ومن‬
‫أن النفس مع‬ ‫نص أوغسطني انطالق ًا من مالحظة َّ‬ ‫هايدغر َّ‬ ‫جهة أخرى‪ ،‬قراءة فلسف َّية انبهرت بصورة خاصة بالطريقة التي‬
‫أوغسطني صارت مسألة أمام نفسها‪ ،‬وساحة ملعركة بني الغواية‬ ‫سعى هبا أوغسطني إىل فهم ذاته بذاته‪ ،‬وكشفه عن طبيعة هذه‬
‫واملحاكمة‪ ،‬تعيش يف قلق واضطراب‪ ،‬تفتقد األمان‪ ،‬ترى احلياة‬ ‫املحاولة‪ ،‬وتناقضها األسايس وخماطرها‪« .‬تبحث األوغسطين َّية‬
‫من أقصاها إىل أقصاها غري آمنة‪ ،‬لذلك تلجأ إىل اهلل لتجد األمان‬ ‫اجلديدة عند أوغسطني عىل ما يمكن أن يفيد يف صون اهلو َّية يف‬
‫واالستقرار‪ .‬يبدو أوغسطني هلايدجر مثل «جندي مسيحي جياهد‬ ‫عامل ضال‪ ،‬وتستلهم منه ما بعد احلداثة كون البحث عن اهلو َّية‬
‫حتت لواء بولس يف سبيل اإليامن‪ ،‬مسلح ًا بدرع من األمل وبخوذة‬ ‫ال متناهي ًا‪ ،‬حتى ولو عرض ذلك للخطر‪ ،‬واقتىض االنفتاح‬
‫من اإليامن‪ ...‬بحيث يمكن قراءة كتاب االعرتافات كأنَّه يوميات‬ ‫املتجدد باستمرار يف وجه أحد آخر (اآلخر؟)‪ .‬ويف احلالتني يتعلق‬
‫حرب»‪ .67‬لقد جعل أوغسطني املسيح َّية مصدر ًا إلدخال البلبلة‬ ‫اللجوء إىل أوغسطني بمسألة املعنى واحلقيقة‪ ،‬يف سياق اهنارت‬
‫واالضطراب يف نفس اإلنسان الغريب عن طريق شحن التجربة‬ ‫املقررة مسبق ًا‪ ،‬واستوجبت اهلو َّية إعادة بنائها إىل حدٍّ‬
‫فيه البنيات َّ‬
‫املسيح َّية األصل َّية بامليتافيزيقا األفلوطين َّية املبنية عىل نسيان كينونة‬ ‫بارزين‬ ‫الهوتيي َ‬
‫َ‬ ‫كبري»‪ .65‬يف اجلانب الالهويت نكتفي باإلشارة إىل‬
‫الكائن‪.‬‬ ‫أحييا أوغسطني واختذاه سالح ًا ضدَّ ما بعد احلداثة‪ :‬األكاديمي‬
‫أسس‬ ‫اإلنجليزي جون ميلبانك (‪ ،)John Milbank‬الذي َّ‬
‫خالف ًا هلايدغر‪ ،‬اختذ ديريدا أوغسطني صاحب ًا ورفيق ًا يف كتابة‬ ‫تيار األرثوذوكس َّية الراديكال َّية‪ ،‬وجوزيف راتسينجر( ‪Joseph‬‬
‫سريته الذات َّية‪ ،‬حتت عنوان مركَّب «االعذراف» (‪)Circonfession‬‬ ‫‪ ،) Ratzinger‬البابا السادس عرش‪.‬‬
‫(كلمة مركَّبة من اعرتاف (‪ ،)confession‬وإعذار‪ ،‬أو ختان‪،‬‬
‫(‪َّ .)Circoncision‬إنام يتشاهبان يف بعض اجلوانب‪ :‬أوغسطني‬ ‫نأخذ هايدغر وديريدا مثالني لعودة فالسفة ما بعد احلداثة إىل‬
‫«مواطنه»‪ ،‬ويتكلم مثله لغة ليست لغته األم‪ ،‬وهي لغة مسيح َّية‪/‬‬ ‫ألنام قرآ مع ًا أوغسطني قراءة تفكيك َّية‪ ،‬لكنَّهام جاءا‬
‫أوغسطني‪َّ ،‬‬
‫التين َّية‪ /‬فرنس َّية‪ ،‬وختن وهو طفل صغري فـ»وشمت» ذاكرته هبويته‬ ‫إليه من طريقني خمتلفتني وأنتجا حوله نصني متباينني‪ .‬خيتلف‬
‫الدين َّية اليهود َّية بالدم‪ .‬يبكي كثري ًا ويصيل يف الرس‪ .‬أم أوغسطني هي‬ ‫هايدغر وديريدا ‪ 66‬يف وقت عودهتام إىل أوغسطني ويف طريقتها‬
‫حمور اعرتافاته‪ ،‬ويكتب ديريدا أيض ًا عن أ ّمه التي حيبها كثري ًا‪ ،‬وهي‬ ‫واهلدف منها‪ .‬عاد إليه هايدغر يف مرحلة مبكرة من حياته الفكر َّية‪،‬‬
‫يف حالة احتضار دام طويالً‪ .‬يكتب ديريدا رفقة أوغسطني مستشهد ًا‬ ‫مرحلة إعداد مفاهيم مؤلفه الكينونة والزمان‪ ،‬واالنفصال‬
‫بمقاطع من اعرتافاته بنصها الالتيني‪ .‬يكتب مثل أوغسطني عن‬ ‫عن الفكر املسيحي الذي كان واقع ًا يف إطاره حتت تأثري لوثر‬
‫نفسه املنشطرة‪ ،‬حيكي عن الرشخ الذي أحدثه اخلتان يف هويته‪ ،‬وعن‬ ‫وكريكجارد‪ .‬ووقف بالتحديد عند الكتاب العارش من اعرتافات‬
‫انفصاله عن هيوديته‪ .‬لك َّن هدف ديريدا من كتابة سريته خمتلف عن‬
‫هدف أوغسطني‪ ،‬إنَّه ليس التوبة واإلقرار بالذنب‪ ،‬والكشف عن‬ ‫‪64 . cf. Boeve, Lieven, « Retrieven Augustine today. Introduction :‬‬
‫حقيقة كان خيفيها عن الناس‪ .‬إنَّه ال يعرتف أمام اهلل‪ ،‬بل أمام جمهول‬ ‫‪Recontextualisation, postmodernity and Augustine », in L. Boeve,‬‬
‫ال يعرفه‪ ،‬يف انتظار احلدث الذي يفاجئ‪ ،‬وال خيرب عن جميئه (موت‬ ‫‪M. Lamberights, M. Wisse (ed.), Leuven-Paris-Walple, Uitgeveru‬‬
‫كرره‬‫فيظل يف حالة انتظار خميف‪ .‬أمام السؤال الذي َّ‬ ‫أ ّمه مثالً)‪ّ ،‬‬ ‫‪Petrs, 2009, p. 1 - 17.‬‬
‫أحب حني أحبك‪ ،‬يا إهلي؟» يسأل‬ ‫أوغسطني يف اعرتافاته‪« « :‬ماذا ُّ‬ ‫‪65 . Ibid, p.3.‬‬
‫ديريدا نفسه‪ :‬ما ذا عساي أن أفعل غري أن أجعل هذا السؤال سؤايل‬ ‫‪66 . cf. Caputo, John D., « Toward a Postmodern Theology of the‬‬
‫‪Cross », in Philip Cary, John Doody, and Kim Paffernoth, Augustine‬‬
‫‪67 . Ibid, p. 243 - 244.‬‬ ‫‪and Philosophy, Lanham, Lexington Books, 2010, p. 243 -265.‬‬

‫‪365‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫احلسني سحبان‬ ‫شخصيات وأعالم‬

‫قدره أن يكون ناقص ًا‪ ،‬بسبب اخلطيئة األصل َّية التي نتجت عن‬ ‫أنا؟»‪ ،68‬ماذا كان ديريدا يفعل طيلة حياته غري سؤال هذا السؤال‬
‫ِك ْبه الذي دفعه إىل إرادة التش ُّبه باهلل‪ ،‬وعصيانه‪ ،‬فعوقب باحلياة‬ ‫هيتم به ديريدا يف خطاب االعرتاف‪ ،‬هو أنَّه يسائل‬ ‫نفسه‪ .‬ما ُّ‬
‫ُّ‬
‫وسيظل‬ ‫األرض َّية برشورها املختلفة (الزمن‪ ،‬واملوت‪ ،‬والشقاء)‪.‬‬ ‫إن هذا النوع من اخلطاب ال‬ ‫عىل نحو جذري استقالل الذات‪َّ .‬‬
‫اإلنسان كائن ًا عاجز ًا عن فعل اخلري اعتامد ًا عىل جهده وحده يف‬ ‫يتعلق باعرتاف ذات ارتكبت خطيئة‪ ،‬متحملة مسؤوليتها‪َّ .‬‬
‫«إن‬
‫استقالل عن عناية اهلل ولطفه الذي ال يمكن لإلنسان بدونه أن‬ ‫االعرتاف اجلذري ال يكون أبد ًا «اعرتايف أنا»‪ ،‬بل هو قرار اآلخر‬
‫يعيش السالم والطمأنينة‪.‬‬ ‫إن اآلخر هو عىل الدوام الذي‬ ‫َّيف أنا‪ ،‬اآلخر الذي يعلوين‪َّ ...‬‬
‫يعرتف َّيف»‪ .‬تقدّ م معركة أوغسطني مع اهلل مثاالً أكمل لبيان‬
‫هكذا يتبدَّ ى لنا أوغسطني بوجهني عىل األقل‪ :‬وجه التشاؤم‬ ‫استمرار إشكال َّية تكوين اهلو َّية اإلنسان َّية‪ ،‬والداللة عىل الثغرة‬
‫والتطرف‬
‫ُّ‬ ‫القاتم الذي مال به إىل إنتاج مقدّ مات َّ‬
‫«اللإنسان َّية»‪،‬‬ ‫كل بناء للهو َّية‪ .‬ويرى ديريدا يف عبارة أوغسطني‬ ‫أو الثلمة يف ّ‬
‫الديني‪ :‬ربط الرغبة‪ /‬الشهوة (خاصة اجلنس َّية) باخلطيئة‪ ،‬تربير‬ ‫أن ما يريد من يشهد أن‬ ‫يف اعرتافاته «أحببتك متأخر ًا» داللة عىل َّ‬
‫العنف واإلكراه من قبل األقل َّية املختارة عىل الكثرة بافرتاض‬ ‫يتحمل مسؤولية الشهادة عليه ال يمكن له أن يتضمن يف الشهادة‪،‬‬
‫«حب اهلل إىل حدّ احتقار‬‫ّ‬ ‫عجزها عن االستقامة الذات َّية التلقائ َّية‪،‬‬ ‫ألن موضوع الشهادة يكون دائ ًام قد غادر الشهادة حلظة قوهلا‪َّ .‬‬
‫«إن‬ ‫َّ‬
‫حب الغري يف‬
‫حب احلياة وهبجتها وفرحها‪ّ ،‬‬ ‫الذات»‪ ،‬ومن ثم قتل ّ‬ ‫الشهادة تأيت دائ ًام متأخرة»‪.‬‬
‫اهلل‪ ،‬أي رشط أن يكون رشيك ًا يف إيامن مجاعة وإال استحق النفي‬
‫أو القتل تقر َّب ًا هلل‪ ،‬لذلك فقد أوغسطني فضيلة االعرتاف باجلميل‬ ‫خاتمة‬
‫للفالسفة «الوثنيني» الذين فتحوا له كنوز فكرهم‪ ،‬فأخذ منها‬ ‫من هو أوغسطني؟ هل يف وسعنا اآلن أن نجيب؟‬
‫ألنم ليسوا رشكاءه‬ ‫بغري حساب‪ ،‬ثم «قتلهم»‪ ،‬وذلك بالتحديد َّ‬ ‫أمازيغي أفريقي‪ ،‬طبعت ذاكرته باملسيح َّية منذ الصغر‪ ،‬وتش َّبع‬
‫يف اإليامن املسيحي‪َّ ،‬إنم «آخرون»‪ .‬بجانب هذا الوجه يظهر‬ ‫بالثقافة الالتين َّية‪ ،‬وعاش اهنيار احلضارة الرومان َّية وصعود‬
‫أوغسطني بوجه آخر؛ وجه املفكر اجلدّ ي الصادق اجلريء‪ ،‬الذي‬ ‫اإلمرباطور َّية املسيح َّية‪ ،‬عرب حرب ضارية مع الوثن َّية كان له فيها‬
‫كانت القيمة العليا لديه‪ ،‬والتي قد يكون اكتشفها عند أبويل‪ ،‬هي‬ ‫دور كبري‪ .‬انقسمت نفسه بسبب التباين واالختالف بني أبويه‪،‬‬
‫الفضول والتعطش إىل املعرفة يف كافة مستوياهتا‪ ،‬وكشف قوهتا‬ ‫وبسبب تراجيديا عالقته بأ ّمه‪ .‬ورث سامت األفريقي النوميدي‬
‫كل سلطة‪ ،‬ما دامت متكن من امتالكها‪.‬‬ ‫التي تفوق قوة السلطة‪ّ ،‬‬ ‫خاصة الولوع بالكالم (اخلطابة والبيان والبالغة)‪ ،‬وقدرته اجل َّبارة‬
‫«حول التوق النهم للمتناهي إىل التوق النهم‬ ‫َّ‬ ‫إنَّه ذلك الذي‬ ‫عىل السيطرة عىل اآلخرين والتحكم فيهم‪ .‬عذبته شهوانيته يف‬
‫َّللمتناهي»‪ ،‬والذي أبدع شعر ًا منثور ًا يف حوار بصوت واحد‪،‬‬ ‫املراهقة فختمها قبل األوان‪ .‬عانى من املرض ومن اخلوف من‬
‫صوت املعرتف بذنوبه‪ ،‬والباحث عن ذاته‪ ،‬والباحث يف الذات‬ ‫فمر بارتدادات متعدّ دة انتهت بارتداده‬ ‫املوت‪ .‬تاه فكري ًا وروحي ًا‪َّ ،‬‬
‫بوصفها مشكلة من املشكالت اإلنسان َّية األساس َّية‪ .‬كشف‬ ‫عن األفلوطينَّة (هل ارتدَّ عنها فعالً؟) إىل املسيح َّية فأغناها بثقافته‬
‫أساس االجتامع اإلنساين واحلياة السياس َّية يف احل َّبني االستمتاعي‬ ‫الواسعة والعميقة‪ ،‬التي أنفق منها بسخاء يف الدفاع عنها‪ ،‬ويف‬
‫واالستعاميل لألشياء‪ ،‬وأساس املشكالت السياس َّية واالجتامع َّية‬ ‫تأسيس الفكر الالهويت املسيحي‪ ،‬بصياغة قضاياه التي صارت‬
‫والنفس َّية يف قلب هذين احل َّبني‪ :‬حيث تصبح الوسائل غايات‪،‬‬ ‫يف الوقت ذاته القضايا الكربى للفلسفة الغرب َّية‪ ،‬فامتدَّ تأثريه فيهام‬
‫والغايات وسائل‪ .‬وكان يف قلبه القايس واملتشدّ د جتاه اخلصوم‬ ‫أزيد من ستة عرش قرن ًا‪ :‬العقل واإليامن‪ ،‬اخلطيئة األصل َّية‪ ،‬القدر‪،‬‬
‫مكان للعطف عىل الفقراء‪ ،‬وتنصيب نفسه قاضي ًا نزهي ًا ّ‬
‫حلل‬ ‫احلرة‪ ،‬النعمة اإلهل َّية‪ ،‬التثليث‪ ،‬الطبيعة البرش َّية‪ ،‬التاريخ‪،‬‬
‫اإلرادة َّ‬
‫منازعاهتم بعدل وإنصاف‪ .‬واألمجل من ذلك كله أنَّه رجل عاشق‬ ‫اللغة‪ ،‬التعلم‪ ،‬املعرفة‪ ،‬الذات‪.‬‬
‫للموسيقى‪ ،‬ترك لإلنسان َّية مؤلف ًا يف املوسيقى يكشف عن كتابة‬
‫ببالغة أخرى‪ ،‬بالغة حتريك املشاعر بالصوت والنَّغم‪.‬‬ ‫تأ َّمل جتربته فاستخلص منها تصور ًا كل َّي ًا لإلنسان‪ :‬كائن‬

