Académique Documents
Professionnel Documents
Culture Documents
املرشف العام
الدكتور أحمد فايز
رئيس التحرير
حسن العمراين
مستشارا التحرير
الدكتور حامدي ذويب
الدكتور محمد الصغري جنجار
تنفيذ وتصميم
رنا عالونة
محرر لغوي
عدنان سلطان
لوحة الغالف األمامي والخلفي بريشة الفنان
سامي الغريب -تونس
المحتويات
حوارات
224 تقديم وحوار املهدي مستقيم مع املفكر اللبناين مشري باسيل عون
244 تقديم وحوار عيل صدّ يقي مع الناقد واألكاديمي املغريب سعيد يقطني
مقاالت
248 عبد السالم بنعبد العايل ابن رشد :فيلسوف الفصل
252 سعيد بنكراد التأويل الصويف وجتربة «احلقيقة»
256 حممد يوسف إدريس يف السؤال عن حدود املوضوعية يف الدراسات الدينية املقارنة
264 نايلة أيب نادر وقفة تأملية يف رجم العقالنية
مراجعة كتب
284 حنان درقاوي ملاذا نحتاج لإليامن؟
جوليا كريستيفا واحلاجة التي ال تصدّ ق لإليامن
أدب وفنون
288 عيسى الشيخ حسن شعر« :قدود عىل مقام القصف»
292 إبراهيم بورشاشن «غار نجم أيب»
294 عيل القاسمي قصة قصرية« :الذكرى»
298 ترمجة :أمحد عبد اللطيف «سعيد جدا» آلنا ماريا ماتويت
302 عبد اهلل ابراهيم و«األوديسة»
ّ نقد :ـ ما غاب عن هومريوس يف «اإللياذة»
306 تقديم وترمجة :حسن الغُريف ـ بابلو نريودا
316 حاتم الساملي ـ يف آليات الشعر ّية يف رواية «ترصيح بالغياب» ملنترص الق ّفاش
328 حممد اشويكه حركت الريح الرمال»: سينام :فيلم «لو َّ
هل املوت ٌ
قابل للتصوير؟
332 بنيونس عمريوش تشكيل :مصطفى بومجعاوي:
العبور نحو املاورئيات
قطوف
336 ترمجة وتقديم وتعليق :حممد شوقي الزين الرتمجة بوصفها ثقافة /حوار مع باربارا كاسان
علوم وثقافة
346 جعفر عاقل موضوع الصحراء يف التجربة الفوتوغرافية املغربية
شخصيات وأعالم
350 احلسني سحبان القديس أوغسطني
368 سم ّية املحفوظي ابن رشد احلفيد
الصفحة األخيرة
384 عبد السالم بنعبد العايل الفلسفة ...مشي ًا
ألن هذهتُعدُّ العدالة ،كام َّبي أرسطو يف كتابه عن اإلتيقا ،أسمى القيم ،بل «أبدع من نجمتي املساء والصباح» .فهي بديعة بالفعل َّ
الفضيلة جتعل من البحث عن الكامل شيئ ًا آخر غري السعي األناين لتمثلها والتش ُّبع هبا .وحدها «العدالة تبدو ،من دون سائر القيم ،خري ًا
املتوجه نحو الغري يكشف لنا املعنى احلقيقي للكامل اإلنساينِّ ال يتمحور عىل الذات وإنَّام يمدُّ اجلسور مع الغري» .وهذا الشوق إىل اخلري
فالتوجه نحو الغري
ُّ إن البحث عن الكامل مسألة يف غاية الصعوبة. الذي ال يمكن إدراكه إال يف أفق كامل يتحقق يف إطار الوجود باملع َّيةَّ .
«كل ما هو الصعب» .هنا نتذكَّر ما قاله سبينوزاُّ :
فضيلة العدالة ،إذ ال يربع املرء يف إنجاز يشء ما مل يستحرض اآلخر ،وهذا هو «األمر ّ
مجيل صعب ونادر» .هنا ال ُبدَّ من متييز جوهري بني اإلتيقا واألخالق؛ فاألوىل هتفو إىل الظفر بحياة ط ّيبة ،بينام تقرتن األخالق دوم ًا
بالواجبات وتنضبط باملعايري واإللزامات.
اإلرث األرسطي الذي تتميز فيهِ درك التقابل املوجود بني إرثني:
يف التمييز بني مقصد احلياة الط ّيبة واخلضوع للمعايري والواجباتُ ،ي َ
واإلرث الكانطي ذي الطابع الديونطولوجي ،حيث تتحدَّ د األخالق بالطابع اإللزامي للقاعدة ِ اإلتيقا بمنظورها الغائي التليولوجي،
املؤسسات العادلة؛ وحني ننربي للحديث باملؤسسة ،عىل الصعيد التليولوجي ،يكون املقصود هو َّ َّ واملعيار .فحني نتحدَّ ث عن العالقة
عنها عىل املستوى الديونطولوجي ،فالعني عىل املواجهة بني جمموعة من املعايري التي جيري ضبطها وترتيبها بواسطة إجراءات تروم ضامن
املساواة بني اجلميع أمام القانون؛ وعىل الصعيد الربغاميت ،يكون القصد هو املواجهة املحتدمة بني هذه القواعد وعالقات اهليمنة التي
كل تفكري جدّ ي يف العدالة :كيف نعطي للعدالة ،فيام وراء التربيرمؤسسات .هنا تنكشف الصعوبة التي تواجه َّ تظهر هي أيض ًا يف شكل َّ
الربغاميتُ ،بعدها الغائي أو التليولوجي الذي ال تستقيم احلياة املشرتكة بدونه؟
مؤسسات عادلة .ضمن هذا املنظور ال تتح َّقق العدالة يبي ريكور ،تروم احلياة الط ّيبة مع اآلخر وألجله داخل َّ فالقصود اإلتيق َّية ،كام ّ
للمؤسسات االجتامع َّية كام احلقيقة بالنسبة إىل
َّ املؤسس َّية .فالعدل ،حسب العبارة الشهرية لرولز ،هو الفضيلة األوىل إال عرب الوساطة َّ
املؤسسىات فهي بالتعريف ليست إال بنيات تضمن العيش املشرتك جلامعة تارخي َّية ـ شعب ،أ َّمة ... ،ـ وهي بنيات أنظمة الفكر .أ َّما َّ
أن اإلنسان ليس خالد ًا ،فإنَّه يمنح نفسه نوع ًا من األبد َّية من خالل تشييد
غري قابلة لالختزال إىل عالقات فرد َّية بني األشخاص .فبام َّ
املؤسسات .فالسلطة ال توجد وألطول مدَّ ة إال إذا تو َّفرت إرادة
مؤسسات تعيش زمن َّي ًا أطول منه .والقض َّية املعضلة هنا تكمن يف هشاشة َّ َّ
ال بالرتاتب َّية بني احلاكمني واملحكومني تنطوي عىل البينياتالسلطة السياس َّية املوسومة أص ً َّ
العيش املشرتك داخل مجاعة تارخي َّية ما .بيد أن ُّ
املؤسسات.املحايثة للهيمنة ،وهذا هو الطابع املقلق يف هشاشة َّ
املؤسسات يف
أن فشل َّ املؤسسات بوصفها العنرص الذي حيقق َّ
كل رغبة يف العدل ،ويف اآلن نفسه ،هي ما يتيح نسيانه ،عىل اعتبار َّ تظهر َّ
فاملؤسسة نسق لتوزيع احلقوق
َّ تدبري العيش املشرتك والعمل بمقتىض مبدأي املساواة واإلنصاف سيجعل حتقيق العدالة أمر ًا مستحيالً.
املؤسسات ،وعرب سريورات التوزيع املختلفة. والواجبات واملوارد واخلريات .وهذا الطابع التوزيعي يطرح مشكل العدالة داخل َّ
لقد انتقلت املجتمعات اإلنسان َّية من الرببر َّية إىل احلضارة عندما هجرت منطق االنتقام وعانقت أفق العدالة الرحيب والتدبري السيايس
والديمقراطي للرصاعات .لذا كانت العدالة دوم ًا مؤرش ًا عىل الديمقراط َّية ،وكانت الديمقراط َّية طريق ًا إىل العدالة .فهام مفهومان
جمرد توزيع عادل للخريات املاد َّية أم هي أيض ًا توزيعمتواشجان يمسك أحدمها برقبة اآلخر .لكن عن أ َّية عدالة نتحدَّ ث؟ وهل العدالة َّ
للخريات السياس َّية وضامن ملشاركة اجلميع يف بناء املجتمع والتن ُّعم بخرياته ،وتأذن بتحقيق أكرب قدر من طيب العيش؟ كيف يمكن أن
إن الديمقراط َّية ليست نظام ًا طوباوي ًا كامالً،
تنجح التعدُّ د َّية الديمقراط َّية يف إطار من التفاوتات االقتصاد َّية الصارخة؟ أال ينبغي القول َّ
وإنا ال تعني الفضيلة املطلقة ،وإنَّام هي حقوق وواجبات؟ هل ستكون القرارات التي سيقود إليها استفتاء ديمقراطي بالرضورة عادلة، َّ
ألنا ديمقراط َّية؟ َّ
هل يكفي تطبيق القانون لضامن العدالة ،أم أنَّه ال ُبدَّ من اعتامد قيم اإلنصاف والتعويض كذلك؟ إذا كان يف الديمقراط َّية «ما يقتيض
مؤسسات اجتامع َّية متارس اإلنصاف واملساواة ،فام هي حظوظ
احلق يف االختيار ،دون اإلساءة إىل اآلخرين ،ويف العدالة ما يستدعي َّ
الديمقراط َّية والعدالة يف جمتمعات عرب َّية مل تدخل فعل َّي ًا إىل األزمنة احلديثة»؟
وقوة أطروحاته وغزارة معلوماته ،عسانا هذه وتلك أسئلة عميقة ومتش ّعبة جعلتنا نفرد هلا ملف ًا ضخ ًام وغن َّي ًا ،يتم َّيز ُّ
بتنوع مقارباته َّ
نكون قد أفلحنا يف إلقاء املزيد من األضواء عىل أسئلة العدالة يف تشابكاهتا القو َّية مع الديمقراط َّية يف سعيها احلثيث لبناء جمتمع عرصي
حديث.
ال بنصوص فكر َّية وأدب َّية وفن َّية ها َّمة تسافر بالقارئ يف فضاءات اإلبداع وإىل جانب هذا امللف ،حرصنا عىل جعل هذا العدد حاف ً
نتعرف عىل القضايا التي تشغلهم ونتابعضمنَّاه حوارات ها َّمة مع مفكرين عرب وأوروبيني من خمتلف املشارب ،حتى َّ واإلمتاع ،كام ّ
جديد استشكاالهتم وتفكراهتم.مسك اخلتام دوم ًا بحصاد«مؤمنون بال حدود» الذي جاء عاكس ًا حليو َّية َّ
املؤسسة يف نرش املعرفة وإصدار
والقراء عىل امتداد ربوع الوطن العريب. َّ الكتب التي تساهم يف دعم حركة التنوير ومدّ جسور التواصل بني املبدعني
أملنا أن نكون قد ُو ّفقنا يف تقديم عدد متكامل يرقى إىل تطلعات قرائنا الكرام ،يف انتظار مسامهاتكم ومالحظاتكم واقرتاحاتكم.
نحس
العمراين
فهمي جدعان*
أن املشكل األعظم الذي حيكم تالبيب االجتامع العريب املعارص ومفاصله يقع عىل وجه التحديد أكف ،عن تكرار الزعم َّ أكف ،ولن َّ مل َّ
أن املسألة ك ّلها
مرات عدة يف وجه األطروحة التي زعم أصحاهبا من الضاربني يف «العقالن َّية املرسفة» َّ يف شبكة القيم .ولقد هنضت َّ
وأن ذلك ،بالطبع ،لن يتح َّقق إال بعد املرور كل يشءَّ ، تفرد العقل ويف تنصيبه إمام ًا يف ّ
وأن حلها يتمثل يف ُّ تكمن يف «العقل العريب»َّ ،
بـ «نقد» هذا العقل ،الذي أطبق نقا ُّده عىل أنَّه عقل خرايف ،أو بياين ،أو «سابق للمنطق» ،أو ضارب يف «اهلرمس َّية»...إىل آخر ذلك من
أن هذه الرؤية ،عىل السامت املرذولة التي هتبط بطبيعة هذا العقل وبقيمته يف أداء دور إجيايب يف النهضة العرب َّية .وقد كان موقفي وما زال َّ
ثمة وجه ًا آخر ،بنيوي ًا ،هلذا املشكل يكمن يف تظل قارصة عن اإلحاطة بمجمل املشكلَّ ،
ألن َّ الرغم من األساس الواقعي السديد هلاُّ ،
اخللل العميق الذي يتل َّبس «الفعل» ،أي القيم ،أي منظومة القيم الفاعلة السائدة وهيكل َّية «الس َّلم» الذي حيكم هذه القيم ويضبطها.
بكل تأكيد .ومن ُي ِ
لق النظر إىل وقائع احلياة فذلك وجه شاهد يف مجلة األفعال التي تصدر عنا يف حياتنا اليوم َّية .الظاهرة ليست جديدة ّ
األخالق َّية العرب َّية أمس واليوم يشهد بجالء اخللل األخالقي يف هذه احلياة .الحظ ذلك الفالسفة العرب قدي ًام؛ وضع أبو بكر الرازي
(الطب الروحاين) إلصالح األخالق والنفوس .وتن َّبه حييى بن عدي إىل املشكل نفسه يف (هتذيب األخالق) ،وتابعهام مسكويه يف ّ كتابه
تم يف أعامل هؤالء ،وغريهم ،فضح أخالق :ال ُع ْجب ،والكذب ،واحلسد ،والنفاق ،والظلم، (هتذيب األخالق وتطهري األعراق) .لقد َّ
ال عن «أمراض النفس» وآالمها ،كاحلزن ،واخلوف من املوت ،والغم ،وغريها .مل تنقلب األمور وطلب اجلاه واملناصب الدنيو َّية ،...فض ً
يف األزمنة احلديثة ،إذ هي تسوء وتسوء ،وتتَّجه بـ «فضل» ظفر الرأسامل َّية والنفع َّية والفردان َّية والعوملة ،إىل مزيد من فساد القيم وانتشار
مضادات «الفضيلة» وفق املصطلح القديم ،مصطلح أفالطون وأرسطو ومن تابعهام من فالسفة العرب واإلسالم.
إن املسألة كامنة يف هجر الدين واألخالقبكل تأكيد ،يقول الدعاة والوعاظ وأئمة املساجد املسلمون ورجال الدين املسيحي وغريهَّ ، ّ
التي دعت إليها ديانات التوحيد .والوعظ الديني والرتبية الدين َّية يؤكدان َّ
أن األخالق هي عىل وجه التحديد القيم الدين َّية واألخالق
الدين َّية ،وال يشء سواها.
أن اإلنسان ،بإطالق ،مفطور عىل ثلة من القيم التي يذهب كثري من الفالسفة واملفكرين والعلامء أيض ًا إىل االعتقاد لك َّن احلقيقة هي َّ
عززت هذه األخالق وأضافت إليها قي ًام جديدة .لك َّن التقليد بأنا مغروسة ،أو مغروزة ،يف الطبيعة اإلنسان َّية ،وحني جاءت الديانات َّ َّ
أن الناس ألن الثابت هو َّ الذاهب إىل التمييز بني األسس الدين َّية واألسس الفلسف َّية أو العقل َّية« ،الطبيعة» ،للقيم األخالق َّية َّ
ظل قائ ًامَّ ،
أمر غري سديد وغري واقعيَّ ،
ألن للقيم الطبيع َّية، بكل تأكيد ٌأن غري املؤمنني هم بال أخالق ،ذلك ّ ليسوا مجيع ًا مؤمنني .لك َّن ذلك ال يعني َّ
لكل نمط من أن ّكل مكان ،إىل جانب القيم الدين َّية التي يشدّ د عليها هذا الدين أو ذاك .وال خيفى َّ أو «اإلنسان َّية» ،حضور ًا ملموس ًا يف ّ
املسوغ ،فالقيم الطبيع َّية ،أو «اإلنسان َّية» ذات أسس رصحية :العقل ،أو الفطرة ،أو الضمري ،أو املجتمع... ّ املقوم أو
هذه القيم أساسها ّ
أو غري ذلك.
أ َّما القيم الدين َّية فرتجع إىل األساس الذي تقوم عليه الديانة ،أي أوالً وآخر ًا إىل الوحي.
قد تتضارب أو تتضاد أو تتباين القيم الدين َّية -يف هذه الديانة أو تلك -والقيم «اإلنسان َّية» الطبيع َّية أو الفلسف َّية ،لكنَّها يمكن أيض ًا أن
وألن هذا موضعه .قلت: َّ مهيته، تتوافق هبذا القدر أو ذاك .وقد كان يل قول يف هذه املسألة ،غري متداول ،أرى أن أسوقه هنا ،أل ّ
«يف حماورة (أوطيفرون )Euthyphronألفالطون ،يلتقي سقراط بأوطيفرون يف دار القضاء ،فيسأله عن السبب الذي من أجله هو،
حق أبيه -الطاعن يف السن -الذي اقرتف جريمة ِ
قتل غال ٍم عنده. إن غرضه إقامة دعوى «الفجور» يف ّ مث ُلهٍ ،
آت إىل هذا املكان ،فيجيبه َّ
تستبدُّ بسقراط الدهشة ،ويطلب من أوطيفرون تفسري ًا ملا هو م ِ
قد ٌم عليه ،فيقول إنَّه يفعل ذلك استجابة آلمر «التقوى» أو «املقدَّ س» -و ُ
يكون بينهام ،عىل وجه اخلصوص ،هذا احلوار:
التقي ،يا عزيزي أوطيفرون ،أال حت ُّبه اآلهلة مجيع ًا؟ ّ سقراط :ما قولنا يف
بكل تأكيد.أوطيفرونّ :
تقي أم لسبب آخر؟ سقراط :وهل هي حتبه ألنَّه ّ
أوطيفرونَّ :إنا حتبه لسبب واحد ،هو أنَّه ّ
تقي.
ألنا حتبه»! تقي ،لكنَّه ليس تقي ًا َّ
سقراط :فهي إذ ًا حتبه ألنَّه ّ
ويستمر احلوار وينرصم من دون أن يفيض إىل نتيجة قاطعة. ُّ
َت َّول هذا احلوار يف تاريخ الفكر الفلسفي والديني إىل ما ُس ّمي (إحراج أوطيفرون) ،وتر َّددت أصداؤه لدى توما األكويني وكانط
وبرتراند رسل وهابرماس وكثريين آخرين .ويف اإلسالم أيض ًا تقابل عنده «النقليون» من (أصحاب احلديث) و(األشاعرة) من طرف
خي ًا أو حسن ًا َّ
ألن اهلل يغ (اإلحراج) يف هذه األوساط مجيع ًا عىل النحو التايل :هل يكون ٌ و«العقليون» من املعتزلة من طرفِ .
وص َ
فعل ما ّ
خي أو حس ٌن يف ذاته؟ ويتعلق هبذا السؤال إحراج آخر: يأمر به؟ أم َّ
أن اهلل يأمر به ألنَّه ّ
هل يمكن أن يكون الفعل الفاجر تق َّي ًا /أو الفعل القبيح حسن ًا /إذا أخرب اهلل بذلك؟ أو أن يكون الفعل احلسن قبيح ًا إن أخرب اهلل
بذلك؟
وبتعبري آخر:
يؤسس القول َّ
إن هذه القيمة األخالق َّية خري أو رش؟ العقل (اإلنساين) ،أم الدين (أو اهلل)؟ ما الذي ِّ
تثور املسألة اليوم أيض ًا ،يف فكرنا العريب واإلسالمي ،ويف الفكر الغريب أيض ًا .وتشخص يف أمرها رؤيتان متقابلتان مرتافعتان:
األوىل :الرؤية التي تنسب نفسها إىل العقل والعقالن َّية وتؤسس األخالق عىل العقل ،وجتعله مسوغ ًا لإللزام األخالقي الكوين.
ومسوغ ًا لإللزام األخالقي عند املؤمنني.
ّ والثانية :الرؤية التي جتعل الدين أو الوحي أساس ًا لألخالق،
ويلحق هبذين الوجهني من النظر تقرير مطابقة األخالق للدين عند فريق ،وتقرير «التاميز» والتقابل التام بني االثنني عند فريق آخر.
سأنحرص يف مراجعة املشكل يف حدود هاجسنا العريب واإلسالمي ،لكنَّني لن أجتاهل ما يتعلق به عن فالسفة الغرب املحدثني،
بممثلي دا ّلني ،أحدمها يدافع عن األساس العقالين لألخالق ،واآلخر يدافع عن األساس الديني له :عادل
ْ وسأكتفي من مفكرينا
إن هاتني الرؤيتني يف شأن األساس الذي ضاهر ،وطه عبد الرمحن .ثم أقول قويل .لكنَّني قبل ذلك ،ومن أجل استكامل املشهد ،سأقول َّ
ثمة وجوه ًا أخرى من النظر تشخص يف مواقف أخرى ال تستند إليه القيم األخالق َّية ال تستنفدان مجيع املواقف املتعلقة باملسألةَّ ،
ألن َّ
تشتق األخالق من العقل ،وال تشتقها من الدين ،وإنَّام تر ُّدها إىل منابع أخرى ،إ َّما طبيع َّية ،وإ َّما ذات َّية .ذات َّية كاإلرادة والرغبة والشهوة؛
ال للوجود، أن القيم األخالق َّية حمايثة أص ًأو طبيع َّية كتلك التي تدافع عنها الفلسفة الطبيع َّية الواقع َّية ،التي يذهب اآلخذون هبا إىل َّ
قائمة فيه بالطبع أو الطبيعة ،ويف اصطالح بعضهم :مغروزة يف الوجود .وليس يبعد عن هذه النظرة مذهب القائلني ،وفق رؤية دين َّية،
عب عنها جان جاك روسو .وكذلك يمكن أن يلحق هبذه بـ «الفطرة» ،أو بـ «حال الطبيعة» ،وفق فلسفة إنسان َّية رومانس َّية كتلك التي َّ
«احلس األخالقي» ،الوجداين ،الطبيعي ،الذي يتكلم عليه ،عىل وجه اخلصوص ،ديفيد هيوم ،الذي ّ األفهام نظرة الفالسفة القائلني بـ
أن العقل ُيعنى بام هو كائن ال بام جيب أنيم ّيز بني األحكام الوجود َّية واألحكام املعيار َّية ،ويربط النظر إىل العقل هبذا التمييز ،إذ يؤكد َّ
يقرر الوسائل ال الغايات ،أي أنَّه ينحرص يف الكشف يكون ،وما جيب أن يكون هو حقل «مملكة الغايات» أي األخالق ،أ َّما العقل فإنَّه ّ
عن الوسائل اجلديرة بتحقيق الغايات التي تتعلق موضوعاهتا باإلرادة عىل وجه التحديد ،فض ً
ال عن أنَّه ال يملك القوة الدافعة إىل الفعل.
أن احلكم اخللقي ال يقوم عىل العقل ،وأنَّه ليس لألحكام األخالق َّية أساس عقالين (عادل ضاهر ،األخالق والعقل.)20 ، وحمصل ذلك َّ
لنرجع إىل الرؤيتني املركزيتني اللتني مها مثار النظر واجلدل يف أمر تأسيس األحكام األخالق َّية :الرؤية العقل َّية ،والرؤية الدين َّية.
ألن أصحاب هذا يف مقدمة ما يشخص للنظر ،حني يتعلق األمر باملنظور العقالين ،هو أن نسأل عن معنى العقل .هذا أمر رضوريَّ ،
املذهب يشدّ دون عىل قض َّية مركز َّية هي «أسبق َّية العقل عىل النقل» ،ومن َث َّم الدفاع عن قضية اشتقاق األحكام األخالق َّية من العقل
وتقرير اإللزام اخللقي بالر ّد إىل العقل.
أن مفهوم العقل مفهوم غامض ،مشكل ،ال اتفاق حوله وال إمجاع ،ومازال اخلالف واالختالف قائمني يف الغرب نفسه ليس رس ًا َّ
حول معنى العقل ،وحول ما إذا كان العقل ملكة نظر َّية إدراك َّية فحسب ،أم َّ
أن له وظيفة معيار َّية .ومعلوم اليوم يف إطار مرحلة (ما بعد
أن «الرسديات الكربى» -كالتقدُّ م والعقل والعلم -...قد أصيبت يف الصميم واشتدَّ التخيل والعزوف يمر هبا الغرب َّ
احلداثة) التي ُّ
عنها .وأطروحة «أول َّية العقل» التي أخذ هبا مفكرو عرص التنوير وكانت متثل بداهة من بداهات ذلك العرص والقرون التي تلت ،هي
اآلن موضع مراجعة نقد َّية جذر َّية لدى مفكرين كجاك دريدا وريشارد روريت ،ومجلة فالسفة التأويل ،فض ً
ال عن الفالسفة الوجوديني.
لكن ما هو املفهوم الكالسيكي ،أو التقليدي للعقل ،خصوص ًا ذاك الذي نجده عند «العقالنيني الكالسيكيني»؟ أرسطو قدي ًام،
وديكارت حديث ًا.
وم َ ِّردة ،مستعدَّ ة لقبول صور املعقوالت من املوجودات احلس َّية وحتويلها منقوة يف النفس اإلنسان َّية ُم َ َّردة ُ أ َّما العقل عند أرسطو فهو َّ
معقوالت بالقوة إىل معقوالت بالفعل هي موضوعات املعرفة ،أي أنَّه قوة نظر َّية ُم َعدَّ ة إلدراك ماهيات املوجودات وصورها ،وقادرة عىل
االستنباط واملحاكمة واملقايسة والتسويغ والتحليل والرتكيب والربهان .لكنَّه ال يتمتع بميزة الفاعل َّية ،أو بأن يكون فع ً
ال من األفعال
أن العقل ُيعنى بام يكون ال بام جيب أو ينبغيَّ ،
وأن وظيفته إدراك َّية معرف َّية عىل وجه التحديد. اإلنسان َّية ،أو مبدأ ألحكام معيار َّية .وهذا يعني َّ
أن العقل ملكة متكّن اإلنسان من أن يدرك أو يعرف ويتحرك الفكر الديكاريت يف األفق نفسه عىل وجه التقريب ،إذ يرى ديكارت َّ
حقائق من نوع معني عىل نحو مبارش (غري استداليل) ،أي أنَّه ملكة استنباط ال ملكة استدالل ،وأنَّه يستند ابتداء إىل أداة يف املعرفة املبارشة
كل ما ال يمكن حدسه أن َّ
هي احلدس ،منه تستنبط مجلة املعارف املمكنة يف العامل اخلارجي أو يف الوجود الذايت .والذي يرتتب عىل ذلك َّ
أو ما ال يمكن استنباطه ممَّا نحدسه ال يمكن أن يكون ذا شأن عقيل.
التصور األرسطي والديكاريت الذي جيعل ُّ إ َّن والسؤال الكبري الذي يثور هنا هو التايل :هل العقل قوة فاعلة
من العقل قوة إدراك َّية نظر َّية خالصة وظيفتها قادرة عىل دفع اإلنسان إىل الفعل؟ أم أنَّه ليس كذلك؟ ويلحق
يقرر الغايات التي ينبغي
بذلك :هل من وظائف العقل أن ّ
األساس َّية «تعيني احلقائق الرضور َّية القبل َّية التي ال
حتقيقها يف احلقل األخالقي العميل ،أم َّ
أن وظيفته تنحرص يف تقرير
أي وظيفةجمرد من ّ حتتاج إىل برهان »..هو عقل َّ الوسائل املناسبة لتحقيق غايات اختريت عىل أساس غري عقيل،
معيار َّية جوهر َّية ،أي أنَّه ال يملك أن يكون أساس ًا كاإلرادة أو الشهوة أو العاطفة أو املزاج االجتامعي؟
تشتق منه األحكام اخللق َّية
يتفق القديس أوغسطني وتوما األكويني ودفيد هيوم
ويؤكدون أن العقل النظري ال يملك القوة عىل الدفع إىل الفعل ،أي إىل ممارسة األفعال األخالق َّيةِ ،
وعادل ضاهر وسواهم ،عىل َّ
أن العقل النظري ينحرص يف املعرفة واإلدراك واالستدالل فحسب .وذلك خالف ًا لفالسفة يتقدَّ مهم سقراط القائل َّ
إن العلم َّ
بالفضيلة يقتيض بالرضورة العمل هبا وممارستها .وبكلمة ،مثلام يؤكد عادل ضاهر ،املعارف واالعتقادات هي املادة األساس َّية
للعقل النظري؛ أ َّما الغايات التي ينبغي حتقيقها يف حقل العمل فرتتبط بعقل آخر قادر عىل تسويغ وإنفاذ األفعال األخالق َّية
واالختيارات والقرارات والغايات واملقاصد .هذا العقل هو العقل العميل ،الذي ال ينفصل فيه العقل عن الفعل (أول َّية
العقل .)34،ذلك أيض ًا ما يذهب إليه طه عبد الرمحن ،عىل الرغم من التضاد املذهبي بينه وبني عادل ضاهر ،إذ هو رصيح يف
املجردة ،أي النظر َّية اخلالصة،
َّ إن العقل النظري ال يمكن فصله عن الفعل (سؤال األخالق ،)63،هو يس ِّلم بالعقالن َّية القول َّ
عرف العقل املسدَّ د بأنَّه «العقل الذي اهتدى يسميه «العقالن َّية ا ُمل َسدَّ دة» .وهو ُي ِّ
لكنَّه يؤكد َّأنا قارصة ،وأنَّه ينبغي تعزيزها بام ّ
املجردة
َّ إىل معرفة املقاصد النافعة» التي هي عنده املعاين الثابتة التي تنبني عليها تكاليف الدين .وعنده َّ
أن اخلروج من العقالن َّية
أن العقل العميل هو الذي يصبح أساس ًا للقيم األخالق َّية يتم بالتوسل بالقيم العمل َّية؛ أي َّ العارية من منافع املقاصد ،والقارصةُّ ،
واألفعال األخالق َّية (نفسه 68 ،وما بعدها) .وذلك عىل وجه التحديد ،لكن عىل خالف جوهري يف املذهب ،هو ما عرف عن
التقليد الكانطي وما شدَّ د عليه عادل ضاهر.
مر ،بالرشوط البيولوج َّية والرشوط االجتامع َّية لك َّن هذا العقل عند عادل ضاهر ليس ذا عالقة عضو َّية بالدين ،وإنَّام هو مرتبط ،مثلام َّ
فإن العقالن َّية -يف صيغتها «ا ُمل َسدَّ دة» ،ال يف
التي تدفع إىل الفعل يف املجال العميل .أ َّما عند طه عبد الرمحن وأصحاب املنظور الديني َّ
املجردة – هي «خاصة الفعل اإلنساين الذي يقوم يف طلب حتقيق مقاصد مع َّينة نافعة بوسائل مع َّينة» ،ويف صيغتها «املؤ ّيدة » َّ صيغتها
طاعة يف العبادة واشتغال باهلل وطاعة يف املعاملة وتعامل مع اهلل ،وهي «خاص َّية الفعل اإلنساين الذي يقوم يف طلب حتقيق مقاصد نافعة
بوسائل ناجعة» ،يف حدود اجلمع بني نفع املقاصد يف ثباهتا وشموليتها وبني نجوع الوسائل يف تغريها وخصوصيتها ،بدوام «االشتغال
أي مذهب عقالين حقيقي ،أعني فإن ما يذهب إليه طه عبد الرمحن هنا ال يمكن أن ينتسب إىل ّ باهلل والتغلغل فيه» (نفسه .)75 ،ومع ذلك َّ
ألن «العقيل»يتمسكون باستقالل العقل اإلنساين ال يمكن أن يس ّلموا له بر ّد العقل إىل الدين أو إىل التد ُّينَّ ، أن مجيع «العقالنيني» الذين َّ َّ
يظل «إنسان َّي ًا» يف املقام األول والنهائي ،أ َّما الديني فيظل إهل َّي ًا أوالً وآخر ًا ،وإحراج أوطيفرون ُّ
يظل قائ ًام. ُّ
التصور األرسطي والديكاريت الذي جيعل من العقل قوة إدراك َّية نظر َّية خالصة وظيفتها األساس َّية ُّ ُم َ ّصل القول يف هذه املسألة َّ
أن
أي وظيفة معيار َّية
جمرد من ّ
ثم استنباط ما يمكنه استنباطه منها» هو عقل َّ «تعيني احلقائق الرضور َّية القبل َّية التي ال حتتاج إىل برهان ،ومن َّ
جوهر َّية ،أي أنَّه ال يملك أن يكون أساس ًا تشتق منه األحكام اخللق َّية ،ألنَّه متعلق جوهري ًا بام هو واقع ال بام هو مرغوب فيه أو مطلوب
معياري ًا ،أي أنَّه يتعلق بالوجود ال بالوجوب .أ َّما العقل العميل أو التقويمي أو املعياري -أو األخالقي -فإنَّه قوة يف اإلنسان تتعلق قبل
توجه الفاعل إىل الفعل ،وال تنفصل عن الرشوط أي يشء آخر بالرغبة واإلرادة والقرارات واألفعال القصد َّية التي هي دوافع ورغبات ّ ّ
توجه إىل الفعل وحتكم طبيعة الفعل الذي يوصف بأنَّه أخالقي أو غري أخالقي ،إذ ختتلط يف فضائه األفعال البيولوج َّية واالجتامع َّية التي ّ
أن جمال العقل العميل هو جمالالتي يقتضيها الواجب واألفعال التي تتدخل فيها املصلحة الذات َّية ،وقد يتناقض مع ما يتطلبه الواجب .أي َّ
تتقابل فيه وتتشابك وتتعارض وتتوافق :الرغبات واملنافع والواجبات واالعتبارات الفرد َّية واالجتامع َّية.
سمى العقليف املشكل الذي نحن يف قبالته ،أعني األساس العقيل لألخالق واألساس الديني لألخالق ،ويف ضوء هذا التاميز بني ما ُي َّ
سمى العقل العميل والعقالن َّية املعيار َّية ،ويف حدود مبدأ «اإللزام األخالقي» الذي تفرتضه األفعال
النظري والعقالن َّية النظر َّية ،وبني ما ُي َّ
األخالق َّية ،سوا ٌء أكان األصل هو العقل أم الدين ،ما الذي يل أن أعتربه األقوم واألجدر بأن يكون موضوع اعتقاد أو تصديق؟.
املقوم للقيم
أن (النص) ـ الديني -هو احلاكم واألساس ّ يف تراثنا اإلسالمي تقابل النقل ُّيون والعقل ُّيون عند هذا املشكل .أكَّد النقل ُّيون َّ
واملبدأ القاطع لإللزام اخللقي ،وأنَّه ال أساس سواه ،فام أخرب به النص هو اخلري أو الرش ،احلسن أو القبيح .وقد ترتب عىل ذلك ،منطقي ًا،
وبكل تأكيد سيضيق جمال ّ أن اهلل لو أخرب بأن يكون ما اعتُرب «منكر ًا» أمر ًا حسن ًا -أو العكس -لكان األمر مقضي ًا عىل هذا النحو. َّ
«العامل األخالقي» حينذاك لدى من ال يأخذون بأصول القياس واإلمجاع واالستصحاب واملصالح املرسلة ،وغري ذلك ممَّا َأ َّصله بعض
أن هؤالء مجيع ًا ال يشعرون بالغبطة ملا ذهب إليه العقل ُّيون - يوسع عىل الناس يف دينهم ودنياهم .ومع َّ أصحاب املذاهب الفقه َّية ،وممَّا ِّ
خصوص ًا املعتزلة منهم -يف وضع «النظر العقيل» -أي العقالن َّية النظر َّية -منهج ًا يف النظر وحتديد احلسن والقبيح من حيث َّإنام ذات َّيان
أن احلق الذي وأن الرشع يأيت ويعززمها ،إال َّ
يف املوجودات يستطيع العقل النظري اإلنساين الكشف عنهام وتبينهام قبل ورود الرشع هبامَّ ،
أن هؤالء وأولئك ـ أعني أصحاب العقل وأصحاب املذاهب الفقه َّية «املنفتحة» -يشرتكون يف فضيلة جوهر َّية هي ينبغي أن يقال هو َّ
الديني» ،إىل رؤية دين َّية إنسان َّية منفتحة
ّ الرغبة واإلرادة يف اخلروج من الرؤية الدين َّية التي تقف عند حدود ما حيلو يل أن أسم ّيه «اإلنسان
مهها اإلنسان بإطالق .وحني أقول الرغبة واإلرادة فإنَّني أحرش يف الرؤية هذه العقليني و«النقليني املنفتحني» يف القاطرة نفسها .قد يقال ُّ
أن (النص) يأيت يل هنا :لك َّن املعتزلة ال يس ِّلمون إال بالعقل أساس ًا ملا هو خلقي أو غري خلقي ،وجوايب هو َّأنم يثبتون إىل جانب ذلك َّ
أن اهلل خالقه وطابعه ال الطبيعة أو الوجود، وأن العقل نفسه هبة إهل َّية لإلنسان وليس «هبة طبيع َّية» ،أي َّ
ليعزز ما يعقله العقل النظريَّ ، ّ
إن العقل النظري -الذي ال يملك قوة الدفع إىل وفق املنظور«الدهري» .وأنا سأحدث ،من بعد ،تطوير ًا أساسي ًا يف هذه الرؤية ألقول َّ
الفعل -جيد يف العقل العميل الديني ،أي يف الوحي ومتعلقاته من الثواب والعقاب األخرويني ،متم ًام له ومسوغ ًا موضوعي ًا -وذاتي ًا يف آنٍ
ِّ
مع ًا -لإللزام األخالقي.
ألنظر اآلن يف مدى قوة األفهام التي ال جتعل األساس األخالقي ال يف الدين وال يف العقل ،وألقف منها بشكل خاص عىل املنظورات:
«الطبيعي» ،واإلرادي ،واالجتامعي ،والنفعي؛ إذ هي األبرز واألكثر تداوالً يف الفضاءات الفلسف َّية.
وإن اإلنسان يكتشفه إن «األخالقي حارض ،موجود ،مغروز يف الوجود نفسهَّ ، يقول «الطبيع ُّيون» -وهم يتعللون أيض ًا بالعقلَّ -
إن هذه احلالة «الغريز َّية» أو «ال َط ْبع َّية» -أو «الفطرة» أيض ًا -تفرض أو تلزم بالرضورةَّ ،
ألنا طبيع َّية، بعقله» ،ويضيفون إىل ذلك القول َّ
أحتول من بأن نخضع ألحكام القيم التي تصدر عنها .لكن إذا اقرتن هبذه الرؤية القول بدهر َّية الطبيعة والوجود ما الذي سيلزمني بأن َّ
أتوسل به لدحض دعوى السوفسطائيني ،من أمثال كاليكليس وترازيامخوس... معرفة هذه القيم إىل العمل هبا؟ وما الذي أستطيع أن َّ
إن قيمة العدل هي القيمة األخالق َّية العليا َّ وهوبز أيض ًا ،القائلني بسلطان اجلور والظلم وغياب العدالة يف
و«الكلمة الفصل» يف دين اإلسالم ،وأضيف الوجود؟ وحتى القائلون بنظر َّية «الفطرة» ،ما قيمة هذه الفطرة إن
مل تكن مقرتنة بإيامن ديني من نوع خاص؟
الرس األعظم الذي يثوي وراء اليوم القول َّإنا ُّ
اخللل املزمن يف االجتامع السيايس اإلسالمي، إن األفعال األخالق َّية جتسيد لرغباتنا ويقول «اإلراد ُّيون» َّ
وخلف «اإلعصار» الذي يرضب اليوم بجور وإراداتنا ،من هذه اإلرادات والرغبات تكتسب القيم داللتها
وبغري رمحة األخالق َّية .لكن كيف يأيت لنا أن نقيم أخالق ًا كل َّية ،عامة ،شاملة،
كون َّية ،إذا ما تعلق األمر برغبات وإرادات متفاوتة ،متباينة،
متعارضة ،متضادة...؟ أال تكون النسب َّية هي النتيجة احلتم َّية ملثل هذا املذهب؟ أال تقرتن النسبية هنا بنزعة «ذاتان َّية» تنهض يف وجه
الكيل» ،أي عدمية؟
ّ «االجتامعي» و«األخالقي
وسلطته وأحكامه أن قوة املجتمع ُ أن إحدى النظريات الفلسفية يف «اإللزام األخالقي» تؤكد ،منذ إميل دوركهايمَّ ، وليس رس ًا َّ
ومنطقه اإلطالقي القرسي هي التي تؤسس القيم األخالق َّية يف املجتمع .ال شك يف َّ
أن للمجتمع أحكامه القهر َّية االستبداد َّية القرس َّية،
لك َّن املجتمع يتمثل ثقافة حمددة ،وحاله يف ذلك حال ثقافات أخرى مباينة بقدر هزيل أو بقدر عظيم .ويرتتب عىل ذلك ما يرتتب عىل
النظريات اإلراد َّية من نتائج «النسب َّية» األخالق َّية ،ومن َث َّم «العدم َّية» املعرف َّية.
احلرة
وتبقى الرؤية «النفع َّية» التي تعترب أقوى النظريات األخالق َّية منذ السوفسطائيني إىل أيامنا هذه التي حتكمها السوق االقتصاد َّية َّ
ال عند صاحبها قوة إلزام خارقة .يف وجه هذه الفلسفة قامت والعوملة النفع َّية الرشسة .والقيمة العليا هنا هي املنفع َّية التي متلك فع ً
ال عن مضادهتا ملا يقتضيه اإللزام العقيل األخالقي الشمويل ،تنحدر الفلسفة األخالق َّية الكانطية ،فلسفة الواجب ،وهي ،أي النفع َّية ،فض ً
إىل نظر َّية يف النسب َّية والفردان َّية ويف خرق قيمة العدالة عىل ما نجده يف الليربال َّية اجلديدة.
وأن له حقله اخلاص ،وهم من َث َّم يدافعون عن التمييز القاطع بني «األخالقي»
أن العقل سابق عىل الدينَّ ،يؤكد القائلون بأول َّية العقل َّ
الديني ،عىل ما يذهب إله القائلون بأول َّية الدين،
ّ األخالقي من
َّ و«الديني» ،بمعنى َّأنَّنا ال نستطيع التوحيد بني احلقلني ،وأن نشتق
الديني ،وأنَّه يتعلق
ّ أن األخالقي غري قابل لالشتقاق منوبأن األخالقي والديني متاميزان .وهذا ما جيعل فيلسوف ًا كعادل ضاهر يؤكد َّ َّ
باإلنسان يف وجوده البيولوجي واالجتامعي ،بينام يؤكد آخر ،كطه عبد الرمحن ،بأنَّه ال أخالق بال دين ،وال دين بال أخالق.
العقل وبني املصلحة الذات َّية ،بحيث جيوز أحيان ًا التخيل عن املقتضيات اخللق َّية واالستجابة لدواعي املصلحة الذات َّية ،وهو ما يأباه املنظور
الكانطي بإطالق.
إن «الفرد ال بدَّ له أن يرى بعقله (أي عندما تتوافر له املعلومات املطلوبة عن طبيعة يلخص عادل ضاهر هذه األطروحة بالقولَّ : ِّ
كل اعتبارات أخرى من الرضوري أن أن هناك اعتبارات تفوق َّ احلياة االجتامع َّية وعن معنى األخالق وما تقتضيه عىل صعيد السلوك) َّ
يأخذ األفراد هبا يف سلوكهم ،وهي االعتبارات التي يمليها املنظور اخللقي ،بام هو منظور واحد للجميع» (األخالق والعقل ،)41 - 40
إن لألخالق أساس ًا عقالني ًا هبذا املعنى ال يعني بالرضورة َّ
أن الفرد ال بدَّ له أن يرى وهذه العبارة األخرية كانط َّية ،ثم يضيف« :القول َّ
أن تقيده باالعتبارات اخللق َّية هو أمر الزم ( ،)...وهذا هو أساس بعقله ،يف ّ
كل حالة من احلاالت التي يمتلك فيها املعلومات الالزمةَّ ،
قولنا إنَّه ال يمكننا أن نضمن بصورة مطلقة وجود تطابق تام ودائم بني ما تقتضيه االعتبارات األخالق َّية وما يقتضيه العقل» .و«من هو
جمرد كائن عقالين لن يتورع عن العمل بمقتىض االعتبارات النابعة عن املصلحة الشخص َّية يف حالة تعارض األخرية مع االعتبارات َّ
أن هذا سيكفل له أفضل النتائج عىل املدى البعيد» (أول َّية العقل .)52،والنتيجة التي أخلص أنا منها شخصياً األخالق َّية ،إذا كان يعتقد َّ
أن «العقالن َّية املعيار َّية» تفتقر إىل توافر املبدأ أو العنرص الفاعل القطعي الذي يلزم الفرد بالقيام بالفعل األخالقي عىل الرغم من َّ
أن هي َّ
هذا العقل يرى ذلك.
أن فالسفة والهوتيني كبار ًا كالقدّ يس أوغسطني والقدّ يس توما األكويني يف املسيح َّية -وهم
هذه احلقيقة ليست جديدة ،ألنَّنا نعلم َّ
أن العقل ال يملك سلطة اإللزام األخالقي ،وأنَّه يفتقر إىلأقر بالتاميز بني احلقل الديني واحلقل األخالقي (العقيل) -قد أكَّدوا َّ ممَّن َّ
القوة التي تدفع إىل الفعل األخالقي ،أي إىل االنتقال والتحول من حقل النظر والوجود إىل حقل العمل والوجوب .ومع َّ
أن املعتزلة يف
يعزز العقل
ويعزز ذلك ،أي ّ يتبي حقيقة القيم األخالق َّية ثم يأيت الوحي ّ
أن العقل َّاإلسالم أكَّدوا أسبق َّية العقل عىل الوحي -بمعنى َّ
الذي هو عندهم بطبيعة احلال ِمنَّة إهل َّية -إال َّأنم حسب علمي مل ُيبينوا عن حقيقة االنتقال من «التعقل» إىل «الفعل» ،ويف اعتقادي َّأنم
إن «اإليامن» هو الذي يضمن ذلك. ملزمون بالقول َّ
لك َّن القصور الذي يطال املوقف «العقالين العميل» من هذا الوجه يطال املوقف الذي يدافع أصحابه عن «تبع َّية األخالق للدين»
ويرفضون استقالل األخالق عن الدين ،ويزعمون أنَّه ال أخالق بال دين وال دين بال أخالق .وطه عبد الرمحن هو أبرز من يذهب هذا
املذهب ،إذ خيتزل عقيدته يف ذلك بالقول «ال إنسان بال أخالق ،وال أخالق بغري دين ،وال إنسان بغري دين» ،ويضيف إىل ذلك القول َّ
إن
املتخ ّلق بأخالق الدين هو الذي يرقى إىل مرتبة العقالن َّية الكاملة الضامنة للحياة الطيبة والسعيدة.
كل البعد عن احلقيقة وعن الواقع ،من كل التقدير هذه «االعتقادات اإليامن َّية» اخلالصة ،لكنَّني لألسف الشديد أرى َّأنا بعيدة ّ أقدّ ر َّ
أن حشد ًا من «القيم الدين َّية» التي تنطوي عليها كل القرائن تشري إىل َّألن َّ
وغلو ًا ال حدَّ له ،من وجه آخرَّ .
ّ وأنا ُت ّسد «ذات َّية» مفرطة
وجهَّ ،
بأنم بال دين .وإذا كان حق ًا أنَّه «ال إنسان بال أخالق» ،فإنَّهيرصحون َّ الديانات السامو َّية هي قيم متداولة أيض ًا عند كثري من البرش الذين ّ
وسعنا بقدر عظيم جد ًا فهمنا للدين ،وجتاوزنا ما مر ،وليس حق ًا أنَّه «ال إنسان بغري دين» ،إال إذا َّ
ليس حق ًا أنَّه «ال أخالق بال دين» ،كام َّ
هو ُمدرك منه يف حدود ديانات الوحي.
أن التخ ّلق بأخالق الدين ،حني يكون هذا التخ ّلق نقي ًا ،يفيض بصاحبه حق ًا إىل حياة طيبة سعيدة ،هي حياة عىل أنَّنا ال نملك أن ننكر َّ
التقوى والصفاء الروحي واإليامن ،وإن كان نعتها بالعقالن َّية الكاملة ال خيلو من« تز ُّيد» يدخل يف باب املجاز.
إذا كانت العقالن َّية النظر َّية قارصة عن حتويل الفاعل األخالقي من حالة «التعقل النظري» إىل حالة « الفعل األخالقي» ،وإذا كانت
«ارهتان َّية» األخالق بالدين غري واقع َّية وقارصة يف التفسري ،فام هي العالقة السديدة ،يف نظري ،يف أمر العقل والفعل األخالقي ،من جهة
األسس القاعد َّية التي حتكم ،عقلي ًا أو ديني ًا ،القيم األخالق َّية؟
مالحظة للواقع واعتبار للتجربة ،من وجه ،ومسألة تصديق فلسفي ،من وجه ٍ ليست املسألة عندي مسألة اختيار ،وإنَّام هي مسألة
يتبي حقائق الوجود املوضوع َّية وأن يدرك حقيقة القيم املغروزة يف هذا إن العقل النظري يملك أن َّ آخر .أ َّما الواقع فيقول يل رصاحة َّ
الوجود ،وذلك بفضل ما يتمتَّع به من قوة احلدس الطبيع َّية التي يتمتَّع هبا ،أو بفضل قوة اإلدراك النظر َّية التي هي خاصته اجلوهر َّية.
أن هذه القيم املغروزة يف الوجود ليست موجودة فيه «بالطبع» ،أي من حيث هو حاصل عليها أو متو ّفر عليها بذاته ،أو ويف اعتقادي َّ
َّأنا مطبوعة فيه كالحقة من لواحقه ومتعلق من متعلقاته الذات َّية الطبيع َّية ،وإنَّام هي مركوزة فيه عىل سبيل اإلبداع واإليداع من جانب
فاعل هذا الوجود أو خالقه ،وذلك دفع ًا للفلسفة الدهر َّية .لك َّن هذه القيم الكربى التي ينطوي عليها الوجود ويكتشفها احلدس أو
أن فيها االستعداد ألن تتحول إىل أفعال ممارسة .لك َّن العقل النظري الذي هو تظل ،يف حدود العقل النظري ،قي ًام بالقوة ،أي َّ العقل ُّ
ذو طبيعة استدالل َّية أو استنباط َّية ،استقرائ َّية وبرهان َّية...إلخ ،ال يملك الكفاية والقوة عىل حتويل هذه القيم ونقلها من حالة القوة إىل
كل العجز عن دفع الفاعل األخالقي إىل أن يامرس الفعل األخالقي .وأنا هنا ال أتفق مع من يذهب حالة الفعل .بكلمة :العقل عاجز ّ
أن القول بقدرة العقل املعياري عىل حتقيق الفعل األخالقي ،أي عىل نقل القيمة من أن الفعل ال ينفصل عن العقل ،ويف اعتقادي َّ إىل َّ
القوة إىل الفعل ،ال يؤدي إال إىل النسب َّية األخالق َّية ،إن مل أقل إىل الذاتان َّية األخالق َّية ،ال إىل األخالق الكُل َّية التي يراد هلا أن تكون مبدأ
كل الناس. للفعل عند ّ
اجلواب :األساس الديني ،أعني اإليامن ومتعلقاته املشخصة والشاخصة يف مبدأي الثواب والعقاب أو املح َّبة (اإلهل َّية) .هذا األساس
تبي القيم األخالق َّية والكشف عنها ومعرفتها وحتديدها، متمم لألساس العقيل الذي تنحرص داللته يف ُّ يشخص عندي بام هو أساس ِّ
لكنَّه يعجز عن فرض املامرسة والفعل األخالقي ،ألنَّه ال يملك قوة اإليامن املستندة إىل دواعي الرجاء والثواب أو «املح َّبة اإلهل َّية» ،أو إىل
نسميه اليوم (العقل الوجداين).بواعث اخلوف والرهبة والعقاب ،ممَّا يلحق كله بعقل ثالث ّ
أ َّما ما يمكن أن يعرض من قول أو أقوال أو اعرتاضات أو مالحظات أو نقود آتية من املنظورات النفع َّية أو االجتامع َّية أو الذاتان َّية أو
العدم َّية أو غري ذلك ،فله شأن آخر ،ويتط َّلب متابعات أخرى ومراجعات خاصة ليس ههنا موضع اخلوض فيها.
لكن ما ينبغي أن يكون موضع انتباه هنا ،من جديد ،هو أنَّنا ،فيام يتعلق جوهري ًا بحياتنا يف جممل االجتامع العريب ،نفتقر إىل ُس ّلم شامل للقيم،
متوافق عليه إنساني ًا وديني ًا أيض ًا .وهذا ال يتعلق بقيمنا احليات َّية اليوم َّية ويف معامالتنا العارضة وأساليب أفعالنا وترصفاتنا يف البيت والشارع
سمى «األخالق املط َّبقة» :يف واملأكل واملرشب والتحادث واالنضباط يف السري أو يف (الدَّ ْور)...وإنَّام أيض ًا وبشكل جذري يف مسالكنا فيام ُي َّ
نبي يف ثقافتنا احليات َّية املتداولة
الطب والبيولوجيا ،والبيئة ،والعلم والتكنولوجيا ،والسياسة ،والتجارة ،والفن ،...فنحن ،يف واقع األمر ،ال ّ
ثلة القيم التي نستطيع أن نزعم َّأنا متوفرة ومنضبطة عىل نحو جدير وقادر عىل قيادة حياتنا ،يف هذه احلقول مجيع ًا ،مثلام هي حال املواطن يف
أن قيم الفاعل َّية والصدق واالنضباط وااللتزام والنزاهة واملسؤول َّية الغرب احلديث ،الذي يعلم مثالً ،عىل وجه العموم ال وجه اإلطالقَّ ،
ثمة بيننا من ال يلتزم هبذه القيم واالحرتام املتبادل واالعرتاف ،هي قيم نافذة وينبغي أن تكون كذلك .هذا ال يعني ،بطبيعة احلال ،أنَّه ليس َّ
أن مضادات القيم اإلجياب َّية مسترشية ثمة بيننا من ال يكذب وال ينافق وال ينتهز وال يظلم وال حيتقر ،...لكن القصد هو َّ ويتمثلها ،وأن ليس َّ
ِ
بكل واحد منا أن يلتزم هبا وحيرت َمها و ُينْف َذها يف أفعالهنتبي عىل وجه التحديد واإللزام القيم التي جيدر ّ بقدر عظيم يف حياتنا العمل َّية ،وأنَّنا ال َّ
حس االجتاه والفوىض اليوم َّية ،وليس خيفى َّ
أن غياب ذلك وافتقارنا إليه سيقود اجتامعنا اإلنساين إىل خارج دائرة الضبط والسيطرة وحسن ّ
وفقدان املعنى والغاية ،وذلك ،إن شئنا استخدام املصطلح اخللدوين ،مؤذن بفساد العمران اإلنساين واالجتامعي والسيايس.
ن َّبهت يف أكثر من موضع من أعاميل ،ويف هذا العمل أيض ًا الذي بني يدَ ْي القارئ ،عىل ثلة القيم الرئيسة التي أرى أن يتقوم هبا ُس ّل ٌم
للقيم حيكم اجتامعنا العريب ،ويتضافر فيها «العقل األخالقي اإلنساين» ،و«األصول البذر َّية» التي ينطوي عليها النص الديني :العدالة،
املساواة ،احلر َّية ،الكرامة اإلنسان َّية ،اخلري العام ،النزاهة ،االستقامة ،الرمحة ،تقدير اآلخرين ،احرتام النفس اإلنسان َّية واجلسد اإلنساين،
إن جتاوز الفوىض يف املسائل املتعلقة هبذه القيم ينبغي أن يقرتن فيه ُس ّلم القيم املنشود بالرتكيب بني نظريتني أساسيتني الرفاهية ،...وقلت َّ
يف فلسفة القيم واألخالق :نظر َّية الواجب ذات اجلذور الكانط َّية املوافقة لـ «القصد َّية» األخالق َّية اإلسالم َّية ،والنظر َّية النفع َّية -التي
أن (كانط) كان خصمها اللدود ،لك َّن الزمن الراهن يفرضها بقدر أو بآخر ،ألنَّه زمن حيكمه االقتصاد وطلب الرفاه َّية وطيب أعلم َّ
أن التناقض التارخيي بني الديونطولوجيا الكانط َّية -أي فلسفة الواجب العمل َّية ـ واملذهب النفعي الفرداين ،حيتاج شك يف َّ
العيش -ال َّ
إىل جهد جتاوزي ال يمكن أن يفيض إىل نتيجة جمدية إال يف حدود نظرة ليربال َّية اجتامع َّية تكافل َّية.
هذه النظرة يمكن إدراكها يف معاجلة القيمة العليا التي أرى َّأنا متثل رأس القيم اإلنسان َّية والدين َّية عىل حد سواء ،أعني قيمة العدل
خصها أفالطون بالنظر يف (اجلمهور َّية) ،وهي القيمة أو العدالة .كانت هذه القيمة األخالق َّية -االجتامع َّية هي القيمة الركن َّية التي َّ
كررت دوم ًا القول َّ
إن قيمة العدل املركز َّية التي عني هبا أعظم العناية يف العرص احلديث ،جون رولز يف كتابه (نظر َّية العدالة) .وقد َّ
الرس األعظم الذي يثوي وراء اخللل املزمنهي القيمة األخالق َّية العليا و«الكلمة الفصل» يف دين اإلسالم ،وأضيف اليوم القول َّإنا ُّ
يف االجتامع السيايس اإلسالمي ،وخلف «اإلعصار» الذي يرضب اليوم بجور وبغري رمحة .وخلطورة هذه «الكلمة» وملوقعها من هذا
العمل أستحرض هنا هذا البحث الذي َخ َص ْصتُها به ،وأذعته يف أكثر من مناسبة وموضع ،وفيه:
()1
أن هذا املصطلح ،مصطلح (العدل) ،خيتلط يف االستخدام العريب املعارص قد ال يكون من فضل القول أن أن ِّبه ،يف مبدأ هذا النظر ،عىل َّ
بمصطلح آخر أكثر تداوالً هو مصطلح أو لفظ( :العدالة) ،لك َّن احلقيقة َّ
أن هذين املصطلحني ،أو اللفظني ،ال يدالن عىل املعنى نفسه.
أن العدل مصدر عَدَ ل َي ْع ِدل عدالً؛ ثم قد ُيذكر و ُيراد به الفعل ،وقد ُيذكر ويراد به الفاعل.
يقول القايض عبد اجلبار بن أمحد «اعلم َّ
أن هذا يقتيض أن يكون خ ْلق العامل من اهلل تعاىل
ليرضه ،إال َّ
كل فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به غريه أو َّ فإذا ُوصف به الفعل ،فاملراد به ّ
ألن هذا املعنى فيه ،وليس كذلك .فاألَ ْوىل أن نقول :هو توفري حق الغري ،واستيفاء احلق منه».1 عدالًَّ ،
- 1القايض عبد الجبار بن أحمد ،رشح األصول الخمسة ،حقَّقه وقدم له عبد الكريم عثامن ،ط ،1مكتبة وهبة ،القاهرة ،1965 ،ص.301
يف املعطيات الثقاف َّية العرب َّية اإلسالم َّية ،ويف املجال وهذا املعنى ،الذي جيعل من العدل وضع ًا حقوقي ًا ،هو عىل وجه
السيايس واالجتامعي والفقهي ،أو القانوين ،ال نجد توجه إليها لفظ (العدالة) حني يراد له أنالتحقيق أبرز املعاين التي َّ
معب ًا عن معنى املصطلح غري العريب ( .)Justiceأ َّما العدالة يكون ّ
« نظر َّية » يف العدل ،وإنَّام نجد وقائع أو إجراءات
يف االستخدام العريب املوروث ،فإ َّما أن تعني االستقامة واالستواء
بأنا عادلة أو ظاملة أو جائرة، أو حاالت توصف َّ وت ّثل مجلة الفضائل الرشع َّية واجتناب والنزاهة وامليل إىل احلق َ
ويتعذر جتريد نظر َّية منها .ونحن ال نجد هذه َّ األفعال اخلسيسة ،2وإ َّما تعني ما أثبته ابن خلدون يف باب (اخلطط
ِ
الدين َّية اخلالف َّية) من (املقدّ مة) ،حيث جعل هذه (اخلطط) يف النظر َّية إال يف النظم الفلسف َّية املستقاة من اإلغريق.
مخس هي :إمامة الصالة ،والفتيا ،والقضاء ،والعدالة ،واحلسبة
والسكّة ،ويف العدالة يقول« :هي وظيفة دين َّية تابعة للقضاء
ال عند اإلشهاد وأدا ًء عند ومن موارد ترصيفه .وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القايض بالشهادة بني الناس قي ًام هلم وعليهم ،حتم ً
االتصاف بالعدالة
ُ التنازع ،وكتاب ًا يف السجالت ُيفظ به حقوق الناس وأمالكهم وديوهنم وسائر معامالهتم ( .)...ورشط هذه الوظيفة
جل ْرح ،ثم القيا ُم بكتاب السجالت والعقود من جهة عبارهتا وانتظام فصوهلا ،ومن جهة إحكام رشوطها الرشع َّية الرشع َّية والرباء ُة من ا َ
ُص ذلك وعقودها ،ف ُيحتاج حينئذ إىل ما يتعلق بذلك من الفقه .وألجل هذه الرشوط وما ُيتاج من املران عىل ذلك واملامرسة له ،اخت َّ
كأنم خمتصون بالعدالة؛ وليس كذلك؛ وإنَّام العدالة من رشوط اختصاصاهتم بالوظيفة» .
3
ببعض ال ُعدول ،وصار الصنف القائمون به َّ
سأتوجه يف هذا القول إىل استخدام لفظي (العدل) و(العدالة) باملعنى نفسه ،لسببني :األول َّ
أن َّ ومع ذلك فإنَّني ،دفع ًا ألي لبس،
(العدالة) ،بمعنى العدالة الرشع َّية أو الوظيفة الدين َّية التابعة للقضاء ،باتت مصطلح ًا ينتمي إىل الدولة اخلالف َّية أو الدين َّية التارخي َّية التي
استقر يف خميالنا الثقايف والفكري واالجتامعي والسيايس َّ أن مصطلح العدالة ،بمعنى العدل ،قد ليست مناط البحث والنظر هنا .الثاين َّ
وسلطة يف االستخدام املعارص .وأنا ،يف كال اللفظني، وح َّل يف املكان نفسه الذي حيتله العدل ،وأصبح ذا قوة وجذب ُ والقانوينَ ،
سأصدر عن املعنى الذي أشار إليه القايض عبد اجلبار يف أمر (العدل) ،من حيث هو «توفري حق الغري ،واستيفاء احلق منه» ،أي تأدية
احلقوق ور ّد احلقوق إىل أصحاهبا ،وما يلحق هبذا املعنى من متعلقات ومن وجوه تنتظم هبا أحوال الدنيا ،وسياسة الدولة ،وحياة
املجتمع ومعاشه .4كام أنَّني سأربط كال اللفظني باملعنى أو باملعاين التي ينطوي عليها املصطلح املتداول يف الفلسفة السياس َّية املعيار َّية ويف
الفلسفة االجتامع َّية املعارصة ،واملنحدر من أرسطو ،أعني املصطلح ،)justice( :أو( )dikaiosunéاليوناين.
وليس القصد أن أستقيص هذا املفهوم يف املعطيات التارخي َّية العرب َّية اإلسالم َّية ،5لك َّن استحضار ًا وجيز ًا لألوجه الرئيسة منهُّ ،
يظل
أي نظر حا ّيل.رضوري ًا ،مادام بعضها ممتد ًا يف احلارض ويطلب أن يؤخذ يف احلسبان يف ّ
يعلم الواقفون عىل مجلة الرتاث العريب اإلسالمي -الفقهي والكالمي والفلسفي -املكانة العظمى التي حيتلها مفهوم العدل يف
خص هذا
أن القرآن نفسه قد َّ هذا الرتاث ،وذلك عىل الرغم من تفاوت املعنى واملضمون الذي ينطوي عليه هنا وهناك .ال أحد جيهل َّ
يتكرر األمر بالعدل،
املفهوم بمكانة مركز َّية وجعله موضوع أمر إهلي وصفة ثبوت َّية من صفات اهلل نفسه .ففيه ،ويف األحاديث النبو َّيةَّ ،
يتكرر النهي عن الظلم واجلور ،وتنزيه اهلل عن أن يتصف هبام.6
واحلكم بالعدل ،وباحلق ،وبالقسط ،وبامليزان ،مثلام َّ
أ َّما فقهاء األحكام السلطان َّية والسياسة العقل َّية فقد استغرقوا يف مدحيه ووصفه والتنويه بنتائجه وآثاره ،من دون أن يقفوا عىل
تعريفه وبيان ماهيته .ثم َّإنم ربطوا بينه وبني صالح العمران والدولة وا ُمللك ،وجعلوا صالح الدنيا وانتظامها ودوام العمران
كل مملكة سواء أكانت نبو َّية أو صالح َّية» .وضدّ ه ،الظلم «مؤذن ونموه وفوزه مرهون ًة به .فهو «قوام امللك ودوام الدول و ُأسس ّ
عرض بخراب العمران»؛ والعدل «ميزان اهلل عىل أرضه ،وضعه للخلق ونصبه للحق ،فمن خالفه يف ميزانه وعارضه يف سلطانه فقد َّ
و«كل دولة بني أساسها عىل العدل أمنت االنعدام وسلمت االهندام» ،وقيل ُّ وعزه للذل وكثرته ِ
للقل» دينه للخبال ودولته للزوال ّ
إن النبي (صىل اهلل عليه وسلم) قال« :عدل ساعة يف حكومة خري من عبادة ستني سنة»؛ وقال بعض احلكامء« :عدل السلطان خري َّ
تدر األرزاق ِ ِ
من خصب الزمان»؛ وقال أردشري« :اململكة ال تصلح إال بأعداد األجناد ،وال تعدُّ األجناد إال بإدرار األرزاق ،وال ُّ
إال بكثرة األموال ،وال تثمر األموال إال بعامرة البالد ،وال َت ْع ُمر البالد إال باألمن والعدل يف العباد» .7وإىل ذلك ذهب املاوردي ،إذ
واخلصب الدار يف املكاسب واملواد، أن صالح الدنيا وقواعد ا ُمللك تستقيم بالدين املتبع ،والسلطان القاهر ،والعدل الشاملِ ، أكَّد َّ
واألمل الفسيح يف أحوال الدنيا والعمران ،8أي بأسس :دين َّية وسياس َّية واجتامع َّية واقتصاد َّية ونفس َّية ،احتفت هبا كتب (مرايا امللوك
واألمراء) أ َّيام احتفاء.
أن املظامل االقتصاد َّية يف العامل العريب ليست َّ اهلل ودينه ورضاه وأمره .واهلل تعاىل مل حيرص طرق العدل وأدلته
وأماراته يف نوع واحد وأبطل غريه من الطرق التي هي أقوى
فثمة هي الوحيدة التي تستجلب أمر العدلَّ ، أن مقصوده منه وأدل وأظهر ،بل َّبي ،بام رشعه من الطرقَّ ،
إىل جانبها املظامل السياس َّية املاثلة يف االستبداد فأي طريق استخرج إقامة احلق والعدل وقيام الناس بالقسطّ ،
واالفتئات عىل احلريات األساس َّية ،واملظامل هبا احلق ومعرفة العدل وجب احلكم بموجبها ومقتضاها.
القانون َّية واالعتداء عىل احلقوق ،واملظامل والطرق أسباب ووسائل ال تُراد لذاهتا ،وإنَّام املراد غاياهتا التي
هي املقاصد».10
االجتامع َّية الشاخصة يف غياب العدالة االجتامع َّية
واملساواة واحرتام الكرامة اإلنسان َّية واتَّسع النظر يف العدل ليطال علم الكالم التقليدي والفلسفة
املنحدرة عن اإلغريق ،حتى بات من املمكن جتريد مجلة من
األصناف التي يتخذ فيها العدل هذا الشكل أو ذاك .وقد نستطيع حرص هذه األصناف يف الوجوه التالية:
حرة
وأنا َّ
وأنا عادلة ال ظلم فيها وال رش ،والعدل املتعلق بأفعال اإلنسان َّ الوجه األول :العدل الكالمي ،أي العدل املتعلق بأفعال اهلل َّ
ـ عىل مذهب املعتزلة والقدر َّية ،-مكتسبة عىل مذهب األشاعرة ،مق َّيدة أو قرس َّية عىل مذهب اجلرب َّية .ويف نظر َّية املعتزلة يف العدل ُيصار
خي.
إىل إقامة عالقة رضور َّية بني العدل واخلري ،فالعادل ّ
الوجه الثاين :العدل الفلسفي األخالقي الذي ينحدر من أفالطون وأرسطو عىل وجه اخلصوص ،ويتعلق به مجيع فالسفة اإلسالم،
إذ جيعلون العدل مجاع فضائل النفس اإلنسان َّية وكامهلا وتوازهنا واعتداهلا :احلكمة ،والشجاعة أو النجدة ،والع َّفة ،والعدل .ويف هذا
الصنف من العدل أيض ًا ال ينفصل العدل عن اخلري.11
- 9هكذا يف الطبعات املتداولة من كتاب ابن قيم الجوزيَّة ،وهكذا أثبتها املحدثون (جامل الدين عط َّية ،تفعيل مقاصد الرشيعة) ،لكن األصح ،وفقاً للسياق :العدل.
ويَبْعد أن يكون ابن القيم ومن أخذ عنه قد جعل لـ (العقل) هذه املكانة.
رب العاملني ،مكتبة الكل َّيات األزهريَّة ،القاهرة ،1968 ،ج ،4ص .373وانظر أيضاً بحثي :يف
- 10أبو عبد الله محمد بن أيب بكر بن قيم الجوزيَّة ،إعالم املوقعني عن ّ
العدالة والشورى والدميقراطيَّة (منشور يف :رياح العرص -قضايا مركزيَّة وحوارات كاشفة ،املؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش ،بريوت ،2002 ،ص .)217 - 187وأيضاً
كتايب :يف الخالص النهايئ -مقال يف وعود النظم الفكريَّة العرب َّية املعارصة ،ط ،2الشبكة العرب َّية لألبحاث والنرش ،بريوت ،2012 ،ص .150 - 145
- 11يف التمييز الذي يقيمه الفارايب بني املدينة الفاضلة ومضاداتها من املدن الجاهلة ،يجعل الفارايب التعاون واالجتامع لنيل الخري األفضل والكامل األقىص مبدأ لبلوغ
كل طائفة أو قبيلة أو مدينة لغريها ،مبدأ لنيل السعادة.
السعادة يف الحقيقة ،بينام يجعل «التغالب والتهارج» اللذين يطلبان السالمة واليسار والكرامة واللذات ،بقهر ّ
كل طائفة ،وهي تابعة ملا عليه طبائع املوجودات الطبيعية .فام يف الطبع هو العدل.
كل إنسان أو يف طبع ّ
ويضيف أ َّن «هذه األشياء هي التي يف الطبع ،إ َّما يف طبع ّ
فالعدل إذا ً التغالب .والعدل هو أن يقهر ما اتفق منها .واملقهور إ َّما أن يُقهر عىل سالمة بدنه ،أو هلك وتلف ،وانفرد القاهر بالوجود ،أو قهر عىل كرامته وبقي ذليالً
ومستعبدا ً تستعبده الطائفة القاهرة ويفعل ما هو األنفع للقاهر يف أن ينال به الخري الذي عليه غالب ويستديم به .فاستعباد القاهر للمقهور هو أيضاً من العدل.
وأن يفعل املقهور ما هو األنفع للقاهر هو أيضاً عدل .فهذه كلها هي العدل الطبيعي ،وهي الفضيلة .وهذه األفعال هي األفعال الفاضلة .فإذا حصلت الخريات
للطائفة القاهرة فينبغي أن يعطي من هو أعظم غناء يف الغلبة عىل تلك الخريات من تلك الخري أكرث ،واألقل غناء فيها أقل .وإن كانت الخريات التي غلبوا عليها كرامة،
أعطى األعظم غناء فيه كرامة أكرب ،وإن كانت أمواالً أعطى أكرث .وكذلك يف سائرها .فهذا هو أيضاً عدل طبيعي عندهم .قالوا :وأ َّما سائر ما يُسمى عدالً ،مثل البيع
والرشاء ،ومثل رد الودائع ،ومثل أن ال يغضب وال يجوز ،وأشباه ذلك ،فإ َّن مستعمله إنَّ ا يستعمله أوالً ألجل الخوف والضعف وعند الرضورة الواردة من خارج» (أبو
جوسن ،بريوت -القاهرة ،1980 ،ص 102-101و .)136-135وليس
نرص الفارايب :آراء أهل املدينة الفاضلة ،بتحقيق وترجمة فرنسية وتقديم يوسف كرم-ج .شالال -أّ .
مي بالسياسة الرشع َّية ،وهي تُعنى بإصالح العالقات الوجه الرابع :العدل السيايس واالجتامعي ،وقد اختذ يف التجربة التارخي َّية ما ُس ّ
بني الراعي والرع َّية ،وبتحقيق املصلحة العامة يف خمتلف املؤسسات والتنظيامت السياس َّية واالجتامع َّية ،وبتطبيق مقاصد الرشيعة ،درء ًا
لفساد العمران وأفول الدول.13
استمر مفهوم العدل ـ وقد َّ ويف العرص احلديث ،وبتأثري من الفكر الليربايل الغريب احلديث ،خصوص ًا من فالسفة األنوار الفرنسيني،
ُقرن بمفهوم احلر َّية -يف احتالل مكانة مركز َّية لدى مفكري النهضة العرب يف القرنني التاسع عرش والعرشين .واستوى يف ذلك املفكرون
العرب ،املسلمون واملسيحيون :رفاعة الطهطاوي ،وخري الدين التونيس ،وأمحد بن أيب الضياف ،وفرح أنطون ،وشبيل الشميل ،وأديب
إسحاق ،وسالمة موسى ،ومجال الدين األفغاين ،وحممد عبده ،وقاسم أمني ...وسواهم ،إذ أشادوا مجيع ًا باحلكم املؤسس عىل احلكمة
ظل من بعض لواحق وفواعل وظالل (األنوار) ،مثلام َّأنام أن مفهومي العدل واحلر َّية ،يف أعامل هؤالء مجيع ًاَّ ،
والعدل واحلر َّية .14غري َّ
كانا استجابة «وقت َّية» مبارشة ملطالب العرص.
يخفى أ َّن مدينة الفارايب هي مدينة التعاون واالجتامع .أ َّما مدينة التغالب والتهارج التي يدور عليها هذا النص وتقوم عىل أ َّن «ما يف الطبع هو العدل» فهي مدينة
السوفسطائيني :بولوس وكاليكليس ،خصوصاً ترازمياخس.
- 12يطلق مجيد خدوري عىل هذا العدل مصطلح (العدل اإللهي) ،ويرى أ َّن العلامء كانوا متفقني عىل «أ َّن العدل اإلسالمي يف صورته املثالية تعبري عن العدل اإللهي»،
وهو يوجز مصادراته وافرتاضاته عىل النحو التايل:
« أوالً :مل َّا كان منشأ العدل من مصدر إلهي بالغ السمو ،فإ َّن اإلنسان ال يستطيع أن يحدده إال بالدليل املتوفر له .ومثل هذا الدليل ال ميكن بالنسبة إىل البعض أن يوجد
واعتف باملنهجني يف نهاية املطاف .لك َّن الوحي كان وما يزال يُ َعد هو الذي يوفر الدليل األهم.
رص آخرون عىل أ َّن العقل رضوري لفهمهُ .
إال يف الوحي .وأ َّ
ثانياً :يتطابق العدل مع الصفات اإللهيَّة ،لهذا مل يكن العدل مفهوماً بسيطاً يسهل عىل العلامء تحديده أو تعريفه مبصطلحات برشيَّة .فعدّه بعض املفكرين تجسيدا ً
ألسمى الفضائل اإلنسان َّية ،ورأى آخرون أنَّه فيض مبارش من الله ،وعدّوه معادالً للكامل اإللهي .واتفقوا جميعاً عىل أ َّن العدل ،سواء مبعيار إلهي أم مبعيار إنساين ،فكرة
مثاليَّة يسعى اإلنسان إىل تحقيقها يف فضائل إنسانيَّة مه َّمة.
ثالثاً :إ َّن موضوع العدل اإللهي ( )Subjectهو أولئك الذين آمنوا بالله الواحد العادل .وأ َّما اآلخرون -أي بقية بني البرش ـ فهم هدف ذلك العدل ( .)Objectوالعدل
كل البرش ،وباستطاعة حتى الذين ال
اإللهي ،مثل رشيعة الله ،ليس كامالً وحسب ،بل هو أبدي ،برصف النظر عن الزمان واملكان .وهو ُم َع ّد من أجل تطبيقه عىل ّ
يؤمنون بالله الواحد أن يلوذوا به إن أرادوا.
كل حسب الضوء الذي يهتدي به ،الصواب ،ويتجنبون الخطأ
يبي للناس سبييل الصواب والخطأ ،فيتبع الجميعٌّ ،
رابعاً :إ َّن معيار العدل ،سوا ٌء ق َّرره العقل أم ق َّرره الوحيّ ،
من أجل تحقيق الخري يف الدنيا والخالص يف اآلخرة؛ وبعبارة أخرى من أجل تحقيق السعادة يف كليهام»( .مجيد خدوري ،مفهوم العدل يف اإلسالم ،ص .)224 - 223
- 13يف فصلني بارزين من فصول (املقدّمة) ،يقف ابن خلدون عىل دور القهر والجور والظلم يف حياة املُ لك والدولة من وجه ،والعمران من وجه آخر .فـ«إرهاف الحد
رض بامللك ومفسد له يف األكرث)332-330 :1( :؛ والظلم -خصوصاً ما تعلق منه مبا هو اجتامعي -اقتصادي من أبواب املعاش والتحصيل والكسب وما يطال االعتداء
م ُّ
عىل الناس يف أموالهم ومكاسبهم -يولّد كساد أسواق العمران وانتقاص األحوال واختالل حال الدولة ،وهو «مؤذن بخراب العمران» وعائد عىل الدولة بالفساد والوبال
واالنتقاض» ( .)493-491 :1وخالص األمر أ َّن العدل هو الضامن لل ُملك والعمران ،وأ َّن النظر السيايس العقيل والنظر الرشعي كليهام يتقومان به.
- 14انظر :ألربت حوراين ،الفكر العريب يف عرص النهضة ،ترجمة كريم عزقول ،دار النهار ،بريوت (ب.ت)؛ فهمي جدعان ،أسس التقدُّم عند مفكري اإلسالم يف العامل
العريب الحديث ،ط ،5الشبكة العرب َّية لألبحاث والنرش2010 ،؛ عزت قرين ،العدالة والحريَّة يف فجر النهضة العرب َّية الحديثة ،عامل املعرفة ( ،)30الكويت.1980 ،
()2
يفصلنا اليوم عن التجربة التارخي َّية قرون متطاولة ،وعن عرص النهضة قرن وبعض القرن .ومجيع املعطيات والظروف التارخي َّية
واالقتصاد َّية والسياس َّية واالجتامع َّية والثقاف َّية قد طاهلا التغري والتبدل والتطور ،عىل نحو بطيء يف بعض املواطن ،متسارع متعاظم
يف بعضها اآلخر .وما عدنا اليوم ما كنَّا عليه باألمس ،عىل الرغم ممَّا يفرزه قرننا اجلديد من تطورات جينح بعضها إلعادة إنتاج املايض
ظل القرن العرشون متعطش ًا جلملة القيم واملبادئ التي حققت للغرب احلديث التقدم والظفر والرفاهية، البعيد ،املايض «السلفي» .وقد َّ
أن احلقبة االستعامر َّية واحلقبة «الوطن َّية» كلتيهام ،مل ُتَتِّعا هذا العامل إال بأطياف احلداثة وأوهامها .فقد ظلت مجيع القيم والغايات
ذلك َّ
التي سعى لتحقيقها مفكرو النهضة وقوى احلر َّية والتحرر العرب َّية مصابة يف الصميم .وإذا كانت مطالع القرن اجلديد تعلن عن تطورات
فإن هذه التطورات ،خصوص ًا منها ما يتعلق بالعدل واحلر َّية ،جتتاز أوضاع ًا عصيبة متفاوتة العمق يف أحوال عدد من األقطار العرب َّيةَّ ،
ال عن وخماطر حقيق َّية ،وذلك بسبب اختالط وقائعها واضطراب أهدافها ونجاح بعض القوى املضادة للتقدم يف االحتياز عليها ،فض ً
التدخل الكبري لقوى اهليمنة اخلارج َّية الساعية لتجريد الوقائع اجلديدة من غائياهتا األصل َّية احلقيق َّية وتزييفها .يف أتون هذا احلراك ُيراد
أن مجيع للحر َّية «املربجمة» ،تارة حقيق َّية وتارة زائفة ،أن يكون هلا السبق واألولو َّية والقطع ،و ُيقىص العدل إقصاء تام ًا ،عىل الرغم من َّ
أن «الرش االجتامعي» الشاخص يف غياب العدل يف مجلة القطاعات اإلنسان َّية العرب َّية ،يطلب عالج ًا مبارش ًا ومقاربة القرائن تشري إىل َّ
ُّ
التدخل. جذر َّية وأسبق َّية يف
والسؤال الذي حيكم القول هنا هو التايل :إذا كان العدل هو املبدأ األسمى الذي تطلبه جمتمعاتنا ومؤسساتنا ودولنا اليوم ،وأنَّه ،مثلام
يقول جون رولز يف (نظر َّية العدالة)« ،الفضيلة األوىل للمؤسسات االجتامع َّية» ،فام هي طبيعة هذا املبدأ؟ وما هي النظر َّية التي تالئم
متمم ألمنية العيش الطيب إن العدل ،مثلام يقول بول ريكور ،جزء ِّ أوضاع جمتمعاتنا وتأذن بتحقيق أكرب قدر من «طيب العيش» ،إذ َّ
مرة
أو هناءة العيش .واملسألة يف هناية التحليل مسألة أخالق َّية ،والسؤال الذي ُيطرح هنا وينتمي إىل حقل األخالق ،مثلام يقول ريكور َّ
أخرى ،ليس :ما الذي ينبغي علينا أن نفعله؟ وإنَّام :كيف نريد أن نقود حياتنا؟ وهذا الوضع للسؤال يمثل يف حقيقة األمر انتقاالً من
املنظور األخالقي الغائي إىل املنظور األخالقي الديونطولوجي.15
يف املعطيات الثقاف َّية العرب َّية اإلسالم َّية ،ويف املجال السيايس واالجتامعي والفقهي ،أو القانوين ،ال نجد «نظر َّية » يف العدل ،وإنَّام
َّ
ويتعذر جتريد نظر َّية منها .ونحن ال نجد هذه النظر َّية إال يف بأنا عادلة أو ظاملة أو جائرة،
نجد وقائع أو إجراءات أو حاالت توصف َّ
النظم الفلسف َّية املستقاة من اإلغريق ،وهي نظم ترت َّدد ما بني فلسفة أكسيولوج َّية يف األخالق عند أفالطون قوامها فضائل النفس العاقلة
وجاعها العدل) ،وبني فلسفة عمل َّية يف السياسة املعيار َّية ،عند أرسطو ،قوامها «العدل والغضب َّية والشهو َّية (احلكمة والشجاعة والعفةِ ،
التوزيعي» الذي ،بإخراجه املرأة والعبيد واألجانب من «جنَّة احلر َّية واملساواة» ،خيرج عىل العدل.
أي نظر
بكل تأكيد ،ينطوي عىل قدر عظيم من األحكام القمينة باالعتبار واملراجعة يف ّ وأ َّما العدل الرشعي (أو القانوين) ،فإنَّهّ ،
أن الفاعل الديني ُّ
يظل أحد الفواعل األساس َّية يف املعطى العريب الراهن. ديونطولوجي عريب معارص ،لسبب ّبي هو َّ
- 15أفاض بول ريكور القول يف هذه املسائل يف مباحثه القيّمة يف كتابه (العادل):
Paul Ricoeur, Le Juste, Ed. Esprit, Paris, 1995.
ظل حل ًاموأن هذا العدل قد َّ ص مفهوم العدل بمكانة رفيعةَّ ، أن عرص النهضة العريب قد َخ ّ شك ـ وقد أملعت إىل ذلك -يف َّ
ال َّ
ٍ
أن الوسع مل يبذل عىل نحو كاف من أجل اإلبانة عن طبيعته الذات َّية وعنارصه يداعب مجيع حركات النهضة والتحرر إىل أيامنا هذه ،بيد َّ
توجه إىل هذا املفهوم يف القرن املايض ـ إذا ما استثنينا بطبيعة احلال النظر َّية املساوات َّية التي
املكونة .وربام يكون االهتامم األبرز الذي َّ
ّ
استقتها األحزاب االشرتاك َّية والشيوع َّية العرب َّية من مثيالهتا يف االحتاد السوفييتي وأوروبا الغرب َّية -هو ذاك الذي مثله عمل اإلسالمي
سيد قطب يف منتصف القرن املايض ،أعني ما ساقه يف كتاب العدالة االجتامع َّية يف اإلسالم ( ،)1951الذي ،عىل الرغم من طابعه
يظل ينتمي إىل التيار« التكافيل» يف فكر النهضة العريب ،وهو التيار اإليديولوجي املقرتن بفكر (مجاعة اإلخوان املسلمني) وعملهاُّ ،
روج ملفاهيم «التكافل العام» أو «عدل القوام» ،عند رفيق العظم عىل وجه اخلصوص ،وجنح من بعد ذلك إىل مفاهيم (اجلامع َّية الذي َّ
اإلسالم َّية) عند عبد الرمحن البزاز ،و(اشرتاك َّية اإلسالم) عند مصطفى السباعي ،الذي ينتمي هو أيض ًا إىل (مجاعة اإلخوان املسلمني).
يسميه «الوحدة واخلصيصة التي تسم عمل قطب هي حماولته تقديم نظر َّية يف «العدالة االجتامع َّية» تستند إىل «رؤية الهوت َّية» منطلقها ما ّ
وأن اإلسالم الكون َّية املتكاملة» الصادرة عن اإلرادة املطلقة املبارشة هلل ،وهي وحدة يشتق منها مبدأ التعاون والتكافل بني أفراد املجتمعَّ ،
الذي هو دين التوحيد يعني وحدة مجيع القوى الكون َّية ،ويف الوقت نفسه هو يعني وحدة ـ واحلقيقة ثنائ َّية! -العبادة واملعاملة ،والعقيدة
والسلوك ،والروحيات واملاديات ،والقيم االقتصاد َّية والقيم املعنو َّية.16
أن العدالة االجتامع َّية عنده ،أي العدالة يف اإلسالم وفق تصوره ،هي عدالة إنسان َّية شاملة ال عدالة اقتصاد َّية َب عىل ذلك أيض ًا َّ و ُيرت ّ
حمدودة ،أي َّأنا عدالة متتزج فيها القيم املاد َّية بالقيم املعنو َّية والروح َّية امتزاج ًا ال انفصام معه .ثم َّإنا عدالة تراحم وتواد وتكافل،
ال عدالة تنازع ورصاع بني الطبقات .وذلك ال يلغي القول َّإنا «إطالق للطاقات الفرد َّية والعا َّمة» ،كام َّأنا ال تعني عدالة املساواة يف
قرر مبدأ املساواة اإلنسان َّية ومبدأ العدل بني ألن اإلسالم َّاألجور ،وإلغاء التفاوت االقتصادي ،وإنَّام هي «عدالة مساواة إنسان َّية»َّ ،
وقرر إباحة الفرص املتساوية للجميع ،مقي ًام «العدالة» عىل ثالثة أسس: اجلميع ،لكنَّه «ترك الباب مفتوح ًا للتفاضل باجلهد والعمل»َّ ،
التحرر الوجداين املطلق والعبود َّية هلل وحده ،واملساواة اإلنسان َّية يف احلقوق والواجبات والتفاضل بالتقوى ،والتكافل االجتامعي ُّ
باعتبار املصلحة العليا للمجتمع وربط احلر َّية الفرد َّية واملساواة اإلنسان َّية هبذه املصلحة وبسياس َّية خاصة للامل تقوم عىل حق امللك َّية
كل املضار الفرد َّية وفق رشوط وقيود حمدَّ دة ،وأخذ ًا بمبادئ «املصالح املرسلة» و«سد الذرائع» التي متنح احلاكم «سلطة مطلقة لتدارك ّ
االجتامع َّية».17
إن فكرة «الوحدة أن عمل َّية التنظري التي أقدم عليها سيد قطب تفتقر إىل األساس الفلسفي والعلمي الذي تقوم عليه ،إذ َّ واحلقيقة َّ
املتكاملة» يف مطلق الوجود فكرة غامضة خيتلط فيها النظر الفلسفي والعلم واحلدس من وجه ،ويتعذر إقامة عالقة منطق َّية وواقع َّية بينها
أن سيد قطب قد اصطنع هذا وبني الرتابط بني املادي والروحي ،وبني العقيدة والسلوك ،وبني القيم االقتصاد َّية والقيم املعنو َّية .وواضح َّ
ظل العمل الذي أقدم عليه سيد قطب ،كالعمل الذي التقابل اصطناع ًا ،ترتيب ًا عىل مبدأ (الوحدان َّية) ،الذي هو يشء آخر ،ومن وجه آخر َّ
قام به قرينه عبد القادر عودة ،رهني اهلاجس الرصاعي الذي حكم اخلمسينيات من القرن املايض ،أعني االستغراق يف جدليات (امللك َّية
فإن العنارص والغائيات اخلاصة) التي جنح فيها اإلسالميون إىل املذهب الرأساميل الليربايل قبالة املذهب املاركيس الشيوعي .ومع ذلك َّ
تظل جديرة باالعتبار. االجتامع َّية -االقتصاد َّية التي تنطوي عليها نظر َّية قطب يف العدالة ُّ
- 16سيد قطب ،العدالة االجتامعيَّة يف اإلسالم ،ط ،2مكتبة ومطبعة مرص ،القاهرة ،ب.ث ، .ص .29-28
- 17املصدر نفسه ،ص .110-105 ،71-59 ،59-35 ،29-28وانظر أيضاً كتايب :أسس التقدُّم ،ط ، 4ص .518-507
أي أمر آخر ،هو أن ما جيدر الوقوف عنده قبل ّ السياس َّية ،ويف الثاين يقول قوالً أكسيولوجي ًا وجيز ًا «يف العدل
نفرتض ابتداء أنَّه ليس لدينا أ َّية نظرية حمددة يف بوصفه قيمة» ،ومن حيث هو ،جوهري ًا« ،وضع حقوقي» نابع
عن حقوق الكائن الذايت «النابعة من احلرمة الطبيع َّية التي يتمتع
العدالة ،وأنَّنا يف صدد البحث عن نظر َّية «عمل َّية»
«متأصل يف حقيقة الكائن الذايت» وال ّ كل إنسان» ،و«مركوز» هبا ُّ
لنا .حينذاك سيكون علينا أن ننظر يف نظريات ينبغي جتريده من أساسه يف الطبيعة ،والزعم بأنَّه «إذا كان له مكان
العدالة املتداولة يف الفلسفة السياس َّية واألخالق َّية بني الناس ،فإنَّه حيتله باالتفاق يف ما بينهم» .18ومع ذلك َّ
فإن
املعيار َّية ،وأن نرى ما الذي (يالئمنا) منها جتذرها يف حقيقة الكائن الذايت ،ال تتحقق يف «قيمة العدل ،مع ُّ
الواقع االجتامعي املحسوس إال بالكفاح العنيد لبناء مفهومها بنا ًء
عقلي ًا يتناوهلا كمنظومة حقوق ،وبالرضورة كمنظومة واجبات
ولكل منها ٍّ يتأسس عليها التعاون العفوي واملؤسسايت بني الناس بوصفهم كائنات اجتامع َّية مسؤولة يف ماهيتها عن هويتها، وممنوعات َّ
ألن القصد التعاون االجتامعي القائم عىل «العدل األسايس» املتضمن يف احلقوق الطبيع َّية ،وهو تعاون بني كائنات تتمتع استحقاقه»َّ .19
بصفات أساس َّية هي الرغبة والعقل واحلر َّية واملساواة يف الكرامة .وحيتفظ نصار بمكانة اخلري يف حياة الناس ويف هذه الدنيا ،إذ يرجع
يتم التوفيق فيها بني أخالق املنفعة وأخالق العدل ،وذلك منع ًا العدل إىل هذه القيمة التي هي حمور للحياة األخالق َّية التي ينبغي أن َّ
يتجسد يف االرتفاع إىل َّ أن «االرتقاء األخالقي النحراف األخالق عن مبدأ املساواة يف الكرامة ومستلزماته بني الكائنات الذات َّية .فعنده َّ
ثم التوفيق بني أخالق املنفعة وأخالق العدل» ،وكذلك التوفيق بني العدل واحلر َّية ورفع التناقض املطلق بينهام .
20
أخالق العدل ،ومن َّ
أ َّما يف (منطق السلطة) ،فينظر يف االرتباط اجلوهري بني السلطة والعدل ،بعيد ًا عن «السيطرة» التي ال تعمل بمقتىض العدل ،وتعزيز ًا
يعرف العدل بأنَّه« :ترتيب اجتامعي للغاية العليا التي يسعى إليها اإلنسان يف حدود اجلانب الدنيوي واالجتامعي ،وهي السعادة .وفيه ّ
لكل ذي حق واستحقاق بحقه واستحقاقه ،ويتيح له أن يتمتع به ،وأن يقوم بالواجب املصاحب له حتت رشوط مع َّينة» .
21 يعرتف ّ
والقول يف الرابطة بني السلطة والعدل يقود إىل جمال العدل السيايس والعالقة بني الدولة والعدل .فللدولة احلق يف الوجود واالعرتاف
حق امللك َّية ،بحدود ،حفاظ ًا عىل املصلحة العامة واحرتام املصلحة اخلاصة وازدهار املجتمع به ،داخلي ًا وخارجي ًا ،وهلا أيض ًا بوجه خاص ُّ
ألن «الدولة العادلة ال تستخدم حقها يف امللك َّية من أجل التجرب عىل أعضائها ،بل من أجل توزيع فوائد الثروة العامة يف بوجه شاملَّ ،22
حق الترشيع ،لنفسها وألعضائها ،والعدل املجتمع عىل هؤالء األعضاء ،بعد اقتطاع ما هو رضوري لبقائها ونموها» ،23وللدولة أيض ًا ُّ
الترشيعي أو القضائي هو الرشط العام للعدل يف املجتمع السيايس .ويرتبط أيض ًا بالسلطة السياس َّية العدل االقتصادي وأنواع أخرى
خيصه نصار باهتامم بالغ لكل ما جيري يف املجتمع ،هو العدل االجتامعي ،الذي ُّ فرع َّية من العدل يمكن ر ُّدها إىل عدل واحد شامل ّ
أسس يستحرض فيه عمل أبرز الفالسفة املعارصين الذين دافعوا عن مبدأ (العادلة االجتامع َّية) :جون رولز وكتابه (نظر َّية العدالة) ،الذي َّ
تصوره عىل نظر َّية العقد االجتامعي املنحدرة عن لوك وروسو وكانط ،ذاهب ًا هبا إىل التآلف بني احلر َّية واملساواة .لك َّن (نصار) ال يأخذ ُّ
يوحد ً
مر .ثم إنَّه ،خالفا ملن يذهب إىل ربط العدل االجتامعي باملساواة أو ِّ بالنظر َّية التعاقد َّية ،وإنَّام خيتار القول بالنظر َّية الطبيع َّية ،مثلام َّ
أن املعنى الفلسفي للمساواة بني األفراد االجتامعيني هو املساواة يف الكرامة اإلنسان َّية ،أ َّما بينهام ،ال يس ّلم بالتفسري املساوايت للعدل ،ويرى َّ
فتجاوز لطبيعة األشياء وتشويه خلصائصها التي تؤكد حقيقة الفوارق ٌ دفع املساواة إىل ما أبعد من ذلك -عىل طريقة املذهب املساوايت-
- 18ناصيف نصار ،الذات والحضور ،دار الطليعة ،بريوت ،208 ،ص .378-377
- 19املصدر نفسه ،ص .370
- 20املصدر نفسه ،ص .386-384
- 21ناصيف نصار ،منطق السلطة -مدخل إىل فلسفة األمر ،ط ،1دار أمواج للطباعة والنرش والتوزيع ،بريوت ،1995 ،ص .237
- 22املصدر نفسه ،ص .255-250
- 23املصدر نفسه ،ص .256
كل فرد اجتامعي من حيث هو كائن حي فريد حقيقة ينبغي بني األفراد االجتامعيني .املامثلة بني األفراد حقيقة اجتامع َّية ،لك َّن فرد َّية ِّ
مقوم ًا جوهري ًا من مقومات الفرد اإلنساين ،ويف ذلك تأكيد للمساواة من وجه وللتاميز يعزز هذا املذهب عنده اعتبار احلر َّية ّ احرتامهاّ .
أن «األولو َّية يف العدل االجتامعي هي ملبدأ احلر َّية ،وبخاصة احلر َّية االجتامع َّية الذي تولده الدينام َّية املبدعة للحر َّية من وجه آخر .وعنده َّ
أن األولو َّية ال تعني اإلطالق ،فال إطالق يف العدل االجتامعي للحر َّية ،وال ملبدأ احلر َّية .هذا هو وضع اإلنسان احلر بأوسع معانيها ،إال َّ
بكل فرد موجود معه ،ومضطر إىل تنظيم ممارسته حلريته معه .ويف بعض احلاالت يضع كل فرد حمدود ّ الذي تالزم االجتامع َّية طبيعتهُّ .
كل فرد يف احلر َّية ،ويف التمتع باحلر َّية ،هو حق طبيعي واجتامعي إن حق ّ مبدأ آخر ،مثل مبدأ املنفعة العامة ،حدود ًا قاسية أمام مبدأ احلر َّيةَّ .
يف الوقت نفسه :فهو من العدل ما دام يتالءم مع احلق نفسه لغريه من أفراد الدول وللدولة نفسها .ومن البدهيي َّ
أن احلر َّية االجتامع َّية ال
إن احرتام املساواة يف الكرامة اإلنسان َّية يتطلب تأمني فرص متكافئة أمام األفراد االجتامعيني «ثم َّ
تكون بمعناها التام من دون التزام» َّ .
24
تسمح للفوارق فيام بينهم بالظهور من دون حكم اجتامعي مسبق عليها ،وبخاصة يف الرتبية والتعليم .فالفرص املتكافئة ،املتغرية بحسب
مستويات النمو وأنواع الطلب ،تبعد األفراد عن املساوات َّية الظاملة ،ومتنحهم القدرة عىل جتنب التفاضل َّية اجلائرة» .ويرتتب عىل ذلك ضبط
التفاوت االقتصادي االجتامعي عىل قاعدة تكافؤ الفرص ،ضمن حدود الفوارق الناجتة عن العمل .وحتى يستقيم العدل ينبغي تعزيز
اخلدمات االجتامع َّية العامة من أجل إعادة توزيع الثروة االجتامع َّية وتسخريها لفائدة أفراد الشعب كلهم من حيث هم أفراد متضامنون،
ال من حيث هم أفراد أنانيون «.فالقاعدة الصحيحة التي ينبغي اعتامدها يف هذا الصدد هي قاعدة التضامن التي تنقل التعاون من مستوى
احلسابات األنان َّية إىل مستوى املسامهة الواعية يف املصري العام للمجتمع» ،25والطريقة املثىل لتحقيقها تستند إىل سياسة رضائب َّية مناسبة
ال عن أن يكون رشط ًا للتعاون والوئام والسالم وسياسة خدمات َّية شاملة .بذلك يكون العدل رشط ًا من رشوط سعادة املجتمع ،فض ً
االجتامعي .وبجملة هذه املواقف يمكن القول َّ
إن ما جينح إليه نصار يرتد إىل نظر َّية ليربال َّية تكافل َّية أو تضامن َّية ،قوامها تأسيس العدل عىل
مبدأ «احلق الطبيعي» ال عىل مبدأ التعاقد.
وأن العدل «مغروز» يف الكينونة ويف اعتقادي ،عىل الرغم من اجلدل الذي يمكن أن يثريه القول بر ّد العدل إىل احلق الطبيعيَّ ،
أن الليربال َّية التكافل َّية تستحق أن تكون مركز االعتبار يف مقاربتنا الديونطولوج َّية ملبدأ العدل يف عاملنا العريب .ثم إنَّنا إذا اإلنسان َّيةَّ ،
أنُقر َّ
شئنا اليوم أن نقابل بني املنظور الذي خيتاره نصار الليربايل ،واملنظور الذي نجده عند سيد قطب اإلسالمي ،فإنَّنا ال بدَّ أن ن َّ
ثمة اتفاق مبدئي ـ وعام -عىل االنحياز إىل الليربال َّية التضامن َّية يف املجال ثمة بينهام قدر ًا من املامثلة وقدر ًا أعظم من االختالفَّ . َّ
االقتصادي (يف مسائل امللك َّية الفرد َّية واملساواة اإلنسان َّية ،واملنفعة العامة ،والتكافل االجتامعي ،ورفض املذهب املساوايت ،وإقرار
ثمة اختالف جوهري بني الرؤية الدين َّية أو الالهوت َّية عند قطب ،والرؤية لكن َّ مبدأ الربط بني السياسة واالقتصاد وبني األخالق)ْ .
أن املرتكز األسايس للعلامن َّية هو العدل أن نصار يربط ربط ًا عضوي ًا بني العدل والعلامن َّية ،إذ يؤكد َّ
26 الدنيو َّية عند نصار ،خصوص ًا َّ
الطبيعي .وكذلك ربط نصار بني العدل واحلر َّية ،أ َّما قطب ،وعموم اإلسالميني ،فقد ربطوه بالعبود َّية هلل ،وق َّيدوا احلر َّية ،خصوص ًا
ألنا ذات صلة بالتقابل احلايل الذي يشهده املرسح العريب ،بني اإلسالميني االجتامع َّية ،تقييد ًا عظي ًام .هذه املقابلة «اخلارج َّية» مفيدةَّ ،
من طرف والليرباليني من طرف آخر ،وهو تقابل يمدُّ جذوره يف الفكر العريب احلديث منذ أمحد لطفي السيد وطه حسني واملحدثني
املجدّ دين.27
()3
وجهت هذا القول ليكون قوالً يف العدل يف حدود ديونطولوج َّية عرب َّية ،فإنَّني كنت يف حقيقة األمر أضمر االعتقاد بأنَّني ال حني َّ
أقارب املوضوع مقاربة كون َّية تنطوي عىل التسليم بمفهوم متداول عند الكثريين ،هو أنَّنا نحن البرش ننتمي مجيع ًا إىل«حضارة واحدة»،
وإنَّام أختار مقاربة تنطوي رصاحة عىل هاجس «الدفاع عن هو َّية خاصة» هي هويتنا نحن ،أي أنَّني أحرص عىل حترير خميالنا ودماغنا
أن اجلريمة من استبداد الفلسفات األحاد َّية التي تنكر عىل «الثقافات اخلاصة» متيزها وفرادهتا ومجالياهتا ،بل وعبقرياهتا .ويف اعتقادي َّ
الثقاف َّية العظمى التي تقرتفها فلسفة العوملة الثقاف َّية األحاد َّية تكمن يف اجلَور الذي تلحقه بالفرادة َّ
الفذة للحضارات اإلنسان َّية املتعدّ دة
املتباينة ،إذ تفتئت عىل األصالة الذات َّية هلذه احلضارات وتدجمها يف حضارة كون َّية مطلقة ليست يف حقيقة األمر إال حضارة ظافرة ذات
مكونات معرف َّية وعلم َّية وتقن َّية وثقاف َّية وماد َّية -ونسب َّية زمن َّية أيض ًا -يزعم أصحاهبا َّأنا األكمل واألمثل واألجدر باالقتداء والبقاء.
ّ
أن هذه (الثقافة الكون َّية) ال تشتمل عىل ثلة من املبادئ والقيم التي يمكن أن تكون ثاوية يف هذه احلضارة ّ
وبكل تأكيد ،ال يعني َّ ذلك،
أن الرؤى الكون َّية األحاد َّية هي رؤى استبداد َّية ليست يف حقيقة األمر إال رؤية فريق أو تلك ،أو التي يمكن إغناؤها هبا ،وإنَّام يعني َّ
دون آخر ،أي الفريق األقوى ،الفريق الذي تسمح له قوته وطغيانه بأن يفرض عىل اآلخرين طريقته يف التفكري ويف العمل والسلوك،
كل مكان .وبالطبع تؤدي األذرع (اإلعالم َّية) هنا دور ًا حاس ًام يف إشاعة بحيث جيد نفسه ،أي جيد قوته وحضوره وتأثريه وفاعلياته ،يف ّ
وجتذير وتوطني قيم ومبادئ ومسلكيات ورموز هذه الرؤى .يف مقال استفزازي عنوانه( :يف مديح اإلمربيال َّية الثقاف َّية) يقول أحد كبار
املسؤولني يف إدارة بيل كلينتون -دافيد روثكوف(« : )David Rothkopfينبغي أن يكون اهلدف الرئييس للواليات املتحدة يف سياستها
اخلارج َّية يف عرص اإلعالم أن تكسب معركة تدفق اإلعالم العاملي وذلك بالسيطرة عىل«األمواج» (القنوات واإلذاعات) ،متام ًا مثلام
ثم يضيف« :من املصلحة االقتصاد َّية والسياس َّية للواليات املتحدة أن حترص كانت بريطانيا العظمى تسيطر يف املايض عىل البحار»؛ َّ
توجه العامل نحو معايري
عىل أن تكون اللغة اإلنجليز َّية هي اللغة املشرتكة إذا ما تبنَّى العامل لغة مشرتكة ،وأن تكون املعايري أمريك َّية إذا ما َّ
تم االرتباط بني األطراف املختلفة يف جمال التلفزيون مشرتكة يف جمال االتصاالت واألمن والنوع َّية ،وأن تكون الربامج أمريك َّية إذا ما َّ
يتبي فيها األمريكيون أنفسهم» .فام هو حسن للواليات املتحدة والراديو واملوسيقى ،ويف حالة بلورة قيم مشرتكة أن تكون هذه القيم قي ًام َّ
أن شعبهم من بني مجيع الشعوب يف تاريخ العامل هو األعظم حسن بالنسبة إىل البرش َّية« .وليس ينبغي عىل األمريكيني أن ينفوا حقيقة َّ
حيسن من نفسه عىل الدوام ،وأنَّه النموذج األفضل للمستقبل» . عدالة وتساحم ًا واألكثر رغبة يف أن يراجع نفسه وأن ِّ
28
بتفوق رؤية جمتمع ما أو حضارة ما ،يف إدراكها وفهمها وحتديدها للعدالة وغريها ،أن أقول َّ
إن يرصح ُّ
أقصد من َسوق هذا النص الذي ّ
وإن هذا املذهب ونظائره تسوغ متام ًا الذهاب إىل حدود معطياتنا مذهب ًا يدَّ عي لنفسه هذا النظر املستبد يف شأن العدل هو مذهب غري عادلَّ ،
الثقاف َّية وغائياتنا الوجود َّية وتطلعاتنا اخلاصة يف بحثنا عن العدالة اجلديرة بأن تكون العدالة املناسبة ملجتمعاتنا وحياتنا الذات َّية يف هذا العامل.
أن املظامل االقتصاد َّية يف العامل العريب ليست هي الوحيدة التي تستجلب أمر االقتصاد َّية» .29املساواة هي قرين العدل .لك َّن احلقيقة هي َّ
فثمة إىل جانبها املظامل السياس َّية املاثلة يف االستبداد واالفتئات عىل احلريات األساس َّية ،واملظامل القانون َّية واالعتداء عىل احلقوق،
العدلَّ ،
واملظامل االجتامع َّية الشاخصة يف غياب العدالة االجتامع َّية واملساواة واحرتام الكرامة اإلنسان َّية ،...والسؤال الرئيس بالطبع هو :كيف
للتحرر منها وإلقامة بنيان العدل الراسخ اجلدير بتأسيس ُّ يتأتَّى لنا أن نخرج من هذه املظامل؟ وما هو املبدأ الديونطولوجي الذي يصلح
األمن والطمأنينة والسعادة وطيب العيش؟ وليس املقصود هنا هو وضع ُس ّلم لألحكام واإلجراءات «الفرد َّية» املفضية إىل العدل ،وإنَّام
املقصود الوقوف عىل اآلليات األخالق َّية الوظيف َّية والسياس َّية الفاعلة والضامنة لتحقيق الوضع العادل.
يف إطار البحث عن نظر َّية للعدالة يف املوروث الثقايف العريب ويف األدبيات الفلسف َّية السياس َّية واألخالق َّية املعارصة ،نظر َّية ذات
جدوى يف مقاربة املشكالت االجتامع َّية واالقتصاد َّية والسياس َّية العرب َّية املعارصة ،ال نملك إال أن نستحرض مجلة النظريات املتداولة
اليوم يف الفضاء العاملي ،ونرفدها بام انطوت عليه املعطيات التارخي َّية الصلبة -يف اعتقادي -التي متتدُّ يف حارضنا ،وباملعطيات الراهنة
التي حتكم أفعالنا وتستأثر باهتامماتنا .بتعبري آخر ،عىل الرغم من أنَّنا نحرص عىل الدفاع عن هويتنا الثقاف َّية وعىل حترير خميالنا من
بأن فالسفة اليونان وفقهاء اإلسالم ومفكري الغرب احلديث واملعارص قد وضعوا أيدهيم عىل مجلة نقر َّ استبداد العوملة ،إال َّ
أن علينا أن َّ
من املبادئ الكربى التي أداروا عليها احلياة األخالق َّية والسياس َّية ،التي ال نملك اليوم إال أن نستأنف النظر فيها ومراجعتها قصد ًا إىل
إدراك الصيغة املالئمة ألوضاع جمتمعاتنا يف خصوصياهتا الذات َّية والتارخي َّية.
إن مبدأ العدل كان أحد أعظم املبادئ األخالق َّية والسياس َّية التي شغلت فالسفة اليونان -خصوص ًا نكرر القول َّ
ال تثريب علينا يف أن ّ
وأن العصور التالية إىل أزمنتنا احلديثة قد جعلت منه أحد املبادئ تم ربطه عندهم باخلري األسمىَّ ، أفالطون وأرسطوَّ -
وأن هذا املبدأ قد َّ
املركز َّية للفلسفة السياس َّية واملعيار َّية ،عىل الرغم من التفاوت واالختالف يف حتديد طبيعته ومتعلقاته .واليوم أيض ًا ،عندنا ،وبسبب القهر
والظلم وغياب املساواة عىل وجه اخلصوص ،تتطلع مجيع شعوبنا إىل هذا املبدأ من حيث هو باب رئيس للخالص .ويف الغرب كذلك ،ومنذ
أن أذاع جون رولز كتابه (نظرية العدالة) ،30 1971يغزو مفهوم العدالة مجيع األعامل الفلسف َّية والفكر َّية التي تدور يف حقل الفلسفة السياس َّية
املعيار َّية والفلسفة األخالق َّية والفلسفة االجتامع َّية .وبالطبع ال نملك نحن إال أن نستحرض النظر املعارص يف هذه املسألة ،مثلام نستحرض ما
نجده مالئ ًام يف النظر العريب املوروث املمتد يف احلارض ،لنتبني الطريق األنجع ملقاربة املوضوع وحتديد اجتاهنا األنسب لفضاءاتنا اخلاصة.
أن األفكار السياس َّية متتدُّ(ول كيمليكا) أنَّنا حني نستحرض املشهد السيايس التقليدي يف الغرب عىل وجه اخلصوص ،نتبني َّ يالحظ ِ
وإنم من َث َّم يأخذون فإن األفراد الذين جينحون إىل اليسار يؤمنون باملساواةَّ ، عىل حمور قطباه اليسار واليمني .وبحسب هذه الصورة َّ
فإنم يؤمنون باحلر َّية ،وهم من َث َّم يميلون إىل الرأسامل َّية بال قيود .أ َّما يف
بشكل ما من االشرتاك َّية؛ أ َّما األفراد الذين يقعون إىل اليمني َّ
وسط املحور فتتموضع طوائف أبرزها الليرباليون الذين يؤمنون بمزيج غامض خمتلط من املساواة واحلر َّية ،وهم من َث َّم أنصار لرأسامل َّية
أن هذا التقدير لواقع األمر مل يعد اليوم قاطع ًا ،ألنَّه من ناحية جيهل عدد ًا من املشاكل َّ
املهمة، معتدلة هي رأسامل َّية «دولة الرعاية» .بيد َّ
خصوص ًا تلك املتعلقة برضورة التمييز بني الفضاء الذكوري والفضاء النسائي يف الدولة ويف االقتصاد واملنزل والعائلة ،وكذلك ما
يتعلق باملشاكل التي يثريها املذهب (اجلام َعتي) .والنظريات السياس َّية التقليد َّية ،يمين ًا ويسار ًا ،هتمل هذه املجاالت ،أو تزعم َّأنا ال تثري
أي حكم معياري سيايس ال إن إطالق ّ أ َّية مشكلة ذات صلة بالعدالة أو باحلر َّية .ومن وجه آخر ال يأبه هذا النظر بالسياق التارخيي ،إذ َّ
بدَّ أن يستند إىل تعليل التقاليد واملامرسات التي حتكم حياتنا التارخي َّية واالجتامع َّية ،ونحن لن نستطيع أن نفهم احلركة النسو َّية أو املذهب
اجلامعتي إذا ظللنا متشبثني بتأقطب اليمني واليسار.
29 . E. levinas. Entre nous: essai sur le penser-à- l autre; grasset; paris; 1991. p 116.
30 . Rawls, John.Theory of justice. Oxford University Press. London. 1972.
مؤسسة» متباينة .فع َّلة االختالف بني اليمني واليسار يف شأن الرأسامل َّية تكمن يف
ال عن ذلك ،تستند النظريات املختلفة إىل «قيم ِّ وفض ً
فإن اخلالفات ال يمكن أن َّ
حتل أن اليسار يؤمن باملساواة بينام يؤمن اليمني باحلر َّية .وملا كانت قيمهام اإلنسان َّية متعارضة وال توافق بينهاَّ ،
َّ
أن اليمني يمكن أن فإن عليك أن تنترص لالشرتاك َّية؛ مثلام َّ
عقل َّي ًا .يستطيع اليسار أن يدافع عن القض َّية التالية :إذا كنت تؤمن باملساواة َّ
فإن عليك أن تكون نصري ًا للرأسامل َّية .لكن ليس َّ
ثمة أ َّية وسيلة لتقديم الدليل عىل صحة مبدأ املساواة يف قبالة يؤكد :إذا كنت تؤمن باحلر َّية َّ
مبدأ احلر َّية ،والعكس صحيح ،ألنَّنا ههنا بإزاء قيم مؤسسة ،وأنَّه ال تتوفر أ َّية قيمة أو مقدّ مة أسمى أو أعىل يمكن أن حيتكم إليها الطرفان
فإنا تبدو لنا غري قابلة للحل ،ألنَّنا ملزمون باالحتكام إىل قيم متناهية متصارعة.31 تعمقنا يف النظر يف هذه املسائل َّ
املتصارعان .ومهام َّ
كل نظر َّية من نظريات العدالة اجلديدة متيل بدورها إىل قيم هنائ َّية إن َّ
مل تنل التصورات املستحدثة من هذه الرؤية التقليد َّية ،إذ َّ
خمتلفة .فإىل جانب ارتباط املساواة باالشرتاك َّية ،واحلر َّية بالليربتار َّية ،تعتمد النظريات السياس َّية اجلديدة عىل «قيم هنائ َّية» ،كاالتفاق
التعاقدي (رولز) ،و«اخلري العام» (املذهب اجلامعتي) ،و«املنفعة» (املذهب النفعي) ،و«احلقوق» (دوركن) ،و«الذكورة»()androgynie
أي دليل عقيل أن يوفق بينها .وذلك من (النسو َّية) .ويف هذه احلاالت مجيع ًا نحن قبالة عدد متعاظم من «القيم النهائ َّية» التي ال يستطيع ُّ
ثمة قدر كبري من القيم النهائ َّية التي يمكن هلا أن تدَّ عي حتقيق هذه شأنه أن يشكِّك يف إمكان َّية بناء نظر َّية شاملة جامعة يف العدالة ،إذا كان َّ
أن اإلجابة الوحيدة املعقولة عىل هذه التعدد َّية يف القيم ،تكمن يف أن هنجر فكرة تطوير أي شك يف َّ ثمة ُّ
العدالة ،جييب كيمليكا« :ليس َّ
التعصب» .
32
ُّ فإن الفكرة التي تع ّلق مجيع القيم عىل قيمة عليا تكاد تبدو شك ً
ال من نظر َّية «أحاد َّية» أو «واحد َّية» يف العدالةَّ .
بأن َّ
كل املذاهب األخالق َّية تستند إىل نواة ال يعنيني هذا السجال هنا ،وال هيمني أن أستغرق يف الدفاع ،مع كيمليكا ،عن خطأ االعتقاد َّ
ألن بعضها رصيح رصاحة مطلقة يف إنكار هذه القيمة ،كاملذهب الليربتاري مثالً .وقد أضيف إىل ذلك قاعد َّية أساس َّية هي «املساواة»َّ ،
«أن من يعمل ليس كمن ال يعمل ،ومن يبدع ليس كمن ال يبدع» ،وأ َّي ًا ما كانت مشاعر التعاطف عندنا سامية فإنَّنا الأنَّنا مجيع ًا نتفق عىل َّ
نقبل بمبدأ االستحقاق املتساوي ملن يعمل وملن ال يعمل.
أي أمر آخر ،هو أن نفرتض ابتداء أنَّه ليس لدينا أ َّية نظرية حمددة يف العدالة ،وأنَّنا يف صدد البحث أن ما جيدر الوقوف عنده قبل ّ بيد َّ
عن نظر َّية «عمل َّية» لنا .حينذاك سيكون علينا أن ننظر يف نظريات العدالة املتداولة يف الفلسفة السياس َّية واألخالق َّية املعيار َّية ،وأن نرى
أن ذلك أجدى ،منهجي ًا وواقعي ًا ،من أن أ ّدعي تقليد جون رولز وإعادة ما الذي (يالئمنا) منها .ويف اعتقادي ،لسياقاتنا اخلاصة الراهنةَّ ،
جتربة «الوضع األصيل» و«حجاب اجلهل» ،الذائعة الصيت.
إن العمل الذي قام به كيمليكا يفيدين يف هذا القصد إفادة بالغة ،إذ يضع يده عىل أبرز النظريات الكربى الراهنة يف العدالة ،يف َّ
الفكر الغريب املعارص .وهي ،عنده ،ست :النظر َّية النفع َّية ،ونظر َّية املساواة الليربال َّية ،والنظر َّية الليربتار َّية ،والنظر َّية املاركس َّية ،والنظر َّية
اجلامعت َّية ،والنظر َّية النسو َّية.
31 . Willkimlicka; les théories de la justice. Edition la découverte-édition du boréal. Canada.1999 .p.8 - 9.
32 . W. Kimlicka, Op.Cit, p. 10.
33 . Dworkin, Taking Rights Seriously, Duckworth, Londres, 1977, pp. 179- 183, In Defense of Equality, 1983, p. 24…etc.
أن الفكر الغريب وألن املوروث العريب اإلسالمي ممتد فينا مثلام َّ
وألن القصد هنا حتديد معامل نظر َّية يف العدالة يف حدود ديونطوجليا عرب َّيةَّ ،
َّ
يؤثر فينا أيض ًا ،فإنَّني سأضيف إىل النظريات املتداولة يف الفضاءات الغرب َّية -وهي نظريات قابلة للتداول يف فضاءات أخرى -النظر َّية
التي تنحدر إلينا من الرتاث العريب اإلسالمي ،أعني نظر َّية املصلحة ،ألرى يف هناية األمر ما الذي يستدعيه حارضنا السيايس ،االقتصادي،
االجتامعي ،األخالقي ،التارخيي ،ويتطلبه من بني مجلة هذه النظريات ،عىل سبيل «املالءمة» أو «املناسبة» أو «اجلدوى» ،اليوم وغد ًا.
ٍ
مساو بأوسع قدر ملا حيق جلميع اآلخرين من هذه احلريات. املبدأ األولّ :
لكل شخص ،من مجلة احلريات األساس َّية املتساوية ،حق
املبدأ الثاين :ينبغي للتفاوتات االجتامع َّية واالقتصاد َّية أن ُتنَ ّظم عىل نحو:
أ .حتقق أعظم النفع لألفراد ّ
األقل حظ ًا.
ِ
ب .أن تكون متعلقة بوظائف وأوضاع ميسورة للجميع ،يف أوضاع س َمتُها املساواة العادلة يف الفرص .
36
يعمم وحيمل إىل مستوى أعىل من التجريد نظر َّية العقد االجتامعي املشهورة يف الصورة التي هتدف مقاربة رولز إىل «تقديم فهم للعدالة َّ
نجدها ،من بني آخرين ،لدى لوك وروسو وكانط» .والقصد نظر َّية يف العدالة االجتامع َّية قائمة عىل مفهوم للعدالة التوزيع َّية بني أفراد
38
يتم
إن األفراد ليسوا حياديني يف أمر الطريقة التي ُّ املجتمع .ونقطة االنطالق هي مالحظة تناقض املصالح بني املواطنني يف ّ
كل جمتمع ،إذ َّ
هبا توزيع ثامر مشاركتهم ،فهم مجيع ًا يفضلون القدر األعظم من املنافع عىل القدر األقل .ويرتتب عىل ذلك أنَّنا «يف حاجة ملجموعة من
املبادئ لالختيار بني التنظيامت االجتامع َّية املختلفة التي حتدّ د هذه القسمة للمنافع»« .هذه املبادئ هي مبادئ العدالة االجتامع َّية ،التي ن َّبه
كل شخص ما هو حق له». إليها أرسطو يف مفهومه للعدالة التوزيع َّية ،أي املثال الذي بفضله تعني العدالة أن يعطى ّ
فإن علينا أن نحرتم مبدأ «االستقالل املطلق» للفرد ،واالختالف أو التمييز بني األفراد، ويؤكد رولز أنَّنا إذا ما أردنا أن نضمن العدل َّ
«كل شخص يمتلك حرمة ( )inviolabilityمستندة إىل العدل الذي حتى باسم سعادة جمموع املجتمع ال يمكن انتهاكه» .لذا هو ألن َّ
َّ
أن «مبادئ العدل (ينبغي أن تُبني) يف البنية االجتامع َّية القاعد َّية عن رغبة البرش يف أن يعامل بعضهم بعض ًا من حيث يتابع (كانط) مؤكد ًا َّ
هم غايات يف ذاهتا ،ال من حيث هم جمرد وسائل» .يف هذا املنظور يؤكد رولز ابتداء« :يف نظر َّية العدالة بام هي إنصاف ،مفهوم العادل
سابق عىل مفهوم اخلري» ،وحقوق املواطنني تتمثل يف ث ّلة من «احلريات األساس َّية التي يتمتع هبا اجلميع عىل قدم املساواة» .39لكنَّها
حريات تلتزم بعدالة توزيع َّية تتنكَّر هلا النظر َّية النفع َّية الالمساوات َّية.
36 . J. Rawls; The basic Liberties and their Priority; in »Political Liberalism; Colombia University Press; New York; 1993; 1996; p. 291.
37 . W.kimlicka; OP. cit; pp. 64 - 66.
38 . J. Rawls; OP. cit; p. 11.
- 39انظر عرضاً دقيقاً لنظرية رولز يف:
Quentin Skinner,on Justice, The Common Good and the Priority of Liberty, in Chantal Mouffe (ed). Dimensions of Radical Democracy,
Pluralism, Citizenship, Community, Londres, New York, Verso (Phronesis), pp. 211, 212.
الرتجمة الفرنس َّية:
Quentin Skinner, Sur la Justice, Le bien commun et la priorité de la liberté, in Libéraux et communautariens , texte réunis et présente per
André breton, pablo la silveira, Hervé pourtois ,PUF, 1997, pp. 209 - 225.
وثمة بعض األشياء التي ال يستطيع ال الفرد وال املجتمع القيام هبا (من دون أن يطال ذلك ومثلام يقول روبرت نوزيك« :لألفراد حقوقَّ ،
كل تدخل من جانب الدولة هو بمنزلة فإن َّ
حق الترصف يف ممتلكاهتم عىل النحو الذي يرونهَّ ، اغتصاب حقوقهم)» .و َّملا كان لألفراد ُّ
َ
«أشغال شاقة» ،إذ هو خيرق ال مبدأ الفاعل َّية ،وإنَّام حقوقنا األخالق َّية األساسية .والليربتار َّية تقوم عىل املبادئ التالية:
40
كيف يقوم الليربتاريون بالربط بني العدل والسوق؟ «يف نظر َّية احلقوق الرشع َّية للملك َّية» لدى نوزيك ،إبانة عن هذه املسألة عىل
فإن توزيع ًا عادالً يتمثل حينئذ،
إن لكل فرد حق ًا مرشوع ًا يف األشياء التي هي يف حوزتهَّ ،
النحو التايل :إذا انطلقنا من الفرض َّية القائلة َّ
يتم بثمرة حتويالت ومبادالت حرة بدء ًا من وضع عادل ،هو احلرة بني األفراد؛ ّ
وكل توزيع ُّ كل توزيع ينتج عن املبادالت َّ بكل بساطة ،يف ّ ّ
وإن فرض أ َّية رسوم (رضيب َّية)عىل هذه املبادالت خالف ًا إلرادة املواطنني هو أمر ظامل ،حتى لو كانت هذه الرسوم تستخدم
نفسه عادلَّ .
للتعويض عن التكاليف اإلضاف َّية التي يمكن أن يكون ضحايا هلا األفرا ُد الذين يعانون من إعاقات طبيع َّية ال يد هلم فيهاَّ .
ألن الرسم
(الرضيبة) الرشعي الوحيد هو ذلك الرسم الذي يستخدم يف اقتطاع املوارد الرضور َّية للحفاظ عىل املؤسسات القاعد َّية الرضور َّية حلامية
نظام التبادل احلر (الرشطة والقضاء).
وبدقة أكرب ،تستند نظر َّية حقوق امللك َّية عند نوزيك إىل ثالثة مبادئ أساس َّية:
1 .1مبدأ التحويل :ما يكتسب بحق يمكن نقله بحر َّية.
يفس ،يف األصل ،الطريقة التي أمكن فيها لألفراد أن حيصلوا عىل املمتلكات التي يمكن أن 2 .2مبدأ الكسب األويل العادل ،الذي ّ
يتم نقلها موافقة للمبدأ السابق.
َّ
تم نقلها ظلامً. ً
تم اكتساهبا ظلام أو التي َّ
يفس الطريقة التي هبا يمكن الترصف يف املمتلكات التي َّ
3 .3مبدأ تصحيح املظامل ،الذي ّ
فإن ذلك يعني أنَّه إذا كانت ممتلكات األفراد مكتسبة بحقَّ ،
فإن صيغة التوزيع العادل تكون هي إذا ما اعتربنا هذه املبادئ الثالثة مع ًا َّ
ولكل أحد بحسب ما اختري له».41 ّ كل أحد بحسب ما خيتار، التالية« :من ّ
«أن دولة احلد األدنى» )Minimal State( ،مقترصة ،عىل نحو وثيق ،عىل وظائف احلامية منومجاع نظر َّية حقوق امللك َّية عند نوزيك َّ
توسع الحق يف وظائف هذه العنف ،والرسقة ،واالحتيال (الرضيبي) ،وعىل ضامن احرتام العقود ،هي دولة ذات أساس مسوغُّ .
وكل ُّ
الدولة من شأنه أن يعتدي عىل حقوق األفراد يف َّأل يفعلوا بعض األشياء ،هو أمر ال ّ
مسوغ له».42
40 . Robert Nozick, Anarchy, state and Utopia, Basic Book, New York, 1974, p. IX.
41 . Op. cit. p.16.
42 . Op. cit. p. IX.
إن (العدل الكالمي) و(العدل الفلسفي) خيرجان َّ ألي تدخل من جانب الدولة ويرتتب عىل ذلك أنَّه ال جمال ّ
من دائرة االهتامم املشخص املبارش احلايل ،فض ً
ال يف قضايا الرتبية ،والصحة ،واملواصالت ،وإصالح الطرق أو
إن االلتزام هبذه املؤسسات يتضمن ،وفق ًاالفضاءات اخلرضاء .إذ َّ
أن األول منهام جينح نحو امليتافيزيقا ،بينام عن َّ
لنوزيك ،رضائب قرس َّية عىل بعض املواطنني ،رغ ًام عن إرادهتم،
يلحق الثاين بالفلسفة األخالق َّية األكسيولوج َّية وخرق ًا ملبدأ التوزيع العادل وفق ًا لنوزيك.43
الغائ َّية .واملطلوب االستجابة لنداء الواقع
املشخص :الواقع االجتامعي واالقتصادي باختصار شديد يتفق الليربتاريون -ميلتون فريدمان،
وفريدريك فون هايك ،وروبرت نوزيك ـ عىل الدفاع عن ثالث
والسيايس وملطلب املسؤول َّية والواجب ،أوالً
قضايا أساس َّية :احلق الطبيعي يف احلر َّية ،واإلطالق األقىص
وآخر ًا ،وقصد ًا للضبط والتحديد والفاعل َّية للسوق ولنظامه التلقائي ،والنضال يف وجه الفلسفة التدخل َّية
للدولة ،ومناهضة مجيع االهتاممات املتعلقة بالعدالة االجتامع َّية
وبفكرة املساواة والعدالة التوزيع َّية (القسم الثاين من كتاب فون
هايك :القانون والترشيع واحلر َّية ،حيمل العنوان :رساب العدالة االجتامع َّية).
وبالطبع يمثل مبدأ احلر َّية ،من حيث هو حق طبيعي مطلق ال جيوز املساس به ،نقطة االرتكاز األساس َّية يف الدفاع املرسف عن امللك َّية
اخلاصة ويف إشهار «حرب صليب َّية» عىل مبدأ العدالة االجتامع َّية وعىل «ليربال َّية املساواة» التي مثلها رولز ودوركني.44
اجلامعت َّية يمكن هلا ،بل جيب عليها ،أن تشجع األفراد عىل أن يتبنَّوا تصورات للخري موافقة لنمط حياة اجلامعة ،وأن ينهضوا يف وجه
تصورات اخلري التي تضاده .هبذا املعنى يبدو املجتمع «اجلامعتي» جمتمع ًا مثالي ًا يطلب الكامل ،ويضع ُس َّل ًام قيم َّي ًا ألنامط احلياة املختلفة.
فإن اجلامعتيني يرفضون هذا املبدأ .ومعلوم َّ
أن املفهوم الليربايل ويف الوقت الذي يشدّ د فيه الليرباليون عىل مبدأ «تقرير املصري الذايت»َّ ،
وأن هويتهم ،من َث َّم ،ال تتحدَّ د يف ضوء هذه أن األفراد أحرار يف أن يتبنوا املامرسات االجتامع َّية السائدةَّ ،للهو َّية الشخص َّية يقوم عىل َّ
العالقة االقتصاد َّية أو الدين َّية ،أو اجلنس َّية أو ، ...إذ َّإنم أحرار يف نقد أو رفض هذه الروابط .األنا ،مثلام يرى (كانط) ،سابق يف الوجود
عىل خمتلف العالقات االجتامع َّية واألدوار املحدَّ دة ،وهو جدير بأن يضع هذه العالقات خارج وضعه االجتامعي ،وأن خيضعها ألحكام
«متجذر» و«متموضع» ّ أن (األنا) أن هذه النظرة للهو َّية الشخص َّية نظرة غري صحيحة ،إذ هي جتهل َّ فإنم يرون َّ العقل .أ َّما اجلامعتيون َّ
نستقل عنها .لذا ينبغي أن تعترب مجيع َّ يف داخل املامرسات االجتامع َّية القائمة ،وأنَّنا ال نستطيع دوم ًا أن نضع «مسافة» بيننا وبينها أو أن
كل تداول شخيص .ومعنى ذلك َّ
أن أدوارنا وعالقاتنا االجتامع َّية ،أو عىل األقل بعض هذه األدوار والعالقات ،معطيات سابقة عىل ّ
وتعمقِّ ممارسة حق تقرير املصري الذايت جتري من خالل هذه األدوار االجتامع َّية ،ال بعيد ًا عنها ومن خارجها .وعىل الدولة أن تشجع
إن احلر َّية التي يبني عليها الليرباليون ال بدَّ أن تكون ،يف رأي تشارلز تايلور« ،متموضعة» ،واألنا الذي التجذر والتعلق باجلامعةَّ .ُّ هذا
أي
بأي سامت أو خصائص ذات َّية ،وهو بال هدف حمدَّ د ،وفارغ من ّ حريته ُمقصي ًا مجيع العقبات والعراقيل اخلارج َّية ،ال يتمتَّع ّ يامرس ّ
يتعذر علينا أن «نختار» أو أن «نرفض» عالئقنا باجلامعة التي ننتمي إليها ،ونحن معنى .46ويذهب الفريق األغلبي من اجلامعتيني إىل أنَّه َّ
ال نملك إال أن نكتشف يف احلياة ارتباطنا الوشيج هبا وبالسياق الثقايف .يأخذ اجلامعتيون عىل الليرباليني َّأنم هيملون الرشوط االجتامع َّية
الرضور َّية للتلبية احلقيق َّية ملنافعنا ورغباتنا ،ويؤكد تايلور َّ
أن النظر َّية الليربال َّية تستند عىل نزعة «ذر َّية» يشخص هبا األفراد بام هم مكتفون
أن «السياق اجلمعي» أو «البيئة االجتامع َّية»أي «رباط اجتامعي» .ولك َّن تايلور يؤكد َّ بذواهتم ويتحركون يف حالة استقالل تام عن ّ
رضور َّية للحياة الطيبة يف املجتمع ،وأنَّه يمتنع متام ًا حتقيق تقرير املصري الذايت خارج اإلطار االجتامعي .لذا ينبغي هجر «احلياد الليربايل»
و«األنا الليربايل غري امللتزم» ،والتعلق بسياسة «اخلري العام» والرشوط االجتامع َّية الرضور َّية لتحقيق املصري الذايت واحلياة الطيبة يف
اجلامعة وباجلامعة .47وذلك كله ينطوي عىل ربط العدل باخلري.
استعدادات املرأة «حدس َّية» توافق املجال اخلاص ،وبني النظر َّية النسو َّية احلديثة التي تؤكد َّأنا ذات طبيعة عقل َّية منفتحة عىل املجال
يعبان يف رأي (غيليكان) عن ت َّيارين ال يمكن التوفيق بينهام :أخالق تصورين أخالقيني ِّ الكوين العام .وقد و َّلد هذا السجال تبلور ُّ
االهتامم والرعاية ( )Caring /Sollicitudeوأخالق العدالة .األوىل تشدّ د عىل تنمية االستعدادات األخالق َّية ،والثانية تشدّ د عىل تعلم
حل املشاكل وفق ًا ملبادئ شاملة؛ األوىل تنشد احرتاماخلاصة ،والثانية تريد َّ
َّ املبادئ األخالق َّية؛ األوىل تبحث عن أجوبة مناسبة للحاالت
احلقوق واإلنصاف ،والثانية حترص عىل املسؤوليات والروابط الشخص َّية .بتعبري آخر :أخالق العدالة تشدِّ د عىل احرتام احلقوق ،أ َّما
ٍ
مساو.48 فتوجه إىل املسؤول َّية والتعاطف بإزاء اآلخر من حيث هو
أخالق االهتامم ِّ
بكل تأكيد منظورات أخرى للموضوع ،مشتقة من هذا املنظور أو ذاك، ثمة ِّ تلك هي أبرز نظريات العدالة يف الفكر الغريب املعارصَّ .
أو قريبة من هذه النظر َّية أو تلك ،كتلك التي هلا صلة وشيجة باملنظور الليربايل أو املنظور اجلامعتي ،أو تلك التي تعرض ملسألة العدل
والعدالة االجتامع َّية يف عالقتها بفلسفة (االعرتاف) ،مثلام نجد عند أكسل هونت وبول ريكور ،ونانيس فريزر ،49لكن ما عرضت له يف
الصفحات السابقة يبدو يل وافي ًا باملقصود يف سياق هذا البحث.
أن هذا املقصود لن يستويف حقوقه من دون استحضار املعطى العريب الذي انطوى عليه موروثنا التارخيي ،واعتباره يف النظر إىل بيد َّ
عم يمكن التوجيه إليه يف مسألة العدالة يف جمتمعاتنا العرب َّية املعارصة.
جانب الرؤى الغرب َّية املتداولة ،لإلبانة َّ
أن أصناف العدل التي ينطوي عليها املوروث ،التي تستحق يف اعتقادي أن تكون يف حدود مقاربتنا للمسألة ،يبدو يل بوضوح تام َّ
موضوع اهتامم واعتبار ،ومضاهاة يف قبالة ،أو بمحاذاة ،نظريات العدالة الغرب َّية املتداولة اليوم ،تقع يف حقل العدل السيايس واالجتامعي.
ال عن َّ
أن األول منهام جينح نحو أن (العدل الكالمي) و(العدل الفلسفي) خيرجان من دائرة االهتامم املشخص املبارش احلايل ،فض ً ذلك َّ
امليتافيزيقا ،بينام يلحق الثاين بالفلسفة األخالق َّية األكسيولوج َّية الغائ َّية .واملطلوب االستجابة لنداء الواقع املشخص :الواقع االجتامعي
واالقتصادي والسيايس وملطلب املسؤول َّية والواجب ،أوالً وآخر ًا ،وقصد ًا للضبط والتحديد والفاعل َّية.
أن (العدل الرشعي) الذي يلتزم بأحكام الرشيعة بالطبع يمكن لفريق من املفكرين -أو بشكل أدق من الدعاة الدينيني -أن يؤكد َّ
ألن اهلل مبدأ هذا الرشع ،فاهلل العادل ،أعلم من البرش بام هو حق وخري وعدل هلم. اإلسالم َّية هو وحده الذي يضمن العدل بني الناسَّ ،
وحدَّ ة .واملرشوع الذي يسعى «اإلسالميون السياسيون» إلنفاذه ينطوي «التدخل» ي ْش َخص اليوم يف مجلة أقطارنا العربية بقوة ِ
ُّ وهذا
َّ ُ َ
بأن (العدل الرشعي) ،أي أحكام الرشيعة اإلسالم َّية ،هو طريق اخلالص .ويكفي أن نالحظ َّ
أن أغلب َّية األحزاب عىل االعتقاد اجلازم َّ
اإلسالم َّية السياس َّية الكربى جتعل من لفظ (العدالة) عالمة عىل نفسها :يف تركيا :العدالة والتنمية ،يف مرص :احلر َّية والعدالة ،يف املغرب:
العدالة والتنمية ،والعدل واإلحسان ،...وهكذا .وبالطبع الدعوى األساس َّية التي تقوم عليها هذه األحزاب ،يف ضوء االسم الذي يرمز
إليها ،هو تطبيق أحكام الرشيعة اإلسالم َّيةَّ ،
وأن هذه األحكام حتقق العدل والرفاهية.
ال رصحي ًا بني منظورين مرتافعني :منظور نتحرك هنا عىل أرض غري صلبة ،وأنَّنا نشهد عىل هذه األرض تقاب ً
إنَّني أدرك متام اإلدراك أنَّنا َّ
اإلسالميني ،ومنظور الليرباليني .بني هذين املنظورين يعاين (القانون) ،وتعاين الدولة ودستورها ،ويعاين املواطنون ،أشدَّ رضوب العنت
وألن املجتمعات العرب َّية ،هنا...اآلن ،قد دخلت أو ُأدخلت يف ما يمكن أن ّ
أسميه «خمترب التجربة اإلسالم َّية الوظيف َّية» َّ والتوتر والقلق.
َّ -
ألن هذا ،يف تقديري ،ما يصنعه الغرب لغايات ال أخوض فيها هنا ـ فإنَّني لن ّ
«أول األدبار» من املشكلة ،وسأقف منها املوقف التايل،
الذي هو موقف «منهجي» ال «مذهبي» أو «ع َقدي»:
يف عاملنا العريب ،املسكون -بمسلميه ومسيح ّييه -بعبق الدين ،وسحره ،وأحكامه ،وغاياته ،وبأوامره ونواهيه ،ووعوده ووعيده،
وعالئقه ومتعلقاته ،وأفهامه ومفاهيمه ،وطرائق مقاربته ورضوب ممارسته...إلخ ،ال نستطيع أن نضع الدّ ين «بني قوسني» ،وال
نستطيع أن ندير له ظهورنا ،أو أن نسخر منه ونقطع معه ونقصيه من حياة املجتمع ومساره ومصريه .فهو «معطى» مبارش ،مشخص،
وألن املتم ّثل للدين يتمثله
َّ ذو بأس وقوة شديدين عند قوم ،ط ّيب رحيم عند قوم آخرين ،ألنَّه «حمكم» يف وجه« ،متشابه» يف وجوه،
وفق «طبيعة ذات َّية» وما تنطوي عليه من قاع وجداين أو عقيل أو تراثي أو غري ذلك .وليست املسألة هي يف قبول أو عدم قبول الدين
ال «ذر َّي ًا» ،بمعنى أن
وأحكامه ،وإنَّام هي يف طريقة فهمنا له وملضامينه .والقض َّية املنهج َّية الكربى هي التالية :هل نتمثل الدين متث ً
ال «كُل َّي ًا» ،أو «هولست َّي ًا» ،أعني يف «مبادئه العا َّمة» و«مقاصده
جمردة أو منتزعة من (جمموعه)؟ أم نتمثله متث ً
نتصلب عند مفرداته َّ
النهائ َّية»؟ ويتعلق هبذا النظر املنهجي :هل نقرأ النص الديني «عىل ظاهره» ،أي وفق دالالته املاد َّية احلس َّية احلرف َّية؟ أم نفرتض َّ
أن
وأن التأويل وإعادة قراءة النصوص مها املنهج الذي ينبغي أن ُيتَّبع يف مقاربة محال للوجوه» ،متشابهَّ ،
ظواهر النص حافلة بام هو « َّ
النص وفهمه وإنفاذ مضمونه؟
وأن املبادئ واملقاصد هي التي ينبغي أن تُطلب، أن املنهج اهلولستي التأوييل هو الذي ينبغي أن ُيتَّبعَّ ،
ال أتر َّدد يف املسألة .فأنا أعتقد َّ
ال يف موضوع العدالة فقط ،وإنَّام يف مجيع املوضوعات األخرى .لذا كانت نظر َّية (املصلحة) التي َّنوه هبا فقهاء املقاصد هي التي ينبغي
الوقوف عندها من مجلة املوروث العريب اإلسالمي ،ومضاهاهتا بجملة النظريات الغرب َّية يف العدالة .وهذا التقاطع أو «التضايف»
رضوري ،ألنَّنا ال نعيش وحدنا يف هذا العامل.
تتوخى اخلري العام ،وهو مبدأ قرآين رصيحُ ،يشتق من مقصد الرشيعة يف ضامن مصلحة اجلامعة وحسن ونظر َّية املصلحة نظر َّية َّ
مر من قبل ،جلب منفعة ودرء مفسدة؛ أي مصلحة العباد يف العاجل واآلجل.
أحواهلا .واألصل فيها فعل اخلري وجتنُّب الرش ،أو مثلام َّ
أن فقهاء املقاصد القدامى -خصوص ًا الشاطبي والقرايف -قد جعلوا هذه املقاصد يف أقسام :الرضور َّية ،واحلاج َّية ،والكامل َّية،ومعلوم َّ
توسعوا فيها، وأنم شدَّ دوا عىل الرضوريات منها وحرصوها يف مخس :حفظ الدين ،والنفس ،والنسل ،واملال ،والعقل .لك َّن املحدثني َّ َّ
بحيث أضافوا إليها ثلة من قيم احلداثة ،وحقوق اإلنسان.
«نص» يف فهم هذه النظر َّية ويف تطبيقها؛ هذه النظر َّية يف (املصلحة) هي نظر َّية اخلري العام .ومع َّ
أن القرايف والشاطبي يتعلقان بمنهج ِّ
مر قول بعضهم إنَّه حيثام يؤسسوهنا عىل العقل .وقد َّ
والعز بن عبد السالم ونجم الدين الطويف وآخرين ّ ّ أن آخرين ،كاخلرويص إال َّ
فثم رشع اهلل ودينه ورضاه وأمره .واهلل تعاىل مل حيرص طرق
بأي طريق كانَّ ،
«ظهرت أمارات احلق وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه ّ
فأي طريق استخرج هبا احلق ومعرفة العدل وجب احلكم بموجبها العدل وأدلته وأماراته يف نوع واحد وأبطل غريه من الطرق (ّ ،)...
إن الفقيه احلنبيل نجم الدين الطويف ( 716هـ1316/م) ذهب إىل تقرير القول إنَّه إذا ما تناقضت املصلحة مع النص ومقتضاها .»..حتى َّ
أن املصلحة ينبغي ألنا املقصد النهائي للترشيع .ويف العرص احلديث ذهب الطاهر بن عاشور إىل َّ(الديني) فإنَّه جيب تغليب املصلحةَّ ،
أن تكون أساس ًا جلميع األحكام القانون َّية .
50
50ـ انظر مادة (مصلحة) يف دائرة املعارف اإلسالميَّة ،وانظر أيضاً :مصطفى زيد ،املصلحة يف الترشيع اإلسالمي ،والقاهرة ،1954 ،الطاهر بن عاشور ،مقاصد الرشيعة
اإلسالم َّية ،تونس1366،ه1946 /م ،واألدبيات يف املوضوع كثرية.
نستطيع دمج نظرية املصلحة يف مركب نظر َّية لكن ،هل هتدف الرشيعة بالدرجة األوىل إىل محاية مصالح
عرب َّية يف «العدالة االجتامع َّية» أركاهنا األساس َّية: األ َّمة املشرتكة ،أم هتدف إىل محاية املصالح الفرد َّية؟ يف املسألة
املركز َّية هنا ،أي مسألة امللك َّية ،ويف ضوء التسليم َّ
بأن اهلل هو
املنفعة الضاربة يف اخلري العام ،ليربال َّية تكافل َّية
حق التمتع بامللك َّية أو احليازة، كل يشءَّ ،
وأن لإلنسان َّ مالك ّ
حافظة للحريات األساس َّية واملساواة يف الفرص تقابل فريق الفقهاء اآلخذين بجامع َّية حيازة امللك َّية ،وفريق
ويف توزيع اخلريات االجتامع َّية مع اإلقرار وحق الفرد يفّ الفقهاء الذين وقفوا إىل جانب توزيع امللك َّية
بالتفاوت ،..وتعزيز القواعد احلامية للهو َّية،.. اكتساهبا ونقلها من شخص إىل آخر.
أن نظر َّية (املصلحة) و(اخلري العام) تفرض أحكامها يف مجيع احلقول اإلنسان َّية ،واالجتامع َّية ،والسياس َّية، أخلص من ذلك إىل َّ
واالقتصاد َّية ،واألخالق َّية ،والقانون َّية .ومع َّأنا ،يف منطلقاهتا األساس َّية ذات «بذور دين َّية» ،إال َّأنا خضعت لتطوير جوهري جعل منها
نظر َّية «إنسان َّية» خالصة يمكن البناء عليها ،كُل ّي ًا أو جزئي ًا ،يف تشكيل نظر َّية عرب َّية معارصة يف العدل.
النفع َّية ،املساواة الليربال َّية أو(الليربال َّية)الليربتار َّية ،اجلامعت َّية ،املاركس َّية ،النسو َّية ،املقاصد َّية...هي إذ ًا النظريات التي تشخص يف قبالة
ثمة خيارات أخرى. املجتمعات العرب َّية ،ومت ّثل هلا هذا اخليار أو ذاك ،إن مل تكن َّ
«االقتصادي» حيكم ،وجيور ،وهييمن عىل عامل اليوم ،عامل العوملة .ولكي يستقيم العدل يف عامل كهذا تبدو املساواة أفضل
ّ شك يف َّ
أن ال َّ
فثمة
«االقتصادي» ليس هو احلاكم األوحدَّ ،
َّ الردود املناسبة .وهي تبدو كذلك عىل وجه اخلصوص يف مجلة أقطار العامل العريب .بيد َّ
أن
العامل الثقايف ،والعامل الديني الصاعد صعود ًا عظي ًام ،والعامل القومي ،والعامل السيايس ،والعامل القانوين .ثم َّ
إن األقطار العرب َّية،
ثمةأن َّكل يشء ،والفروق الثقاف َّية شاخصة هنا وهناك .وليس خيفى َّ عىل الرغم من عوامل التجانس ومقومات اهلو َّية ،ليست متامثلة يف ِّ
وأن املوارد والثروات متباعدة ومتفاوتة هنا وهناك .والفقر ،بل العوز، ُه َّوة اقتصاد َّية سحيقة تفصل بعض بلدانه عن بعضها اآلخرَّ ،
سمة صارخة من سامت بعض املجتمعات العرب َّية ،وتوزيع الثروة يف مجيع األقطار العرب َّية توزيع غري عادل .ويؤكد لنا االقتصاديون
معمق واستقصاء واسع ،وهي ليست ممَّا يقدر صاحب واالجتامعيون واملفكرون السياسيون والقانونيون -وهذه وجوه حتتاج إىل بحث َّ
وأن عالجها ال يمكن أن يتحقق أن املظامل وقائع بدهي َّية ال يملك أحد أن ينكرها أو أن يق ّلل من شأهناَّ ،
هذا البحث عىل النهوض به َّ -
أي عدل؟
إال بالعدل .لكنّ ،
()4
يف فضاءات الديمقراط َّية الغرب َّية ،األوروب َّية واألمريك َّية ،وعىل الرغم من الظفر الكبري الذي حققته الرأسامل َّية املعززة بنظام عوملي
أي إمجاع حول الفلسفة التي يمكن الزعم َّأنا هي الطريق املثىل اقتصادي -لكنَّه يعاين منذ سنوات من آفات مستحكمة -مل ينجم ُّ
أن أتباع هذه املذاهب قد تص َّلبوا عند أن العقل الغريب قد ذهب مذاهب خمتلفة ،أرشت إليها .كام ظهر َّ لتحقيق العدالة .وقد ظهر جل َّي ًا َّ
مؤسسة» هنائ َّية ال تسمح بالتالقي مع القيم املؤسسة للمذاهب األخرى .فاخلالف بني النفعيني لكل مذهب «قيمة ِّ أحاد َّية مرسفة تنصب ّ
وليربال َّية رولز قاطع ،والتناقض بني املساواتيني والليربتاريني جذري ،واملخاصمة بني اجلامعتيني والليرباليني مشهودة ،وهكذا ...؛ لكن
ثمة تقارب ًا يمكن أن حيدث بني أكثر من نظر َّية عند بعض املبادئ أو القيم األساس َّية يف هذه النظر َّية أو تلك ،فليس َّ
ثمة أن َّمن املؤكد َّ
ثمة جنوح ًا أغلبي ًا إىل مبدأ تعليق العدل عىل املساواة ،يف هذا الشكل أو ذاك .ويمكن القول أيض ًا إنَّه عىل الرغم من التقابل أن َّشك يف َّ
أن النفعيني والليرباليني والتكافليني واجلامعتيني -واملاركسيني أيض ًا -يس ِّلمون بأمه َّية اخلري العام
التقليدي بني اخلري العام والفردان َّية ،إال َّ
ورضورته لسعادة اجلميع.
ومع ذلك فإنَّه ليس علينا ،نحن ،أن نقارب املسألة بإطالق من أبواب الفضاءات الغرب َّية ،عىل الرغم من التأثريات التي تدرك أجواءنا.
َّ
وألن املعطيات الثقاف َّية وألن امتداداهتا التارخي َّية يف احلارض تُشكِّل وعي ًا خمتلف ًا،
َّ اخلاصة املختلفة،
َّ َّ
ألن للمجتمعات العرب َّية أوضاعها
والدين َّية واألخالق َّية والفقه َّية أو القانون َّية ،والظروف التارخي َّية ،تفرض أحكام ًا ورؤى واعتبارات ال جتري جمرى املعطيات الغرب َّية
واألمريك َّية .لذا ينبغي أن نتأ َّمل يف مسألة العدل يف حدود املعطيات العرب َّية ،التارخي َّية ،والراهنة ،ال يف حدود املعطيات الغرب َّية وتفصيالت
تشخص ،بشكل أو أن النوى القاعدية لنظريات العدالة الغرب َّية التي َّنوهت هباّ ، تم تداوهلا ومناقشتها هناك ،مقدِّ رين أيض ًا َّ
املذاهب التي َّ
بآخر ،يف املجال االجتامعي واإلنساين العام ،ال يف املجال الغريب فقط.
أفرتض َّ
أن املعطيات األساس َّية للثقافة العرب َّية واإلسالم َّية ،التقليد َّية واحلال َّية ،ماثلة بشكل أو بآخر يف أذهاننا ويف عاداتنا وممارساتنا
بكل تأكيد شاخصة يف إهاب حدس عقيل مبارش أو فإنا ّ
وتطلعاتنا ،وهي إن مل تكن شاخصة عىل نحو علمي «وضعي» وعقيل دقيقَّ ،
املؤسسة» النهائ َّية جلملة نظريات العدالة الشاخصة ،التي
يف رغباتنا وإراداتنا ومطاحمنا احليو َّية .يف حدود هذه املعطيات سأراجع «القيم ِّ
عرضت هلا يف هذا القول.
ثمة نظريات بانية لعدد من املذاهب ،ال نملك إال أن نضعها بني قوسني وأن نخرجها من السياق ،إ َّما ألنَّه وبادئ األمر هنا َّ
أن َّ
ال ملفهوم «العدالة ألنا مناهضة أص ً تم جتاوزها واقعي ًا يف بيئاهتا األصل َّية وسواها ،وإ َّما َّ
ألنا ال توافق املعطيات الثقاف َّية العرب َّية ،وإ َّما َّ َّ
االجتامع َّية» املنشود.