‫‪68 . cf. Boeve, L. Opt. cit. p. 10.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪366‬‬
‫بريشة الفنانة نزهة ليتيم من املغرب‬
‫شخصيات وأعالم‬

‫ابن رشد الحفيد ومحاولة إخراج‬


‫الفكر اإلسالمي من تناقضات‬
‫العقل واإليمان إلى موافقة‬
‫للدين‬
‫الفلسفة ِّ‬

‫«مهام حاولوا اهلروب منه أو النيل من وقاره العلمي وشموخه التارخيي‪ ]...[ ،‬فسوف يبقى أساس ًا من أسس الفكر البرشي الراقي‪.‬‬
‫الرشدي‪.».‬‬‫عم بعدها هو املوقف ُّ‬
‫أن الربزخ الذي يفصل ما قبل احلداثة َّ‬
‫[‪ ...‬ذلك] َّ‬
‫حممد املصباحي‬
‫َّ‬
‫سمية املحفوظي*‬
‫َّ‬

‫مراكش إىل «اليسانة‬ ‫أ َّدت إىل حرق كتبه الفلسف َّية ونفيه عن َّ‬
‫‪2‬‬
‫توطئة‬
‫للصوف َّية‪ ،‬ليعفو‬ ‫أن أظهر األمري مي ً‬
‫ال ُّ‬ ‫ضواحي مدينة قرطبة» بعد ْ‬ ‫نشأ أبو الوليد بن رشد احلفيد (‪ 520‬هـ‪1126 /‬م ‪ 595 -‬هـ‪/‬‬
‫األمري عن ابن رشد بعد سنتني‪ ،‬أي قبل وفاته بسنة تقريب ًا‪.‬‬ ‫‪1198‬م) يف أرسة عريقة اشتغلت بالقضاء‪ ،‬وهو ما ساعده عىل‬
‫اإلملام بمذاهب الفقه وقواعده‪ .‬وقد تو َّفرت له مجيع الظروف‬
‫وقد ترك ابن رشد كتب ًا عديدة منها «تلخيص اخلطابة»‪،‬‬ ‫الطب والطبيع َّيات‬
‫َّ‬ ‫للتبحر يف علوم عرصه؛ فدرس‬ ‫ُّ‬ ‫املواتية‬
‫و«تلخيص كتاب اجلدل»‪ ،‬و«تلخيص الشعر»‪ ،‬و«رشح الربهان»‪،‬‬ ‫والرياض َّيات والفلسفة والنَّحو‪ .‬وهذا ما جعل منه املث ّقف‬
‫و«تلخيص ما بعد الطبيعة»‪ ،‬و«تلخيص كتاب النفس»‪ ،‬و»كتاب‬ ‫النموذج الباحث عن َّ‬
‫«لذة املعرفة واالكتشاف‪ .‬فعالوة عىل عدم‬
‫اآلثار العلو َّية»‪ ،‬و«الك ّل َّيات يف ال ّطب»‪ ،‬و«الكشف عن مناهج‬ ‫اكتفائه بتحصيل صنف واحد أو صنفني من صنوف املعرفة [‪...‬‬
‫األدلة يف عقائد امل ّلة»‪ ،‬و«هناية املقتصد وبداية املجتهد»‪ ،‬و«هتافت‬ ‫كان] شغف ًا بميادين بعيدة الصلة عن بعضها بعض ًا‪ ،‬عىل غرار‬
‫التهافت»‪ ،‬و«فصل املقال وتقرير ما بني احلكمة والرشيعة من‬ ‫والطب‬
‫ّ‬ ‫الفقه وعلم الكالم واللغة والنبات واحليوان والفلك‬
‫االتصال»‪.3‬‬ ‫والفلسفة»‪.1‬‬

‫وقد متَّيزت مؤ ّلفاته باجلدَّ ة وال َّطرافة‪ ،‬وهي تكشف أيض ًا عن‬ ‫رشحه (‪565‬هـ) ابن طفيل (ت‬ ‫وقد بدأ اسمه يطفو عندما َّ‬
‫استقالل ابن رشد فكر َّي ًا عن اخلطابات السائدة يف عرصه التي‬ ‫‪581‬هـ) إىل األمري أيب يعقوب يوسف بن عبد املؤمن كي يرشح‬
‫غلب عليها الطابع اخلطايب‪ ،‬ففيها أكَّد َّ‬
‫أن املسلك الوحيد الذي‬ ‫عي ابن رشد بعد ذلك عىل قضاء‬ ‫ّ‬
‫ويلخصها‪ ،‬ل ُي َّ‬ ‫له أعامل أرسطو‬
‫إشبيلية (‪565‬هـ)‪ ،‬ويف سنة (‪567‬هـ) ُو ّل منصب قايض القضاة‪،‬‬
‫مراكش‬ ‫ويف سنة (‪578‬هـ) ّاتذه اخلليفة أبو يعقوب يوسف أمري َّ‬
‫‪  2‬ـ فريد‪ ،‬العليبي‪ ،‬رؤية ابن رشد السياس َّية‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العرب َّية‪،‬‬ ‫تعرض ملحنة‬‫طبيب ًا له‪ ،‬ويف عهد األمري أيب يوسف يعقوب املنصور َّ‬
‫سلسلة أطروحات الدكتوراه عــ ‪64‬ـدد‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت‪ ،‬لبنان ‪ ،2007‬ص ‪-264‬‬
‫‪ ،276‬ذكر أ َّن «محنة ابن رشد [راوحت] بني الكفر يف الدين والكفر يف السياسة»‪.‬‬ ‫*أكادمي َّية تونس َّية‪.‬‬
‫‪  3‬ـ ذهب بعض الدارسني (جامل الدين العلوي‪ )... ،‬إىل القول إ َّن م ّؤلفات ابن‬ ‫‪  1‬ـ راجع عبد املجيد الرشيف‪ ،‬لبنات ‪ II‬يف قراءة النصوص‪ ،‬دار الجنوب للنرش‪،‬‬
‫رشد الحفيد تربو عىل مئة كتاب ورسالة ورشح‪.‬‬ ‫سلسلة معامل الحداثة‪ ،‬ط ‪ ،1‬تونس‪ ،2011 ،‬ص ‪.201‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪368‬‬
‫شخصيات وأعالم‬ ‫ابن رشد احلفيد‬

‫يف سبيل حترير اإلنسان من القيود التي حتول دون بلوغه مراتب‬ ‫حجة العقل‪ 4‬الذي‬
‫جيب اتِّباعه هو املسلك الربهاين القائم عىل َّ‬
‫اإليامن احلقيقي الذي يعطي لذاته قيمة يف الوجود‪.8‬‬ ‫َّنزله ابن رشد منزلة العمود الفقري لإليامن القويم الذي ال معنى‬
‫له خارج دائرة التأ ُّمل والتفكري النقدي‪.‬‬
‫و َّملا كان اإلملام بالرتاث الرشدي ‪-‬يف هذه الورقة‪ -‬مسألة غري‬
‫وتنوع‬
‫ممكنة بالنظر إىل تعدُّ د جماالت اشتغال فيلسوف قرطبة ُّ‬ ‫‪1‬ـ ابن رشد الحفيد الفيلسوف العقالني إزاء الغزالي‬
‫املباحث التي أ ّلف فيها‪ ،‬فإنَّنا نتطرق إىل عالقة العقل والفلسفة‬ ‫المتك ِّلم‬
‫بالرشع يف بعض نصوص ابن رشد‪ .‬باعتبار َّ‬
‫أن تلك العالقة هي‬ ‫إن عودة الفكر العريب اإلسالمي املعارص إىل ابن رشد‬ ‫َّ‬
‫تصورنا ‪ -‬مربط الفرس يف مرشوع ابن رشد الفلسفي‪ ،‬وقد‬ ‫‪ -‬يف ُّ‬ ‫مهمة مل حيسن الفكر اإلسالمي‬ ‫احلفيد هي عودة إىل حلظة فكر َّية َّ‬
‫‪5‬‬

‫مهها ر ُّده عىل الغزايل يف «هتافت‬


‫جتىل ذلك يف مواضع عديدة‪ ،‬أ ُّ‬ ‫أن من أهم فضائل ابن رشد قدرته‬ ‫استغالهلا واإلفادة منها‪ ،6‬ذلك َّ‬
‫التهافت»‪ ،‬ويف «فصل املقال فيام بني احلكمة والرشيعة من‬ ‫عىل جتاوز التعارض املفتعل بني العقل واإليامن‪ ،7‬تعارض مل‬
‫االتصال» ‪.9‬‬ ‫أن شنَّعت عىل‬ ‫تستطع الثقافة العرب َّية اإلسالم َّية اخلروج منه منذ ْ‬
‫األشعر َّية بالفلسفة‪ ،‬متَّهمة إ َّياها باعتامد العقل يف معاجلة اإلهل َّيات‪.‬‬
‫عالقة الفلسفة بالدين عند الغزالي وابن رشد‬ ‫فإذا بالفلسفة احلكمة امللعونة‪ ،‬العامل هبا كافر خارج من امل ّلة‪.‬‬
‫املدونات العرب َّية اإلسالم ًّية باملناظرات واملجادالت‬
‫َّ‬ ‫احتفت‬ ‫أن اعتامد العقل هو‬ ‫أن «الشارح األكرب» َّبي باألدلة القاطعة َّ‬ ‫ورغم َّ‬
‫التي اختذت أبعاد ًا عديدة‪ ،‬منها الديني (بني أتباع األديان‬ ‫فإن إيامن العوام فرض نفسه باعتباره املمثل‬ ‫لب اإليامن وجوهره َّ‬ ‫ُّ‬
‫التوحيد َّية‪ ،10)... ،‬ومنها بني أهل السياسة (عيل بن أيب طالب‪،‬‬ ‫الوحيد لإليامن احلقيقي‪.‬‬
‫معاوية بن أيب سفيان‪ 11)... ،‬ومن ّظرهيا (اجلاحظ‪/‬أبو جعفر‬
‫اإلسكايف)‪ 12‬وأصحاب املنطق واملعرفة (النحوي املعتزيل‬ ‫ويف هذا السياق املعريف تبدو دعوة ابن رشد احلفيد إىل إعامل‬
‫مهمة‬
‫العقل يف خمتلف جماالت املعرفة الدين َّية (الفقه‪ )...،‬مسألة َّ‬
‫‪  8‬ـ يوسف‪ ،‬الصديق‪ :‬اآلخر واآلخرون يف القرآن‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪،‬‬
‫‪ ،2015‬ص ‪.14-13‬‬ ‫‪4 . Arnaldez, Roger (1911- 2006); «Ibn Rus̲h̲d», Encyclopedia of‬‬
‫‪  9‬ـ مل يقترص األمر عىل كتب ابن رشد يف الفلسفة وإنَّ ا تعلقت املسألة أيضاً‬ ‫‪Islam, Tom3, Leiden, E, J, Brill, 1971.‬‬
‫مبؤلّفاته يف الفقه‪ ،‬ففي بداية املجتهد ونهاية املقتصد» بني مختلف وجوه‬ ‫‪  5‬ـ مل يستطع الفكر العريب املعارص اتخاذ موقف واضح من فلسفة ابن رشد‬
‫الحاجة إىل إعامل العقل باعتامد آليات عديدة (القياس‪ )... ،‬لتجاوز مظاهر‬ ‫والرشديَّة‪ ،‬فلنئ انترص أغلب املفكرين العرب املعارصين البن رشد (فرح أنطون‪،‬‬
‫التقليد والجمود الفقهي‪.‬‬ ‫محمد أركون‪ ،‬محمد املصباحي‪ ،‬جامل الدين العلوي‪ ،‬محمد عابد الجابري‪ ،‬عبد‬
‫راجع يف هذا الشأن حسن الڤروايش‪ :‬املنطوق به واملسكوت عنه يف فقه ابن رشد‬ ‫املجيد الرشيف‪ ،‬يوسف الصديق‪ )... ،‬فإ َّن مث َّة من يرفض االحتكام إىل رؤى ابن‬
‫الحفيد‪ ،‬الدار التونسيَّة للنرش‪ ،‬سلسلة موافقات عــ‪06‬ـدد‪ ،‬ط ‪ ،1‬تونس‪.1993 ،‬‬ ‫رشد واملبادئ التي نادى بها (طه عبد الرحمن‪ ،‬عبد املجيد الصغري)‪ .‬راجع عىل‬
‫الصمد‬
‫املعبة عن ذلك كتاب مقامع الصلبان ألحمد بن عبد َّ‬
‫‪  10‬ـ من األمثلة ّ‬ ‫سبيل املثال اختالف املفكرين املغاربة يف ذلك عند عبد النبي الحري‪ ،‬صورة ابن‬
‫الشيف‪،‬‬
‫الخزرجي األندليس (‪ 519‬هـ ‪ 582 -‬هــ) الّذي حقّقه عبد املجيد ّ‬ ‫رشد يف الفكر املغريب املعارص‪ ،‬املركز الثقايف العريب ومؤسسة مؤمنون بال حدود‪،‬‬
‫مركز الدراسات واألبحاث االقتصاديَّة واالجتامع َّية‪ ،‬الجامعة التونس َّية‪ ،‬سلسلة‬ ‫ط ‪ ،1‬الدار البيضاء املغرب‪ .2015 ،‬ص ‪.263‬‬
‫الدراسات اإلسالميَّة‪ ،‬تونس‪.1975 ،‬‬ ‫‪  6‬ـ انظر يف ذلك فرح أنطون‪ :‬ابن رشد وفلسفته‪ ،‬تقديم طيّب تيزيني‪ ،‬دار‬
‫‪  11‬ـ انظر الرسائل املتبادلة بني عيل بن أيب طالب ومعاوية بن أيب سفيان التي‬ ‫الفارايب‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪ .1988 ،‬ومح ّمد عابد الجابري‪ :‬ابن رشد سرية وفكر‬
‫جمعها عبد الحميد بن أيب الحديد يف «رشح نهج البالغة»‪ ،‬مراجعة وتحقيق‬ ‫(دراسة نصوص)‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪.1998 ،‬‬
‫الشّ يخ حسن متيم‪ ،‬تحت إرشاف لجنة إحياء الذّخائر يف دار مكتبة الحياة‪ ،‬مكتبة‬ ‫‪7 . Urvoy, Dominique, Averroès: Les ambitions d’un intellectuel‬‬
‫الحياة‪ ،‬بريوت لبنان‪.1979 ،‬‬ ‫‪musulman, Flammarion, Collection Champs Biographie, Paris,‬‬
‫‪  12‬ـ انظر أبا عثامن عمرو بن بحر‪ ،‬الجاحظ (ت ‪ 255‬هـ)‪ :‬كتاب العثامنية‪،‬‬ ‫‪2008, ch 7.‬‬