ما الذي يتب َّقى مم َّا يمكن التعويل عليه بشكل أو بآخر؟
إن الغاية اجلوهر َّية التي النفع َّية َّأوالً! لكن ما الذي يستحق األخذ به منها؟ أم َّأنا يمكن أن تكون صاحلة لإلنفاذ مجلة وتفصيالً؟ َّ
بكل تأكيد ،غاية سليمة ومطلوبة ،فام من إنسان مر ،حتقيق أعظم قدر من السعادة ألفراد املجتمع .وهذهِّ ، تطلبها «النفع َّية» هي ،مثلام َّ
جمرد سعادة دنيو َّية منبتَّة الصلة عن اهلل وعن حياة النفس أو اإلنسان بعد املوت، أي سعادة؟ إذا كان املقصود َّ إال ويطلب السعادة .لكن ّ
أن النفع َّية ،هبذا املعنى ،لن تكون مناسبة ملجتمعات عرب َّية حيتل فيها «الديني» مكانة جليلة .وتزداد أسباب انعدام املالءمة إذا فمن املؤكد َّ
يوجهون حياهتم اليوم َّية أن «املؤمنني» أنفسهم ّ اللذة احلس َّية وبالفردان َّية « الذر َّية» األنان َّية .صحيح َّ
ما كانت املنفعة مرتبطة بمطلق مبدأ َّ
بمعيار «حساب احلسنات والسيئات» ،وجيهدون يف فعل أكرب قدر من احلسنات للحصول يف اآلخرة عىل أعظم قدر من النفع املاثل يف
ألن «األفعال احلسنة» التي السعادة األخرو َّية ،لك َّن هذه النزعة «النفع َّية» ال تنحرص ،مع ذلك ،عند اجلميع ،يف فردان َّية أنان َّية مطلقةَّ ،
حيرص املؤمنون األتقياء عىل القيام هبا وعىل كسب حسناهتا ،ال تستحق أن تكون أفعاالً حسنة إال إذا هي اقرتنت بالن َّية اخلالصة املتَّجهة
توخي اخلري العام .أ َّما إذا كان املقصود منها أفعاالً «شكالن َّية» تقصد «الربح» اخلالص ،أي «ربح اجلنَّة» إىل فعل اخلري لآلخرين ،أي إىل ِّ
بكل تأكيد .فالعدالة فإنا تفقد معناها وقيمتها ّبغض النظر عن املنفعة التي متتدُّ إىل اآلخرين -مثل ما يمكن أن يشاهد عند كثريينَّ -
القائمة عىل طلب املنفعة املفضية إىل السعادة هي عدالة مرشوعة ،لكنَّها تفقد رشعيتها إذا ما التزمت فردان َّية مستغرقة يف َّ
اللذة الذات َّية
كل الناس ،وهو خري طبيعي ،إال أنَّه حتى -حس َّية أو عقل َّية أو وجدان َّية -أو يف املنفعة األنان َّية ،غري آهبة باخلري العام .املنفعة خري يطلبه ُّ
يكون عادالً جيب أن يقرتن بفضيلة «االعتدال» ،التي تك َّلم عليها فالسفة اليونان َّ
وأقرها الوحي الديني ،وأن جيتنَّب الفردان َّية األنان َّية
يتوخى السعادة واخلري للمجموع العام أيض ًا. والنرجس َّية الذات َّية ،وأن َّ
بكل تأكيد ،يف احلقلني األساسيني :احلقل االقتصادي هل تسهم فلسفة (احلر َّية) الليربال َّية يف تشكيل «مركب العدالة» املناسب؟ ِّ
تصور «رولز» وأقرانه للعدالة يصلح ألن يكون ثمة ريب يف َّ
أن ُّ واحلقل السيايس؛ أي يف ما ُيطلق عليه «العدالة االجتامع َّية» .وليس َّ
دعامة أساس َّية من دعائم العدالة يف سياق عريب .ومبدأ املساواة الذي يقرتن هنا بالعدالة اقرتان ًا تأسيسي ًا هو مبدأ جوهري من مبادئ
إن مجيع اخلريات االجتامع َّية األول َّية -احلر َّيات ،والفرص ،والدخل ،والثروة، حتقيق هذه العدالة ،والفكرة التي يدافع عنها رولز يف قوله َّ
متساو ملجمل هذه اخلريات أو لواحد منها ،مفيد ًا ٍ غري
توزيع ٌُ اللهم إال أن يكونَّ توزع عىل وجه املساواة، واحرتام الذات ـ ينبغي أن َّ
وبكل تأكيد ليس املقصود ّ أقل حظ ًا -هذه الفكرة عقل َّية ،مقبولة ،وتوافق املعطيات اجلوهر َّية للتصورات العرب َّية اإلسالم َّية. ملن هم ُّ
هنا االنحراف للمبدأ «املساوايت» املطلق ( )égalitarismeوإلغاء التفاوتات ،وإنَّام املقصود أن حيصل اجلميع عىل هذه املنافع ،وأن حتقق
وأل تلحق حق لهَّ ،
كل شخص ما هو ٌّ مدعوة ألن تعطي َّ َّ أن العدالة التوزيع َّية التفاوتات الطبيع َّية أعظم النفع لألفراد ّ
األقل حظ ًا .أي َّ
ال ملجتمع رأساميل نفعيأي حيف أو ظلم بأفراد املجتمع .هذه الصيغة لعدالة املساواة الليربال َّية صيغت أص ً النف َّعية َّ
اللمساوات َّية السادرة ّ
توجهه ،وتصدَّ ت إلعادة تشكيله ،بحيث حيقق فرداين أناين ،بحيث مثلت ارتداد ًا ونقد ًا لنفع َّيته وملظامله ولطبيعة احلر َّية «السادرة» التي ِّ
تطور وتعقيد ورصاع وتفاوت ،تبدو أعظم قدر من العدل واإلنصاف .يف السياقات العرب َّية التي مل تبلغ ما بلغته املجتمعات الغرب َّية من ُّ
«املساواة الليربال َّية» ذات جدوى وفائدة ،لكنَّها يمكن أن تكون أكثر جدوى وفائدة ،وأعظم توافق ًا مع ثقافة هذه املجتمعات وتطلعاهتا،
إن هي اختذت طابع «ليربال َّية تكافل َّية» أو تضامن َّية أبعد غور ًا ونشدان ًا للخري العام ،من دون التفريط باحلريات األساس َّية ،أي من دون أن
جيور اخلري العام عىل اخلري اخلاص ألفراد املجتمع.
بكل تأكيد أيض ًا ،فالقضيتان األساسيتان اللتان تشدّ د هذه النظر َّية عىل أمهيتهام هل حتمل النظر َّية اجلامعت َّية معنى خاص ًا ملجتمعاتنا؟ ّ
-أعني نقد «حياد َّية الدولة» الذي تأخذ به الليربال َّية والليربتار َّية ،وسياسة اهلو َّية الذات َّية واخلري العام -مها قضيتان مركزيتان يف الفعل
ثمة توافق ًا عا َّم ًا بني اجلامعت َّية واالجتاه األغلبي يف جمتمعاتنا ،من حيث احليوي للنسيج السيايس واالجتامعي ملجتمعاتنا .ويمكن القول َّ
إن َّ
حسها االجتامعي ألن مؤسساتنا االقتصاد َّية والسياس َّية والقانون َّية مل ْتر َق يف ِّإنَّنا ال نقبل أن تتخىل الدولة عن مسؤوليتها االجتامع َّية ،ملاذا؟ َّ
ويف إحساسها باملسؤول َّية جتاه املواطن واملجتمع إىل مستوى التنظيامت اجلديرة بأن تلتفت إىل املشكالت االجتامع َّية وتساهم يف تقديم
احللول واملساعدات الرضورية هلا .ودولة «احلد األدنى» و«اليد اخلف َّية» التي يتكلم عنها الليرباليون والليربتاريون ،لن يرتتب عليها يف
املجتمعات العرب َّية ودوهلا إال املزيد من الفوىض والظلم والفساد .لكن ،من وجه آخر ،نحن ال نطيق أن تتدخل الدولة يف «اخليارات
جيسد التفضيل َّية لألفراد» ،وأن تفرض عىل املواطن طبيعة «املصري الذايت» الذي ينبغي أن حيققه ،وطبيعة «النظام الفكري» الذي جيب أن ّ
متجذر يف «االجتامعي»« ،متموضع» يف املامرسات االجتامع َّية القائمة ،لكن ال ينبغي للدولة وال ّ شك َّ
أن (األنا) اخلاصة .ال َّ
َّ يف حياته
تصور مستبد شامل ال حتيد عنه .يف حريته الشخص َّية بحيث تندمج يف ُّ يوجها ّ ِ
للمجتمع أن ُيلزما الفرد بتمثل «إيديولوج َّية» جاهزة وبأن ِّ
احلس األخالقي العام جمتمعاتنا العرب َّية جيب الدفاع عن احلريات الشخص َّية ،لكن جيب أيض ًا ،يف ضوء فوىض القيم السادرة وانحطاط ّ
والتدمري الثقايف الذي أحدثته أذرع «الثقافة الكون َّية» وقيمها الفردان َّية والنرجس َّية الرشسة ،ر ّد االعتبار للفضائل األخالق َّية العليا والدفاع
أن املنظور «اجلامعتي» الذي يؤكد عىل أمه َّية «الرباط عن اخلري العام وحتقيق املالءمة بني هذا اخلري وخري األفراد اخلاص .ويف اعتقادي َّ
اللاجتامعي ،هو منظور مناسب ملجتمعاتنا العر َّبية االجتامعي» وينكر «احلياد الليربايل» وغلبة «األنا الليربايل غري امللتزم»« ،األنا الذري» َّ
متر هبا حال َّي ًا .لذا كانت الدولة الليربال َّية التكافل َّية ،دولة اخلري العام والرعاية هي الدولة األجدر بتحقيق العدل
يف املرحلة التارخي َّية التي ُّ
االجتامعي.
ثمة موطئ قدم للعدالة النسو َّية يف مركب العدالة من منظور عريب وظيفي؟ ّ
بكل تأكيد ،فالقض َّية اجلذر َّية العميقة التي تشكّل القاع هل َّ
األسايس للنسو َّية هي قضية املساواة بني اجلنسني ،واالحتجاج عىل مبدأ «التبع َّية» وإحلاق املرأة بالرجل ،واالفتئات عىل حقوق املرأة.
ونظر َّية العدالة يف هذا القطاع تريد أن تر َّد إىل املرأة احلقوق اإلنسان َّية التي سلبها الرجل عرب التاريخ ،وأن تؤكد مبدأ املساواة املطلقة بني
الرجل واملرأة.
ويف عرصنا الراهن ،بل منذ عرص النهضة العريب احلديث ،احتلت هذه املسألة مكانة متعاظمة يف مشاريع النهضة العرب َّية ،وتر َّددت
املقاربة بني مبدأ «إنصاف املرأة» واملطالبة بأن تر َّد إليها حقوقها «الرشع َّية» ،ثم الدفاع عن مبدأ املساواة بني اجلنسني من منظور ليربايل
عند فريق ،ومنظور إصالحي -أو تكاميل -إسالمي عند فريق آخر ،ومنظور «راديكايل» عند فريق ثالث .وهذا الفريق األخري هو الذي
جسدهتا ث َّلة من الكاتبات اللوايت جنحن إىل موقف كل حال «النسو َّية الرافضة» التي َّ ارتبط اسمه بنسو َّية إسالم َّية حقيق َّية ،ليست هي عىل ّ
نقدي صارم بإزاء «مسلامت اإلسالم التقليدي» أو املوروث ،أعني كاتبات من أمثال تسليمة نرسين وأيان حريس عيل ونجالء كيليك.
النسو َّية اإلسالم َّية التي يصدق عليها هذا االسم ،وتتمثلها مفكرات مسلامت كأمينة ودود وأسامء برالس ورفعت حسن وفاطمة
املرنييس ،...هي النسو َّية التي دافعت عن مبدأ «املساواة األنطولوج َّية» بني الرجل واملرأة ،وأكَّدت ،من منظور قرآين ،املساواة الكاملة يف
احلقوق بني الرجل واملرأة ،ورتَّبت عىل ذلك «قراءة جديدة» للنصوص الدين َّية َّ
«اللمساواتَّية» يف ظاهرها .بفضل هذه القراءة «التأويل َّية»
أن هذه النظر َّية تستطيع أن تستوعب كلتا ال جتريد نظر َّية إسالم َّية يف العدالة النسو َّية .51وبإمكاننا أن نزعم هنا َّ مارسنَها أمكن فع ً
التي ْ
تعززها عدالة احلقوق، تم تداوهلام يف الفضاء الغريب ،أعني (أخالق العدل) و(أخالق االهتامم) :األوىل ّ النزعتني األخالقيتني اللتني َّ
تعززها الرؤية القرآن َّية ،ال الفقه َّية ،للعالقة الزوج َّية.
والثانية ّ
وأنا يف صيغتها العقل َّية ،نظر َّية رصحية يف العدالة القائمة، مسوغ ًا الستئناف القول يف نظر َّية (املصلحة) التي أخذ هبا فقهاء (املقاصد)َّ ، ال أجد ّ
علة مبدأ (اخلري العام) ،وأنَّنا يف هناية املطاف ويف غاية هذا القول نستطيع باطمئنان عظيم دجمها يف مركب نظر َّية عرب َّية يف «العدالة االجتامع َّية»
أركاهنا األساس َّية :املنفعة الضاربة يف اخلري العام ،ليربال َّية تكافل َّية حافظة للحريات األساس َّية واملساواة يف الفرص ويف توزيع اخلريات االجتامع َّية
األقل ح َّظ ًا ،وتعزيز القواعد احلامية للهو َّية يف إطار تنمية القدرات وامللكات الفرد َّية احلريصة مع اإلقرار بالتفاوت وإنصاف األفراد والفئات ّ
عىل اجلمع بني خري الفرد وخري اجلامعة واجتناب خماطر «األنا الذر َّية» الفردان َّية والنرجس َّية ،وتعزيز مبدأ اخلري العام ،وإرساء بنيان املساواة
النسو َّية بإبداع قراءة تأويل َّية مساوات َّية للنصوص الدين َّية التي يفيد ظاهرها «املتشابه» أوضاع ًا ال مساوات َّية غري عادلة.
شك يف َّ
أن «ديمقراط َّية عاملة» هي رشط رضوري إلنفاذها. تلك معامل أساس َّية وقواعد بانية لدولة عادلة ،وجمتمع عادل ،وحاكم عادل .52ال َّ
51ـ فهمي جدعان ،خارب الرسب :بحث يف النسويَّة اإلسالم َّية الرافضة وإغراء الحريَّة ،ط ،2الشبكة العرب َّية لألبحاث والنرش ،بريوت ،2012 ،الفصل األول ،ص 21ـ .81
52ـ وقف ناصيف نصار يف (الذات والحضور) وقفة دالة عند مقولة «العادل» :اإلنسان العادل ،والحاكم العادل« .فالعادل هو اإلنسان املستع ّد دوماً للتعامل مع نفسه
ومع اآلخرين بحسب ما يقتضيه العدل ،مع تقديم العدل األسايس عىل العدل الوضعي عند الرضورة وقدر اإلمكان» ،والعادل يتق َّيد بأحكام القانون من دون سواها.
وهو ينشد يف العدل القانوين ما يخفّف قلقه الضمريي يف ما يتعلق بحقوقه وواجباته ،وبحقوق اآلخرين حوله وواجباتهم .من أين يأيت املجتمع بالحاكم العادل ،عىل
الرغم من «أ َّن قيمة العدل مركوزة يف حقيقة الكائن الذايت؟» تلك «مسألة متوقفة عىل تقدُّم الوعي النظري والتطبيقي بالعدل وعىل شيوع هذا العدل يف طبقات
املجتمع ومؤسساته .األمر الذي يعني أ َّن مسؤوليَّة خاصة تقع عىل النخبة املفكرة والقائدة .ولك َّن الجمهور كله مسؤول أيضاً ،وال سيَّام إذا كان النظام دميقراطياً.
فاملسألة إذن هي مسألة روح العدل واستقراره يف املجتمع بأرسه ،أفرادا ً وجامعات؛ والعادل ح ّقاً هو من يتح َّرك بروح العدل قبل أن ميسك مبيزان العدل» (الذات
وكل مؤسسة ،يف النظر ويف الفعل ،مبدأ ديونطولوجي ًاوكل مجاعةُّ ، كل مواطنُّ ، ثمة رشط أعظم أمه َّية وخطر ًا وبأس ًا ،هو أن يتمثل ُّلكن َّ
ألن حر َّية سادرة بال حدود ،وديمقراط َّية تقن َّية صور َّية بال علم ومعرفة وثقافة ،لن يعنيا يف عاقبة األمر إالجوهر َّي ًا هو مبدأ «املسؤول َّية»َّ ،
تسوية مع االستبداد ،وطريق ًا سالكة إىل مضادات العدل.
يتقدم ُمتراجعًا
َّ خواطر عن عالم عربي
فيصل دراج*
فإن ما تط َّلع إليه العرب منذ قرن من الزمن جيعل الفضول أكثر
والتأسَّ ،
ِّ وإذا كان يف مصطلح «االستثنائ َّية العرب َّية» ما يثري الفضول
مرة إىل السيطرة العثامن َّية ،وما أن جاء «سقوط فلسطني» حتى َّاتموا وطأة .فقد عزا العرب نقص حقوقهم يف املجال السيايس ذات َّ
االستعامر الغريب ،ولن خيتلف األمر مع جميء «احلراك العريب األخري» ،حيث أشارت دوائرهم احلاكمة إىل «القوى اخلارج َّية».
التأس من أمرين« :االستثنائ َّية» التي تفصل بني املجتمع العريب واملجتمعات األخرى ،واستمرار َّيةيأيت الفضول الذي ال ينقصه ِّ
هتمش الزمن وتستدعي الركود ،ذلك َّ
أن «املفكرين العرب» ندَّ دوا باالستبداد منذ هناية القرن التاسع عرش. «االستبداد» ،التي ِّ
ال تط َّبع به اخلاضعون له ،وانصاعوا ألوامره ،وأصبح ال فهو يف« :تط ُّبع الرع َّية»؛ ذلك َّ
أن االستبداد إن عاش طوي ً أ َّما ال ُبعد األكثر خطر ًا ماث ً
«حترر اإلنسان» بحاجة إىل ثورة تعيد صوغ اإلنسان وعاداته اليوم َّية.
كل حديث عن ُّ اخلضوع واالنصياع جزء ًا من طبيعة املقموعني ،ما جيعل َّ
واجه الكواكبي االستبداد العثامين هبو َّية قوم َّية عرب َّية ،مفرتض ًا َّ
أن يف «الروح العرب َّية» ما ال يأتلف مع «العنرص الرتكي» ،الذي أراد
أن مرور عقد من الزمن وأكثر عىل خطاب الكواكبي كشف عن «عطب مزدوج» :مل يرحل باستبداده إذالل العرب وتأمني خضوعهم .بيد َّ
إن ال ُبعد األكثر خطر ًا ماثل يف« :تط ُّبع الرع َّية»؛ ذلك االستبداد عن العرب برحيل العنرص الرتكي ،إذ عاد من جديد
ال تط َّبع به اخلاضعون له، أ َّن االستبداد إن عاش طوي ً مع «دولة االستقالل الوطني» ،ومل تزدهر اهلو َّية القوم َّية التي
األوروب ،وغفت من جديد ّ استيقظت إ َّبان الكفاح ضدَّ االستعامر
وانصاعوا ألوامره ،وأصبح اخلضوع واالنصياع
مع جميء دولة االستقالل يف انتظار «صحوة قادمة».
كل حديث عن جزء ًا من طبيعة املقموعني ،ما جيعل َّ
«حترر اإلنسان» بحاجة إىل ثورة تعيد صوغ اإلنسان ُّ أن «الزمن التارخيي» ،وهو تعبري ال ينقصه الغموض ،مل وكام َّ
وعاداته اليوم َّية فإن هذا الزمن أخذ بخناق يعامل بكرم كبري ما أراده الكواكبيَّ ،
أحالم طه حسني ،التي نظرت إىل مرص تظ ّللها «الثقافة واملعرفة»،
بعد معاهدة 1936بني اإلنجليز واملرصيني ،وفق ًا ملا جاء يف كتاب
السيد العميد« :مستقبل الثقافة يف مرص» ،فقد ربط طه حسني
ٍ
شعب متعل ٍم لغو فقري املحصلة. ربط ًا حمك ًام بني التعليم والديمقراط َّية ،إذ التعليم بال ديمقراط َّية مريض واهن األركان ،والديمقراط َّية بال
عزا العرب «سقوط فلسطني» 1948م إىل االستعامر والتخ ُّلف والقوى الرجع َّية ،ورحل االستعامر ،وسارت فلسطني إىل نفق أكثر
ظالم ًا ،وحافظ التخ ُّلف عىل حضوره طارد ًا «حقوق اإلنسان» ونافر ًا من الديمقراط َّية ،وبقيت صفة «القوى الرجع َّية» غامضة غموض
ُرحب به حني تشاء أيض ًا. «السلطة العرب َّية املستق َّلة» ،التي تندِّ د باالستعامر حني تشاء ،وت ِّ
ُّ
أن الدولة الوليدة، أن وعود «دولة االستقالل» آلت إىل ما آلت إليه أحالم طه حسني ،وأعادت إنتاج ما ندَّ د به الكواكبي .ذلك َّ غري َّ
ال إىل األهداف «القوم َّية» الكربى ،فحرصت عىل املوحد» سبي ً
التي بدت مهجوسة بالبناء الداخيل وحترير فلسطني ،رأت يف «املجتمع َّ
«حتييد الشعب» ،الذي ال يعرف ما تعرف دولته ،وأطلقت يد «األجهزة األمن َّية» .بدت السياسة األمن َّية ،يف معظم الدولة العرب َّية أو ك ّلها،
قوامة عىل السياسات االقتصاد َّية والعلم َّية والثقاف َّية ،خمترصة األمن يف ثبات السلطة وتأمني ديمومتها .أخذت السلطة ،يف منظور يراقب َّ
ً
يقرر يف القضايا املجتمع َّية والوطن َّية مجيعا :فهو املرجع السيايس والثقايف واالقتصادي الشعب ويستبعده ،شكل املرجع الك ُّل الذي ّ
واإلعالمي ،وهو القوة التي تضبط حركة املجتمع ونزوعاته.
أخذت سلطات عرب َّية كثرية ،منذ مطلع ستينات القرن املايض ،بشعارات كبرية ،قوامها التقدُّ م املجتمعي والوطني يف املجاالت مجيع ًا،
أن التقدُّ م املأمول انتهى إىل نقيضه ،بسبب «جهازال إىل «اهلو َّية القوم َّية» .بيد َّ
للسلطة ضامن ًا للتقدُّ م ومدخ ً
ورأت يف «اجليش القوي» املوايل ُّ
أمني» رأى يف «الشعب» عدو ًا له ،ويف األحزاب السياس َّية أداة انقسام وختريب؛ وهلذا متَّت عسكرة املرافق االجتامع َّية ،إىل أن غدا دور
«كل يشء» ،باستثناء مراقبة «كفاءة» اجليش الوطني ،الذي سقط رسيع ًا يف حرب 1967م. «العسكر» مراقبة ّ
نسيت «الدولة الوطن َّية الوليدة» ،التي تنقصها اخلربة والكفاءةَّ ،
أن التقدم االجتامعي والوحدة العرب َّية شأن مجاعي يقوم عىل الشعب
ويتحصن به ،منتهية إىل شكلني من االختصاص الفقري :للسلطة اختصاص القيادة وتقرير املسموح واملمنوع ،وللشعب اختصاص َّ
اخلضوع واالنصياع .ألغت يف احلالني مفهوم املسؤول َّية ،فالسلطة ال يسأهلا أحد ،والشعب ُيسأل وال َيسأل ،وعىل الطرفني أن يسريا إىل
خراهبام ،املدعوم بثنائ َّية الفساد واالستبداد ،التي حتيل عىل «مواطن» ال حقوق له وعىل سلطة هلا احلقوق كلها ،طاملا َّ
أن احلاكم الذي ال
كل يشء داخله. ُيراقب ،يضع َّ
تتكشف غرابة «االستبداد العريب» يف قدرته عىل معاندة الزمن ،كام لو كان له قدره الغريب البعيد عن أقدار حكومات الشعوب
أن الديمقراط َّية شكل قديم من أشكال احلكم ،تعود إىل الفكر السيايس اإلغريقي ،وتشري إىل حكم األغلب َّية أو األكثر َّية أو األخرى ،ذلك َّ
الفقراء ،كام أشار نوربريتو بوبيو يف كتابه «الليربال َّية الديمقراط َّية» .وباختصار تعني الديمقراط َّية ،حسب ما تنبئ دراسة أصول الكلمة،
حكم الشعب مقابل حكم الفرد أو جمموعة صغرية من األفراد .ومهام قيل من كالم ،ورغم مرور العديد من القرون وورود اآلراء
يتغي. الكثرية حول االختالف بني الديمقراط َّية لدى القدماء ولدى احلداثينيَّ ،
فإن املعنى الوصفي العام للعبارة مل َّ
فإن األنظمة العرب َّية ،منذ النصف الثاين منوسواء عادت الديمقراط َّية إىل الفكر اإلغريقي القديم أو ارتبطت بالفكر السيايس احلديثَّ ،
القرن العرشين بخاصة ،أخذت عىل عاتقها عدم االعرتاف هبا ،منتهية إىل استثنائ َّية سوداء ال تنقصها الطرافة .ر َّبام كان من املمكن القبول
هبذه االستثنائ َّية املزعومة لو رفضت األنظمة «احلداثة السياس َّية» التي ترتمجها الديمقراط َّية ،والتفتت إىل «حداثات أخرى» مرجعها العلم
أن اإلخفاق الشامل يف امليادين االجتامع َّية مجيع ًا ،يسحب السؤال من جمال االستبداد إىل جمال أكثر سلب ًا عنوانه: والتقنية أو االقتصاد ،غري َّ
األنظمة املتخ ّلفة التي تعيد إنتاج التخ ُّلف ،وجتتهد يف تو ُّلد جمتمع متخ ُّلف الوعي ،بوسائل بوليس َّية أو ما هو مشتَّق منها .يف عالقة العامل
العريب بالديمقراط َّية ثالثة وجوه تثري املساءلة :حضور االستبداد يف زمن السيطرة العثامن َّية وبعد رحيلها .حتو َّلت «تركيا احلديثة» بعد
عرشينات القرن العرشين إىل دولة ديمقراط َّية ،ولو بقدر ،واستأنف العامل أحواله العثامن َّية ،كام لو كان فيه «جوهر» يستدعي االستبداد
مستعمرة
َ األوروب ،إذ بقي العرب مع «استبدادهم» ،عىل خالف دول آسيو َّية كانت ِّ ويأتلف معه .ومل خيتلف األمر بعد رحيل االستعامر
استق َّلت واختارت احلكم الديمقراطي ،مثل اهلند واليابان ،ما كشف عن زيف القول «باالستبداد الرشقي» الذي حافظ عليه العرب
«تطور وزارات الداخل َّية العرب َّية» ،املشغولة بقمع اإلنسان العريب وإهدار حقوقه ،بمعزل عن أشكال دون غريهمَّ .
جتل ال ُبعد الثالث يف ُّ
احلكم وإيديولوجياهتا ،ال فرق إال بقدر حمدَّ د بني النظم اجلمهور َّية والنظم امللك َّية .وحتى حني أخذ بعضها «بالليربال َّية االقتصاد َّية»،
فإن تلك الليربال َّية طردت ما هو سيايس واكتفت باالقتصادي ،منتهية إىل شكل تلفيقي من احلكم ،يعود اقتصادي ًا حال النظام السادايتَّ ،
إىل القرن العرشين ،وينرصف سياسي ًا إىل ما قبل العصور الوسطى.
يستمر احلاكم يف احلكم طيلة حياته أو أن يرث األبناء السلطة بعد ّ أنتج العامل العريب يف القرن العرشين «أنظمة طويلة العهد» ،كأن
يترصف هبا فرد وحاشية أو فرد وعائلة ،تعبري ًا عن غياب الشعب أو «تغييبه» .وهبذاأن احلكم «ملك َّية خاصة»َّ ، رحيل اآلباء ،عىل اعتبار َّ
ح َّقق العرب وحدهتم سلب ًا ،بقيت احلدود يف مكاهنا ،واخلالفات السياس َّية والفكر َّية كام كانت ،ومل يتح َّقق إال ذاك الشكل من احلكم
السلطة ،والعنف حاكم أعىل تأخذ استمرار َّيتهالسلطة ومصادرة حقوق الشعب مالك ُّ اإلطالقي يف منهجه االختزايل؛ حيث عنف ُّ
وتستمر فيه قرون سابقة عليه.
ُّ الطويلة شكل األحجية ،فهو يعيش يف القرن العرشين
سواء عادت الديمقراط َّية إىل الفكر اإلغريقي القديم أن «املثقفني» انشغلوا طوي ً
ال بقضايا الديمقراط َّية والقوم َّية ومع َّ
أو ارتبطت بالفكر السيايس احلديث ،فإ َّن األنظمة ظل ينتظر التحليل واملعاجلة مت َّثل يففإن ما َّ
والعلامن َّية واالشرتاك َّيةَّ ،
«السلطة املستبدَّ ة القائمة» ،التي هلا «استبدادها الرأساميل» ،بقدر ُّ
العرب َّية ،منذ النصف الثاين من القرن العرشين
أن هلا «استبدادها االشرتاكي ـ العلامين» ،أو خيارها «الديني ـ ما َّ
بخاصة ،أخذت عىل عاتقها عدم االعرتاف هبا، يطوع الرتاث والدين كام يشاء. الرتاثي» الذي ِّ
منتهية إىل استثنائ َّية سوداء ال تنقصها الطرافة
السلطة من شكل الوصول إليها .وجاء يتعي مضمون ُُّيقالَّ :
وتورث ،وتتباهى باحلسب والنسب ،أو عن طريق «انقالبات عسكر َّية» ِّ السلطة ،عربي ًا ،عن طريق «عائالت» ترث
الوصول إىل ُّ
مفتوحة ،تشدُّ أزرها «باألحكام العرف َّية» التي هي شكل من «عسكرة احلكم» .مل يكن هناك يف احلالني مكان للشعب ،وال لذلك
حتول «الشعب»«احللم» القائل« :حكم الشعب بالشعب» ،فام حصل هو حكم الشعب باألجهزة القمع َّية ،التي إن طال عهدها َّ
«سكَّان» ،أي إىل جمموع ديموغرايف ال عالقة له بشؤون احلكم والوطن.
إىل ُ
فإن نظام ًا يكتفي «باحلاكم وأجهزته» ال عالقة لهوإذا كانت «العدالة» تعني املساوة ،وتساوي املواطنني يف احلقوق والواجباتَّ ،
بالعدالة يف يشء .بل تصبح فيه املطالبة بالعدل أمر ًا «ختريب َّي ًا» يعاقب عليه القانون عقاب ًا صارم ًا .وهلذا دعا الرئيس السادات انتفاضة
يفس تغييب العدالة يف األنظمة املستبدَّ ة ،إىل حدوداجلياع عام 1977م «بانتفاضة احلرام َّية» ،ناعت ًا املطالبني بحقوقهم باللصوصِّ .
السلطة ال تعني تسيري شؤون البرش وإنصافهم ،بقدر ما عنت :رسقة حقوق الناس السلطة والثروة ،إذ ُّ اإللغاء ،العالقة العجيبة بني ُّ
«رشع َّي ًا» ،وتوزيعهم إىل فئتني :الفقراء إىل ختوم البؤس واملجاعة ،واألغنياء املتب ِّطرون الذين يعيشون عىل رسقة «الشعب» الذي له ُّ
كل
احلق يف الضنك و«السكن يف املقابر» والعشوائ َّيات ،والعمل املرهق الذي يؤمن حياة خيالطها املوت.
كل يشء داخله ،وال يرتك خلارجه إال قليل القليل .يرتاح يتعي املدخل الثاين بالتعريف القديم «للمستبِد» القائل :يضع احلاكم املستبد َّ َّ
يسوغ ُّ
الكم» ،فله كل املسموح واملمنوع ،وله ما يملكه الشعب (الرع َّية) وما ال يملكه ،وله «التأويل الدّ يني» الذي ّ احلاكم املستبد إىل «عبادة ّ
يتحول بعض احلكَّام إىل « ُمن ِّظرين
األول ،...وال غرابة أن َّاألول واحلكيم َّ األول واملع ِّلم َّ
كل األلقاب والنعوت :فهو احلاكم َّ ممارساته ،وله ُّ
أن القارئ وفالسفة» ،وأن يكون هلم اجتهاداهتم السياس َّية و«إبداعهم اإلبداعي» ،وأن تنسب إليهم صفات اإلبداع والعبقر َّية .وواقع األمر َّ
السبع» التي اقرتحها الفيلسوفان أن «الصفات َّالذي يعود إىل صفات «احلاكم املستبد» ،لدى أفالطون وأرسطو ،وهو أمر سهل ومتاح ،جيد َّ
يورث احلكم ملن يشاء ،وال يعرتف بحارض الوطن ومستقبله .جاء يف كتاب اليونان َّيان ال تفي بحاجات «احلاكم العريب احلديث» ،الذي ّ
«إن لألفراد حق ًا يف مت ُّلك أو حيازة ما حصلوا عليه بطريقة روبرت نوزيك« :الفوىض ،الدولة ،واليوتوبيا» الصادر عام 1974م ،ما ييلَّ :
كل ما حصلوا عليه بطريقة عادلة من أي طرف سابق (مبدأ العدالة يف التداول ونقل امللك َّية). عادلة (مبدأ العدالة يف احليازة) ،بام يف ذلك ُّ
مسوغ يف حياة األفراد وحر َّياهتم». ألنا تتدخل دون ّ فإنا تترصف بصورة غري عادلةَّ ، مهمت أخرى عدا هذهَّ ، أ َّما إذا تن َّطعت الدولة أل َّية َّ
فإن يف إلغاء الدولة ،التي اخترصت يف مرجع مستبد أعىل ،ما يلغي العدالة يف احتامالهتا إن كان يف االستبداد ما يناقض الديمقراط َّيةَّ ،
حياسب يلتهم حقوق الدولة والبرش مع ًا ،...لذلك تأخذ كلامت «نوزيك» صيغة مقلوبة ال تنقصها أن احلاكم الذي ال َ املختلفة .ذلك َّ
وكل ما حصل عليه بطريقة غري عادلة.»... كل ما حصل عليه بطريقة عادلةّ ، حق يف مت ُّلك ِّ
السخرية السوداء ،فيصبح « :للحاكم املفرد ٌّ
ال عدائ َّي ًا وعدوان َّي ًا ،حياكم عليه
وبسبب «العدالة الساخرة» التي يفرضها احلاكم الذي ال يعرف العدالة تغدو مطالبة الشعب بحقوقه فع ً
«القانون».
حييل املدخل الثالث عىل «خربة النظم االستبداد َّية الطويلة العهد» التي ترىَّ :
أن تأمني حاجات املجتمع احليات َّية والتعليم َّية ،ولو بشكل
فإن تأمني صمت املجتمع نسبي ،يدفع املجتمع إىل العمل يف السياسة والتعامل بشكل نقدي مع قضايا الوطن والشأن العام .وهلذا َّ
عم يسكت جوعه ،واجلاهل ال يسأل ويس ِّلم أمره إىل القضاء والقدر .وواقع األمر َّ
أن وخنوعه يقضيان بتجويعه وجتهيله ،فاجلائع يسأل َّ
فإن التجويع والتجهيل ركنان أساس َّيان من مرتكزات احلكَّام املتعالني عىل الناس يسقطون حني يعرف املقموعون من أين جاؤوا .لذا َّ
كل مستبد مكني ،فال يطالب اإلنسان بحقوقه «الغائبة» إال إذا عرف من هنبها .تبدو الثقافة ،كام السياسة ،واحلال هذه ،عدو ًا ِّ
لكل نظام ِّ
يرفض املساواة.
من العبث احلديث عن العدالة يف نظام مستبد ،إذ ال استبداد بال فساد يتيح للقلة أن ترسق حقوق األغلب َّية ،ومن العبث أكثر احلديث
السلطة ثروة.
مؤسس عىل االستبداد املفسد ،يرى يف الثروة ُسلطة ويف ُّ عن املساواة يف نظام َّ
إذا كان يف الديمقراط َّية ما يستدعي إنسان ًا له احلق يف االختيار ،دون اإلساءة إىل اآلخرين ،ويف العدالة ما يستدعي َّ
مؤسسات اجتامع َّية
متارس اإلنصاف واملساواة ،فام هي حظوظ الديمقراط َّية والعدالة يف جمتمعات عرب َّية مل تدخل فعل َّي ًا إىل األزمنة احلديثة؟ وما السبل
املروع الذي يعانيه العامل العريب؟ وكيف يمكن جتسري املسافة بني مؤسسات تقليد َّية متخ ّلفة (سابقة عىل إىل معاجلة «الفوات التارخيي» ّ
الرأسامل َّية كام يقال) ومفاهيم سياس َّية واجتامع َّية من صميم األزمنة احلديثة ،مثل الفرد وحقوقه ،واملواطنة السياس َّية ،واحلق يف العيش
والكالم ،وحق االختيار السيايس واإليديولوجي؟ والسؤال األكثر مأساوية :من أين تأيت احلداثة االجتامع َّية يف جممتعات عرب َّية اجتهدت
احلواري» ،واجتهدت جمتمعاته ،بعد «تصنيعها سلطاهتا اجتهاد ًا نموذجي ًا يف «وأد السياسة» و«بناء العقل األحادي» ،وخنق «املجتمع ِ
َّ
سلطو َّي ًا» ،يف مطاردة اجلديد واالحتفاء بالتقليدي؟
قد تأيت من ثورة اجتامع َّية جترب احلكَّام عىل االعرتاف باملواطنني .لك َّن الثورة حتتاج إىل فضاء اجتامعي له قيم تغاير القيم املتس ّلطة ،فضاء
عاش الديمقراط َّية أو اقرتب منها وعرف شيئ ًا من العدالة االجتامع َّية .وقد يأيت من تواتر الثورات املجهضة التي تقرتح رغم إخفاقها
التحوالت االجتامع َّية.
ُّ اعرتاف ًا باإلنسان وحقوقه ،وقد تأيت شيئ ًا فشيئ ًا مع سريورة بطيئة من
دخل العرب إىل القرن العرشين من باب الشعور القومي ورفض االستبداد ،وبعد قرن من الزمن تراجع النزوع القومي وبقي
االستبداد حارض ًا .من أين جاء القصور العريب الذي تالزمه اهلزائم ،انترصت إرسائيل عىل العرب مجيع ًا ،ودخلت املجتمعات العرب َّية يف
من العبث احلديث عن العدالة يف نظام مستبد ،إذ طور من التفكك ،بعد أن عاشت طور ًا طوي ً
ال من االستنقاع ،وال
ال استبداد بال فساد يتيح للقلة أن ترسق حقوق يأيت ذكر الثورة العلم َّية/التقن َّية إال من باب «االسترياد».
إشارات
.1نوربريتو بوبيو :الليربال َّية الديمقراط َّية ،دار كنعان ،دمشق .1994
.2جون رولز :العدالة كإنصاف ،مركز دراسات الوحدة العرب َّية ،بريوت .2009
ملخص:
ظل أوضاع أو وضعيات حتول دون إنجازها استحالة الديمقراط َّية عبارة عن جماز يقول تقريب ًا اليشء ونقيضه :الديمقراط َّية غري ممكنة يف ِّ
يف السلوك السيايس واالجتامعي؛ الديمقراط َّية ممكنة من حيث املبدأ الذي تضعه يف ُصلب فكرهتا وعمليتها وهذا املبدأ هو االستدارة.
تنجر احلركة والسلوك اجلديل القائم عىل املناوبة واملجاوزة. ُّ ال مستديرين ،ألنَّه عن االستدارةال ُبدَّ أن تكون الديمقراط َّية فكرة وفع ً
الدفع نحو األمام سمة الديمقراط َّية الكربى ،ويقوم هذا الدفع من حيث احلركة ،والدافع من حيث اإلهلام أو احلدس ،عىل سند يدور
ويفيد االستدارة كالعجلة بالنسبة إىل العربة .األدوات التي تستعني هبا الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني تفيد كلها الدينامية واالندفاع
نحو األمام :مشورة ،اختيار ،حرية يف الرأي واألداء ،اقرتاع وتصويت ...،إلخ .ألنَّه عىل إثر هذه األدوات يكون احلكم السليم والتدبري
ُعب عن ديناميتها فإنا ت ِّ
وألن هذه األدوات ،وإن مل تقل بعمق جوهر الفكرة الديمقراط َّيةَّ ، َّ الصحيح إذا َح ُسن استعامهلا وتوظيفها؛
التحجر واجلمود .حتمل الفكرة الديمقراط َّية بذرة ُّ الداخل َّية يف جتديد أطر السلوك ومقتضيات املامرسة السياس َّية واالجتامع َّية ،وتفادي
املستمرة واملسرتسلة التي يضمنها االستعامل العقالين واحلصيف للحر َّية. َّ التجديد يف نظام السلوك لدرء اجلمود ،ونواة احلركة
فهرس:
مقدّ مة
املتعذر ترمجته من الديمقراط َّية« :ثقاف» يوناين يف «ثقافة» عاملية َّ .1
-ال َب َشة وال َب َش :املادة األول َّية يف الفكرة الديمقراط َّية
-ثقاف التجربة اليونانية« :كايروس» احلدث الديمقراطي
.2مفتاح لغوي أكسيموري :االستحالة
« -استحالة» الديمقراط َّية :التع ُّثر يف القياس
« -استحالة» الديمقراط َّية :العثور عىل املقياس
.3التوتر األصيل بني السياسة والثقافة :طبول الصاخب وأشغال الصامت
-السياسة :من اآللة إىل اإليالة
-الثقافة :تربية الطبع ،تربية السلوك.
بأي معنى؟ خامتة :الطريق «املستحيل»ّ ،
*****
إذا اعتربنا ال َبرشة املبدأ األساس يف تسمية لقد قيل الكثري وكُتب ما ال حرص له من الدراسات حول مفهوم
سمى « َبرش» هو الذي البرش برش ًا ،فهذا ا ُمل َّ كل إضافة عبارة عن زخرفة ال تضيف شيئ ًا الديمقراط َّية ،وتبدو ُّ
إىل معارفنا سوى ربط املفهوم بمفاهيم جماورة كالسياسة واحلكم
ُيعطي للمقولة «ديمقراط َّية» علة وجودها
والرتبية واألخالق .ر َّبام ال تكمن العلة يف إضافة يشء ،وإنَّام فقط يف
املسمى « َب َش» ينقسم
َّ ألن هذا اس ًام ورس ًامَّ ، إعادة استعامل املفهوم ألغراض أخرى مل تنرب هبا استعامالت ماضية
وكل شعب ينربي ّ إىل أجناس وشعوب، أو حارضة .ما أريد تبيانه يف هذه الدراسة هو التفكري يف الديمقراط َّية
بتدبري ذاته والسيادة عىل نفسه من خارج األطر احلرص َّية للسياسة ،بأن أرى الرابطة الكائنة بني
الديمقراط َّية والثقافة ،وهل يمكن تشكيل ثقافة ديمقراط َّية ال
ألن املشكلة اجلوهر َّية هي اإلدراك البرشي لطبيعة الديمقراط َّية :هل هذه الكلمة-املفهوم عبارة عن يمكن اختزاهلا دائ ًام يف أطر سياس َّية؟ َّ
لكل نظام سيايس يقول عن نفسه إنَّه ديمقراطي؟ هل ُتتَزل الديمقراط َّية يف فكرة دون فعل ،ويف شعار دون صيغة الئقة (ِّ )commode
إنجاز ،ويف متثيل سيايس دون استيعاب ثقايف؟ هل يمكن اعتبارها لغة شائعة ( )koinèيتداوهلا اجلنس البرشي بوصفها أمثل نظام سيايس
يمكن التعويل عليه ،رغم النقائص يف الصيغ والعثرات يف االستعامالت؟ ملناقشة هذه األسئلة أعتمد عىل أكسيمور ( )oxymoronأو
التحول ،أو النفي واإلجياب يف املقولة «ديمقراط َّية» :هل الديمقراط َّية
ُّ ألدل هبا عىل عدم اإلمكان وعىل تناقض ظاهر يف الكلمة «استحالة» َّ
وأنا ممارسة حثيثة ال يمكن اختزاهلا يف هياكل وتنظيامت «مستحيلة»؟ ليس بموجب عدم إمكان حتقيقها تارخيي ًا وإنَّام بحكم ارتقائها الدائمَّ ،
وأشكال من التمثيل السيايس واالقرتاع .هذه فقط تغليفات برانية ال تقول بعمق ِ
وحدَّ ة كائن الديمقراط َّية وأشكال متظهره. َّ َّ
-ال َب َشة وال َب َش :املادة األول َّية يف الفكرة الديمقراط َّية
وكأن املظهر أصبح الظاهرة، َّ ينطبق عىل هذه الفكرة قول بول فالريي (« :)Paul Valéryاليشء األعمق يف اإلنسان هو ال َب َشة!»،1
واالعتيادي أو املبتذل أصبح عمق ًا وحكمة .لكن ،ليس هبذا املعنى ينبغي أخذ كلمة بول فالريي ،وإنَّام باملعنى الذي تكون فيه الكلمة
قوة بالغ َّية يف حرفيتها التأسيس َّية .لذا احتفظت « َبرشة» الديمقراط َّية ب ُعمقها الداليل يف اللغات العامل َّية كلها .عبارة فالريي ذات ذات َّ
جد/ولد عليه التسمية الدالة عليه :إنَّه « َب َش»
ُ املسمى برش ًا هو أساس ًا اإلنسان الذي أخذ من املظهر الذي ُو َّ حنكة نادرةَّ ،
ألن اإلنسان
بغض النظر عن ألوان ال َبرشة .إنَّه َب َش من ال َبرشة التي تُع ّلمنا دائ ًام أنَّنا إزاء إنسان له إحساس من االنطباعات التي تلتقطها
من «ال َبرشة»ِّ ،
حتس هبا ال َبرشة ...،إلخ.
ال َبرشة ،من األمل أو اللذة التي تشعر هبا ال َبرشة ،من احلرارة أو الربودة التي ُّ
1 . Paul Valéry, « L’idée fixe », in: Œuvres II, Paris, La Pléiade, 1960, p. 215.
يمر عرب «ال َبرشة» 2بالتعذيب ()torture؟ال َبرشة مدخل احلقيقة نحو اإلنسان :هل من املصادفة أن يكون احلصول عىل احلقيقة باالعرتاف ُّ
فألن ال َبرشة هي السطح العميق (هذا التعبري «أكسيمور»!) ،وليس فقط السطح الدال أو دفع املظامل باالقتصاص كام جاء يف الكتب املقدَّ سة؟ َّ
عىل ُعمق أو باطن ،كانت النظريات السياس َّية يف العرص احلديث ،قبل وإ َّبان اندالع الثورات الغرب َّية ،األمريك َّية ( )1763والفرنس َّية (،)1789
يتم هبا تفادي التعنيف والقهر والسلب ،فكان «اإلعالن العاملي عن يف معظمها عبارة عن تنظريات حول هذه «ال َبرشة» ،يف الكيف َّية التي ُّ
جمرد قرشة أو جلد مركَّب من طبقات وألياف وأوعية دمو َّية حقوق اإلنسان واملواطن» .ال َبرشة رمز ما يكون عليه اإلنسان برش ًا ،وليست َّ
ومسام؛ مثلام نقول عن اإلنسان إنَّه «حيوان» ليس باملعنى املبتذل يف البهيمة أو العجامء ،لكن باملعنى القوي للحياة يف صيغة املبالغة.
من نيتشه إىل دريدا ،كان احلديث دائ ًام عن اإلنسان-احليوان باملعنى الذي ينضح فيه باحلياة ،وإن كانت للكلمة استعامالت ماضية
عند أرسطو مثالً« :حيوان متمدِّ ن» ( )zoon politikonأو عند كاسرير« :حيوان رمزي» ( .)animal symbolicumأقول إذن َّ
إن
البرش برش ًا،
ُ تسمى هبا
الديمقراط َّية يف جسدها احلريف هي ال َبرشة التي أتاحت تشاكُل األلسنة يف املقولة نفسها« :ال َبرشة» نفسها التي َّ
وإن اختلفت يف األلوان واألحجام .أبقى يف هذه السيامنطيقا التي جتعل من ال َبرشة املبدأ اآلين يف نعت كينونة هي اإلنسان فرد ًا أو البرش
جمموع ًا ،ألنَّه عىل أساس هذه ال َبرشة َّ
تكونت الكُتلة التي عىل عتبتها انطلق املعنى احلقيقي لكلمة ديمقراط َّية .إذا اعتربنا ال َبرشة املبدأ
املسمى
َّ سمى « َبرش» هو الذي ُيعطي للمقولة «ديمقراط َّية» علة وجودها اس ًام ورس ًامَّ ،
ألن هذا األساس يف تسمية البرش برش ًا ،فهذا ا ُمل َّ
وكل شعب ينربي بتدبري ذاته والسيادة عىل نفسه. « َب َش» ينقسم إىل أجناس وشعوبّ ،
نسميها «ديمقراط َّية» ،بالفروع التي حتتملها التسمية مثل الشعب أو األ َّمة ،هو مسوغ التسمية « َب َش» يف تعليل كلمة أو مقولة ّ
إن ّ بل َّ
ال فرانسيس فوكوياما ،يعترب الديمقراط َّية الليربال َّية سقف ما يصل إليه اإلنسان يف مساره التارخيي بعد األزمنة
3
ما جعل البعض ،مث ً
اإليديولوج َّية املحمومة ،بيشء من التلفيق بني الفلسفات التارخي َّية ذات املضامني الغائ َّية (كانط وفيكو) والفلسفات السياس َّية املن ّظرة
تم استكشافها عرب التاريخ ،إىل غاية أن أن مبادئ الرشعية (َّ )légitimité ملفهوم الدولة احلديثة (هيغل وكوجييف)« :يقرتح فوكوياما َّ
تكون الرشع َّية املالئمة للمقتضيات األساس َّية للبرش َّية هي التي فرضت نفسها» ،4يعني الرشع َّية املستوحاة من املامرسة الديمقراط َّية
بوصفها «هناية التاريخ» ،أي منتهى ما يصل إليه نظام سيايس يف التاريخ .لنأخذ من فقرة لوك فريي كلمة «البرش َّية» :بعمومها يف البرش َّية،
بتعميمها عىل البرش ،تكون الديمقراط َّية إذن «ال َبرشة» التي يكون هبا املقياس يف السلوك السيايس.
الديمقراط َّية واضحة ،ساطعة ،بارزة ،مثل ال َبرشة ،تُشكّل الغالف السلوكي للبرش َّية مثلام عليه ال َبرشة بالنسبة إىل اجلسم البرشي؛
بأن اإلنسان اكتمل سلوكي ًا ،نضج عقلي ًا ،بعد اجلروح والندوب التي َّ
حتملتها َب َشته يف التاريخ، هي مقياس السلوك و ُعنرص اإلحساس َّ
جراء أشكال يف احلكم مل ُتسن االحتفاظ باإلنسان برش ًا ،مل تعمل سوى بلوغ عمقه عرب سطحه وهو البرشة .القتالع احلقيقة من َّ
ربد البرشة بال ُعري ونزع الكرامة كانت أشكال احلكم (امللك َّية املطلقة ،اإلقطاع َّية ،الدكتاتور َّية )...حترق البرشة بالنار تعذيب ًا أو ُت ّ
يمر عرب السطح ،بلوغ اإلنسان (اهلولوكوست) ،كانت ُتضع اإلنسان برش ًا ،تُعنّف ال َبرشة حرق ًا أو قطع ًا أو خدش ًا أو رضب ًا .بلوغ العمق ُّ
القص من برشته« :فقدان اإليامن يف اإلنسان ال يرتك يف األقوال سوى األكاذيب» .
5
يمر عرب ّ يف كرامته ونفسيتهُّ ،
2 . Michel Foucault, « La vérité et les formes juridiques », in: Philosophie. Anthologie, éd. Arnold I. Davidson et Frédéric Gros, Paris,
Gallimard, 2004, coll. « Folio Essais ».
3 . Francis Fukuyama, the End of History and the Last Man, Free Press, 1992.
4 . Luc Ferry, L’Anticonformiste, Paris, éd. Denoël, 2011, p. 268.
5 . Michel de Certeau, «Corps torturés, paroles capturées», in: Luce Giard (éd.), Michel de Certeau, Centre Georges Pompidou, 1987, coll.
«Cahiers pour un temps», p. 65.
لكن ،أليست احلر َّية والتمثيل السيايس ما ُيشكّل « َبرشة» الديمقراط َّية ،ليس فقط سطحها وإنَّام أيض ًا ُعمقها وجوهرها؟ َّ
ألن احلر َّية
جوهر املامرسة الديمقراط َّية ،بدوهنا تصبح هذه األخرية شعار ًا فارغ ًا ولعبة فاشلة؛ والتمثيل السيايس َع َصب املامرسة الديمقراط َّية ،بأن
يضع الشخص صوته ورأيه قيد أشخاص يمثلونه ويعملون عىل إسامع صوته ورأيه لدى الطبقة احلاكمة أو املهيمنة .يمكن هلذه املظاهر
(احلر َّية والتمثيل السيايس) أن تكون ظواهر الديمقراط َّية ذاهتا ،يعني َبرشهتا اخلالصة ،يف الوقت نفسه السطح والعمق ،املادة والصورة،
بقوة احلال واملقال النموذج الكوين الكاسح ،وأكثر من أن ُت َتزل أن الديمقراط َّية أكثر من أن ُت َتزل يف نظام يصبح َّ الصفة واجلوهر .غري َّ
املسمة «ديمقراط َّية» سليلة نظا ٍم برز
يف متثيليات هي أقرب إىل لعب األدوار املرسح ًّية منه إىل أداء األدوار املصري َّية .لكن ،أليست «ال َبرشة» َّ
يف اليونان العريقة وأصبح النموذج الكاسح؟ كيف يمكن القبول بالديمقراط َّية وهي حتمل أساس ًا عالمات نظام عريق ،حصيلة إقليم
وتاريخ ،بمعنى نتيجة ثقافة ُمع َّينة هي الثقافة اليونان َّية؟
جمرد هو َّية نشأت يف إقليم وزمان ينحرصان يف اليونان العريقة .يمكن نعت هذه الديمقراط َّية بالتجربةيف احلقيقة ،مل تكن الديمقراط َّية َّ
سمه اليونان
أو احلدث ( ،)événement, Ereignisيشء فريد وفذ طلع دون سابق إنذار ،أشبه ما يكون بالزمن الفوري والعابر الذي َّ
تتطور ،كالنقطة التي تتيحقوية قابلة ألن َّ
القدامى «كايروس» ( ،)kairosضئيل يف مبناه ،جزيل يف معناهُ ،مدَ ٍّو يف مغزاه ،يرتك بصمة َّ
وكأن الديمقراط َّية نقطة كاير َّية مرتكَّزة ،تصاحب البرش َّية خط ًا منتظ ًام ،بارز ًا يف اللحظات
َّ اخلط ،والنقطة هي ذاهتا اخلط يف مساره املنتظم.
جمرد ثقافة
إن الديمقراط َّية مل تكن َّ التي تنترص فيها الروح الديمقراط َّية ،وباهت ًا يف األزمنة التي تتسلط فيها القوى االستبداد َّية .أقول َّ
قبلية ،بل أصبحت ثقافة بعدية ،يف التجارب املتنوعة عرب التاريخ ،عندما استحكمت يف الوعي والسلوك البرشيني .لقد كانت باألحرى
وأنعت به التجربة املبدئ َّية للديمقراط َّية الناشئة يف الزمن الكايري ،من «كايروس» ،الذي ليس هو ُ أسميه الثقاف
«الثقاف» .ما هذا الذي ّ
الزمن الكرونولوجي؟
ال من أشكال خلودها وديمومتها يف النوع البرشي هو الطابع الكايري الذي حتمله يف جعبتها أن ما ُيعطي للديمقراط َّية شك ً أعتقد َّ
تطورها ،تع ُّثرها ،أفوهلا ،بعثها من جديد ...،إلخ .فهي الثقاف املتواري يف الزمن الكايري من داخل الزمن الكرونولوجي الذي يقول ُّ
أجل الثقافة املتجل َّية يف التاريخ .يف نص مفيد عنوانه «الديمقراط َّية :جرد تارخيي» ُ ،ي ّبي جون دان ،من وجهة نظر تارخي َّية ،الكيف َّية التي
6
بأنا «غريبة» ،بحكم انبثقت فيها الديمقراط َّية ،وهي كيف َّية «كاير َّية» ،بمعنى عفو َّية ودون سابق إنذار .يرشح دان هذه الكيف َّية التي ينعتها َّ
أن الديمقراط َّية ظهرت يف سياق الرصاع ،عندما أقدم الرجل السيايس األرستقراطي واألثيني كاليستينس ()Kleisthénês, Clisthène َّ
حمط معارضة شديدة من يعبوا عن آرائهم يف النظام السيايس اخلاص بأثينا ،الذي اقرتحه وكان َّ عىل جتنيد املوالني له من الشعب لكي ّ
التوجه السائد أن تنفرد األرستقراط َّية باحلكم والرأي يف الشأن العام ،أقحم كاليستينس زمن ًا جديد ًا وسط ُّ لدن األرستقراطيني .بينام كان
التاريخ السيايس الرتيب ،بأن يشاور عموم الشعب ويتطلع إىل رأهيم.
مئة سنة بعد هذا الرشخ «الكايري» الذي تس َّلل منه حدث جديد ونادر ،وهو حدث الديمقراط َّية ،أصبحت هذه األخرية منظومة يف
السلوك ُتدّ د الطريقة التي ُيد ِّبر هبا الشعب ذاته ويسوس حارضه ومصريه ،بمجموعة من املعايري املتعارف عليها واملعرتف هبا ،وهي
املشاركة يف احلياة السياس َّية واملدن َّية واالقرتاع احلر والنقاش العمومي .ليس من السهل حتديد بد َّقة كيف وقع االنقالب ()basculement
من حكم أرستقراطي ينفرد بالسلطة والتدبري إىل حكم جديد تكون فيه الصدارة للرأي العام .ال يمكن حتديد ذلك سوى يف إطار سلوك
أصبح يعطي األولو َّية لعامل جوهري يف ّ
كل ممارسة سياس َّية ،وهذا العامل هو احلر َّية .يتَّضح هذا من التفكري اجلذري الذي أجرته حنّه
أرنت حول توا ُقت ميالد السياسة واحلر َّية يف اللحظة اليونان َّية العريقة« :إذا فهمنا السيايس باملعنى احلرصي لكلمة «بوليس» َّ ،Polis
فإن
هنايته أو علة كينونته هي اإلرساء واالحتفاظ يف الوجود لفضاء تكون فيه احلر َّية عبارة عن براعة بارزة ( .)virtuosityذلكم هو املجال
واملتحولة إىل قصص قبل
ّ الذي تكون فيه احلر َّية حقيقة العامل ،تدعمه األقوال املسموعة واألفعال املرئ َّية ،واألحداث املرسودة واملذكورة
إدراجها يف الكتاب الكبري للتاريخ البرشي».7
أن ما نسميه بالديمقراط َّية عبارة عن حدث انبثق يف التاريخ انطالق ًا من سلوك عفوي انتظم بالتدريج وأصبح نستخلص من ذلك َّ
كل ممارسة سياس َّية هدفها إرساء احلر َّية يف العالقات البرش َّية واالحتفاظ هبا من التلف والعبث .ميالد الديمقراط َّية من رحماملعيار يف ّ
وهاج ومرتكّز يف اآلن نفسه ،أي ابتدا ًء من اللحظة الكاير َّية ،ال خيتلف كثري ًا عن ميالد الفن الرتاجيدي الرصاع وانطالق ًا من حدس َّ
لم باجلسد ،كام ذهب نيتشه مثالً .أصل الرقص ()danse وظهور الرقص واملوسيقى انطالق ًا من اهليجان واالضطراب واألمل الذي كان ُي ُّ
هو الشطح ( .)transeلقد كان للديمقراط َّية ميالد مشابه عندما كانت اللحظة حامية الوطيس ،يف سياق رصاع عىل النفوذ واملصلحة.
من «كاوس» السلوك العفوي و«كايروس» اللحظة املواتية ،برزت الديمقراط َّية للوعي اليوناين وأصبحت الثقاف الذي يشدُّ الوعي
وكل مشتقاهتا اللغوية والترشيعية :الوثيق واملوثوق فيه وامليثاق.البرشي إليه بوثاقةّ ،
6 . John Dunn, «Démocratie: l’état des lieux», tr. Pierre-Emmanuel Dauzat, in: Situations de la démocratie, sous la direction de Marcel
Gauchet, Pierre Manent et Pierre Rosanvallon, Paris, Gallimard/Le Seuil, 1993, coll. «Hautes études».
7 . Hannah Arendt, «What is Freedom?», in: The Portable Hannah Arendt, ed. Peter Baehr, Penguin Books, NY, 2000, p. 447.
بينام كان األرستقراطيون األثينيون يفكّرون داخل براديغم مهيمن من القول والسلوك هو براديغم القوة والفضيلة واللسان املستقيم
( )orthos logosأي القول الفصيح والبليغ من لدن داهية وحمنَّك ،أقحم كاليستينس نموذج ًا جديد ًا مل يتوقعه أنداده أو معارضوه،
وهو اللجوء إىل رأي الشعب يف أزمنة كان هذا األخري أقرب إىل الدمهاء والغوغاء ( )plèbeمنه إىل املجموع العاقل والراشد .مل يقتنع
أفالطون هبذا الرباديغم اجلديد .نلمس ذلك يف الكتاب الثامن من «اجلمهور َّية» عندما يصف الديمقراط َّية من خلف َّية ذرائع َّية ذات مسحة
هتكم َّية ،جيد فيها اإلنسان ما حيتاجه كام حيتاج املؤونة يف السوق« :احلر َّية التي حتكم هناكَّ .إنا تُقدّ م تشكيلة كاملة لألنظمة؛ ومن لديه
عقل لينشئ دولة ،كام كنا فاعلني ،جيب أن يذهب إىل املدينة الديمقراط َّية كام يذهب إىل السوق التي يبيعون أنظمة فيها ،وينتقي الشكل
املالئم .وعندما يكون قد حقق اختياره ،يمكنه إجياد دولته».8
هل الديمقراط َّية هبذه السهولة املبتذلة والسوق َّية املنح َّطة؟ هل الوسم الذي نعت به كاليستينس حلظة الديمقراط َّية أعقبه الوصم الذي
طال بنيتها ونمط اشتغاهلا مع أفالطون؟ جاء الوصم األفالطوين من كون الديمقراط َّية تضع املساواة التا َّمة بني األفراد ،بغض النظر عن
مؤهل ،كُفء وغري كفء ،جاهل وعامل ...،إلخ .نلمس بوضوح هذا الوصم يف الكلامت التالية مؤهل وغري َّأمزجتهم واستعداداهتم بني َّ
توزع نوع ًا
منوعات وفوىضّ ، خيص الديمقراط َّيةَّ .إنا ميزات مألى َّ عىل لسان سقراط« :فتلك امليزة وامليزات املتقاربة األخرى هي ما ُّ
أن هذا الوصم األفالطوين للظاهرة الديمقراط َّية خيضع إىل نوع من احلساب من املساواة للمتساوين وغري املتساوين بشكل مماثل» .9غري َّ
( ،)calculأي أنَّه رهني الطابع الكمي وأشكال احلصص واملوازين؛ وخيتزل احلر َّية يف الفوىض ورغبة األفراد يف فعل أشياء تناسب
أهواءهم.
جاء احرتاس أفالطون من الديمقراط َّية كوهنا أخذت بامليكانيزمات التي كانت مت ّيز احلياة السياس َّية اليونان َّية ،لكن يف أشكاهلا املائعة.
املؤهل الذي تتو َّفر فيه رشوط اجلودة والفضيلة ( )arété, vertuألداء وظائف عسكر َّية خالل عندما كان االنتخاب يدل عىل اختيار َّ
مؤهل،
يدل يف املامرسة الديمقراط َّية عىل اختيار أي شخص ،بام يف ذلك من هو غري َّ احلروب ،أو مهام سياس َّية يف تدبري املدينة؛ أصبح ُّ
َ
املنتخب إىل نسف لرفع التحديات الكربى وسياسة اجلموع ،وقد يكون اختياره ديمقراطي ًا ،بمعنى عن موافقة وحر َّية ،ويميل الشخص
املبادئ الديمقراط َّية ذاهتا عندما يستأثر بالسلطة واحلكم ،وكان هذا ب ّين ًا مع األنظمة الشمول َّية واالستبداد َّية يف القرن العرشين .غري َّ
أن
الفكرة األفالطون َّية استسلمت لصورة النظام السيايس ،وليس للشكل الذي يكون عليه .ما الفرق هنا بني الصورة والشكل؟ من شأن
الصورة أن تكون أكثر سحر ًا وفتنة ،أن تلعب عىل أوتار املثايل والطوباوي ،أي اهليكل الكامل من النظام السيايس ،بينام يميل الشكل إىل
األخذ بالسريورة ،بالثغرات أو العثرات ،بالقابل َّية لالكتامل مع التامدي يف اإلصالح والتفاين يف الرتكيب.
والتعسفات الناجتة عن سياسة شعب أو إقليم ،لكن ُّ الزلتليس القصد أن تكون الديمقراط َّية النموذج الكامل واملستوىف ،ألنَّنا نعرف َّ
الغرض أن تكون يف حالة «القابل َّية لالكتامل» بأن تبارش االشتغال املضني والدائم عىل « َب َشهتا» ،بأن تشتغل عىل ذاهتا بشكل متواصل من
أسميه الشكل الذي تكون عليه الديمقراط َّية. تصحيح األخطاء ،تعديل األفكار واألحكام ،مراجعة الربامج واملناهج ...،إلخ .هذا ما ّ
جمرد «هيكل» من املؤسسات والترشيعات واملامرسات التي يمكن أن حتيد عن أهدافها بالعدول أو بتعبري آخر ،ال ُت َتزل هذه األخرية إىل َّ
عن مبادئها ،لكن أن تكون يف انسجام مع «اهليئة» التي ُوجدت عليها ،وهي أن تنبع من األمر الذي ُيضفي عليها املرشوع َّية والفاعل َّية،
تعممت فيها وأصبحت النموذج األقرب إىل روح وأعني بذلك «الشعب» .إذا كانت الديمقراط َّية « َب َشة» هلا عالقة بده َّية بالبرش َّية التي َّ
املسمى «الشعب» (.)dèmos َّ فإن جتلياهتا تكون يف هذا هذه البرش َّية منذ وجودها عىل األرضَّ ،
8ـ أفالطون« ،الجمهورية» ،يف :األعامل الكاملة ،ترجمة شوقي داود متراز ،األهلية للنرش والتوزيع ،بريوت.384/1 ،1994 ،
9ـ املرجع نفسه.385/1 ،
أن ما ننعته بالشعب أو «ديموس» غالب ًا ما كان موضوع استخفاف، غري أنَّنا نصطدم هنا بعوائق كامنة يف هذا املفتاح اللغوي ،وهي َّ
ألنَّه يستقطب يف ماديته احلرف َّية نعوت الوضاعة والطفولة العقل َّية :غوغاء ،دمهاء ،سوقة ،عا َّمة ،رعاع ،سواد ..،إلخ .انعطاف « َب َشة»
ألنا ُبنيت عىل دعامة ال
حمط احرتاس؛ َّ الديمقراط َّية عىل دعامة (ديموس) هو موضوع احتقار ،وهو األمر الذي جعل هذه الديمقراط َّية َّ
تتو َّفر فيها الرشوط املثىل للحكم وتفتقر إىل الفضائل الرضور َّية لسياسة املدينة أو الدولة .هلذا الغرض ،ال يمكن أن حيكم الشعب « ُم َ
باشةً»،
َّ
وألن نظام احلكم متاس مبارش مع سياسة احلكم ،نظر ًا لنقصان الفضيلة أو اخلربة من جمموع الشعب؛ أن تكون « َب َشة» الديمقراط َّية يف ٍّ
ال حيتمل سياسة املجموع لذاته بذاته ،لكن بوسيط هو بمنزلة املمثل (التمثيل السيايس) يف فرد أو أكثر ،تبع ًا لطبيعة هذا النظام يف احلكم.
جمرد «تزكية» ،بأن خيتار الشعب من يم ّث ُله أو من يم ّثلونه ،مع الثقة املوضوعة يف هؤالء املمثلنيلكن ،هل ُت َتزل الديمقراط َّية هنا إىل َّ
مرشفة يف محاية الشعب بتوفري األمن والسعادة له؟ هل كانت هذه الصورة طبق األصل الذي نبعت منه الديمقراط َّية؟ بأن يؤ ُّدوا أدوار ًا ّ
املرشعة؟ أمل تكن سيادة الشعب عىل نفسه بواسطة فردأمل تكن هنالك باألحرى اخرتاقات وخمالفات ،رغم الدساتري املوضوعة والقوانني َّ
حمط خطف لصالح أشكال أخرى يف احلكم (األوليغاريش ،االستبدادي ...،إلخ) ،تكون فيه «وديعة» أو أفراد هلم الفضائل والكفاءات ّ
ألنا ٍ
مسوغ كاف لدى أفالطون يف رفض الديمقراط َّيةَّ ، جمرد «ذريعة»؟ لقد كان امليل نحو هذه األشكال يف االخرتاق ،وهذا ّ الشعب َّ
وألنا متحو الرتاتب االجتامعي (الرتاتب الطبقي باملعنى احلديث) وتفرغ القوانني من مضامينها الردع َّية بوجود ألي كان أن حيكمَّ ، تتيح ٍّ
الكل سواسية ،ويف مرشع ومطيع .بجعل احلر َّية قيمة مطلقة بدالً من الفضيلة ،بإسقاط القوانني التي تقتيض اإلذعان والطاعة ،بجعل ّ ّ
يتحول إىل «بليثوس» ( ،)pléthosاحلشد أو الكتلة.
سمى «ديموس» (الشعب) َّ ُ َّ
الوقت نفسه طغيان األغلب َّية عىل األقل َّية ،فإن امل َّ
َّ
وألن ظهور العمل َّية الديمقراط َّية تواقت تكمن خطورة هذا االنتقال من الشعب إىل الكتلة يف كون الديمقراط َّية حتمل بذور نفيها،
حمط اهتامم السفسطائ َّية ،التي دخل أفالطون يف مجباز فكري معها ،خصوص ًا مع ممثلها مع صعود اخلطابة ( )rhétoriqueالتي كانت ّ
بروتاجوراس ( .)Protagorasجاء االحرتاس األفالطوين من كون الديمقراط َّية ُت ّول الشعب إىل الكتلة (ّ ،)masse, pléthos
وحتول
جمرد كالم يميل إىل السفسطة والتنميق وإرادة اللوغوس احلي واجلديل يف بلوغ الفكرة والتامس احلقيقة إىل رصاحة مبتذلة (َّ ،)parrhésia
تتجسد فيها الديمقراط َّية ،خمتزالً إ َّياها يف الكم (املساواة يف العدد ،حكم
َّ أن أفالطون يناقش يف الغالب الدعامات التي التضليل .املالحظ َّ
األغلب َّية )...ويف النوع («الباريزيا» بدالً من «اللوغوس» أو السفسطة بدالً من الكالم احلي واملستقيم) .هذه ر َّبام اهلياكل التي قامت
بتعليم الديمقراط َّية بوصفها مساواة بني األفراد وحر َّية يف التعبري واإلدالء بالرأي .لك َّن املساواة من حيث الكم َّية ال تنفي العدالة من
حيث الكيف َّية ،واالعتدال من حيث املامرسة والسلوك؛ وحر َّية التعبري ال تنتهي دائ ًام بالسفسطة والقول الفاتن واملضلل .ينبغي قراءة أو
إن الديمقراط َّية ليست دائ ًام حكر ًا عىل السياسة.
إزاحة ثقاف َّية للقول َّ
10 . Jacques Derrida, Voyous! Deux essais sur la raison, Paris, Galilée, 2003.
حمط تساؤل وإشكال؟ هل يمكن للديمقراط َّية أن جتمع بني وأي تناقض يف الديمقراطية يمكنه أن يكون َّأي أكسيمور أحتدَّ ث؟ ُّ عن ّ
اليشء ونقيضه؟ ما هذا اليشء ونقيضه إن ُوجد؟ لربام ملس دريدا هذا «الفارماكون» الكامن يف العملية الديمقراط َّية نفسها ،كوهنا السم
سأوجه تساؤيل نحو وجهتني ّ الرش الذي ال بدَّ منه ،واخلري الذي ال مناص منه؛ لكن ضارة ونافعة يف آن واحد؛ ُّ
والرتياق يف الوقت نفسهَّ ،
متحولة ،يف هذا الوضع نفسه .عندما أحتدث عن ّ يف االستحالة ،كون الديمقراط َّية مستحيلة باملقارنة مع وضع برشي ما ،ومستحيلة ،أي
11
االستحالة ،فإنَّني أقصد النفي واإلجياب مع ًا ،التع ُّثر والعثور يف الوقت نفسه ،وما عثر سوى من تع َّثر ،وإن كانت السخرية األفالطونية
جمرد ارتياب من حصول الفيلسوف املنبطح أرض ًا من سقوط طاليس يف البئر من فرط ارشئباب عنقه يف السامء بحث ًا عن يشء ال جيدهَّ ،
عىل يشء ُيعتدُّ به .تط َّلع إىل الثريا ،فوجد وجهه ّ
متمرغ ًا يف الثرى! لكن ما األمر املتع ّثر يف الديمقراط َّية واملعثور عليه فيها؟
أي نظام سيايس يقتيض باألحرى اخلضوع إىل املبادئ واإلذعان يكمن االعرتاض األول يف كون مطلب احلر َّية غامض ًا وملتبس ًاَّ ،
ألن قيام ّ
إىل القوانني .كيف جتعل الديمقراط َّية يف مطلبها بداهة احلر َّية وهي تسعى أساس ًا ألن تتشكَّل باعتبارها نظاما سياسيا؟ نلمس هنا تناقض ًا
يف احلدود بني مطلب احلر َّية ورضورة قيام نظام سيايس ديمقراطي عىل اخلضوع إىل القانون واالحتكام إىل املبادئ والترشيعات .أ َّما
ألن االختالف يف الرؤى واحلساسيات والتعارض االعرتاض الثاين فيتلخص يف استحالة أن جتتمع احلر َّيات الفردية يف وحدة جامعةَّ ،
يف السلوكيات واملصالح جيعل الوحدة أمر ًا هش ًا ومفرتض ًا .قد ينجم عن احلريات املتعددة رصاع وتنافر ،بحكم االختالف يف األذواق
والتصورات ،وهذا األمر ُي ّطم أساسيات الفكرة الديمقراط َّية ذاهتا .أ َّما االعرتاض الثالث فيكمن يف استحالة املساواة بني األفراد بدء ًا
من القاعدة ،بحكم االختالفات املشار إليها سابق ًا ،اختالفات كم َّية من حيث املِلك َّية الفرد َّية أو اجلامع َّية ،واختالفات نوع َّية من حيث
التفاوت بني األفراد عىل مستوى النباهة والوعي والذكاء والفضيلة.
ال باملقارنة مع املطالب الكربى التي حتملها ،وهي مطالب غامضة هذه االعرتاضات الثالثة هي التي جتعل الديمقراط َّية أمر ًا مستحي ً
وصعبة اإلنجاز عملي ًا ،وعىل رأسها احلر َّية والوحدة واملساواة .لكن ،بقراءة أساسيات الفكرة الديمقراط َّية التي يقدّ مها أرسطو يف كتاب
كل ضابط أو مبدأ أو التحرر من ّ
ُّ أن احلر َّية ال تعني أساس ًا
«السياسات» ،يمكن التخفيف من املفارقات الكامنة يف هذه الفكرة ،وهي َّ
لكل نشأة ديمقراط َّية هو احلر َّية.إن رشط إمكان احلر َّية وجودها يف جمال يتَّسم باإلكراه لتامرس أدوارها فعلي ًا« :املبدأ القاعدي ّ
قانون ،بل َّ
وإحدى أشكال احلر َّية أن تكون حاك ًام وحمكوم ًا بالتناوب» .12هبذا املعنى ،ال تنفي الديمقراط َّية فكرة أن يكون الفرد خاضع ًا للحكم.
11ـ أفالطون« ،محاورة ثيتياتوس» ،املحاورات الكاملة ،مرجع مذكور ،املجلد الخامس ،ص« :189سقراط :إنَّني سأوضح معناي ،يا ثيودورس ،باملالحظة الساخرة التي قيل
إ َّن الوصيفة الرتاقية الذكيَّة الحاذقة أطلقتها عن طاليس ،وهو أنَّه كان تواقاً ملعرفة ما يجري يف السامء ،وأنَّه مل يستطع أن يرى ماذا كان بني قدميه».
12 . Aristote, Les Politiques, tr. P. Pellegrin, Paris, GF-Flammarion, 1993, Livre VI, Chap. II, p. 417.
عندما يقبل الفرد بأن يكون حمكوم ًا ،فهذا ال ينفي من األساس حريته يف السلوك والرأي ،ألنَّه يشتغل يف جمال من اإلكراه ،وهو اخلضوع
إىل احلكم ،واالشتغال يف جمال اإلكراه هو الذي يمنح للحر َّية داللتها األصيلة .عندما تأخذ الديمقراط َّية بفكرة التناوب يف احلكم،
بأن الفرد ال َيكُم فقط ،لكنَّه ُيكَم أيض ًا ،وإال أضحت السلطة تس ُّلط ًا وخطت بذلك عتبة
أي التداول عىل السلطة ،فهي تس ّلم مسبق ًا َّ
االستبداد.
من شأن هذه الفكرة يف التناوب أن حتقق املساواة يف احلكم عرب أدوات نعرفها عن ظهر قلب ،مثل االختيار واالقرتاع والتصويت
التحول والذهاب
ُّ إن فكرة التناوب ُتقق االستحالة باملعنى احلريف لكلمة
وغريها من األساليب التي تضمن التداول عىل السلطة .لنَ ُقل َّ
إىل األمام يف املامرسات السياس َّية ،كام سأقف عند املسألة الحق ًاَّ .
ألن من شأن التناوب أو التداول أن تكون العملية دائر َّية ،والدائرة هي
أكمل األشكال من منظور أرسطو .من شأن هذا الشكل الدائري يف املامرسة السياس َّية أن يقدّ م لنا التعليل الكايف يف اعتبار «استحالة»
التحول والتقدُّ م نحو األمام ،استحالة تعني الوقوف عىل ُّ الديمقراط َّية هو أساس ًا ُّ
حتوهلا يف املامرسات السياس َّية والعمل َّية ،استحالة تفيد
النظام الكروي لألشياء يف سريورهتا املنتظمة ،استحالة جتعل من اإليالة باملعنى السيايس ومن التأويل باملعنى الثقايف يف ممارسة السياسة
التحول يف الزمن واالرتقاء يف الروح.