‫‪369‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫سم َّية املحفوظي‬ ‫شخصيات وأعالم‬

‫مدونات الفلسفة اإلسالم َّية القديمة‪.‬‬


‫أهم َّ‬
‫من ِّ‬ ‫السريايف (ت ‪368‬ﻫ) ‪ /‬متَّى بن يونس ال ُقنَّائي (ت‬ ‫أبو سعيد ِّ‬
‫أن أكثر املجادالت صدى تلك املجادلة التي قامت‬ ‫‪328‬ﻫ)‪.13‬عىل َّ‬
‫حجة اإلسالم وابن‬ ‫إن القارئ للكتابني يالحظ اهتامم َّ‬ ‫َّ‬ ‫بني الفيلسوف ابن رشد واملتكلم أيب حامد الغزايل‪.‬‬
‫رشد بمناقشة قضايا قدم العامل وحدوثه وصفات الذات‬
‫اإلهل َّية‪ .‬وقد اقتىض الر ُّد عىل الفالسفة املسلمني أمثال املعلم‬ ‫وما يم ّيز هذه املجادلة هو أنَّه مل يكن بني الطرفني تواصل أو‬
‫الثاين الفارايب (‪260‬هـ‪339 /‬هـ)‪ 16‬والشيخ الرئيس ابن سينا‬ ‫والتصورات‪ ،‬وإنَّام هنض أبو الوليد‬
‫ُّ‬ ‫تبادل للرسائل واألفكار‬
‫(‪370‬هـ ‪428/‬هـ)‪ 17‬اقتىض من الغزايل اخلوض يف تلك‬ ‫أن ذاعت أفكاره والقت القبول‬ ‫حجة اإلسالم بعد ْ‬‫للر ِّد عىل َّ‬
‫القضايا‪ ،‬و َّملا انربى ابن رشد للدفاع عن الفكر الفلسفي ‪-‬‬ ‫واالنتشار‪ ،‬حتى غدا الغزايل منارة هيتدي بنورها حماربو الفلسفة‬
‫حجة‬
‫زلت َّ‬ ‫وليس بالرضورة الفالسفة ‪ -‬من خالل تت ُّبع َّ‬ ‫وأعداؤها‪.‬‬
‫فإن تناول تلك اإلشكاليات يف الكتابني ُيعدُّ حجر‬ ‫اإلسالم َّ‬
‫األساس الذي ال سبيل البتَّة إىل فهم مواقف الفالسفة ما مل‬ ‫وقد تعدَّ دت جماالت االختالف والتباعد ومستويات‬
‫يقف الطرفان عليها (القضايا)‪.‬‬ ‫أن ما‬ ‫اعرتاض أيب الوليد عىل رؤى الغزايل ومواقفه‪ ،‬عىل َّ‬
‫حجة اإلسالم‬ ‫يسرتعي االنتباه هو‪ :‬ملاذا اختذ أبو الوليد من َّ‬
‫كل واحد منهام مقاربته عىل أسس خمتلفة للمسألة‪،‬‬ ‫وقد بنى ُّ‬ ‫حماور ًا له‪/‬خص ًام؟ هل اختار ابن رشد الغزايل حماور ًا أم َّ‬
‫أن أبا‬
‫تصور ال يرى للفلسفة والفالسفة القدرة‬‫فلئن انطلق الغزايل من ُّ‬ ‫أهم الدواعي التي‬ ‫حامد قد فرض نفسه عىل أيب الوليد؟ وما ُّ‬
‫فإن ابن رشد نحا منحى مغاير ًا‬
‫عىل إدراك القضايا امليتافيزيق َّية‪َّ ،‬‬ ‫بطريف املحاورة إىل تبنِّي مواقف دون أخرى؟ وما الذي‬ ‫ْ‬ ‫دفعت‬
‫عندما ذهب إىل القول بإمكان َّية تناول تلك القضايا باعتامد‬ ‫جيمع بينهام يف املستوى الفكري واملنهجي؟ وما األدوار التي‬
‫التأويل‪ ،‬بام هو مسلك خاص ال يقدر عىل اتباعه إال أصحاب‬ ‫لعبها الواقع املعيش السيايس واالجتامعي والثقايف يف بناء آراء‬
‫الربهان‪.‬‬ ‫حجة اإلسالم وآراء ابن رشد؟‬ ‫َّ‬

‫نفى الغزايل قدرة العقل عىل تناول حقائق األمور اإلهل َّية‪ ،‬ففي‬ ‫اتّصل نقد الغزايل للفالسفة ور ُّد أيب الوليد عليه‬
‫«املنقذ من الضالل» خيربنا َّ‬
‫بأن ما انتهى إليه يف بحثه عن احلقيقة‬ ‫‪14‬‬
‫بمجموعة من القضايا امليتافيزيق َّية( ‪)Métaphysique‬‬
‫والتيولوج َّية( ‪ 15 )Théologie‬التي جعلت من التهافتني‬
‫عويدات‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬ط ‪ ،2‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،2001 ،‬ص ‪ 1451‬أ َّن هذا‬
‫العلم يبحث يف صفات الله وصالته بالعامل وباإلنسان‪.‬‬ ‫تحقيق ورشح عبد السالم مح َّمد هارون‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت‪ ،‬لبنان‪( ،‬د ت)‪.‬‬
‫‪ 16‬ـ هو أبو نرص مح ّمد بن مح ّمد بن طرخان امللقّب باملعلّم الثاين‪ ،‬ولد يف‬ ‫‪  13‬ـ رفض السريايف الرأي القائل إ َّن املنطق األرسطي هو األداة الوحيدة القادرة‬
‫فاراب (تقع عند البعض يف بالد فارس‪ ،‬وهي عند البعض اآلخر تقع يف بالد‬ ‫عىل متييز الصحيح من الخطأ‪ ،‬وذلك بقوله‪ ...« :‬إذا كان املنطق وضعه رجل‬
‫الرتك)‪ُ ،‬عرف بإملامه بالطب واملوسيقى والرياضيات والفقه والفلسفة‪ ،‬وقد وضع‬ ‫من يونان عىل لغة أهلها واصطالحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها‬
‫رشوحاً عديدة للفلسفة اليونانيَّة‪ ،‬ومن أه ّم ما كتب‪« :‬آراء يف املدينة الفاضلة»‪،‬‬ ‫التك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه‬
‫وصفاتها‪ ،‬فمن أين يلزم ُّ‬
‫و«السياسة املدن َّية»‪ ،‬وكتاب «الجمع بني رأيَي الحكيمني»‪ ،‬و«كتاب الربهان»‪،‬‬ ‫قاضياً وحكامً لهم وعليهم‪ ،‬ما شهد لهم به قبلوه‪ ،‬وما أنكره رفضوه؟» راجع أبا‬
‫و«عيون املسائل»‪ ،‬و«إحصاء العلوم»‪...‬‬ ‫ح ّيان التوحيدي‪ :‬اإلمتاع واملؤانسة‪ ،‬تصحيح أحمد أمني وأحمد الزين‪ ،‬دار مكتبة‬
‫الطب‬
‫‪ 17‬ـ أبو عيل الحسن بن عبد الله بن سينا امللقّب بالشيخ الرئيس‪ ،‬برع يف ّ‬ ‫الحياة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪( ،‬د ت)‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.110‬‬
‫واملنطق والعلوم الرشعيَّة والنحو والرياضيات‪ ،‬ومن أه ّم ما كتب‪« :‬اإلشارات‬ ‫‪ 14‬ـ تتك ّون امليتافيزيقا من كلمتني‪ ،‬وهام ميتا ‪ μετά‬أي «ما بعد‪/‬ما وراء»‬
‫والتنبيهات»‪ ،‬و«الشفاء»‪ ،‬و«القانون»‪ ،‬و«الحكمة املرشق ّية» ‪ ،...‬وقد تأث ّر‬ ‫والفيزيقا ‪ φυσικά‬الطبيعة‪ ،‬مبعنى ما وراء الطبيعة‪ ،‬ما بعد الطبيعة‪.‬‬
‫ابن سينا بالفارايب وفالسفة اإلغريق (أرسطو‪ )..،‬وفالسفة مدرسة اإلسكندريَّة‬ ‫اللتين ّية ‪ Theologia‬خطاب اإلنسان حول الله‪ ،‬وقد َّبي‬
‫‪  15‬ـ تعني الكلمة ّ‬
‫(أفلوطني‪.)... ،‬‬ ‫أندريه الالند‪ ،‬موسوعة الالند الفلسفيَّة‪ ،‬ترجمة خليل أحمد خليل‪ ،‬إرشاف أحمد‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪370‬‬
‫شخصيات وأعالم‬ ‫ابن رشد احلفيد‬

‫يف اإلهل َّيات من فساد‪ .‬فاملسائل الطبيع َّية التي تناوهلا يف «هتافت‬ ‫« مل يكن ‪ ...‬بنظم دليل وال ترتيب كالم‪ ،‬بل بنور قذفه اهلل تعاىل‬
‫الفالسفة» والتي متثل أربع مسائل تدور عىل قضايا متَّصلة اتِّصاالً‬ ‫يف الصدر»‪.18‬‬
‫الست عرشة املتبقية واملتعلقة باإلهل َّيات‪ ،‬ويف ذلك‬
‫َّ‬ ‫شديد ًا بالقضايا‬
‫أن الكتاب نقد آلراء الفالسفة يف اإلهل َّيات‪ .‬فالنظر يف‬ ‫تأكيد عىل َّ‬ ‫حجة اإلسالم‬‫عمقه َّ‬ ‫صويف واضح املالمح‪َّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫ويف الكالم ن َف ٌس‬
‫جوهر النفس وعالقتها بالبدن وخلود النفس والسبب َّية مباحث‬ ‫يف «املقصد األسنى يف أسامء اهلل احلسنى»‪ ،‬ويف «معارج القدس‬
‫كانت الغاية من تناوهلا إبراز مناقضة الفالسفة للعقيدة اإلهل َّية‪.‬‬ ‫يف مدارج معرفة النفس‪ ،»،‬ويف جممل ما كتب الغزايل بعد «املنقذ‬
‫تصور جيعل‬
‫وكل ُّ‬ ‫من الضالل» سعي إىل قطع الطريق عىل العقل ّ‬
‫وقد م َّيز الغزايل بني مستويات عديدة من العلوم‪ ،‬منها موافقة‬ ‫قضايا التوحيد موضع سؤال وتفكري عقيل‪ ،‬باعتبار إقحام العقل‬
‫الفالسفة األخذ بالعلوم الرياض َّية واملنطق َّية‪ ،‬فـ« الرياضيات‬ ‫السوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يف تلك القضايا فيه حياد عن الطريق‬
‫[‪ ]...‬هي نظر يف الكم املنفصل ‪ -‬وهو احلساب ‪ -‬فال تع ّلق‬
‫لإلهل َّيات به»‪.22‬‬ ‫وفيام يتعلق هبذه املسألة َّنزل الباحثون القدامى واملعارصون‬
‫تكفري الغزايل للفالسفة وتبديعه هلم يف مجلة من القضايا‪ ،‬فمن‬
‫بالكم املتصل‪،‬‬‫ّ‬ ‫وكذلك الشأن بالنسبة إىل اهلندسة التي تتع ّلق‬ ‫أن أبا حامد ك َّفر الفالسفة يف ثالث مسائل‪ 19‬وبدَّ عهم يف‬
‫املعلوم َّ‬
‫وحقائقها ال تقدح « يف يشء من النظر اإلهلي»‪ .23‬وقد هاجم‬ ‫سبع عرشة مسألة ‪.20‬‬
‫حجة اإلسالم أسلوب الفالسفة يف معاجلة القضايا امليتافيزيق َّية‬ ‫َّ‬
‫الذي يتمثل باألساس يف اعتامد الرياض َّيات واملنطق َّيات مداخل‬ ‫َّ‬
‫إن تلك اإلشكال َّيات موصولة بقضايا عدَّ ها الغزايل من أصول‬
‫أن هذا األسلوب هو شكل من‬ ‫للقضايا امليتافيزيق َّية زاع ًام َّ‬ ‫الدين‪ ،‬فالنزاع « يتعلق [‪ ]...‬بأصل من أصول الدين‪ ،‬كالقول يف‬
‫أشكال اخلداع والتمويه التي يستند عليها الفالسفة يف استاملتهم‬ ‫حدوث العامل وصفات الصانع وبيان حرش األجساد واألبدان‪.‬‬
‫للجمهور‪ ،24‬وهو بذلك عمد إىل الفصل بني املقدِّ مات التي انطلق‬ ‫وقد أنكروا [الفالسفة] مجيع ذلك‪ ،‬فهذا الف ُّن ونظائره هو الذي‬
‫إن ما انتهوا‬ ‫منها الفالسفة والنتائج التي بلغوها‪ ،‬وذلك بالقول َّ‬ ‫أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه»‪. 21‬‬‫ينبغي ْ‬
‫إليه غري صحيح وال يقني فيه‪ ،‬وهو إذ يفعل ذلك فلكي حي ِّقق‬
‫مقصده املتم ّثل يف توحيد «مجيع الفرق إلب ًا واحد ًا عليهم‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫حظيت القضايا امليتافيزيق َّية باحليز األكرب من كتابه‪ ،‬ففي خطبة‬
‫يتعرضون ألصول‬ ‫سائر الفرق ر َّبام خالفونا يف التفصيل‪ ،‬وهؤالء َّ‬ ‫كتاب «هتافت الفالسفة» م َّيز بني ثالثة رضوب من الفالسفة‬
‫الدّ ين فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب األحقاد» ‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫مهته عىل كشف‬ ‫(الدهريون‪ ،‬الطبيعيون‪ ،‬اإلهليون)‪ ،‬وقد قرص َّ‬
‫ما انطوت عليه مواقف الفالسفة املسلمني (ابن سينا‪ ،‬الفارايب)‬
‫صنَّف الغزايل الفالسفة‪ ،‬وم َّيز بني أصناف العلوم‪ ،‬وحدَّ د‬
‫جماالت تفكري العقل البرشي من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى انترص‬ ‫‪  18‬ـ أبو حامد الغزايل‪ :‬املنقذ من الضالل‪ ،‬تحقيق وتقديم سميَّة املحفوظي‪،‬‬
‫للمتكلمني ورام دفعهم إىل هداية العا َّمة بإجلام الفالسفة‪.‬‬ ‫مكتب التبادل الثقايف اإلسالمي املسيحي‪ ،‬فريجينيا الواليات املتحدة األمريكية‪،‬‬
‫‪ ،2013‬ص ‪.97‬‬
‫يتوجه‬ ‫وال تفوتنا يف هذا املقام اإلشارة إىل َّ‬
‫أن كتاب الغزايل مل َّ‬ ‫‪  19‬ـ تتعلق هذه املسائل بـقول الفالسفة بقدم العامل وأزليته‪ ،‬وبإنكارهم حرش‬
‫حيرض عىل «إجلام‬ ‫فحجة اإلسالم ما َّ‬
‫انفك ّ‬ ‫َّ‬ ‫باخلطاب إىل العا َّمة‪،‬‬ ‫األجساد‪ ،‬وقولهم إ ّن الله يعلم الكليَّات دون الجزئيَّات‬
‫‪  20‬ـ نذكر منها مذهبهم يف نفي الصفات‪ ،‬ويف أ ّن األول بسيط بال ماهية‪ ،‬وقولهم‬
‫‪ 22‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.84‬‬ ‫باستحالة خرق العادات‪ ،‬وبأ ّن نفس اإلنسان جوهر قائم بنفسه وليس بجسم‬
‫‪  23‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫وال عرض‪.‬‬
‫‪  24‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫‪  21‬ـ أبو حامد الغزايل‪ :‬تهافت الفالسفة‪ ،‬تحقيق وتقديم سليامن دنيا‪ ،‬دار‬
‫‪  25‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.83‬‬ ‫املعارف‪ ،‬ط ‪ ،4‬القاهرة مرص‪ ،1966 ،‬ص ‪.81‬‬