ُّ أمر ًا يبتغي االستحالة ،ألنَّه يروم
نستشف هذه االستدارة يف االستحالة الديمقراط َّية من خالل خطاب غيتسبريج ( )Gettysburgبتاريخ 19نوفمرب 1863الذي قال
فيه إبراهام لينكولن ( )Abraham Lincolnمقولته الشهرية« :حكم الشعب ،بالشعب وللشعب» .كان الرئيس األمريكي يف سعيه نحو
أن االستدارة يف الديمقراط َّية من شأهنا أن تتيح التقدُّ م إىل األمام ،فال تركد يفجماوزة احلرب األهل َّية بني 1861و ،1865عىل يقني من َّ
فرد أو تركن يف زمن؛ واالستدارة ،بوصفها أكمل األشكال ،هي عنوان التداول والتناوب .فال يشء يبقى مستقر ًا أو حكر ًا ،بل ُّ
الكل
يتحول أو يستحيل .لربام يكون فوكوياما قد استقى االكتامل يف نظام احلكم الديمقراطي من االستدارة نفسها بوصفها استحالة يف النُظم َّ
ُّ
ألنا استحالة قائمة عىل احلركة واحلر َّية ،عىل التبادل والتداول ،عىل املشورة واملحاورة ...،إلخ .كل هذه والتصوراتَّ ،
ُّ والسلوكيات
ألنا مستحيلة يف األشكال األكثر اكتامالً وارتقا ًء.
القيم البرش َّية هي استدار َّية يف جوهرها َّ
تُشكل الديمقراط َّية لذاهتا ما أسميه «اإليالة» تعبري ًا عن الكلمة اليونان َّية ،Politéiaبوصفها جماالً يأخذ من تأويل الشعب لذاته وقدراته
املنطلق واملسرية .اإليالة ليست بعدُ السياسةَّ .إنا العتبة املبدئ َّية واالكتامل يف نظام احلكمَّ .إنا «ثقاف» العملية السياس َّية نفسهاَّ .إنا
يتأول فيها الشعب ذاته ،يرى منطلقاته النظر َّية وغاياته العمل َّية يف دورة تارخي َّية أو حضار َّية تقول نظام وجوده وطريقة الطريقة التي َّ
يتلون هبا الشعب نحو نمط الكينونة التي يكون عليها .يف تعيريه للفكرة جمرد السامت التي َّ اشتغاله االجتامعي والسيايس .تتعدَّ ى اإليالة َّ
أن األغلب َّية املغلوب عىل أمرها ،فقرية أو بائسة ،تتحكَّم يف األقل َّية الثر َّية أو ذات خصال الديمقراط َّية ،كان أفالطون قد تساءل كيف َّ
أن أفالطون كان يفكر من باب ذرائعي يأخذ بجدل الوسائل والغايات كام وفضائل كفيلة بإدارة الشؤون وتدبري احلياة املدن َّية؟ يبدو َّ
ناقشت املسألة حنه أرنت؛ ومل يأخذ القض َّية يف ُبعدها األنطولوجي الواسع .ليست الديمقراط َّية مسألة ُحكم مثايل ينربي للحر َّية والعدل
واملساواة ،مقوالت طوباو َّية صعبة اإلنجاز.
تواجد الشعب يف إقليم يد ّبر فيه شؤونه ويبتكر لذاته أشكاالً من السلوك .تنعطف الديمقراط َّية عىل اإليالة التي تقول كل يشء ُ َّإنا قبل ّ
بأي معنى
التصور والسلوك؟ ّ ُّ حريته يف
تأول الوجود-يف-إقليم :ما معنى أن يتواجد شعب يف إقليم ويامرس فيه ّ ب ُعمق نمط الكينونة وطريقة ُّ
يتأول وجوده يف هذا اإلقليم بأن يط ّبق فيه نظام ًا مفتوح ًا من اإليالة؟ عىل أن تكون اإليالة هنا ممارسة أدائ َّية ( )praxisتقول الطريقة التي َّ
يتأول َّ
ألنا طريقة تدفع
يتوجه إليهاَّ ،فيها الشعب تواجده يف إقليم ،طريقة حلق َّية أو دائر َّية ،يرى هبا الشعب املبادئ التي ينطلق منها واألهداف التي َّ
سمى الشعب هو الصورة املتش ِّعبة من اإلرادات الفرد َّية التي يعكسها .إنَّه شعب ،ألنَّه حيمل التش ُّعب يف كيانه ،وليس من السهل إدارة ُم َّ
التشاجر (querelle,
ُ جراء
التشجر ( )arborescenceالذي ُيقال لتشابك الشجرة الوارفة بفروعها وأوراقها؛ ومن َّ ُّ جراء التش ُّعب ،من َّ
والتشاحن .إذا كان الرصاع ( )πόλεμος, polemosأبا األشياء مجيع ًا ،كام قال هريقليطس قدي ًامَّ ،
فإن ُ )disputeالذي ُيفيد الرصاع
الديمقراط َّية ليست سوى الطريقة التي تن ّظم هبا هذا الرصاع يف أدنى مستوياته احلضار َّية من جدال وسجال وعراك حزيب وحراك
شعبي وانتخاب وتصويت وغريها من أدوات االستدارة الديمقراط َّية التي متتهنها اآلالت الشعب َّية يف إيالتها لإلقليم الذي تتواجد فيه.
الديمقراط َّية هي عقلنة الرصاع يف األوجه احلضار َّية واملدن َّية من السلوك البرشي ،وال بدَّ هلذه الديمقراط َّية من أن تكون استدار َّية لضامن
التناوب وا ُمليض ُقدُ م ًا نحو األمام ،وإال ستلقى السكون والتع ُّثر واجلمود يف أشكال تس ُّلط َّية من األوليغارش َّية واالستبداد.
كل عملية ديمقراط َّية،التع ُّثر يف احلصول عىل مبدأ طوباوي من السلوك السيايس القويم ،يقابله العثور عىل مقياس أساس وهو االستدارة يف ّ
ألن الديمقراط َّية صورةكفيلة بأن تُربز الطابع الدينامي للشعب ،اخليوط واأللياف املتشابكة التي تقول تش ُّعبه اإلرادي يف التدبري اإلداريَّ .
كل التنميق الطوباوي واحلُلم املركَّب يف احلصول عىل أكمل ُحكم سيايس بال عثرات أو نقائص .بل َّ
إن يف احلكم بسيطة ومبدئ َّية ال تتط َّلب ّ
كل إرادة نحو االكتامل ،يشء شبيه بعمل السلب ( )travail du négatif, die Arbeit des Negativenعند هيغل ،به النقيصة كامنة يف ّ
التواجد البرشي يف العامل .كذلك ،ال
ُ يكون الدفع نحو األمام ،به يكون نفي القضية للحصول عىل الرتكيب وفق مسار جديل يقول دينام َّية
ألنا مستديرة الطبع ،أي مستحيلة الرتكيبة« ،استحالة نفي» بعدم الوصول مطلق ًا إىل تشتغل الديمقراط َّية سوى بصورة دينام َّية وجدل َّيةَّ ،
شكل كامل من احلكم السيايس ،و«استحالة إجياب» بالوصول التدرجيي إىل أشكال من السلوك املحيل يف اإليالة والتدبري.
استدار َّية ودينام َّية ،تقوم الديمقراط َّية عىل ما جاز يل تسميته يف مناسبات عدة «الالدون َّية» .13تقوم هذه الالدون َّية عىل مبدأ مزدوج :عدم
انفكاك األشياء عن بعضها بعض ًا من جهة؛ وانتفاء الدون َّية بني األشياء يف عالقتها ببعضه ًا بعض ًا من جهة أخرى .عىل ذكر الدون َّية ،يرشح
13ـ طالع دراستنا :محمد شوقي الزين« ،التشاكل الحضاري وأنظمة االختالف» ،مجلة يتفكرون ،عدد ،2016 ،9ص.196-194
وقت ،فرق عظيم كل ٍ منعت مل يتزحزح أصحاب االستبداد ،ويكون ،يف ّ كنت قد
منحت مجيع ما ُ نسميه شعب ًا« :إذا
ُ ُ روسو هذا الذي ّ
ِ
بني إخضاع مجع وإدارة جمتمع ،وإذا ما استُعبد أناس متفرقون من ق َبل واحد بالتتابع ،مهام كان عددهم ،مل َأر هناك غري س ّيد وعبيد ،ال
شعب ًا ورئيس ًا ،وذلك كام لو كنت أرى تك ُّتالً ،ال رشاكة ،فال يوجد هنالك نفع عام وال هيئة سياسية ،وال يعدو ذلك الرجل كونه فرد ًا
دائ ًام ولو استعبد نصف العامل ،وليست مصلحته غري مصلحة خاصة عند فصلها عن مصلحة اآلخرين ،فإذا ما هلك ذلك الرجل ظلت
وتتحول إىل ركام رماد بعد أن حترقها النار .والشعب عند غروسيوس، َّ إمرباطوريته متفرقة بال ارتباط ،وذلك كالب ُّلوطة التي تنحل
يستطيع أن هيب نفسه مللك ،والشعب عند غروسيوس ،إذن ،شعب قبل أن هيب نفسه مللك ،وهذه اهلبة نفسها عقد مدين ينطوي عىل
أن ذلك العقد أقدم تشاور عام؛ ولذا يصلح درس العقد الذي يكون به الشعب شعب ًا قبل درس العقد الذي خيتار به الشعب ملك ًا ،وبام َّ
من اآلخر بحكم الرضورة ،فإنَّه أساس املجتمع احلقيقي».14
خاصة عند اصطلحت عليه اسم الالدون َّية بطابعها املزدوج يف الرتا ُبط يف املصالح واملصائر ،قوله «مصلحة َّ ُ يلخص روسو ُعصارة ما
التعسف واالستبداد؛ ويف نبذ الدون َّيةُّ أن الديمقراط َّية تدرأ أساس ًا أن تكون املصالح أنانية تقود إىل فصلها عن مصلحة اآلخرين» ،بحكم َّ
أن الديمقراط َّيةال ال رشاكة» ،بحكم َّ التي ُت ّول الشعب إىل الكتلة ،وهو قوله« :مل َأر هناك غري س ّيد وعبيد [ ]...كام لو ُ
كنت أرى تك ُّت ً
بالتناوب والتداول ،وهذا طبعها وسمتها ،كوهنا قائمة عىل االستدارة والدينام َّية؛ وتدرأ الدون َّية يف وجود س ّيد ُ تطرح الرشاكة يف احلكم
أن املصالح العا َّمة مرتابطة ومتشابكة ،تتبع يستأثر باحلكم وعبيد يف طاعته وحتت إمرته« .الالدون َّية» الكامنة يف الفكرة الديمقراط َّية هي َّ
تتفوق مصلحة عىل مصلحة ،تبع ًا للمبدأ األساس: ُ
وتداخل إراداته الفرد َّية ،فال تعلو إرادة عىل إرادة ،وال َّ املسمى «الشعب» نظر ًا لتش ُّعبه
َّ
الكل يف ترابط أجزائه ،فإنَّه ال أحد من األجزاء يعلو عىل األجزاء األخرى ،بام «الكل وال أحد» .إذا كانت الفكرة الديمقراط َّية تقوم عىل ّ ًّ
يف ذلك من ُينت َ
َخب ألداء وظائف ُ
وشغل مناصب.
تتبدَّ ى احليلة األوليغارش َّية أو االستبداد َّية يف استئثار جزء من الكل باحلكم ونسبة الفضيلة والذكاء والشجاعة إىل نفسه من أجل
الكل ليقول لألجزاء األخرى« :ال أحد» ،أي ال أحد يعلو عىل أحد من حيث يتنصل من ّ إخضاع األجزاء األخرى إىل سلطته وهواهَّ .
تنصل منه .تكمن خطورة هذا االحتكار املشني للحكم باسم مبدأ ديمقراطي الكل الذي َّاملبدأ الديمقراطي ،لكنَّه ال يعدُّ نفسه جزء ًا من ّ
مز َّيف زيف ال ُعملة النقدية ،كون اجلزء الذي يتحكَّم يف الكل يقوم بتحويل الشعب إىل كتلة ُيعدّ هلا كيفام يشاء ،بالقوة والردع والتخويف
والتخوين؛ ُي ّول املواطنني إىل عبيد أو رعايا ُيميل عليهم السلوكيات امليكانيك َّية الواجب احتذاؤها دون استيعاهبا أو املشاورة بشأهنا أو
هش ًا،
متاسك الشعب ّ وقو ًة جيعل ُ
أن هذا االحتكار يف احلكم عنو ًة َّاالعرتاض عليها بام يضمنه حق الرأي واخليار .األخطر من ذلك هو َّ
ال للتشظي واالهنيار بانتفاء الفرد املستأثر باحلكم من ال لالنفجار يف ثورة عارمة إذا بلغ االستبداد منتهاه يف القسوة والقهر ،أو قاب ًقاب ً
جراء موت طبيعي أو اغتيال. َّ
إن األمر الذي يستدير ويستحيل يف املبدأ الديمقراطي بمجموع اإلرادات يف إيالة احلكم وتدبري السياسةُ ،يصبح يف االستئثار َّ
الكل بنفيجسدها يف ذاته ،فيكون الناطق باسم ّ االستبدادي للحكم عبارة عن «الواحد املنفرد» الذي يسلب من املجموع إرادته ل ُي ّ
الكل ال يتك َّلم
ألن َّ
ومتحجرَّ ،
ّ الكل بنفي املبادرة واملسامهة .نجد أنفسنا أمام نظام يف احلكم جامد الرأي واملشورة ،والفاعل باسم ّ
والتلصص .هكذا ُّ للتبصص
ُّ كل مكان خيوله له الواحد املنفرد حتت املراقبة الصارمة للمخربين الذين يزرعهم يف ّ يتحرك سوى ما ّ
وال َّ
كانت األنظمة الشمول َّية تشتغل ،بوصفها آلة ج َّبارة توهم باحلركة ،لكنَّها يف حقيقة األمر ماكينة مع َّطلة مضا َّدة حلركة التاريخ وسريورة
وتتجمد ،وهي ُعرضة لألكسدة والتآكل إىل غايةَّ فإنا تتو َّقف
تتحرك ماكينة احلكم وفق االستدارة التارخي َّية والطبيع َّيةَّ ،
الطبيعة .عندما ال َّ
14ـ جان جاك روسو ،العقد االجتامعي ،ترجمة عادل زعيرت ،مؤسسة األبحاث العربيَّة ،ط ،1995 ،2الباب األول ،الفصل الرابع ،ص( 41ترجمتي معدَّلة نسبياً عن
الرتجمة العرب َّية).
التفكُّك والتشظي .هذا ما حتاول الفكرة الديمقراط َّية جتنُّبه بإقحام احلركة الدينام َّية يف الفعل السيايس ،وإرشاك ّ
الكل يف صوغ القواعد
وتدبري الشؤون السياس َّية واالجتامع َّية.
.3التو ُّتر األصلي بين السياسة والثقافة :طبول الصاخب وأشغال الصامت
أن السري وفق قوانني الطبيعة والتاريخ هو الذي يضمن القيمومة يف اإلقليم والديمومة يف الزمن. الفكرة الديمقراط َّية عىل يقني من َّ
وعىل الرغم من املحاكمة السلب َّية التي كانت الديمقراط َّية موضوع ًا هلا عند بعض الفالسفة القدماء يف نقدهم للتجربة األثين َّية عىل غرار
ِّ
املتجذر يف الطبيعة البرش َّية ،وتقوم أفالطونَّ ،
فإن الديمقراط َّية تبدو أقرب إىل السري وفق قوانني الطبيعة والتاريخَّ -1 :إنا تراعي الرصاع
بعقلنته بتنظيم هذا الرصاع يف أوجه إنسان َّية معقولة (جدال وسجال ،نقاش عمومي ،معرتك االنتخابات ...،إلخ)؛ َّ -2إنا « َب َشة»
بأنا حاملة رسالة حضار َّية هي احلفاظ عىلالبرش َّية نفسها ،كوهنا املقياس الذي تستعني به هذه البرش َّية يف الشعور بتواجدها يف األرضَّ ،
هيم طبيعة هذه احلركة،النوع اإلنساين بجذوة العقل التي تذكيها يف األفراد والشعوب؛ 3ـ َّإنا تساير التاريخ يف حركته نحو األمام ،وال ُّ
تناوب يف املواقع ،تداولإن كانت تقدُّ م َّية (احلداثة) أو لولب َّية دون هدف (ما بعد احلداثة)َّ .إنا حركة نحو األمام ،استدارة مع الزمنُ ،
حول املواقف ...،إلخ.
يبقى السؤال يف معرفة أين نضع الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني :هل يف املجال السيايس وهو وضع بدهي بحكم النسبة أو العالقة،
كون الديمقراط َّية عبارة عن نظام سيايس يقوم عىل جمموعة من التقاليد واألحكام والربوتوكوالت؟ أم يف املجال الثقايف وهو وضع
روحي بحكم األصالة ،كون الديمقراط َّية عبارة عن فكرة وممارسة يؤطرمها التكوين الرتبوي للفرد والتجارب واخلربات السامية التي
يكتسبها شعب يف مساره التارخيي؟ تقول العالقة املتوتّرة بني السياسة والثقافة فحوى نسبة الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني .تستأثر
ألنام تنتميان فعلي ًا إىل املجال السيايس باهلياكل املوضوعة كاملجلس الشعبي أو الربملان وباألطر التنظيم َّيةالسياسة هبذه الفكرة واملامرسةَّ ،
جر الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني إىل جماهلا القائم عىل القيم الرتبو َّية والتكوين َّية والروح َّيةَّ ،
ألن كاالنتخابات .غري َّ
أن الثقافة حتاول َّ
التع ُّثر القائم يف السياسة جيد عثوره املفاجئ يف الثقافة.
جراء هيمنة تقاليد أو ممارسات ألن هذه األخرية أضحت فكرة طوباو َّية مستحيلة من َّ لربام فقدت الشعوب َّ
كل ثقة يف الديمقراط َّيةَّ ،
مضا َّدة للروح الديمقراط َّية :أوليغارش َّية ذات مطامع اقتصاد َّية ونفع َّية ،أنظمة استبداد َّية ختتزل اإلرادة والفعل يف الواحد املنفرد
واملتفرد يف سياسته للجموع الغفرية ،يستقي منها الرشع َّية كم َّي ًا وينفي عنها ممارسة حر َّية الرأي والسلوك نوع َّي ًا ...إلخ .بفقدان الثقة
ّ
يتم تفعيل األدوات الديمقراط َّية من تتحول إىل أدوات خالية من املعنى أو إىل آلة بدون روحُّ . َّ َّ
يف الديمقراط َّية ،فإن هذه األخرية
يتم نسف الروح الديمقراط َّية من أساسها عرب مشورة واقرتاع وتصويت ،لكن العتبارات كامنة يف «متالزمة الالعب املتالعب»ُّ ،
جمرد آلة تشتغل يف ملء وظائف وفراغات ،لكنَّها يف ذاهتا التشويش أو التشويه أو الغش واالحتيال ،أي التزوير .تصبح الديمقراط َّية َّ
خيول هلا مشاركة اجلميع يف التدبري السيايس وصوغ األحكام ،بشكل مبارش عرب النقاش العمومي أو غري مبارش فارغة من املعنى الذي ّ
عرب اخليار احلر.
يمكن أن نطرح هنا جمموعة من التساؤالت التي متتحن السياسة يف استئثارها للفكرة واملامرسة الديمقراطيتني :هل األدوات املو َّظفة
جمرد ماكينة عضو َّية أو ميكانيك َّية تؤ ّدي أدوار ًا أو وظائف
يف جتسيد الفكرة واملامرسة كفيلة بالتعبري عن الروح الديمقراط َّية؟ أليست اآللة َّ
جمرد وظائف تقن َّية أشبه بعمل الروبوط يف أداء سلوكيات بأي معنى ال يمكن دائ ًام اختزال الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني إىل َّ
خاصة؟ ّ َّ
متكررة؟ أعزو اآللة هنا إىل جمموع الوظائف القانون َّية واهليكل َّية التي قالت عنها أرنت َّإنا ختضع إىل جدل الوسائل والغاياتَّ ،
ألن األثر ّ
جمرد صناعة معيار َّية يف الطريقة التي ينبغي أن يكون عليها السلوك .عملت ختزل هذا األخري إىل َّ
حمل الفعل ( ،)actionف ُي َ حيل َّ
(ُّ )œuvre
أرنت عىل جعل السياسة يف املسافة البين َّية لألفراد ،وهي املسافة عينها التي تتجىل فيها احلر َّية .لذا ،جوهر السياسة هو احلر َّية .غري َّ
أن
يتم ردمها ،هي األخرى، املسافة البين َّية التي من املفروض أن تكون مرنة كمفاصل اهليكل العظمي الذي يتيح احلركة املرنة للجسمُّ ،
بإكراهات وقرس َّيات تعيق احلركة السياس َّية.
وكل عالقة بين َّية (بني األفراد ،بنيمتحركة يف وظيفتهاُّ ، ّ أن الديمقراط َّية مستديرة يف جوهرها، نعود دائ ًام إىل الفكرة السابقة وهي َّ
فإن ذلك نسف للعالقة يتم ردمها بقواعد ثابتة يف السلوك ،قواعد ُتىل وال ُتارس بحر َّية وأرحي َّيةَّ ،
املؤسسات ،بني األفراد واملؤسسات) ُّ
وتتأسس بوصفها عالقة» ،
15
َّ بأن السياسة «تولد أو توجد يف الفضاء البيني أو الوسيط التحجر واجلمود .س َّلمت أرنت َّ
ُّ وسقوط يف
فإن مفهوم السياسة ينتفي من هذا الفضاء ،وفكرة لكن إذا كان هذا الفضاء البيني أو الوسيط مردوم ًا بمجموعة من القواعد القرس َّيةَّ ،
يتحرك بفجوات مفصل َّية رابطة بني الفقرات والعظام، الديمقراط َّية تنتفي هي األخرى من السياسة .عىل غرار اهليكل العظمي الذي َّ
تتحرك بالفضاء البيني واحلر بني األفراد ،وتتحقق الديمقراط َّية هبذا الفضاء البيني الذي يتيح لألفراد اخليار احلر والتواصل فإن السياسة ََّّ
يتحرك «اهليكل العظمي للسياسة» دون فجوات مفصل َّية؟ بتعبري آخر :كيف يمكن للهياكل السياس َّية وتنظيامهتا َّ والتداول .كيف
احلرة للمواطنني إذا مل تكن العالقة البين َّية مرنة ،سلسة ،ناعمة ،تفيد أساس ًا الليونة يف
تتحرك بحر َّية وتتيح احلركة َّ
املتجسدة يف الدولة أن َّ
ِّ
األفعال واملبادرات؟
رش ال ُبدَّ منه للحفاظ عىل البرشية ،فهذه األخرية بدأت يف االختفاء من العامل، أن السياسة ليست سوى ٍّ تشاؤم َّية« :إذا كان من الصحيح َّ
أن معناها انقلب نحو غياب املعنى».17 أي َّ
بكل ثقله احليوي أو املسمى «النموذج االقتصادي/الليربايل» طغى ِّ َّ ال نجد صعوبة يف فقه املسألة عندما نُدرك َّ
أن الرباديغم الثالث
البيولوجي يف ضامن املأكل واملسكن وامللبس واالستهالك ،وانترص «العمل» (جمال احلياة) عىل «الفعل» (جمال العامل) ،بأفول الرباديغم
املسمى «النموذج السيايس/األخالقي» ،فانتفى املعنى من العامل باختفاء البرش َّية ذاهتا من العامل .مل ت ُعد هذه البرش َّية يف « َب َشة» متاس الثاين َّ
متمرغة يف إشباع حاجات بيولوج َّية يف احلفاظ عىل النوع البرشي ،إىل درجة َّ
أن الديمقراط َّية مع العامل ملامرسة احلر َّية فيه ،لكنَّها أصبحت ّ
تم إحلاقها بالعمل ،بينام يكمن جوهرها يف الفعل املتصل بالعامل .من املفروض تم اختزاهلا يف ضامن املأكل واملرشب واملسكن ،أي َّ نفسها َّ
ينجر عنها التنظيم العقالين للبرش ،السلوك أن تكون الديمقراط َّية مسألة إيالة يف املامرسة الرباكس َّية للحر َّية ،يف أداء أدوار والقيام بوظائف ُّ
احلر لألفراد ،النقاش العمومي بني الذوات العاقلة ،االنخراط يف ممارسة السياسة فعلي ًا باملشاركة واملعارضة واالقرتاح واالقرتاع ...،إلخ.
15 . Hannah Arendt, Qu’est-ce que la politique? Tr. Jérôme Kohn, Paris, Seuil, 1995, p. 42.
16 . Ibid, p. 64.
17 . Ibid, p. 67.
أن طغيان البارديغم الثالث اليوم وشيوع العمل (بمفهوم أرنت دائ ًام) ،حيوالن دون أن تتجاوز الديمقراط َّية الفضاء احليوي غري َّ
يف ضامن حاجات بيولوج َّية نحو الفضاء الرباكيس يف أداء أدوار وممارسة مهام بكل الطاقات الفرد َّية واجلامع َّية يف جتسيد السلوك احلر
فإن الفكرة الديمقراط َّية أضحت رساب ًا ُينظر إليه َّ
بالقوة واحلصيف .باختفاء البرش َّية من جمال العامل ،أي بانتفاء احلر َّية من جمال السياسةَّ ،
بالقوة العمل َّية .اختزال النشاطات البرش َّية كلها يف نظام العمل أ َّثر سلب ًا عىل الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني،
النظر َّية وال ُيقبض عليه َّ
ربر هذه الديمقراط َّية يف توفري احلاجيات البيولوج َّية حتت العنوان العريض «حقوق اإلنسان» ،وهنا بالضبط يلعب ألنَّنا سنجد أنفسنا ن ّ
االستبداد عىل الوتر احلساس للجوقة السياس َّية بأن يربط الديمقراط َّية بالعمل (توفري املأكل واملسكن وتغطية النفقات) ويستبعدها من
ألن ربط الديمقراط َّية بالفعل معناه تقليص جمال االستبداد واالنفراد باحلكم والقرار نحو جمال االنخراط اجلامعي يف التدبري الفعلَّ ،
السيايس.
إذا كانت السياسة تستأثر بالفكرة واملامرسة الديمقراطيتني ،لكن ال تل ّبي حقوقهام املرشوعة باملقارنة مع األشكال السياس َّية القائمة
يف إقليم وزمان ،أوليغارش َّية كانت أم استبداد َّية؛ فهل يمكن للثقافة أن تؤ ّدي هذا الدور ،وإن كان جماهلا حمصور ًا باملقارنة مع السياسة؟
لفك اإلهبام واستبعاد الغموض ،ال أطرح هنا أي دور تؤ ّديه عىل مستوى العناية بالفكرة واملامرسة الديمقراطيتني؟ ِّ
ماذا نقصد بالثقافة؟ ُّ
ال عن السياسة ،وإنَّام بوصفها «الكائن -نحو» ،مثلام السياسة هي «السلوك -بني» ،هي جمموع الوظائف البين َّية ،بني-األفراد، الثقافة بدي ً
أن الثقافة تعتني باحلدود التي تُشكّل فيام بينها عالقات ،عندما تقوم بني-املؤسسات ،كام ألفينا ذلك سابق ًا .ما أقصده بالكائن-نحو ،هو َّ
السياسة يف العالقات ذاهتا .العناية باحلدود معناها العناية باألفراد تربو َّي ًا ،بأن تكون هلم الصيغ الكفيلة من أجل تثمني القول والفعل
السياسيني .ال يمكن أن تستقيم العالقة البين َّية لألفراد ،أي جمال السياسة ،ما مل يكن األفراد أنفسهم عىل استعداد ألداء مهام رياد َّية
تتدخل الثقافة يف تقويم األفراد تربو َّي ًا وعمل َّي ًا.
واالضطالع إجياب َّي ًا بالفكرة واملامرسة الديمقراطيتني .هنا َّ
وأخص بالذكر جون ديوي ُّ كانت هنالك جتارب مفيدة يف جعل الثقافة يف ُصلب الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني عرب وسيط الرتبية،
إن الرتبية هي تنمية )Growth( 18أو تطوير يف امللكات والقوى يصب يف الفكرة القائلة َّ
ُّ ال جلي ً
ال ( )John Deweyالذي خ َّلد عم ً
واالستعدادات ،وهي َحر َّية بأن تلعب أدوار احلُر َّية يف السلوك الديمقراطي .حتى قبل مؤلفه الشهري «الديمقراط َّية والرتبية» ،كان
بثقاف قبيل من أجل ثقافة بعد َّيةُ ،يشارك فيها ويشرتك هبا ٍ ديوي قد و َّطد فكرته يف مقالته «قناعتي الرتبو َّية» ومفادها َّ
أن الفرد يتق َّيد
كل تربية تقوم عىل مشاركة الفرد يف الوعي االجتامعي للعرق البرشي .تبدأ هذه السريورة بال دراية الفرد، أن َّ
مع اإلنسان َّية« :أعتقد َّ
قبل امليالد نفسه ،وتشرتط قوى الفرد بشكل مستمر ،متأل وعيه وتُشكّل عاداته ،تُعيل من أفكاره وتُوقظ أحاسيسه وعواطفه .هبذه
رث الرأسامل املد ّعميتوصل الفرد تدرجي َّي ًا إىل املشاركة يف الذخائر العقل َّية واألخالق َّية التي راكمتها البرش َّية .فهو َي َُّ اللواعية، الرتبية َّ
للحضارة».19
حيث تنمية القوى وامللكات ،ولكن جتعل منه «الكائن-نحو» عىل ُ اجلواين من
ال تكتفي هنا الرتبية بتقويم الفرد عىل املستوى َّ
يتوجه نحو العامل باملشاركة يف صوغ أساسيات السلوك وا ُمل ُثل التي حيتذهيا .املفردات التي استعملها ديوي
رباين ،إنَّه كائن َّ
الصعيد ال َّ
اصطلحت عليه اسم «الثقاف»،
ُ من قبيل «سريورة بال دراية»« ،الرتبية الالواعية»« ،مرياث رأس املال احلضاري» ُ
تدخل كلها يف ما
18 . John Dewey, Democracy and Education. An Introduction to the Philosophy of Education, the MacMillan Society, New York, 1930,
Chap. IV: Education as Growth, p. 49 - 62.
19 . John Dewey, «My Pedagogic Creed», the School Journal, vol. LIV, n°3 (January 16, 1897), E.L. Kellog & Co., New York, p. 77.
حالة كائنة تسوس نظام احلقيقة لدى الفرد ،وجتعل منه «الكائن-نحو» يف اندفاعه جتاه العامل ،حيمل يف ذاكرته وجسده إرث ًا جيعله يف
مقام املشاركة واملزامحةُ ،يبادر ويساهم ،يتواصل ويتفاعل .فهو حيمل ثقاف ًا مع َّين ًا تبع ًا للنشأة والبيئة والذاكرة ،ويشرتك مع غريه يف
سمها ديوي التنمية دت بفكرة التكوين التي َّ تشكيل ثقافة تتعدَّ د أسامؤها ملسم َّيات ممكنة :حوار ،بناء ،تنمية ،تكوين ...،إلخ .إذا تق َّي ُ
فإنا تُؤ ّدي األدوار
عز األنوار والرومانس َّية البيلدونغ (َّ ،)Bildung سمها األملان يف ّ باملعنى الطبيعي للكلمة ( ،)Growthوالتي َّ
قمت بتسمية هذا التكوين الداخيل ُ الثقاف َّية يف تشكيل فرد له القابل َّية للتنمية الذات َّية داخل َّي ًا من أجل املشاركة اجلامع َّية خارج َّي ًا.
للفرد بالكلمة «تربية» ملا يف ذلك من إبراء يف الطبع ونحت يف القوى وامللكات ،ويمكن أخذها مقلوب ًا اسرتاتيج َّي ًا ومقصود ًا للكلمة
«تربية».
مت
ثم يف الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني؟ سبق يل أن قدَّ ُ ما عسى هذه الكلمة أن تُقدّ مه من معقولية جديدة يف فكرة الثقافة أوالًَّ ،
ثم يف تبيان إسهامها يف قمت بإقحام أساسيات هذه الكلمة يف حتديد فكرة الثقافة ً
أوالَّ ، اخلطوط العريضة للتربية يف دراسة مستقلة .20إذا ُ
أعول عىل املسائل التالية .1 :باملقارنة مع فكرة الرتبية بوصفها تنمية عند جون ديوي ،التربية طريقة يف مفهوم الديمقراط َّية ثاني ًا ،فإنَّني ِّ
اخللقة السليمة واخلُ ُلق الكفيل بمواجهة العامل؛ .2التربية طريق نحو الثقافةَّ ،إنا بمثابة العتبة الطبيع َّية يف االشتغال نحت الطبع بوهب ِ
تسمى هبا الفر ُد َب َش ًا ،وألنَّه خيتلط بالبرش َّية التي يتقاسم معها اإلرث احلضاري املشرتك .ال َب َشة كناية عن الطبع عىل «ال َب َشة» التي َّ
سمهوالسمت؛ .3التربية عملية مستمرة يف التنمية اخلُ ُلق َّية مثلام هي عليه التعرية بالنسبة إىل الطبقات اجليولوج َّية .هناك ما َّ والسليقة َ
روسو «القابل َّية لالكتامل» ( )perfectibilitéالتي ليست الكامل ،وإنَّام االشتغال احلثيث واملستمر عىل النقائص والعثرات التي ال ّ
ينفك
عنها اإلنسان بوصفه كائن ًا حمدود ًا ،خمتوم ًا عليه بالتناهي (.)finitude
إن الرتبية هي تنمية ،هذا يتوقف عىل طريقة إدراك التنمية .بالنسبة تقوم التربية مقام التنمية ،وحول التنمية يقول ديوي« :عندما نقول َّ
فإن .1السريورة الرتبو َّية ليست هلا غاية خارج ذاهتا،والتطور أو النمو هو احلياة .إذا ترمجنا ذلك يف ما ُيعادله تربو َّي ًاَّ ، ُّ إلينا ،احلياة تنمية،
والتحول املستمر» .لربام بدت التنمية سريورة داخل َّية
21
ُّ وإنَّام هي الغاية يف ذاهتا؛ .2السريورة الرتبو َّية مسار يف إعادة التنظيم وإعادة البناء
اخللقة واخلُ ُلق لدى الفرد ،وبدت التربية سريورة آل َّية يف نحت الطبع من وهلا غايتها يف ذاهتا ،ألهنا عمل الطبيعة يف وهب االكتامل يف ِ
يتكون ،وإنَّام هي الطريقة التي
بتدخل عوامل أخرى خارج الفرد الذي َّ أن التربية ال ُت َتزل يف السريورة اآلل َّية ُّخارج رشطه الطبيعي .غري َّ
رباين للمشاركة واملسامهة .بتعبري يتكون هبا الفرد « َب َش ًا» ،يف تربية َب َشته ،ويف تنمية برشيته التي جتعل منه «الكائن -نحو» يف سعيه ال َّ َّ
ويتحول فيه ،بترصيف رأس املال أو اإلرث َّ يتحصل عليه الفرد من «الثقاف» قبل َّي ًا ،يقوم بترصيفه يف «الثقافة» بعد َّي ًاُ ،ي ّول به َّ آخر ،ما
احلضاري إىل صفقات ثقاف َّية وتداول َّية.
مستمرة ،أو اشتغال حثيث ومتواصل ،تكمن غايته يف ذاته ،ألنَّه اشتغال براكيس (ُ )praxisيفيد َّ بأنا سريورة ينعت ديوي املسألة َّ ُ
يتجل «الكائن -نحو» للفرد املشتغل عىل َب َشتهَّ املشاركة واملسامهة واملقاسمة ،وهي كلها قيم ديمقراط َّية ذات غايات إنسان َّية ُمثىل.
طبيع َّي ًا وذات َّي ًا ،واملشتغل عىل َب َشيته ثقاف َّي ًا وتواصل َّي ًا ،يف ال ُقدرة عىل تداول القول والفعلَّ ،
ألن القول والفعل مها سمة ال َب َشية،
ُعمر املجال الكوكبي لألرض .اإلنسان ظاهرة نُطق َّية ،يقول أن اإلنسان الكائن-الناطق-الوحيد من جمموع الكائنات التي ت ّ بحكم َّ
والتصورات املصاحبة هلا .فهو إذ يتك َّلم ،فإنَّه يوصل إىل اآلخرين صورة ومعنى ،وهو يف ُّ خزان الكلامت شيئ ًا مفهوم ًا باملقارنة مع َّ
يتصور ما يسمع ،يتخ َّيل ما حيكي أو يقرأ .إذا كانت الصورة تو ِّفر له َّ
اخلزان َّ ذاته «كائن -من -أجل -الصورة»ُ ،يدرك ما يرى،
يتحرك وفق رضورة طبيع َّية فحسب ،يشرتك فيها مع احليوان يف إبداء رغبة فإن الفعل يو ّفر له جمال احلركة .ال َّ الرمزي يف التواصلَّ ،
20ـ محمد شوقي الزين« ،نظريَّة «البيلدونغ» وتأسيس فكرة الثقافة» ،مجلة «يتفكرون» ،عدد ،4صيف ،2014ص.205-188
21 . J. Dewey, Democracy and Education, Op. cit. p. 59.
أصبح الفرد العريب يستشعر احلاجة إىل أو التعبري عن مح َّية ،لكن تبع ًا لغاية ثقاف َّية هي جتسيد احلر َّية يف
الديمقراط َّية ،يتفنَّن يف إتيان قواعدها العامل بإبراز الفعل سلوك ًا حر ًا ومعقوالً.
جمرد آلة يفحتقيق هذا الرشط املزدوج مرهون بجعل الرتبية يف ُصلب الفكرة واملامرسة الديمقراطيتني ،وإال أصبحت الديمقراط َّية َّ
االقرتاع وجمموع املكاسب البيولوج َّية املضمونة للفرد املهموم باملعيش العضوي .الديمقراط َّية مسألة روح يشتغل عىل ذاته يف حمض
أن حتقيق شكل احلياة االجتامع َّية الذي تتداخل فيه املصالح وتُوىل أمه َّية خيص الرتبية ،نُشري قبل ِّ
كل يشء إىل َّ «الكائن -نحو»« :فيام ُّ
أن املجتمع الديمقراطي يويل اهتامم ًا بليغ ًا للرتبية املتداولة واملن َّظمة من املجتمعات التي ليست
قصوى للتقدُّ م وأيض ًا للتسوية ،يقتيض َّ
أن الديمقراط َّية ال املسوغ ،وهو َّ
يف حاجة إىل ذلك» .ربط الديمقراط َّية بالرتبية مسألة جوهر َّية بالنسبة إىل جون ديوي ،ونعرف ج ّيد ًا ّ
23
احلرة .اختزال الديمقراط َّية يف شكل َّيات صورية ُعمر أركان السياسة وتُعطي االنطباع اخلاطئ أو املض ّلل يف املامرسة َُّت َتزل يف شكل َّيات ت ّ
قائمة عىل االقرتاع والتصويت ،هو أساس ًا حتويل الفرد من ظاهرة نُطق َّية معقولة إىل ظاهرة صوت َّية فارغة أو ُمفرغة من مضامينها املعقولة
ووهاج ًا يف النقاش العمومي ،بأن يعرتض عىل صوت لصالح مم ّثل سيايس ،لكن أن يبقى الكالم ح ّي ًا َّ والعقالن َّية .ال يكتفي الفرد بأن ُي ّ
سياسات أو ينتقد خيارات ،وينخرط بالقول والفعل يف تقديم اقرتاحات أو بدائل.
ال تنتهي الديمقراط َّية باالقرتاع يف صناديق االنتخاب ،لكن تبدأ أساس ًا من هذا االقرتاع بأن جتعل املامرسة السياس َّية رهن املراقبة
مستمرة لذات
َّ املستمرة ،ما دامت الديمقراط َّية هي االشتغال املستمر للقول احلي والفعل البنَّاء .إذا كانت الرتبية أيض ًا تنمية
َّ واملحاسبة
مستمرة للمواطن املنخرط يف العمل السيايس: َّ فإنا يف العمل َّية الديمقراط َّية عبارة عن هتيئة
الفرد ،تربية متواصلة يف الطبع والقرحيةَّ ،
أن الديمقراط َّية تستبعدُ مبدأ السلطة اخلارج َّية ،جتد مبدأ آخر يف االستعداد اإلرادي ويف املصلحة :ال يمكن ابتكار هاتني القيمتني «بحكم َّ
سوى بالرتبية [ ]...الديمقراط َّية هي أكثر من شكل يف احلكومةَّ :إنا نمط يف احلياة االجتامع َّيةَّ ،إنا جتارب مشرتكة ،قابلة لالقتسام
22 . H. Arendt, The Human Condition, The University of Chicago Press, Second Edition, 1958, p. 182
23 . J. Dewey, Democracy and Education, Op. cit. p. 100 - 101.
والتداول» .24ال غبار عىل فكرة ديوي :الديمقراط َّية حركة واستدارة ال يمكن اختزاهلا يف شكل من احلكومة ِّ
بكل هياكلها ووظائفها
أثمنها بفكرة الثقافة التي تو ّفر أساسيات «الكائن-نحو» و«التواجد-مع»َّ ،
ألن اآلل َّية ،القانون َّية والتنظيم َّية .هذه الفكرة بالضبط التي ّ
الثقافة تطرح مشكالت أنطولوج َّية وأنثروبولوج َّية عندما تكتفي السياسة باألشكال التنظيم َّية.
كل األحوال ،تنخرط الثقافة يف حتديد جوهر الديمقراط َّية مثلام تُدرج هذه األخرية الثقافة بوصفها إنارة يف ال ُقدرات وامللكات يف َّ
كل إيالة وتدبريَّ .إنا مسألة تكوين مستمر للفرد الذي ،عندما ُيصبح مواطن ًا ،يؤ ّدي أدوار ًا تربو َّية بتنمية مستدامة الواجب جتسيدها يف ِّ
لل ُقدرات والقرائح التي هبا تشتغل احلياة السياس َّية واالجتامع َّية .عندما قدَّ م شيرشون تعريف ًا للثقافة ،وهو خطيب روماين ورجل سيايس
أي حقل، شهري ،فإنَّه حدَّ دها عىل َّأنا تنمية باملعنى الذي أخذ به ديوي ،مربز ًا ال ُبعد الطبيعي هلذه التنمية وال ُبعد الثقايف للفالحةَّ :
«إن َّ
مها كان خصب ًا ،ال يمكنه أن ُينتج بال فالحة ،واألمر نفسه مع النفس بال تعليم [ ]...فالحة النفس هي الفلسفة :فهي التي تقتلع بشكل
يتطور» .26الثقافة والفلسفة كل ما يمكنه أن يقتني حماصيل وافرة عندما َّ راديكايل الرذائل وجتعل النفوس يف وضع َّية تلقي البذور وتزرع َّ
ألن هذه األخرية كانت مضمرة يف جمموع النشاطات الرتبو َّية أن القدماء عرفوا الفلسفة ومل يعرفوا بعدُ مفهوم الثقافةَّ ، مرتادفتان ،بحكم َّ
من تكوين وتشكيل وتنمية يف القوى وامللكات بنزع الرذائل وزرع الفضائل .تأيت الديمقراط َّية لتتل َّبس هذه األدوار الرتبو َّية ،وتعيد
اكتشاف أصلها التارخيي وفصلها الزمني« :البايديا» ( )Paideiaأو الرتبية الثقاف َّية باملعنى الذي درسه فرنر ياغر.27
بأي معنى؟
خاتمة :الطريق «المستحيل»ّ ،
تعممتا يف األقاليم واألزمنة
أن الديمقراط َّية عريقة ،ليس بموجب األصل اليوناين الذي جعل منها مقولة وفكرة َّ ندرك بال لبس كيف َّ
املتعاقبة ،لكن بموجب االستدارة التي ُبنيت عليها ،وهي إتاحة احلركة والسلوك الدينامي واجلديل ،وبموجب القيم التي تشكَّلت عليها،
كل تفكري منهجي حول املهام السياس َّية والتفاعالت كل خيار وقرار ،أي جعل الرتبية والثقافة يف قلب ّ وهي وضع الفضيلة يف مركز ّ
االجتامع َّية .إذا كانت الديمقراط َّية ال ُت َتزل يف هياكل جامدة ،لكن تنبع من احلركة اجلدل َّية والدينام َّية يف النقاش والتبادل الرمزي ،فهذا
احلس النقدي.
التحول واالرتقاء من جمموع القيم التي تد ّبرها يف تربية الطبع البرشي وتنمية ّ ُّ ألنا دائمة جيعل منها فكرة «مستحيلة»َّ ،
السؤال امللتبس :ماذا عن الفكرة «املستحيلة» للديمقراط َّية يف السياق التداويل العريب اإلسالمي؟ هل يمكن االنتقال من «استحالة -سلب»
والتحجر نحو احلركة التي جتعل ممكن ًا االستدارة الديمقراط َّية من تشاور وتداول وخيار حر؟
ُّ إىل «استحالة -إجياب» ،باالنتقال من اجلمود
ألن هذا األخري كان خيضع يف األزمنة السابقة عىل الثورات واملتحجرة للسلوك السيايسَّ ، ّ فتحت الثورات العرب َّية ثغرة يف النواة الصلبة
إىل قرس َّية نظام احلكم القائم عىل احتكار أدوات التعبري واملامرسة الديمقراط َّية .كانت هذه األخرية «شكل َّية» يف املبنى ،فارغة من املعنى،
إن الدول العرب َّية اإلسالم َّية متارس قسط ًا من السلوك الديمقراطي عرب االنتخابات .لكن تؤدي وظائف آل َّية ،هلا قيمة «التق َّية» ،بالقول َّ
الواحد-املتفرد باحلكم
ّ ألن القول والفعل كانا مسلوبني من أجل تعب عن الروح الديمقراط َّية ذاهتاَّ ، أن هذه «الشكل َّيات» مل تكن ِّ نعرف َّ
تم التعبري عن احلاجة إىل ممارسة الديمقراط َّية
(قائد ،حزب واحد ،جمالس شعب َّية صور َّية .)...باندالع االنتفاضات يف أكثر من بلد عريبَّ ،
فعلي ًا وليس شكل َّي ًا ،حقيق ًة وليس جماز ًا .وإن كانت التجربة يف مهدها ،مع العثرات املصاحبة هلا بصريورة بعض الثورات حروب ًا أهل َّية،
جراء التع ُّثر امليداين .يكون «العثور -عىل» من ُصلب «التع ُّثر-
ثن العزائم من َّ فإن العثور عىل اجلوهرة النادرة للمامرسة الديمقراط َّية مل ُي ِ َّ
جراء االشتغال عىل النقائص تكون الطريق نحو االكتامل يف الفضائل. ألن التجارب خماطرات وعثرات ،ومن َّ يف»َّ ،
مراجع
.1994 ، بريوت، األهلية للنرش والتوزيع، ترمجة شوقي داود متراز، املحاورات الكاملة،ـ أفالطون
.1995 ،2 ط، مؤسسة األبحاث العرب َّية، ترمجة عادل زعيرت، العقد االجتامعي،)ـ روسو (جان جاك
-Arendt Hannah, «What is Freedom ?», in : The Portable Hannah Arendt, ed. Peter Baehr, Penguin Books,
NY, 2000.
-Id., Qu’est-ce que la politique ? tr. Jérôme Kohn, Paris, Seuil, 1995.
-Id., The Human Condition, The University of Chicago Press, Second Edition, 1958.
-Aristote, Les Politiques, tr. P. Pellegrin, Paris, GF-Flammarion, 1993.
-Cicéron, Tusculanes, II, 5 ; in : Œuvres complètes, tr. Nisard, Paris, Dubeauchais, 1840.
-De Certeau Michel, « Corps torturés, paroles capturées », in : Luce Giard (éd.), Michel de Certeau, Centre
Georges Pompidou, 1987, coll. « Cahiers pour un temps ».
-Derrida Jacques, Voyous ! Deux essais sur la raison, Paris, Galilée, 2003.
-Dewey John, Democracy and Education. An Introduction to the Philosophy of Education, The MacMillan
Society, New York, 1930.
-Id., « My Pedagogic Creed », The School Journal, vol. LIV, n°3 (January 16, 1897), E.L. Kellog & Co., New
York.
-Dunn John, «Démocratie : l’état des lieux », tr. Pierre-Emmanuel Dauzat, in : Situations de la démocratie,
sous la direction de Marcel Gauchet, Pierre Manent et Pierre Rosanvallon, Paris, Gallimard/Le Seuil, 1993,
coll. « Hautes études ».
-Ferry Luc, L’Anticonformiste, Paris, éd. Denoël, 2011, p. 268.
-Foucault Michel, « La vérité et les formes juridiques », in : Philosophie. Anthologie, éd. Arnold I. David-
son et Frédéric Gros, Paris, Gallimard, 2004, coll. « Folio Essais ».
-Fukuyama Francis, The End of History and the Last Man, Free Press, 1992.
-Jaeger Werner, Paideia. La formation de l’homme grec, Paris, Gallimard, 1964.
-Valéry Paul, « L’idée fixe », in : Œuvres II, Paris, La Pléiade, 1960
حممد أندليس*
أخذ ًا بعني االعتبار إذن هذه الزحزحة ومتغرياهتا ،نريد كتمهيد هلذه الدراسة أن نذكِّر ببعض املبادئ التي نعتربها أساس َّية من أجل
مقاربة حتليل َّية نقد َّية وحذرة للخطاب السيايس املعارص.
أهم مظاهر تلك الرؤية نذكر ما ييل: التحرر َّأوالً وقبل ِّ
كل يشء من الرؤية التقليد َّية للسياسة ،ومن ّ ُّ َّ
إن أول ما تقتضيه تلك املقاربة هو
* أكادميي من املغرب.
1 . Will Kymlicka, Les théories de la justice: une introduction, p8, traduit de l’anglais par Marc Saint-Upéry, éditions, La Découverte, Paris,
2003.
تصورمها اليسار واليمني يتاميزان من خالل ُّ أو بآخر إىل نمط من أنامط االشرتاك َّية؛ بينام األفراد اآلخرون
للحر َّية والعدالة يف إطار الدوائر التقليد َّية املتمرتسون يف اليمني ،ينظر إليهم باعتبارهم يعتقدون يف مبدأ
احلر َّية ،وبحكم ذلك فلهم استعداد وقابل َّية لالنتامء إىل أحد أنامط
الذكور َّية للدولة واالقتصاد ،لكن خارج
الليربال َّية الرأسامل َّية .طبع ًا توجد عدة درجات تتوسط املواقف التي
فإن ذلك التاميز يفقد مصداقيته هذا اإلطار َّ ذكرهتا ،والكثري من األشخاص ال يقبلون سوى بمظهر واحد من
وأمهيته ،وخاصة حينام ينظر إليه يف إطار املظاهر املختلفة من تلك النظريات .لكن نعتقد يف غالب األحيان
الدوائر التقليد َّية األنثو َّية للمنزل والعائلة بأن أحسن طريقة لفهم أو لوصف األفكار السياس َّية لشخص من َّ
األشخاص ،تتم َّثل يف حماولة موقعتها يف موضع ما عىل امتداد
ذلك اخلط .هذه الكيف َّية يف التفكري يف النظر َّية السياس َّية ليست
كل يشء تتجاهل بعض املسائل اهلا َّمة ،من بينها عىل سبيل ألنا قبل ِّ ك ُّلها بمنأى عن احلقيقة؛ لكنَّها أصبحت َّ
أقل تالؤم ًا وإقناع ًا ،نظر ًا َّ
تصورمها للحر َّية والعدالة يف إطار الدوائر التقليد َّية الذكور َّية للدولة واالقتصاد ،لكن أن اليسار واليمني يتاميزان من خالل ُّ املثال َّ
فإن ذلك التاميز يفقد مصداقيته وأمهيته ،وخاصة حينام ينظر إليه يف إطار الدوائر التقليد َّية األنثو َّية للمنزل والعائلة. خارج هذا اإلطار َّ
أي مشكل بأنا ال تثري َّ
فالنظريات السياس َّية التقليد َّية أكانت من اليسار أم من اليمني ،متيل إىل عدم االكرتاث هبذه امليادين ،أو إىل االدعاء َّ
تم إمهاهلا يتعلق بقيمة العدالة أو احلر َّية .وحدها النظر َّية التي تؤمن فع ً
ال باملساواة اجلنس َّية بني الذكر واألنثى يمكن هلا أن تواجه أسئلة َّ
وجتاهلها يف مناظرات اليسار واليمني التقليد َّية.
املجرد وإمهاله للسياق التارخيي ،إذ ال يمكن إصدار أحكام عىل مؤسسات سياس َّية كام متَّت مؤاخذة «معيار» اليمني واليسار عىل طابعه َّ
ُّ
التجذر اعتامد ًا عىل معيار مستقل وال تارخيي؛ فاحلكم السيايس يستند إىل تأويل التقاليد واملامرسات التي تنبثق منها احلياة السياس َّية ،وهذا
التارخيي والثقايف واإلثني مل يكن يؤخذ يف احلسبان يف السجال التقليدي الدائر بني اليسار واليمني .فعىل سبيل املثال ال احلرص نجد َّ
أن
يتعذر فهم طروحاهتام عىل ضوء مقولتي «اليسار» النزعة النسو َّية ( ،) Le féminismeوالنزعة اجلامعو َّية (َّ )Le communautarisme
و«اليمني».
.2املظهر الثاين للمقاربة السياس َّية التقليد َّية ،يتم ّثل يف االعتقاد َّ
بأن مجيع التيارات السياس َّية تتأسس عىل قيم هنائ َّية ومبادئ أحاد َّية
وأن أساس االجتاه أن أساس التيار االشرتاكي هو مبدأ املساواةَّ ، مستقلة جتعلها يف اختالف مطلق مع التيارات األخرى ،مثل اعتبار َّ
وأن أساس االجتاه القومي هو مبدأ الوحدةَّ ،
وأن أساس االجتاه الرباغاميت هو مبدأ املنفعة...إلخ .
2 الليربايل هو مبدأ احلر َّيةَّ ،
يبي صعوبة اختزال النظر َّية السياس َّية أو املوقف السيايس يف مبدأ واحد ،وقيمة حاسمة وهنائ َّية؛ فإذا كنَّا يف الرؤية َّ
إن هذا املظهر الثاين ّ
بأن املناظرة األساس َّية يف جمال الفلسفة السياس َّية هي تلك التي تدور حول سؤال ما إذا كنا نقبل أو ال التقليد َّية نعتقد بشكل راسخ َّ
نقبل بمبدأ املساواة كقيمة عليا ،فإنَّه يف الرؤية املعارصة غدت املناظرة األساس َّية ال تكمن يف معرفة ما إذا كنا نعتقد يف فكرة املساواة أم
أن املنخرطني يف املناظرة السياس َّية يشرتكون يف األساس نفسه ،ويقبلون ال نعتقد ،وإنَّام تكمن يف كيف َّية فهمنا وتأويلنا هلا؛ هذا يفرتض َّ
بالقيمة نفسها -يتع َّلق األمر هنا بقيمة املساواة -حتى ولو كان لوهنم السيايس خمتلف ًا يتوزع بني اليسار واليمني ،أو غريمها .وهكذا
فافرتاض وجود أرض َّية مشرتكة بني املتناظرين السياسيني وعىل رأس تلك األرضية قيمة املساواة ،يبدو -كام سنرى ذلك -هو االفرتاض
تنوع ووحدة الفلسفة السياس َّية املعارصة .3إنَّه افرتاض ينتهي بإقرار إمكان َّية عقلنة املناظرة السياس َّية وبلورة
الذي يتالءم أكثر من غريه مع ُّ
2 . Ibid, p.9.
3 . Ibid, p.11, p.12.
أن هذا االفرتاض سيكون خاطئ ًا إذا تقويم ناجع للخطابات السياس َّية يمكِّن من إقامة تفاضل بينها عىل أساس إيتيقي-عقالين .غري َّ
أن «نظرية املساواة»( )La théorie égalitaristeهي تلك التي تنادي بإعادة توزيع الدخل والثروة اختزلنا مفهوم املساواة ،واعتربنا َّ
تصور ًا أكثر عموم َّية وجتريد ًا
متساو بني الناس .عىل عكس هذا يكون االفرتاض إجرائ َّي ًا عىل مستوى الفهم والتقويم ،إذا ما تبنينا ُّ ٍ بشكل
فإن هذه الفكرة لفكرة املساواة ،تصبح بموجبه مبدأ يقتيض وضع الناس عىل قدم املساواة والتعامل معهم بكيف َّية متساوية .وبطبيعة احلال َّ
متنوعة باختالف املواقف السياس َّية .هكذا واملجردة للمساواة التي تشتغل كمبدأ إيتيقي بامتياز ،هلا جت ّليات خمتلفة وجتسيدات ِّ َّ العامة
كل عضو من اجلامعة هلا الوزن نفسه والقيمة نفسها مقارنة مع مصالح أن مصلحة ّ تُعترب النظر َّية السياس َّية «مساوات َّية» ،إذا قبلت بفكرة َّ
فإن «النظرية املساوات َّية» تقتيض من السلطة أو الدولة أن تتعامل مع مجيع املواطنني بكيف َّية متساوية ،بحيث باقي الناس .4وبتعبري آخرَّ ،
التصور اإليتيقي للمساواة نعثر عليه لدى ليربايل ُّ كل مواطن أن حيظى باالحرتام نفسه ،وباالهتامم نفسه ،وباالعتبار نفسه .وهذا من حق ِّ
بأنمثل«روبر نوزيك» ( ،)Robert Nozickكام نعثر عليه لدى اشرتاك َّية مثل «نانيس فرايزر» .فإذا كان أصحاب «اليسار» يعتقدون َّ
5
أن االستمتاع فإن أصحاب «اليمني» يعتربون َّ املساواة يف الدخل أو الثروة هي بمثابة رشط رضوري العتبار األفراد متساوين بالفعلَّ ،
بامللك َّية اخلاصة وبثامر الشغل الشخيص رشط رضوري لتحقيق املساواة بني األفراد يف احلقوق.
املجردة عن املساواة بام هي قيمة أخالقية هكذا فاألرض َّية املشرتكة للمناظرة السياس َّية بني اخلطابات السياسية املختلفة مت ّثلها هنا الفكرة َّ
إن الذي جيعل املناظرة ممكنة بني خمتلف النظريات أن ترصيف هذه الفكرة عىل أرض الواقع قابل لتأويالت خمتلفة ومتباينةَّ . عليا ،غري َّ
التصور النوعي اخلاص للمساواة ُّ املتنوعة واملتباينة (كالربامجات َّية ،والليربال َّية ،واملاركس َّية ،والنزعة النسو َّية...إلخ) يتعلق بطبيعة
السياسية ّ
يتم الرجوع إليه من قبل هذه النظر َّية أو تلك ،أو من قبل هذا التيار أو ذاك ،باعتباره رشط ًا وأساس ًا لتحقيق املساواة العا َّمة بني األفراد. الذي ُّ
كل نظر َّية سياس َّية تنطلق يف مناظرهتا خلصومها من األرض َّية املشرتكة ذاهتا للمساواة ،أي إذا كانت ُّ
كل نظر َّية أن َّ
إذن إذا كان صحيح ًا َّ
كل األفراد متساوين؛ فإنَّه يصبح من املمكن املفاضلة بني تسعى إىل حتديد الرشوط السياس َّية واالقتصاد َّية واالجتامع َّية التي يف ظ ّلها يصبح ُّ
حمط إمجاع من طرفها. أن إحداها حت ّقق ما مل حت ّققه النظريات األخرى باستيفائها لرشوط «املعيار» الذي هو ّ تلك النظريات ،والربهنة عىل َّ
املظهر األول نستش ُّفه من خالل قولة «روبر نوزيك» التاليةَّ :
«إن الفلسفة األخالق َّية تشكّل اخللف َّية النظر َّية للفلسفة السياس َّية وتضع
حدودها ،بحيث حتدِّ د ما جيب وما ال جيب أن تكون عليه العالقة بني األفراد ،وهذا كفيل بأن يضع حدود ًا ملا يمكن أن يفعلوه بجهاز
إن الذي جيعل املناظرة ممكنة بني خمتلف َّ الدولة ومؤسساهتا .فاملحظورات األخالق َّية التي جيب احرتامها
املتنوعة واملتباينةّ النظريات السياسية قوة الدولة الزاجرة ومراعاهتا ستشكّل مصدر ًا ملرشوع َّية َّ
هتتم
أن الفلسفة السياس َّية املعارصة ُّ بكل أشكاهلا» .6هذا يعني َّ ِّ
(كالربامجات َّية ،والليربال َّية ،واملاركس َّية،
ربر اللجوء إىل املؤسسات العموم َّية ،وإن كانت باإلكراهات التي ت ّ
والنزعة النسو َّية...إلخ) يتعلق بطبيعة خمتلف النظريات مت ّيز بني املسؤوليات العموم َّية واملسؤوليات
يتمالتصور النوعي اخلاص للمساواة الذي ُّ ُّ اخلصوص َّية بكيفيات خمتلفة ،لك َّن مضامني هذه املسؤوليات
الرجوع إليه من قبل هذه النظر َّية أو تلك، يتم حتديدها انطالق ًا من مبادئ أخالق َّيةواحلدود التي تفصل بينها ُّ
عميقة وعا َّمة.
أو من قبل هذا التيار أو ذاك ،باعتباره رشط ًا
وأساس ًا لتحقيق املساواة َّ
العامة بني األفراد املظهر الثاين لتلك االستمرار َّية مرتبط باملظهر األول ،حيث
تصور للمسؤول َّية العموم َّية أن ينكتب يف إطارُّ يقتيض من ِّ
كل
أن َّ
كل نظرية سياس َّية تقيم متييز ًا دقيق ًا بني موسع لكي يرتك املجال ويمنح املعنى للمسؤول َّية اخلصوص َّية .فبالرغم من َّ تصور أخالقي َّ
ُّ
أي تأثري مبارش عىل قواعد السلوك الشخيص ،إلَّ َّ
هذين النوعني من املسؤول َّية بحيث حترص عىل أل يكون ملبادئها السياس ًّية التي تتبناها ُّ
ال إىل تقديم يد املساعدة لآلخرين ،أو التضامن مع صديق ،أو َّأنا مع ذلك ال يمكن أال تكرتث باملسؤول َّية الشخص َّية التي تدفع الفرد مث ً
كل فرد إلكراهاته الشخص َّية جيب كام يقول «جان راولز» ،أن يأخذ بعني االعتبار «القيم العليا تصور ِّ
إن ُّ الوفاء بوعد قطعه عىل نفسهَّ .
التي تتأسس عليها املؤسسات السياس َّية» ،مثل قيم الديمقراط َّية ،واملساواة ،والتسامح.7
يتأسس باللجوء إىل القناعات الراسخة. أن الفلسفة السياس َّية املعارصة صارت تنتمي إىل جمال احلجاج األخالقي الذي َّ اخلالصة إذن َّ
فكل منا له معتقدات ومربرات أخالق َّية يمكن تنظيمها وبلورهتا يف صورة مبادئ أخالق َّية ونظريات يف العدالة .وأحد األهداف املركز َّية ٌّ
للفلسفة السياس َّية الراهنة يكمن يف تقويم خمتلف النظريات السياس َّية املتنافسة حول قضايا العدالة أو احلق أو احلر َّية أو املساواة وغريها،
وذلك بغية قياس مدى قوة وتالحم احلجج التي تعتمدها من أجل تسويغ طروحاهتا والدفاع عنها.
6 . Robert Nozick: «Anarchie, Etat et utopie», p.6, Puf, Paris, 1988.
7 . Robert Nozick: «Anarchie, Etat et utopie», p.6, Puf, Paris, 1988.
إن تدبري شؤون اإلنسان داخل املجتمع بشكل آمن ومن َّظم هو إشكال عويص ،ألنَّه يقتيض إجياد صيغة توافقية متكِّن من إشباع رغبات
َّ
واملتنوعة واملتنافرة ،هذا هو اإلشكال السيايس ،وهو أعوص إشكال َّيات اإلنسان عىل اإلطالق :كيف يمكن إذن ّ اإلنسان املختلفة
إجياد شكل من التدبري يستطيع أن حيقق التوافق والتعايش ولو يف حدودمها الدنيا بني خمتلف أفراد املجتمع الواحد وبني هذا املجتمع
واملجتمعات األخرى؟
أن خمتلف الصيغ التي ُج ّربت لتدبري حياة الناس بشكل مشرتك داخل املجتمع كانت مصدر ًا لرصاعات ونزاعات من املعروف تارخيي ًا َّ
أن احلقل السيايس بطبيعته هو رهان لرصاعات سياس َّية ،هلذا فهو تنتهي غالب ًا بثورات وحروب تصل أحيان ًا إىل اإلبادة اجلامع َّية ،ممَّا يعني َّ
ّ
املحك إنسان َّية اإلنسان. يتَّسم بطابع إشكايل مازال يشكّل حتدِّ ي ًا حقيقي ًا للوجود اإلنساين ،ويضع عىل
حينام نتحدث عن املجال السيايس -بام هو جمال لتدبري شؤون اإلنسان وتنظيم حياته ،والسعي إلشباع حاجاته ورغباته -جيب َّأل
ألن جوهر اإلشكال السيايس يف عمقه يرتبط هبذا اللبس واخللط والتداخل نخلط بني مستويني أو مفهومني :مها السياسة والسيايسَّ ،
اخلاصة واملصلحة العا َّمة ،أو بتعبري«هيجل» بني
َّ بني املفهومني ،أي بني السياسة واألخالق ،أو بني الرغبة والفضيلة ،أو بني املصلحة
املجتمع املدين والدولة.8
التصور
ُّ اخلاصة .وهذا
َّ التصور الذي ينظر إىل السياسة بام هي جمال لرصاع املصالح
ُّ التصور السائد للمجال السيايس ،هو ذلك ُّ َّ
إن
ملتبس بل وخماتل ألنَّه يقوم عىل اخللط بني «السياسة»( )La politiqueو«السيايس»( ، )Le politiqueومثل هذا اخللط تكون له
مضاعفات سلب َّية عىل مستوى املامرسة السياس َّية بام هي ختليق للحياة السياس َّية ،أي بام هي تدبري منصف للشأن اإلنساين وتربية عىل
العيش املشرتك.
8 . Hegel .F: «Principes de la philosophie du droit ou Droit naturel et Science de l’Etat en Abrégé».Deuxième partie «La moralité» p.105 à
141. Troisième partie «La vie éthique» p.142 à 160. Edit Librairie philosophique J. Vrin. 1998.
تص ُّور «هيجل» لعالقة الدولة بالفرد (املجتمع املدين) يختلف عن تصورين ميكن أن نعتربهام متط ّرفني ،هام :التص ُّور األفالطوين والتص ُّور الليربايل .ففي التص ُّور األفالطوين
-الذي ميكن أن نعتربه جذر التص ُّور التوتالتاري -تت ُّم التضحية بحقوق الفرد لصالح وحدة الكُل ،أل َّن الفرديَّة أو الخصوص َّية يُنظر إليها يف إطار هذا التص ُّور كعنرص فوىض
وكلين.
لكل طابع جوهراين َّ
وانشقاق .أ َّما يف التص ُّور الليربايل الحديث فالدولة مج َّرد تج ُّمع ُوجد من أجل حامية حقوق األفراد (املجتمع املدين) ،وبالتايل فهي فاقدة ِّ
تتجل يف السعي للربهنة عىل أ َّن الدولة الحديثة ميكن أن تبقى «دولة جوهريَّة» ،ويف الوقت نفسه تعمل عىل إشباع حاجات األفراد ،وتحقيق
أصالة التص ُّور الهيجيل ّ
طموحاتهم ،والنمو الحر لشخصياتهم .لهذا وجدنا هيجل ينتقد ادّعاء الدولة الليرباليَّة املتمثّل يف اعتبار نفسها جهازا ً غايته القصوى هي حامية املصلحة الفرديَّة .ويرى
أ َّن الحروب تكذّب هذا االدعاء حيث تسود قوة الدولة املطلقة .فحينام يصبح وجود الدولة مهدَّدا ً ،فإنَّها ترغم املواطنني عىل التضحية بحياتهم ومصالحهم .من هنا
يستنتج هيجل أ َّن للدولة غايتها الخاصة بها .فهي لها حق سامٍ عىل األفراد ،إذ واجب هؤالء أن يكونوا أعضاء داخل الدولة .وبهذه الصفة يحقّقون درجة عالية من
الحريَّة واألخالق َّية ،أل َّن إرادتهم الذات َّية متفقة ومتناغمة مع اإلرادة ال ُكلّ َّية والشمول َّية .إ َّن الدولة الهيجل َّية متثّل الحقيقة ،ومحتواها يتحدَّد يف تعارض مع املجتمع املدين.
أل َّن الخلط بني الدولة واملجتمع املدين ،يعني يف التص ُّور الهيجيل أن نجعل كهدف لها السهر عىل حامية امللكيَّة الخاصة والحريَّة الشخصيَّة؛ ويف هذه الحالة ستصبح
املصلحة الفرديَّة هي التي ستشكّل الغاية النهائ َّية لوجود الدولة والوحدة ،ومن شأن هذا أن يستتبع أ َّن انتامء األفراد إىل الدولة يتوقف عىل إرادة أولئك األفراد وعىل
أي وجود موضوعي أو أيّة حياة أخالقيَّة إال من حيث هو
حريتهم .يف حني أ َّن الدولة مادامت متثّل «الروح املوضوعي» فإ َّن الفرد ال ميكن أن تكون له أيُّة حقيقة أو ّ
عضو داخل الدولة .فاتحاد الفرد بالدولة غاية يف ذاته ،إنَّه الغاية الحقيق َّية واملحتوى الحقيقي مادام مصري الفرد هو أن يعيش حياة كُلّ َّية وشمول َّية ومتَّحدة .والدولة من
حيث هي «حقيقة أخالقيَّة» ليست سوى االندماج الحاصل بني الجوهريَّة والخصوصيَّة ،حيث الخصوصيَّة لحظة أساسيَّة داخل الدولة ،واإلشباع الكامل ملتطلّباتها مسألة
رضوريَّة.
يتم امتالكها ،فضاء توضع فيه السلطة بني اجلميع ووسطهم. ويتم إدارهتا وتدبريها دون أن َّ
إن «السيايس» هو الفضاء الذي متارس فيه السلطة ُّ َّ
تتم داخل «املدينة» أي «البوليس»
وأن هذه احلياة ُّأن احلياة اإلنسان َّية هي حياة مجاع َّيةَّ ،هذا املفهوم للسيايس يتأسس عىل إدراك عميق مفاده َّ
باملصطلح اإلغريقي .وهي فضاء تُد َّبر فيه شؤون املدينة بمسامهة اجلميع ويف استقالل عن أ َّية سلطة خارج َّية أو مفارقة .قد خيتلف هذا التدبري
أن «الشأنأن شؤون اإلنسان/املواطن يف «املدينة» بيد اإلنسان ويشارك فيها اجلميع .وهو الذي يعني َّ من جمتمع إىل آخر لك َّن املبنى واحد ،وهو َّ
السيايس» يمكن أن يكون موضع تفكري عقالين -تداويل وتعاقدي ،ألنَّه خيضع لقوانني وضع َّية يمكن مناقشتها واجلدل حوهلا بل وتغيريها أو
أن «السياسة» ليست هي «السيايس». أن املجتمعات التي عرفت «السيايس» مل تعرف «السياسة» ،بيد َّ استبداهلا بأخرى .ال يعني هذا َّ
كل يشء وجود الدولة ،أي وجود سلطة هلا منطقها اخلاص بحيث يمكن ملن يمتلك أجهزهتا أن يعمل فـ«السياسة» تفرتض أوالً وقبل ِّ
عىل تسويد مصاحله ،وتوسيع نفوذه ،وبسط سلطته .هبذا املعنى تغدو «السياسة» «صناعة» متارسها أحزاب ،وتتك َّفل هبا تنظيامت سياس َّية
تسهر عىل سري األمور ،ومحاية حقوق أفرادها وفئاهتا .فإذا كان «السيايس» نسيج احلياة البرش َّية وحلمة املجتمع وسداهَّ ،
فإن «السياسة»
هي منطق الدولة ،وهي منظامت وأحزاب وتيارات ،ولع َّلها أيض ًا وأساس ًا حنكة ومهارة ودهاء وتضليل ومكر؛ هلذا قد يتخىل عنها
البعض وهيجرها لكنَّه مع ذلك ال يستطيع أن يتخىل عن «السيايس» ،ألنَّه ر َّبام هو بمثابة قدر لإلنسان من حيث هو بالتعريف «حيوان
سيايس» ،9كام ذهب إىل ذلك الفيلسوف اليوناين «أرسطو».
«السيايس» إذن يرتجم البعد اإليتيقي واألخالقي يف املامرسة السياس َّية ،أ َّما «السياسة» فهي تكشف عن الوجه املتعلق بطبيعة «إرادة
القوة» ،والرغبات التي هتدف إىل إشباع ذاهتا عرب االستيالء عىل السلطة واستعامل أجهزهتا ومؤسساهتا وآلياهتا الرمز َّية.
َّ
ال بني املجتمعات ومستويات نضجها أن هذا التمييز بني املستويني رضوري ،ألنَّه انطالق ًا منه نستطيع أن نقيم متايز ًا وتفاض ً شك َّ
وال َّ
وتطورها .وليست الديمقراط َّية سوى أرقى أشكال التنظيم السيايس الذي ابتكره عقل اإلنسان وجتربته ،وما ذلك إال لكوهنا حماولة ُّ
مستمرة ودائمة إلخضاع «السياسة» «للسيايس» ،أي حماولة لتأسيس املامرسة السياس َّية عىل أساس أخالقي ،وجعل اإليتيقا قاعدة مبدئ َّية َّ
َّ ً10 ً
لتدبري الشأن اإلنساين بشكل أكثر تالمحا وانسجاما .يقول «روبري نوزيك» يف هذا الصدد« :إن الفلسفة األخالق َّية تُشكِّل اإلطار
حيق هلم أن يفعلوه جتاه بعضهم البعض ،هو الذي حيدّ د ما حيق أو ال ُّ
إن حتديد األفراد ملا ُّ اخللفي للفلسفة السياس َّية وتس ّطر حدودها ،إذ َّ
لقوة حيق هلم أن يفعلوه عند تس ّلمهم جلهاز الدولة .فاملحظورات األخالق َّية التي جيب مراعاهتا ،تُعترب مصدر ًا ِّ
لكل أشكال املرشوع َّية َّ ُّ
الدولة الزجر َّية» .هذا عىل الرغم من املشاكل والقضايا اجلديدة التي صاحبت نشأة الديمقراط َّية ،والتي كثري ًا ما ُتدِّ د مصداقيتها وتضع
11
9ـ إ َّن اعتبار اإلنسان مبثابة «حيوان اجتامعي» يعترب األ ّوليَّة األساسيَّة التي انطالقاً منها ت َّم استنباط حقوق وواجبات اإلنسان ،إذ انطالقاً من مالحظة التشكيل الجسامين
العضوي لإلنسان ومقارنته بالحيوان ت َّم استنتاج أنَّه وجد من أجل العيش داخل املجتمع .فهو من جهة له حاجات كثرية ومتنوعة (اللباس ،التغذية ،التدفئة ،الحامية)..؛
مم يعني أ َّن تدبري حياة اإلنسان داخل املجتمع رضورة وجوديَّة ومنطقيَّة بحكم كون
ومن جهة ثانية فإ َّن الطبيعة مل تز ّوده بالوسائل الرضوريَّة إلشباع تلك الحاجاتَّ ،
إشباع حاجاته تتجاوز إمكانياته كفرد ،هذا هو الجزء األ َّول من االستنباط .الجزء الثاين من االستدالل يتمثّل يف استحضار الرشوط الرضوريَّة منطقياً لقيام املجتمع،
واملتمثّلة يف رضورة متتُّع الناس بحقوق وقيامهم بواجبات .ذلك هو املصدر األ َّول لنظريَّة الحق الطبيعي الحديث ،الذي يختلف جذرياً عن الحق الطبيعي الكالسييك
الذي يستلهم الكوسمولوجيا اإلغريق َّية .فليس الحق الطبيعي يف صورته الحديثة سوى مجموعة من الحقوق والواجبات التي يجب أن تحرتم لقيام املجتمع بشكل آمن
ومنظَّم .يفرتض هذا أ َّن معرفة الحقوق تستتبع معرفة الواجبات املتمثّلة يف احرتام الذات وضامن ،عرب القوة الجامعية ،احرتام حقوق اآلخرين ،وهي يف األصل عبارة عن
أربعة حقوق :الحريَّة ،امللك َّية ،األمن ،مقاومة االضطهاد.
كل من جان راولز ،وميكائيل والزر ،وروبر نوزك ،ودوركان...إلخ.
10ـ ميكن الوقوف عىل هذه املسألة بشكل ملموس باالطّالع عىل أه ّم نظريات العدالة لدى ٍّ
11 . Robert Nozick «Anarchie, Etat et utopie», p.6, Puf, Paris, 1988.
ما من تفكري اليوم يف الديمقراط َّية بطريقة فلسف َّية إال ويقتيض التفكري فيها انطالق ًا من طبيعة التمفصل الذي يوجد بني املفهوم
أي حديث عن الديمقراط َّية يتط ّلب أن ننظر إليها «فيام والواقع ،بني «مفهوم» الديمقراط َّية وبني «التجربة» الديمقراط َّية .وهذا يعني َّ
أن َّ
وراء اخلري والرش» ،أي فيام وراء الديمقراط َّية كمثل أعىل ،ومثل هذا النظر يصبح ممكن ًا رشيطة أن نعيد «توجيه الفكر» من جديد ،نحو
«قبلة» الفلسفة اإلغريق َّية القديمة ،ونحو فضاء التجربة الديمقراط َّية يف اليونان .فاإلغريق يشكّلون بداية تأسيس َّية للفلسفة وللتجربة
أن هذا التعالق التزامني -املكاين بني نشأة الفلسفة ونشأة الديمقراط َّية له ما يربره سواء عىل صعيد الديمقراط َّية يف الوقت ذاته .وال َّشك َّ
أن «املواطن» يشكّل أحد املواضيع األساس َّية يف الفلسفة، الفلسفة أو عىل صعيد الديمقراط َّية .العالمة األوىل لذلك التعالق تتم ّثل يف َّ
وحرَّ .