‫‪371‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫سم َّية املحفوظي‬ ‫شخصيات وأعالم‬

‫الساسة ‪ .30‬وقد رام من خالل ذلك تقويض مواقف الغزايل‬ ‫العوام عن علم الكالم»‪ ،‬والنأي هبم عن قضايا اإلهل َّيات‪ ،‬وهو ما‬
‫ومنطلقاهتا والتشكيك يف صدق رسيرة أيب حامد‪ ،‬وزاد عىل ذلك‬ ‫جيعل من الكتاب دعوة للمتكلمني إىل مواجهة الفالسفة الذين‬
‫ْ‬
‫بأن أكَّد عىل سوء فهمه ملا ذهب إليه الفالسفة من آراء‪ .‬وقد كان‬ ‫ع ّطلوا «وظائف اإلسالم من العبادات واستحقروا شعائر الدين‬
‫مقصد أيب الوليد من وراء ذلك زحزحة السلطة الرمزية للغزايل‬ ‫من وظائف الصلوات والتوقي عن [من] املحظورات واستهانوا‬
‫كي يسهل دحض أفكاره‪.‬‬ ‫بتع ُّبدات الرشع وحدوده ومل يقفوا عند توقيفاته وقيوده‪ ،‬بل خلعوا‬
‫بالكُل َّية ربقة الدين بفنون من الظنون‪ ،‬يتبعون رهط ًا يصدُّ ون عن‬
‫حلجة اإلسالم‬
‫أن يكيل ابن رشد التُّهم َّ‬ ‫وال غرابة بعد ذلك ْ‬ ‫سبيل اهلل ويبغوهنا عوج ًا وهم باآلخرة هم كافرون‪ ،‬وال مستند‬
‫وخيرجه من اإلسالم اعتامد ًا عىل اآلل َّيات نفسها التي اعتمدها‬ ‫لكفرهم غري تقليد سامعي كتقليد اليهود والنصارى ‪. 26» ....‬‬
‫صاحب «هتافت الفالسفة»‪ ،‬فالغزايل باعتباره «الداعي إىل الكفر‬
‫كافر»‪.31‬‬ ‫وقد َّبي الغزايل املقصود بالفالسفة الذين أخذوا بالظن‬
‫وحرصوا عىل الصدّ عن سبيل اهلل‪ ،‬والذين سلكوا طريق‬
‫آىل «الشارح األكرب» عىل نفسه الر َّد عىل الغزايل ودفع أذاه الذي‬ ‫الضالل‪ ،‬فإذا به يقصد الفارايب وابن سينا باألساس‪.27‬‬
‫طال الفلسفة قبل الفالسفة محاية للرشيعة‪ ،‬فأبو حامد مل حيتم‬
‫عول عىل األقاويل اجلدل َّية واألقاويل اخلطاب َّية‪،‬‬
‫بالربهان بقدر ما َّ‬ ‫‪ 2‬ـ ابن رشد والقول َّ‬
‫إن إحياء الفلسفة إحيا ٌء لعلوم الدين‬
‫شأنه يف ذلك شأن مجيع املتك ّلمني الذي حيتكمون إىل املذهب قبل‬ ‫حدَّ د ابن رشد احلفيد لكتاب «هتافت التهافت» هدف ًا واضح ًا‬
‫يتم َّثل يف إبراز «قصور أكثرها [أقاويل الغزايل] عن رتبة اليقني‬
‫‪  30‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪ .79‬وقد َّبي مح َّمد يوسف إدريس يف «الجسد املُ عذّب يف‬ ‫والربهان»‪. 28‬‬
‫الثّقافة العرب َّية اإلسالم َّية من القرآن الكريم إىل ال ُّنصوص الحواف» بحث منشور‬
‫عىل املوقع اإللكرتوين ملؤسسة مؤمنون بال حدود (قسم الدراسات الدينيَّة)‬ ‫وقد عمد ابن رشد إىل إخراج الغزايل من دائرة الفلسفة‪ ،‬فلئن‬
‫بتاريخ ‪ 14‬مايو ‪َّ ،2013‬بي أ َّن الهاجس الرئيس للغزايل هو ر ُّد امل ّد الباطني‬ ‫حجة االسالم نفسه فيلسوف ًا َّ‬
‫فإن أبا الوليد حرص عىل‬ ‫مل يعترب َّ‬
‫الذي يهدّد بقاء الخالفة العباسيَّة والسلطة السلجوقيَّة‪ ،‬وهو ما دفع بالغزايل‬ ‫إبراز قرص باع أيب حامد يف الفلسفة‪ ،‬فهو املجادل الذي مل يستطع‬
‫إىل مهاجمة الفالسفة (ابن سينا‪ ،‬الفارايب‪ )...،‬الذين اعتنقوا املذهب الشيعي‪،‬‬ ‫وتبي مقاصدهم واستيعاب منطقهم‪،‬‬ ‫اإلحاطة بآراء الفالسفة ّ‬
‫فــ«الغزايل عندما وضع «فضائح الباطنيَّة وفضائل املستظهريَّة» و«تهافت‬ ‫أن الفلسفة ‪ -‬احلكمة هي «النظر يف األشياء بحسب‬ ‫فالغزايل مل ي ِع َّ‬
‫الفالسفة» مل يكن يواجه خصوماً متكلّمني‪ ،‬وإنَّ ا كان يواجه خصوماً سياسيني‪،‬‬ ‫ما تقتضيه طبيعة الربهان» ‪ ،29‬وهو ما ترتَّب عليه اخللط بني‬
‫يفس محاولته توجيه رضبة قاصمة لهم باعتامد الدّين‪ ،‬فالفكر الشّ يعي‬
‫وهو ما ّ‬ ‫مباحث الفلسفة والدين وعدم الوعي بمسالك أهل الربهان يف‬
‫الذي اتّخذ منزعاً روحانياً‪ ،‬متأثّرا ً بفلسفة ابن سينا والفارايب وإخوان ّ‬
‫الصفا وخالن‬ ‫تبي حقائق األشياء‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫يزج بالعامة يف الرصاعات السياسيَّة‪ ،‬ويف املقابل فإ َّن تحييد‬
‫الوفا‪ ،‬من شأنه أ ْن َّ‬
‫العا َّمة ال يتحقّق ما مل يت ّم لفت األنظار إىل اآلخرة‪ ،‬وليس‪ ‬لآلخرة معنى ما مل‬ ‫ف ابن رشد احلفيد اعتقاده َّ‬
‫بأن تأليف الغزايل «هتافت‬ ‫ومل ُي ِ‬
‫يكن العقاب فيها حسياً‪ ،‬وليس مث َّة آلة تع ّمق هذا الشعور أكرث من الجسد‪،‬‬ ‫الفالسفة» كان بتأثري من واقعه وبرغبة من مؤ ّلفه يف كسب و ّد‬
‫فأمل الجسد تدركه العوام وتخشاه‪ ،‬وهو ما من شأنه أ ْن يدفعهم إىل ترك الدنيا‬
‫ورصاعاتها ‪ -‬فهي مورثة الفنت واملهالك‪ -‬ألهلها وااللتفات إىل اآلخرة باالعتكاف‬ ‫‪  26‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.73‬‬
‫بتغي‬
‫تتغي ُّ‬
‫يف املساجد‪ ....،‬إ َّن آراء الغزايل ال تنبع من تص ُّور فكري وعقدي‪ ،‬وإنّ ا َّ‬ ‫‪  27‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.78‬‬
‫املقامات والغايات التي من أجلها أُلّف هذا الكتاب أو ذاك»‪.‬‬ ‫‪  28‬ـ أبو الوليد بن رشد‪ :‬تهافت التهافت‪ ،‬تحقيق وتقديم سميَّة املحفوظي‪،‬‬
‫‪  31‬ـ أبو الوليد ابن رشد‪ :‬فصل املقال فيام بني الحكمة والرشيعة من االتصال‪،‬‬ ‫مكتب التبادل الثقايف اإلسالمي املسيحي‪ ،‬فريجينيا الواليات املتحدة األمريكية‪،‬‬
‫تصدير مح َّمد عيل الحلواين‪ ،‬رساس للنرش‪ ،‬سلسلة عنارص‪ ،‬ط ‪ ،1‬تونس ‪،1994‬‬ ‫‪ ،2015‬ص ‪.25‬‬
‫ص ‪.42‬‬ ‫‪  29‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.232‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪372‬‬
‫شخصيات وأعالم‬ ‫ابن رشد احلفيد‬

‫بتحريف أقوال الفالسفة‪ .‬أ َّما الثاين فقد سار عىل غري منهج واضح‬ ‫يتحل باألمانة يف نقل أقوال‬ ‫االحتكام إىل العقل‪ ،‬وآية ذلك أنَّه مل َّ‬
‫وخبط خبط عشواء فأحلق الرضر العظيم بالرشيعة والفلسفة بام‬ ‫حرف ما قاال‪ ،32‬ومل يع َّأنام مل يتم ّثال ما‬‫ابن سينا والفارايب‪ ،‬فقد َّ‬
‫أهم نتائجها الفصل بني احلكمة‬ ‫نرشه من تعاليم خاطئة كانت من ّ‬ ‫ذهب إليه أرسطوطاليس التّم ّثل القويم ‪ ،‬فابن سينا خلط بني‬
‫‪33‬‬