«إن اليونان ألن أحد رشوط ظهور الفلسفة هو ظهور «املواطن» ،أي ظهور الفرد الواعي بذاته ككائن عاقل ومستقل ّ وذلك َّ
هي بمثابة الفضاء احلضاري-التارخيي الذي هو «موطن» اإلقامة بالنسبة إىل الفلسفة والديمقراط َّية ،وهو بحكم ذلك يم ّثل مصدرنا
املتجسد يف املدينة اليونان َّية ،وأثينا بصفة خاصة ،ال خيلو
ِّ فإن تسليط الضوء عىل فضاء نشأهتام التارخي َّيةاألصيل الكوين» .12ومع ذلك َّ
جيسد مجاعة الناس املتساوين واألحرار(أي مجاعة من طابع إشكايل .فمن املعروف َّ
أن انبثاق «الفلسفة» و«املدينة الديمقراط َّية» -بام هو ّ
تعرضت هلا التقاليد واألساطري والسلط الدين َّية والسياس َّية وأشكال احلياة التقليد َّية
من املواطنني) -قد جاء بعد اخللخلة الكبرية التي َّ
كل الرصاع الدائر جسد سقراط َّ املرتبطة هبا .لك َّن هذه النشأة املتزامنة ألقت أيض ًا بظالهلا عىل العالقة بني «الفلسفة» و«املدينة» .وقد َّ
بينهام ،13وهو خيتزل أيض ًا التناقض غري القابل للتصعيد بني الفلسفة والديمقراط َّية ،أو بني األخالق والسياسة.
حينام نعود إىل هذا الفضاء -الذي ُيشكّل يف نظري البذرة األوىل ليس فحسب للفلسفة والفكر الغريب عىل نحو ما ذهب إىل ذلك
كل من وقعوا يف أرس التامهي مع الذات ومع النزعة املركز َّية الغرب َّية ،وإنَّام أيض ًا بالنسبة إىل الفكرهايدغر وقبله أستاذه هورسل ومعهم ُّ
تصوروا هبا الديمقراطية كمفهوم والديمقراط َّية كتجربة وكواقع، الفلسفي اإلنساين الكوين -ونسائل فالسفة اليونان عن الكيف َّية التي َّ
أن هذا الطابع اإلشكايل مالزم ملفهوم الديمقراط َّية سنجد َّأنم قد أدركوها كشأن إشكايل غري منسجم ،بل ومنقسم عىل نفسه ،وعىل َّ
وللتجربة الديمقراط َّية يف الوقت نفسه.14
لكل من مفهوم الديمقراط َّية وواقع الديمقراط َّية ،هو ما تشهد عليه هذا الوعي الفلسفي النقدي املبكِّر بالطبيعة امللتبسة واملتناقضة ٍّ
كل من أفالطون وأرسطو .ففي الكتاب الثامن من مؤلف «اجلمهور َّية» يتحدث أفالطون عن الديمقراط َّية -من حيث هي واقع فلسفة ٍّ
وجتربة معيش َّية أكثر ممَّا هي نموذج نظام سيايس -باعتبارها «خليط ًا من الدساتري» تفتقر إىل االنسجام والوحدةَّ .إنا يف نظره أشبه بسوق
مقومات «املفهوم»( )Le conceptوخصائص «الفكرة»( )L’idéeلديه، كل مع ّ «لألثاث الرديء»(اخلردة) ،ممَّا جيعلها تتعارض بشكل ّ
إن التباس التجربة الديمقراط َّية واالنقسام الذي يطبع واقع الديمقراط َّية يتعارضان بشكل مقوماهتا :الوحدة والك ّل َّيةَّ .
أهم ّ والتي من ّ
جذري مع وحدة «املفهوم» ،وك ّل َّية «الفكرة» وانسجامها .فواقع الديمقراط َّية عند أفالطون ـ مقارنة مع الفكرة -يعني التناقض غري القابل
للتدليل والتجاوز املوجود بني اهلجانة واالنسجام ،أو بني االنقسام والوحدة ،أو بني التعدُّ د والك ّل َّية .وهذا ما جتليه الصورة القدح َّية -
يغي لباسه ،فاليوم يغي آراءه وحياته كام ّ التي يقدّ مها الكتاب الثامن من «اجلمهور َّية» -عن الكائن الديمقراطي .إنَّه ذلك الكائن الذي ّ
أن النظام الذي شك فيه َّ
يشتغل يف املال َّية وغد ًا يف البحر َّية ،اليوم مزاجه ج ّيد وغد ًا يصبح س ّيئ ًا ،إنَّه كائن مرت ِّدد ،ذو نزعة نسب َّية؛ وممَّا ال َّ
12 . C.Castoriadis, La Polis grecque et la création de la démocratie, p.263 - 264. Seuil 1986.
ظل الدميقراط َّية األثين َّية ،أن يعود إىل مقايل املنشور مبجلة األزمنة الحديثة العدد ،5صيف ،2012
13ـ ميكن للقارئ الراغب يف املزيد من االطالع عىل مأساة سقراط يف ِّ
ص ،94تحت عنوان« :نحو إعادة استشكال فلسفي ملفهوم الحريَّة يف ضوء الثورات العربيَّة».
14ـ عبد الله العروي« :من ديوان السياسة» ،ص ،90وأيضاً ص 82و 83و ،84املركز الثقايف العريب.2009 ،
هذا اللبس والتناقض الذي يكتنف «الديمقراط َّية» سواء نظر إليها كمفهوم ،أو كتجربة -والذي يب ّينه حتليل «أفالطون» -نعثر عليه
وخاصة يف كتابه «السيايس» ،حيث يتحدث «أرسطو» عن أصلني أو مصدرين للتجربة السياس َّية .ففي َّ أيض ًا حارض ًا لدى «أرسطو»،
تم تكوينها عىل أساس «القسمة العقل َّية» ،فالناس يعيشون داخل «اجلامعة»، األول حيدّ د «اجلامعة السياس َّية» باعتبارها تلك التي َّ
كتابه َّ
ألنم يقتسمون «اللوغوس» أو «العقل» -بام هو معيار أو مبدأ حكم -أي يقتسمون «القدرة عىل املناظرة العقل َّية أو يشكّلون «مجاعة»َّ ،
ألنا مع الرشكاء والنظراء حول العادل وغري العادل ،حول اخلري والرش؛ بينام نجد َّ
أن الكائنات «احليوان َّية» تفتقر إىل هذا «اللوغوس» َّ
كل يشء إىل اللذة أو األمل .وحده «الكائن اإلنساين» قادر عىل أن يقتسم مع اآلخرين «كالم ًا» أو «خطاب ًا خاضعة للغريزة ،أي ملبدأ خيتزل َّ
ال عىل نحو عقالين». متمفص ً
لكن نجد أيض ًا لدى «أرسطو» تساؤالً من نمط آخر حول أصل السياسة ،فمن هو اجلدير بالعقل والعقالن َّية ،من هو العاقل والعقالين؟
خاصة»؟
جمرد جزء منه ،أي «مجاعة َّ هل هو ُّ
كل «الشعب» ،أي مجيع أفراد املجتمع ،أم َّ
يتم إدراجه يف إطار فضاء فإن البعد الداليل هلذا السؤال األرسطي الذي ال خيلو من عمق فلسفي ،ينجيل بوضوح حينام ُّ يف احلقيقة َّ
نكوهنا عن «املسألة الديمقراط َّية»، تتم مواجهة «الصورة املثال َّية» أو «الداللة اليوطوب َّية» التي ّ
خاصة حينام ُّ
التجربة الديمقراط َّية اليونان َّيةَّ ،
فإن الواقع التارخييمع الواقع الفعيل -التارخيي للديمقراط َّية اإلغريق َّية خالل القرن اخلامس قبل امليالد .فتبع ًا لتحليل «أرسطو» َّ
ال للمناظرة العقالن َّية ،وإنَّام «البعض» منه فحسب؛ مؤه ً
«كل الشعب» ،ليس َّ أن «اجلميع» أو ّ
يبي بشكل جيل َّللتجربة السياس َّية اليونان َّية ّ
مؤهلني للمشاركة يف املناظرة التي تقوم عليها التجربة الديمقراط َّية يف أثينا. فـ«النساء» و«الغرباء» و«العبيد» ليسوا َّ
هذا ما الحظه «جاك دريدا» يف سياق جمتمع آخر وجتربة تارخيية مغايرة ،حيث حاول أن يبلور تلك املالحظة عرب مفهوم «احلصانة
الذات َّية» ،بام هي ٍّ
جتل واضح للتناقض أو باألحرى للمفارقة املالزمة للديمقراط َّية .واملثال الذي ُيقدّ مه «دريدا» هو مثال «التجربة
الديمقراط َّية يف اجلزائر» ،أي جتربة التناوب عىل السلطة .لقد طرحت هذه التجربة عىل املحك «مدى ديمقراط َّية» النظام الديمقراطي،
وذلك حينام صار ما كان ُيعدُّ عىل مستوى االحتامل السيايس اليشء األكثر استبعاد ًا حقيقة ملموسة عىل األرض ،أعني احتامل أن يصل
15ـ ميكن الرجوع بصدد املعاين السياس َّية التي يكتسيها مفهوم الجمهور ،إىل كتاب :عبد الله العروي ،من ديوان السياسة ،من ص 78إىل ص .84مرجع مذكور سابقاً.
إىل السلطة حزب ديني -سيايس حيمل قي ًام مناهضة للديمقراط َّية16؛ فام الذي يمكن تو ّقع حدوثه يف هذه احلالة؟ جواب «دريدا» واضح
تم تعطيل الديمقراط َّية وإعالن حالة الطوارئ. تم إلغاء االنتخابات ،أي َّ
وضوح الواقع اجلزائري :لقد َّ
لو حاولنا أن نتساءل ونفكّر بمع َّية «جاك دريدا» يف الداللة الفلسف َّية العميقة التي تكتسيها هذه التجربة التارخي َّية التي ال َّ
شك َّأنا
سنتوصل ال حمالة إىل النتيجة التالية :لتحصني النظام الديمقراطي ضدَّ خصوم الديمقراط َّية واملناوئني هلا ،جيب العمل َّ ليست وحيدة،
َّ
فكأن تأمني عىل تعطيل الديمقراط َّية عن طريق ِّ
شل لعبتها أو آليتها االنتخاب َّية .فإلغاء نتائج االقرتاع معناه إلغاء اللعبة الديمقراط َّية.
الديمقراط َّية ومحاية نظامها يقتيض باستمرار العمل عىل حتصينها ضدَّ نفسها ،حتى لو اقتىض ذلك العمل عىل تعطيل آل َّيات اشتغاهلا.
هكذا نستنتج أنَّه ال يمكن إعطاء تعريف متالحم للديمقراط َّية بدون أن يكون هذا التعريف خمرتق ًا من جديد بسؤال :من هو اجلدير
بالديمقراط َّية ومن هو غري اجلدير هبا؟ من يستحق املشاركة يف الديمقراط َّية ومن ال يستحق املشاركة فيها؟
قوة للحرص أو للتحصني أو لإلقصاء. كل تعريف للديمقراط َّية ينطوي عىل يشء يلغيها ،بمعنى يستلزم أن تصبح الديمقراط َّية َّإذن ُّ
أي تعريف هلا يؤ ّدي إىل نفيها وإلغائها؟ ثم هل يعني هذا َّ
أن َّ فهل يعني هذا َّ
أن «الديمقراط َّية» -كمثل أعىل -مستحيلة؟ َّ
هذا ما حاول «أرسطو» أن يبلوره يف سياق حديثه عن التناقض املالزم «ل ُّلعبة السياس َّية» -بام هو تناقض بني املبدأ الديمقراطي
واملبدأ األرستقراطي -حينام م َّيز بني «املساواة احلساب َّية» و«املساواة اهلندس َّية»؛ فإذا كانت «املساواة احلساب َّية» هي عبارة عن «مساواة
ٍ
«متساو» فإن «املساواة اهلندس َّية» هي أيض ًا توزيع ٍ
متساو عىل اجلميع؛ َّ كم َّية» ،أي مساواة عدد مع عدد آخر ،وتوزيع األعداد بشكل ّ
كل فرد ،وهذا هو مفهوم يتم بكيف َّية جتعله يتناسب ويتوافق مع طبيعة ووظيفة وحاجات ِّكم َّي ًا ،إنَّه توزيع ُّ
لكن عىل نحو «كيفي» وليس ّ
كل «الكوسمولوجيا اليونان َّية» بصفة عا َّمة.«العدالة» ،والتوزيع العادل ليس فحسب لدى «أرسطو» وإنَّام أيض ًا لدى «أفالطون» ويف ِّ
إذن هذا «النمط من اإلنصاف» خمرتق بسؤال :من هو أهل للديمقراط َّية ومن هو ليس كذلك؟ إذن «التوزيع»(أي العدالة) الذي تقتضيه
«املساواة اهلندس َّية» توزيع خمرتق من قبل «مبدأ أرستقراطي» ،عىل عكس التوزيع املعتمد من قبل «املساواة احلساب َّية» فهو خاضع «للمبدأ
أن التناقض بني «العدالة احلساب َّية» و«العدالة اهلندس َّية» هو تناقض مبارش ما بني «مبدأ الديمقراط َّية» و«مبدأ الديمقراطي» ،ممَّا يعني َّ
األرستقراط َّية».
أن «التجربة الديمقراط َّية» هي جتربة نظام غري متطابق مع نفسه ،أو جتربة «مجاعة» غري متامهية مع نفسها. اخلالصة إذن هي َّ
فالديمقراط َّية إذن هي «جتربة عدم التالؤم والتوافق» الذي يطال مع ًا َّ ً
كل من املفهوم والتجربة ،كام يطال من جهة أخرى العالقة ما بني
املفهوم والتجربة ،أو ما بني املثال والواقع ،أو ما بني املساواة واحلر َّية...إلخ.
و«التوجس» الذي يكون مصدرمها ليس «اآلخر الغريب» -الذي كان َّ
حمط ُّ النتيجة إذن هي َّ
أن «جتربة الديمقراط َّية» هي جترية «القلق»
إقصاء مجاعي ،-وإنَّام «اآلخر املحايث» للجامعة وللتجربة اجلارية ،يكفي أن نستحرض التجربة الرتاجيد َّية لسقراط داخل الديمقراط َّية
صحة هذا االستنتاج.يتبي لنا مدى َّاألثينية لكي َّ
16ـ يتعلق األمر بحزب جبهة اإلنقاذ الجزائريَّة التي كان يقودها ع َّباس مدين خالل انتخابات سنة 1985م.
يف الغرب ما هو إال تاريخ السعي املتواصل واملستمر لتصعيد هذه املفارقة وهذا الالتوافق املالزم ملفهوم الديمقراط َّية ،حماوالً بذلك
مصاحلتها مع ذاهتا عرب اسرتجاع ماه َّيتها اإليتيق َّية ،أي عرب ربط السياسة بالسيايس .لقد كان هذا هو الرهان األكرب للحداثة الغرب َّية
خاصة ،لكنَّه رسعان ما اصطدم بالتيار اجلارف واملرسف للثورة الفرنس َّية التي كانت من بني بصفة عا َّمة ولعرص األنوار والتنوير بصفة َّ
نتائجها اإلجياب َّية إعادة مساءلة مبدأ الديمقراط َّية بام هو «مثل أعىل» .سيستمر هذا املسعى أزيد من مخسة وعرشين قرن ًا ،لكي يستطيع
17
سيكف عن مقاومة «تناقض» الديمقراط َّية و«عدم توافقها» مع ُّ يغي نظرته للديمقراط َّية حيث الفكر الفلسفي السيايس املعارص أن ّ
«بالتمزق» و«بالتوتُّر» الذي
ُّ «ماهيتها» لكي يعرتف بالطابع «اهلش» و«املتناقض» و«املفارق» للتجربة الديمقراط َّية ،أي لكي يعرتف
فإن االستشكال أن هذا «القدر» يضعها «فيام وراء» اخلري والرش .ويف احلقيقة َّ تقتضيه ،من حيث هو يشكّل «قدر» الديمقراط َّية ،وعىل َّ
مؤسس املرشوع الديمقراطي وصاحب نظرية «العقد اجلذري ملفهوم الديمقراط َّية قد تزامن مع نشأهتا الثانية يف العرص احلديث مع ِّ
ألنا مضادة للطبيعة االجتامعي» .لقد أكّد «جون جاك روسو» يف الفصل السابع من كتابه الثاين َّ
أن فكرة الديمقراط َّية غري قابلة للتحقيق َّ
اإلنسان َّية .فرشوط الديمقراط َّية احل َّقة ال جتتمع ك ّلها عىل أرض الواقع ،إذ هي يف حاجة إىل دولة صغرية يعرف أفرادها بعضهم بعض ًا،
خاصة جيب القضاء عىل البذخ. وجيب عىل الشعب أن يمتلك من العبقر َّية مقدار ما تقتضيه االستامتة من أجل املصلحة العا َّمة ،وبصفة َّ
أن مثل هذه الرشوط مستحيلة التحقيق ،ومن ضمنها وعىل رأسها نجد الطبيعة األنانَّية لإلنسان ،يف حني تقتيض الديمقراط َّية واضح َّ
يضحي بذاته ومصاحله وكربيائه. ّ يتحول الفرد إىل «مالك»
حسب «روسو» أن َّ
تصور «كلود
تصورين معارصين للديمقراط َّية؛ ُّ اهلش للديمقراط َّية هو ما يمكن إجالؤه أيض ًا من خالل الوقوف عىل ُّ هذا الطابع ُّ
أن الديمقراط َّية تقوم عىل القسمة ،وتعني استحالة حتقيق التوافق لوفور» الذي يرى يف مؤلفاته حول الديمقراط َّية واملسألة السياس َّية َّ
بأن فضاء السلطة «فضاء فارغ» غري قابل للتملك، مكونات املجتمع الواحد .18كام تعني الديمقراط َّية اإلقرار َّ واالندماج بني خمتلف ّ
معرضة
ألنا َّ
جمرد «كائنات فانية» يامرسوهنا بشكل مؤقت ،بل حتى قوانني الديمقراط َّية غري قابلة للتثبيت َّ َّ
وأن الذين يامرسوهنا هم َّ
إن الديمقراط َّية يف نظره ،بام هي مؤسسة عىلباستمرار للنقض من حيث مضامينها ،كام توضع أسسها وركائزها موضع تساؤل ونقدَّ .
جتسد مصدر سلطتها ،عىل غرار ما هو عليه األمر يف ّ
ظل قارة ِّ
بأي حال من األحوال أن تستند إىل هيئة َّ «سيادة الشعب» ،ال يمكن هلا ّ
تدشن جتربة جمتمع «غري قابل للحجز» (،)insaisissable املهمةَّ .إنا ِّ
نظام «احلكم الفردي» ،حيث يضطلع «امللك» أو «املونارك» هبذه َّ
و«غري قابل للتحكُّم» ( ، )immaîtrisableوال يني يعيد باستمرار صياغة هو َّيته ،وما ذلك إال َّ
ألن مواطن الديمقراط َّية ال يمكن يف 19
وهكذا نالحظ ،يف رحاب هذا املنظور ،أنَّه عوض ًا عن التفكري بطريقة سلب َّية يف هذه «القسمة» املحايثة للديمقراط َّية ويف ذلك
يتم التفكري فيهام بام مها يشكّالن «فرصة» لالبتعاد عن «الذات» من أجل االقرتاب من اآلخر واالنفتاح عليه.«الالتوافق» الذي تقتضيهُّ ،
ظل حكم يعرتف ظل جمتمع ديمقراطي ،أي يف ّ تصور املفكر األمريكي «شارل تايلور» ،حيث يرى أنَّه يف ّ
التصور اآلخر الثاين فهو ُّ
ُّ أ َّما
َّ
الشك نمي أناه بشكل أصيل .وممَّا لكل واحد باملساواة ،جيب أن يمنح للجميع وبدون استثناء الفرص نفسها التي تتيح ّ
لكل واحد أن ُي ِّ
17ـ ميكن الرجوع بصدد هذه املسألة إىل طوكفيل ،ونيتشه ،وأنّا آرندت ،ودولوز ،وفوكو ...إلخ.
18 . Le citoyen, p15, textes choisis et présentés par Marie Gaille, Flammarion, Paris, 1998.
19 . C. Lefort, L’image du corps et le totalitarisme. Un homme en trop, Le Seuil, 1976, p.172 - 173.
20 . C. Lefort, Droits de l’homme et politique, L’invention démocratique. Les limites de la domination totalitaire. Fayard, 1983, p.68.
جتسد التكامل بني احلر َّية واملساواة، أن هذه املجتمعات ال يمكن أن ِّ يبي َّاملوجه اليوم للمجتمعات الديمقراط َّية الليربال َّية ّ َّ َّ
إن النقد
بأن الديمقراط َّية ال يمكن أن توسع الفجوة التي تفصل بينهام .فالنقد اليساري يس ّلم َّ
23
أو بني الديموقراط َّية والعدالة ،بل هي ال تني ِّ
اللمساواة حتقق العدالة ،أي ال يمكن أن حتقق مطلبي احلر َّية واملساواة يف الوقت ذاته ،وذلك بحكم كوهنا نظام ًا يقوم أساس ًا عىل َّ
أن املشكل املوجه من قبل اليمني يرى َّ االقتصاد َّية ،أي بحكم كوهنا نظام ًا رأسامل َّي ًا يقوم عىل امللك َّية اخلاصة لوسائل اإلنتاج .بينام النقد َّ
ألن الكائنات اإلنسان َّية من حيث طبيعتها غري ليس هو عدم التالؤم بني املبدأين ،أي احلر َّية واملساواة ،وإنَّام يتعلق بقيمة املساواةَّ ،
إن النقد اليساري ينتهي يف آخر املطاف إىل إقامة متساوية ،وبالتايل فالتعامل معها عىل قدم املساواة معناه رفض سمتها اإلنسان َّيةَّ .24
اللمساواة االجتامع َّية بني العامل والرأسامليني، ألن أسس نقده ـ مثل َّ طالق هنائي بني الديمقراط َّية من جهة والعدالة من جهة أخرىَّ ،
حل هلا يف إطار الليربال َّية .وبالرغم من َّ
أن 25 ألنا لن تعثر عىل ٍّ واللمساواة االقتصاد َّية القائمة عىل اجلنس والعرق -ستحال إىل املستقبلَّ ، َّ
أن ُج َّل املن ّظرين الليرباليني وعىل رأسهم دينامية االقتصاد الرأساميل تنزع إىل إزاحة الكثري من العوائق العرف َّية والثقاف َّية أمام املساواة ،إال َّ
أن الديمقراط َّية الليربال َّية هي من حيث ماهيتها المساوات َّية ،وذلك بحكم االختالف الطبيعي «فوكوياما» يتش َّبثون بأطروحة كون َّ
إن «كوجيف» يذهب بعيد ًا حيث املوجود بني االستعدادات واملواهب ،وبحكم التقسيم الرضوري للعمل الذي يقتضيه االقتصاد .26بل َّ
كلأن الديمقراط َّية الليربال َّية األمريك َّية قد ح َّققت «حلم ماركس املتع ّلق باملجتمع اخلايل من الطبقات» ،ليس بمعنى َّأنا قضت عىل ّ يرى َّ
أن ما تب َّقى من حواجز تعترب رضور َّية من حيث ارتباطها بطبيعة األشياء أكثر ممَّا هي متوقفة اللمساواة االجتامعية ،وإنَّام يعني َّأشكال َّ
عىل إرادة الناس .لقد استطاعت هذه املجتمعات أن حتقق «مملكة احلر َّية» وذلك بالقضاء الفعيل عىل احلاجة الطبيع َّية ،ومتكني الناس من
فإن اخلطر احلقيقي الذي هيدّ د فعلي ًا مستقبل املجتمعات امتالك ما يشتهونه مقابل بذهلم ملقدار أدنى من الشغل .27ويف نظر «فوكوياما» َّ
«اللمساواة االجتامع َّية» وإنَّام هو «شمول َّية املساواة» ،أي السعي لفرض املساواة بني أناس غري متساوين طبيعي ًا.28 الديمقراط َّية ليس هو َّ
21 . J. J. Rousseau, Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes, p.228.
22 . Ch. Taylor, La politique de reconnaissance, Multiculturalisme. Différence et démocratie, p.56 - 59, trad. D.A.Canal, Aubier, 1994.
23 . Francis FuKuyama: «La fin de l’histoire et le dernier homme», p326. Champs Flammarion, 1992.
24 . Ibid, p.326.
25ـ للوقوف عىل االختالف الجذري الذي يوجد يف أساس التص ُّورات السياس َّية الحديثة واملعارصة ،وهو اختالف له عالقة بالكيف َّية التي يت ُّم بها ترصيف «مبدأ الحريَّة»
داخل التجربة الدميقراطيَّة الغربيَّة بني تلك التي تتخذ من «إشباع الرغبة» و«تحقيق الرفاهية» و«السعادة» معيارا ً لها؛ واألخرى التي تتخذ من «تحقيق االعرتاف
الشامل واملتبادل» ومن «شمول َّية املساواة» معيارا ً لها؛ ميكن الرجوع إىل مقايل املنشور مبجلة «األزمنة الحديثة» العدد ،5صيف ،2012تحت عنوان« :نحو إعادة
استشكال فلسفي ملفهوم الحريَّة يف ضوء «الثورات الربيعيَّة».
26 . Ibid, p.328.
27 . Ibid, p.328.
28 . Ibid, p.338.
تصورات ُّ إن هذا التعارض اجلذري يف َّ إن التناقض األسايس الذي سيهدّ د عىل املدى البعيد النظام َّ
العدالة داخل األنظمة الديمقراط َّية الليربال َّية، الديمقراطي الليربايل هو تناقض داخيل له عالقة من جهة أوىل
كل رغبات اإلنسان ،ومن جهة ثانية بالنزوع املرسف إلشباع ّ
املحك مدى مصداق َّية ّ الذي يضع عىل
بالسعي لتحقيق االعرتاف الشامل واملتبادل .ويرى «فوكوياما»
االختيار الديمقراطي ،هو الذي يفتح أمام َّ
أن التهديد األكرب لتلك األنظمة هو املتعلق بشمول َّية االعرتاف
شعوب العامل الثالث باب األمل من جديد يف ألن هذا سيصطدم باحلدود املفروضة من قبل (أي العدالة)َّ ،
ديمقراط َّية مستقبل َّية عادلة ،ال هي ديمقراط َّية الطبيعة ذاهتا.29
بأن النظام السيايس األكثر عدالً الذي يقرتب أكثر من النموذج املثايل ويأخذ بعني االعتبار أكثر من غريه قيمتي احلر َّية إن «راولز» مقتنع َّ َّ
واملساواة وقيمة التسامح ،هو بال شك النظام الديمقراطي الليربايل .وإذا كان «راولز» يقدّ م نفسه باعتباره «مريد ًا» للفيلسوف األملاين
«إيامنويل كانط» ،فألنَّه يعيد تركيب الصورة الفلسف َّية التي حيرض هبا اإلرث الكانطي األخالقي يف منظومة الفلسفة السياس َّية املعارصة
ويصوغها عىل النحو التايل :كيف يمكن االنتقال إىل جمتمع مدين حتكمه قوانني عادلة حتدِّ د احلر َّية الفرد َّية وتصوهنا يف الوقت نفسه؟.30
لكل املجتمعات ،مهام كانت خصوصياهتا ال أعىل كون َّي ًا صاحل ًا ّ
أن التعامل مع «العدالة كإنصاف» ،يعترب قيمة شاملة ،بل ومث ً هلذا يرى َّ
التارخي َّية واالجتامع َّية والثقاف َّية .فنجاعة النظام الديمقراطي الليربايل تتم ّثل يف التوافق الذي يقيمه بني العدالة واحلر َّية ،حيث جيعله
فألنا رضورية للحفاظ عىل االستقرار االجتامعي، أساس التعاقد االجتامعي .وإذا كان «راولز» يعطي األولو َّية للعدالة عىل احلر َّيةَّ ،
وحل النزاعات األنان َّية التي يمكن أن تعيق تالحم املجتمع؛ هلذا ال يمكن للعدالة أن تتناىف مع أهم مبدأ إنساين ،وهو املتع ّلق باحلر َّية ّ
فاللمساواة الفرد َّية ،حتى وإن كانت احلر َّية «العادلة» ال تتامهى مع «النزعة املساوات َّية» ( )L’égalitarismeالتي هي خرق ملبدأ احلر َّيةَّ .
لتطور قوى اإلنتاج املؤ ّدي للزيادة يف اإلنتاج واالستهالك .ولكي توجد احلر َّية االجتامع َّية هي رشط رضوري لالخرتاع ،وال غنى عنها ُّ
كل فرد بحق الولوج إىل أكرب مقدار من احلر َّية يسمح به النظام القائم ،الذي فعل َّي ًا عىل أرض الواقع جيب ـ حسب «راولز»-أن يتمتع ُّ
األول األسايس الذي تقوم عليه نظر َّية العدالة لدى «راولز» ،وهو «مبدأ املساواة حمط مساواة بني اجلميع .يتع ّلق األمر هنا باملبدأ َّ
هو ُّ
اللمساواة يتم تنظيم َّ
يف احلر َّية» .أ َّما املبدأ الثاين (أي مبدأ االختالف) ،فهو يقتيض لكي تتحقق العدالة فعل َّي ًا عىل أرض الواقع أن َّ
31
كل املجتمعات وتبنَّاها «القانون الدويل» ،ستؤ ّدي ال حمالة تم تعميمها عىل صعيد ِّ يعتقد «راولز» َّ
أن مبادئ نظريته يف العدالة إذا ما َّ
إىل إقصاء األنظمة الدكتاتور َّية واالستبداد َّية ،لكنَّها مع ذلك ستكون متساحمة مع األنظمة غري الديمقراط َّية (أي األنظمة الرتاتب َّية) حتى
أن شمولية «حقوق اإلنسان» و«مبادئ النزعة اإلنسان َّية» مثل مبدأ «التسامح» من ألن «راولز» يعتقد َّلو كانت ثيوقراط َّية؛ وما ذلك إال َّ
كل املشاكل حلل ِّ
شأهنا ،إذا ما اعتمدت من قبل الدول كأساس للرتبية ،أن تؤ ّدي إىل حتقيق السعادة .فالرتبية بالنسبة إىل راولز هي مفتاح ِّ
االقتصاد َّية واالجتامع َّية ،فعىل سبيل املثال ليس النقص يف اإلنتاج الغذائي هو السبب الرئيس وراء املجاعة ،وإنَّام االضطهاد املامرس عىل
الشعوب من قبل بعض احلكَّام ،وفساد النخبة ،واستعباد املرأة (الناجم عن سيادة بعض األحكام املسبقة الدين َّية) ،والكثافة السكَّان َّية.
هلذا فأفضل ما يمكن القيام به هو إعطاء اجلميع فرص ًا متكافئة للولوج إىل الرتبية والصحة.
تصورها لإلنسان
ُّ تعرضت «نظرية العدالة» لدى «راولز» لعدَّ ة انتقادات متحورت أساس ًا عىل مبادئها ،كام انص َّبت عىل
لقد َّ
والدولة.
جمرد للفرد
تصور َّاألول َّية لإلنسان -عىل ُّ تتأسس نظرية العدالة لدى راولز -وخاصة من خالل افرتاض «قناع اجلهل» املم ّيز للوضع َّية َّ َّ
التصور امليتافيزيقي للفرد هو الذي ُوضع موضع نقد جذري، ُّ باعتباره ذات ًا حمايدة بدون جذور تارخي َّية أو اجتامع َّية أو ثقاف َّية؛ وهذا
وخاصة من قبل «النزعة اجلامعو َّية»( ، )Le communautarismeالتي تؤكّد عىل اجلذور التارخي َّية والثقاف َّية للفرد ،وعىل أنَّه خمرتق َّ
بالتقاليد واألعراف واملؤسسات والقيم التي ينتمي إليها ،وبالتايل فحر َّية الفرد هلا طابع تارخيي -إثني وثقايف َّ
ألن جماهلا ليس الفرد
املعزول وإنَّام املجتمع الذي خيرتق الفرد َّية .وهكذا فـ«مبدأ املساواة» احلديث -يف نظر هذا املذهب -جيب أن يبني «هو َّية اإلنسان
ٍ
متساو ،وعىل نحو عىل أساس االختالفات» ،حيث يتيح العبور من «العدالة الصور َّية» -التي تبع ًا هلا يصبح العدل هو التعامل بشكل
لتنوع الدوائر ،وهذه هي وجهة النظر التي متطابق يف مجيع احلاالت -إىل «العدالة الواقع َّية» التي تأخذ بعني االعتبار تعدُّ د اخلريات تبع ًا ُّ
يدافع عنها الفيلسوف األمريكي املعارص «ميكائيل والزر»( .32 )Michael Walzerيرفض هذا األخري اعتبار «مبدأ العدالة» مبدأ واحد ًا
سيقدّم «راولز» فيام بعد تأويلني آخرين لنظريته يف العدالة ،يحاول أن يجيب فيهام عن بعض اعرتاضات النقاد:
Libéralisme politique,tr. fr., Paris, PUF, 1995 ; La justice comme équité ,tr. fr., Paris, La Découverte, 2006.
32 . Michael Walzer, Sphères de Justice, tr. fr. Paris, Le Seuil, 1996.
فتصورنا للعدالة جيب أن يتالءم مع خصوص َّية دوائر وجماالت اخلري ،فهناك دائرة ُّ ومتنوعة ،وهلذا
ّ األولية كثرية ووحيد ًاَّ ،
ألن اخلريات َّ
حيث «املال» هو املصدر املهيمن ،وهناك جمال آخر حيث السلطة هي اهلا َّمة ،وهناك جمال ثالث تُعترب فيه املعرفة هي املعيار األسايس،...
وهكذا فالسعي لتحقيق اإلنصاف يعني العمل بكيف َّية جتعل االمتيازات أو املعيقات ال جتتمع يف جهة واحدة .لك َّن االعرتاض عىل نظر َّية
مؤسسة حمايدة، ألن «أولو َّية العدل عىل اخلري» قادت «راولز» إىل جعل الدولة َّ العدالة لدى «راولز» يطال أيض ًا مكانة الدولة ودورهاَّ ،
لكل فرد تصور ليربايل للدولة ،فقد حرص دورها يف ضامن احلر َّيات السياس َّية واملدن َّية األساس َّية ،بحيث يمكن ِّ
وبالتايل انتهت إىل تكريس ُّ
تصور خاص ملا ينبغي أن يكون عليه أي ُّتصوره للخري ،وهذا لن يتحقق إال بتبنّي مبادئ ال تفرتض مسبق ًا َّأن حي ّقق غاياته بالرجوع إىل ُّ
أي بعد إتيقي ،وتصبح الدولة جهاز ًا حمايد ًا .إال َّ
أن حياد َّية تصور أدايت للسياسة ،حيث تصبح بدون ّ اخلري املشرتك .ويرتتَّب عىل هذا ُّ
ظل جمتمع عادل أن تضمن سياق ًا مالئ ًام لتحقيق االستقالل الذايت لألفراد ،وذلك نظر ًا
33 الدولة -يف نظر «شارل تايلور» -ال يمكن يف ِّ
لتنوع اخلريات االجتامع َّية وعدم تكافؤ فرص الولوج إليها.
ُّ
وبصفة عا َّمة يمكن تلخيص مشهد الفلسفة السياس َّية املعارصة يف جانبه املتع ّلق بإشكال َّية العالقة بني الديمقراط َّية والعدالة ،يف
التصورين التاليني:
ُّ االستقطاب املحصور يف
بالتصور املساوايت للعدالة -وفيه تندرج نظر َّية «راولز» يف العدالة -يسعى أساس ًا ملعاجلة
ُّ األول للعدالة الذي يمكن أن ننعتهالتصور َّ ُّ
َّ
تنصب عىل مفعوالت اللمساواةُّ اللمساواة االقتصاد َّية ببلورة سياسات إعادة توزيع اخلريات ،وهي يف جوهرها سياسات تصحيح َّية َّ
التصور الثاين للعدالة -الذي يندرج فيه التيار اجلامعوي(ميكائيل والزر )..والتيار االشرتاكي (أكسيل ُّ االقتصا َّدية وليس عىل عللها .أ َّما
ألن «إنكار االعرتاف» -يف نظره -هو الذي هونيث -نانيس فرايزر) -فهو يدعو إىل تبنّي اسرتاتيجيات تقوم عىل «سياسة االعرتاف»َّ ،
أن مثل هذه االسرتاتيج َّية تقتيض اعتامد سياسة التغيري اللمساواة داخل املجتمعات الليربا َّلية؛ وواضح َّ يوجد وراء خمتلف أشكال َّ
اللمساواة االقتصاد َّية ذاهتا بدالً من مفعوالهتا.
ألنا تروم معاجلة علل َّ اجلذريَّ ،
املحك مدى مصداق َّية االختيار ّ تصورات العدالة داخل األنظمة الديمقراط َّية الليربال َّية ،الذي يضع عىل
إن هذا التعارض اجلذري يف ُّ َّ
الديمقراطي ،هو الذي يفتح أمام شعوب العامل الثالث باب األمل من جديد يف ديمقراط َّية مستقبل َّية عادلة ،ال هي ديمقراط َّية ليربال َّية،
وال هي اشرتاك َّية توتالتار َّية.
33 . Charle Taylor, L’histoire des idées politiques, p.569, PUF, 2004.
حممد املصباحي*
العدالة «هيئة راسخة يف النفس حتمل عىل مالزمة التقوى واملروءة مجيع ًا حتى حتصل ثقة النفوس بصدقه»
املستصفى يف أصول الفقه ،ج ،1ص .186
مقدمة:
ّ
مل ينتج الفالسفة املسلمون شيئ ًا ذا بال يف موضوع العدل والعدالة الذي يلتقي فيه األخالقي والسيايس والديني ،يف حني كتب
ّ
وألن الغزايل مفكر خمرضم تتقاطع فيه صفات الفقيه واألصويل واملتكلم الفقهاء كثري ًا يف العدل الفقهي ،وعلامء الكالم يف العدل اإلهلي.
ختص العدالة قاب ً
ال ألن يرقى إىل مستوى واملتصوف وربام الفيلسوف ،فمن حقنا أن نتساءل هل ما يوجد لديه من مادة معرفية متناثرة ّ ّ
النظرية؟
بنى أبو حامد رؤيته أو رؤاه للعدالة عىل أساس مرجعيات متعددة ،بل ومتضاربة ،تتكون أوالً من القرآن واحلديث واألخبار املستقاة
من التوراة واإلنجيل والرتاث اإليراين؛ وثاني ًا من نظريات ومفاهيم ورؤى تنتمي إىل جمال الفلسفة اليونانية وامتداداهتا يف الفلسفة
العربية اإلسالمية ،والتأثريات الفقهية واألصولية والكالمية والصوفية .وهذا الغنى يف موارده املعرفية ويف أعامله الكثرية واملتنوعة يف
مشارهبا ومراميها ،جيعل من الصعب استخالص نظرية ،أو حتى فكرة واضحة متامسكة عن العدالة من متون الغزايل ،الس ّيام أنّه كان
مل ينتج الفالسفة املسلمون شيئ ًا ذا بال يف ُيكثر من إيراد األخبار واألقوال يف كتاباته عن املوضوع ،فتختلط
موضوع العدل والعدالة الذي يلتقي فيه آراؤه وخالصاته وإشاراته ورشوحه بالنصوص التي يوردها،
فال ندري كيف نفرز موقفه اخلاص من اخلليط العجيب من
األخالقي والسيايس والديني ،يف حني كتب
مواقف اآلخرين .ومع ذلك سنعمل عىل استعراض رسيع ملفهوم
الفقهاء كثري ًا يف العدل الفقهي ،وعلامء العدل لديه عرب أربعة حماور تتصل بعالقات العدل بالعقل واحلق
الكالم يف العدل اإلهلي واألخالق والسياسة والرشيعة واالقتصاد.
وقبل أن نخوض يف هذا املضامر ،ال بدّ من اإلشارة إىل تنوهيه بقيمة ومكانة العدالة سواء يف اإلسالم أو يف الثقافتني اإليرانية واليونانية.
إن اهلل تعاىل مل خيلق شيئ ًا يف األرض أفضل من العدل ،والعدل ميزان اهلل يف أرضه ،من ال يورد هذا القول« :قال موسى ـ ع .س ـ ّ فمث ً
تعلق به أوصله اجلنة ،...وقال قتادة يف تفسري هذه اآلية ﴿أالّ تطغوا يف امليزان﴾ قال أراد به العدل ،فقال :يا ابن آدم اعدل كام ّ
حتب أن
يعدل فيك».1
.1العدل والعقل:
أول أمر اشتغل عليه الغزايل بصدد العدل هو ربطه بالعقل ربط ًا ذاتي ًا .إذ بالرغم من اختالف فضيلة العقل ،وهي احلكمة أو العلم ،
2
يتم وزن األفعال ،ومقايسة اآلراء فإن العقل حارض يف تشكيل مفهوم العدل باعتباره معيار ًا له ،إذ به ّ عن فضيلة العدل وهي اإلنصافّ ،
ٍ
متعال عن األشياء ّ
وألن املعيار بطبيعته تعسف ًا وظل ًام.
يتم ردع النفس حتى ال تتجاوز أفعاهلا وآراؤها حدودها فتصري ّ واملامرسات ،وبه ّ
املعارة ،فسيكون العقل ضامن ًا للحياد والنزاهة للعدل .فإذا س ّلمنا بأنّه ال عدل بدون عقل ،فإنّه يف املقابل ال عقل بغري إنصاف وعدل.
ولذلك متى غاب العقل حرض الظلم ،ومتى حرض العقل كان العدل .وهذا ما أشار إليه ابن منظور صاحب لسان العرب قائالً:
أن الظلمحجته ،أي معقوليته الصادرة عن العقل ،يف حني ّ أن للعدل ّ حجة له ،وقد ُس ّمي ظامل ًا» ،ممّا يعني بالنسبة إلينا ّ
«وكذلك الظامل ال ّ
وح َّجتُه داحضة عند
حجةُ ، سمه ّاملحتج به ّ
ّ حجةّ ،
ألن «سمى ظلمه هنا ّ احلجة ألنّه ال عقل له .كام نقرأ يف لسان العرب أيض ًا َّ يفتقر إىل ّ
بحجة موجبة ح ًّق ًا». ِ
حجة ُم ْبطل ،فليست ّ حجة ،إال ّأنا ّ ﴿ح َّجتهم داحضة عند رهبم﴾؛ فقد ُس ّميت ّ اهلل ،قال اهلل تعاىلُ :
أن بعض صفات األفعال ،كاحلسن والتالزم «الذايت» بني العقل والعدل يطرح مشكلة من النوع املعتزيل .فأصحاب هذا املذهب يرون ّ
والقبح والعدل هي صفات ذاتية ،أو نفسية بلغتهم ،أي ّأنا تتسم بالرضورة التي جتعلها غري قابلة لالنفصال« ،فال يمكن نسخها ،مثل
معرفة اهلل تعاىل والعدل وشكر املنعم ،فال جيوز نسخ وجوبه ،ومثل الكفر والظلم والكذب فال جيوز نسخ حتريمه» .3أ ّما الغزايل فال يقبل
1ـ الغزايل ،أبو حامد محمد ،الترب املسبوك يف نصيحة امللوك ،ع ّربه عن الفارسية أحد تالمذته ،ضبطه وص ّححه أحمد شمس الدين ،بريوت ،دار الكتب العلمية،1988 ،
ص .49
2ـ عن فضيلة الحكمة باعتبارها مثرة تهذيب قوة الفكر« :ولنذكر جمل العلم األخص من هذه العلوم السياسية فإنّه املقصود بالبيان ،ومجامع القوى التي ال ب ّد من
تهذيبها ثالث :قوة التفكر وقوة الشهوة وقوة الغضب .ومهام هذبت قوة الفكر وأصلحت كام ينبغي ،حصلت بها الحكمة ،التي أخرب الله عنها حيث قال﴿ :ومن يؤتَ
الحكمة فقد أويت خريا ً كثريا ً﴾ ،ومثرتها أن يتيرس له الفرق بني الحق والباطل يف االعتقادات وبني الصدق والكذب يف املقال ،وبني الجميل والقبيح يف األفعال ،وال يلتبس
عليه يشء من ذلك ،مع أنّه األمر امللتبس عىل أكرث الخلق» ،ميزان العمل ،القاهرة ،مكتبة الجندي ،ب .ت ،ص .54-53
3ـ عن االرتباط الذايت للعدل والظلم باألفعال ،وليس بعدم جواز نسخه كام يدّعي املعتزلة يقول« :ما من حكم رشعي إال وهو قابل للنسخ ،خالفاً للمعتزلة فإنّهم
قالوا من األفعال مالها صفات نفسية تقتيض حسنها وقبحها ،فال ميكن نسخها ،مثل معرفة الله تعاىل والعدل وشكر املنعم ،فال يجوز نسخ وجوبه ،ومثل الكفر والظلم
والكذب فال يجوز نسخ تحرميه ،وبنوا هذا عىل تحسني العقل وتقبيحه وعىل وجوب األصلح عىل الله تعاىل ،وحجروا بسببه عىل الله تعاىل يف األمر والنهي» ،الغزايل،
املستصفى يف أصول الفقه ،بريوت ،دار صادر ،ط ،2010 ،2ج ،1ص .144
ودخول العقل يف ماهية العدالة واالعتدال ُي ِدث وظيفة أخرى هي التوسط .فالفضائل ،كالعفة والشجاعة ،هي فضائل بسبب دخول
العدالة يف حدها ،فيتحدد معناها بالتوسط بني اإلفراط والتفريط ،أي بني رذيلتني متقابلتني هلا؛ كالشجاعة وسط بني التهور واجلبن،
والكرم وسط بني التبذير والتقتري ،والعفة بني الشبقية وفتور الشهوة ...،إلخ .يف مقابل العدل ،الذي له مقابل واحد هو الظلم.4
ولعل دخول العقل يف رسم ماهية العدل هو الذي محل الغزايل عىل اإلقرار بدور كوسمولوجي له بنا ًء عىل أقوال مأثورة يف املوضوع،
كالقول الذي يثبت «وبمثل هذا العدل قامت السموات واألرض» ،5وكاحلكمة التي نقلها عن سقراط «العامل مركب من العدل ،فإذا
اجلور ال يثبت وال يستقر» ،6وكأنّه بفضل هذا العدل الكوسمولوجي حيصل االنسجام الذي يضمن االستقرار بني العوامل املختلفة. جاء ْ
أن العامل صادر من عدل اهلل« :وأنّه سبحانه وتعاىل ال موجود سواه إال وهو حادث بفعله وفائض من أكثر من ذلك ،يذهب الغزايل إىل ّ
عدله عىل أحسن الوجوه وأكملها وأمتّها وأعدهلا».7
باختصار « ...ظهور العدل من كامل العقل ،وكامل العقل أن ترى األشياء عىل ما هي ،وتدرك حقائق باطنها وال تغرت بظاهرها،...
فكل من مل يتيقن ذلك فليسرت بصورها .وحقيقة هذه األعامل ما ذكرناه وأوضحناهّ ، والعاقل من نظر أرواح األشياء وحقائقها وال يغ ّ
ال مل يكن عادالً ،ومن مل يكن عادالً مأواه جهنم .فلهذا السبب كان رأس مال السعادات كلها العقل» .ويورد
8
بعاقل ،ومن مل يكن عاق ً
حديث ًا نبو ّي ًا يربط فيه بني حق أو إنصاف املظلوم وزكاة العقل ،أي صفوته« :وقال ـ عليه ص .س ـ «ن ََصفة املظلوم زكاة العقل»» .
9
4ـ عن أنواع الظلم يقول« :الظلم نوعان :أحدهام ظلم السلطان لرعيته ،وجور القوي عىل الضعيف ،والغني عىل الفقري؛ والثاين ظلمك لنفسك ،وذلك من شؤم
معصيتك ،فال تظلم ُليفع عنك الظلم» ،الترب املسبوك ،ص 47؛ يورد تقسيامً ثالثياً للظلم :ظلم الناس لنفسها ،الظلم يف املعامالت ،والظلم يف االعتقادات ،وظلم إزاء
النفس :املعايص «وقال قتادة :الظلم ثالثة أرضب :ظلم ال يغفر لصاحبه ،وظلم ال يدوم ،وظلم يغفر لصاحبه .فأ ّما الذي ال يغفر لصاحبه فهو الرشك بالله تعاىل .قال الله
تعاىل ﴿إ ّن الرشك لظلم عظيم﴾ [لقامن ]13؛ وأ ّما الظلم الذي ال يدوم فهو ظلم العباد بعضهم لبعض؛ وأ ّما الظلم الذي يغفر لصاحبه فهو ظلم العبد نفسه ،بارتكاب
الذنوب ثم يرجع إىل ربه ويتوب ،فإ ّن الله يغفر له برحمته ،ويدخله الجنة بفضله» ،نفسه ،ص .50-49
5ـ نفسه ،ص 54؛ عن االعتدال يف الفضائل واألخالقية انظر ميزان العمل ،م .م ،.ص .75-72
6ـ الغزايل ،أبو حامد ،الترب املسبوك ،ص .61
7ـ الغزايل ،أبو حامد محمد ،إحياء علوم الدين ،كتاب قواعد العقائد ،عني به الشيخ محمد الدايل بلطة ،بريوت ،املكتبة العرصية ،2009 ،الجزء ،1ص .128
8ـ نفسه ،ص .23
9ـ نفسه ،ص .59
تعو ْد نفسك االشتغال إال بنوع لطف ممزوج بسياسة» .10ولعل القناعة تدخل يف باب عدم جتاوز احلدود ،حيث ينصح ً
قائال« :أن ال ّ
بالشهوات من لبس الثياب الفاخرة وأكل األطعمة الطيبة ،لكن تستعمل القناعة يف مجيع األشياء ،فال عدل بال قناعة».11
ويستدعي احلق الرشعي االلتزام بمبدأ املساواة ،وذلك حينام يتخذ العدل شكل العقاب .فمعاقبة املجرم جيب أن تكون عىل قدر
إجرامه ،مساوية للفعل الذي اقرتفه .12وتعظم فكرة املساواة لتصل إىل أن تكون أساس ًا «للعدل التام» ،عندما يتعلق األمر بمحاكمة
يفضل
رجلني :أحدمها معروف وصاحب جاه ،والثاين نكرة وجمهول املكانة .يف هذه احلالة عىل احلاكم أن ينظر إليهام بعني واحدة ،وأن ال ّ
أحدَ مها عىل اآلخر ،بسبب غنى األول وفقر الثاين ،أو شهرة األول وغربة الثاين.13
ويف هذا السياق ،سياق املساواة ،يثري الغزايل مسألة شائكة وهي شهادة الفاسق باحلق .فالغزايل جييز أحيان ًا خرب الفاسق إن ُع ِلم «من
قرينة حاله أنّه ال يكذب حيث ال غرض له فيه» .ومن أجل هذا يميز بني الفسق ،الذي هو «بينه وبني اهلل تعاىل» ،وبني الثقة« :وقد حيصل
كل من تُرى العدالة يف ظاهره يصدق، فسق يكذب ،وال ّ كل من َمن الثقة بقول الفاسق ما ال حيصل بقول عدل يف بعض األحوال .وليس ّ
فإن البواطن ال يطلع عليها» .14وجييز الغزايل أن يدخل الغلط والكذب عىل وإنّام نيطت الشهادة بالعدالة الظاهرة لرضورة احلكمّ ،
بنص القرآن ،...فصار الفسق أن «الفاسق مردود الشهادة والرواية ّ العدول لغرض خفي .15لك ّن القاعدة العامة بالنسبة إىل أيب حامد ّ
مانع ًا من الرواية ،كالصبا والكفر والرق ،يف الشهادة».16
10ـ إحياء علوم الدين ،كتاب آداب النكاح ،ج ،2ص 65؛ عن العدالة الكوسمولوجية يذكر« :حكمة :قال سقراط :العامل مركب من العدل ،فإذا جاء الجور ال يثبت وال
يستقر» ،الترب املسبوك ،ص .61
11ـ الترب املسبوك يف نصيحة امللوك ،م.م ،.ص .27
12ـ عن أخالق العدل ينقل هذا القول املأثور« :سأل عمر بن عبد العزيز محمدا ً بن كعب القرظي فقال :صف يل العدل ،فقال :كل مسلم أكرب منك سناً فكن له ولدا ً،
كل مجرم عىل قدر جرمه ،وإياك أن ترضب مسلامً سوطاً واحدا ً عىل حقد منك فإ ّن ذلك يصريك
ومن كان أصغر منك فكن له أباً ،ومن كان مثلك فكن له أخاً ،وعاقب ّ
إىل النار» ،نفسه ،ص .20
كل الناس يقول« :والعدل التام هو أن تساوي بني املجهول الذي ال يعرف ،وبني املحتشم صاحب الجاه املعروف يف مقام واحد يف
13ـ عن رضورة التعامل بالتساوي مع ّ
الدعاوى ،وتنظر أيضاً بعني واحدة ،وال تفضل أحدهام عىل اآلخر ألجل أن أحدهام فقري واآلخر غني ،فإ ّن الجوهر والخزف يف اآلخرة بسعر واحد .وال يحرق عاقل نفسه
بالنار ،لحشمة األغيار» ،نفسه ،ص .57
متهام فليسأل من
14ـ عن تقديره للفاسق يف بعض الحيثيات يقول« :وكذلك يسأل عبده وخادمه ليعرف طريق اكتسابه فهاهنا يفيد السؤال ،فإذا كان صاحب املال ً
غريه ،فإذا أخربه عدل واحد قبِله .وإن أخربه فاسق يعلم من قرينة حاله أ ّن ال يكذب حيث ال غرض له فيه ،جاز قبوله ،أل ّن هذا أمر بينه وبني الله تعاىل ،واملطلوب ثقة
كل من ترى العدالة يف ظاهره يصدق ،وإنّ ا نيطت
كل من فسق يكذب ،وال ّ
النفس .وقد يحصل من الثقة بقول الفاسق ما ال يحصل بقول عدل يف بعض األحوال .وليس ّ
الشهادة بالعدالة الظاهرة لرضورة الحكم ،فإ ّن البواطن ال يطلع عليها» ،إحياء علوم الدين ، ،كتاب الحالل والحرام ،ج ،2ص 172؛ لك ّنه يف مكان آخر يقول« :وال يجوز
قبول قول الفاسق ورمبا كان صادقاً ،بل نعني باملقبول ما يجب العمل به ،وباملردود ما ال تكليف علينا يف العمل به» ،الغزايل ،املستصفى يف أصول الفقه ،بريوت ،دار
صادر ،ط ،2010 ،2ج ،1ص .183
عدوال فالغلط جائز عليهم ،والكذب لغرض خفي جائز عليهم ،أل ّن العدل أيضاً قد يكذب،
ترسب الكذب والوهم إىل أقوال العدول يقول« :فإ ّن النقلة وإن كانوا ً
15ـ عن ّ
والوهم جائز عليه ،فإنّه قد يسبق إىل سمعهم خالف ما يقوله القائل وكذا إىل فهمهم .فهذا ورع مل ينقل مثله عن الصحابة فيام كانوا يسمعونه من عدل تسكن
نفوسهم إليه» ،إحياء علوم الدين ،كتاب الحالل والحرام ،ج ،2ص .161
16ـ املستصفى يف أصول الفقه ،ج ،1ص 186؛ أ ّما رواية الكافر «فال خالف يف أ ّن رواية الكافر ال تقبل ألنّه متهم يف الدين ،وإن كانت تقبل شهادة بعضهم عىل بعض
عند أيب حنيفة ،...وهو أوىل من قولنا الفاسق مردود الشهادة ،والكفر أعظم أنواع الفسق» ،نفسه ،ج ،1ص 185؛ وهو يف أكرث من مناسبة يع ّرف العدالة باإلسالم «قلنا
إذا كان ح ّد العدالة هو اإلسالم من غري ظهور فسق فقد تحقق ذلك فلم يجب التتبع حتى يظهر الفسق» ،املستصفى يف أصول الفقه ،ج ،1ص .186
.3العدل األخالقي:
يضفي الغزايل عىل النوع األخالقي من العدل أمهية خاصة .فهو حتت تأثري النظرة األفالطونية يعتربه فضيلة النفس ككل ،بينام
ختتص هبا قوى بعينها :فاحلكمة أو العلم فضيلة العقل ،والشجاعة فضيلة النفس الغضبية ،والعفة فضيلة
ّ الفضائل الثالث األخرى
النفس الشهوية .وتعود أمهية العدل األخالقي إىل كونه عالمة عىل كامل الفرد ككل ،وليس ّ
ألن له وظيفة اجتامعية.
والكامالت أربعة أمور :أوهلا جعله العقل فضيلة ،أي نسبته إىل جمال العمل واألخالق؛ ثانيها جعله املجاهدة كامالً للشجاعة؛ وثالثها
جعله اإلنصاف كامالً للعدالة ،وأخري ًا جعله هذه املبادئ الفلسفية «أصوالً للدين عىل التحقيق».
حلضور العقل يف العدالة وجه آخر استلهمه الغزايل من فلسفة أفالطون النفسية واألخالقية والسياسية ،وهو اخلضوع واالنقياد؛
إذ ال تتحقق العدالة يف النفس إال بخضوع وانقياد القوتني الشهوانية والغضبية للقوة الفكرية العقلية« :ومهام أصلحت القوى الثالث
وجعلت القوتان (الشهوانية والغضبية) منقادتني للثالثة ،التي هي الفكرية وضبطت عىل الوجه الذي ينبغي ،وإىل احلد الذي ينبغيُ ،
العقلية ،فقد َحصلت العدالة» .18والغاية من انقياد القوى الالعقلية للعقل هي حتقيق االنسجام بينها وبني فضائلها .ومعنى االنسجام أن
يكون ترتيب الفضائل ترتيب ًا رضوري ًا ،أي خاضع ًا إلمرة العقل« :الفضائل وإن كانت كثرية فتجمعها أربع تشمل ُش َعبها وأنواعها ،وهي
احلكمة والشجاعة والعفة والعدالة .فاحلكمة فضيلة القوة العقلية ،والشجاعة فضيلة القوة الغضبية ،والعفة فضيلة القوة الشهوانية،
تتم مجيع األمور .ولذلك قيل بالعدل قامت السموات واألرض».19 والعدالة عبارة عن وقوع هذه القوى عىل الرتتيب الواجب ،فبها ّ
أن فضيلة العدالة هي ثمرة ترتيب الفضائل الثالث ،بل العكس هو الصحيح ،العدالة هي علة الرتتيب بني بيد أنّه ال ينبغي أن نفهم ّ
الفضائل ،خصوص ًا إذا علمنا ّ
أن العدالة هي علة الفضائل يف هناية األمر.
وتعود أمهية العدل األخالقي ،من جهة أخرى ،إىل كونه ثمرة انسجام بني قوى النفس وفضائلها ،ممّا يؤهله للقيام بوظيفة إعداد الفرد
ألن ارتكاب الذنوب الذي هو ظلم، لسعادة عليا ،هي سعادة اآلخرة .يف مقابل الظلم ،الذي هو إخالل باالنسجام والتوازن والتوسطّ ،
سواء إزاء النفس أو إزاء الغري ،هو إخالل بالتوازن الذي يفيض إىل انعدام الفضيلة.
وتندرج العدالة النفسية أو األخالقية حتت أقسام «العلم العميل» الثالثة :علم النفس ،والعلم بسياسة األهل والولد واخلدم ،وعلم
«أهم هذه الثالثة هتذيب النفس وسياسة البدن ورعاية العدل من هذه الصفات ،حتى إذا اعتدلتّ سياسة أهل البلد .غري أنّه يعترب ّ
أن
تعدّ ت عدالتها إىل الرعية البعيدة من األهل والولد ،ثم إىل أهل البلد» .21ويف سياق اإلعالء من شأن عالقة العدل باإلنصاف واإلحسان
ْأوىل الغزايل أمهية خاصة ألحد املوضوعات يورد هذه األقوال اجلميلة« :سئل ذو القرنني فقيل له :أي يشء
املتصلة بالعدل السيايس ،وهو عامرة الدنيا أنت به أكثر رسور ًا؟ فقال شيئان :أحدمها العدل واإلنصاف،
والثاين أن أكافئ من أحسن إ ّيل بأكثر من إحسانه».22
وخراهبا ،فالعامرة ال تكون وال تدوم إال بالعدل،
وال خترب وال تنقرض إال بالظلم :والسلطان ويقوم الغزايل بإخراج العالقة بني العقل والقوتني الشهوية
العادل من عدل بني العباد ،وحذر من َ
اجل ْور والغضبية إخراج ًا ديني ًا قائالً « :وجيب أن ُيعلم ّ
أن العقل من
والفساد؛ والسلطان الظامل شؤم ال َيبقى ملكه جوهر املالئكة ومن جند البارئ ،ج ّلت قدرتهّ ،
وأن الشهوة
والغضب من جند الشيطان ،فمن جيعل جند اهلل ومالئكته أرسى
وال يدوم
وأول ما تظهر شمس العدلجند الشيطان كيف يعدل يف غريهم؟ ّ
يف الصدر ،ثم ينرش نورها يف أهل البيت وخواص امللك ،فيصل
شعاعها إىل الرعية ،ومن طلب الشعاع يف غري الشمس فقد طلب املحال ،وطمع فيام ال ينال» .
23
.4العدالة السياسية:
بجانب العدل األخالقي ،يشري الغزايل بني الفينة واألخرى إىل العدل السيايس؛ وللتعبري عن تقديره الفائق للعدل السيايس يورد مجلة
و«أحب الناس إىل اهلل تعاىل وأقرهبم إليه
ُّ من األحاديث النبوية من بينها« :عدل السلطان يوم ًا واحد ًا ُّ
أحب إىل اهلل من عبادة سبعني سنة»،
السلطان العادل ،وأبغضهم إليه وأبعدهم منه السلطان اجلائر» .24وكام كان الرتتيب واالنسجام أحد املقومات الذاتية للعدل األخالقي،
أن العدل السيايس هو عبارة عن تنظيم أجزاء املدينة عىل غرار كذلك سيكون النظام مقوم ًا ذاتي ًا للعدل السيايس ،خصوص ًا إذا علمنا ّ
ألن له رذيلة واحدة مضادة له هي الظلم،مر بنا ليس العدل السيايس وسط ًا بني رذيلتنيّ ، التنظيم الذي ختضع له قوى النفس األربع .وكام ّ
شأنه يف ذلك شأن النظام الذي تقابله رذيلة واحدة هي الفوىض.
فإنا إن كانت كاملة فقد ال حتتاج إىل الفضائل والعدالة السياسية ،وإن كانت تقتيض التوفيق واالنسجام بني الفضائل األخرىّ ،
األخرى كالشجاعة .وهنا يستند الغزايل يف إثبات هذه الفكرة عىل قول مأثور يقول« :سأل اإلسكندر أرسطاطاليسّ :أيام أفضل للملوك
الشجاعة أم العدل؟ فقال أرسطاطاليس :إذا عدل السلطان مل حيتج إىل شجاعة» .25ومع ذلك ،كثري ًا ما كان الغزايل يربط العدل السيايس
جل النِّعم ،بعد نعمة اإلسالم ،الصحة واألمن؟ واألمن إنّام يكون من أن َأ ّ
سمعت ّ
َ «أو ما
باألمن ،والسلطان بخالفة اهلل يف األرضَ :
سياسة السلطان ،فيجب عىل السلطان أن يعمل بالسياسة ،وأن يكون مع السياسة عادالًّ ،
ألن السلطان خليفة اهلل ،...ويف األمثالَ :ج ْور
جور الرعية بعضهم عىل بعض سنة واحدة» .26كام ينقل حديث ًا نبوي ًا جيعل العدل ،ومرادفه اإلنصاف ،هو الكلمة
السلطان مائة عام ،وال ْ
«إن اهلل تعاىل ّملا أهبط آدم إىل األرض أوحى إليه أربع كلامت ،وقال :يا آدم علمك وعلم مجيع ذريتك عىل
التي بني اإلنسان واإلنسانّ :
هذه الكلامت األربع ،وهي :كلمة يل ،وكلمة لك ،وكلمة بيني وبينك ،وكلمة بينك وبني الناس؛ أ ّما الكلمة التي يل فهي أن تعبدين ال
ترشك يب شيئ ًا؛ وأ ّما التي هي لك فأنا أجازيك بعملك؛ وأ ّما الكلمة التي هي بيني وبينك ،فمنك الدعاء ومني اإلجابة ،وأ ّما الكلمة
التي بينك وبني الناس فهي أن تعدل فيهم وتنصف بينهم» .27وباإلضافة إىل آثارها االجتامعية احلميدة ،جتلب العدالة السياسية لصاحبها
الذكر اجلميل.28
وعن حماربة الدين للظلم السيايس ينقل لنا الغزايل أحاديث نبوية منها« :من حكم بني اثنني بظلم فلعنة اهلل عىل الظاملني» ،وقال « :ثالثة
ال ينظر اهلل إليهم :سلطان جائر كاذب ،وشيخ زان ،وفقري متكب» 29؛ وقال« :رجالن من أمتي ُيرمان شفاعتي :ملك ظامل ،ومبتدع ٍ
غال ّ ّ
يف الدين يتعدى احلدود» ،وقال« :مخسة قد غضب اهلل عليهم ...أمري قوم يطيعونه يأخذ حقه منهم وال ينصفهم من نفسه وال يرفع الظلم
عنهم ،ورئيس قوم يطيعونه وال يساوي بني القوي والضعيف وحيكم بامليل واملحاباة.30» ...
.5العدالة الدينية:
إن «الدين والسلطان توأمان ،وقيل الدين ُأ ّس ،والسلطان حارس .وما ينطلق الغزايل يف تصوره للسلطان السيايس من القول املأثور ّ
أس له فمهدوم ،وما ال حارس له فضائع» .31وبناء عىل ذلك ،كان الغزايل يعترب العدل السيايس فرع ًا من فروع اإليامن« :واألعامل ال ّ
التي هي فروع اإليامن هي جتنب املحارم وأداء الفرائض ،ومها قسامن :أحدمها بينك وبني اهلل تعاىل ،مثل الصوم والصالة واحلج والزكاة
والكف عن الظلم» .واملسؤولية عنّ واجتناب رشب الرشاب والعفة عن احلرام .واألخرى بينك وبني اخللق ،وهي العدل يف الرعية
كل من يدخل حتت إمرته« :جيب ّأل تقنع برفع يدك عن الظلم ،لكن ُت ّذب غلامنك الظلم ال تقترص عىل ذات امللك ،بل تتسع لتشمل ّ
وعملك ونوابك ،فال ترىض هلم بالظلم ،فإنك تُسأل عن ظلمهم كام تُسأل عن ظلم نفسك » .32ويضيف« :ويف التوراةّ :
كل وأصحابك ّ
عمله فسكت عنه ،كان ذلك الظلم منسوب ًا إليه ،و ُأخذ به وعوقب عليه» .يف مقابل ذلك «إذا عدل [السلطان] ِ
ظلم َعلمه السلطان من ّ
33
الكل شفعاءه ،ومن شفع فيه من هؤالء اخلالئق من املؤمنني كان آمن ًا يوم القيامة من العذاب؛ وإن ظلمهم كان ّ
الكل خصامءه».34 فيهم كان ّ
ووجهها
ُ حق ،قال اهلل تعاىل﴿ :ونضع املوازين القسط ليوم القيامة﴾ ،وقال تعاىل﴿ :فمن ثقلت موازينه فأولئك هم املفلحون ،اآلية﴾.
أن اهلل تعاىل حيدث يف صحائف األعامل وزن ًا بحسب درجات األعامل عند اهلل تعاىل ،فتصري مقادير أعامل العباد معلومة للعباد حتى يظهر
ّ
كل ما كان يف قلب اإلنسان من معرفة«إن ّ
هلم العدل يف العقاب أو الفضل يف العفو وتضعيف الثواب» .ويعترب العدل فرع ًا من اإليامنّ :
36
واعتقاد فذلك أصل اإليامن ،وما كان جاري ًا عىل أعضائه السبعة من الطاعة والعدل فذلك فرع اإليامن ».37
وقد ْأوىل الغزايل أمهية خاصة ألحد املوضوعات املتصلة بالعدل السيايس ،وهو عامرة الدنيا وخراهبا ،فالعامرة ال تكون وال تدوم إال
بالعدل ،وال خترب وال تنقرض إال بالظلم« :والسلطان العادل من عدل بني العباد ،وحذر من اجلَ ْور والفساد؛ والسلطان الظامل شؤم
أن املجوس ملكوا أمر العامل أربعة ألن النبي يقول «ا ُمللك يبقى مع الكفر وال يبقى مع الظلم» .ويف التواريخ ّ ال َيبقى ملكه وال يدومّ ،
وأنم ما كانوا يرون الظلم واجلور يف آالف سنة ،وكانت اململكة فيهم ،وإنّام دامت اململكة بِ َعدهلم يف الرعية ،وحفظهم األمور بالسو ّيةّ ،
وحيمل امللوك مسؤولية عامرة الدنيا وخراهبا« :فينبغي أن تعلم ّ
أن عامرة وعمروا بعدهلم البالد ،وأنصفوا العباد » ّ . دينهم وم ّلتهم جائز ًاَ ،
38
عمرت الدنيا وأمنت الرعايا ،كام كانت عليه يف عهد أزدشري وأفريدون ،...وإذا كان وخرابا من امللوك؛ فإذا كان السلطان عادالً َ
َ الدنيا
السلطان جائر ًا َخربت الدنيا» .ويضيف سبب ًا آخر للخراب غري الظلم ،وهو عجز امللك« :وخراب األرض من شيئني :أحدمها عجز
39 ِ
أن العدل وما يرتتب عليه من عمران ليس من الرعية ،وإنّام من امللك ...« :أ َما ترى أنّه إذا وصف جوره» .40ومعنى ذلك ّ امللك ،والثاين ْ
فإن ذلك دليل عىل عدل امللك وعقله وسداده وحسن نيته يف رعيته ومع وأن أهله يف أمان وراحة ودعة وغبطةّ ، بعض البالد بالعامرةّ ،
صح ما قالته احلكامء :الناس بملوكهم أشبه منهم بزماهنم» .
41
أهل واليته ،وأن ليس ذلك من الرعية؟ فقد ّ
وعندما يقارن بني العدل اإلهلي والعدل البرشي ال جيد وجه ًا للشبه ،فاهلل «حكيم يف أفعاله عادل يف أقضيته ال يقاس عدله بعدل
العباد؛ إذ العبد يتصور منه الظلم بترصفه يف ُملك غريه ،وال يتصور الظلم من اهلل تعاىل ،فإنّه ال يصادف لغريه ُملك ًا حتى يكون ترصفه
فكل ما سواه من إنس وجن و َم َلك وشيطان وسامء وأرض وحيوان ونبات ومجاد وجوهر وعرض ومدرك وحمسوس حادث فيه ظل ًامّ ،
اخرتعه بقدرته بعد العدم اخرتاع ًا وأنشأه إنشا ًء بعد أن مل يكن شيئ ًا» .42بل إنّه يذهب أبعد من ذلك إىل القول ّ
إن ابتالءه العباد برضوب
يسلم من هذا الخطر أحد من امللوك إال ملك عمل بالعدل واإلنصاف ،ليعلم كيف يطلب العدل واإلنصاف يوم القيامة» ،نفسه ،ص .14
36ـ إحياء علوم الدين ،كتاب قواعد العقائد ،ج ،1ص 161؛ عن الربط بني العدل اإللهي ورمزية امليزان يورد« :ولهام من حديث أيب هريرة وعائشة استعاذته من
عذاب القرب ،وأنّه حق وحكمة عدل عىل الجسم والروح عىل ما يشاء وأن يؤمن بامليزان ذي الكفتني واللسان وصفته يف العظم أنّه مثل طبقات السموات واألرض توزن
األعامل بقدرة الله تعاىل ،والصنج يومئذ مثاقيل الذر والخردل تحقيقاً لتامم العدل ،وتوضح صحائف الحسنات يف صورة حسنة يف كفة النور فيثقل بها امليزان عىل قدر
فيخف بها امليزان بعدل الله» ،إحياء علوم الدين ،كتاب قواعد العقائد ،م.م ،.ص
درجاتها عند الله بفضل الله ،وتطرح صحائف السيئات يف صورة قبيحة يف كفة الظلمة ّ
.129
37ـ الترب املسبوك يف نصيحة امللوك ،ص .14عن ربطه الحق بالقلب ...« :أ ّما الذي ليس مبتأول ،وهو املعاند بلسانه بعد معرفة الحق بقلبه ،فذلك ،» ...املستصفى ،ص
.85
38ـ نفسه ،ص .44
39ـ نفسه ،ص 44؛ ويقول« :روي أنّه كلام كانت الوالية أعمر ،كانت الرعية أوىف وأشكر .وكانوا يعلمون أ ّن الذي قالته العلامء ونطقت به الحكامء صحيح ال ريب فيه،
وهو قولهم :إ ّن الدين بامللك ،وامللك بالجند ،والجند باملال ،واملال بعامرة البالد ،وعامرة البالد بالعدل يف العباد .فام كانوا يوافقون أحدا ً عىل الجور والظلم ،وال يرضون
لحشمهم بالخرق والغشم ،علامً منهم أ ّن الرعية ال تثبت عىل الجور ،وأ ّن األماكن تخرب إذا استوىل عليها الظاملون» ،نفسه ،ص .46
40ـ نفسه ،ص .52
41ـ نفسه ،ص .52-51
42ـ إحياء علوم الدين ،قواعد العقائد ،ج ،1ص .128
وكعادته ،ال ينظر إىل العدل القضائي الدنيوي يف حدّ ذاته ،بل يربطه بالعدل يف اآلخرة ،حيث ينقل هذا اخلرب عن عيل بن أيب طالب:
«ويل لقايض األرض من قايض السامء حني يلقاه ،إال من عَدَ ل وقىض باحلق ومل حيكم باهلوى ،ومل َي ِمل مع أقاربه ،ومل ُيبدّ ل حك ًام خلوف
ٌ
أو طمع ،لكن جيعل كتاب اهلل مرآتَه ونصب عينيه وحيكم بام فيه».44
من هنا جاءت التعاريف األصولية الثالثة للعدالة :فهي أوالً «عبارة عن استقامة السرية والدين» ،46وهي ثاني ًا «هيئة راسخة يف النفس
َت ِمل عىل مالزمة التقوى واملروءة مجيع ًا ،حتى حتصل ثقة النفوس بصدقه ،فال ثقة بقول َمن ال خياف اهلل تعاىل خوف ًا وازع ًا عن الكذب »،47
أن صورة العدالة يف هذه التعريفات حتيل عىل هيئة أخالقية راسخة و«حدّ العدالة ـ ثالث ًا ـ هو اإلسالم من غري ظهور فسق» .48وبالرغم من ّ
فإنا مع ذلك ليست مفطورة لدى اجلميع عىل السواء ،إذ «املشاهدة والتجربة دلت عىل وكأنا غريزة فطرية يف نفس املؤمننيّ ،
يف النفسّ ،
فإنا ال
أن العدالة هيئة راسخةّ ، فساق املؤمنني أكثر من عدد عدوهلم» .بعبارة أخرى ،بالرغم من تنصيص التعريف الثاين عىل ّ
49 ّ
أن عدد ّ
إن أفعاهلا وصفاهتا ذات طبيعة عالئقية ،وال العرضية ،أو ْقل ّ
تظل يف مستوى الصفة َ ترقى إىل مرتبة الطبيعة اجلوهرية جلميع الناس ،وإنّام ّ
تُفهم إال يف تقابلها الضدّ ي مع الكذب والفسق والكفر ،ويف تالزمها الذايت مع الصدق واحلق واالستقامة والتقوى واملروءة والدين.
43ـ نفسه ،ج ،1ص 128؛ ويقول عن استحالة الظلم عىل الله« :وال ميكن الظلم يف أفعاله ،أل ّن الظامل هو الذي يترصف يف ملك غريه ،والخالق تعاىل ال يترصف إال يف
وكل ما يكون وهو كائن فهو ملك له ،وهو املالك بال شبيه وال رشيك .وليس ألحد عليه اعرتاض بلِ َم وكيف ،لكن له الحكم واألمر يف ّ
كل ملكه ،وليس معه مالك سواهّ ،
أفعاله ،وما ألحد غري التسليم والنظر إىل صنعه والرضا بقضائه» ،الترب املسبوك يف نصيحة امللوك ،م .م ،.ص .12
44ـ نفسه ،م.م ،.ص .16
45ـ عن العدالة بوصفها رشطاً يف الشهادة والرواية يقول« :قال الله تعاىل﴿ :إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا﴾ (الحجرات )6 :وهذا زجر عن اعتامد قول الفاسق،
ودليل عىل رشط العدالة يف الرواية والشهادة» ،املستصفى يف أصول الفقه ،ج ،1ص 186؛ عن كون العدالة رشطاً يف قبول الفتوى يقول« :والرشط الثاين أن يكون عدالً
مجتنباً للمعايص القادحة يف العدالة .وهذا يشرتط لجواز االعتامد عىل فتواه ،فمن ليس عدالً فال تقبل فتواه .أ ّما هو يف نفسه فال .فكأ ّن العدالة رشط القبول للفتوى ،ال
رشط صحة االجتهاد» ،نفسه ،ج.200-199 ،2
46ـ نفسه ،ج ،1ص .186
47ـ نفسه ،ج ،1ص .186
48ـ نفسه ،ج ،1ص .186
49ـ نفسه ،ج ،1ص .187
استطاع الغزايل أن يتصور العدل مبدأ كوني ًا، أن «يستجرئ عىل الكذب وعىل عدم التوقي عن بعض املباحات
أي قيمة كونية تقيم املوازين بني السموات القادحة يف املروءة» ،50وبالتايل َمن أبدى جرأة عىل الكذب ُر ّدت
شهادته ،وال ُيؤخذ بروايته .51ومع ذلك ّ
فإن ربط الغزايل العدالة
واألرض وبني األنظمة السياسية واحلقوقية
إن الوحي ليس معيار ًا
بالدين ،باعتباره إسالم ًا ،مل يمنعه من القول ّ
واألخالقية بسبب ربطه إ ّياه بالعقل .من وحيد ًا للحكم عىل املرء «جمهول احلال» بالعدل ،ألنّه يمكن احلكم
هنا كان العدل قرين العامرة ،والظلم قرين عىل األعرايب غري املعروف بنا ًء عىل اخلربة ،أو انطالق ًا من «تزكية
اخلراب َمن عرف حا َله».52
كل من الفسق والكفر ،ألنّه متى حرضا مر بنا ،ال ينفرد الكذب وحده بالتضاد مع العدالة ،ولكن يتقاسم معه ذلك أيض ًا ّ وكام ّ
واملتأول ،يقيض بعدم قبول
ّ غابت عدالة النفس وبطل االستئناس بشهادهتا واإلقرار بروايتها .فبعد أن يميز الغزايل بني الكافر واملعاند
بمتأول ،وهو املعاند
ّ فإن اليهودي أيض ًا ال يعلم كونه كافر ًا .أ ّما الذي ليس
متأولّ ،
كل كافر ّ متأوالً أم الّ ،
«ألن ّ رواية الكافر سواء كان ّ
كتورع النرصاين فال ينظر إليه ،بل هذا املنصب ال يستفاد إال املتأول عن الكذب ّ
وتورع ّ
ّ بلسانه بعد معرفة احلق بقلبه ،فذلك ممّا يندر.