‫‪ -‬الفلسفة والرشيعة ‪ ،37‬وكان ال ُبدَّ من إبراز«فصل املقال وتقرير‬ ‫الفلسفة والدّ ين وحما احلدود القائمة بينهام‪ ،‬وهو ما يقتيض يف‬
‫ما بني احلكمة والرشيعة من االتصال»‪ ،‬ذلك َّ‬
‫أن الرشيعة بام هي‬ ‫تقديره العودة إىل نصوص أرسطو بدالً من التعويل عىل اآلراء‬
‫احلق‪ ،‬فإنَّنا ـ معرش املسلمني ـ‬
‫دعوة «إىل النظر املؤ ّدي إىل معرفة ّ‬ ‫التي نسبها الفالسفة املسلمون (ابن سينا‪ ،‬الفارايب‪ )...،‬إليه‪.34‬‬
‫نعلم عىل القطع أنَّه ال يؤ ّدي النظر الربهاين إىل خمالفة ما ورد به‬
‫فإن احلق ال يضاد احلق بل يوافقه ويشهد له»‪.38‬‬ ‫الرشع‪َّ ،‬‬ ‫ظل يتحرك يف السياق‬ ‫أن ابن رشد َّ‬ ‫ويف هذا املستوى نالحظ َّ‬
‫حترك فيه الغزايل‪ ،‬فالعقل يف تقدير فيلسوف‬ ‫املعريف نفسه الذي َّ‬
‫إن البحث العقيل يف‬ ‫ولعل ذلك ما دفع بابن رشد إىل القول َّ‬ ‫قرطبة قارص عن إدراك مجلة من القضايا امليتافيزيق َّية إدراك ًا يقيني ًا‪،‬‬
‫النبوة والوحي ومعاين اللوح املحفوظ ومعاين القلم‬ ‫َّ‬ ‫قضايا‬ ‫عب عنه من خالل رفضه خوض املتكلمني يف منزلة‬ ‫وهو ما َّ‬
‫ألنا متع ّلقة بعامل الغيب‬
‫واملعجزات ال ُيوصل إىل رأي سديد‪َّ ،‬‬ ‫لف لفهم –‬ ‫الذات اإلهل َّية وصفاهتا‪ .‬فاملعتزلة واألشعر َّية ومن َّ‬
‫أكثر من اتصاهلا بعامل الشهادة‪ ،39‬ولذلك مل ُينسب إىل الفالسفة‬ ‫املاتوريد َّية‪ - ...،35‬عاجلوا إشكاليات فلسف َّية باألساس‪ ،‬فإقرار‬
‫القدامى آراء يف تلك القضايا‪ ،‬فمبادئ الرشائع ال تقبل التشكيك‬ ‫بأن الصفات هي عني الذات أو نفي األشاعرة لذلك‬ ‫املعتزلة َّ‬
‫عندهم وال حاجة إىل فحصها‪ ،‬فـ«وجودها هو أمر إهلي معجز‬ ‫واعتبارهم الصفات زائدة عىل الذات قد انتهى إىل نتيجة واحدة‬
‫عن إدراك العقول اإلنسان َّية»‪.40‬‬ ‫تتمثل يف الوقوع يف املحظور وإتيان ما عابوه عىل الفالسفة من‬
‫عم مل تأمر به الرشيعة لكون قوى‬ ‫«تعدٍّ عىل الرشيعة وفحص َّ‬
‫خرج الغزايل يف عرف فيلسوف قرطبة عن احلياد عندما عمد‬ ‫كل ما سكت عنه الرشع‬ ‫البرش مقرصة عن هذا‪ ،‬وذلك أنَّه ليس ُّ‬
‫إىل تكفري الفالسفة يف مواقفهم من اإلهل َّيات‪ ،‬واحلال َّ‬
‫أن مواقفهم‬ ‫ويرصح للجمهور بام أ َّدى إليه‬ ‫َّ‬ ‫أن يفحص عنه‬ ‫من العلوم جيب ْ‬
‫احلق فتبلغه أو حتيد عنه‪ ،‬ذلك‬
‫أن تكون اجتهادات تطلب َّ‬ ‫ال تعدو ْ‬ ‫النظر عىل أنَّه من عقائد الرشع‪ ،‬فإنَّه يتو ّلد عن [كذا] ذلك مثل‬
‫احلق‪ ،‬ولو مل يكن هلم إال هذا القصد‬
‫أن «قصدهم إنَّام هو معرفة ّ‬ ‫َّ‬ ‫هذا التخليط العظيم»‪.36‬‬
‫لكان ذلك كافي ًا يف مدحهم‪ ،‬مع أنَّه مل يقل أحد من الناس يف‬
‫العلوم اإلهل َّية قوالً ُيعتدُّ به» ‪.41‬‬ ‫ويف ذلك رفض واضح آلراء ابن سينا من جهة‪ ،‬وآلراء الغزايل‬
‫فاألول خاض يف قضايا امليتافيزيقيا دون برهان‪،‬‬
‫َّ‬ ‫من جهة أخرى‪،‬‬
‫وهو ما انتهى به إىل اخللط بني الفلسفة وامليتافيزيقا‪ ،‬وذلك‬
‫‪  37‬ـ أبو الوليد بن رشد‪ ،‬الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امللّة‪ ،‬تقديم مح َّمد‬
‫عابد الجابري‪ ،‬مركز دراسات ال َوحدة العربيَّة‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪ ،1998 ،‬ص ص‬ ‫‪  32‬ـ أبو الوليد بن رشد‪ :‬تهافت التهافت‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.297‬‬
‫‪.152-150‬‬ ‫‪  33‬ـ راجع الدور الذي لعبته الفلسفة اإلغريق َّية يف بناء املنت الفلسفي الرشدي‬
‫‪  38‬ـ أبو الوليد بن رشد‪ :‬فصل املقال فيام بني الحكمة والرشيعة من االتصال‪،‬‬ ‫عند املسكيني‪ ،‬فتحي‪ ،‬ابن رشد واإلغريق‪ :‬الفلسفة وسياسة الحقيقة‪ ،‬مجلة‬
‫املرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.27‬‬ ‫دراسات عرب َّية‪ ،‬العـ‪ 3‬و‪4‬ـددان‪ ،‬جانفي ‪ -‬فيفري ‪ ،1999‬ص ص ‪.74-63‬‬
‫‪  39‬ـ راجع يف ذلك عىل سبيل الذكر مح َّمد املصباحي‪ :‬فلسفة ابن رشد‪ ،‬مركز‬ ‫ِ‬
‫يكتف يف كتاب «تهافت‬ ‫‪  34‬ـ نشري يف شأن هذه املسألة إىل أ َّن ابن رشد مل‬
‫دراسات الوحدة العرب َّية‪ ،‬بريوت لبنان‪ 2011 ،‬وجامل الدين‪ ،‬العلوي (‪1945‬م‪-‬‬ ‫التهافت» بال ّر ِّد عىل الغزايل‪ ،‬ففي العديد من املواضع وجدناه يدحض ما ذهب‬
‫‪1992‬م)‪ ،‬املنت الرشدي‪ ،‬مدخل لقراءة جديدة‪ ،‬دار توبقال للنرش‪ ،‬الدار البيضاء‬ ‫إليه الفالسفة املسلمون ‪ -‬ابن سينا عىل وجه الخصوص ‪ -‬ال سيَّام يف مسألة‬
‫املغرب‪.1986 ،‬‬ ‫الفيض ‪.L’émanation La procession‬‬
‫‪  40‬ـ أبو الوليد بن رشد‪ :‬تهافت التهافت‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.501-500‬‬ ‫‪  35‬ـ نسبة إىل أيب منصور املاتريدي (ت ‪ 331‬هـ) املولود يف «ما تريد‪ /‬سمرقند»‪.‬‬
‫‪  41‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.376‬‬ ‫‪  36‬ـ أبو الوليد بن رشد‪ :‬تهافت التهافت‪ ،‬املرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.432‬‬

‫‪373‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫سم َّية املحفوظي‬ ‫شخصيات وأعالم‬

‫ينزل عنده منزلة الرضورة‪. 47‬‬


‫الفلسفة والدين َّ‬ ‫فام أقدم عليه الغزايل ُي َّنزل عند ابن رشد منزلة العمل الرشير‬
‫الذي ُيراد به تزييف احلقائق ومحل الناس عىل االعتقاد يف أمور‬
‫حممد املصباحي يف «إشكال َّية العقل عند ابن رشد» إىل‬‫وقد ن َّبه َّ‬ ‫عب عن انخراطه‬ ‫صحتها رشع ًا وعقالً‪ .‬فام قام به الغزايل ُي ّ‬
‫مل تثبت َّ‬
‫رضورة الوعي َّ‬
‫بأن « العقل مستقل عن احلقيقة‪ ،‬واحلقيقة مستقلة‬ ‫يف مرشوع األشاعرة الذين سعوا إىل «إبطال احلكمة الرشع َّية‬
‫أن يعني ذلك) أبد ًا انزواء ِّ‬
‫كل واحد منهام يف‬ ‫عن العقل (دون ْ‬ ‫والعقل َّية وباجلملة العقل» ‪.42‬‬
‫داخله (من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى استطاع ابن رشد كشف‬
‫املتصوفة الفقهاء التي) هتدّ د القول‬
‫ّ‬ ‫نقائص) العقول (عقول‬ ‫إن السؤال الرئيس الذي دار عليه اخلالف بني ابن رشد‬ ‫َّ‬
‫وتزج بالعقل يف متاهات اجلزئ َّيات» ‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫ُّ‬ ‫الفلسفي‬ ‫احلق؟‪.‬‬
‫أي دور يلعبه العقل يف الوصول إىل ّ‬
‫والغزايل هو‪ّ :‬‬

‫وال غرابة يف ذلك‪ ،‬فاملباحث الرشد َّية سواء تلك املتعلقة‬ ‫هذا السؤال ُيعترب السؤال املحوري الذي انشدَّ ت إليه الفلسفة‬
‫باملدونة الفقه َّية والدين َّية أو املتعلقة بالقضايا الفلسف َّية قامت‬
‫ّ‬ ‫اإلسالم َّية القديمة يف أغلب أزمنتها‪ ،‬عىل اختالف املقاربات‬
‫عىل ثنائيات عديدة منها (العقل‪ /‬النقل) (الفلسفة‪ /‬الوحي)‬ ‫والتوجهات‪ .‬فابن رشد راهن عىل َوحدة العقل البرشي املتج ّلية‬ ‫ُّ‬
‫(التفكري‪ /‬اإليامن)‪ ،‬وغريها من الثنائ َّيات التي دارت يف فلك‬ ‫باألساس يف َوحدة الفلسفة والرشع ‪ .‬أ َّما الغزايل فقد حرص‬
‫‪43‬‬

‫املعرفة وطرق حتصيلها سواء عن طريق عالقة وجدان َّية أو جتربة‬ ‫فك االرتباط بينهام‪ ،‬رغم إقراره يف معارج القدس يف مدارج‬ ‫عىل ّ‬
‫عقل َّية‪.‬‬ ‫معرفة النفس بـ «تظاهر العقل والرشع وافتقار أحدمها لآلخر»‪،‬‬
‫ذلك َّ‬
‫أن «العقل ال هيتدي إال بالرشع‪ ،‬والرشع مل يتبني إال بالعقل‪،‬‬
‫حيملها بدالالت‬ ‫وهو إذ يستدعي تلك الثنائ َّيات فإنَّه مل ِّ‬ ‫أس ما مل يكن بناء ولن‬ ‫فالعقل كاألس والرشع كالبناء‪ ،‬ولن يغني ّ‬
‫تنزل عند أيب الوليد منزلة املتضادات بقدر‬ ‫متناقضة‪ ،‬فهي ال َّ‬ ‫يثبت بناء ما مل يكن أس »‪. 44‬‬
‫ما يقوم بينها تواصل أتاح له الوصل بني الفلسفة والدين‪ ،‬فإذا‬
‫بالفلسفة وهي حتاول الكشف عن ماه َّية اإلنسان وماه َّيات‬ ‫انفك يف التشابيه (البرص والشعاع‪ /‬الرساج‬‫أن الغزايل ما َّ‬‫بيد َّ‬
‫األشياء يف حياته تكشف عن مسلك مغاير للمعرفة الدين َّية‪ ،‬قوامه‬ ‫والزيت) التي اعتمدها إلبراز عالقة العقل بالرشع يؤكّد َّ‬
‫أن‬
‫الرشع هو املصدر الذي يستقي منه العقل بنيانه‪ ،‬فـ«العقل بنفسه‬
‫‪Tempus Philo, Paris, 2009.‬‬ ‫يتوصل إىل معرفة كُل َّيات اليشء دون جزئياته‬
‫قليل الغناء ال يكاد َّ‬
‫‪47 . Aussi la concordance de la religion et de la philosophie‬‬ ‫الشع [فــ]يعرف كُل َّيات اليشء وجزئياته» ‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫[‪ ...‬أ َّما] َّ‬
‫‪est – elle chez lui une exigence première, une vérité à établir,‬‬
‫‪un cap à maintenir envers et contre tout. Dans cette quête, si‬‬ ‫فإن العقل الذي يتحدث عنه الغزايل خيتلف عن‬ ‫وهبذا املعنى َّ‬
‫‪difficile, tellement semée d’embûches, dans cette quête du salut,‬‬ ‫العقل الرشدي‪ ،‬فابن رشد دعا إىل القول باستقالل العقل وقدرته‬
‫‪du bonheur et de la grâce, la raison et la foi sont concourantes‬‬ ‫ثمة توافق ًا بني احلكمة‪/‬‬ ‫عىل بلوغ احلقيقة‪ ،46‬مؤكد ًا عىل َّ‬
‫أن َّ‬
‫‪et non concurrentes et on a besoin autant de l’une que l’autre.‬‬
‫‪Elles se soutiennent, se consolident et comme dit si bien‬‬ ‫‪  42‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.468‬‬
‫‪Averroès «s’appellent mutuellement et témoignent l’une pour‬‬ ‫حمدي‪ :‬إصالح الفكر الديني من منظور ابن رشد‪،‬‬
‫‪  43‬ـ راجع يف ذلك إدريس َّ‬
‫‪L’autre .Sans la raison, la foi est inopérante et sans la foi, la raison‬‬ ‫املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء (املغرب) بريوت‪( ،‬لبنان)‪.2007 ،‬‬
‫‪est aveugle. » Bouhdiba, Abdelwahab: L’Homme en islam, Ed Sud‬‬ ‫‪  44‬ـ أبو حامد الغزايل‪ :‬معارج القدس يف مدارج معرفة النفس‪ ،‬منشورات دار‬
‫‪Editions, Tunis, 2006, P 74.‬‬ ‫اآلفاق الجديدة‪ ،‬ط ‪ ،2‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،1975 ،‬ص ‪.57‬‬
‫‪  48‬ـ راجع مح َّمد املصباحي‪ :‬إشكاليَّة العقل عند ابن رشد‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪،‬‬ ‫‪  45‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫بريوت لبنان‪ ،‬والدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،1985 ،‬ص ‪ 227‬ـ ‪.229‬‬ ‫‪46 . Ben Makhlouf, Ali; Averroès,Ed Tempus Perrin, Collection‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪374‬‬
‫شخصيات وأعالم‬ ‫ابن رشد احلفيد‬