باإلسالم» .53ومع ذلك ال يكفي اإلسالم للحكم عىل «جمهول احلال» بالعدل «وعندنا ـ يقول الغزايل -ال تعرف عدالته إال بخربة باطنة،
والبحث عن سريته ورسيرته».54
َص القرآن ،...لو قبلت روايته لقبل بدليل اإلمجاع ،أو بالقياس
حق الفاسق ،فهو «مردود الشهادة والرواية بن ّ واحلكم نفسه أصدره يف ّ
عىل العدل ا ُملجمع عليه ،وال إمجاع يف الفاسق ،وال هو يف معنى العدل يف حصول الثقة بقوله .فصار الفسق مانع ًا من الرواية ،كالصبا
والكفر ،وكالرق يف الشهادة ،و«جمهول احلال» يف هذه اخلصال ال يقبل قوله ،فكذلك «جمهول احلال» يف الفسق ،ألنّه إن كان فاسق ًا فهو
مردود الرواية ،وإن كان عدالً فغري مقبول أيض ًا للجهل به.55» ..
أن «العدالة ال تُع َلم إال بالظن» 56ال باليقني« ،لك ّن
فإن الغزايل يرى ّ
حق لنا أن نتكلم عن إيبستيمولوجية العدالة يف هذا املجالّ ، وإذا ّ
ُعرف باخلربة احلكم بالصدق واجب ،وهو معلوم بالنص ،وقول العدل صدق معلوم بالظن و َأمارات العدالة» ّ ،
ألن «العدالة إنّام ت َ
57
كل ما ّ
يدل عىل ركاكة دينه إىل حد يستجرئ عىل الكذب باألعراض الدنيوية ،كيف وقد رشط يف العدالة التوقي عن بعض املباحات القادحة يف املروءة»، 50ـ «وبالجملة ّ
نفسه ،ج ،1ص .186
محل اإلجامع أن يرد إىل اجتهاد الحاكم ،فام ّ
دل عنده عىل جراءته عىل الكذب ر ّد الشهادة به» ،نفسه ،ج ،1ص .186 51ـ «فإ ّن الضابط يف ذلك فيام جاوز ّ
52ـ نفسه ،ج ،1ص .187
53ـ نفسه ،ج ،1ص .185
54ـ نفسه ،ج ،1ص .186
55ـ نفسه ،ج ،1ص 186؛ «واملجهول ال تسكن النفس إليه ،بل سكون النفس إىل قول فاسق جرب باجتناب الكذب أغلب منه إىل قول املجهول ،...أ ّما ر ّد خرب الفاسق
واملجهول فقريب من القطع» ،نفسه ،ج ،1ص .188
56ـ نفسه ،ج ،2ص ،108ويضيف يف املعنى نفسه« :وال يحكم إال بقول عدل ،وتعرف عدالته بالظن ،وكذلك االجتهاد يف الوقت والقبلة» ،نفسه ،ج ،2ص .108
57ـ نفسه ،ج ،2ص .108
58ـ نفسه ،ج ،2ص .202
خاتمة:
تقصيه حلقيقة العدل ،كان الغزايل عادالً حين ًا يف مجعه بني النظرية الفلسفية والنظرية الدينية ،أي بني البناء العقيل والبناء الرشعي،
يف ّ
فإن الغزايل -الفقيه واألصويل واملتصوف املعروف بعدائه للفلسفة -بانفتاحه ال لألمر الرشعي .لكن مهام يكنّ ، وحين ًا آخر كان أكثر مي ً
عىل الفلسفة لتطعيم رؤيته اإلسالمية للعدالة ،يكون قد برهن عىل أنّه ال مناص لإلسالم من الفلسفة ،أي من التعاطي العقيل مع القضايا
أن العدل مل يكن لدى حجة اإلسالم ينفصل يفس ّ وأنا شكلت جزء ًا حيوي ًا من فعاليته املعرفية والتارخيية .وهذا ما ّ
النظرية والعلميةّ ،
ِ
عن العقل واحلق واإلنسان ،إذ أنّه كان يشتق موقفه من العدل من هذه األقانيم الثالثة ،عل ًام بأنّه مل يكن ينظر إىل اإلنسان كغاية يف ذاته،
أو كذات مستقلة يف فكرها وإرادهتا ،وإنّام كوسيلة لعبادة اهلل ،والشهادة بأنّه موجود وواحد.
ومع ذلك ،استطاع الغزايل أن يتصور العدل مبدأ كوني ًا ،أي قيمة كونية تقيم املوازين بني السموات واألرض وبني األنظمة السياسية
واحلقوقية واألخالقية بسبب ربطه إ ّياه بالعقل .من هنا كان العدل قرين العامرة ،والظلم قرين اخلراب.
متحية حول طبيعة العدالة بأنواعها املختلفة ،وتوابعها املختلفة ،فلكوهنا تعكس جتربته الذاتية والتارخيية
ّ ولئن كانت أفكار الغزايل
الغنية املطبوعة حين ًا باحلظوة والنجاح ،وأخرى بالفشل والقلق واحلرية.
عادل حدجامي*
مقدمة أولى :
ّ
يسوغ لنا اليوم ،يف سياق احلديث عن قضية العدالة ،أن نفزع إىل عهد
هناك سؤال َّأول يفرض ذاته عند قراءة مثل هذا العنوان ،ما الذي ّ
وامى مثل عهد اإلغريق؟ وإىل فيلسوف قىض منذ ما يقارب مخسة وعرشين قرن ًا؟ درس َّ
جمرد تكرار بعض املعلومات حول فلسفة اليونان السياس َّية ،فمنطق اهلم املدريس بالطبع ،فليس من املفيد يف يشء أن تكون الغاية َّ ليس ّ
الفكر غري منطق التعليم ،وعرض معلومات مدرس َّية حول فيلسوف ما ،مهام كان العرض دقيق ًا ،ليس كافي ًا يف ذاته لصناعة فكر؛ الغاية
أن درس اليونان السيايس ،ودرس أفالطون منه حتديد ًا، كل انشغال تعليمي أو تارخيي يف احلقيقة ،إنَّه اعتقادنا َّ عندنا أمر آخر أعمق من ّ
هو اليوم ،يف زمن متثل فيه الديمقراط َّية التمثيل َّية اإلبدال املرجعي األوحد يف السياسة ،نص معارص لنا كُل َّي ًا (من جهة اإلشكال َّية ال من
أن زمن السياسة والقضايا جهة اجلواب طبع ًا) ،بل لعله يكون أقرب إلينا من كثري من املعارصين ،عىل بعد املسافة الزمان َّية بيننا وبينه ،إذ َّ
القيم َّية عموم ًا ليس زمن ًا تارخيان َّي ًا خط َّي ًا ،فالقيم ال ختضع ملنطق التقدُّ م الكرونولوجي ،بل تبقى هي عينها ،متى ما ظلت أسئلة اإلنسان
هي نفسها رغم تبدُّ ل األعصار وتعاقب األيام؛ فكام قد يكون تأمل نشأة وصريورة اإلمرباطور َّية الرومان َّية قدي ًام ،مدخ ً
ال أكثر إجرائ َّية
نص فلسفي قديم حول ماه َّية السياسة فإن النظر يف ٍّ أي حتليل سيايس أو اقتصادي آينَّ ، لفهم واقع اإلمرباطور َّية األمريك َّية اليوم من ّ
أي حتليل صحايف أو «بوليتولوجي» راهن. والديمقراط َّية ،قد يكون أكثر فائدة من ّ
* أكادميي من املغرب
درس اليونان السيايس ،ودرس أفالطون منه ألن أفالطون َّأول من افتتح القول نظري ًا يف هذا األمر ،أو
ليس َّ
حتديد ًا ،هو اليوم ،يف زمن متثل فيه الديمقراط َّية ألنَّه َّأول من ارتقى ليجعل من التأريخ السيايس فلسفة ،بل َّ
ألن
أي جهة وجلنا إليه ،هو قول يف السياسة كل أثر أفالطون ،ومن ّ َّ
التمثيل َّية اإلبدال املرجعي األوحد يف السياسة،
تصورنا ،هو أكثر الفالسفة «تسييس ًا»، ُّ ابتداء ،فأفالطون ،يف
نص معارص لنا كُل َّي ًا (من جهة اإلشكال َّية ال من ف من األقدمني «رأس ًا» يف السياسة فإضافة لكونه أكثر من أ َّل َ
جهة اجلواب طبع ًا) ،عىل بعد املسافة الزمان َّية فإن مدار الرهان يف نصوصه (اجلمهور َّية ،السيايس ،القواننيَّ ،)...
أن زمن السياسة والقضايا بيننا وبينه ،إذ َّ كلها متعلق بالسياسة ،إذ ال يكاد جيد القارئ حماورة أو رسالة أو
مفهوم ًا له خيلو من محولة أو شحنة سياس َّية ،وهكذا فالسياسة عند
القيم َّية عموم ًا ليس زمن ًا تارخيان َّي ًا خط َّي ًا
أفالطون مل تكن موضوع ًا فكري ًا فقط ،بل كانت أفق الفكر بر َّمته،
فحتى يف القضايا األبعد عن السياسة ،مثل الرغبة أو الشجاعة أو
خيص الرغبة مثالً ،والتي هي مفهوم «أخالقي» أساس ًا ،ال يمكن ضبط نازع اخلطابة ،يبقى النظر دائ ًام واقع ًا يف أفق السياسة ،ففي ما ُّ
الرغبات إال حني نجعل من الفرد مواطن ًا يف مدينة ،فخارج املدينة ،كام سنبني ،ليست األخالق وحدها ما يكون غري ممكن التحقق ،بل
أن فهم نظر َّية األخالق عنده خارج فلسفته اإلنسان نفسه ،وهو ما ينتج عنه ،من الناحية املنهج َّية بالنسبة إلينا ،أنَّه يصري من غري املمكن َّ
السياس َّية ،وهذا ينسحب يف تصورنا عىل جمموع النظريات األخرى ،بام فيها امليتافيزيقا ،ويف هذا نرى أنَّه ذهب يف األمر أبعد من كثري
ليمسّ من فالسفة السياسة املعارصين .واألمر ال يقترص عنده عىل املضامني فحسب ،أي املفاهيم واألفكار والقيم ،بل هو يتعدَّ ى ذلك
أسلوب الكتابة نفسه ،فاملحاورات وأسلوب احلوار السقراطي ال يفهامن إال يف تقابلهام مع اخلطابة السوفسطائ َّية ،فاجلدل سياسة ،متام ًا
كام اخلطابة سياسة ،إذ بسبب اخلطابة استبدَّ حزب الغوغاء باملدينة ،فض َّيعوا أهلها وأباحوهم للسبارطيني ابتداء ،قبل أن يستبيحوهم
لبعضهم بعض ًا ،فيعمد رعاع أثينا ،بأثر من حتريض أهل الديامغوجيا ،لذبح خيارهم وعىل رأسهم سقراط؛ هكذا فحتى جثة سقراط
فإن الثأر لسقراط ممَّن قتله ،وإحقاقه ما هو أهل له لن يكون إال بالسياسةَّ ،
ألن وشوكران موته ال يفهامن ،عند أفالطون ،إال سياسي ًا ،هلذا َّ
إقامة العدالة التي ستمنع أن يقتل السوقة الفالسفة ،لن يتم إال بإقامة مدينة األخيار ،ضدَّ ديكتاتور َّية الرعاع التي اختار هلا األثينيون اس ًام
أخف وقع ًا يف النفوس ،وهو «ديموكراثيا» ،سلطة الشعب. َّ
ماهية السياسة()politéia
ملاذا يوجد اإلنسان املجتمع؟ وبحسب أي ضابط ينتجه؟ بعبارة أكثر دقة ،ما مصدر القانون والسياسة عند أفالطون؟
إذ املدينة يشء طارئ ومصطنع فرضته احلاجة العمل َّية واالقتصاد َّية فقط ،وليس أبد ًا عنرص ًا يف الفطرة أو الطبيعة ،وهذا ما ِّ
يفس كوننا 2
وعدو لنفسه».3
ٌّ «كل إنسان هو عدو ِّ
لكل إنسان ،بل نصادف عنده عبارات مثرية أقرب ما تكون إىل لغة هوبس؛ عبارات من مثل ُّ
اجلواب هو بالنفي قطع ًا ،فأفالطون ليس فيلسوف ًا وضعي ًا ،وإن كان ال ُبدَّ من التوصيف فاألقرب هو أن نقول إنَّه ،سياسي ًا ،فيلسوف
التصور الوضعي يف السياسةَّ ،
فإن اعتقاده الفلسفي العام، ُّ «طبيعي» ـ أو طبيعاين ـ فإن كان قوله بصناع َّية املدينة جيعله يقرتب من
وحضور فكرة النموذج عنده ،كام سنبني ،جتعل تربئته من املثال َّية ،بشكل تام ،غري ممكنة.
مؤداه؟
ما المقصود من وصف الطبيعان َّية هذا؟ وما َّ
إن الطبيعة ،يف صورهتا وقوانينها التي ندرك منها ،هي املرجع واألصل ،وإال لكان قوله هذا هو البي أنَّنا ال نقصد بذلك كونه يقول َّ
من ّ
كل عمره يف الر ّد عىل حججها ،فالطبيعة عند أفالطون ليست هي قوانني املادة كام هي قائمة عينه ما تقول به السوفسطائ َّية التي قىض هو َّ
يف الواقع الغفل الذي أمامنا ،والقانون األخالقي ليس بحال هو قانون األقوى أو سيادة األعنف ،كام زعم السوفسطائيون ،4الطبيعة
احلس يمنعنا عن أن نتبينها يف بساطتها؛ َّإنا الطبيعةأن َّ املقصودة هنا هي يشء آخرَّ ،إنا طبيعة «العقل» كام ينعكس يف العقل فعالً ،لوال َّ
(مهمة الكوسمولوجيا َّ األوىل التي ليست هذه الطبيعة الثانية إال نسخة عنها ،بل ومانعة هلا من الظهور؛ َّإنا الطبيعة كام ينبغي أن نراها
(مهمة السياسة واألخالق) ،عىل أن نفهم َّ
أن َّ والفلسفة) ،وكام ينبغي أن نجتهد بمجهودنا اإلنساين املحايث لنصنع قوانني عىل شاكلتها
هذا االجتهاد ليس بحال اجتهاد ًا لتحقيق غاية سابقة علينا تتجاوزنا ،بل دافعه حتقيق منفعتنا وصاحلنا فقط ،فاملصلحة ،كام سنرى ،وليس
أي مبدأ فوقي ،هي املعيار يف الدفاع عن نظام اجلمهور َّية ،وبالتايل هي املعيار الذي بسببه نرفض نظام الديمقراط َّية. ّ
كل ما قد نفهمه من الطبيعة الغفل أيض ًاَّ ،إنا طبيعان َّية ٍ
متعال ،لكنَّها ضدَّ ِّ كل نزوعطبيعان َّية أفالطون هي ُمرك َّبة إذن ،فهي طبيعان َّية ضدَّ ّ
أن ما نعقله خمتلف جذر َّية ال تستند إىل احلس؛ طبيعان َّية حتاول أن جتعل من نظام ما نعقله معيار ًا قيمي ًا لنا ،وهذا ال يتأتَّى إال حني نفهم َّ
وأن سبب انخداعنا وخلطنا بني األمرين هو استئناسنا بظلمة الكهف التي متنعنا من أن نميز بينهام ،فنتخيل للحظة ،كام ختيل عم نراهَّ ، َّ
أن حقيقة الطبيعة هي هذه الظواهر الواقعة أمامنا فقط .
5 ثراسيامخوسَّ ،
لكن كيف هي هذه الطبيعة املعقولة يف ذاهتا؟ وكيف نتب َّينها؟ ثم ما معنى أن نستلهمها؟ وماذا ستكون قيمة ما اقرتحه اليونان كنظم
سياس َّية ،وضمنها نظام الديمقراط َّية ،من منظور فلسفة تريد أن تنشئ سياسة بمرجع َّية الطبيعة املعقولة هذه؟
كل لغة).
كل اللغات ،مع بعض الفروق يف حروف الفقرات بحسب أبجديَّة ّ
ترتيب النصوص األفالطون َّية ،وهو مو َّحد يف ّ
2ـ الجمهوريَّة ،الكتاب األ َّول ،369 - 358 ،ونشري هنا إىل أنَّنا نعتمد الرتجمة العربيَّة التي اقرتحها الدكتور فؤاد زكريا (دار وفاء للطباعة ،اإلسكندريَّة ،)2004 ،وهي
موسعة لفكر أفالطون السيايس .
ترجمة ت َّم التمهيد لها مبقدّمة َّ
3ـ « »Tout homme est pour tout homme un ennemi et en est un pour lui-mêmeالقوانني ، C 626وبالنسبة إىل أنرثوبولوجيا أفالطون عموماً نحيل عىل
الكتابني األول والثاين ( D 632و () C 674من املحاورة نفسها ،وعىل تيامووس )( C 87و .) d 90
4ـ الجمهورية ،الكتاب األول 343ـ .344
5ـ غورجياس ( ،)a 492 e 491نعتمد هنا الرتجمة الفرنس َّية القدمية نسبياً لـ ( ،) Alfred Croisetعن دار . 1923 ,Les Belles Lettres
كل هذه األسئلة إىل سؤال واحد رئيس تنتظم حوله ،وهو سؤال العدالة ،أو أصل يمكن يف احلقيقة ،وكام سنتبني فيام بعد ،أن نر َّد َّ
أن هناك شيئ ًا مثري ًا وفاتن ًا يدركه من يقرأ نصوص أفالطون ويتد َّبرها يف جمموعها ،وهو الرتابط العضوي املوجود العدالة باألحرى ،إذ َّ
تصور أو فكرة عنده حتيل ،من جهة أوىل ،عىل فكل ُّكل املفاهيم والقضايا ،فأفالطون كان مولع ًا بالرتتيب ،أو لنقل بالتضمنيُّ ، بني ِّ
عنرص سابق عليها تكون حمتواة فيه ،وحتيل ،من جهة ثانية ،عىل عنرص آخر يكون هو حمتوى فيه ،هكذا يأيت متنه يف النهاية أشبه بنظيمة
كربى( ،)epuzzlأو لنقل -إن شئنا مثاالً قريب ًا -أشبه بالدُّ مى الروس َّية التي يكون فيها السابق حمتوي ًا التايل ،صعود ًا ونزوالً ،وهذا ليس
إن أفالطون فيلسوف نسقي جد ًا ،لكنَّها عىل مستوى املفاهيم والقضايا فقط ،بل وعىل مستوى الصياغة أيض ًا ،وهو ما يسمح لنا بالقول َّ
ألنا ليست نسق َّية خط َّية ،بل نسق َّية «مرآت َّية» أو انعكاس َّية ،هكذا فال يمكن فهم موقفه السيايس نسق َّية خمتلفة عن نسق َّية أرسطو مثالًَّ ،
تصوره األخالقي عن اإلنسان تصوره الكوسمولوجي الذي هو فوق املدينة َّأوالً ،وال باستقالل عن ُّ وتصوره عن املدينة يف استقالل عن ُُّّ
تصور هذا الرتاتب اخلارجي العام باستقالل عن دفاعه عن الفلسفة التي تبني ً
وفضائله التي يتحقق هبا داخل املدينة ثانيا؛ كام ال يمكن ُّ
تعمي عىل هذه احلقيقة من جهة ثانية ،فالرصاع مع اخلطابة ليس رصاع ًا معرفي ًا حقيقة هذا العامل من جهة ،ومن حربه عىل اخلطابة التي ِّ
أي واحد بأنم متساوون يف امللكاتَّ ،
وأن َّ خالص ًا ،بل هو سيايس َّأوالً ،فاخلطابة هي املسؤولة عن خراب املدينةَّ ،
ألنا توهم األفراد َّ
مهمة ،وهو الوهم الذي يمثل املدخل لفساد السياسة. 6 أي َّ منهم قادر عىل شغل ّ
يفس ،من الناحية املنهج َّية ،أمور ًا دقيقة جد ًا يف متن أفالطون ،مثل إقحامه لقضاياأن هذا التقابل والرتاتب هو وحده ما ِّ واحلقيقة َّ
كوسمولوج َّية يف سياق حديثه عن العدالة (اجلمهور َّية) ،أو تقديمه للحديث عن الكوسمولوجيا ،باحلديث عن طبقات أهل املدينة
وفضائلهم (تيامووس) ،أو حديثه عن السياسة يف سياق حديثه عن اخلطابة (غورجياس) ،أو حتى حديثه عن احلقيقة يف سياق حديثه عن
الرغبة (املأدبة ،فيدر)؛ هكذا تأيت فلسفة أفالطون يف النهاية كقطعة نسيج؛ نسيج داليل يكون فيه ُّ
كل خيط ُمنشدّ ًا إىل اخليوط األخرى،
بمسوغ مدريس
ّ كل اجلهات ،فال إمكان للفصل بني القضايا يف فلسفة أفالطون إال فال يتأتى القبض عليه وحده دون وصله بام يشدُّ ه من ِّ
كل القضايا األخرى ،وهو سيجر معه حت ًام قضايا أخرى ،أو عىل األصحَّ ، ُّ خالص ،ويف السياسة األمر أوضح من غريه ،فتناول السياسة
ما سيبدو واضح ًا بذاته من اآلن.
غاية السياسة
للسياسة غاية جليلة عند أفالطون ،هي خلق التوافق بني جمموع املصالح اإلنسان َّية وفق نموذج العدالةَّ ،إنا ما يضمن عيش اجلميع
بام يتفق مع مبادئ اخلري األعم .لك َّن السياسة ال يمكن أن حتقق دورها هذا ما مل نوفر رشوط ًا ونرفع موانعَّ ،أول هذه الرشوط أن ّ
نعرف
الناس بإنسانيتهم ،أي بحقيقة وجودهم يف هذا العامل ومكانتهم فيه ،بعبارة أخرى إنَّنا ال نستطيع أن نجعل الناس يرتقون نحو إنسانيتهم،
وهي إنسان َّية سياس َّية دائ ًام ،ما مل نعرفهم بحقيقتهم «الوجود َّية» ،وهذا دور الفلسفة التي تع ّلم الناس أن «يعرفوا أنفسهم بأنفسهم»،7
ألن اإلنسان جاهل بطبيعته ،فديدنه أن خيضع العقل حني تساعدهم عىل توليد حقائقهم من ذواهتم .لك َّن حتقيق هذه املعرفة ليس يسري ًاَّ ،
ملا دونه من القوى ،وحني حيصل هذا تنتج الفوىض وينتج العنف رضورة .هكذا فالسياسة ليست برناجم ًا إيديولوجي ًا سيط َّبق عىل واقع
مبارش ،بل هي عمل نظري أوالً ،ألنَّه يشرتط الفلسفة يف الوسط؛ فلسفة صاعدة تع ّلم الناس معنى الوجود ودورهم فيه ،وفلسفة نازلة
كل تصور عنها تكشف ،جينيالوجي ًا ،عن بنيات النظم الفاسدة التي ليست فقط نقيض ًا نظري ًا للسياسة الفاضلة ،بل هي مانع عميل لقيام ِّ
يف األذهان ابتداء.
6ـ بروتاغوراس ، b-d 319 ،الجمهورية ،الكتاب الثامن ،558انظر تحليل البُعد السيايس للرصاع مع الخطابة يف الفصلني الثاين والثالث من كتاب:
Platon, François Châtelet, éditions Gallimard, Paris, 1964, pp. 71 -140.
7ـ بحسب هذا السياق تصري عبارة سقراط الشهرية «اعرف نفسك بنفسك »)GNOSIS TEOTON( ،ليست عبارة ذات داللة أخالقية فقط ،بل سياسية خصوصاً،
وسيصري معناها «اعرف مكانك يف هذا العامل ،ومن مث َّة دورك ومهمتك التي وجدت للقيام بها يف املدينة».
جمرد عنارص خارج َّية، تفس من داخل فلسفته حكمه القايس عليها ،إذ ليس من املفيد يف يشء أن نر َّد موقفه من الديمقراط َّية إىل َّ التي ّ
وهو ما يكتفي به كثري من املؤرخني ممَّن يفضل احلكم األخالقي بدل بذل جهد الفهم الفلسفي؛ فموقف أفالطون يف نظرنا ال جيوز ر ُّده
العتبارات نظر َّية خالصة هي مثاليته الساذجة ،أو العتبارات ظرف َّية من مثل أصوله االجتامع َّية وظروف نشأة أرسته االقتصاد َّية ،بل له
ثم يف جتربته مسوغات عمل َّية ،جتد أسباهبا يف معيشه هو كمواطن أثيني شهد حال مدينته هناية القرن اخلامس وبداية الرابع قبل امليالدَّ ، ّ
السياس َّية اخلاصة ،وهي التجربة التي كابد فيها السجن والعبود َّية كام هو معروف .من هذا املنظور ،يبدو أنَّه مل يكن بمكنة أفالطون أن
جمرد النتيجة التي تفس شيئ ًا ،بل هي عينها حتتاج للتفسريَّ ،إنا َّتوجهاته الفلسف َّية املثال َّية فال ّ
يقف من الديمقراط َّية إال ذلك املوقف ،أ َّما ُّ
يراد هلا ،بعدي ًا ،أن تكون سبب ًا للسبب.
عاشت أثينا قبيل القرن الرابع وإ َّبانه وضع ًا معقد ًا وتراجيدي ًا ،إذ ذاق األثينيون طعم اهلزيمة والتقتيل إثر انتصار سبارطة عليهم يف
أن نظام احلكمخضمها كان استثنائي ًا ،إذ َّ
ِّ حرب البولوبونيز التي دامت من سنة 431إىل سنة 404قبل امليالد .9وضع أثينا قبيل احلرب ويف
الذي كان مهيمن ًا هو النظام الديمقراطي ،كام فرضه حزب اجلبل القوي ،أيام احلاكم بسيسرتاتوس ،ضد ًا عىل حزب السهل والبحر
وسيستمر يف هيمنته عىل
ُّ سيتقوى وسيفرض نفسه مع بدايات القرن اخلامس ،باعتباره السلطة األقوى، َّ املحافظني .حزب اجلبل هذا
املدينة إىل حدود عرص برييكلس ،وهو العرص الذي ستبلغ فيه هيمنة الديامغوجيا وسيادة اهلوى ،من منظور أفالطون ،الغاية والنهاية،
فبرييكليس الذي يقدَّ م إلينا يف كتب التاريخ باعتباره نموذج ًا للقائد احلكيم ،هو من منظور أفالطون رمز هليمنة الشعبو َّية وثقافة اهلزيمة
جترأ عىل نقد الفكر الديني والقيمي السائدين ،وعىل رأسهم سقراط .إنَّه رمز كل من َّ التي ستنتهي باحتالل أثينا ،10وبقتل وسحل ّ
للديمقراط َّية فعالً ،لكنَّه رمز لزيف شعاراهتا خصوص ًا ،فالديمقراط َّية التي أعلنت احلر َّية واملساواة والثروة غايات هلا ،ها هي ذي تنتهي
كل أشكال الفساد واالرتشاء ،كام تشهد بذلك حتول مدينة بحجم أثينا إىل مدينة منهزمة حمتلة حيكمها الطغاة ،مدينة تنخرها ُّ إىل أن ّ
كتابات ثيوسيديد ونصوص أريسطوفان الشهرية .
11
8ـ انظر تفصيل أنواع الحكم (األرستقراطي أو حكم األفضل ،الثيموقراطي أو حكم الجند ،األوليغاريش أو حكم األعيان ،الدميقراطي أو حكم الحشود ،األوليغاريش أو
حكم الطغاة) يف الكتاب السابع من الجمهورية.
9ـ للتع ُّرف عىل تاريخ حروب البولوبونيز بتفصيل ،نُحيل من القدامى عىل كتاب ثيوسيديد «تاريخ حرب البولوبونيز» يف ترجمته الفرنسيَّة (غري مرتجم للعربيَّة):
Thucydide, Histoire de la guerre du Péoloponnèse, traduction Jacqueline de Romilly, Raymond Weil et Louis Bodin Paris, Robert Laffont,
1990.
باإلنجليزية هناك ترجامت متعدّدة ،بعضها بدون حقوق نرش ،من بينها:
http://classics.mit.edu/Thucydides/pelopwar.html
أ َّما للتعرف عىل هذه الحرب ،وعىل وضع أثينا عموماً ،بلغة وأسلوب أكرث تجريدا ً ،فنحيل عىل الكتاب الرئيس للباحثة الكبرية جاكلني دو رومييل:
Jacqueline de Romilly, Thucydide et l`impérialisme athénien: La pensée de l`historien et la genèse de l`œuvre, Paris, Les Belles Lettres, 1961.
لعل أشهرها هي الواردة يف خطبة سقراط أمام قضاته (الكتاب األ َّول من محاورة الدفاع) ،حيث حاول سقراط التذكري
10ـ يع ّرج أفالطون عىل ذكر احتالل أثينا م َّراتّ ،
مباضيه كعسكري حارب جيش سبارطة ،أ َّما بخصوص احتالل أثينا واعتالء الطغاة الثالثني ،فانظر :أرسطو ،دستور أثينا ،الجزء األول ،الفصول XXXVإىل ، XLومن
املعارصين انظر كتاب املؤرخ:
Edmond Lévy, La Grèce au Ve siècle de Clisthène à Socrate, Paris, Seuil, coll. «Points Histoire / Nouvelle histoire de l`Antiquité», 1995.
«الس ُحب» ،حيث ينتقد وضع القضاء وفساد املحاكم ،أو «مجمع النساء» ،التي يسخر فيها من أوضاع الجلسات والنقاشات الدميقراط َّية ،بافرتاض
مثال مرسح َّية ُّ
11ـ انظر ً
فالديمقراط َّية التي أعلنت احلر َّية واملساواة قوة حضار َّية ما الذي جيعل مدينة مثل هذه ،كانت قبل عقود َّ
حتول
والثروة غايات هلا ،ها هي ذي تنتهي إىل أن ّ وعسكر َّية تضارع إمرباطور َّية الفرس ،بل وهتزم أسطوهلا العتيد
يف معركة «ساالمني» ،تنتهي هلذا املصري املأساوي؟ ليس أفرادها
مدينة بحجم أثينا إىل مدينة منهزمة حمتلة حيكمها
يشك يف ُّ يف ذاهتم؛ وليس الديمقراطيون كوهنم أعيان ًا ،فال أحد
كل أشكال الفساد الطغاة ،مدينة تنخرها ُّ أن آنتستني وبرييكليس ،بل وحتى ألسيبياد ،فيام بعد ،كانوا َّ
واالرتشاء ،كام تشهد بذلك كتابات ثيوسيديد ُّ
يشك يف النوايا املبدئ َّية حيبون أثينا وينترصون ألهلها ،ال أحد
ونصوص أريسطوفان الشهرية هلؤالء وغريهم من القادة العسكريني والسياسيني ،بل السبب هو
النموذج الديمقراطي ،فالعيب ليس يف الن َّيات ،بل هو يف النظام،
أي يف قلب االختيار السيايس املوضوعي ،هلذا ما كان بمكنة املدينة
عمت عىل هذه احلقيقة إىل حني.
أن تنتهي إال ملا انتهت إليه ،حتى وإن كانت مظاهر املجد والثراء الظرف َّية قد َّ
كل هذا العداء للديمقراط َّية ،وهي النظام الذي يفس َّ
كل هذا األمر للنظام الديمقراطي؟ ما الذي ّ ولكن ملاذا ير ُّد أفالطون أسباب ّ
أن هذه املفاهيم الثالثة هي نفسها ما يعلن أفالطون أنَّه يريدها جعل شعاره ،حتى يف ذلك الزمان ،العدالة واملساواة واحلر َّية ،واحلال َّ
تصور أفالطون ،تدافع عن متثل خاطئ ملعنى املساواة وفهم زائف ملعنى احلر َّية ،وبالتايل مفهوم فاسد غاية ملدينته؟ كون الديمقراط َّية ،يف ُّ
عن معنى العدالة.
.1مغالطة املساواة
تتحدث الديمقراط َّية ،فيام يتعلق باملساواة ،عن كون الناس متساوين يف القيمة ،متعادلني يف االعتبار ،لك َّن تأمل مضمون هذه املساواة
أن املساواة احلقألنا مساواة حساب َّية تعتمد اجلمع الكمي ،واحلال َّ جمردة وصور َّية فقطَّ ،
أن هذه املساواة املقصودة هي َّ عن قرب يبني َّ
هي التي تكون من طبيعة هندس َّية يستحرض فيها بعد الكيف والقيمة ،وليس العدد فقط .عيب املساواة احلساب َّية قائم يف كوهنا ال
املؤسس عىل العقل ،بل يصري تستحرض مضمون ما تساوي بينه ،هكذا فتبع ًا ملعيارها يصري الرأي القائم عىل االنفعال مساوي ًا للرأي ّ
12
يفس احلظوة الكبرية التي متتَّع هبا معلمو اخلطابة من السوفسطائيني زمن أوىل منه وأقوى ،ألنَّه أنفذ يف النفس وأقرب للهوى ،وهذا ما ّ
ألن قوامها هو الفصاحة ومنارصة األهواء بالبالغة، الديمقراط َّية ،فاخلطابة هي أنسب أنواع القول ملنطق عمل النظام الديمقراطيَّ ،
والناس بالسليقة لألهواء أميل .هكذا تصري مواجهة السوفسطائيني ،التي قىض ألجلها أفالطون فرتة طويلة ،واجب ًا سياسي ًا وليس فلسفي ًا
حيرك آلتها ،وهو اخلطابة والديامغوجيا.
ألنا مواجهة لوقود الديمقراط َّية الذي ّ
فقطَّ ،
تصور اإلنسان احلر بوصفه ذلكّ فإنا ختطئ أيض ًا يف فهم معنى احلر َّيةَّ ،
ألنا إن كانت الديمقراط َّية ختطئ يف فهم معنى املساواةَّ ،
الذي يفعل ما يرغب وينترص ملا ينفعه آني ًا ،وهذا ما ترمجه ،وهنا أيض ًا ،السوفسطائيون األوائل يف خطبهم وتعاليمهم ،وهكذا فإن كانت
فإنا ،من حيث املضمون ،التعبري األدق عن إيديولوجيا السوفسطائ َّية هي أنسب أشكال القول ،من حيث الشكل ،للنظام الديمقراطي؛ َّ
إمكان َّية سطو النساء عليها وقلب نظام الحكم بالتنكّر بال ّزي فقط ،وأعامل أريسطوفان موجودة ،مرتجمة للفرنسية من طرف ( ) Eugène Talboخالية من الحقوق،
.http://remacle.org عىل املوقع:
12ـ القوانني. a 758 e 756 ،
حتول املدينة من مرشوع عيش مشرتك إىل شتات أنوات ال رابط بينها ،أنوات منغلقة عاجزة عن التواصل ،ال الفردان َّية الديمقراط َّية التي ّ
كل ُعرى العيش املشرتك ،وبالتايل السلم. يمكن أن جتتمع إال يف شكل لوبيات حتمل تسمية أحزاب ،وهو ما ينتهي يف األخري إىل تقويض ّ
التصور عن احلر َّية ،التي جتعلها اختيار ًا
ُّ يتوجه لبيان العيوب الدقيقة التي تسكن هذا
أن أفالطون ال يقف عند هذا التقرير العام ،بل َّ عىل َّ
مد ّمر ًا عىل املستوى السيايس.
يكمن جوهر اخلطأ الذي يرتكبه اإلنسان الديمقراطي ،وقبله اخلطيب السوفسطائي ،يف كوهنام خيلطان ،يف حتديدمها للحر َّية ،بني
أن هناك فرق ًا بني احلاجات الطبيع َّية التي تكون رضور َّية وقابلة لإلشباع، احلر َّية وبني الرغبة أوالًَّ ،
ثم بني الرغبات واحلاجات ثاني ًا ،إذ َّ
جمرد ميوالت متوحشة سائبة غري قابلة لإلشباع ،هكذا فاحلر َّية ليست أبد ًا ما اعتقده كاليكليس ،حني ذهب وبني الرغبات التي هي َّ
يمر عرب حتقيق ما تشتهيه النفس من رغبات ،فالذي يسعى لتحقيق حريته ،بفرض شهواته عىل الواقع،
13 إىل َّ
أن حتقيق السعادة واحلر َّية ُّ
قل ،باملثال السقراطي الشهريَّ ،إنا وعاء مثقوب، أن الرغبات يفيض بعضها إىل بعض ،أو ْ ينتهي بشكل مفارق ألن يصري عبد ًا هلا ،إذ َّ
تكف أنت عن ملئه ،وال يبلغ هو أن يمتلئ .هلذا فالرغبات طريق االستالب ،وتابع رغباته هو ُّ ترسب منه املاء ،فامكلام سعيت مللئه َّ
عبد عىل احلقيقة ،عبد وجب حتريره من سطوة ميوالت نفسه عليه ،ميوالت ظ َّن لوهلة َّأنا السبيل حلريته .هلذا االعتبار ولغريهَّ ،
فإن
السعي جلعل الرغبات معيار ًا حلر َّية الفرد ال ينتج من منظور أفالطون إال العبود َّية ،بل ال ينتج ،حني نحمله عىل اجلميع ،إال احلرب
أنفإن تعميمه جيعلنا نفقد املعيار الذي جيعل العيش املشرتك ممكن ًا ،وهو ما يعني َّ
ألن الرغبات متعدّ دة بتعدُّ د الناس ،وبالتايل َّ املعممةَّ ،
ألن ما جيعل اإلنسان إنسان ًا ،كام تقدَّ م،
الدعوة للحر َّية ،باملعنى السوفسطائي ،هي دعوة للقضاء عىل املجتمع ،وبالتايل عىل اإلنسانَّ ،
هو املدينة.
إذا تبينا هذا ،فستكون الديمقراط َّية ،يف تصور أفالطون ،دعوة للعودة بلغة املحدثني إىل حالة الطبيعة ،فام يسعى الفرد لتحقيقه يف حالة
الطبيعة َّ
والل قانون ،حتققه له الديمقراط َّية بالتحايل اخلطايب عىل القانون.
.3االستعامر كأفق
أن هناك صريورة والديمقراط َّية ال تنتهي إىل إهناء العيش املشرتك يف املدينة الواحدة فقط ،بل تنتهي لتخريب املدن التي جتاورها ،إذ َّ
استعامر َّية للديمقراط َّية ،فالديمقراط َّية ليست إال مقدّ مة للديكتاتور َّية ،فمن غري السليم أن نعتقد َّ
أن الديمقراط َّية هي النظام الذي يأيت
نتصور وفق فلسفة تارخينا نحن ،بل الطغيان هو الذي يأيت نتيجة للديمقراط َّية رضورة ،فحني نجعل من َّ ال عن نظام الطغيان ،كام قد بدي ً
الرغبات معيار ًا ،فإنَّنا ننتج بالرضورة نظ ًام ذات نزوع إمربيايل ،وهذا ما يشهد به تاريخ أثينا االستعامري للقرن اخلامس ،فهذا القرن مل
جمرد قرن للدمار واحلرب واالستعامر، يكن أبد ًا ،من منظور املدن األخرى ،قرن شمس أثينا الساطعة ،كام سيعتقد هيغل فيام بعد ،بل كان َّ
وهذا طبيعي بالنظر ملنطق الديمقراط َّية التي كانت تتبناها املدينة ،فالديمقراط َّية ال يمكن أن تنتج إال حكام ًا طغاة ،حكام ًا جيعلون من
أمراضهم الروح َّية وأمراض احلشود التي تدعمهم معيار ًا أخالقي ًا أسمى.14
بأي حال
ثم تنتهي رضورة إلنشاء دول استبداد َّية استعامر َّية ،فال يمكن ّ
إذا كانت الديمقراط َّية تفهم بشكل خاطئ املساواة واحلر َّيةَّ ،
إن املجتمع الذي جيعل من الشهوات الفرد َّية معيار ًا ،ومنأن نتحدَّ ث عن عدالة يف الديمقراط َّية ،فال يشء أكثر هتافت ًا من أن نقول َّ
سيحررنا من
ّ غواية البالغة برناجم ًا سياسي ًا ،هو نظام يمكن أن يكون عادالً ،هلذا فاألمر معكوس متام ًا عند أفالطون ،فالعدالة هي ما
الديمقراط َّية.
لتصور استطاع أن هييمن عىل هذا ُّ سبق لبعض كبار مؤرخي الفلسفة أن اعترب العامل القديم ،يف مجلته ،عامل ًا فيتاغوري ًا ،إذ ال وجود
العامل قي ًام وفلسفة وعل ًام ،من القرن الرابع قبل امليالد إىل حدود بدايات القرن السابع عرش ،كام هيمنت الفيتاغورية ،عىل َّ
أن الفيتاغورية
ورسخ قدمها يف التاريخ كل هذه السطوة َّ ليست يف احلقيقة سوى اسم آخر ممكن لألفالطون َّية ،فالفيلسوف الذي مكَّن للفيثاغور َّية من ّ
هو أفالطون ،ولسنا نظن أنَّنا حمتاجون للتدليل عىل فيثاغور َّية أفالطون ،فهذا موضوع قتل بحث ًا ،لكنَّنا باملقابل نحتاج ر َّبام ألن نحدّ د
أن نظر َّية الفيلسوف يف ثمة يف السياسة ،بام أنَّنا زعمنا َّ
بدقة املقصود بنعت الفيثاغور َّية هذا وجتلياته يف نظر َّية الوجود عند أفالطون ،ومن َّ
كل أسسها من نظريته يف الوجود.السياسة متتح َّ
وأن ما يعطي هلذا الكائن أو احليوان صفة أن العامل كائن واحد حي من َّظمَّ ، التصور الذي يعترب َّ
ُّ تعني الفيثاغور َّية أمر ًا واحد ًاَّ ،إنا
كل عنارصه متامسكة وموصولة ،حتى وإن كانت هذه العنارص املتواصلة واملتامسكة غري متساوية يف القيمة أن َّ
التناغم والنظام هذه ،هو َّ
قياس ًا إىل بعضها بعض ًا ،فالتامسك احلاصل هنا هو حاصل بني عنارص متاميزة يف القوة واالعتبار ،هلذا فالنظام ّ
الكل يف النهاية هو نظام
تراتبي ،وليس نظام ًا متواطئ ًا ،فاملوجودات يف العامل متفاوتة يف مرتبة الوجود ،بل هي يف بعض جوانبها متعارضة ،لك َّن هذا الرتاتب وهذا
التعارض هو وحده ما يمنح ،وبشكل مفارق ،للوجود صفة النظام وخاص َّية التناغم ،وكام أنَّه ليس من املمكن يف املوسيقى -التي تبقى
أي كيان موسيقي ،مهام كان بسيط ًا ،إال باصطناع مسافات وقيم صوت َّية مرتاتبة، لكل الفيثاغوريني -تشكيل أو تركيب ّ املرجع النظري ّ
فإن العامل ،أو كوسموس بلغة اليونان الذي هو نموذج التناغم ،ال يكون ممكن التحقق قياس ًا إىل س ّلم ومفتاح موسيقي ثابت تنتظم فيهَّ ،
تكونه حترتم الرتاتب الذي ينبغي أن تكون وفقه ،أي حترتم مكانتها ودورها الذي وجدت ألجله، ألن األجزاء التي ّ عىل هذا النحو إال َّ
كل هذا النظام ،وإال فسد الوجود. ابتداء ،يف ّ
كل وجود صناعي ملزم ًا بأن يكون كذلك ،أي ملزم ًا بأن يكون نسخة تستلهم وإذا كان ناموس الوجود الطبيعي هو هذا ،كان ّ
األول ،ومن ذلك السياسة ،وهذا هو جوهر الطبيعان َّية السياس َّية التي أوردنا احلديث عنها سابق ًا .بالنتيجةَّ ،
إن صورة الوجود الطبيعي َّ
املدينة ،حتى تكون وتنجح ،ينبغي أن تكون ،عند أفالطون« ،كوسموس» مصغر ًا ،أي «ميكروكوسموس» حيرتم هذه املبادئ األزل َّية
أن املدينة ينبغي أن تتحقق برتاتب عنارص متفاوتة يف القيمة ،حيتل اخلالدة التي يراها حوله يف الكوسموس الكبري ،وهو ما يعني عمل َّي ًا َّ
أن املدينةكل واحد مكانته الطبيع َّية ،حتى يقوم ،بأحسن ما يكون ،بوظيفته التي وجد هو ألجلها سياسي ًا ،وهو ما يعني يف النهاية َّ فيها ُّ
أن هذه الطبق َّية ال حتمل عند أفالطون أي بعد أخالقي ،هلذا فال جمال عنده ينبغي أن تكون ،بعبارة معارصة ،مدينة طبقات .عىل َّ
15
للحديث عن ظلم اجتامعي مثالً ،فالتفاوت ليس «سياسي ًا» ،بل هو وجودي ،أي متحقق يف العنرص األول ،فالناس متفاوتون يف القيمة
معي ،وبالتايل بنوع فضيلة حمدَّ د ،فمن الناس من يكون صاحب وكل معدن خيتص بجنس وعي َّ قل َّإنم معادنُّ ،16
والقوة ابتداء ،أو ْ
وعي من حديد يلحقه الصدأ ،وهؤالء هم من تغلب فيهم نوازع البحث عن الشهوة والنفور من األمل ،فيحققون فضيلة العفة حني
حيسنون ،وخيبث عنرصهم حني يسايرون ميلهم الطبيعي للجشع والرشاهة ،وفوق هذا النوع ،نجد من يكون صاحب وعي من فضة،
وهؤالء هم أشخاص أقدر عىل متثل الواجبات بطبعهم ،حتى وإن كانوا مشاركني يف حياهتم اخلاصة ألفراد النوع األول ،يف امليل لطلب
ألنم وحدهم من يتميزون بكوهنم الشهوة واتقاء األمل .فوق هؤالء نجد أصحاب النفوس الذهب َّية الرفيعة ،وهؤالء هم أصفى املعادنَّ ،
خي ومجيل.17 حيتكمون يف حياهتم ّ
لكل ما هو ّ
كل واحد يف مكانه ،بحسب أن اخلري سيكون يف أن نضع َّ وإذا كانت األنفس بالطبيعة هكذا ،وكانت الفضائل هكذا ،فمن البني بذاته َّ
فضيلته وما تؤهله له ،فأصحاب الذهب وفضيلة احلكمة يكونون طبيعي ًا يف األعىل ،أي يف القيادة والرياسة ،وأهل الفضة وفضيلة
الشجاعة يف الوسط ،أي يف العسكر واجلند َّية ،وأهل احلديد والعفة يف األدنى ،أي يف ما حيقق رشوط املدينة املعيشية األوىل .هذا هو
النظام الذي ينبغي أن تكون عليه األشياء ،وهذا هو جوهر العدالة عند أفالطون (عدالة العقل والطبيعة مع ًا) ،18العدالة التي تلزمنا بأن
تصور العدالة عىل َّأنا املساواة احلساب َّية بني نحرتم الوضع الطبيعي لألشياء ،فنحفظ هذا الرتتيب الطبيعي عينه ونحققه صناعي ًا ،إذ َّ
أن ُّ
ال عن كونه ظامل ًا أخالقي ًا، تصور ،فض ً
ألنا مساواة بني أناس متفاوتني يف الطبع والقدرة ابتداء ،وهذا ُّ
كل يشء هو قلب للقيمَّ ، الناس يف ّ
فهو خمطئ نظري ًا ،ألنَّه خيطئ يف فهم طبيعة الوجود وصريورته الفعل َّية ذاهتا ،ويغفل عن إدراك حقيقة كون الوجود يف ذاته مرتاتب ًا ،وكونه
حيتاج هلذا الرتاتب حتى يكون.19
تصوره اخلاص عن العدالة معيار ًا حياكم الديمقراط َّية إذن نظام خاطئ نظري ًا وظامل أخالقي ًا ،نظام يقلب السبب نتيجة ،فيجعل من ُّ
التصور الديمقراطي،ُّ إن العدالة هي املساواة والظلم هو الرتاتب ،هو قول يأيت نتيجة بعد َّية هليمنة ال َّ
به ماهية السياسة كلها ،فالقول مث ً
نغي من زاوية النظر ،ونعترب مث ً
ال يسوغ ظهورها كام نعتقد ،إنَّه جمرد مس َّلمة ،وهي مس َّلمة ليست بدهي َّية بحال ،وإال فإنَّنا حني ّ
وليس سبب ًا ّ
لكل واحد مكانه ،أي بلغة واحد من املعارصين الكبار ،20حني نُصنِّف الناس حسب قدراهتم وطاقاهتم، أن العدالة تتحقق حني نحفظ ّ َّ
فإن مفهوم العدالة حينها سينقلب وأن التفاوت بني الناس مسألة طبعية (وليس مسألة تارخي َّية كام افرتض روسو يف أصل التفاوت)َّ ، َّ
كُل َّية.
16ـ أسطورة املعادن اإلنسانيَّة قدمية تعود يف الثقافة اليونانيَّة ملرويات هزيود ،وهي تتك َّرر عند أفالطون ،مثال ذلك ما ورد يف الكتاب الثالث من الجمهوريَّة.
املتخصص لوك بريسون:
ِّ مثال الكتاب الخامس ، 473 ،من الجمهورية ،ويف تأويل وبحث املسألة انظر ما كتبه الباحث
17ـ انظر ً
Luc Brisson et Jean-François Pradeau, Introduction: Politique (Platon), GF Flammarion, 2011, pp. 33, 34.
18ـ القوانني ،الكتاب ، XIIوكذلك الجمهوريَّة الكتاب الثالث والرابع ،ويف الدراسات ميكن العودة إىل كتاب:
Jean Francois Revel, histoire de la philosophie occidentale, édition Nil ; paris 1994, P. 113.
19ـ رغم أ َّن نظرية الوجود عند أفالطون أعقد من أن تختزل يف تص ُّور واحد ،وأ َّن بعض وجوهها تحتمل القول بوحدة للوجود حتى (أطروحات محاورة بارمينيدس
التسعة -محاورة تياموس ) c-d 55 a-b 31فإ َّن املستقر عند الدارسني هو أ َّن الوجود مرتاتب ،حتى لو كان هذا الرتاتب يدرك يف إطار الواحد الساكن ،انظر بهذا الصدد
مثالً النصوص املتعلقة بالعنارص املك ّونة للوجود ،من عقل أول ونفس كل َّية ومادة ،يف محاورة تياموس.c 61 b 53 ،
20ـ نقصد هنا مسألة اإلنصاف كام طرحها جون رولز يف نصه الشهري حول العدالة ،والتي تبقى ،رغم البون الشاسع املوجود يف الطرح والسياق ،يف جزء منها عىل األقل،
داخلة يف اإلشكال َّية نفسها.
تصور العدالة عىل َّأنا املساواة احلساب َّية بني ُّ هتذهبا صحيح ،لك َّن احلكمة حتتاج للشهوة حتى توجد ،فاملسألة ّ
ألنا مساواة كل يشء هو قلب للقيمَّ ، الناس يف ّ ليست أخالق َّية وال شخص َّية عند أفالطون ،وال هي ،كام قد
نعتقد ،حمكومة بديكتاتور َّية املال أو العائلة أو النفوذ؛ َّإنا مسألة
بني أناس متفاوتني يف الطبع والقدرة ابتداء،
تدبري َّية عمل َّية خالصة ،مسألة قدرات وملكات شخص َّية ،مسألة
ال عن كونه ظامل ًا أخالقي ًا ،فهو
تصور ،فض ً
وهذا ُّ ألبوة بيولوج َّية
طموح ألن حيكم األفضل ،بام أنَّه ال وجود مبدئي َّ
خمطئ نظري ًا ،ألنَّه خيطئ يف فهم طبيعة الوجود يف املدينة الفاضلة ،وال النتامء بالعرق أو اجلنس حتى ،بل َّ
إن
ويغفل عن إدراك حقيقة كون الوجود يف ذاته أفالطون يذهب أبعد من ذلك ،فال يرى مانع ًا من أن يعرب شخص
يف طبقة إىل أخرى إن حقق رشط التعلم واإلتقان ،وهذا ينسحب
مرتاتب ًا...
حتى عىل النساء والعبيد ،فكالمها يمكن أن يشغل وظائف عليا.21
ال أن نتحدث مع أفالطون عن ديكتاتور َّية ،لكنَّها يصح فع ً ُّ قد
قل ديكتاتور َّية األرستقراط َّية الفلسف َّية ،وليست دكتاتور َّية املال أو العرق ،فاملال والعرق الديكتاتور َّية األفضل باملوهبة والعقل ،أو ْ
يسودان بحق إال حني تبلغ الديمقراط َّية مداها األقىص ،فتتحول إىل أوليغارش َّية وطغيان ،والتاريخ شاهد عىل ذلك يف فرتة حكم احلزب
الديمقراطي وفرتة الطغاة الثالثني الذين أتوا بعده .هكذا تكون العدالة ،وهكذا تكون املدينة؛ مدينة منغلقة ساكنة صحيح ،لكنَّه سكون
من جنس سكون الكوسموس ،فاحلقيقة ،وضمنها احلقيقة السياس َّية ،ال يمكن أن تكون إال ساكنة كام َّقرر بارمينيدَّ ،
ألن الوجود الذي
أمامنا ،ودائ ًام بحسب املرجع َّية الفيتاغور َّية ،هو وجود ال يتغري ،بل يدور يف مكانه ،وهذه هي علة االستقرار والنظام فيه ،وإال فهو الفساد
واالنحالل والعدم.
مقدمة ثانية
ّ
كل هذا نحن ـ الديمقراطيني ما الذي يمكن أن نستنتجه ،عمل َّي ًا نحن اليوم ،من حديث مثل هذا؟ ما الذي يمكن أن نحصله من ّ
كل خيبات الفلسفات املغلقة والتصورات املاهو َّية عن اإلنسان جربوا نموذج احلاكم الفيلسوف زمن لينني ،وخربوا َّ املعارصين ـ الذين َّ
تفهم لفلسفة والعامل ،وما أنتجته من أهوال؟ طبع ًا ليس االنتصار ألفالطون ونبذ ديمقراطيتنا ،فهذا لن يكون ممكن ًا ،رغم ما قد نبديه من ُّ
ألن املس َّلامت
ألن نظريته تفتقر للقيمة ،بل َّ
ألن أفالطون مل يكن فيلسوف ًا كبري ًا ،أو َّ
الرجل ،فنحن ال يمكننا أن نكون أفالطونيني ،ليس َّ
تصوره بأكمله هتاوت واندثرت باندثار األساس الذي كانت تقوم عليه ،وهو نظرية اهلارمونيا املوسيق َّية والكوسموس، التي انبنى عليها ُّ
يكف عن الصريورة ،والفضاء الذي من حولنا ليس ثريات أفالك منرية تشري فعاملنا ليس دائرة مغلقة ساكنة ،بل حركة اختالف مطلق ال ُّ
كل األنحاء؛ وإنسانيتنا التي نحن عليها إلينا كالصوى من بعيد بام ينبغي أن نفعل ،بل هو فراغ مرعب وشتات أجسام وغازات متناثرة يف ّ
ليست معادن ترتب لنا فضائل ترت ّقى بنا نحو اخلري األعم ،بل هي مزيج من الكيمياء ودفق السياالت العصب َّية والشحنات التي تتفاعل
ال هو يشء عميل خالص ،هو أن نمتحن هذه هنتم اليوم بأفالطون فع ًمع بعضها بعض ًا لتصنع منَّا ما نحن عليه؛ الذي يمكن أن جيعلنا ُّ
كل يشء ،ويف هذا العنرص وحده يمكن أن نعلن الديمقراط َّية التي هي دوكسا عرصنا ودوغام سلوكنا ،ونعاندها بتمثل رؤى خمالفة هلا يف ّ
أن وظيفة الفكر وغايته األوىل ،عند أفالطون ،كام عندنا نحن اليوم ،ظ َّلت هي أنَّنا أفالطونيون دونام حرج ،وأن نتفق معه دون حتفظ ،إذ َّ
نفسها :معاندة الدوكسا ومكافحة الدوغام.
21ـ قض َّية النساء والعبيد وموقعهام يف املدينة أثارت نقاشاً كبريا ً بني املختصني يف فكر أفالطون ،فبقدر ما نجده أحياناً يق ُّر بالعبوديَّة ودون َّية النساء ويزكيها ،بقدر ما
نجده يف نصوص أخرى يق ُّر بأنَّه ال مانع من ترقي بعضهم م َّمن حقق رشوطاً من وضعه ،بل هو أحياناً ينتقد الرغبة يف امتالك العبيد (انظر يف املنت مثالً ،الجمهوريَّة،
الكتاب التاسع )578 - 579وانظر يف الدراسات مقال:
«La République de Platon et la communauté des femmes» Suzanne Said, L›antiquité classique, Bruxelles, 1986, Volume 55 Numéro 1 pp.
142 -162.
حممد هاشمي*
مقدمة:
ّ
تداول يف أدبيات الفلسفة االجتامع َّية ،عىل األقل منذ كتابات أكسيل هونث ()Axel Honneth إذا كان مفهوم االعرتاف ،كام هو ُم َ
عب عن حماولة إعادة تأهيل للفلسفة اهليغيل َّية ،ورصد إمكانياهتا النظر َّية ملواجهة حتدِّ يات الوجود البيني وتشارلز تايلور(ُ ، )T.Taylorي ِّ
ترصفت التيارات للذاتية اإلنسانية ،دون االضطرار إىل التخيل عن هذا املفهوم من حيث هو إرث مثخن بالتناقضات األنوار َّية ،كام َّ
أقل تقدير لكوهنا حماولة الستعادة النفس التصور ،عىل ِّ ُّ تظل يف منأى عن مثل هذاأن فلسفة جون رولز ُّ الفكر َّية ما بعد احلداث َّية ،فيبدو َّ
التوجهات املرتكزة عىل اللحظة اهليغل َّية. الكانطي يف إطار إحياء التقليد التعاقدي ،وهو األمر الذي جيعلها مرجعي ًا يف حالة ٍ
تناف مع ك ُِّل
ُّ َّ
ِّ
لكن هناك ما هو أدعى ملثل هذا التباين واالختالف النظريني ،ويتمثل يف نزعة كون َّية حمايثة لكُل العدَّ ة التسويغ َّية واالستدالل َّية للطرح
أن هذه الرولزي ،وذلك جري ًا عىل الطبيعة الدينتلوج َّية لنظريته التي تعمد إىل اختبار ك ُِّل قضاياها انطالق ًا من مبادئ عا َّمة وكون َّية ،واحلال َّ
التوجهات ما بعد االشرتاك َّية.ُّ ال لدى فالسفة االعرتاف ،سواء يف إطار املدرسة النقد َّية أو اجلامعت َّية أو الكون َّية الال َّمة هي ما يطرح مشك ً
ما نود أن نشري إليه يف هذا املقال هو خصوص َّية تعاطي جون رولز مع مطلب االعرتاف ،لكن من خالل مفاهيم خمتلفة ّ
وأقل حدَّ ة ،مقارنة
الذات .وهو ما يميز يف الواقع بني احلساسية الديمقراط َّية الرصاعية التوجهات السابقة الذكر ،وعىل اخلصوص تعلق ًا بمفهوم تقدير ّ ُّ مع
وبني احلساسية الديقراط َّية الوفاقية.
* أكادميي من املغرب
هناك نزعة رصاع َّية واضحة يف فلسفة أن هيغل َّية هذا الطرح ذات طبيعة إجرائية ومن الواضح َّ
االعرتاف جتعل املطالب االجتامع َّية ترتسم ووظيفية ،وليست مذهبية باملعنى الدقيق للكلمة ،عىل أساس
أن العوامل املوجهة للحظات اجلدل عند هيغل هي ترتيب َّ
عىل شاكلة مقاومة ،واستعادة ،وانتزاع،
ملسار بحث الروح عن اكتامله ،وجتاوز متزقاته األصيلة ،بغض
إذ يبدو الطرف الذي يعاين من اإلحساس النظر عن املساعي الفرد َّية ومشاريع احلياة الشخص َّية ،إذ حتى
بالظلم أو اإلذالل ،حسب عبارة هونيث، حينام يصادف أن جتد مثل هذه التطلعات األخرية ما يناسبها يف
منخرط ًا يف رصاع عنيف ،يستعيد يف شدَّ ته فإن ذلك ال يعدو أن يكون مكر ًا للعقل ،ال واجب ًا
حركة التاريخَّ ،
جتاه الفرد .ولذلك فاستعامل الفلسفة اهليغل َّية من طرف فالسفة
صورة جدل َّية السيد والعبد اهليغل َّية
االعرتاف ،خصوص ًا لدى تشارلز تايلور وأليكس هونيث ،هو
استعامل مصاحب بعمليات هتذيب وتشذيب مبالغ فيها؛ َّ
ألن
فكرة املطالب ذاهتا من حيث هي صياغة وجتسيد ملا يريده الفرد ُيعدُّ مسألة غريبة عىل فلسفة تعترب َّ
كل حارض التجيل األكثر معقولية
للروح داخل مساره اخلاص يف البناء.
ال تنمو احلر َّية هبذا املعنى يف مشاريع احلياة الشخصية عرب تسطري الئحة مطالب إزاء اجلامعة ،بل هي ال تتحقق إال حينام تصهرنا
هذه اجلامعة طوع ًا يف اقتصادها العام الذي تتحكم فيه حلظات التاريخ املفصلية ،التي حتكي احلركة النامئية للروح وهو يستعيد نفسه
احلرة التي بمقدورها أن تتظلم أو تطالب داخل هذه الفلسفة متالشية يف ال وممتلئ ًا عىل صورة مطلق متحقق .لذلك ترتسم اإلرادة َّ مكتم ً
سوغ االختالف والتعدُّ د احلرة أن تريده ،ولذلك من الصعب أن نجد يف اهليغل َّية ما ُي ِّ نظام احلر َّية العامَّ ،إنا ال تريد إال ما يليق باإلرادة َّ
ثمة فهي موسومة املتجذرة يف فكرة احلق ،ومن َّ ّ الثقايف بالدرجة التي يعتقدها البعضَّ .
ألن احلر َّية ال جتد تعبريها النهائي إال يف القوانني
تتحول رغبات وميوالت األنا إىل ُم َّرد عالئق طبيعية غريبة عن الذاتية اإلنسانية َّ منذ املنطلق بمالمح املؤسسات اجلامع َّية .هلذا السبب
من حيث هي شخص أخالقي وقانوين؛ بل يمكن القول إنَّنا ال نصل إىل مستوى الشخص إال حينام نحقق وعي ًا بعرضية رغباتنا وعدم
املتجسدة يف االجتامعي والسيايس ،إال حينام ِّ مركزيتها بالنسبة إىل فكرة القانون نفسها .ال يصل اإلنسان إىل التصالح مع مملكة احلر َّية
أن الكانط َّية ت ُعدُّ البعد االجتامعي يتحلل من خلفيته السيكولوج َّية باعتباره ذات رغبة وميل .وهنا يبدو الصدى الكانطي واضح ًا ،لوال َّ
اخلية التي متثل قوام الذات األخالقية وهي حتدد اإلراة بالعقل ،الذي يأخذ صورة ال مشوش ًا عىل متحض اإلرادة ّ واألمربيقي عام ً
عقل عميل يف هذا املستوى ،بينام متثل املضامني التارخي َّية وانغراس احلر َّية يف الرشط االجتامعي رضورة لتحقق احلر َّية واألخالق َّية داخل
أن فكرة احلق بأكملها تعود ملطلب واحد «كن شخص ًا ،واحرتم كون الناس أشخاص ًا» ،فهو يقرتب اهليغل َّية .وهكذا عندما يعترب هيغل َّ
للمكون الطبيعي الفرداين ،ويبتعد عنه يف الوقت نفسه عرب فتح مفهوم الشخص عىل االمتدادات التارخي َّية، ّ من الطرح الكانطي باستبعاده
اجتامع َّية كانت أو سياس َّية.
هذا البعد امللموس للحر َّية هو ما سيقتيض يف فلسفة هيغل حسب رولز ختارج ًا بني الذات ونفسها ،يتجىل يف فعل ا ُمللك َّية الذي يتحقق
بصدد خريات موضوعية تتشكل من األشياء املفتقدة للحر َّية وللشخص َّية .لكن يف هذا املستوى أيض ًا ال دور للرغبات اخلاصة يف تربير
ألن متلك اليشء يقتيض من الفرد اإلنساين أن يتوفر عىل ما يتجاوز الدرك الشيئي لألشياء ،املرشوط بام هو طبيعي، فعل التملك واحليازةَّ ،
نحو درجة أعىل من الوجود تتجىل يف البعد األخالقي واالجتامعي الذي يتحقق يف أفق اإلنسان الشخص وليس فقط اإلنسان الفرد؛
ثمة فهو يفتقد لرشط التميز عن اليشء ،الذي وحده احلال َّ
أن هذا األخري يفتقد احلر َّية باعتباره كائن رغبات خاضعة لنظام الطبيعة ،ومن َّ
يؤهله لكي يكون كفؤ ًا حلق التملك ،األمر الذي ال يتوافر إال حينام ننظر إىل العالقة من منظور الشخص ،لكن هذا بدوره جيعلنا نرجع
هذه العالقة إىل البعد االجتامعي الذي يمثل التجسيد امللموس للحر َّية الشخصية ،وهو ما حييل عالقة التملك املركزية يف تشكيل البعد
االجتامعي للعدالة ،عالقة تقوم باألحرى بني األشخاص يف إطار بينذاتية ال تبدو معها األشياء سوى وسائل عرضية ،أو فرص ًا للشخص
يامرس من خالهلا حتقيق ذاتيته املختلفة املتميزة عن واجهته الطبيعية ،وهلذا السبب فال مكان داخل فلسفة هيغل ملقاربة مطلب العدالة
ُسوغ ألن إشباع الرغبات ال ُيعترب أمر ًا مركزي ًا يف عالقة امللك َّية اخلاصة؛ َّ
إن الغاية الوحيدة التي ت ِّ حسب منطق السعادة أو متعة احلياةَّ ،
ملكية اجلسد ذاته وحيازة األشياء هي جتسيد احلر َّية املوضوع َّية ،وهلذا من الصعب استعامل الفلسفة اهليغل َّية لتسويغ مطالب باستدماج
كل وجود حسب هيغل يمكنه أن يبلغ رتبة تؤهله لتحقيق فعل التملك منظور ًا إليه ك ُِّل امليوالت واحلساسيات بمنطق االعرتاف .فليس ُّ
كتجاوز للبعد الشيئي للوجود ،للتعبري عن احلر َّية امللموسة والفعلية واملتحققة.
لذلك فتمظهرات الوجود امللموس للشخص ،املتمثلة يف األرسة واملجتمع املدين والدولة ،تشكل مراقي مرتاتبة للوجود اإلنساين،
يتحرر الشخص اإلنساين شيئ ًا فشيئ ًا من حلظاتتعوض بعضها بعض ًا ،بل تستلزم رضورة الدخول يف حركة سلب ونفي ،بحيث َّ َّإنا ال ِّ
التحرر والتصالح مع مظاهر الروح املوضوعي .لذلك من املهم أن نستحرض هذا الطابع الرتاتبي أثناء حديثنا ُّ ّ
أقل رق َّي ًا يف سلم صريورة
ألن األمر ال يتعلق بوضعيات حمايدة يمكن للذات أن تنمي داخلها عن املجاالت البينذاتية لالعرتاف« :احلب والقانون والتضامن»َّ ،1
قيمة االحرتام والكرامة الشخص َّية ،كام قد يبدو يف بعض القراءات ،بل علينا باألحرى أن ننظر إىل قصور الشخص عن جتاوز مستوى
االعرتاف داخل السياق العائيل ،إىل املستوى احلقوقي السلبي ،ثم إىل املستوى احلقوقي اإلجيايب املتمثل يف تثمني الشغل ،من حيث هو
التحرر واملصاحلة.
ُّ تعبري ومسامهة يف حتقيق ال ُبعد امللموس للحر َّية ،باعتباره قصور ًا ُي ِّسد فشل مرشوع
أي إن التخلص من االحتجاب االجتامعي ،أو ما يدعوه هونيث بالوضعية الالمرئية للوجود اإلنساين ،ال ينتفي من خالل ِّ لنقل َّ
فإن ما يمكن أن ندعوه باحلقوق الفردية املتعلقة بحميم َّية خاصة بني األفراد ،يف ال َّ
اعرتاف كيفام كان نوعه ،فحسب املنطق اهليغيل مث ً
جماالت ليس هلا امتداد يف املجال العمومي ،عىل غرار االختالف اجلنيس ،واخلصوصية اجلندرية ،أو اإلشكاالت النسوانية يف جوانب
يتفرع حسب هيغل إىل دركات يعلو متعددة منها ،ال تتجاوز ُبعد ًا أول َّي ًا بسيط ًا يف مسار التحقق امللموس ،بل َّ
إن املجتمع املدين نفسه َّ
يتم تداول اخلريات بعضها بعض ًا :فهناك منطلق يتجىل يف نسق احلاجيات( )Bedurnfnisseوهو ما يقابل املستوى االقتصادي ،حيث ُّ
املاد َّية كإشباعات ،وحيث تتشكل اهلو َّيات عىل مثل هذا األساس الضيق من التعاطي املبارش مع األشياء ،اهلو َّيات العائل َّية ،واهلو َّيات
املهن َّية ،لكن رسعان ما سيتشكل املستوى الثاين املتعلق بتدبري العدل ( ،)Retchsflegeحيث يتجاوز الناس أفق احلاجة الضيق ،واخلريات
املادية ،نحو وضعية حقوقية وأمنية ،مستقلة عن موضعهم يف سوق التبادالت ،وتتأطر بالقوانني يف ُبعدها الكوين ،حيث تتحدَّ د قيمة
اإلنسان «من حيث هو إنسان ،ال بسبب أنَّه هيودي ،أو كاثوليكي ،أو بروتستانتي أو أملاين أو إيطايل» ،2وهنا يصبح االعرتاف متعلق ًا
جمرد التنافس االقتصادي ،ممَّا سوغات كونية عوض أن يتحدَّ د بام هو حميل ،لذلك فانشغاالت األشخاص ستصبح أبعد وأرقى من َّ بم ِّ
ُ
ً
سيفتح أمامها أفقا أكرب ،يتمثل يف البعد التعاوين واملدين ( )Korporationالذي يمثل من خالل تدبريه للتفاوتات العرضية ،طريقا إىل ً
1ـ أقصد هنا ما ركز عليه هونث ،وإن كانت القامئة قابلة ألن تطول أكرث إذا استحرضنا موقف الجامعتيني والجندريني وغريهم.
2 . HEGEL, Principes de la philosophie du droit, tra, André Kaan, et préfacé par jean hyppolite,nrf, gallimard, p.236.
تشكل هو َّية أكثر جوهر َّية وكون َّية ،إنَّه انتشال للحضور اإلنساين من املبارشية املبتذلة لكائن احلاجة ،ومن التطلعات الضيقة للربجوازي،
وحتضريه ملستوى املواطنة الذي يؤهله ليكون عضو ًا فعلي ًا يف الدولة ،وليس جمرد زائدة تعيش خارج غاية ومرامي مؤسسات الدولة،
مشكلة جمموع العوام( )Pobelالتي نظر ًا لعدم تصاحلها مع هذا ال ُبعد املؤسيس للحر َّية تعيش ممتلئة باحلقد عىل الدولة ،مفتقدة بذلك َّ
كل
امللكات األخالق َّية واملعرف َّية التي تسمح هلا بتجاوز أفقها الوجودي الض ِّيق.
كل حلظات احلياة البينية سواء تلك اخلاضعة للروابط الطبيعية للحب والقرابة ،أو املتعلقة بالبعد القانوين للواجبات أن َّ
ومن اجليل َّ
واحلقوق ،أو املرتبطة باجلانب التعاوين واملدين ،تنتظم يف صريورة العقل املتخفي وراء ُح ُجب التاريخ ،ألجل توفري الرشوط الوجودية
جمرد توهيم مضاعف ،إذ فكل اعرتاف يغفل هذا املعطى ُيعترب َّ الكتامل كيان الدولة ،الذي يتجاوز انتظارات الفرد ومطالبه .من هنا ُّ
باإلضافة للظالل التي يسقطها مكر التاريخ عىل تشكل تداخل اخلطاطات الفردية مع تلك املتعلقة بغاية التاريخ ،يساهم املكر اإلنساين
وتومهاته يف مزيد من االبتعاد عن مطلب احلقيقة والواقع ،بجعلنا نعتقد يف اعرتافات تأيت ملجرد حتقيق تطلعاتنا الشخصية أو الفئوية ،كام
أن الزواج ال حينام نخلق استحالة بنيوية يف مؤسسة الزواج واألرسة ،ألجل احرتام خصوص َّية رغبة فئة من املجتمع ،تعتقد َّ قد حيدث مث ً
مسألة ذوق ،عوض التفطن إىل أنَّه هو قبل ك ُِّل يشء وحدة بناء أول َّية لكيان الدولة العام ،الذي ال يويل أمه َّية قصوى للميوالت املثل َّية أو
العشق َّية.
احلرة،
ال يف فلسفة هيغل لدى رولز ،هو بالضبط اضمحالل العامل الفردي يف اخلطاطة العامة لتشكُّل وحتقق اإلرادة َّ ما يطرح مشك ً
إذ تبدو هذه األخرية سابقة عن تطلعات الفرد ،ومتعالية عىل بعده اخلصويصَّ ،إنا أوالً إرادة لنظام من املؤسسات السياس َّية واالجتامع َّية
التي تسمح بتحقق حريتها ،وهنا «ينبغي فهم املؤسسات من حيث هي أشكال حياة معيشة من طرف الكائنات البرش َّية» ،3ثاني ًا هي إرادة
حرة أخضعت لرتبية جتعلها تستوعب حريتها من خالل سامت عمومية لنظام املؤسسات ذاته، ثم هي ثالث ًا إرادة َّ
لغايات هذه املؤسساتَّ ،
أي حيز مستقل يسمح احلرة .يتضمن ما سبق َّ
أن اإلرادة الفردية ال متلك َّ إن هذه السامت العمومية ذاهتا تصبح تعبري ًا عن اإلرادة َّ وأخري ًا َّ
احلرة املوضوعية ،وهذا يفيد غياب رشط الند َّية الرضوري يف حتقق فعل االعرتاف. هلا بالوقوف وجه ًا لوجه أمام اإلرادة َّ
تصور الفرد مصدر ًا لنظام الواجبات اللفردي جيعل فلسفة هيغل تستبعد التقليد التعاقدي يف بناء الدولةَّ ،
ألن ذلك يقتيض ُّ هذا الطابع َّ
أن هذه األخرية هي مصدر ك ُِّل حمددات الفرد نفسهَّ ،إنا كيان موضوعي عام ،يتشكَّل من شبكة من القوانني ولغايات الدولة ،واحلال َّ
عم يتجاوز اإلنسان .ويتجىل هذا الطابع املضاد للفرد يف صورة ا َمللك ذاته ،الذي رغم أنَّه يمثل نظام ًا ملكي ًا ال يعاين من اعتباطية املعبة َّ
ِّ
َ َّ
التداول السيايس الذي تعاين منه باقي األنظمة األخرى ،غري أن هذه امللكية الدستورية جتعل إرادة امللك من حيث هو فرد حمد َّدة ومس َّيجة
«إن القسم املوضوعي يعود إىل القانون وحده - ،يقول هيغل -ويكمن دور امللك فقط يف إضافة «أنا وموجهة بنسق القوانني العامَّ ،
َّ
َّ
أريد» الذاتية» ،لذلك فإن فردانية امللك تبدو بالرضورة غارقة يف كون َّية القانون ،مثلام هو حال السلطة التنفيذ َّية ،التي إنَّام حتقق الكوين
يف اجلزئي من خالل تدبري التفاصيل اليوم َّية ،أو السلطة الترشيع َّية التي تؤسس لقوانينها من خالل مبادئ كون َّية ،وعىل يد ممثلني فئويني
3 . John, Rawls, Lectures On History Of Moral Philosophiy, Harvard University Press, 2000, p.352.
لطبقات املجتمع أو حلاالته االجتامعية األساسية ( ،)Standeوهم ثالث :األرستقراطية الوراثية ،وا ُملالًّك ،والطبقة العا َّمة للموظفني ،ممَّا
أن اجلانب األكرب من كتلة املجتمع ال مكان له حسب منطق الدولة اهليغل َّية يف مراكز القرار والسلطة ،بام يتضمن ذلك من فالحني يعني َّ
كل هذه املكونات االجتامعية يف ال مرئية عميقة حسب عبارة هونث ،الذي سيسعى ألن يستصلح وعمل ونساء وغريهم .وهكذا تغرق ُّ َّ
الفلسفة اهليغل َّية كي جيعلها من ضمن مرتكزاته النظرية يف التأسيس لفلسفة االعرتاف ،وهو ما يقتيض جهد ًا كبري ًا ،وطمس ًا رضوري ًا
لبعض اخلصوصيات املذهب َّية هلذه الفلسفة ،التي ال يبدو َّأنا تويل اهتامم ًا كبري ًا بام ينفلت عن سطوة الدولة القصوى.