‫أن إحياء الدين يكون بإحياء الفلسفة‪ ،‬وطاملا‬ ‫وفهم ابن رشد َّ‬ ‫الربهان‪ ،‬وهبذا املعنى غدت الرشيعة ‪ /‬الرشع وامللة موضوع‬
‫كانت الفلسفة لغة القوم فال خوف عليهم وال هم حيزنون‪ ،‬ومتى‬ ‫تأ ُّمل فلسفي‪.‬‬
‫كف املسلمون عن طلب احلكمة ماتت العلوم الدين َّية‪ ،‬فإذا بابن‬ ‫َّ‬
‫رشد وهو حياور‪ /‬جيادل الغزايل يكشف عن بنية الثقافة العرب َّية‬ ‫أن العقل وهو يتناول مبادئ‬ ‫ويف ما يتعلق هبذه املسألة نشري إىل َّ‬
‫القائمة عىل نسقني‪ :‬نسق يسعى إىل الطمأنينة بعد احلرية‪ ،‬ونسق‬ ‫الرشيعة وأصوهلا ومبادئها (وجود اهلل‪ ،‬البعث‪ ).... ،‬يعمد إىل‬
‫آخر فهم جيد ًا َّ‬
‫أن ال طمأنينة خارج حرية الفكر‪.‬‬ ‫أن أساس النظر العقيل اإليامن الذي‬ ‫التأويل قصد فهمها‪ ،‬ذلك َّ‬
‫يتحول عند أيب الوليد إىل قاعدة ال مناص منها‪ ،‬فإعامل النقد‬ ‫َّ‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬ ‫ألن مبادئ الرشيعة هي منبع‬‫يقوض أساس الوجود‪َّ ،‬‬ ‫يف اإليامن ّ‬
‫القيم األخالق َّية‪ ،‬وهو يف ذلك مل خيرج عن اآلفاق التي رسمها‬
‫أ ‪ .‬املراجع العرب َّية‬ ‫الفكر اإلسالمي القديم‪.‬‬
‫عذب يف ال ّثقافة العرب َّية‬‫حممد يوسف‪ ،‬اجلسد ا ُمل َّ‬ ‫ـ إدريس‪َّ ،‬‬
‫اإلسالم َّية من القرآن الكريم إىل النُّصوص احلواف‪ ،‬مؤسسة‬ ‫ومثلام دعا الغزايل إىل إجلام العوام عن علم الكالم‪ ،‬دعا ابن‬
‫مؤمنون بال حدود (قسم الدراسات الدين َّية) بتاريخ ‪ 41‬مايو‬ ‫واملتصوفة عن التأويل‪ 49‬الذي ُّ‬
‫يظل‬ ‫ّ‬ ‫رشد إىل إجلام املتك ّلمني‬
‫‪.2013‬‬ ‫(املتصوفة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫صناعة الفالسفة‪ ،‬مم ّيز ًا بني إيامن اجلمهور وصنَّاعه‬
‫ـ أنطون‪ ،‬فرح‪ ،‬ابن رشد وفلسفته‪ ،‬تقديم ط ّيب تيزيني‪ ،‬دار‬ ‫املتكلمون‪ ،‬الفقهاء) وإيامن العقل‪ ،‬إيامن الربهان‪ ،‬إيامن التأويل‪،‬‬
‫الفارايب‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪.1988 ،‬‬ ‫وهو اإليامن األكمل (أربابه الفالسفة)‪ ،‬وهو بذلك يرفع التناقض‬
‫التوحيدي‪ ،‬أبو ح َّيان‪ ،‬اإلمتاع واملؤانسة‪ ،‬تصحيح أمحد أمني‬ ‫املصطنع الذي أرسى أركانه أبو حامد الغزايل‪ .‬ففي تقدير ابن‬
‫وأمحد الزين‪ ،‬دار مكتبة احلياة‪ ،‬بريوت لبنان‪( ،‬د ت)‪.‬‬ ‫رشد يوجد توافق واضح بني العقل والوجدان‪ ،‬بني اإليامن‬
‫حممد عابد‪ ،‬ابن رشد سرية وفكر (دراسة نصوص)‪،‬‬ ‫ـ اجلابري‪َّ ،‬‬ ‫بالظاهر واإليامن بالعقل‪ ،‬وهو اإليامن باألصول‪.‬‬
‫مركز دراسات الوحدة العرب َّية‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪.1998 ،‬‬
‫ـ اجلاحظ‪ ،‬أبو عثامن‪ ،‬عمرو بن بحر‪ ،‬كتاب العثامن َّية‪ ،‬حتقيق‬ ‫وهبذه الطريقة يستعري أبو الوليد من الغزايل ثنائ َّية العوام‬
‫حممد هارون‪ ،‬دار اجليل‪ ،‬ط ‪ ،1‬بريوت‬ ‫ورشح عبد السالم َّ‬ ‫يتحول فيها خواص أيب حامد‬ ‫واخلواص فيعطيها دالالت جديدة َّ‬
‫لبنان‪( ،‬د ت)‪.‬‬ ‫بحجة اإلسالم ال خيتلف يف إيامنه‬
‫(املتكلمون‪ )... ،‬إىل عوام‪ ،‬فإذا َّ‬
‫ـ ابن أيب احلديد‪ ،‬عبد احلميد‪ ،‬رشح هنج البالغة‪ ،‬مراجعة‬ ‫نصب نفسه عليهم مرشد ًا وهادي ًا‪ ،‬وآية‬ ‫عن إيامن العوام الذين َّ‬
‫الذخائر يف‬ ‫الشيخ حسن متيم‪ ،‬حتت إرشاف جلنة إحياء ّ‬ ‫وحتقيق ّ‬ ‫أن الغزايل أقحم نفسه يف مباحث ال قدرة له‬ ‫ذلك عند ابن رشد َّ‬
‫دار مكتبة احلياة‪ ،‬مكتبة احلياة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.1979 ،‬‬ ‫عليها‪ ،‬فكان امليسء ألهل املعرفة احلقيق َّية ومهدّ م رصح الرشيعة‬
‫ـ احلري‪ ،‬عبد النبي‪ ،‬صورة ابن رشد يف الفكر املغريب املعارص‪،‬‬ ‫ومشع ً‬
‫ال النار فيها‪.‬‬
‫املركز الثقايف العريب ومؤسسة مؤمنون بال حدود‪ ،‬ط ‪ ،1‬الدار‬
‫البيضاء املغرب‪.2015 ،‬‬ ‫وهبذا املعنى استطاع ابن رشد دحض آراء الغزايل‪ ،‬فكان الدفاع‬
‫محادي‪ ،‬إدريس‪ ،‬إصالح الفكر الديني من منظور ابن رشد‪،‬‬ ‫ـ َّ‬ ‫عن الفالسفة دفاع ًا عن احلكمة‪ ،‬وما االنتصار هلا سوى انتصار‬
‫املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء (املغرب) بريوت (لبنان)‪،‬‬ ‫للمعرفة الدين َّية‪.‬‬
‫‪.2007‬‬
‫الصمد‪ ،‬مقامع الصلبان‪،‬‬ ‫ـ اخلزرجي األندليس‪ ،‬أمحد بن عبد َّ‬ ‫أن إحياء علوم الدين يكون بِ َو ْأد الفلسفة وقربها‪،‬‬
‫فهم الغزايل َّ‬
‫الشيف‪ ،‬مركز الدراسات واألبحاث‬ ‫حتقيق عبد املجيد ّ‬
‫االقتصادية واالجتامعية‪ ،‬اجلامعة التونسية‪ ،‬سلسلة الدراسات‬ ‫‪  49‬ـ أبو الوليد بن رشد‪ ،‬الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امللّة‪ ،‬مرجع‬
‫اإلسالم َّية‪ ،‬تونس‪.1975 ،‬‬ ‫مذكور‪ ،‬ص ‪.205‬‬

‫‪375‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫سم َّية املحفوظي‬ ‫شخصيات وأعالم‬

‫العرب َّية‪ ،‬سلسلة أوراق عربية‪ ،‬سري وأعالم‪ ،‬بريوت لبنان‪،‬‬ ‫ـ أبو الوليد بن رشد‪ :‬هتافت التهافت‪ ،‬حتقيق وتقديم سمية‬
‫‪2011‬‬ ‫املحفوظي‪ ،‬مكتب التبادل الثقايف اإلسالمي املسيحي‪ ،‬فريجينيا‬
‫حممد‪ ،‬إشكالية العقل عند ابن رشد‪ ،‬املركز الثقايف‬
‫ـ املصباحي‪َّ ،‬‬ ‫الواليات املتحدة األمريك َّية‪.2015 ،‬‬
‫العريب‪ ،‬بريوت لبنان والدار البيضاء املغرب‪.1985 ،‬‬ ‫ـ أبو الوليد بن رشد‪ ،‬الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امل ّلة‪،‬‬
‫الوحدة العرب َّية‪ ،‬ط‬‫حممد عابد اجلابري‪ ،‬مركز دراسات َ‬ ‫تقديم َّ‬
‫ب ‪ .‬املراجع األجنب َّية‬ ‫‪ ،1‬بريوت لبنان‪.1998 ،‬‬
‫‪- Arnaldez, Roger ; «Ibn Rus̲h̲d», Encyclopedia of‬‬ ‫ـ ابن رشد‪ ،‬أبو الوليد‪ ،‬فصل املقال فيام بني احلكمة والرشيعة‬
‫‪Islam, Tom3, Leiden, E, J, Brill, 1971.‬‬ ‫حممد عيل احللواين‪ ،‬رساس للنرش‪،‬‬ ‫من االتصال‪ ،‬تصدير َّ‬
‫‪- Ben Makhlouf, Ali ; Averroès, Ed Tempus Perrin,‬‬ ‫سلسلة عنارص‪ ،‬ط ‪ ،1‬تونس ‪.1994‬‬
‫‪Collection Tempus Philo, Paris, 2009.‬‬ ‫ـ الرشيف‪ ،‬عبد املجيد‪ ،‬لبنات ‪ II‬يف قراءة النصوص‪ ،‬دار اجلنوب‬
‫‪- Bouhdiba, Abdelwahab ; L’Homme en islam, Ed‬‬ ‫للنرش‪ ،‬سلسلة معامل احلداثة‪ ،‬ط ‪ ،1‬تونس‪.2011 ،‬‬
‫‪Sud Editions, Tunis, 2006.‬‬ ‫ـ الصديق‪ ،‬يوسف‪ ،‬اآلخر واآلخرون يف القرآن‪ ،‬دار التنوير‪،‬‬
‫‪- Urvoy, Dominique, Averroès: Les ambitions d’un‬‬ ‫ط ‪ ،1‬بريوت لبنان‪.2015 ،‬‬
‫‪intellectuel musulman, Flammarion, Collection ‬‬ ‫ـ العلوي‪ ،‬مجال الدين‪ ،‬املتن الرشدي مدخل لقراءة جديدة‪،‬‬
‫‪Champs Biographie, Paris, 2008.‬‬ ‫سلسلة املعرفة الفلسف َّية‪ ،‬دار توبقال للنرش‪ ،‬الدار البيضاء‬
‫املغرب‪.1986 ،‬‬
‫ـ العليبي‪ ،‬فريد‪ ،‬رؤية ابن رشد السياس َّية‪ ،‬مركز دراسات‬
‫الوحدة العرب َّية‪ ،‬سلسلة أطروحات الدكتوراه عــ ‪64‬ـدد‪ ،‬ط‬
‫‪ ،1‬بريوت لبنان ‪.2007‬‬
‫ـ الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ :‬املنقذ من الضالل‪ ،‬حتقيق وتقديم سمية‬
‫املحفوظي‪ ،‬مكتب التبادل الثقايف اإلسالمي املسيحي‪ ،‬فريجينيا‬
‫الواليات املتحدة األمريك َّية‪.2013 ،‬‬
‫ـ الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬معارج القدس يف مدارج معرفة النفس‪،‬‬
‫منشورات دار اآلفاق اجلديدة‪ ،‬ط ‪ ،2‬بريوت لبنان‪.1975 ،‬‬
‫ـ الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬هتافت الفالسفة‪ ،‬حتقيق وتقديم سليامن‬
‫دنيا‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط ‪ ،4‬القاهرة مرص‪.1966 ،‬‬
‫ـ الڤروايش‪ ،‬حسن‪ ،‬املنطوق به واملسكوت عنه يف فقه ابن رشد‬
‫احلفيد‪ ،‬الدار التونس َّية للنرش‪ ،‬سلسلة موافقات عــ‪06‬ـدد‪ ،‬ط‬
‫‪ ،1‬تونس‪.1993 ،‬‬
‫ـ الالند‪ ،‬أندريه‪ ،‬موسوعة الالند الفلسف َّية‪ ،‬ترمجة خليل أمحد‬
‫خليل‪ ،‬إرشاف أمحد عويدات‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬ط ‪،2‬‬
‫بريوت لبنان‪.2001 ،‬‬
‫ـ املسكيني‪ ،‬فتحي‪ ،‬ابن رشد واإلغريق‪ :‬الفلسفة وسياسة‬
‫احلقيقة‪ ،‬جملة دراسات عرب َّية‪ ،‬العــ‪ 3‬و‪4‬ـددان‪ ،‬جانفي ‪-‬‬
‫فيفري ‪.1999‬‬
‫حممد‪ ،‬فلسفة ابن رشد‪ ،‬مركز دراسات الوحدة‬ ‫ـ املصباحي‪َّ ،‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪376‬‬
‫بريشة الفنان طارق عبيد من تونس‬
‫حصاد مؤسسة «مؤمنون بال حدود»‬

‫أحدث إصدارات مؤسسة (مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث)‬

‫(الكتاب أص ً‬
‫ال من أصول التشريع)‬
‫ال من أصول الترشيع؛‬ ‫استعرض املؤلف القضايا التي أثارها اعتامد النص القرآين أص ً‬
‫فعاد إىل عرشات املصادر ليستقي منها معلوماته‪ ،‬وقام برتتيب وتصنيف املسائل‪ ،‬ون َّبه إىل‬
‫اإلشكال َّيات التي طرحتها الدراسات احلديثة‪.‬‬
‫نص ًا ترشيع َّي ًا‬
‫يربز الكتاب كيفيات اشتغال الفكر األصو ّيل‪ ،‬وآلياته يف تد ُّبر املصحف َّ‬
‫َّأول يف فرتات من التاريخ متباينة‪ .‬ومازال الفكر اإلسالمي‪ ،‬إىل اليوم‪ ،‬يثري هذه املسائل‬
‫يف أكثر من فضاء‪.‬‬
‫كام َّبي الكتاب وضع علم أصول الفقه‪ ،‬وجهود العلامء يف إرسائه‪ ،‬يف إطاره العام من‬
‫فعرف املصطلحات واإلشكال َّيات املتَّصلة بموضوع البحث‪ ،‬واخترب‬ ‫العلوم اإلسالم َّية‪َّ ،‬‬
‫املدونة‬ ‫أهم املس ّلامت األصول َّية واالعتقاد َّية عند املسلمني‪ ،‬وح ّلل أبعادها‪ ،‬مثلام جت ّلت يف َّ‬
‫َّ‬
‫ّ‬
‫ووضح اختالف اتاهات أصحاهبا‪ ،‬وفرقهم الكالم َّية‪ ،‬ومذاهبهم الفقه َّية‪،‬‬ ‫األصول َّية‪َّ ،‬‬
‫ومدى أثر الواقع ومقتضياته فيها‪.‬‬
‫السنَّة املتواترة‪ ،‬ويف خرب اآلحاد‪ ،‬؛ بل وقف عىل مصادر الترشيع مثل‬ ‫كام بحث يف ُّ‬
‫السن َّية‪ ،‬واالعتزال َّية‪ ،‬والشيع َّية‪ ،‬واخلارج َّية‪ ،‬واستفاد‬
‫أهم املصادر األصول َّية ُّ‬ ‫اإلمجاع‪ ،‬واالجتهاد‪ ،‬والقياس‪ ،‬وغريها من األصول الفرع َّية‪ ،‬وعاد إىل ّ‬
‫من كتب العقائد‪ ،‬والتفسري‪ ،‬والفقه‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬وغريها‪ ،‬لوضع البحث يف إطاره من العلوم اإلسالم َّية‪.‬‬

‫(العرب والمجتمع الحداثي)‬


‫إن احلداثة والتحديث واملجتمع احلداثي ليست أمور ًا مقصورة عىل أوروبا دون‬ ‫َّ‬
‫سواها‪ ،‬بل هي مكتسبات إنسان َّية شمول َّية‪ ،‬وإرث مشرتك للبرش َّية مجعاء‪.‬‬
‫والسؤال‪ :‬ماذا علينا ‪ -‬نحن العرب‪ -‬جمتمع ًا وثقاف ًة أن نفعل لكي ندخل عامل احلداثة‬
‫ونؤسس املجتمع احلداثي؟‬‫احلق‪ّ ،‬‬
‫هل يف البنية الثقاف َّية العرب َّية العميقة ما يستعيص عىل التحديث احلق؟ وهو الذي يقف‬
‫سدَّ ًا مانع ًا أمام احلداثة‪ ،‬ويعيق حتقيق الديمقراط َّية بالشكل الذي ُيريض الشعوب؟‬
‫ختص احلداثة والتحديث واملجتمع احلداثي‪ ،‬فتك َّلم عن‬ ‫بحث الكتاب يف عدَّ ة قضايا ُّ‬
‫تم نرش األفكار اجلديدة؟ وكيف ووجهت‬ ‫أثر مرشوع األنوار يف الوعي األورويب‪ ،‬وكيف َّ‬
‫التعصب للقديم‪ ،‬وعدم التسامح مع التغيري‪ .‬كام‬ ‫ُّ‬ ‫تلك األفكار؟ ممَّا أ َّدى إىل املواجهة مع‬
‫رصد السبل واملرتكزات العلم َّية والفلسف َّية التي ُأ ّسس عليها املجتمع احلداثي‪ ،‬وتساءل‬
‫عن طبيعة التحديث‪ ،‬واملجتمع احلديث‪ ،‬وما التقليد؟ وما التقليدان َّية؟‬
‫وعرف معامل احلداثة يف الفكر الغريب املعارص‪ ،‬وأبرز صفات املجتمع احلداثي‪ .‬كام َّبي كيف استطاعت املجتمعات األوروب َّية واألمريك َّية االنتقال‬ ‫َّ‬
‫من املجتمع التقليدي إىل املجتمع احلديث‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪378‬‬
‫حصاد مؤسسة «مؤمنون بال حدود»‬

‫السياس َّية عند سبينوزا)‬


‫(الفلسفة النسق َّية ونسق الفلسفة ّ‬
‫نريد‪ ،‬بفضل هذه القراءة اجلديدة‪ ،‬إعادة موضعة أنثروبولوجيا سبينوزا وسياسته ضمن‬
‫حمل التذييل‪ ،‬تندجمان‬ ‫حتل فيه َّ‬ ‫نسقه العام‪ ،‬وتبيان كيف َّأنام‪ ،‬بدالً من أن تنفصال عنه أو أن ّ‬
‫أن السبينوز َّية‪ ،‬بعيد ًا عن‬ ‫فيه‪ ،‬وتؤ ّلفان عنرص ًا من عنارصه اهليكل َّية‪ .‬إنَّنا ننطلق من فرضية َّ‬
‫جمرد «ثيوصوفيا»‪ ،‬إنَّام هي أيض ًا مذهب أنثروبولوجي وسيايس‪.‬‬ ‫أن تكون َّ‬
‫فنبي َّ‬
‫أن‬ ‫ننزل ضمنه مبحثه السيايس‪ّ ،‬‬ ‫نتقص مذهب سبينوزا‪ ،‬وأن ّ‬ ‫إن غرضنا أن َّ‬ ‫َّ‬
‫املرشوع السيايس ليس ثانوي ًا أو عرضي ًا بقدر ما ينصهر يف النواة املركز َّية (اإليتيقا)‪،‬‬
‫السياس َّية)‬‫حتى وإن كان اخلطاب السيايس ُيطرح يف كتابات جانب َّية (الرسالة الالهوت َّية ّ‬
‫السياس َّية)‪ .‬إنَّنا نريد أن نتط ّلع إىل وجود نسق فلسفي سيايس عند سبينوزا‪ .‬وال‬ ‫و(الرسالة ّ‬
‫جمرد أفكار عن السياسة‪ ،‬بل َّإنا تقوم عىل تأ ُّمل‬ ‫يمكن اختزال هذه الفلسفة السياس َّية يف َّ‬
‫الطابع اجلوهري للسيايس ذاته‪.‬‬
‫وعىل هذا‪ ،‬فإذا ُرمنا اقتفاء خطوات سبينوزا وربط الفلسفة السياس َّية بالنَّسق‪ ،‬فال ُبدَّ‬
‫من خ َّطة عمل تتم ّثل يف البحث عن أسس الفلسفة السياس َّية يف اإليتيقا‪ ،‬وعن مبادئها يف‬
‫السياس َّية‪.‬‬
‫السياس َّية‪ ،‬وعن مقوالهتا يف الرسالة ّ‬
‫ّ‬ ‫الرسالة الالهوت َّية‬

‫(الحوار التقريبي بين المذاهب اإلسالمية)‬


‫التعصب‪ ،‬وشاع‬ ‫ُّ‬ ‫عمت الفرقة‪ ،‬وساد‬ ‫ألنَّنا نعيش يف زمن الفتن واالضطرابات؛ حيث َّ‬
‫التباغض بني املسلمني يك ّفر بعضهم بعض ًا‪ ،‬وأصبح التواصل بني أبناء امل ّلة الواحدة حل ًام‬
‫يراود رشحية كبرية من املسلمني؛ اختار املؤلف احلديث عن احلوار التقريبي بني املذاهب‬
‫اإلسالم َّية‪ ،‬فحاول أن يعاين خطاب التقريب‪ ،‬وأن يقارن بني جتاربه املختلفة داخل‬
‫املنظومة الدّ ين َّية الواحدة وخارجها‪.‬‬
‫طرح الكتاب عدد ًا من اإلشكال َّيات‪ ،‬مثل‪ :‬ما املقصود بالتّقريب بني املذاهب اإلسالم َّية؟‬
‫أي مدى يمكن احلديث عن‬ ‫أهم جتارب التَّقريب املعارصة؟ وإىل ّ‬
‫ما أهدافه وخلف َّياته؟ وما ُّ‬
‫أي حدٍّ‬‫حوار إسالمي‪-‬إسالمي من خالل جتارب التَّقريب بني املذاهب اإلسالم َّية؟ وإىل ّ‬
‫كان التَّقريب فضا ًء مناسب ًا للحوار؟ وكيف نفهم احلوار يف ُبعده اإلسالمي‪-‬اإلسالمي؟‬
‫الصعوبات التي اعرتضت‬ ‫وما طبيعة املوضوعات التي أثارها؟ ومن هم املعنيون به؟ وما ُّ‬
‫سبيله؟ وكيف نظر التَّقريب ُّيون إىل آفاق احلوار ومستقبله؟‬
‫كل هذا ضمن رؤية نسق َّية نقد َّية تقوم عىل املقارنة‪ ،‬والتأليف‪ ،‬وتفكيك ال ّظاهرة الدين َّية‪ ،‬وحتليل أسباب االختالف وجماالته وأ ّ‬
‫مهيته‪ ،‬بام هو تعدُّ د‬ ‫ُّ‬
‫وحر َّية وإبداع‪.‬‬

‫‪379‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حصاد مؤسسة «مؤمنون بال حدود»‬

‫(الموت في ِّ‬
‫الشعر العربي)‬
‫هذا كتاب جليل القدر‪ ،‬عميم النَّفع‪ ،‬قوي عىل صعيد االستشكال واالستدالل‪ ،‬وهو‬
‫حممد عبد السالم ـ رمحه اهلل ـ أطروحة‬ ‫معمق‪ ،‬أنجزه األستاذ َّ‬‫تقص َّ‬ ‫يف األصل بحث ُم ٍّ‬
‫لدكتوراه الدولة بإرشاف املسترشق الفرنيس الكبري رجييس بالشري‪.‬‬
‫وبي حجمه ومكانته يف الشعر العر ّيب‬ ‫وقد أوضح البحث أمه َّية املوت باعث ًا للشعر‪َّ ،‬‬
‫القديم‪ ،‬ودرس أبرز جت ّلياته الغرض َّية فيه‪ ،‬وح ّلل أساليب التعبري عنه بتوضيح شعر َّيته‬
‫تصورات‬ ‫أهم ُّ‬
‫عىل مستوى املعجم والبناء والتخييل والداللة‪ ،‬ما كشف القناع عن ّ‬
‫وتصورات الشعوب التي اعتنقت اإلسالم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫العرب املتصلة به‪ ،‬قبل اإلسالم وبعده‪،‬‬
‫اهلجري‪ ،‬ومت ُّثالهتا املستقاة من الديانات‬
‫ّ‬ ‫واندجمت يف العروبة‪ ،‬بدء ًا من القرن َّ‬
‫األول‬
‫التوحيد َّية وغريها‪ ،‬وحدَّ د نظرة اإلنسان العريب إىل احلياة وسلوكه فيها انطالق ًا من موقفه‬
‫خاصة‪.‬‬
‫من املوت‪ ،‬وأطال الوقوف لدى املرث َّية‪ ،‬والزهد َّية‪ ،‬وقصيدة التعزية َّ‬

‫(متخ ّيل أحداث قصص األنبياء وال ّرسل في الكتاب المقدس والقرآن‬
‫ُ‬
‫الكريم)‬
‫عمد األفق املعريف املعارص الذي ُحدّ د للنظر يف « ُمتخ ّيل النصوص الدين َّية» إىل تقديم‬
‫تؤسس ماهية‬ ‫تصور جديد حدَّ من منزلة املقدَّ س‪ ،‬معترب ًا إ َّياه ُبعد ًا من أبعاد عديدة ّ‬ ‫ُّ‬
‫اإلنسان‪.‬‬
‫يتنزل هذا البحث باعتباره حماولة للوقوف عىل‬ ‫ويف سياق النظر يف تلك األمور ّ‬
‫بفك رموزه‪ ،‬واستجالء دالالته‪ ،‬من خالل النظر يف‬ ‫النص املقدَّ س‪ّ ،‬‬
‫بعض خصائص ّ‬
‫مظان «قصص األنبياء والرسل»‪ ،‬فهو بجث ال خيرج عن‬ ‫ّ‬ ‫«األحداث ا ُملتخ َّيلة» الثاوية يف‬
‫اآلفاق التي تروم «تفكيك اخلطاب الديني» فه ًام لطرق إنتاجه للمعنى‪ ،‬وذلك باستجالء‬
‫وتبي آليات تشكُّله من خالل النظر يف السياق الذي نشأ فيه اخلطاب الدّ يني‪.‬‬ ‫كنهه‪ُّ ،‬‬
‫إن جوهر النصوص املقدَّ سة والتجارب الدين َّية ماثل فيام تؤ ّديه من وظائف تارخي َّية‬ ‫َّ‬
‫تؤسس رؤاها انطالق ًا من املؤثرات الثقاف َّية والعقائد َّية احلا َّفة هبا‪ ،‬ذلك‬ ‫ووجود َّية‪ ،‬فهي ّ‬
‫أن األحداث املتخ َّيلة تعبري عن أحالم تاقت مجاعة املؤمنني إىل معانقتها‪ ،‬ففي عوامل‬ ‫َّ‬
‫ا ُملتخ َّيل ُت ّلق نفوسهم يف فضاءات ال ُتىص وال تُعدُّ ‪ ،‬وتطوف أماكن قص َّية‪ ،‬وتتخ َّطى أزمنة عودة إىل زمن البدايات‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪380‬‬
‫حصاد مؤسسة «مؤمنون بال حدود»‬

‫(صناعة الذاكرة في التراث الشيعي االثني عشري)‬


‫ُيعدُّ هذا الكتاب جمدّ د ًا يف بحوثه‪ ،‬التي ال ترى يف تاريخ األديان ترف ًا ذهني ًا يف قضايا‬
‫ماضية‪ ،‬إنَّام هو بحث يف قضايا العرص املرتبطة باألديان‪ ،‬وفهم للحارض من خالل فهم‬
‫تعقيدات املايض‪.‬‬
‫اختذ املؤلف زيارة املراقد واألرضحة واملقامات الشيع َّية‪ ،‬مسلك ًا ملتابعة مراحل صناعة‬
‫وتطورها‪ ،‬وأحكامها‪ ،‬ووظائفها‪ ،‬ودالالهتا‪ .‬وقام بتفكيك‬ ‫ُّ‬ ‫الذاكرة‪ ،‬فدرس نشأهتا‪،‬‬
‫نصوص الزيارة‪ ،‬باعتبارها ذاكرة خطاب َّية‪ ،‬ومنظومة تواصل َّية‪ ،‬وذلك بالرتكيز عىل عدد‬
‫من وظائفها‪ ،‬ودالالهتا السياس َّية‪ ،‬والعقد َّية‪ ،‬والفكر َّية‪ ،‬وما أسهمت به يف الدفاع عن هو َّية‬
‫املذهب الشيعي‪ ،‬وصناعة ذاكرة اجلامعة وصيانتها‪.‬‬
‫إن أمهية العمل تربز أساس ًا يف روحه التي تقطع قطع ًا مع كتابات التمجيد أو النقض‬ ‫َّ‬
‫السنّي القديم املتواصل‪ ،‬وهذه‬ ‫السائدة يف ثقافتنا‪ ،‬وال س َّيام إذا تع َّلق األمر بالنزاع الشيعي ُّ‬
‫الروح هي التي ينبغي أن تنترش يف جمتمعاتنا‪ ،‬فيسهم العلم يف حتقيق التعايش بني البرش‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫يضحي بأركانه املتمثلة يف الد َّقة‪ ،‬واملوضوع َّية‪ ،‬واحلياد‪ ،‬والكون َّية‪.‬‬
‫دون أن ّ‬

‫(في جنيالوجيا األخالق)‬


‫أي فهم «أخالقوي» لكتابات نيتشه؛ كأن نعدَّ ه معارض ًا يائس ًا‬ ‫علينا أن نحرتس من ّ‬
‫متعصب ًا‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫للسام َّية‪ ،‬أو قومي ًا‬
‫عدو ًا َّ‬
‫لألنوار احلديثة‪ ،‬أو داعي ًا خطري ًا إىل الرببر َّية‪ ،‬أو َّ‬
‫مجاعو َّي ًا حزين ًا ضدَّ املكاسب احلقوق َّية للدولة اللربال َّية‪ ،...‬تلك أفكار مسبقة أخرى‪ ،‬أو‬
‫رضوب مريضة من الفضول‪.‬‬
‫أي أنوار سابقة‪ ،‬بام فيها تلك‬ ‫إنَّه يامرس «أنوار ًا جديدة» فحسب‪ ،‬يدفع هبا بعيد ًا عن ّ‬
‫أن نيتشه قد فضح حتى اإلحلاد‬ ‫التي ُس ّميت‪ ،‬راهن ًا‪ ،‬باسم «األنوار اجلذر َّية»‪ .‬واحلال َّ‬
‫إن اإلحلاد‬ ‫نفسه بوصفه ال يملك توضيح ًا جذري ًا حول قيمة احلر َّية التي يفاخرنا هبا‪َّ .‬‬
‫مل يكن‪ ،‬إىل اآلن‪ ،‬إال إيامن ًا‪ ،‬أو «مثاالً ن ُُسك َّي ًا» مقلوب ًا‪ :‬إنَّه استيالء صفيق عىل مكان‬
‫مزر بني «اإلنسان األعىل» الذي استوىل‬ ‫خلط ٍ‬‫ٍ‬ ‫اإلله األخالقي الذي صار شاغر ًا‪ ،‬يف‬
‫عىل األسامء احلسنى لإلله التوحيدي‪ ،‬وبني اإلقدام عىل الذهاب اجلسور إىل «ما فوق‬
‫احلرة‪ ،‬التي تتمتع بصحة ميتافيزيق َّية جيدة‪ ،‬والتي ال‬ ‫اإلنسان»‪ ،‬بوصفه مطلب احلياة َّ‬
‫أقل من هذا‪ :‬خلق «نمط برشي» من نوع جديد‪.‬‬ ‫تطلب َّ‬

‫‪381‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫حصاد مؤسسة «مؤمنون بال حدود»‬