إن سريورة بناء العقد ومن ضمن املآخذ التي تستخلص من املقاربة اهليغل َّية للمجتمعات الليربال َّية القائمة عىل فكرة التعاقد ،القول َّ
جتعل كيان املجتمع والدولة مرهتن ًا برغبات فردية تفتقد لِ ُل ْحمة عا َّمة تربط بينها ،ما جيعل األفراد يشكلون جماميع ذر َّية غري قادرة عىل
إن املجتمع الليربايل هبذا املعنى يفتقد للوشيجة اجلامع َّية ،وهو ما جيعل الفرد داخله يعاين من برت يف هو َّيته بشكل التعبري عن روح اجلامعةَّ .
كل فرد يتحدَّ د قبالة الدولة بشكل منفصل عن اجلامعة الثقافية أو العرقية التي ينتمي إليها ،وهنا تصبح الليربال َّية سياسة مبدئي ،ألَّن َّ
منهجية مبيتة لالمتناع عن االعرتاف باملكونات الروح َّية للفرد .وقد كان هذا هو املأخذ اهليغيل عىل فلسفة هوبس وسوقية مطالب
كون ثقايف أو روحي ،وهو ما جيعل الدولة القائمة عىل أي ُم ِّ متعاقدهيا ،يف سعيهم إىل حفظ احلياة بداللتها الطبيع َّية ،يف انفصال تام عن ِّ
مثل هذا األساس تفتقد للغاية العموم َّية املشرتكة.
كل التقليد الليربايل الذي يتجاوز يف أغلب حلظاته هذا التداول الض ِّيق حول املطالب التعاقد َّية؛لك َّن األمر ليس كذلك متام ًا بالنسبة إىل ِّ
ال تنظر إىل العقد االجتامعي من حيث هو أحد «أفكار العقل يتضمن غاية رضور َّية متمثلة يف إقامة وحدة سياس َّية فالفلسفة الكانط َّية مث ً
بني املتعاقدين» .4وعىل هذا املنوال ال يصبح املجتمع الليربايل ذر َّي ًا عىل الشاكلة اهلوبس َّية ،بل سيتقاسم اجلميع داخله غاية واحدة ،هي
خيص اجلميع ،وهبذا ينتفي الطابع املجاميعي عن املجتمع ضامن احلر َّيات واحلقوق الدستور َّية األساس َّية ،من حيث هي مطلب عقيل ُّ
التصور الذي ملبدأ املنفعة كام هو حال طرح جريمي بنتام ،وهو نفسه اختيار ُّ توجه ليربالية ميل ،التي ستتجاوز الليربايل .وذلك أيض ًا هو ُّ
نظرية العدالة التي ستخلق التحام ًا عا َّم ًا عرب مفاهيم خمتلفة بني مشاريع احلياة املختلفة.
كل ال ّليرباليات تسعى إىل خلق تكافل عام ُّ خلق مناخ خيدم احلر َّيات األساس َّية ،ولذلك فهي أبعد ما تكون
خيدم احلر َّيات األساس َّية ،ولذلك فهي أبعد عن منازع اإلقصاء والعزل جتاه أعضاء جمتمعاهتاَّ .
إن االعرتاف
الضمني باحلر َّية قوام ًا هلو َّية املتعاقدين ،يتناىف مع فكرة التضحية
ما تكون عن منازع اإلقصاء والعزل جتاه
بمكونات الشخص الثقاف َّية إذا كانت ال تعيق حت ُّقق الشخص يف
إن االعرتاف الضمني أعضاء جمتمعاهتاَّ . صورته املستقلة والعاقلة.
باحلر َّية قوام ًا هلو َّية املتعاقدين ،يتناىف مع
فكرة التضحية بمكونات الشخص الثقاف َّية وهذا يدفع عن الليربال َّية أيض ًا مأخذ إغفال أمه َّية امتداد الفرد
ال ستجعل داخل العمق االجتامعي املؤسيس«،فنظر َّية العدالة» مث ً
إذا كانت ال تعيق حت ُّقق الشخص يف صورته
مركز مدار العدل يتعلق بالبنية األساس َّية للمجتمع ،التي تستحرض
املستقلة والعاقلة بشكل عام َّ
كل املؤسسات املركز َّية يف احلياة الثقاف َّية لألفراد داخل
املجتمع ،يف إطار بحثها عن مبادئ للعدالة قادرة عىل تأطري هذه
البنية عىل الوجه األنسب واألوجب للموافقة العا َّمة .ولذلك فالشخص املتعاقد وهو جيري عملية اختياره األساس َّية يستحرض مقتضيات
عبة يف عموميتها عن هذه املؤسسات ،دون أن حيرص نفسه يف سياج مذهبي أو عقائدي ضيق ومغلق ،وذلك لكي تكون مبادئ العدالة ُم ِّ
«إن مفهو َمي الشخص واملجتمع ـ يؤكد رولز ـ متكامالن يستدعيان بعضهام بعض ًا ،وال كل مكونات املجتمع دون استثناء أو تفاوتَّ . ِّ
يمكن ألحدمها أن يوجد معزوالً عن اآلخر» .
5
إن تشكُّل القواسم املشرتكة بني مواطني األنظمة الديمقراط َّية الدستور َّية التي تقتيض منهم أن ينظروا لبعضهم بعض ًا عىل أساس َّ
ُعب عناملساواة واحلر َّية ،يستدعي بالرضورة اللجوء إىل تربية إدماجية للمواطنني متتح ما َّدهتا من الثقافة السياس َّية العموم َّية ،التي ت ِّ
فإن العالقة التواصل َّية والتداول َّية بني مكونات املجتمع ستصبح مستحيلة بدون هذه الثقافة املؤسسات األساس َّية للمجتمع ،لذلك َّ
أن رغباتنا ومشاريع حياتنا تنتج عن تفاعل مستمر مع سياقنا االجتامعي الذي يعمل العموم َّية وتلك املؤسسات األساس َّية .كام َّ
كل ليربال َّية تتصف نتجذر يف جمتمعنا ،عىل النحو الذي تعرتف به ُّ َّ أي حد
عىل تربية غرائزنا ونزوعاتنا األول َّية« ،وهذا يثبت إىل ِّ
باملعقول َّية».6
أن فكرة الفصل بني مفهوم اخلري لدى الفرد ومفهوم اخلري املوضوعي أو اجلامعي ،ال تقتيض بالرضورة انفصاالً ما سبق يتضمن أيض ًا َّ
يتم حت ًام مطلق ًا ،جيعلنا مطالبني باختيار أحدمها بدالً عن اآلخر ،عىل اعتبار َّ
أن نجاح الفرد من حيث هو كائن يسعى إىل حتقيق ذاته ،ال ُّ
ُعب عن ُمثل عا َّمة داخل املجتمعات الديمقراط َّية ،بحيث ال تُشكِّل ضدَّ مقتضيات ومطالب املؤسسات االجتامع َّية ،فهذه األخرية ت ِّ
حاجز ًا دون حتقيق الذات ،بقدر ما ُت ِّسد اإلطار األكثر تناسب ًا مع مشاريع مواطنني أحرار وأندادَّ .
إن طبيعة الفرد أو اجلامعة املندجمة
تصوره للخري احلياة
ملكوناته ،جيعل ُّ
يف املرشوع االجتامعي العام الذي ارتسم من خالل تعاقد أويل حيرتم الطبيعة العقالن َّية واألخالق َّية ّ
املؤسيس للمجتمع الليربايل ،وهكذا يصبح إرضاء املجتمع هو نفسه أحد مصادر إرضاء الفرد. الناجحة ،منسج ًام مع املطلب ّ
أقل خطورةكل االنتقادات التي اعتمدته كمرجعية فلسفية هلا تصبح َّ فإن َّ
ثمة َّهكذا لن يبدو هيغل غري ًام مطلق ًا لليربال َّية رولز ،ومن َّ
لقوة االلتحام
أن املجتمعات الليربال َّية حسب رولز ال تعاين بالرضورة من التفكُّك بني مكوناهتا ،وال تفتقد َّ ممَّا تبدو عليه يف الظاهر ،إذ َّ
جمرد جتميع وظيفي ملؤسسات أدات َّية غايتها إشباع االنتظارات املبتذلة ملواطنيهاَّ ،إنا أرقى وأبقى من ذلك بكثري. الداخل َّية ،كام َّأنا ليست َّ
يتحول مطلب االعرتاف ،من حيث هو تعبري عن إحساس بظلم اجلامعة إزاء جزء منها ،مطلب ًا غري ذي حمل ،يف جمتمع يقوم َّ من هنا
كل مؤسسات الدولة تنطبع بروحهام اإلنصاف َّية .وعىل املنوال الكانطي سوف يتجنَّب مهمتهام يف جعل ِّ
بأكمله عىل مبدأين للعدالة ،تكمن َّ
ألن مسلك ًا كهذا
رولز تأسيس اختيار مبادئ التعاقد انطالق ًا من حساسيات ثقاف َّية مرجع َّية ،تقدّ م كموجه لالستدالل وللمرشوع َّيةَّ ،
ويتحول بذلك إىل ما يشبه األوامر املرشوطة
َّ تصور العدالة إنصاف ًا مرهتن ًا َّ
بقوة ثقافة بعينها يف ميزان القوى العام داخل املجتمع، سيجعل ُّ
يف الفلسفة الكانط َّية.
عوض ًا عن ذلك سيحاول رولز بناء نظر َّية دينتلوج َّية ،تستخلص نتائج عادلة ومنصفة ،انطالق ًا من مبادئ ُّ
يتم اختيارها يف إطار رشوط
عادلة حترتم الطبيعة العقالن َّية للمواطنني .وسيكون املرمى العام هلذه املبادئ خلق مرجع َّية عموم َّية شاملة ،يلزم اجلميع بناء استدالالته
املتعلقة باحلياة املدن َّية خصوص ًا انطالق ًا منها .وعىل أساسها سترتتَّب البنية األساس َّية ،لكي توفر ما يدعوه رولز «األسس االجتامع َّية
الحرتام الذات».
إن ما يدعوه رولز باملجتمع املحكم التنظيم ،يمثل معل ًام مثال َّي ًا مرجع َّي ًا ُيدِّ د بشكل دقيق معنى العدالة اخلالص ،وهذا وحده يمكنه أن
َّ
كل حساسية ثقافيةُّ ،
وكل ميل رشطي بالداللة الكانط َّية ،مصدر ًا للتحلل يوفر أساس ًا معقوالً للتظ ُّلم ولبناء املطالب ،غري ذلك ستتحول ُّ
املؤسس لكيان الدولة ابتداء ،وهذا خطر داهم عىل االستقرار العادل الذي ينبغي أن يتو َّفر يف املجتمعات من إلزامات العقد العام ِّ
املنصفة.
وإذا كان رولز يقوم بتحييد األبعاد التارخي َّية للمجتمع يف حلظة التداول حول العقد العام ،فليس ذلك استخفاف ًا أو إقصاء
تصور العدالة انطالق ًا من
ُّ إن املبتغى األساس من ذلك هو جتنُّب بناء املكون أو ذاك ،لصالح فئة عىل حساب أخرى ،بل َّ ّ هلذا
إن هذا األخري هو ما يستدعي يف املجتمعات التعدد َّية مبدأ حتكيم َّي ًا ،ممَّا يفيد رضورة التوافق
تصورات ُمتعدِّ دة للخري؛ إذ َّ
ُّ
تصور ثقايف للخري .وهو ما يدعوه رولز بالطبيعة البنائ َّية( )Constructivism ُّ أي
التعاقدي عىل مبادئ للعدالة مستقلة عن ِّ
لنظر َّية العدالة.
إن ما ُيعدُّ نقطة ضعف من وجهة نظر فالسفة االعرتاف ،وال س َّيام اجلامعت ُّيون منهم ،هو يف الواقع ٌّ
حل مبدع يف الطرح الرولزي ،يعتمد َّ
عىل إعادة تأويل للفلسفة الكانط َّية خصوص ًا ،ولفالسفة العقد عموم ًا ،ضدَّ ًا عىل فلسفة هيغل الغارقة يف الرشط التارخيي .فبدون وضع
مسافة واضحة بني التفكري اخلصويص القائم عىل مكونات ثقاف َّية ،وبني التفكري العمومي املستقل عن مثل هذه املكونات ،لن يكون هناك
من سبيل لبلوغ معقول َّية عا َّمة تسمح للمجتمع باالستقرار.
يراهن رولز عىل عدالة أكثر هدوء ًا ،تتجاوز إن ما ينبغي محايته وصونه داخل املجتمعات العادلة هو الطبيعة َّ
ينم عن انتصارمطلب االعرتاف الذي قد ُّ ألنا تُعدُّ النواة الصلبة التي عىل أساسها العقالن َّية ألعضائهَّ ،
ينبغي تشكل اهلو َّية االجتامع َّية والثقاف َّية ،لكنَّنا إذا عكسنا األمر،
طرف عىل آخر ،إىل مطلب اإلنصاف الذي
جمرد أداة وظيفية نفعية ،تسعى إىل ستتحول إىل َّ َّ َّ
فإن هذه الطبيعة
يتخىل عن مثل هذا التطلع ،وجيعل تقدير حتقيق املصالح الفئو َّية؛ أي إىل عقل نظري غري قادر عىل تأطري
الذات جزء ًا من تقدير املبادئ التي تضمن ثمة
اخلية ـ الطبيعة التعاون َّية ـ لدى املواطنني ،ومن َّ
اإلرادة ِّ
هذا اإلحساس للجميع قصورها عن بلوغ مستوى العقل العميل .وهذا سيفقد املجتمع
مرجعيته األخالق َّية بدالهتا الكانط َّية ،أي القابل َّية جلعل القواعد
العا َّمة للعقل قادرة عىل توجيه اختيارات اإلرادة باستقالل عن
املكونات العرض َّية ،سواء أمربيق َّية سيكلوج َّية أو اجتامع َّية.
ِّ
هذا ما سيجعل فلسفة رولز تركِّز يف جزئها املثايل عىل قائمة من اخلريات االجتامع َّية األول َّية ،تتقوم مبارشة بالقوام العقيل ،بغض النظر
وتضم
ُّ أي ذات عاقلة تسعى إىل حتصيله ،وما تقتيض نظر ًا لقيمتها أن ختضع إىل توزيع عادل، عن اخلصوص َّية الثقاف َّيةَّ ،إنا ما يناسب َّ
هذه اخلريات :احلقوق ،واحلر َّيات ،والسلط ،والفرص االجتامع َّية ،والوظائف ،والدخل ،والثروة« ،وأسس احرتام الذات» .وتكمن
كل مشاريع احلياة العقالن َّية ،وتتميز بكوهنا قابلة للتوزيع ،عىل خالف أمه َّية هذه اخلريات االجتامع َّية ،يف وجوب تو ُّفرها لتحقيق نجاح ِّ
والقوة ،والذكاء ،واخليال ،التي رغم َّ
أن التوفر عليها يتأثر بالبنية األساس َّية ،لكنَّها مع َّ اخلريات األول َّية الطبيع َّية ،عىل غرار :الصحة،
ذلك ليست حتت سطوهتا.7
هتتم نظرية العدالة ،وذلك عىل شاكلة الفلسفة الكانط َّية ،باملضمون امللموس للخري ،بقدر ما تركِّز عىل ضبط شكله ورشوطه الصور َّية ال ُّ
أن هناك فرق ًا يف مقاربة هذا املفهوم لدى كانط بني حلظة العقل العميل ،وحلظة نظر َّية الفضائل ،واملجال األنثروبولوجي، العا َّمة ،فكام َّ
فهناك أيض ًا فارق بني صورة اخلريات األول َّية يف اللحظة املثال َّية للنظر َّية ،وبني اللحظة غري املثال َّية ،حيث سيعمل رولز عىل تنزيل توابع
اختيار مبادئ العدالة ،يف املظاهر املؤساسات َّية للبنية األساس َّية للمجتمع.
َّإنا حلظة رفع حجاب اجلهل الذي كان حيول دون أعضاء العقد ومعرفة انتامءاهتم الثقافية ،حيث سيصبح يف هذه املرحلة بإمكاهنم
استحضار جمموعة من املعطيات اخلصوص َّية ،ثقاف َّية وعرق َّية ودين َّية واقتصاد َّية ،وهنا سيكون باإلمكان استحضار البعد اجلامعتي ،لكن
وهو مؤ ّطر بضوابط مبادئ سابقة ومستقلة .و بالتايل عوض التعاطي مع مسألة االعرتاف ،من حيث هي مواجهة بني ثقافة ثانو َّية
ومستصغرة ومقص َّية ،وأخرى متعاظمة ومهيمنة ،سيقارب رولز األمر من خالل جعل ِّ
كل ثقافة داخل املجتمع عىل حدة ،ختترب مقوالهتا
إن اهلو َّيات الثقافية ،حسب هذا املنطق ،لن تأخذ شكل حلظات حسب معيار مبادئ العدالة التي تولدت عن عقد اجتامعي غري تارخييَّ .
تؤسس انخراطها يف املرشوع العام للتعاون سيتم ترصيفها بمنطق كانطي ،جيعل َّ
كل ثقافة وهي ِّ يف صريورة اجلدل عىل املنحى اهليغيل ،بل ُّ
ُمشع ًا خيضع ملا ُيدِّ د مبادئه وغاياته بشكل داخيل ،ليس حسب إلزام خارجي غريب ومتس ِّلط. االجتامعي العادلّْ ،
يتح َّقق هذا االلتحام والتداخل حينام جيعل املجتمع املنصف ،وهو يفسح للجميع فرص الرقي بملكاته وكفاءاته ،العدالة نفسها خري ًا
ظل يراد لنفسه ،وهذا ما ُيتيح للفلسفة الرولز َّية أن تصل إىل مستوى نظر َّية اخلري التا َّمة( )full theoryالتي تنظر إىل مفهوم اخلريات يف ِّ
تم خاصة ،عىل خالف املرحلة األوىل حيث َّ سياق واقعي ،وارتباط ًا باملواطنني من حيث هم أشخاص أخالقيون ،هلم ُمثل ومرا ٍم كامل َّية َّ
7 . John Rawl, Theory Of Justice, revised edition, Hravard University Press1999, p.54.
االكتفاء بنظر َّية خري ضيقة ( )Thin theoryنظر ًا ملثاليتها؛ فإذا كانت هذه األخرية اكتفت باحلدِّ األدنى من األخالق َّية يف حدود عقالن َّية
ُصلبة ،ممَّا جعلها تنطلق من فكرة اتصاف رشكاء العقد بالالمباالة جتاه بعضهم بعض ًاَّ ،
فإن النظر َّية التا َّمة تتجاوز هذا التضييق املنهجي،
وتفتح الذات َّية اإلنسان َّية بشكل أكرب عىل ا ُملثل الكُربى ،وعىل اخلصوصيات الثقاف َّية.
تُعدُّ نظرية اخلري التا َّمة إحدى االستعامالت املرشوعة ملبدأ العدالة ،الذي يمكنه أن يعتمد يف حتديد وتعيني جمموعة من املفاهيم
يتحول بذاته إىل خري ،وإىل عامل استقرار
حس العدالة حينام يشيع بني الناس َّ األخالق َّية التي تتجاوز مفهوم العدالة ذاته ،عىل أساس َّ
أن َّ
كوناته الثقاف َّية ،وهو األمر الذي يمكن أن جيري مصاحلة فعل َّية بني العدل وبني اخلري ،بني ما جيب علينا وبني ما للمجتمع ككلِّ ،
بكل ُم ِّ
نريده ،وهذا ما يدعوه رولز بالتطابق بني اخلري َّية وبني العدل (.) justice as goodness
يصبح اخلري ،من حيث هو صفة كامل َّية يتَّسم هبا الرجل العادل والصالح بفعل إوال َّيات اإلدماج ،عنوانا عىل الطبيعة العقالن َّية للمواطن،
بتصور العدالة إنصاف ًا ال يمكنها إال أن تتناسب وتنسجم مع الطابع العقالين للمجتمع ككُل .خصوص ًا َّ
أن تفتُح ُّ َّ
ألن اخلريات املنطبعة
إن ممارسة العدل واخلري داخل سياق الكفاءة العقالن َّية واألخالق َّية جيعل العدل امليل الغالب بفعل ما يدعوه رولز باملبدأ األرسطي ،حيث َّ
ألن تبخيس الذات هو تغذي الثقة بالذات واحرتامها ،وهو ما يمثل أكرب مكسب داخل املجتمع العادلَّ ، يتحول بدوره إىل متعة ِّ
َّ شبيه
للحس املدين ،وعائق فعيل أمام املواطن لالنخراط يف املرشوع التعاوين العادل للمجتمع ،وفقدان الثقة يف إمكان حتقيق مرشوع ِّ إحباط
حياة عقالين.
إن الشخص الرولزي هبذا املعنى حيقق بشكل واضح املثال الكانطي الذي يقتيض أن تتضافر وتتداخل املشاريع العاقلة للحياة مع َّ
ألن نسق الواجبات حينام ينبني عىل مبادئ سليمة جيعل هذا االندماج تلقائي ًا ،كام َّ
أن بعضها بعض ًا ،حتى دون التخطيط املسبق لذلكَّ ،
إن اجلميع سيحرص يف إطار تنمية ملكاته يف حضن اجلامعة عىل أن خيلق العالقة بني مكونات املجتمع ال تقوم عىل منطق رصاعي ،بل َّ
إن الفرد الرولزي مرتبط من أفق ًا كون َّي ًا يتَّسع باستمرار يف سبيل بناء إنسانية تسود فيها املساواة واحلر َّية ،مثلام ينبغي لإلنسانية أن تكونَّ .
ثم إنَّه داخل َّي ًا من جهة عاطفته التي متثل عالقة مع حيث حساسيته بموضوعات العدالة ،املتمثلة يف اخلريات القابلة للتوزيع العادلَّ ،
الذات وليس مع املوضوع ،يستشعر هذه العدالة باعتبارها خري ًا ،ما يمنحه ثقة بذاته ،واستقرار ًا وتناغ ًام بني حياته اخلارجية وبني حياته
تصور ًا مشرتك ًا عن العدالة ،وهذا ما
كل مكونات املجتمع ،لكون مرشوع حياته ُي ِّسد أيض ًا ُّ الداخلية ،كام أنَّه يصادف تثمين ًا وتقدير ًا من ِّ
وحس ًا مدن َّي ًا َّ
يتقوى من خالل الرتبية عىل التعدد َّية يف يسمح باستشعاره النظرة اإلجيابية للجامعة ،ممَّا ُيضفي عىل ثقته بنفسه ُبعد ًا حضار َّي ًاَّ ،
تم التعاقد عليها؛ فاملجتمع الذي يعرتف بحر َّية التفكري واالجتامع والتعبري واالعتقاد ،بإمكانه أن
مشاريع احلياة داخل إطار مبادئ عامة َّ
كل فرد ال بدَّ أن جيد لنفسه رفقة تشاركه اهتامماته ،وتقدره ،وتسعى إىل مساعدته يف حتقيق أن َّ
يفتح إمكانات مجعو َّية الحمدودة ،ممَّا يعني َّ
وكل ذلك يف إطار انسجام وسلم ،يوفران مناخ تقدير الذات. مرشوع حياتهُّ .
جينبنا سياق كهذا الشعور باخلجل االجتامعي الذي يمثل مقتل الثقة بالذات ،فهو ال يتعلق بعالقتنا باألشياء ،من جهة الفقد أو التبذير
أو اإلتالف ،وإنَّام بخلل ما يف عالقتنا بذواتنا ،إنَّه إحساس محيم وداخيل لألنا وهو حياكم نفسه أمام نفسه ،وأمام األغيار الذين يمثلون
رشط ًا مبارش ًا لتقديرنا لذواتنا ،وذلك عىل مستوى أخالقي ،نظر ًا لتعالقه مع فكرة العدالة واإلخالل بمقتضياهتا.
أي
فإن َّيعب عنه مبدأ العادلة الثاينَّ ،
إذا كانت العدالة التوزيع َّية تنظم عالقتنا مع األشياء التي نملكها من خالل مبدأ التفاوت الذي ّ
مساس بعدالة وضعية يرتبط هبذا املجال جيعلنا نشعر بالظلم ،لكن حينام يتعلق األمر بصفات نحتاجها لتحقيق مشاريع حياتنا العقالن َّية،
يشوش يف حدود دنيا عىل ثقتنا يف ذواتنا، مثل الذكاء وسعة اخليال واإلبداعَّ ،
فإن ذلك جيعلنا نشعر باخلجل ،لك َّن هذا اخلجل رغم أنَّه ِّ
ال خيتلف اخلجل من البشاعة والغباء عنه يف صورته األخالقية التي تتعلق مبارشة ُّ
يتصل مبارشة بمجتمع العدالة ،مث ً ُّ
يظل طبيعي ًا وال
هيم مشاريع حياتنا التي ترتجم إرادتنا واختيارنا ،وهذا ما ينقل اخلجل من املستوى السيكولوجي إىل املستوى بفكرة العدالة ،حينام ُّ
نوجهه مبارشة ألنفسنا.
احلقوقي ،بحيث يؤرش يف دواخلنا عن مسؤوليتنا عىل املساس بحريتنا وندّ يتنا لآلخرين ،فهو شعور بالظلم الذي ِّ
حس ًا بالعدالة
نمي لدى اجلميع َّ
توفري الرشوط الداخلية واخلارجية لتقدير الذات ،وعدم السقوط يف اإلحساس باخلجل األخالقيُ ،ي ِّ
التصور العام للعدالة واحلياة الداخلية هلا ،وهذا ما خيلق مناخ ًا للتصالح بني الناس ،يضفي عىل نقاشاهتم
ُّ حيرتم يف الوقت نفسه مقتضيات
العموم َّية حسن الن َّية ،وجيعلها تدور يف إطار صداقة مدن َّية تسمح ببلوغ قرارات موضوع َّية من جهة ،وذات جاذب َّية شخص َّية من جهة
أخرى.
ألن جمتمع العدالة ال يقوم عىل أساس وخية ،تتجاوز معضالت الرصاع واالعرتافَّ ، ما سبق خيلق وفاق ًا ووحدة اجتامعية عادلة ِّ
انصهار املصالح يف إطار وحدة عضو َّية خانقة ،كام أنَّه ليس بؤرة فوضو َّية يتقاتل فيها الناس ألجل مصالح متباعدة ومتضاربة ،إنَّه
باألحرى جمتمع يوازن بني املصالح ويصالح بينها ،بحيث يمثل إطار العدالة خري ًا للجميع عوض أن يأخذ شكل إطار خانق ،ألنَّه
حس ًا
كل من يملك َّ ما يمثل ضامن االستقرار واحلر َّيات واحلقوق األساسية ،وما يسمح بوضع قواعد لعب منصف ،ال بدَّ أن يريض َّ
بالعدالة.
مؤسسات العدالة التي متثل خري ًا للجميع ،والتي يف إطارها يمكن فتح إمكانية
يتوحد من خالل غايات كربى متمثلة يف َّجمتمع كهذا َّ
انتامءات ثانو َّية تدعم وال تعاند فعل االنخراط يف االجتامع العام ،حيث ال نظلم غرينا بفعل ضامن بنية أساسية عادلة ،وال نظلم أنفسنا
أي طرفَّ ،
ألن الفرد واجلامعة واخلري والعدالة كلها جتنب ًا خلجل ينجم عن ِّ
حس العدالة لدينا ،وال نشعر بالرغبة يف انتزاع االعرتاف من ِّ
يف وفاق وتطابق ،وليس يف رصاع ومعاندة.
خاتمة
لقد مثلت املرجع َّية الكانط َّية ترياق ًا حقيقي ًا لفلسفة رولز من االحتدام اهليغيل ،وهذا مكمن قوهتا ،وغرابتها أيض ًا عىل سياق احلساسيات
يتم رضورة يف إطار مغالبة حول املصالح
السياس َّية التي ألفت منطق اجلدل والنفي والرصاع ،الذي جيعل تعدُّ د العالقات البين َّية بني الناس ُّ
ينم عن انتصار طرف عىل آخر ،إىل مطلب واالمتيازات ،بينام يراهن رولز عىل عدالة أكثر هدوء ًا ،تتجاوز مطلب االعرتاف الذي قد ُّ
اإلنصاف الذي يتخىل عن مثل هذا التطلع ،وجيعل تقدير الذات جزء ًا من تقدير املبادئ التي تضمن هذا اإلحساس للجميع؛ إنَّه مرشوع
ُسوغ رصاعات من املمكن بقليل من اجلهد أن نتجاوزها. املجتمع التعاوين الذي من املفرتض أن ُي ِّلصنا من جدل َّية هيغل َّية ما فتئت ت ِّ
خالص جلبي*
متطور ،ويمكن أن يصل إىل أرقى أنواع املجتمعات كام هو احلال يف كندا والنرويج والسويد ،حيث يعيش احلاكم ّ الديمقراط َّية كائن
برش ًا ممَّن خلق ،وليس إهل ًا ال ُيسأل َّ
عم يفعل.
وهذا الكائن الذي صنعه البرش ودعا له األنبياء واملرسلون خيترص بثالث مجل :حكم األكثر َّية ،وضامن حقوق األقل َّية ،ومتثيل صحيح
آلل َّيات االنتخاب ،وهذا يعني بكلمة واحدة جمتمع العدل ،الذي جاء به س ّيد املرسلني رمحة للعاملني.
ورسالة األنبياء بدورها ُتترص بثالثة أهداف :تركيب البوصلة األخالق َّية عند الفرد ،وبناء جمتمع العدل الذي تسعى له الديمقراط َّيات
األخوة والسالم بني األنام.
َّ عرب التاريخ كام وصفناها ،والثالث إرساء
ال يف اخلليج؛ لقفز يف الغالب إىل د َّفة احلكم أكثر القوم تشدُّ د ًا ورعونة ،ويف يوم
تم تطبيق هذا املعيار يف بلد نفطي مث ً
ولكن مع هذا فلو َّ
تم إعدام أعظم دماغ يف تاريخ اإلنسان عىل يد األغلب َّية من أثينا ،باسم الديمقراط َّية ،ومنه كان القذايف يف ليبيا ـ يسء الذكر الذي طوته َّ
صفحة التاريخ غري مأسوف عليه (املهرج الدموي) ـ يستهزئ هبا ،وكان ير ّدد الديموكراس َّية :دوموا عىل الكرايس.
كان سقراط فلتة عقل َّية ،وبالتعبري الط ّبي (طفرة) .مع هذا فقد حكمت أثينا الديمقراط َّية بإعدام سقراط عام 399قبل امليالد .والسؤال
ما هو هذا اجلرم الكبري الذي حكم عىل العقل الكبري أن ينطفئ يف أثينا؟
* مفكر من سورية.
أنتجت احلضارة الغربية مضا ّدات للرببرية من الرضوري اإلحاطة بظروف إعدام هذا الرجل ،فقد عاشت
التي أوجدهتا ،ومع ّأنا غري كافية ّ
وهشة، أثينا القديمة فرتة من الزمن تنعم بنوع من احلكم الديمقراطي
السيادة فيه لعا َّمة أبنائها ،ولكن ما كادت املدينة العريقة تنهزم
زعزعت االستعباد من الداخل .وقد أدت
يف حرهبا مع إسبارطة حتى انتكست فيها الديمقراط َّية ،فقد
األفكار التنويرية ،التي تبناها املست ْع َبدون، أعاد اإلسابرطيون فلول األرستقراط َّية األثينية إىل احلكم فنكَّلوا
إىل نزع االستعامر عن اجلزء األكرب من بالديمقراطيني ،وحكموا عىل الكثريين منهم باإلعدام دون
العامل. مقاضاة أو حماكمة.
لف أثينا بظالمه .ولك َّن اخلالص كان يفكان عرص ًا أسود َّ
واضطر اإلسبارطيون إىل متكينهم من حكم
َّ فانضم إليه أنصار الديمقراط َّية،
َّ الطريق ،فقد عاد (تراسبيولوس) بعدد قليل من أتباعه؛
وحل عام 399قبل امليالد حتى اقرتف هؤالء ما رأت فيه األجيال الالحقة وصمة عار يف جبني البالد ،ولكن ما إن مضت مخسة أعوام َّ
الديمقراط َّية األثين َّية ،ال يمكن أن ينساها التاريخ.
التجول يف شوارع
ُّ أن سقراط مل يرتك كتب ًا حتمل آراءه ،وإنَّام نقلها إلينا تلميذه (أفالطون) .ومل يكن لسقراط من عمل سوى
واحلقيقة َّ
أثينا مغري ًا الناس باجلدل واملناقشة ،دافع ًا إياهم عن طريق السؤال واجلواب إىل البحث عن املعرفة احلقيق َّية والفضيلة ،ولكي ينهض بتلك
الرسالة كان ال بدَّ من التشكيك يف كثري من األفكار السائدة ،وهكذا أثار سخط عدد من الناس عليه؛ فاهتموه باملروق الديني وإفساد
الشباب.
تم تقديم الفيلسوف إىل املحاكمة ،وكانت حمكمة غريبة تتكون من 565قاضي ًا ،كان اختيارهم من العوام بالقرعة العمياء ،أي بح َّبات
َّ
وقصاب غشاش ،وصياد ً
الفول كام كانت عادة األثينيني يف اختيار موظفيهم ،وهكذا فقد كانوا خليطا من بائع متجول ،ومتسكع عربيدَّ ،
سمك ،و ُم ٍ
راب.
وعندما فرغ املدَّ عي من تالوة اهتامه؛ هنض سقراط وقالُّ :أيا األثينيون ،لقد عشت شه ًام شجاع ًا ،ومل أترك مكاين خوف املوت ،وما
أراين اليوم وقد تقدَّ مت يب الس ُّن مستطيع ًا أن أهبط عن ذلك املقام يف الشجاعة فأختىل عن رسالتي التي أهلمتني إياها السامء ،والتي هتيب
يب أن ُأ َب ِّص الناس بأنفسهم ،فإذا كان ذلك التبصري هو ما تسمونه إفساد ًا للشباب األثيني ،فاعلموا إذن ُّأيا القضاة أنَّكم إن أخليتم سبييل
فإن عائد من فوري إىل ما كنت عليه من تعليم احلكمة.يف هذه الساعة ّ
وهنا علت مههمة القضاة وأظهروا غضبهم واستنكارهم ،ومع ذلك فقد مىض سقراط بكلامته فقال :ال حتسبوا دفاعي هذا عن نفيس
وحق اآلهلة لن جتدوا
عوض .فإنَّكم ِّ فإن أخشى أن تفقدوا بفقدي رج ً
ال ال ُي َّ خوف ًا عليها بل هو خوف عليكم أنتم يا أهل أثينا األحباء؛ ّ
من بعدي أحد ًا يبرصكم بعوراتكم ،لرتكضوا كاجلياد إىل غايات اخلري والفضيلة واإلحسان.
تتعرض له حياة الفيلسوف من مثل هذه اللهجة احلادة فقال له :أليس من األفضل
وأحس رئيسهم باخلطر الذي َّ
َّ وازداد ضجيج القضاة
لك أن تكسب عطف املحكمة ،بدالً من أن تتحداها هبذا الزهو والشموخ؟
بالتوسل والبكاء؟
ُّ أجاب سقراط :أتريدين حق ًا أن أترضاكم يا أهل أثينا باملديح والثناء الكاذب ،وأن أريض غروركم
أن نفوسكم هي التي يف ك َّفة امليزان ال نفيس؛ فاحرصوا عىل العدل واحلق.
واآلن ُّأيا القضاة ،احكموا بام شئتم ،واعلموا َّ
عيل هو أن حتكموا يل أي العقوبات يظ ُّن أنَّه يستحقها؟ أجاب مبتس ًامَّ :
إن أليق حكم تصدرونه َّ وعندما سأل كبري القضاة سقراط عن ّ
بأن أطعم وأكسى عىل نفقة الدولة بقية عمري ،اعرتاف ًا منكم بام أسديت ألثينا وأهلها من اخلري.
يف تلك األثناء تسلل إليه ذات ليلة تلميذه الشاب (كريتون) ومهس يف أذنه :لقد أعددنا َّ
كل يشء للهرب؛ فه َّيا بنا يا أستاذي إىل احلر َّية؛
ال ثم قال :كال يا كريتون لن أهرب من املوتّ .إن ال أستطيع أن أختىل عن املبادئ التي ناديت هبا عمري كله .بل فتطلع إليه سقراط طوي ً
ّإن يا كريتون أرى هذه املبادئ الغالية التي ناديت هبا حتى اليوم جديرة بذلك الثمن .أجل ياكريتون ليست احلياة نفسها شيئ ًا ،ولكن أن
نحيا حياة اخلري واحلق والعدل فذلك هو ُّ
كل يشء.
فتجرعه سقراط ّ
بكل شجاعة ،ومل خيف املوت ،ألنَّه كان عىل يقني من َّ
أن اخللود يف َّ السم،
ويف ذلك اليوم محل إليه احلارس كأس ُّ
انتظاره.
ألنم سينتخبون من هو ضدّ مصلحتهم ،كام حصل وألن الوعي هو رصيد االنتخابات ،فال يعني شيئ ًا أن ينتخب كومة من اجلاهلني؛ َّ َّ
يف انتخاب املمثل (شفارتتزنيجر) ذي العضالت حاك ًام لكاليفورنيا ،بسبب عالقة زواجه من عائلة كينيدي ،ودخوله إىل نادي أصحاب
املال والنفوذ ،ومتويل محلته االنتخاب َّية .ومن قبل رجيان الذي كان يقوم بدعاية اجلبنة يف التلفزيون ويمثل أفالم الكوبوي يف هوليوود،
أو بوش املعروف بأنَّه كان مدمن ًا عىل املخدّ رات ،وقد نجح يف اجلامعة بالكاد! أو دونالد ترامب الذي ال يوصف باحلكمة وال يعرف
حترك العقالء يف مظاهرات صاخبة بعد أن
صوت له هم الغوغاء ،وبسبب هذا َّ يف السياسة أكثر من معرفة فالح يف علوم الفضاء ،ومن َّ
شعروا بأنَّه عار عىل أمريكا ،كام فعلت جملة دير شبيجل األملانية يف عددها 2016 /45يف صفحة غالفها الرئيسة ووجه دونالد ترامب
وهيالري كلينتون ملطخة بالوحل وحتتها فقرة سيناريو الرتاجيديا (.)Drehbuch einer Tragoedie
مرضة لألطفال ومفسدة للشيخ ومهيجةكل صنف؛ ما هو َّ ويف مدينة مونرتيال يف شارع (سانت كاترين) ترى صور اإلباح َّية من ّ
كل ذلك من أجل مال حرام يف غرض حرام يف طريق حرام؛ ولذا فالغرب ليس جنَّة ،كام َّ
أن الرشق ليس جهنَّم. للمراهقنيُّ .
نحن إذن أمام أنواع من الديمقراطيات ،أبشعها ديكتاتوريات رهيبة تتلفع برداء الديمقراط َّية ،جيب كشف الغطاء عنها كي يزول
السحر عنها ،كام كانت عند صدَّ ام املصدوم املشنوق ،واألسد الكياموي الربامييل ،واملبارك بدون بركة ،وزين العابدين اهلارب بدون
للمرة الرابعة ،وهو مشلول مربوط إىل املنتخب ّ
بكل تلفيق َّ َ زينة ،وصالح بدون صالح ،حمروق الوجه يف الدنيا قبل اآلخرة ،وبوتفليقة
كريس أخرس ،وخامتتهم القذايف املقذوف ،بعد أن دفع اجلزية للغرب عن يد وهو صاغر.
وهناك مجهوريات شعب َّية ال تولد فيها الديمقراط َّية ،بمعنى التمثيل الشعبي ملصلحة الشعب ،إال يف خيال الفالسفة .وجيب َّأل تستعبدنا
الكلامت والشعارات .ويف اليونان كانت كلمة الديمقراط َّية لألحرار وليس للعبيد.
ُّ
والكل يعلم أنَّه ليس يف العراق من هو أكرب من صدَّ ام .ووعي الناس هو وصدَّ ام كتب «اهلل أكرب» عىل العلم العراقي،
أن نتائجها بيد ُّ
والكل يعلم َّ رصيد االنتخابات أكثر من الصناديق واألوراق .ويف سوريا والعراق جرت االنتخابات ومازالت،
املخابرات.
أ َّما يف ليبيا فالقذايف كان يقول ،قبل أن ختسف به األرض وينتهي عىل اخلازوق ،إنَّه ال حيكم ليبيا ،ومن حيكم هو الشعب،
أن جنود فرعون وهامان وقارون هم من خيططون ،وينفذون .وروى يل رجل من مدينة محاة عن جلسة األسد األب ُّ
والكل يعلم َّ
مع اجلبهة الديمقراط َّية التي كانت مرسح عرائس وال تزيد عن ديكور سيايس ،أنَّه كان حيرض إلنجاز أعظم األمور واستخالص
والكل هيمهم ويدمدم ويقول نعم سيادة الرئيس ،ومل يكن من معرتض إال عبد الغني قنوت،ُّ أعظم املوافقات يف ربع ساعة،
كل حال جلسةالشك يف املعلومة ،ومل يكن ليهتم أحد برأيه .وهي عىل ّ
ُّ عىل رواية الراوي احلموي ،والقنوت محوي ،ولذا جيب
ديمقراط َّية!
أن احلروز والتامئم التي كانت تستخدمها جدَّ اتنا لطرد اجلان ،حتولت يف العمل السيايس إىل بطاقات انتخاب .ويف واعترب مالك بن نبي َّ
املجلس الفلسطيني ُت ّلق آية الشورى فوق الرؤوس ،ولكنَّنا مل نشم الشورى يف تارخينا ،إال فرتة العرص الراشدي نسبي ًا ،أ َّما الديمقراط َّية
النسب َّية احلال َّية يف الغرب فتقوم عىل مؤسسات ،تلعب هبا إىل حد كبري لوبيات املال ورشكات األسلحة ،وتعمل بآل َّية ليست بتلك املثال َّية،
التطور يف التاريخ.
ُّ ولكنَّها أصلح املوجود ،حلني ظهور ما هو أصلح منها؛ فهذا هو قانون
يقول احلديث« :واهلل ال نويل هذا األمر أحد ًا سأله» .وحاول سيد قطب التوفيق بني هذا احلديث ،وما فعله يوسف عليه السالم
حينام طلب ا ُمللك ،فقال اجعلني عىل خزائن األرض ِّإن حفيظ عليم .ويف هذه الطريقة ال يرشح الناس أنفسهم ،بل ينتخبهم الناس،
نتخب ليس من يعرض نفسه ،بل من يعرفه الناس أنَّه األتقى واألنزه .وعندما خيتار الناس األصلحألنم يعرفوهنم بني ظهرانيهم؛ ف ُي َ
َّ
السلطات
السلطة الدستور َّية .ويمكن نقل هذه اآلل َّية إىل بق َّية ُ
يتم انتخاب ُ
حيصل التمثيل من الدرجة األوىل .ومن هؤالء األصلح ُّ
الثالث.
وجيب االستفادة من خربة األمريكيني؛ أن ال يدفأ الكريس حتت أحد ،يف أكثر من انتخابني .وال تزيد فرتة احلكم عن ثامين سنني بحال،
فرتة ألربع سنني ،ثم أربع سنني أخرى إن نجح ،ثم االنرصاف إىل بيت أ ِّمه وأبيه ،فاألُ َّمة تلد زعامء وليست عقيمة .أ َّما عندنا فسبع
عجاف يلحقها سبع عجاف يليها سبع عجاف .والناس حت ّيي الزعيم وتصفه أنَّه ملك اإلنسان َّية يستحق أن حيكم األرض وما حوت من
خالئق وهبائم.
دشنها العبادي يف خريف 2016م هي امتداد هلذا املرض ومضاعفاته .والعراق اليوم ـ وليس الوحيد ـ مثل ومعركة املوصل التي َّ
ففك عقاله ،وطلب منه أن يشارك يف سباق مائة مرت يف املاراثون .والغلط يف مثل هذه األشياء قاتل. كسيح كان مربوط ًا إىل كريس متنقل َّ
يتحول إىل
َّ وتغيري صدَّ ام أبدله باملالكي عبد إيران بعقله قبل سياسته ،مثل استبدال املشنوق بعشاموي .ومن اعتاد َّ
الغش يف حياته فلن
يتحول بلمسة سحر إىل قدّ يس ،والشيخ َّ نبي ،يدعو العباد إىل َّأل يبخسوا الكيل ،وأن يزنوا بالقسطاس املستقيم .كام ال يمكن ل ّلص أن
ال من حبوب الفياجرا تقوده وجترع رط ً
الطاعن يف السن املتكيء عىل العكَّاز ال يمكنه الزواج بفتاة صغرية ،ولو اشرتاها باحليل واملالَّ ،
وتبي هذا املوضوع صعب، ِ
إىل اخلانوق قبل اجلامع ،فهذه قوانني وجود َّية .ومن خالف ُسنَّة اهلل ،سحقته ُسنَّة اهلل ،ومل تُبال ومل ترحمُّ .
ألن القض َّية غري واضحة ،ومل يشتغل عليها الناس يف عامل العروبة امليت .وهي عقاب اهلل عىل استخدام اجلاهل أداة ال يعرف كيفية َّ
استخدامها .واملجتمع املدين غري املجتمع القبيل.
واأل َّمة التي تُبتىل بـ (االستبداد) غري التي تعاين من (االحتالل) ،فالثاين (واضح) و(مؤمل) و(عالجه سهل) كام يف التهاب اجللد
اخلارجي ،أ َّما (االستبداد) ،فهو مثل الرسطان (غري مؤمل) و(غامض) و(ينترش) بخبث وعالجه معقد وأحيان ًا ميئوس منه .ويف االحتالل
تؤدي التنمية إىل التقدم العلمي والتقني توجد أ َّمة مهانة ولكن موجودة .أ َّما االستبداد فهو اإلعالن
والطبي واالجتامعي ،ولكنها تؤدي أيض ًا إىل (اخلفي وغري املبارش) عن هناية األ َّمة وموهتا.
ول َفهم ما جيري يف العراق فال بدَّ من االستعانة بحزمة من (العلوم اإلنسان َّية) املساعدة ،مثل علوم االجتامع والنفس والتاريخ.
أن العراق مبتىل بثالثة أمراض ـ كام أسلفنا ـ وليس مثل العراقيني يف معرفة العراق .و(عيل الوردي) عامل االجتامع العراقي رأى َّ
كل واحد كارثة بحدّ ذاهتا وهي( :رصاع البداوة واحلضارة) و(التناشز االجتامعي) و(ازدواج الشخص َّية) .ويقول عن هذه املصائب
َّإنا ليست من بنات أفكاره بل استفادها من علامء اجتامع آخرين؛ ففكرة (البداوة واحلضارة) جاءته من (ابن خلدون) ،وفكرة
(ازدواج الشخص َّية) استفادها من (مك كايفر) ،والثالثة من (أوكربن) .وذكر أنَّه قام بيشء من التعديل فيها لتتطابق مع املجتمع
العراقي .ولفهم هذه األفكار الثالث كمدخل لفهم املجتمع العراقي ،علينا مراجعة موسوعة الوردي (ملحات اجتامع َّية من تاريخ
يمر هبا العراق ،وكذلك مذكرات العراق احلديث) .وهو كتاب ضخم يف ستة أجزاء ُينصح بقراءته يف هذه الظروف العاصفة التي ُّ
(نوري السعيد) ،أو ما تركته (مس بيل) التي شاركت مع االحتالل الربيطاين يف توجيه د ّفة احلكم .ومفاتيح من هذا النوع تنفع يف
إضاءة خلف َّية األحداث (الثقاف َّية) وجذورها العميقة .فالعراق فيه ألف ملة ونحلة وعرشات اللغات واملذاهب واألعراق واألديان
بمن فيهم من يعبد الشيطان الرجيم! ومن أراد فهم ما حيدث يف العراق من باب السياسة كان كمن يستدبر املغرب وهو يطلبه.
وأمه َّية ما حيدث وسيحدث يف العراق أنَّه سيرتك بصامته عىل املنطقة .ولذا كان من مصلحة األنظمة الشمول َّية املتخشبة يف املنطقة العرب َّية
كل شعب عىل السالمة وهيتف بحياة القائد إىل بكل املقاييس ،لكي حيمد اهلل ُّ
أن ترى يف التجربة العراق َّية ـ ويلحقها السور َّية ـ كارثة ّ
األبد.
والتعويضات الليب َّية كانت 33مليون دوالر لألملان ،و 170مليون دوالر للفرنسيني ،و 2,7مليار دوالر لألمريكيني ،وهي توحي
الضعف الذي بلغه العرب .دفعها القذايف كام جاء يف حمكم التنزيل عن دفع اجلزية عن يد وهم صاغرون.بمدى َّ
«العصب َّية والغزو والثأر والدخالة والتسيار وغسل العار وما شابه»َّ .
ولعل االنقالب البعثي (يف سوريا والعراق) محل قيم الريف إىل
املدينة (فرت َّيفت املدينة) ،ومحلت معها َّ
كل الرتاجع يف قيم احلضارة.
وهذه القيم عميقة يف (الالشعور) ،ومل يتفلت منها حتى أبناء املدن ،حيث تسيطر نزعة « (الفرهود) و(الغزو) أقوى من نزعة العمل
واإلنتاج» .فالبائع يو ُّد أن «يغلب الزبون بدالً من أن يداريه عىل طريقة أهل احلضارة» .ومنه كثرت املشاجرات بني البائع واملشرتي
والعامل وصاحب العمل .والويل ملن يريد أن يبني بيت ًا «فإنَّه سوف حياط بعدد كبري يريد ُّ
كل واحد منهم انتهاز الفرصة لغبنه والتدليس
عليه».
وأنا شخصي ًا يل جتربة مريرة يف هذا ،حني بنيت بيت ًا لألحالم والتقاعد يف اجلوالن السوري قبل أن تنسفه دبابات بشار الربامييل ،ولست
الوحيد!
وعندما استعرض (الوردي) ظاهرة (التناشز االجتامعي) ،قال إنَّه أحىص منها أربعة عرش نوع ًا ،ثم ذكر أربعة منها بالتفصيل هي:
تناشز (احلقوق والواجبات) ،و(املدارس والوظائف) ،و(املرأة والرجل) ،و(الدين واجليل اجلديد) .وهو يقصد هبذا املصطلح (التناشز)
التناقض بني جمموعتني من القيم .فالعراقي (وينطبق عىل كثري من العرب) يريد أن تكون عنده حكومة مثل (السويد) ،ولكن ليس عنده
أن احلكومة عدوة له جيب تدمريها ،ويظهر هذا يف مظاهر شتى؛ كام يف تكسري استعداد الطاعة هلا وااللتزام بالقوانني ،بل يرى الفرد َّ
مصابيح الشوارع ،أو اخلروج عن صف االنتظار ،أو تدمري املرافق العامة يف املظاهرات ،أو هنب الوزارات مع االهنيار البعثي يف بغداد،
تنج سوى السباع يف أقفاصها بأنياهبا.
فلم ُ
والوردي يعزو حصول هذا التناقض االجتامعي إىل الظاهرة التي حتدث عنها (ألفني توفلر) يف كتابه (صدمة املستقبل)َّ ،
بأن التقدم
احلضاري الرسيع قد حرم من التكيف .وقال إنَّه يف عام 1908حني وصلت إىل بغداد َّأول سيارة ،خرج أهل بغداد عن بكرة أبيهم
يتصوروا عربة تسري
َّ لرؤيتها .وأخذ الكثريون منهم ينظرون حتت السيارة «ليكتشفوا قوائم احلصان املختفي يف بطنها ،فهم مل يستطيعوا أن
«بس عىل املوت ما يقدرون!».مرة صاحتْ : ألول َّ
شاهدت عجوز من أهل الكرخ الرتام َّ
ْ جيرها» .وحني
من غري حيوان ُّ
كل حاجز بني املعقول وغري أن اإلفرنج اخرتعوا عربة تطري يف اهلواء فكان ذلك آخر ما حتتمله عقوهلم؟ «واهنار ُّ
وبعد قليل سمعوا َّ
كل عربة ال تطري .وعربة حديد ال تطري .إذ ال يمكن أن يطري احلديد يف اهلواء ،إذ ًا وتكس املنطق األرسطاطايل الذي يقول ُّ
َّ املعقول»
الطائرة خرافة!
وكل صاحب نِحلة مقتنع بيقني واملنطق األرسطاطايل القديم قد يصلح للجدل ،ولكنَّه ال يصلح الكتشاف احلقائق أو التث ُّبت منهاُّ .
بصحة مذهبه ،ومستعد لقتل املختلف عنه ،ولو نشأ يف طائفة أخرى لوصل إىل القناعة نفسها ،وهذا يروي أثر الربجمة العقل َّية يف املجتمع.
َّ
رأى الناس يوم ًا جحا متَّشح ًا بالسواد ،قالوا :لع َّله خري ،ما املصاب؟ قال :فقدت عزيز ًا .قالوا :من هو؟ قال :مات والد ابني!
أن احلضارة ثالثة عنارص :اإلنسان والرتاب والوقت ،ومن تفاعلها املنظم تنبثق احلضارة .ومن يتوقع من واعترب مالك بن نبي َّ
اإلنسان العراقي احرتام الوقت هيذي .وتضارب روح الوساطة مع املساواة مشكلة ،وهي من سامت املجتمع املدين ،واملجتمع القبيل
بالقوة أكثر من العدالة ،فتنترش عبارات (سبع) و(حسن كربيت)
ينمي روح الثأر والدخالة والعنرت َّية وعدم احرتام الوقت ،واإليامن َّ
ِّ
و(عنرت).
وهي معوقات ليست قليلة يف بنية العقل َّية العرب َّية ،واملعاناة منها ليس مثل رشحها عىل الورق ،كام فعل العراقيون يوم ًا حني استقدمهم
بوش قبل غزو العراق ألخذ رأهيم عن املجتمع العراقي ،فهؤالء ز َّينوا له األمر.
و(بوش) رجل ال يشفع له تارخيه ،أنَّه كان من األذكياء النجباء ،فقد خترج يف جامعة (ييل) بدرجة وسطى ،وكان مدمن ًا عىل الكحول،
أن نصف نورونات الدماغ قد احرتقت. حتى س ّن األربعني ،وهذا يعني من الناحية الطب َّية َّ
ومأساة اجلنس البرشي كانت كبرية يف هذا الرجل األبيض ،ومل تكن أفضل بكثري مع األسود أوباما األشبه ِ
بالعنّني .وسوف خيلد اسم
األول أنَّه من ش َّن احلرب عىل الناس ،والثاين مشارك يف جريمة دم السوريني والعراقيني واليمنيني والليبيني عىل حدٍّ سواء.
أن األوهام كثرية ،والغلط فيها ليس كمن يرى منام ًا فيستيقظ فزع ًا ،وحيمد اهلل أنَّه كان يف املنام.
واخلالصة َّ
كل من سار يف درب فرعون .يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد املورود ،وأتبعوا يف هذه الدنياوهو ما سيحدث مع ّ
لعنة ويوم القيامة هم من املقبوحني.
وأذكر جيد ًا حني رافق يف الوقت نفسه لظهور هذا العدد اجتامع حشد من املفكرين والعسكريني ،منهم كثري من اليساريني ،يف مؤمتر
حيمل اسم حمور السالم يف بروكسل ( )Axis-for-Peaceانعقد يف 17و 18نوفمرب ، 2005وقد ُدعيت أنا شخصي ًا للمشاركة يف هذا
مرة .ونحن حالي ًا نسعى بتوجهنا وحركتنا عاملي ًا َّ
ألول َّ فتم االعرتاف ُّأهم رموز الدعوة الالعنف َّية يف العامل العريب؛ َّ
املؤمتر ،باعتباري من ّ
لتسجيلها يف فرنسا باسم اإلينوفيم ( ،)European – non violence- Movement = E-NO-VI-Mيف ضوء حوادث العنف التي
طالت أحياء الفقراء من شامل أفريقيا واملهاجرين يف ضواحي باريس ،وكذلك أحداث نوفمرب من عام 2015م ،فهو وقتها كام قلت ذلك
عىل اهلواء يف إذاعة أوريون (الرشق) يف باريس ،ويف هذا العدد ،فيه من املعلومات املثرية ما أقرتح عىل جملة «يتفكَّرون» ترمجته بالكامل،
أن اإلدارة األمريك َّية استوعبت أخري ًا َّ
أن مهيته يف تعميم اللقاحات ضدَّ وباء العنف عندنا ،ويف فهم آليات التغيري االجتامعي؛ فقد ورد َّ
أل ّ
التغيري السيايس ال بدَّ له من تغيري اجتامعي ثقايف ،فأنشأت مؤسسات لذلك.
سمتها املجلة (مشاعل احلر َّية )Fackeln der Freiheitتسعى لتنشيط أن هناك ما ال ُّ
يقل عن مخس مؤسسات أمريك َّيةَّ ، وجاء يف العدد َّ
اآلل َّيات الديموقراط َّية يف العامل ،وهي مؤسسات خليط من عمل شخيص وحكومي؛ ومنها:
مؤسستا امللياردير اهلنغاري سوروس (مؤسسة سوروس ومعهد املجتمع املفتوح Soros Foundation and open Society
َّ .1
تأسستا يف عامي 1984م و1993م.
،)Instituteوقد َّ
أن الفكر أسسته (إيلينور )Eleanorزوجة الرئيس روزفلت عام 1941م ملعرفتها َ .2مؤسسة (بيت احلر َّية )Freedom Houseالذي َّ
النازي ال يكفي فيه املواجهة العسكر َّية بل املعاجلة الفكر َّية ،فكام تعالج اجلراثيم بالصا َّدات احليو َّية ،كذلك احلال يف األمراض االجتامع َّية
التي تنترش بـ (وحدات) من األفكار ،كام تنترش األمراض بـ (وحدات) من الباكترييا والفريوسات.
أسسه اجلمهوريون عام 1983م ومركزه ( .4املعهد الدويل اجلمهوري )IRI = International Republican Instituteالذي َّ
واشنطن .ونالحظ تقارب وقت نشوء هذه املؤسسات إلدراك اإلدارة األمريك َّية أنَّه وقت املعلومات والفكر للتغيري الديمقراطي يف
العامل ،وحماولة االستفادة من رياح التغيري العاملي لطرفها ،والعاقل من ه َّيأ نفسه للشتاء بحطب ودثار ،والويل ملن دخل شتاء سيربيا
كل االحرتام ألفريقيا واألفريقيني ،فاحلديث عن اللباس واملناخ.بجالب َّية أفريقية ،مع ّ
املؤسسات ودوائر االستخبارات األمريك َّية ،كام يف بيت احلر َّية ( )FHالذي رئسه (جيمس أن هناك تقاطع ًا بني هذه َّوهذا ال يعني َّ
وولزي )James Woolseyرئيس االستخبارات األمريك َّية األسبق عام 2003م ،ثم فرغ مكانه آلخر ،حرص ًا من املؤسسة عىل أن يبقى
اسمها بعيد ًا عن الشبهة .وال (املعهد الوطني الديمقراطي )NDIالذي ترأسه (مادلني أولربايت) وزيرة اخلارج َّية األمريك َّية سابق ًا،
التحرر السلم َّية كام يف (األوتبور )Otporالرصب َّية و(كامرا )Kmaraاجلورج َّية ،وبورا ( )PORAاألوكران َّية ،وحركة ُّ ولك َّن حركات
(يوخ )Jochيف آذربيجان وتعني (كال) ،أو جمموعة السوبري ( )Suberحلركة الفيسنت ( )Wisentيف روسيا البيضاء ،تبقى يف مكان
أن التغيري السلمي يبقى أفضل بني بني ،بني االستفادة من خربات املعاهد ،والنأي عن سياسة البنتاغون وغزوات احلروب ،فقد ظهر َّ
املهمشة مثل
وأقل كلفة .والعدل أرخص من الظلم بكل املقاييس .ظهر هذا يف حوادث العنف التي انطلقت من ضواحي باريس َّ وأرحم َّ
(كلييش سو بوا )Clichy sous Boisالتي زرهتا أنا شخصي ًا ،ورأيت آثار دمار احلريق اإلنساين.
وكذلك أحداث نوفمرب 2015بملهى يف باريس التي راح ضحيتها رقم خميف من الضحايا .وهذه املؤسسات ناشطة جد ًا كام يف
مؤسسة (بيت احلر َّية) الواقع يف دوار دوبونت ( )Dupont Circleيف واشنطن حوايل 2كم عن البيت األبيض ،الذي تقول رئيسته (باوال
رشيفر Paula Schrieferبعمر ،)36وربام تغريت مع كتابة مجلنا هذه ،تقول:
القوة يف املجتمع
تسميه (الطريق الثاين )Second Road Theالذي خيترص هبذه اجلملة «تغيري مالمح َّ َّ
إن اسرتاتيج َّية املعهد تعتمد ما ّ
من الداخل ،ووالدة جمتمع مدنيني ،ومدّ ه بالدعم اللوجستي».
يغيوا ما بأنفسهم» ،فهذا هو قانون التاريخ. غي ما بقوم حتى ّ إن السيدة (رشيفر) تنطق باآلية القرآن َّية بدون مصحفَّ :
«إن اهلل ال ُي ّ َّ
(القوة الناعمة )Soft Powerنطقتها (كوندوليسا رايس) بشكل سيايس يف القاهرة يف يونيو 2005م ،فقالت: َّ املهمة عن
وهذه اخلالصة َّ
«خالل الستني سنة الفائتة كنَّا هندف إىل االستقرار يف املنطقة مع إمهال الديمقراط َّية ،وما وصلنا إليه مل يكن ال الديمقراط َّية وال استقرار
املنطقة .واآلن سوف نحاول امليش يف طريق ثانية».
التصورات ليس أمام مرشفة الربامج (باوال رشيفر) سوى أن تضحك من خياالت وخيارات السياسيني كام فكَّر يوم ًا ُّ وحول هذه
بوش ورمسفيلد بالتلويح باهلراوة العسكر َّية للتمكني للديمقراط َّية بزعمهم ،فتقول« :نحن لسنا موظفني نن ّفذ تعليامت رس َّية ،ولسنا
إذا كانت األطامع والسعي املحموم إىل الربح أوصياء بفرض الديمقراط َّية عىل أحد» ،قالتها بمرح بعد عودهتا
والكسب والالتفاهم ،باختصار ،املالمح من دورة يف رصبيا ،لتوسيع مفاهيم الديمقراط َّية يف العامل« :إنَّنا
نع ّلم الناس كيف تعمل الديمقراط َّية ،ونوثق لعملنا أين تفقد؟
األكثر اضطراب ًا و(مرضية) ،وإذا كان من
وكيف يستطيع املرء تشجيعها؟» وهذا املعهد له فرع يف بودابست،
غري املمكن اقتالع بربرية ورذائل الكائن وهو مهتم جد ًا من هناك بمدّ أجنحة الديمقراط َّية حتى بحر
اإلنساين ،فإنه من املمكن عىل األقل ضبطها. قزوين وآسيا الوسطى والرشق األوسط ،فالقوم يف يقظة خي ّططون
إن املطلوب ليس إصالح الفكر فقط، هلذا ّ للعامل ،ونحن نيام.
أ َّما مساعدة السيدة رشيفر السيدة (جينيفر ويندسور ،)Jennifer Windsorوالحظ العنرص النسائي الناعم يف احلركة ،فتلخص
املوضوع بشكل آخر« :محالت واسعة بأسس مدن َّية ،هلا مستقبل لتحقيق نتائج ديمقراط َّية أفضل من التدخل العسكري ،فض ً
ال عن
تكاليفها األرخص».
فأ َّما األخرض فهو جنان بالد احلر َّيات مثل أوروبا وكندا ،وأ َّما البنفسجي فحيث يعشش غربان الديكتاتوريات ،وتنتهك
حريات اإلنسان ،بأنظمة مل ُترت من شعوهبا بحر َّية ،ومنها قسم من عاملنا العريب املنكوب املنكود ،أ َّما األصفر فهو األنظمة اآليلة
للسقوط.
مع هذا فاأللوان تتبدَّ ل أحيان ًا من األصفر إىل البنفسجي ،كام يف حالة روسيا .فمخطط التاريخ أحيان ًا ينكّس عىل رأسه ،كام يف
مجهوريات العروبة ،التي حتولت إىل ملكيات عكس حمور التاريخ وخمطط الزمن التقدُّ مي ،فالتقدم َّية هي يف خياالتنا وليست يف الواقع.
ويف يوم انطلق البنتاغون بمرشوع اإلنرتنت وصواريخ الفضاء ،ونحن اليوم نرسل مقاالتنا عرب اإلنرتنت ونتمتع بربنامج الديسكفري
العلمي بحامقات العسكريني وخدماهتم التي مل يكونوا يقصدوهنا .فهذه هي عظة التاريخ.
من كان له أذنان للسمع فليسمع ...وعينان فليقرأ ...أ َّما عنف ما بعد الثورة يف ليبيا وانزالق الثورة يف سوريا إىل العنف فسوف يظهر
رجاحة ما نقول سلب ًا وإجياب ًا.
مع ذلك قد تكون الديمقراط َّية خرافة ،فليس هناك من موضة رائجة هذه األيام أكثر من كلمة الديمقراط َّية ،وليس هناك من كلمة
أشدّ غموض ًا منها.
فسألتها من بجانبها من أ َّية قرية أنت؟ قالت جئت من كندا؟ قالت نعم ...نعم أعرف (تنكة) .والتنكة باللهجة السور َّية ،وعاء من
الصفيح حلفظ اجلبن...
والديمقراط َّية يف الغابة البعث َّية هي هكذا بفارق كندا وتنكا .والغابة البعث َّية قطعة من سفاري عرب َّية كاملة...
َّ
وألن العرب تكذبان؟... فبأي آالء ر َّبكام ّ
مثل موسيقى فريد األطرش ،املنترشة من القنيطرة إىل القنيطرة ،بني املرشقني واملغربنيِّ ...
واق ثقايف ،بدون حطب ومعطف ،فهم جاهزون للبس أي ٍيرضب مفاصلهم زمهرير قاتل من شتاء الثقافة ،وهم يعيشون شبه عراة ،من ّ
بأي لون ومقاس .وعندما أصدر (مصطفى السباعي) أي موضة إيديولوج َّيةّ ،بأي نار يورون ،واتباع ّ أي قامش فكري ،واالستدفاء ّ ّ
الفارين العرب إىل (كندا) ،يؤ ُّدون القسم عىل الديمقراط َّية الربيطان َّية ،للملكة
كتابه عن (اشرتاك َّية اإلسالم) ُوسم باهلرطقة .والكثري من ّ
إليزابيث الثانية ،وهم يلعنون ديمقراط َّية الكفر هذه يف قلوهبم.
كل القارات ،ترجوهم أن يضعوا تعريف ًا للديمقراط َّية ،فوصلها أكثر ويف يوم أرسلت منظمة اليونسكو إىل أكثر من مائة عامل ،من ّ
إن اجلدل حول أن عامل االجتامع اإليطايل (سارتوري جيوفاين) قال عنهاَّ : من مائة تعريف .وكانت هذه التعريفات متناقضة ،إىل درجة َّ
وبمجرد أن جلس عىل العرش السلطاين زعيم ثوري يف بلد عريبُ ،ضغط له َّ الديمقراط َّية عقيم لغوي ًا ،ألنَّنا ال ندري حول ماذا نتكلم؟
مدربة عىل التزوير والتلفيق ،قالَّ :
إن الديمقراط َّية الغرب َّية ال تناسبنا؟ فعن أ َّية ديمقراط َّية منظمة َّ
َّ الدستور ضغط ًا عىل املقاس ،من عصابة
كل يشء؛ من الربملان إىل مساحيق التجميل ،ومن السيارات إىل أدوات الفلق والتعذيب بالكهرباء. يتحدث إذن؟؟؟ مع أنَّه يستورد َّ
ووصف هتلر نظامه السيايس بأنَّه نموذج الديمقراط َّية ،واألمثل من االشرتاك َّية ،وسيبقى الرايخ الثالث ألف سنة ،فبقي 13سنة فقط،
وارتاح األملان ،أ َّما نحن فيبدو أنَّنا سوف نعارص والدة القيرص (كزبرة) بعد أربعني سنة بعد ابنه (حيدرة) .ويزعم بشار الربامييل أنَّه
سيحكم حتى عام 2021م ،أ َّما غالمه حافظ الثاين فيسيل لعابه منذ اآلن خلالفة والده الكياموي.
واألنظمة الثور َّية يف بالد العروبة تعترب نفسها نموذج ًا رائع ًا لتحقيق الديمقراط َّية ،والسجون واملعتقالت ملدة عرشين سنة،
وصحة للمقاومة ،وهبذا تصبح كندا َّ مصحات ترفيه َّية للتهذيب الثوري الديمقراطي ،ودليل عافية
َّ عراهبم الفكري ،هي
حسب َّ
وأملانيا مناطق متخلفة لعدم امتالء املعتقالت .ووصف (موسوليني) نظامه الفايش بأنَّه ديمقراط َّية شمول َّية مركز َّية من َّظمة ،متام ًا
الركَّع ،وكان ويف ديمقراط َّية (أثينا) كان من ينتخب الرجال الفحول فقط ،دون النساء القارصات ،والعبيد اخلُ َّشع ،واألجانب ُّ
الفحول أقل َّية يف بحر البقية .وتُعترب كلمة الديمقراط َّية بغيضة عند (أفالطون) .وهو س ّيد الفالسفة .أ َّما (أرسطو) الدماغ اجل َّبار فقد
وسمها
رأى فيها مشاعر خمتلفة خمتلطة غامضة وغري حم َّببة ،وطاملا كان األكثر َّية جهالء فقراء فهي حكم (الديامغوج َّية) وظلم األغنياء َّ
( .)Mobocracyولو حكمت صناديق االنتخابات ،يف أكثر من قطر عريب ،حلكمت الغوغاء واألصول َّية الدين َّية ،التي تعيش أيام
سموا بلدهم «اجلمهور َّية» ،ومل ينعتوها بالديمقراط َّية ،ملا رأوا
فضل اآلباء األمريكيون ،أن ُي ُّ
«سعيد جقمق» من املامليك الربج َّية .وقد َّ
من الرعب بعد الثورة الفرنس َّية .أ َّما «كونغو» يف جماهل أفريقيا فاسمها كونغو الديمقراط َّية؟ كام كانت دولة «بوطني» ضابط املخابرات
الدموي يف أملانيا الرشق َّية ،وهي يف قبضة الشتازي ( )Stasiأعتى أنظمة املخابرات ،قبل أن يأيت أجلهم عام 1989فيذهبوا إىل مزبلة
التاريخ.
ُسمي نفسها
ويف يوم قبل اهنيار سد يأجوج ومأجوج يف برلني ،كانت عصابة (هونيكر) يف أملانيا الرشق َّية متسك رقاب العباد ،وت ّ
كل مواطن رشقي كان له ملف عند (االستازي أن َّ
مجهور َّية أملانيا الديمقراط َّية ( ،)DDRحتى اهنار سور برلني بدون قطرة دم ،و ُعرف َّ
خممرة من َع َرق املشبوهني ولعاهبم ،لعلها تنفع يوم احلساب ،حتى
)STASIال يغادر صغرية وال كبرية إال أحصاها ،بام فيها زجاجات َّ
اشرتت أملانيا الغرب َّية؛ الرشق َّية بام حوت من مدر وبرش.
أن احلكومة الفيدرال َّية ص َّبت يف عروق ومفاصل الرشق َّية الكسيحة املتصلبة 1350مليار يورو وتعرتف جملة (الشبيجل) األملان َّية َّ
وسنَّة
بدون فائدة .وهو املصري نفسه الذي ينتظرنا يف مجهوريات العرب الثور َّية .وعندما طار رأس صدَّ ام بقي رماد وخرافات من شيعة ُ
ظل األنظمة الشمول َّية ،ال ُبدَّ من كنس جيل كامل ،وحرق أ َّمة ميتة ،كام ُترق اجلثث للطهارة يف هنر يقتتلون؛ فبعد موت اإلنسان يف ّ
الغانج.
و ُيعترب (جيوفاين سارتوري) من جامعة فلورنسا من أعمق الباحثني يف قضايا العلم السيايس ،وقد وضع هو و(شوم بيرت) و(روبرت
إن حكم الشعب ،للشعب ،بالشعب ،ولصالح الشعب ،ال تزيد عن خرافةَّ ،
وإن الشعب ُيذبح داهل) نظريات يف الديمقراط َّية ،تقولَّ :
وإن احلكم هو دوم ًا للنُخب واألقل َّيات و(املقاولني السياسيني) .وهو رأي املؤرخ توينبي عن انسياق وانقياد و ُيلعن باسم الشعبَّ .
فتتحول األقل َّية املبدعة إىل أقل َّية مسيطرة تسوق الناس بالسوط
َّ األكثر َّية خلف أنغام األقل َّية مثل اخلراف والراعي ،ثم تنقلب الصورة
والرعب ،وهو حتليل املؤرخ ديورانت أيض ًا عن نبض التاريخَّ ،
وأن التاريخ هو صور استبدال األكثر َّية لألقل َّية بأقل َّية جديدة .وعندما
كل احلر َّية للشعب ،وال حر َّية ألعداء الشعب! ولكن من هم أعداء الشعب؟ وهل يمكن أن تدخل مدينة دمشق تقرأ شعارات البعثُّ :
كل الشعب هذا العدو يف حلظة؟ يكون ُّ
ويف كثري من بلدان العربان ،من حيكم هم طوائف وعائالت مس َّلحة حتى األظافر واألسنان ،حتت شعار الديمقراط َّية .و(حسني
مرات قادمة ،مثل للمرة اخلامسة لست سنني باسم الديموقراط َّية ،وانتخب ـ بزعمهم ـ ّ
بكل نزاهة ،وقالوا إنَّه سيحكم َّ مبارك) حكم َّ
حسب اهلل السادس عرش ،حتى حيكم ابنه عليه باخلَ َرف ،بمجلس من الكرادلة من كهنة آمون ،وحيجر عليه عقلي ًا ،فيستلب منه الصوجلان
الفرعوين ،والتاج املرصع بأفعى الكوبرا .لوال مفاجأة الثورة يف مرص التي سلبته عرشه ،ثم أعاده العسكر وأخرجوه من حمبسه ليضعوا
بدالً عنه يف املحبس مريس املنتخب رشعي ًا ،وهي نكتة كبرية ،ولكن ال يضحك هلا أحد.
حرم زرعمهد الطريق للديمقراط َّية احلقيق َّية ،بعد أن َّ و(تركامن بايش) مات ،بعد أن حكم (تركامنستان) 66سنة ،فوصفه الرفاق بأنَّه َّ
وغي أسامء األشهر باسمه ،واسم أ ّمه اخلاتون؛ فلم يعد (ديسمرب) بل خاتون هانم .واملصيبة يف الديمقراط َّية يف ثالثة األسنان الذهب َّيةَّ ،
أن عنده هلا تعريف ًا مانع ًا جامع ًا ،كام يقول املناطقة؛ فهم مثل الشعراءجوانب :يف التعريف ،واآلل َّية ،واملآل .وحول تعريفها ،ال يدَّ عي أحد َّ
كل ٍ
واد هييمون. يف ّ
واآلل َّية َّأنا آلة انتخاب َّية ألخذ رأي الناس ،ولك َّن النُخب بنفوذها ،واملال الذي فيه تسبح ،عندها من اإلمكان َّية أن تفربك القرار،
الرق السيايس ،فيجعلون يف أعناقهم أغالالً فهي إىل األذقان فهم َ
مقمحون. وتضحك عىل اجلامهري ،فتقودهم إىل ّ
الرب إىل االنتخابات ،فتخاض بطريقة نزهية ،فيكسب 11وزير ًا ،بمن فيهم الوزير (كش وحال َّي ًا يطالب حزب َّ
الرب يف لبنان أن ينزل َّ
يقرروا من سيكون الرئيس بعد 99حماولة بام ُيذكِّر بأسامء اهلل
ملك) ،فيبتلع لبنان ،مثلام تزدرد أفعى اآلناكوندا قرد بابون غافالً .قبل أن ّ
مفك براغ آللة الرشق األوسط ،ميكانيكها يعمل يف سفارة طهران يف لبنان، احلسنى ،وهي يف لبنان أسامء الشيطان وإيران .وتصبح لبنان َّ
اسمه بزديج بزدران.
ُزور فيه إرادة اجلامهري مثل اجلامهرييات .واملجالس الشعب َّية جمالس قرود للتصفيق والتزوير ،...والعربة
واليوم ليس هناك من مكان ت َّ
ليست يف الصناديق بل يف وعي اجلامهري.
محام دم ومازال. وزيادة يف النكتة ننقل ما حدث حني قام الزيدي يوم ًا برضب بوش بحذاء ،قبل أن َّ
يتحول العراق بعده إىل َّ
ألنام عمال ذلك الصوت فجأة ،فتدافع القوم ودعسوا بعضهم بعض ًا باألقدامُّ ،
كل القوم هاجوا وماجوا إال اثنني األمري والعاملَّ ،
برتتيب مسبق.
فإن العلم يورث الطمأنينة .ومازلنا نتذكَّر هدوء بوش وهو يستقبل احلذاء املقذوف عليه ،وقد يكون برتتيب ووحي بدون وهكذا َّ
أن يشعر من فعل الفعل نفسه ،...وهو احتامل ،لذا وجب النظر آلخر قصة من إنتاج السندباد البحري يف بغداد من منظور علم
وتطوع 200من حمامي العرب للدفاع عن حذاء ،وبدأ املزاد
َّ النفس .فقد و َّدع العراقيون بوش بفردة حذاء ،ولكن ليس ّ
كل العراقيني.