‫(تجارب كونية في اإلصالح الديني)‬


‫يطرح هذا الكتاب عددا من التساؤالت حول آل َّيات االنخراط يف العامل احلديث‪،‬‬
‫وهل تستلزم فكرة اإلصالح؟ وهل اإلصالح يتم ّثل يف تغيري املامرسات واملفاهيم‪ ،‬مع‬
‫املحافظة‪ ،‬يف الوقت ذاته‪ ،‬عىل جوهر الرسالة واالعتقادات؟ هل اإلسالم هو الدّ ين‬
‫الوحيد الذي مل يستطع أن يستطلع فكرة اإلصالح وينهض هبا؟ هل اإلصالح يتطلب‬
‫مفاهيم جديدة يف جمال الرتبية ونقل املعارف؟‬
‫ثم األرثوذوكيس املسيحي‪،‬‬ ‫لقد ُط ِر َحت عبارة «اإلصالح» يف الوسط اليهودي‪َّ ،‬‬
‫و ُط ِرحت فرت ًة قصرية يف الكونفوشيوس َّية‪َّ ،‬‬
‫وثمة جدل أكرب يف تق ُّبلها يف البوذ َّية احلديثة‪،‬‬
‫و ُط ِر َحت يف اهلندوس َّية احلديثة‪ ،‬قبل أن ترتاجع أمام نظريات ما بعد احلداثة‪ .‬واستعمل‬
‫ثم تق ّلصت اإلصالح َّية‬ ‫املسلمون‪ ،‬يف القرن التاسع عرش‪ ،‬عبارة اإلصالح الديني‪َّ ،‬‬
‫تفضل كلمتي «صحوة»‪،‬‬ ‫اإلسالم َّية يف القرن العرشين‪ ،‬وأخذت مكاهنا األصول َّية‪ ،‬التي ّ‬
‫و«إحياء»‪ ،‬وكلتامها تغ ّيب التفاعل بني املايض واحلارض‪.‬‬
‫يم ّثل موضوع العالقة بني األديان واحلداثة أحد امليادين التي فرضت نفسها يف علم األديان املقارن‪ ،‬والس َّيام يف العقود األخرية‪ ،‬التي أكَّدت‬
‫أمه َّية العامل الديني‪ ،‬واستمراره يف احلياة الفرد َّية واجلامع َّية للبرش‪ ،‬بعد فرتة من سيادة اإليديولوج َّيات االستئصال َّية للدّ ين‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪382‬‬
‫بريشة الفنان طارق عبيد من تونس‬
‫الصفحة األخرية‬

‫الفلسفة‪ْ ...‬‬
‫مشيًا‬
‫عبد السالم بنعبد العايل‬

‫األفكار التي ختطر عىل بالنا ونحن نميش هي التي هلا قيمة»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫«وحدَ ها‬
‫ف‪ .‬نيتشه‬ ‫ ‬

‫أقل ما يمكن‪ّ ،‬‬


‫وأل تضع ثقتك يف فكرة مل ختطر وأنت متيش يف اهلواء الطلق‪ ،‬ومل تنخرط يف احتفال العضالت»‪.‬‬ ‫تظل جالس ًا َّ‬
‫«أن َّ‬
‫ف‪ .‬نيتشه‬ ‫ ‬

‫املشائني‪ ،‬بل أغلب الفالسفة مشاؤون كبار‪ :‬سقراط‪ ،‬روسو‪ ،‬كانط‪ ،‬كيريكغارد‪ ،‬نيتشه‪...‬احتفظ التاريخ‬ ‫ليس أتباع أرسطو وحدهم َّ‬
‫املش ممارس ًة يومية فحسب‪ ،‬وإنَّام جعلوه موضوع ًا لتفكريهم الفلسفي‪ ،‬كام احتفظت اجلغرافية بأسامء‬ ‫بأسامء هؤالء الذين مل يكتفوا باختاذ ْ‬
‫ممر الفيلسوف كانط ‪ ،‬زقاق نيتشه‪ ،‬دروب هايدغر‪.‬‬ ‫َمْشياهتم‪ :‬آغورا سقراط‪ ،‬رواق األرسطيني والرواقيني‪ّ ،‬‬
‫***‬
‫«الفلسفة‪ ،‬هي هنج طريق»‪.‬‬
‫ك‪ .‬ياسربز‬ ‫ ‬
‫***‬
‫يتحول وهو يف طريقه إليه»‪.‬‬
‫فإن هذا يسري نحوه ويالحقه‪ ،‬لكن قد يتأتَّى له أن َّ‬ ‫ّ‬
‫يستحث يشء ما الفكر‪َّ ،‬‬ ‫«عندما‬
‫م‪ .‬هايدغر‬ ‫ ‬
‫***‬
‫املرصعة بالنجوم‪ ،‬أخطأ‬
‫َّ‬ ‫السامء‬
‫ُيرجع أرسطو ميالد الفلسفة إىل طاليس‪ُ .‬يكَى عن فيلسوف ملطة أنَّه‪ ،‬بينام كان يميش وهو يتأ َّمل َّ‬
‫سيل من الضحك‪.‬‬ ‫اخلَطو فهوى يف بئر‪ ،‬وكان ذلك عىل مرأى خادمة انفجرت مقهقه ًة؛ اقرتن ميالد الفلسفة بخطوة خاطئة أعقبها ٌ‬
‫***‬
‫خطوة خطوة‪ :‬خطوة قدم‪ ،‬وخطوة فكر‪ .‬الوقع وااليقاع‪ :‬اإلنصات إىل اجلسد وإىل صوت النفس‪.‬‬
‫***‬
‫حتركه الساقان»‪.‬‬
‫«ترقد أفكاري إذا أقعدهتا‪ .‬وال يعمل ذهني ما مل ّ‬
‫مونتيني‬ ‫ ‬
‫***‬
‫املشاء حارض دائ ًام يف جسده‪ ،‬مضطر إىل اإلنصات إىل وقعه وإيقاعه‪ ،‬متن ِّبه إىل ردوده واستجاباته‪ ،‬جمرب عىل التفكري باستمرار يف مشاكله‬ ‫ّ‬
‫اجلسم َّية والتنفس َّية‪.‬‬
‫***‬
‫فنتبي حدودنا‪.‬‬
‫املش نشعر باألرض حتت أقدامنا‪ ،‬وندرك انجذابنا نحوها‪َّ ،‬‬ ‫عن طريق ْ‬
‫***‬
‫عند امليش نشعر بثقلنا (‪ )pesanteur‬وتقدُّ م أعامرنا‪ ،‬فنغدو متن ّبهني لذواتنا ولزمن حياتنا‪.‬‬
‫***‬
‫وعي باملحايثة والتعايل‪ ،‬وإدراك للمحدود َّية واالنفتاح‪،‬‬
‫بالروحي‪ٌ :‬‬ ‫بالساموي‪ ،‬والتحام اجلسدي ُّ‬ ‫يف امليش‪ ،‬نعيش جتربة لقاء األريض َّ‬
‫حلظة تَفكُّر ودرس يف األخالق‪.‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪384‬‬
‫الصفحة األخرية‬

‫«مع ّلمونا َّ‬


‫األولون يف الفلسفة‪ ،‬هم أقدامنا»‪.‬‬
‫ج‪ .‬ج‪ .‬روسو‬ ‫ ‬
‫***‬
‫أن امليش‬ ‫أن نشاطنا الذهني يغدو أكثر قدرة عىل ّ‬
‫حل املعضالت الكربى‪ ،‬وإنَّام يعني َّ‬ ‫باملش‪ ،‬فال يعني ذلك أساس ًا َّ‬
‫عندما نربط الفكر ْ‬
‫جيعلنا نشعر بامتدادنا‪ ،‬فكر ًا وجسد ًا‪ ،‬يف الكون بأكمله‪ ،‬فنعود لنلتحم بالطبيعة من جديد‪ ،‬ونتفاعل معها ومع ذواتنا عىل نحو مغاير‪.‬‬
‫***‬
‫حلواسنا لكي تسرتجع قدراهتا عىل التفاعل مع الطبيعة‪ ،‬كام نفتح ذهننا عىل خمتلف األحاسيس‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫عند امليش نشعر بحيويتنا‪ ،‬ونفسح املجال‬
‫جمردة باردة‪.‬‬
‫حتى ال يبقى سجني أفكار َّ‬
‫***‬
‫تدل عىل جزء من هذا‬ ‫أتبي أنَّني ب ُك ّليتي‪ ،‬وعىل حدِّ تعبري نيتشه‪« :‬لست إال جسد ًا وال يش َء آخر‪ ،‬فام النفس إال كلمة ُّ‬ ‫وأنا أميش‪َّ ،‬‬
‫اجلسد»‪.‬‬
‫***‬
‫بأن جسدي يتك َّلم»‪.‬‬
‫الشاعر‪« :‬عندما أميش يغمرين االنطباع َّ‬ ‫يقول َّ‬
‫***‬
‫سقطة طاليس‪ :‬الفكر طريق حمفوفة باملخاطر‪ ،‬ومغامرة ال ختلو من تع ُّثر‪ ،‬وارمتاء يف أحضان املجهول‪.‬‬
‫***‬
‫جرائه‪ ،‬وهي ال تتقدَّ مه بحيث ال يكون عليه‬ ‫خت ُّطه أقدامنا عليها‪َّ .‬إنا ُتَط بفعل السري ومن َّ‬
‫نرسم دروب الغابات ومسالكها بفعل ما ُ‬
‫إال أن «يأخذها»‪.‬‬
‫***‬
‫نتبي الطريق إال بعد تيه وضالل‪ ،‬كام يع ّلمنا البحث عن املسالك امللتوية( ‪ )les détours‬بلوغ ًا ألهدافنا‪.‬‬ ‫السري يف الغابات أنَّنا ال َّ‬‫يع ّلمنا ّ‬
‫اللمبارشة‪.‬‬‫إنَّه يلقنن ًا درس ًا يف َّ‬
‫***‬
‫قيمة دروب الغابات ال تكمن فيام تؤدي إليه‪ ،‬فهي بالتحديد «دروب ال تؤدي إىل غاية»‪َّ ،‬إنا الـ (‪ ) Holzwege‬اهلايدغر َّية التي ال‬
‫تؤدي َّإل إىل الغابة‪.‬‬
‫***‬
‫نميش اهلوينى احتجاج ًا عىل جنون الرسعة‪ ،‬وطموح ًا يف استعادة فضيلة ال ُبطء‪.‬‬
‫***‬
‫يتحدّ ث ج‪ .‬ج‪ .‬روسو عن امليش باعتباره جتربة حر َّية‪ُ .‬يشعرنا امليش بنوع من التحكُّم يف الزمن‪ ،‬وضبط إيقاعه‪.‬‬
‫***‬
‫الصخب‪ ،‬والبحث عن سكون الطبيعة وصمتها الذي يتيح لنا أن نستمع إىل ما مل نعتد االستامع إليه‪.‬‬ ‫غالب ًا ما يقرتن امليش باالبتعاد عن َّ‬
‫السكينة(‪.)Sérénité‬‬ ‫إنَّه طريق إىل َّ‬
‫***‬
‫نعب عن مواقفنا ونشارك يف االقرتاعات عن طريق أقدامنا‪ .‬املسرية يف اجتاه سجن الباستيل‪ ،‬املظاهرات‬ ‫امليش إيديولوجيا وسياسة‪ّ :‬‬
‫دفاع ًا عن احلقوق‪ ،‬املسريات االحتجاج َّية‪.‬‬
‫***‬
‫حيس وينضوي ويفكر‪.‬‬ ‫فإن جسدي ُّ‬ ‫عندما أميش َّ‬

‫‪385‬‬ ‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫شروط النشر‬
‫يرس هيئة حترير جملة (يتفكرون) أن تستقبل مسامهات أصحاب القلم من الكتاب والباحثني واملثقفني األفاضل‪،‬‬
‫ّ‬
‫وترى أن تكون النصوص املرسلة وفق الرشوط التالية‪:‬‬

‫* أن يكون النص املرسل جديد ًا مل يسبق نرشه‪.‬‬


‫يتعهد صاحب النص بعدم نرشه‪ ،‬أو إرساله للنرش‪ ،‬لدى أية جهة أخرى قبل حصوله عىل الرد النهائي بالنرش أو‬ ‫* ّ‬
‫عدمه يف املجلة‪.‬‬
‫ال‪.‬‬ ‫* إذا قبل النص للنرش‪ ،‬يتعهد صاحب النص بعدم إرساله للنرش لدى أية جهة أخرى مستقب ً‬
‫أي تعديل عىل املادة‬
‫ختضع األعامل املعروضة للنرش ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء ّ‬
‫املقدمة قبل إجازهتا للنرش‪.‬‬

‫ف‬
‫صلي‬
‫* املجلة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نرشت أم مل تنرش‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النرش‪ ،‬وال تلتزم‬
‫بإبداء أسباب عدم النرش‪.‬‬
‫* حتتفظ املجلة بحقها يف نرش النصوص وفق خطة التحرير‪ ،‬وحسب التوقيت الذي تراه مناسب ًا‪.‬‬

‫ة‪ .‬ف‬
‫النصوص التي تنرش يف املجلة تعبِّ عن آراء ُك َّتاهبا‪ ،‬وال تعبِّ ‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬عن رأي املجلة‪ ،‬أو مؤسسة (مؤمنون بال‬
‫حدود للدراسات واألبحاث)‪.‬‬
‫ال‪ ،‬أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو ُمرتمج ًا إىل أية لغة أخرى‬ ‫كر‬ ‫* للمجلة حقّ إعادة نرش النص منفص ً‬
‫ورقي ًا‪ ،‬أو إلكرتوني ًا‪ ،‬عىل موقع املؤسسة عىل اإلنرتنت‪ ،‬دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬
‫* جملة (يتفكرون) ال متانع يف النقل‪ ،‬أو االقتباس عنها رشيطة ذكر املصدر‪.‬‬
‫ية ‪.‬‬
‫* يرجى من الكاتب‪ ،‬الذي مل يسبق له النرش يف املجلة‪ ،‬إرسال نبذة خمترصة عن سريته الذاتية‪.‬‬
‫* يتل ّقى صاحب البحث‪ ،‬أو املقال‪ ،‬مكافأة مالية حتدّ دها هيئة التحرير وفق ًا ملعايري موضوعية‪.‬‬
‫ثقا‬

‫يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير املجلة‪ ،‬أو عرب الربيد اإللكرتوين‪:‬‬
‫تقاطع زنقة واد هبت وشارع فال ولد عمري ‪ ،‬أكدال‬
‫فية‬

‫قرب مسجد بدر ‪ ،‬الرباط ‪ ،‬املغرب‬


‫ص‪.‬ب ‪10569‬‬
‫جملة ّ‬
‫يتفكرون‬
‫‪yatafakkaroun@mominoun.com‬‬

‫العدد (‪2017 )10‬‬


‫‪386‬‬

Vous aimerez peut-être aussi