العلني عند العرب لرشاء احلذاء الرشيف؛ فهناك من رصد مبلغ مائة ألف دوالر ثمن ًا له ،وآخر رفع الرقم ليصل إىل عرشة ماليني
دوالر ،قدَّ مه ثري خليجي مل يتعب يف ماله كثري ًا ،ويدين ّ
بكل ما يملك ملصادفة جيولوج َّية أكثر من عرق اجلبني ،...وهو يذكّر بقصة
مروة الرتك َّية بفارق اجلنس واملوضع ،...بني الرأس والقدم.
ِ
يمش عىل رأسه خيرس رأسه ورجليه مع ًا. وهي عند العرب ال ختتلف كثري ًا ،فمن
كام ذكر يوم ًا مالك بن نبي عن رجل لبس البدلة األوروب َّية واعتمر بالطربوش الرتكي َّ
أن احلضارة دخلت من رجليه ومل تصل رأسه
بعد؟ ويف يوم َّتبعت مظاهرة من املحامني العرب للدفاع عن شقي العوجة.
وهذا يذكّر بقصة املحامي فريجيه الذي أبدى استعداده للدفاع عن هتلر ،ومجيع أوغاد األرض ،وط َّبق ذلك يف دفاعه عن النازي
األول للامل ملات عرشات من وزراء
باريب واحلرامي اإلرهايب الكبري كارلوس ذراع وديع حداد ،أستاذه يف القتل واملقتلة ،ولوال جشع َّ
األول املطلوب؛ فهو حي يرزق بمحض املصادفة وتنازع أهواء وديع البرتول يوم االختطاف األعظم ،ومنهم أمحد زكي اليامين الرأس َّ
وكارلوس بني الدم واملال.
جترأ الصحفي العراقي عىل رشق بوش بحذائه فهو مؤرش خري وليس كام ه َّلل العرب األشاوس.
وحني َّ
وذاكرة الشعوب قصرية ،ونفوسهم بئيسة ،واحلقد له مرتع ،ولك َّن ثقافة بوش تسمح بحدث مثل هذا ،وكانت نظرة من صدَّ ام ألحد
الرفاق كافية لكي تصيبه بداء الرجفة بق َّية حياته ،أو تذهب بصاحبها إىل قرص النهاية أو الرحاب ،وما أدراك ما هي؟
ولذا وجب تأ ُّمل قصة احلذاء املرشوق من زاوية خمتلفة ،هي التعبري وعدم اخلوف حتى بالصورة القميئة.
تعب وتغضب حسب املنطق األرسطي يف املكان املناسب من الشخص املناسب للسبب
وهذه هي جدل َّية التعبري؛ أن تعرف كيف ّ
املناسب.
إنَّنا نفرح بترصفات احلذاء وننسى أنَّه نقلة للعراق إىل عرص التعبري ولو برشق األحذية ،ولك َّن أكثر الناس ال يعلمون.
وتورمهم إىل حدّ التأ ّله ،وضغطهم إىل حجم حذاء يف الثقافة الغرب َّية مأساة للعقل العريب والثقافة
ُّ َّ
إن ضخامة األشخاص عندنا
العرب َّية ،وجائزة للثقافة الغرب َّية التي ال تسمح للتأ ّله.
َّ
واجللد ألقى عدَّ ة أبيات من الشعر، إنَّني أذكر قصة شاعر أحرضوه إىل اخلليفة مته ًام بكلمة ،فلام أصبح رأسه بني السيف والنطع
حاصلها أنَّه ال يأسف عىل نفسه أن يطري رأسه مثل ديك رومي ،ولك َّن الصبية الصغار الذين سوف يرصخون أمل ًا حني ُينعى إليهم األب،
الذي سمح لعقله باحلركة ،ولسانه املعقول بكلمة.
واآلن بعد أن طار صدَّ ام ودخل جنود أمريكا إىل العراق ،بدأ العراقيون يف التعبري واالجتامع وتشكيل الصحافة والتمتُّع باإلنرتنت
واجلرأة عىل االعرتاض وإنشاء جمالس الصحوة واخلروج يف مظاهرات ومسريات ،والرصاخ والزعيق ولو ذم ًا وشت ًام وقدح ًا وبغض ًا
ورمي ًا لألحذية يف وجوه الرؤساء ،وكانت يف أيام الراحل املصدوم جرائم حياكم عليها صاحبها ويوضع عىل اخلازوق.
حتمل األذى ير ُّده بيده بدون جاندرما هل يمكن أن نفهم من حادثة حذاء بوش أنَّنا يف مكان احلذاء ننتج األحذيةَّ ،
وأن بوش يف مكان ُّ
أي شكل ونحو ومظهر؟وخمابرات وتعذيب واستخراج للحقائق كام يريد عسس املخابرات؛ عىل ّ
مشوه ًا جيرجر
يدب عىل أربع ،أو زاحف ًا صحراوي ًا عىل بطنه يزحف ،أو َّ
فإن أرادوا خرج متآمر ًا للصلب ،وإن أحبوا بدا حيوان ًا وديع ًا ُّ
قدميه بلحية منتوفة حمروقة ،أو عمي ً
ال أل َّية جهة عامل َّية.
إن ما حدث يف زيارة بوش األخرية أفضل شهادة يمكن أن خيرج هبا للتاريخ ،أنَّه تل َّقى احلذاء فلم ير ّد عليه باملثل ،بل كان أفضل منه، َّ
يف حوار بني احلذاء والكلمة ،فهذا هو الفرق بني الثقافتني.
ولكن بيننا وبني هذا الفهم مسافة ثالث سنوات ضوئ َّية بالضبط.
عمر بنحمودة*
ّ ّ
ّ
ملخص البحث
نسعى من خالل هذا البحث إىل مقاربة مفهوم العدالة االجتامع ّية يف فكر س ّيد قطب وموقفه من الديمقراط ّية .ونتّبع مراحل خمتلفة
إصالحي اعتامد ًا عىل
ّ والسيايس وحاول تأسيس مرشوع
ّ لتحقيق هذا الغرض ،تبدأ بتشخيص أزمة اخلطاب الذي خلط بني الدّ يني
تصوره للعدالة االجتامع ّية وعالقة تلك املفاهيم باملنظومات الفكر ّية والت ّيارات السياس ّية
مقولة الرشيعة واحلاكم ّية .ونسعى إىل دراسة ّ
السائدة يف عرصه بحث ًا عن وجوه التفاعل احلضاري وأسباب القطيعة بني املشاريع اإلصالح ّية واملواقف اإليديولوج ّية .فاخلطاب ّ
أسسه س ّيد قطب يستعدي املشاريع األخرى ويعلن احلرب الشاملة ضدّ من اعتربهم ينتمون إىل اجلاهل ّية اجلهالء باسم الدفاع الذي ّ
عن الدّ ين ونرصة اإلسالم .فكان العنف سبيله للقضاء عىل اخلصوم السياسيني واحلكّام الطواغيت الذين يقفون حجر عثرة يف طريق
اإلسالمي .ولذلك فخطاب س ّيد قطب يفيض إىل احتكار العدالة دون أن يقدّ م حلوالً عمل ّية ألزماتّ البرش الراغبني يف اعتناق الدّ ين
الفقر واجلهل والبطالة .وهو ما سنسعى إىل بيانه من خالل حتليل خطابه وكشف هناته املنهج ّية .فحاولنا بيان طوباو ّية فكرة العدالة
أهم
أسس عليها س ّيد قطب نظرته للعدالة االجتامع ّية ،وقسمته العامل إىل جاهل ّية وإسالم ،ورصد ّ االجتامع ّية وتفكيك فكرة املقدّ س التي ّ
السيايس رغم
ّ يت يف فكره .وختمنا بدراسة مظاهر عدائه للديمقراط ّية وأثر موقفه يف سلفه من أتباع اإلسالم مظاهر االنغالق الالهو ّ
قبوهلم الظاهر بالديمقراط ّية.
األول
السيايس .ويعود طرحها إىل سببني رئيسينيّ : ّ تأسس عليها اإلسالم وتعترب مسألة العدالة االجتامع ّية من املفاهيم املركز ّية التي ّ
داخيل يتع ّلق باألزمات االجتامع ّية التي عرفتها املجتمعات العرب ّية اإلسالم ّية كانتشار الفقر واجلهل والبطالة وغياب احللول
ّ اجتامعي/
ّ
خارجي ،هو نتيجة التأ ّثر باألطروحات املاركس ّية التي
ّ فكري/
ّ الناجعة لتحقيق التنمية وجتاوز األزمات االقتصاد ّية ،والسبب الثاين
1
* أكادميي من تونس
1ـ يعود الفقر يف الوطن العر ّيب إىل أسباب داخليّة وخارجيّة؛ فأ ّما األسباب الدّاخليّة فتتمثّل يف السياسات االقتصاديّة املو ّجهة ملصلحة الطبقة الغنيّة واتّباع سياسة
نقديّة تؤث ّر يف سعر الفائدة فتقلّص من فرص االستثامر وانتشار البطالة وخفض القدرة الرشائ ّية للمواطن وتباطؤ معدالت النم ّو ،وأ ّما العوامل الخارج ّية فتعود إىل
السياسيات املاليّة الدوليّة التي أدّت إىل نشوء أوضاع اقتصاديّة جديدة ساعدت عىل انتشار الفقر .فالليرباليّة الجديدة هي الخلفيّة النظريّة لخطاب املنظامت الدوليّة
املتمثّلة بالبنك الدويل وصندوق النقد الدويل ومنظّمة التجارة العامل ّية ،التي تحاول أن تنزع من الدّولة دورها يف تحقيق العدالة االجتامع ّية ،فكانت النتيجة مضاعفة
الدّ افع إىل طرح قض ّية العدالة االجتامع ّية العملية يف
سوقت ملفهوم العدالة االجتامع ّية وحقوق الطبقات ّ ّ
ليس واقع املسلمني فحسب ،وإنّام التنافس اقتسام الثروة وحتقيق املساواة الطبق ّية ،إضافة إىل ما حققته دول
وتكنولوجي أظهر
ّ املعسكرين الرشقي والغريب من تقدّ م صناعي
اإليديولوجي عىل سوق رمز ّية حياول فيها
التفاوت بني العرب والغرب ،واختذ يف فكر اإلسالميني تسمية:
اإلسالم ّيون دحض األطروحات الرأسامل ّية ثنائ ّية الغرب واإلسالم .ولذلك يمكن أن نالحظ بيرس األثر
والشيوع ّية من أجل إجياد حلول لألزمات الفكري لتلك األطروحات يف كتبات س ّيد قطب (ت 1966م) ّ
ّ
ولعل هاجس املنافسة الرمز ّية االجتامع ّية... رغم ما جياهر به من عداء لذلك الفكر وشيطنة ملقوالته.
السيايس
ّ سيوجه مقوالت اإلسالم
ّ هو الذي
وعىل هذا األساس فالدّ افع إىل طرح قض ّية العدالة االجتامع ّية
نحو تأكيد عقل ّية التخاصم بدل النظر ليس واقع املسلمني فحسب ،وإنّام التنافس الفكري واإليديولوجي
املوضوعي إىل الواقع وإىل أطروحات اآلخر
ّ عىل سوق رمز ّية حياول فيها اإلسالم ّيون دحض األطروحات
الرأسامل ّية والشيوع ّية من أجل إجياد حلول لألزمات االجتامع ّية
السيايس نحو البحث عن االختالف وتأكيد
ّ سيوجه مقوالت اإلسالم
ّ التي يعاين منها املسلمونّ .
ولعل هاجس املنافسة الرمز ّية هو الذي
املوضوعي إىل الواقع وإىل أطروحات اآلخر.
ّ عقل ّية التخاصم بدل النظر
لقد كان البحث عن العالمات الرمز ّية الفارقة التي يمكن يف نظر أصحاهبا حسم الرصاع اإليديولوجي ضدّ أصحاب األطروحات
السيايس .ويف هذا املستوى كان استغالل سلطة املقدّ س من أجل اإلقناع بانتصار ّ املنافسة قائ ًام عىل استدعاء الدين إىل ساحة اجلدل
السيايس عا ّمة
ّ حضاري غريب ومدنّس .وقد عملت أطروحات اإلسالم ّ املرجع ّيات اإلسالم ّية عىل النظر ّيات التي قامت يف إطار
خاصة عىل استغالل هذه الثنائ ّيات التي تعترب انتشار ًا دالل ّي ًا لثنائ ّية املقدّ س واملدنّس( .احلضارة اإلسالم ّية/
وأطروحات س ّيد قطب ّ
احلضارة املا ّدية الوثن ّية ،الرتاث الروحي /الديمقراط ّية واالشرتاك ّية والشيوع ّية ،محاة اإلسالم /أعداء اإلسالم ،الدين /الدنيا،
الشيوع ّية /الدّ ين.)...
واملسيحي من جهة
ّ اليهودي
ّ اإلسالمي من جهة والتاريخ
ّ حضاري بني التاريخ
ّ ومل تكن هذه الثنائ ّيات سوى حماولة إلقامة جدار فصل
الشيوعي .فقد سعى س ّيد
ّ أخرى .ويف هذا االختيار خلف ّية إيديولوج ّية واضحة أساسها دحض الرتويج لعامل ّية الفكر الرأسام ّيل والفكر
والدنيوي ما هو إال نتيجة لطبيعة الديانة املسيح ّية ،وهو أمر ال يستقيم
ّ الديني
ّ بأن ما قامت عليه املسيح ّية من فصل بني قطب إىل اإلقناع ّ
اإلسالمي .وهو هيدف من وراء ذلك إىل قطع الطريق عىل الطاحمني يف استنساخ املراحل التّارخي ّية التي شهدهتا أورو ّبا من أجل ّ يف الفكر
حتقيق هنضتها الفكر ّية واالقتصاد ّية واالجتامع ّية.
مم أدّى إىل اتّساع دائرة الالمساواة وإعادة إنتاج الفقر يف البلدان العربيّة ال ّنامية( .انظر :سمري الت ّنري ،الفقر والفساد يف العامل العر ّيب،
أرباح املراكز االحتكاريّة يف العاملّ ،
تتغي باستمرار يع ّد صناعة للوهم وتأسيساً لرؤية غارقة يف املايض غري عابئة مبشاكل
الساقي ،2009 ،ص ص )56 - 51وإ ّن تجاهل هذه العوامل التي ّ
ط ،1بريوت ،دار ّ
الواقع.
2ـ س ّيد قطب ،العدالة االجتامع ّية يف اإلسالم ،ط ،13مرص ،دار الرشوق ،1993 ،ص ص .17 ،16
ديني له قواعده املقدّ سة التي سعى س ّيد قطب إىل بياهنا وتفصيلها .وبذلك فقد كانت منطلقاته قائمة إن تنظيم املجتمع هبذا املعنى شأن ّ ّ
عىل اعتامد املرجع ّية الدين ّية يف تأسيس مفهوم العدالة االجتامع ّية .فهل كان املقدّ س الدّ يني آل ّية للتأثري يف املتل ّقي ومحله عىل االقتناع بوجاهة
إن للمقدّ س السيايس؟ بعبارة أخرى هل كان املقدّ س آل ّية للتأثري بدل أن يكون آل ّية للبناء والتأسيس؟ أم ّ
ّ الطرح الذي يقدّ مه مرشوع اإلسالم
أثر ًا هيكل ّي ًا أساسه املقارنة بني نجاعة الوسائل الدين ّية يف العدالة االجتامع ّية وسائر الوسائل التي صنّفها س ّيد قطب خارج الدّ ائرة الدين ّية؟
للحط من قيمة األطروحات املنافسة؟ ّ جمرد وسيلة إيديولوج ّيةعلمي يف صياغة مفهوم العدالة االجتامع ّية ،أم إنّه كان ّ
ّ وهل كان للمقدّ س أثر
األول :يتّصل باملرجع ّية ،ويقوم عىل فهم أصو ّيل ،يسعى إىل استقراء الهو ّ
يت مؤمن بقداسة املرجع ّيات اإلسالم ّية لتجارب برش ّية املسار ّ
حل للمجتمع إال باتّباعه واستنساخه« .فاإلسالم يفرض قواعد سابقة يسبغ عىل بعضها صفة القداسة ،ويسمها بالرباديغم الذي ال ّ
العدالة االجتامع ّية ويضمن حقوق الفقراء يف أموال األغنياء ،ويضع للحكم واملال سياسة عادلة ،وال حيتاج إىل ختدير املشاعر ،وال دعوة
السامء » .3ولذلك فاتباع املنهج اإلسالمي يف العدالة هو اهلدى اإلهلي وما دون
النّاس لرتك حقوقهم عىل األرض وانتظارها يف ملكوت ّ
ذلك فضالل وجاهل ّية جهالء.
صدامي ،يتّجه إىل األطروحات التي تواجهه سواء املنتمية إىل ديانات غري إسالم ّية كاليهود ّية واملسيح ّية ،أم املتع ّلقةّ املسار الثاين:
بأطروحات معارصة كالرأسامل ّية والشيوع ّية.
األول بنزعة متجيد ّية وتربير ّية حتاول إظهار األطروحة اإلسالم ّية باعتبارها األطروحة املقدّ سة التي وإن شابتها بعض
ويتّسم املسار ّ
عريض عن استيعاب روحها ومت ّثل مقاصدها .بينام ُوسم املسار الثاين بنزعة استهجان وعدائ ّية جتعل من س ّيد
ّ الشوائب فلسوء فهم ولعجز
خصص قس ًام من كتابه «معامل يف الطريق» ليستعرض كل احلجج والقرائن من أجل دحضها وإظهار هتافتها .ولذلك فقد ّ يتوسل ّ قطب ّ
عداوات الصليب ّيني واملستعمرين واملستغلني الطغاة واملحرتفني من رجال الدين واملستهرتين واملنح ّلني والشيوع ّية والشيوعيني .
4
وكل هذه العداوات تتع ّلق بحكم املسلمني .وهي تعتمد ثنائ ّية املقدّ س واملدنّس التي تقتيض فجوهر هذا الفكر هو استعداء اآلخرين ّ
مسار ًا تطهري ّي ًا لدفع الرجس ،غايته تركيز حكم اهلل يف أرضه.
أن طوبى العدالة االجتامع ّية تأسست هذه القراءة عىل طوبى العدالة االجتامع ّية .وإذا استعرنا تعريف «عبد اهلل العروي» علمنا ّ لقد ّ
تتحول طوبى اجتامعي خارج الواقع وضدّ ًا له ،وهو يقوم عىل أدلوجة ّ
حرية وحترير ،وأدلوجة عدالة مستقبل ّية .قد تعني خت ّيل نظام
6
ّ ّ
إيديولوجي يقوم يف جوهره
ّ مرت ،واالعتقاد يف القدرة عىل استنساخها .وهو وهم العدالة االجتامع ّية إىل حماولة اسرتجاع حلقبة تارخي ّية ّ
هتمه احلقائق واملعارف إال من حيث هي مو ّظفة خلدمة موقع أو تعبوي هيدف إىل تغيري الواقع نحو األحسن ،وهلذا فال ّ ّ عميل
ّ عىل فكر
سلطة أو هيئة .
7
اإلسالمي بحسب وجهة نظر س ّيد قطب متم ّيز ًا بخصائص الر ّبان ّية والثبات والشمول والتوازن واإلجياب ّية ّ التصور
ّ ال غرابة أن يكون
تصورات الشعوب األخرى ال عن جتاهل ّ التصور اإلسالمي فض ً
ّ التصور النقدي وعدم اإلقرار بنسب ّية
ّ والواقع ّية والتوحيد .فغياب
8
التصور اإلسالمي ،جيعل من عقدة االستعالء تأسيس ًا إلسالم اهلروب من مواجهة املشاكل ّ وكأنا خارج نطاق الر ّبان ّية التي احتكرها
ّ
التصورات التي يعدّ ها س ّيد قطب غري إسالم ّية. ّ حممد أركون .وهو إسالم الكهف الذي يلغي إمكان ّية االستفادة من
9
امللحة بحسب عبارة ّ ّ
فالتصورات
ّ االعتقادي الوحيد الباقي بأصله «الر ّباين» وحقيقته الر ّبانية.
ّ التصور
ّ اإلسالمي هو
ّ «التصور
ّ ولذلك فقد اعترب س ّيد قطب ّ
أن
املنزلة وتصورات وتأويالت االعتقاد ّية السامو ّية التي جاءت هبا الديانات قبله قد دخلها التحريف ،...وقد أضيفت إىل أصول الكتب ّ
وزيادات ومعلومات برش ّية أدجمت يف صلبها ،فبدلت طبيعتها الربان ّية ،وبقي اإلسالم وحده حمفوظ األصول ،مل يشب نبعه األصل كدر،
احلق بالباطل ».10
ومل يلبس فيه ّ
ومشوهة ،وهو ّ
شك ّ حمرفة
يشك بحكم ثقافته التقليد ّية يف كوهنا ّال تكمن خطورة هذا الطرح يف استعدائه للديانات األخرى التي ال ّ
كل الشوائب والتحريفات ،وإنّام تكمن اخلطورة يف إسباغ ال ّطابع الشمو ّيل عىل اإلسالم الذيالقرآين من ّ
ّ التصور
ّ يضارع يقينه بسالمة
مفصل ،ال حيتاج إىل إضافة من مصدر آخر، جيعله يف غنى عن الفلسفة .فلإلسالم يف نظر س ّيد قطب «صورة كاملة شاملة وتفسري جامع ّ
كل مصدر آخر .وقد وقع الفساد ال من ّ وأدق وأعمق ،وأكثر تناسق ًا وتكام ً
بل ال يقبل إضافة من مصدر آخر ،ألنّه أوسع وأشملّ ،
اإلسالمي ،ووقع التعقيد والتخليط ،حينام شاء مجاعة ممّن عرفوا يف التّاريخ باسم «فالسفة اإلسالم» أن يستعريوا بعض
ّ التصور
ّ يف
اللهوتيني املسيحيني ويدخلوها يف جسم وبخاصة من أرسطو وأفلوطني ،وبعض ّ ّ التصورات الفلسف ّية اإلغريق ّية ،وبعض املصطلحاتّ
اإلسالمي»» .
11
ّ «التصور
ّ
6ـ انظر :عبد الله العروي ،مفهوم الدولة ،ط ،7بريوت /الدار البيضاء ،املركز الثقايف العريب ،2001 ،ص.147
والسيايس يف اإلسالم ويف املاركس ّية ،ط ،1بريوت ،دار الطليعة ،2005 ،ص .12
ّ ّيني
7ـ انظر :مح ّمد الرحموين ،الدّين واإليديولوجيا ،جدل ّية الد ّ
8ـ سيد قطب ،خصائص التص ّور اإلسالمي ،ص ص .207 - 41
اإلسالمي( ،ترجمة هاشم صالح) ،ط ،3بريوت /الدار البيضاء ،مركز اإلمناء القومي /املركز الثقايف العريب ،1998 ،ص .115
ّ 9ـ مح ّمد أركون ،تاريخ ّية الفكر العريب
10ـ سيّد قطب ،املرجع نفسه ،ص .45
11ـ املرجع نفسه ،ص .101
ولو ارتأينا تعريف ًا للدغامئ ّية ملا وجدنا جتسيد ًا هلا أكثر من هذا القول .إذ هي تقوم عىل اعتقاد راسخ بامتالك احلقيقة يف مفهومها املطلق
ال لشحنة سلب ّية تتم ّثل يف كوهنا تكتسب تناقض النظام العقائدي التي يتبنّاها املؤمن.12
عدو ًا حام ً
بأن اآلخر املختلف يمثل ّ ويقني ّ
يب .وهو يعتمد مصطلحات االقتصاد يصور س ّيد قطب مفهوم العدالة يف إطار العالقة التبادل ّية التي أنتجت تبع ّية إسالم ّية للفكر الغر ّ
ّ
التصور إىل االعتامد عىل السلع املحل ّية التي يم ّثلها
ّ اإلسالمي .ويدعو نتيجة ذلك
ّ من أجل التعبري عن أزمة االسترياد التي يعانيها الفكر
اإلسالم .ولتحقيق عدالة إسالم ّية غري مستوردة يقدّ م س ّيد قطب طرح ًا ثالث ّي ًا يقوم عىل إبراز طبيعة العدالة االجتامع ّية يف اإلسالمّ ،
ثم
ُأسس تلك العدالة ،وأخري ًا وسائل العدالة االجتامع ّية يف اإلسالم.
12ـ انظر:
Rokeach Milton, La Nature et la signification du dogmatisme: Archives des sciences sociales des religions. N. 32, 1971, P14.
13ـ انظر :س ّيد قطب ،حقيقة الج ّن يف ظالل القرآن ،ط ،1مرص ،دار الفضيلة للنرش والتوزيع والتصدير( ،د ت) ،ص .93
اإلسالمي القائم عىل الوحدة املطلقة املتعادلة املتناسقة والتكافل العام بني األفراد واجلامعات هي التي متكّن
ّ التصور
ّ ولذلك فشمول ّية
ألنا تراعي جوانب فطر ّية يف اإلنسان .ويعترب ّ
أن يف اإلسالم قي ًام أخرى غري القيم االقتصاد ّية البحتة، من حتقيق العدالة االجتامع ّيةّ ،
اإلنساين ال عىل الوسائل املنكرة التي حيرمها اإلسالم
ّ حيث تتفاوت األرزاق املال ّية بني النّاس بأسباب التفاوت املعقولة القائمة عىل اجلهد
ال من ضغط حتري ًام ،...فالعدل املطلق يقتيض أن تتفاوت األرزاق ،ولك ّن الفرص ّ
تظل متاحة للجميع بتحرير الوجدان البرشي حترير ًا كام ً
القيم االقتصاد ّية البحتة ووضع هذه القيم يف مكاهنا احلقيقي املعقول وعدم إعطائها قيمة معنو ّية ضخمة أو التقليل املفرط من شأهنا .15
بالتحرر
ّ يتصور الشيوعيون ذلك ،وإنّام
ّ بالتحرر االقتصادي كام
ّ الوجداين فأساسه العقيدة وطاعة اهلل التي ال تستقيم ّ التحرر
ّ فأ ّما
أن اإلسالم بريء من العصب ّية القبل ّية الوجداين .وقد اعترب س ّيد قطب ّ
ّ للتحرر
ّ الوجداين العميق ،وأ ّما املساواة اإلنسان ّية فنتيجة طبيع ّية
ّ
والعنرص ّية إىل جانب براءته من عصب ّية النسب واألرسة .فبلغ بذلك حسب رأيه مستوى مل تصل إليه احلضارة الغرب ّية إىل يومنا هذا.
أن هذا التم ّيز يشمل معاملة املرأة واملساواة بني الطبقات واألجناس .وهو رأي حيتاج إىل املراجعة والنقد يف ضوء الواقع ويعترب ّ
التارخيي الذي أ ّبد حكم العائلتني األمو ّية والع ّباس ّية ومن بعدها العثامن ّية ،وجعل اخلالفة باسم التأويل الديني حكر ًا عىل قريش، ّ
احلرية«فيقرر مبدأ التبعة الفكر ّية يف مقابل ّ
ّ االجتامعي،
ّ ً ً
حمركا مركز ّيا له آثاره الدين ّية والسياس ّية .وأ ّما التكافل
16
فكانت فيه القبل ّية ّ
ويقرر إىل جانبها التبعة اجلامع ّية التي تشمل الفرد واجلامعة بتكاليفها» .17وقد اقتىض منه ذلك إبراز قيم التكافل والتّعاون بني
الفرد ّيةّ ،
الفرد واجلامعة.
.4طوبى العدالة:
ال للمعضالت اإلنسان ّية، أن الصورة التي يقدّ مها س ّيد قطب للعدالة االجتامع ّية هي صورة طوباو ّية ترى يف اإلسالم ح ً ال اختالف يف ّ
كل األطروحات األخرى غري حم ّققة لألهداف الشاملة التي ح ّققها اإلسالم .فالفهم الشمو ّيل الذي يقوم عليه اإلسالم املتخ ّيل وتعترب ّ
كل اهلنات والنقائص إذا يستعدي سائر التصورات ويستهجنها .وهو فهم يستبعد النقد حينام يتع ّلق األمر باإلسالم واملسلمني .وتظهر ّ
السجايل للفكر الدّ يني .فقد م ّثل س ّيد قطب مرحلة االنزالق تع ّلقت املسألة بعرض أطروحات غري إسالم ّية ،وهو ما يكشف الطابع ّ
التصورات عمل ّية
ّ إىل رفض النموذج الغريب بعد أن سادت أطروحات اإلعجاب بأورو ّبا .وال غرابة أن يعترب بعض الدارسني هذه
كل حقبة تارخي ّيةنسبي ال يمكن اعتبار جتسيده يف ّ
ّ إنساين غري قابل للتجنيس .وهو مفهوم ّ حتريف وانتهاك للمفاهيم .19فالعدالة مفهوم
أدل عىل ذلك من ظهور حركة ر ّدة يف الفرتة النبو ّية وزمن خالفة أيب بكر الصديق رغم ما حتمله تلك الفرتة من صورة مثال ّي ًا .وليس ّ
املتمردة عىل السلطة املركز ّية للعدل نابع ًا من رفضها املركز ّية القرش ّية .وكانت القبائل
ّ تصور اجلامعات
مثال ّية للعدل واملساواة ،وكان ّ
املرتدّ ة غري راضية عن السياسة النبو ّية .وبذلك فلم تستطع الرشع ّية النبو ّية أن تقنع تلك القبائل وحت ّقق مبدأ الرضا الذي يضمن سل ًام
وإن التعويل عىل العدالة القائمة عىل الزكاة يبدو أمر ًا ممكن التح ّقق يف إطارها التّارخيي ،ولكنّها تطرح اليوم
اجتامع ّي ًا واستقرار ًا سياس ّي ًاّ .
تتحول الزكاة إىل قانون تتبنّاه السلطة وتفرضه عىل الناس كره ًا عرب آل ّياتّ مجة يف مستوى حتقيق مبدأ العدالة بالزكاة .فهل إشكال ّيات ّ
اختياري يوكل إىل ضامئر املسلمني وإيامهنم؟
ّ تطوع
يظل مسألة ّ الرقابة اجلبائ ّية؟ وحينئذ فام الفرق بينها وبني الرضيبة عىل الدّ خل؟ أم إنّه ّ
اإلنساين حينئذ إىل سلطة توقظه؟
ّ وهل حيتاج الضمري
وحتّى إن شاركنا س ّيد قطب يقينه بمثال ّية العدالة االجتامع ّية التي قدّ مها اإلسالم -وهو أمر ّ
يظل مرتبط ًا بالعقيدة ال بالعقل وقد
وتنوعت
اإلسالمي -فهل يمكن أن نستعيد تلك اللحظة الطوباو ّية املنقضية يف جمتمعات تعقدّ ت بنيتها ّ
ّ تدحضه وقائع كثرية يف التّاريخ
وتغي واقعها؟
حاجاهتا ّ
االجتامعي يف فكر س ّيد قطب هو الرتبية اخللق ّية .فاإلحساس اخللقي فطرة يف اإلنسان ،ووظيفة الدّ ين هي تنظيمها
ّ ّ
إن سبيل التكافل
وتوجيهها ووضع املقاييس الثابتة هلا .ووظيفة املجتمع محاية الفضائل التي ينفق عليها ال فرضها فرض ًا ضدّ إرادة األفراد .وبذلك
21
فالعدالة االجتامع ّية وفق الرؤية اإليديولوج ّية التي يقدّ مها سيد قطب تقوم عىل االختزال والتبسيط ،وتقديم وصفات فكر ّية جاهزة.
اإلسالمي زمن
ّ ال دون حتقيق مفهوم العدالة املنشود .فإذا استقام النموذجأهم املعضالت التي يمكن أن تقف حائ ً وهو خيفي بذلك ّ
ظل دول وطن ّية تعاين من تبعات الغلبة وتد ّفق املوارد التي مجعها املسلمون بالغزو والفتوحات ،فكيف يمكن حتقيق األوضاع نفسها يف ّ
االقتصادي وهيمنة دول أخرى عىل املسالك االقتصاد ّية والتجار ّية؟ هل يمكن عزل العدالة االجتامع ّية عن وضع ّية
ّ االستعامر والتخ ّلف
التبع ّية التي تعانيها الدول الوطن ّية؟ وكيف يمكن أن نقيض عىل مشاكل اجلهل والفقر والتخ ّلف بقيم نشأت يف بيئة جاهل ّية وباركها
والفتوة؟
ّ رب واإلحسان والنجدة
اإلسالم كال ّ
أن االعتقاد يف وجود نموذج تصور س ّيد قطب إشكال ّيات يف مستوى التنظري والتطبيق ،ذلك ّ يطرح مفهوم العدالة االجتامع ّية يف ّ
املتغيات االقتصاد ّية واالجتامع ّية ويؤ ّبد منظومة قداسة جاهزة قائمة عىل
متحولة لفهم ّ
ّ واجتامعي جاهز ينهي التفكري يف آل ّيات
ّ اقتصادي
ّ
ّ
يتصور أن الوسائل التي كانت ناجعة يف حتقيق العدالة ّ ً ً
عنارص مقدّ سة كالشهادة والزكاة ،ويتجاهل الواقع جتاهال كبريا ،ولذلك فهو
23
تظل ناجعة يف جمتمعات ختتلف وضع ّياهتا من قطر إىل آخر، امليالدي يمكن أن ّ
ّ االجتامع ّية يف رقعة من اجلزيرة العرب ّية يف القرن السابع
وتتبدّ ل حاجاهتا بحسب مواردها ونسب البطالة فيها وطبيعة الفرص االقتصاد ّية املتاحة هلا.
حتوالت كربى يف عرصه .وينقد ما شاب الدّ ين يؤسس س ّيد قطب مفهوم ًا منغلق ًا للعدالة يس ّيجه باملقدّ س متجاه ً
ال ما شهده العامل من ّ ّ
اإلسالمي من فلسفة وعلم كالم أفسدا نقاءه ،واحلال أنّه يتّخذ من علم الكالم ومنهجه وسيلة للر ّد عىل الدّ يانات األخرى والنظم ّ
تصور شمو ّيل
تفرد النموذج اإلسالمي وقدرته عىل حتقيق ّ االقتصاد ّية واالجتامع ّية الرأسامل ّية والشيوع ّية .وغايته من وراء ذلك إثبات ّ
للعدالة االجتامع ّية.
21ـ انظر :س ّيد قطب ،دراسات إسالم ّية ،ط ،11مرص ،دار الرشوق ،2006 ،ص .49
22ـ املرجع نفسه ،ص .52
بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى هذا النظام» .املرجع نفسه ،ص.63
االجتامعي يف اإلسالم نظام كامل ،نظام ّ
ّ 23ـ يقول س ّيد قطب« :إ ّن التكافل
يؤسس هلا س ّيد قطب عىل مرجع ّية إهل ّية مقدّ سة يم ّيزها عن مجيع املرجع ّيات اإلنسان ّية ،وهو يفرتض دوم ًا يف املخاطب
تقوم العدالة التي ّ
النسبي والقارص.
ّ اإلنساين
ّ اإلهلي املقدّ س واملطلق عىل
ّ يرجح ك ّفة
أن ّ
ورغم وعي س ّيد قطب هبذا االعرتاض من خالل قوله« :واآلن يقول قائل :إذا كان اإلسالم ،وهو منهج اهلل للحياة البرش ّية ،ال
البرشي ،ويف حدود الطاقة البرش ّية ،ويف حدود الواقع املا ّدي للحياة اإلنسان ّية يف البيئات
ّ يتح ّقق يف األرض ويف دنيا الناس ،إال باجلهد
البرشي «الذي يصنعه فرد حاكم أو أرسة حاكمة أو طبقة ّ يتصور دوم ًا ّ
أن الترشيع ّ املختلفة ،...فام ميزته إذن عىل املناهج البرش ّية؟» فإنّه
25
يتجرد من اهلوى ،ومن مراعاة مصلحة واضع الترشيع ،فأ ّما حني حاكمة أو أ ّمة حاكمة أو جنس حاكم يستحيل بحسب فطرة اإلنسان أن ّ
احلقيقي الشامل الكامل ،الذي ال يملك منهج ًا آخر من ّ الصفة ويتح ّقق العدل يكون منهج اهلل هو الذي حيكم حياة البرش ،فتنتفي هذه ّ
اإلنساين
ّ اإلنساين والضعف
ّ يتجرد من عوامل اهلوىمناهج البرش أن حيققه يف صورته هذه .ألنّه ليس بني هذه املناهج ك ّلها ما يمكن أن ّ
واحلرص عىل املصلحة الذات ّية يف صورة من الصور».26
اإلهلي هو اإلله ذاته؟ وكيف يمكن أن نتجاوز تلك األهواء واملصالح بتحويل
ّ أن من سيقوم بتطبيق الترشيع يتصور س ّيد قطب ّ ّ فهل
الترشيعات اإلهل ّية إىل قوانني دنيو ّية متداولة بني البرش؟
24ـ عبد الرحمن بدوي ،الحقيقة والوهم يف الحركات اإلسالم ّية املعارصة ،ط ،1مرص ،دار الفكر للدراسات والنرش والتوزيع ،1986،ص ص.145 ،144
25ـ سيّد قطب ،هذا الدّين ،ص .17
26ـ املرجع نفسه ،ص .21
لقد فرض هذا الفهم عىل س ّيد قطب استعادة للحظة التارخي ّية التي ظهرت فيها الدّ عوة النبو ّية .ولذلك فقد حاول تأسيس مرشوعه
أخص خصائص األلوه ّية ،وهي احلاكم ّية التي تط ّبق
ّ عىل اعتبار العامل يعيش ك ّله يف جاهل ّية 28تعتدي عىل سلطان اهلل يف األرض وعىل
اإلسالمي القادر عىل حترير الناس مجيع ًا من عبادة بعضهم لبعض بعبادة اهلل وحده والتل ّقي من اهلل وحده واخلضوع هلل وحده .29
ّ املنهج
تأسس هذا املرشوع عىل قراءة متخ ّيلة لسرية الصحابة واعتبارهم ذوات ًا مقدّ سة تكاد ترتقي إىل منازل أنصاف اآلهلة الذين كانوا وقد ّ
قرآين أساسه العقيدة ور ّد أموال األغنياء عىل الفقراء وحتقيق توزيع ٍ
قرآين صاف مل تشبه الشوائب .واعتقد يف وجود منهج ينهلون من نبع
ّ ّ
اعتقادي شامل ير ّد األمر ك ّله هلل ،وبالعقيدة منحت املرأة حقوقها .ويعترب ّ
أن ّ تصور
عادل للثروة .فكانت العدالة االجتامع ّية منبثقة من ّ
سبيل القرآن لرتسيخ العقيدة خماطبة الفطرة اإلنسان ّية لتسلك منهج تفكري ر ّباين أصيل .وقد سعى إىل إقامة صورة متخ ّيلة للمنهج الر ّباين
التصور الدّ عوة إىل اجلهاد
ّ اختص به اإلسالم ،فألغى مجيع الفوارق العرق ّية والقوم ّية والطبق ّية .فكانت النتيجة التي أفىض إليها هذا
ّ الذي
سمه «الواقع ّية احلرك ّية»والقوة واجلهاد من جهة أخرى إلزالة األنظمة والسلطات القائمة عليها .واإليامن بام ّ
30
ّ بالدّ عوة والبيان من جهة
التي هتدف إىل القضاء عىل الطواغيت من األرض مجيعها وتعبيد الناس هلل الواحد بعد حتطيم األنظمة السياس ّية احلاكمة أو قهرها حتّى
تدفع اجلزية وتعلن استسالمها والتخلية بني مجاهريها وهذه العقيدة .31وهو يعترب أنّه ال تعارض بني سياسة املراحل وبني مقاصد حتقيق
ال بني الناس واإلسالم بتحطيم القوى السياس ّية املا ّدية التي حتول بني الناس وبني األهداف املرسومة .ويدعو إىل قتال من يقف حائ ً
يقرها .فتطبيق الرشيعة اإلهل ّية التي سنّها اللّ رضورة
32 الدين .ويك ّفر ّ
كل من ال يط ّبق رشع اهلل وال يؤمن بمفاهيم العدالة االجتامع ّية التي ّ
جاهيل.
ّ إسالمي وجمتمع
ّ ملحة من أجل التنسيق بني حاجات اإلنسان الدنيو ّية واألخرو ّية .والرشيعة هي معيار التمييز بني جمتمع ّ
هذا املعنى إىل دار سلم وهي دار اإلسالم وما عداها دار حرب عالقة املسلم هبا إ ّما القتال وإ ّما املهادنة عىل عهد أمان ،ولكنّها ليست دار
سالم وال والء بني أهلها وبني املسلمني .وتفرتض الدولة اإلسالم ّية التي يسعى إىل تأسيسها أنّه «يمكن استخدامها يف تنفيذ وظائف
حيولوا آلة حكم الدّ ولة حني ال تستخدم للعنف ،حمدّ دين بذلك ما معينة طبق ًا خليارات قادهتا وقراراهتم .كام تفرتض ّ
أن بمقدور القادة أن ّ
املتأصلة يف القرآن ،وتلك التي ح ّققها الرسول يف «دولته الصغرية» يف املدينة».33ّ ستكون عليه الدولة ... :إسالم ّية تط ّبق القيم واملثال ّيات
بأن املسلمني هم خري أ ّمة أخرجت للنّاس .بل إنّه جيعل ونتيجة لذلك فقد قامت أطروحة س ّيد قطب عىل نظرة استعالئ ّية ويقني ّ
وكل أحد ،االستعالء باإليامن وقيمه عىل مجيع القيم املنبثقة من أصل وكل قيمة ّ
وكل وضع ّ كل يشء ّ االستعالء رشط ًا لإليامن إزاء ّ
يتصور
ّ غري اإليامن .34ولكنّه ال يفصل بني تطبيق العدالة االجتامع ّية وإقامة دولة اإلسالم عىل أنقاض دولة الطواغيت والكفر -مثلام
الربط بني سياسة املال وسياسة احلكم .فال يمكن تطبيق القوانني اإلسالم ّية للعدالة االجتامع ّية إال بقيام
ذلك -إذ هو يدعو إىل رضورة ّ
الرشيعة سياسة للحكم.35
ال فصل يف فكر س ّيد قطب بني العدالة االجتامع ّية وتطبيق الرشيعة اإلسالم ّية ومبدأ احلاكم ّية ،إذ يوجد تالزم بني الديني والسيايس
كل اإلشكال ّيات .ومفهوم املجتمع املسلم هو ّ
احلل واالجتامعي .فأسلمة املجتمع اجلاهيل هي الطريقة املثىل للقضاء عىل ّ
ّ واالقتصادي
ّ
كل الصعاب والقضاء عىل التخ ّلف والفقر والتفاوت الطبقي والعرقي واجلنيس. السحري الذي يقرتحه س ّيد قطب من أجل جتاوز ّّ
33ـ وائل حالق ،الدولة املستحيلة ،اإلسالم والسياسة ومأزق الحداثة( ،ترجمة عمرو عثامن) ،ط ،1بريوت ،املركز العريب للدراسات واألبحاث ،2014 ،ص ص .276 ،275
34ـ املرجع نفسه ،ص .163
35ـ انظر :سيّد قطب ،العدالة االجتامعيّة يف اإلسالم ،ص .75
مثال تجربة اإلسالميني يف تونس وعالقتهم باألحزاب األخرى التي بدأت عدائ ّية تستعمل الدين مط ّية لتأليب أنصارها ض ّد املعارضني ،وقد قاد هذا التحريض
36ـ انظر ً
اإلسالمي ،أو االستعداء الذي أظهره اإلخوان املسلمون تجاه التيارات السياسيّة األخرى زمن
ّ إىل مقتل املناضل اليساري شكري بلعيد بعد أن كفّره أمئّة ينتمون إىل التيار
حكم الرئيس املعزول مح ّمد مريس .وقد اعترب رفعت السعيد من قبل أ ّن «الفئات املتأسلمة تتح ّرك تحت أجنحة الظالم تارة مبا يس ّمونه التق ّية وتارة بإيهام الكالم،
أي إضفاء مرشوعيّة دينيّة عىل ادعائهم ».وهو ما أكّدته تجاربهم السياسيّة عىل أرض الواقع .رفعت السعيد ،التأسلم فكر مسلّح ،ط ،1دمشق ،دار الطليعة الجديدة،
،1996ص .7
الالهوتي:
ّ .7العدالة االجتماع ّية واالنغالق
يتحول يف الواقع إىل شكل من ّ إن الطابع الشمو ّيل الذي يضعه س ّيد قطب عنوان ًا بارز ًا لسياسة العدالة االجتامع ّية التي يدعو إليها قد ّ
يت تقف حدوده عند املنتمني إىل اجلامعة .وهذا ما أثبتته الوقائع التارخي ّية من خالل حركة التضامن الداخيل التي شهدها االنغالق الالهو ّ
فضال عن مسارعتهم توزع عىل املنتمني إليهم ً .
38
رسي ّ تنظيم اإلخوان املسلمني .فقد كانت التربعات التي جيمعها أنصار احلزب بشكل ّ
إىل قانون التعويض الذي شمل أنصارهم بعد توليهم احلكم يف تونس .ومل يراعوا ما كان يعيشه املجتمع من أزمات ،بل ّإنم تل ّقوا تلك
ملحة إليها .وسارعوا إىل شغل املناصب املختلفة داخل دواليب الدّ ولة عىل حساب من التعويضات وإن مل تكن هبم خصاصة أو حاجة ّ
أن عقل ّية االستعالء يمكن أن تؤول يف النهاية إىل نظرة فئو ّية ض ّيقة ال ترىكان يفوقهم كفاءة أو من كان أحوج إىل العمل منهم .فأثبتوا ّ
39
أن املقدّ س يمكن أن ينغلق عىل فرقة سوى مصلحة اإلخوان املنتمني إىل احلزب بدل أن تكون شمول ّية .وقد أثبتت التجارب التارخي ّية ّ
ال حيتكر احلقيقة ويرمي سائر املختلفني بالكفر واملروق عن الدين ،وما يقابل ذلك من فرض التهميش ربر سلطتها باعتامدها تأوي ً
ناجية ت ّ
والبطالة عىل غري املنتمني إىل مجاعتهم.
لقد كان للفالسفة نظرة نقد ّية تكشف ما يمكن أن يتوارى وراء املقدّ س من مصالح فرد ّية ومجاع ّية .ولذلك فقد اعترب «كانط» (ت
يقرر اليشء
كل فرد ّأن ّ
املوحدة كون ّي ًا انطالق ًا من قاعدة ّ
واملوحدة للجميع ،أي إرادة الشعب ّ
ّ ال ّ
أن اإلرادة املنسجمة وحدها 1804م) مث ً
وأن أعضاء جمتمع من هذا القبيل أي أعضاء ويقرر اجلميع اليشء نفسه ّ
لكل فرد ،بإمكاهنا أن تكون مصدر الترشيعّ . نفسه للجميعّ ،
37ـ رفعت السعيد ،حسن البنا متى وكيف وملاذا؟ ،ط ،10دمشق ،دار الطليعة الجديدة ،1997 ،ص ص.227 ،226
رسي.
وخاصة األب املعيل فيها تو ّجه إليها مساعدات بشكل ّ
ّ 38ـ الزمت هذه العادة تنظيم اإلخوان املسلمني يف مرص وتونس فكانت األرس التي يعتقل أحد أفرادها
«اإلسالمي» يف تونس الذي سارع نوابه زمن حكمهم بفرض قانون التعويض الذي مكّن املنتمني إىل حزبهم من تعويضات مال ّية طائلة
ّ 39ـ عنينا هنا حزب النهضة
ومناصب مختلفة داخل دواليب الدولة املختنقة أصالً بكرثة اليد العاملة الحكوميّة ،ونالوا الرتقيات االستثنائيّة ،واحتسبوا سنوات االنقطاع باعتبارها سنوات عمل ملن
عزلوا عن مناصبهم .ولك ّن تلك اإلجراءات كانت تتّخذ يف زمن تفاقمت فيه نسب البطالة والفقر وكرث عدد العاطلني عن العمل من الشباب الحاملني لشهادات جامع ّية،
ومل يكن «ضحاياهم» أثخن جراحاً من ضحايا البطالة والفقر والتهميش ،فث ّمة يف املجتمع التونيس من كان أحوج إىل الشغل والتعويض منهم .ولك ّنهم اختاروا أال يؤثروا
عىل أنفسهم ولو بغريهم خصاصة.
ألي قانون ما عدا ذلك الذي وافقيسمون مواطنني ،ويمنحون احلرية الرشعية التي ال جتعلهم خيضعون ّ موحدة من أجل الترشيع ّ دولة ّ
بأي سلطة عليا (من الشعب) إال تلك التي متلك السلطة األخالق ّية كل فرد ال يعرتف ّ عليه املواطن .ويعيشون املساواة املدن ّية التي جتعل ّ
لتلتزم قانون ّي ًا بمن يستطيع إلزامها ،وتكتسب صفة االستقالل ّية املدن ّية التي تكمن يف كون الفرد مدن ّي ًا يف وجوده واملحافظة عىل نفسه،...
كل ما يتع ّلق باحلكم.40
خيص ّ
أي استحالة أن يم ّثله أحد آخر فيام ّ
تصورات حديثة صارت تؤمن قد تتعارض كثري من مفاهيم العدالة االجتامع ّية التي يرى فيها س ّيد قطب أنصع مظاهر العدل مع ّ
اإلنساين.
ّ وحتوالت الواقع
حرية املرأة عىل ضوء أسئلة عصور التنوير ّ
بحقوق اإلنسان بدل اسرتضاء اآلهلة ،وتعيد طرح قض ّية ّ
يتصور س ّيد قطب العدالة االجتامع ّية يف تعدّ د الزوجات ألنّه يعترب األمر بالتعدّ د ر ّباني ًا غري قابل للنقد والتعديل .ولتحقيق ما ّ
سمه 42
ّ
ربج حتّى ال تنطلق شياطني الفتنة واإلغراء مع املرأة ،وكي ال ينزلق الزوج السالم البيتي (نسبة إىل البيت) كان النّهي عن االختالط والت ّ
بشم رائحته ،ولذلك ال بدّ من حجبه عن شهي ال تسكن املعدة ّ ّ أو تنزلق الزوجة استجابة هلوى جديد .فاملرأة يف نظر س ّيد قطب شواء
احلرية اإلنسان ّية وحقوق اإلنسان .فاملرأة
قروسطي ما عاد يستجيب إىل مفاهيم ّ ّ تصور
األنظار وإخفائه كي ال يقع يف يد النهمني .وهو ّ
43
حلريتها أن تكون ندّ ًا للرجل هلا ما له وعليها ما عليه ،وما عادت تقبلقادرة بفضل ما تكتسبه من علم ومعرفة وبقداسة القوانني الراعية ّ
40ـ انظر :عزيز لزرق ومحمد الهاليل ،الحق والعدالة ،ط ،1املغرب ،دار توبقال ،2014 ،ص .39
كل أو جزيئ .أ ّما
مايل تقوم به الدولة إلعانة من يعجزون عن العمل والكسب ،لسبب من األسباب دائم أو مؤقت ّ
االجتامعي إجراء ّ
ّ 41ـ يقول سيّد قطب« :إ ّن الضامن
االجتامعي فجزء منه صغري وجانب منه ض ّيق ،واملساعدات املال ّية التي تؤدّيها الدولة للعاجزين عن العمل والكسب ،ليست سوى جانب
ّ االجتامعي والضامن
ّ التكافل
لكل فرد يف الجامعة اإلسالميّة ».يف التّاريخ فكرة ومنهاج ،ط ،1مرص ،دار الرشوق( ،د ت) ،ص .31
اإلسالمي ّ
ّ من املساعدات املاليّة التي يق ّررها النظام
42ـ يقول س ّيد قطب :إ ّن تعدّد الزوجات «موقف ال اختيار فيه .فإ ّما هذا وإ ّما هذا ،وال مجال لعواطف الشعراء ،أو رغبات األفراد ،أو الرثثرة الجوفاء .إنّها رضورة
اجتامعيّة ورضورة روحيّة ورضورة حيويّة ،ومواجهتها ينبغي أن تكون يف الحدود العمليّة الواقعيّة ،ال بالخياالت واألحالم .وقد بحثت أملانيا النرصانيّة التي يح ّرم دينها
الحل املناسب فلم تجد خريه إال ما اختاره اإلسالم ،وهي ال تدين باإلسالم ،وطالبت املرأة فيها بتعدّد الزوجات ،ومل يجئ هذا الطلب من الرجال».
التعدّد ...بحثت عن ّ
السالم العاملي واإلسالم ،ط ،14مرص ،دار الرشوق ،2006 ،ص .87 ،86
43ـ يقول س ّيد قطب يف سياق احتجاجه للفصل بني الجنسني« :إ ّن الدوافع الجسديّة من الق ّوة والعنف بحيث ال يطفئها ترصيف االختالط ،وال حتّى ترصيف االرتواء.
فأنت ال تسكت جوعة املعدة بش ّم رائحة الشواء ،بل تزيدها تش ّهياً .وأنت ال تسكت هذه الجوعة كذلك باألكلة الدسمة املتخمة إال إىل حني ،تفيق بعدها وهي أش ّد
تش ّهياً وأطلب لألكالت الدسمة» السالم العاملي واإلسالم ،ص.72
لقد كان مفهوم اجلاهل ّية تأكيد ًا الرهتان أن تكون شواء شه ّي ًا حيجبه الرجل عن أعني الطامعني فيه ليستأثر
الفكر اإلسالمي يف النصوص ّية ،وتأكيد ًا به لنفسه.
العقيل يف
ّ وكل ّاتاهات التفكري
س ّيد قطب ّ جتاوزها والبحث عن بدائل ،فقد قدّ م «رولز»( (�John Raw
ال نظر ّية «العدالة بوصفها إنصاف ًا» حيث
( )lsت 2002م) مث ً
الثقافة العرب ّية اإلسالم ّية أو يف ثقافة أوروبا مؤسسةعرض رؤية أخالق ّية أساسها عدالة دستور ّية تعاقد ّية ّ
عىل السواء عىل أخالق الواجب وغايتها جتاوز التفاوت الطبقي والطابع
النفعي الذي تنامى يف ّ
ظل األنظمة الليربال ّية .44وخضعت نظر ّية
وحيق القول عىل الديمقراط ّية التي خضعت بدورها إىل ّ «رولز» بدورها إىل نقد «ساندال» ( ( )Michael J.Sandelولد سنة .45)1953
التصورات الدغامئ ّية ففي كوهنا تعتقد الكامل يف أطروحاهتا
ّ املدين تتجاوز نقائصها .46أ ّما عيب
ّ قراءات نقد ّية و ّلدت شبكات يف املجتمع
وحتوالت الواقع.والشمول ّية يف رؤيتها ،ولذلك فهي ال تنفتح عىل أسئلة النقد ّ
السياسي:
ّ .8عداء الديمقراط ّية في فكر س ّيد قطب وأثرها على اإلسالم
يتصورها
ّ اإلسالمي للديمقراط ّية .وأسباب هذا الرفض قيام فكره عىل أساس احلاكم ّية اإلهل ّية التي ّ يم ّثل س ّيد قطب مرحلة العداء
اإلسالمي كام حتكمه الرشيعة اإلسالم ّية والنظام
ّ والتصور
ّ إسالمي حتكمه العقيدة اإلسالم ّية
ّ قائمة عىل «استئناف حياة سياس ّية يف جمتمع
العزة القوم ّية والعدالة االجتامع ّية وخت ّلصها من
اإلسالمي» .47فلم يكن يبدو لس ّيد قطب سوى طريق واحدة هي القادرة عىل حتقيق ّ ّ
التصور إىل إعادة قراءة التّاريخ عىل ّ لكل مشاكل املسلمني .وقد قاد هذا حري ّالس ّ احلل ّ آثار االستعامر والطغيان والفساد ،فهي مت ّثل ّ
ثم
ثم دراسة الدّ عوة ذاهتا إلدراك تفاعلها وصريورهتا وخطواهتا ورجاهلا ونظامهاّ ، أساس فهم للوضع الذي قامت فيه الدعوة النبو ّيةّ ،
واالجتامعي ،أي من الناحية
ّ والفكري
ّ وحي
الر ّ
العسكري وحده ولكن من ناحية التأثري ّ
ّ اإلسالمي ،ال من ناحية الفتح
ّ تأيت مرحلة املدّ
اإلسالمي .ولكن أليس راهن املسلمني أوىل بالدرس من ماضيهم مادامت الغاية ّ اإلنسان ّية الشاملة .وأخري ًا دراسة مرحلة انحسار املدّ
48
االجتامعي؟
ّ تغيري واقعهم
ّ
املستقل عن األمم األخرى يفرض يف ذهن صاحبه مركز ّية أن اإلسالم حيتوي ما سبقه ّ
وأن له تارخيه إن هذه الرؤية التي يعتقد صاحبها ّ
ّ
اإلنساين وتفاعل احلضارات سبي ً
ال للتقدّ م يف جمال ّ ال للدور التّارخيي الذي اضطلعت به الشعوب األخرى يف سريورة التاريخ وجتاه ً
44ـ انظر :جون رولز ،العدالة كإنصاف إعادة صياغة( ،ترجمة حاج إسامعيل) ،ط ،1بريوت ،مركز دراسات الوحدة العربيّة /املنظّمة العربيّة للرتجمة.2009 ،
45ـ انظر :مايكل ج ساندل ،الليربال ّية وحدود العدالة( ،ترجمة مح ّمد هناد) ،ط ،1مركز دراسات الوحدة العرب ّية /املنظّمة العرب ّية للرتجمة.2009 ،
مثال تأسيس شبكة الفعل املبارش« »DANيف أمريكا ،وقد كانت اتحادا ً كونفدراليّاً بني جامعات فوضويّة ،وجامعات مناهضة للسلطويّة قام بغرض تنسيق
46ـ انظر ً
العمل املبارش املتّصل مبناهضة منظمة التجارة العامل ّية يف .1999وتفكك بعد أحداث شهدتها سياتل ،فشكلت بعض التنظيامت املكونة له شبكة جديدة عرفت باسم
الشبكة القا ّرية للعمل املبارش .CDANانظر :ديفيد غريري ،مرشوع الدميقراطيّة ،التاريخ ،األزمة ،الحركة (ترجمة أسامة الغزويل) ،سلسلة عامل املعرفة ،الكويت ،العدد
،418نوفمرب ،2014ص.21
47ـ سيّد قطب ،العدالة االجتامعيّة يف اإلسالم ،ص .182
48ـ سيد قطب ،يف التّاريخ فكرة ومنهاج ص.52
ّارخيي تلك إىل حماولة عزل وتسييج احلضارة اإلسالم ّية وجتريدها من ّ
كل ّ املعرفة ويف العلوم الدين ّية ذاهتا .وقد قادت عمل ّية العزل الت
مكتسبات احلضارات األخرى بام يف ذلك احلضارة الغرب ّية« .فاحلضارة احلديثة -ولو ّأنا قامت ابتداء عىل أسس االجتاهات التجريبية
اإلسالمي النابعة ابتداء من التوجيهات القرآن ّية لتد ّبر النواميس واستغالل
ّ العلم ّية التي اقتبستها أوروبا من األندلس ومن الرشق
الطاقات واملدخرات يف األرض ،ومن روح اإلسالم الواقع ّية اإلنسان ّية -إال ّأنا حني انتقلت إىل أوروبا مل تنتقل بجذورها الفلسف ّية،
وإنّام انتقلت علوم ًا وطرق ًا فن ّية ومناهج جتريب ّية .وصادفت ذلك الفصام النكد بني الدّ ين والنهضة احلضار ّية».49
يصوره س ّيد قطب .فالفصام النّكد بني النهضة احلضار ّية والدّ ين هو يف احلقيقة فطام فتح الباب للفكر قد يكون الواقع عكس ما ّ
وحرر العلم من التبع ّية للمقوالت الدين ّية التي قضت بأرسه يف عصور ّ تتحرر من قيود الرهبنة ورجال الدّ ين.
اإلنساين يف أورو ّبا كي ّ
ّ
التحرر من سلطة الكنيسة .ولك ّن حماولة
ّ تأسست عىل الظلامت وأعاقت خطواته نحو التحديث .ولذلك فحركة التنوير األوروب ّية ّ
اإلقناع بدور الدين يف هنضة العرب املسلمني قاد س ّيد قطب إىل قراءة ذات ّية تراعي مقاصده وال تستوعب حقيقة التحوالت التارخي ّية التي
تصور ًا زائف ًا للتاريخ األورو ّ
يب ،وإنّام يف تقديم نموذج زائف لنهضة يب .وليست خطورة هذا املوقف يف كونه يقدّ م ّ شهدها املجتمع األورو ّ
إسالم ّية منشودة ،وتفويت الفرصة التارخي ّية عىل املسلمني كي يتبنّوا مراجعات نقد ّية للفكر الدّ يني يمكن أن حتدّ من سلطة رجال الدين
وتصوراهتم.
ّ اإلسالمي وحت ّطم مجود معارفهم
ّ والفقهاء عىل العقل
وكل ترشيعاته تنبثق من هذا األصل الكبري. أن هذا الدّ ين يقوم عىل قاعدة األلوه ّية الواحدة .فكل تنظيامته ّ لقد اعترب س ّيد قطب ّ
ويتول شؤون البرش ّية ،ولذلك «فال بدّ ّأوالً أن يقوم املجتمع املسلم الذي ّ
يقر عقيدة :أن ال إله إال اهلل ،وأال ّ ونظامه يتناول احلياة ك ّلها،
أي وضع ال يقوم عىل هذه القاعدة» .ومن هنا كان رفضه للديمقراط ّية باعتبارها
50
يقر باحلاكم ّية ألحد من دون اهلل ،ويرفض رشع ّية ّ ّ
اإلسالمي .وما االقتداء بالديمقراط ّية أو بنظام املجتمعات الشيوع ّية
ّ ترشيع ًا إنسان ّي ًا قارص ًا عن إدراك احلقيقة اإلهل ّية الكامنة يف الترشيع
سوى حماولة تلبية وقت ّية لرغبات تنشئها اهلزيمة الداخل ّية .فااللتجاء إىل سبل أخرى غري تطبيق الرشيعة اإلسالم ّية هو «وهم تُنشئه
كل رشع آخر غريه من ناحية إن القلوب جيب أن ختلص ّأوالً هلل ،وتعلن عبود ّيتها له وحده ،بقبول رشعه وحده ،ورفض ّ العجلةّ ،...
تصورهم سوى «اخلضوع حلكم من األحكام الفقه ّية. بأي تفصيل عن ذلك الرشع يرغب فيه » .وما الرشيعة يف ّ
51
املبدأ ،قبل أن ختاطب ّ
ولو ترمجنا ذلك إىل لغة حديثة لرأينا أنّه يعني بالضبط رفض القانون الوضعي ،أي رفض أن يكون اإلنسان مسؤوالً عن الترشيع .وقد
ديني ،ال واضعني لألحكام التي يصدروهنا .هذه هي املغالطة التي وقعوا إهلي ّ
كان الفقهاء عرب التّاريخ يعتربون أنفسهم مستنبطني حلكم ّ
كلاملؤسسات املجتمع ّية وعىل ّكل ّ ألن وضعهم التّارخيي كان يقتيض إضفاء املرشوع ّية الدين ّية عىل ّ فيها ،هم أنفسهم ،عن حسن ن ّيةّ ،
اإلسالمي القائم عىل
ّ التصورات الباطلة ،ولذلك فتسويق املرشوع ّ األفعال التي يأتيها النّاس» .52وأ ّما الديمقراط ّية فتصنّف من ضمن
اإلسالمي من أجل جتاوز
ّ أن الغرب ذاته يف حاجة إىل املرشوع جمرد ر ّد عىل التصورات الغرب ّية وإنّام هو تأكيد عىل ّمبدأ احلاكم ّية ليس ّ
توجه الرضبات للقوى السياس ّية التي تُع ّبد الناس لغري اهلل ،أي حتكمهم بغري رشيعة اهلل أزماته وإصالح أحواله .ودور هذه الدعوة أن ّ
53
وسلطانه.54
كل التأويالت العقل ّية قديمها وحديثها يف وضح ذلك نرص حامد أبو زيد ،هو عداء ّ األول الذي قامت عليه احلاكم ّية ،كام ّ
فاألساس ّ
ٍ
إطار البحث عن مصدر صاف للترشيع ال تشوبه شائبة افرتاق الفرق وال مبادئ احلضارة الغرب ّية .أ ّما املبدأ الثاين فاالعتقاد يف وجود
مجة،
جزئي وحقائقها نسب ّية ومساوئها ّ ّ إهلي مستمدّ من روح الرشيعة اإلسالم ّية مقابل ترشيعات برش ّية قارصة وحمدودة طابعها ترشيع ّ
بام يف ذلك الديمقراط ّية التي تعطي احلكم للبرش وتستجيب لرغباهتم وأهوائهم بدل االستجابة لإلرادة اإلهل ّية العليا وتطبيق القوانني
واإلنساين يتجاهل حقيقة ها ّمة ثابتة يف طبيعة الوحي
ّ اإلهلي
ّ أقرهتا الرشيعة اإلسالم ّية« .ومثل هذا الفصل الكامل بني
الشاملة التي ّ
املتضمن
ّ اإلهلي
ّ واإلنساين ،وبعبارة أخرى :إذا كان اخلطاب
ّ اإلهلي
ّ اإلهلي ذاته بوصفه تنزيالً ،أي بوصفه حلقة وصل وخطاب ًا يتواصل به
ّ
ال بكلّ
اإلهلي تأوي ً
ّ اإلنساين يتواصل مع اخلطابّ ّ ّ
ال مع كل علمه وكامله وقدرته وحكمته ،فإن العقل يتوسل بلغة اإلنسان تنزي ً
ملنهجه ّ
جهله ونقصه وضعفه وأهوائه .لك ّن اخلطاب الديني يتجاهل هذه احلقيقة » .
56
صح
اإلهلي مبارشة من البرش إىل اهلل .ولو ّ
ّ يتأسس عليها مفهوم احلاكم ّية هي االعتقاد يف إمكان ّية بلوغ اخلطاب ّ
إن املغالطة الكربى التي ّ
يسميه قطب
يفس اختالف األديان وافرتاق الفرق ورصاع املسلمني فيام بينهم منذ عهد الصحابة؟ وكيف يمكن إدراك ما ّ ذلك فام الذي ّ
الرشيعة النق ّية من شوائب اخلالفات الكالم ّية واالختالفات الفلسف ّية؟ أليس هذا املوقف بدوره دخوالً إىل ساحة ّ
الصاع التأوييل عىل
احلقيقة الدين ّية يؤول إىل رؤية فقه ّية تدّ عي احتكار الفهم الصحيح ألحكام الكتاب والسنّة؟
إن خطورة مفهوم احلاكم ّية يف كونه يفرض قانون ًا يعتقد أصحابه بألوه ّيته ،وهو يم ّثل يف الواقع خطر ًا مزدوج ًا :يتم ّثل ّ
األول فيام ّ
فرضه هذا التأويل من انغالق يفيض إىل رفض احلوار بني الفرق واألديان ،ويمكن أن ينزلق إىل عنف مقدّ س ضدّ املختلفني من الشيعة
جزائي قائم عىل أشكال قديمة كقطع اليد والرجم واجللد وغريها من ّ واملتصوفة واخلوارج باسم تطبيق الرشيعة وحكم اهلل .وتبنّي نظام
ّ
احلدود التي صارت تنكرها مواثيق حقوق اإلنسان.
55ـ انظر :نرص حامد أبو زيد ،نقد الخطاب الدّيني ،ط ،2مرص ،دار سينا للنرش ،1994 ،ص .103
56ـ املرجع نفسه ،ص .104
الرسيوين ّ
أن املستحق من السلطة ،إىل اإليامن بديمقراط ّية أدات ّية مفرغة من الروح الفلسف ّية ،فقد اعترب ّ
58 57
ّ ّ
ولكل منهم نصيبه األرض،
الفلسفي
ّ األدايت واملضمون
ّ «الديمقراط ّية هي صيغ تنفيذ ّية وأشكال تنظيم ّية ملبدأ الشورى» .أ ّما راشد الغنويش فقد م ّيز بني البعد
59
الفلسفي املا ّدي فعمرها اإليامن ُع ّمرت بالتقوى ،عندئذ نستطيع أن
ّ نحرر هذه األداة من املضمونللديقراط ّية بقوله« :إذا استطعنا أن ّ
الشورى يف اإلسالم ظ ّلت يف معظم عهوده قيمة أخالق ّية تصلح نقول ّ
إن الديمقراط ّية هي بضاعتنا التي ر ّدت إلينا ،هي الشورى باعتبار ّ
سيايس » .
60
ّ وحوهلا إىل نظام
طور الشورى ّ أن الغرب قد ّ سيايس يف حني ّ
ّ تتحول إىل نظام
للوعظ واإلرشاد يف أ ّيام اجلمعة ،ومل ّ
بأن الديمقراط ّية نابعة من الشورى اإلسالم ّية ،وهو أمر اإلسالمي من اعتقاد ّ
ّ يكشف هذا الرأي ما أنتجته فكرة احلاكم ّية والتعايل
تعود لغة استعداء متلق ّ
أبعد ما يكون عن العلم ّية ،ومنطلقاته إيديولوج ّية غايتها تلوين الديمقراط ّية بالشورى لتكون مستساغة لدى ٍّ
السالم الوصول إليه يف هناية كتابه «تفكيك العلامن ّية» ،فاعترب ّ
أن «آل ّيات الديمقراط ّية وشيطنتها .وهو املسار نفسه الذي حاول رفيق عبد ّ
وتغذت بشكل أو بآخر من املواريث اإلسالم ّية املعلمنة ضمن سياقات التجربة الغرب ّية .ولك ّن هذا الديمقراط ّية إنّام نشأت يف بيئة ليربال ّية ّ
األصيل » .فاستبدل
61
ّ ال ينفي كوهنا قابلة للخروج من طور اخلصوص ّية للعامل ّية ،واالنتقال إىل بيئة حضار ّية وثقاف ّية غري موطن الوالدة
أسلمة الديمقراط ّية بعدائها .ويف احلالتني حترض الرغبة يف الفصل بدل الوصل واخلالف بدل التفاعل.
ملحة إىل عمل ّية حتويل قرسي إلفراغ الديمقراط ّية من جوهرها وأسلمتها حتّى تستجيب إىل حاجات نفس ّية راسخة يف تظل احلاجة ّ ّ
فثمة دوم ًا
كل التجارب األخرى بالنقص والدون ّيةّ . تظل هاجس ًا حيكم عىل ّ
اإلخواين .فاحلاكم ّية اإلهل ّية ّ
ّ تصورات املنتمني إىل الفكر
ّ
اإلسالمي الذي ط ّبق رشيعة اهلل املقدّ سة .ولكن تتفاوت درجات التلميح
ّ بأن خري نظام حيتكم له البرش هو النظاميقني معلن أو مضمر ّ
احلل السحري كامن ًا يف أسلمة الكون وسيادة املسلمني للعامل.ويظل ّ
ّ والترصيح بتلك احلقيقة،
ياسي
ّ والس
ّ الديني خاتمة :نحو ّ
فك االشتباك بين ّ
تتحول إىل أداة يف يد البورجواز ّية ووسيلة نفع ّية حلفظ مصلحة ّ كل عرص إىل أخالق تعضدها كي ال السياسة حتتاج يف ّأن ّشك ّ ال ّ
املاركيس الذي و ّلد أنظمة شيوع ّية أثر ًا عميق ًا يف إجياد
ّ أن للنقدطبقة مع ّينة تستأثر بالثروة وتذر الباقني يف الفقر واألزمات ،وال ريب يف ّ
تصورات أخرى سامهت يف نرش العدالة االجتامع ّية وتقليص الفوارق الطبق ّية بني األثرياء والفقراء .وسامهت أيض ًا يف مراجعات نقد ّية ّ
ً
السيايس ظل فكرا متواكالً ،هاجسه تلوينّ ّ ً
مكّنت الفكر الليربا ّيل من تعديل نظامه باستمرار سعيا الحتواء أزماته ،ولك ّن اإلسالم
اإلنساين حول مصري اإلنسان ّيةّ السياسة بالدين من أجل حتقيق أهداف نفع ّية هي الوصول إىل احلكم .وهو فكر معزول عن ساحة اجلدل
أن أسلمة الدولة هي التارخيي يف السلطة ّ
ّ املشرتك ومشاكلها .وقد كشفت التجارب التي مكّنت بعض األنظمة السياس ّية من حلمها
صي ظل واقع دو ّيل ّ كل حمتوى .فال هي استطاعت تطبيق ما دعت إليه من حاكم ّية يف ّ يتحول إىل رؤية مفرغة من ّّ يف احلقيقة وهم قد
الديمقراط ّية عملة عامل ّية ال ُيقبل اإلسالميون دون تداوهلا ،وال استطاعت تلك األنظمة حتقيق العدالة االجتامع ّية املنشودة .فقد كانت
التارخيي
ّ عقالين يمكن أن حي ّقق احللمّ تصور
كل ّ كل اعتبار .وكانت جعبتهم السياس ّية مفرغة من ّ مصاحلهم الفئو ّية واحلزب ّية فوق ّ
وإن استعادة مرحلة التّأسيس هي يايس عىل ضفاف الواقع الذي كان خري اختبار ملقوالهتمّ . الس ّبالنهضة .فقد حت ّطمت أوهام اإلسالم ّ
57ـ حسن الرتايب ،قضايا الح ّرية والوحدة والشورى والدميقراطيّة ،ط ،1السعوديّة ،الدار السعوديّة للنرش والتوزيع ،1987 ،ص .54
58ـ اعتمد هذه املصطلحات امحمد جربون يف دراسته :اإلسالم ّيون يف طور تح ّول :من الدميقراط ّية األدات ّية إىل الدميقراط ّية الفلسف ّية (حالة حزب العدالة والتنمية
املغريب) ،ضمن كتاب :اإلسالميون ونظام الحكم الدميقراطي اتجاهات وتجارب ،ط ،1بريوت ،املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسيات ،2013 ،ص .50
59ـ أحمد الرسيوين ،الحركة اإلسالم ّية املغرب ّية :صعود أم أفول ،ط ،1الدار البيضاء ،منشورات ألوان مغرب ّية ،2004 ،ص .50
60ـ راشد الغ ّنويش ،حوارات قيص صالح درويش ،ط ،1الدار البيضاء ،منشورات الفرقان /دار قرطبة ،2012 ،ص.63
61ـ رفيق عبد السالم ،تفكيك يف الدين والدميقراط ّية ،ط ،1تونس ،دار املجتهد ،2011 ،ص .233
املصادر:
_ قطب (س ّيد) ،العدالة االجتامع ّية يف اإلسالم ،دار الرشوق ،مرص،ط.1993، 13
_ قطب (س ّيد) ،معامل يف الطريق ،دار الرشوق ،مرص ،ط.1977 ، 6
ومقوماته ،دار الرشوق ،مرص ،ط( ،1د ت).
ّ اإلسالمي
ّ التصور
ّ _ قطب (س ّيد) ،خصائص
_ قطب (س ّيد) ،حقيقة اجل ّن يف ظالل القرآن ،دار الفضيلة للنرش والتوزيع والتصدير ،مرص،ط( ،1د ت).
_ قطب (س ّيد) ،دراسات إسالم ّية ،دار الرشوق ،مرص ،ط.2006 ،11
_ قطب (س ّيد) ،هذا الدّ ين ،دار الرشوق ،مرص ،ط.2001،15
_ قطب (س ّيد) ،يف التّاريخ فكرة ومنهاج ،دار الرشوق ،مرص ،ط( ،1د ت).
_ قطب (س ّيد) ،السالم العاملي واإلسالم ،دار الرشوق ،مرص ،ط.2006 ،14
_ قطب (س ّيد) ،اإلسالم ومشكالت احلضارة ،دار الرشوق ،مرص ،ط.2005 ،13
املراجع:
الساقي ،بريوت ،ط.2009 ،1
يب ،دار ّ_ سمري التنّري (سمري) ،الفقر والفساد يف العامل العر ّ
_ أبو زيد (نرص حامد) ،نقد اخلطاب الدّ يني ،دار سينا للنرش ،مرص،ط.1994 ،2
احلرية والوحدة والشورى والديمقراط ّية ،الدار السعود ّية للنرش والتوزيع ،السعود ّية ،ط.1987 ،1 _ الرتايب(حسن) ،قضايا ّ
_ كتاب مجاعي ،اإلسالميون ونظام احلكم الديمقراطي اجتاهات وجتارب ،املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسيات ،بريوت،
ط.2013 ،1
_ الرسيوين (أمحد) ،احلركة اإلسالم ّية املغرب ّية :صعود أم أفول ،منشورات ألوان مغرب ّية ،الدار البيضاء ،ط.2004 ،1
_ الغنّويش (راشد) ،حوارات قيص صالح درويش ،منشورات الفرقان /دار قرطبة ،الدار البيضاء ،ط.2012 ،1
_ عبد السالم (رفيق) ،تفكيك يف الدين والديمقراط ّية ،دار املجتهد ،تونس ،ط.2011 ،1
_ رولز (جون) ،العدالة كإنصاف إعادة صياغة( ،ترمجة حاج إسامعيل) ،مركز دراسات الوحدة العرب ّية /املن ّظمة العرب ّية للرتمجة،
بريوت ،ط.2009 ،1
حممد هناد) ،مركز دراسات الوحدة العرب ّية /املن ّظمة العرب ّية للرتمجة ،ط،1
_ ج ساندل (مايكل) ،الليربال ّية وحدود العدالة( ،ترمجة ّ
.2009
_ غريري (ديفيد) ،مرشوع الديمقراط ّية ،التاريخ ،األزمة ،احلركة (ترمجة أسامة الغزويل) ،سلسلة عامل املعرفة ،الكويت ،العدد ،418
نوفمرب .2014
_ حالق (وائل) ،الدولة املستحيلة اإلسالم والسياسة ومأزق احلداثة( ،ترمجة عمرو عثامن) ،املركز العريب للدراسات واألبحاث،
بريوت ،ط.2014 ،1
_ السعيد (رفعت) ،التأسلم فكر مس ّلح ،دار الطليعة اجلديدة ،دمشق ،ط.1996 ،1
_ السعيد (رفعت) ،حسن البنا متى كيف وملاذا؟ ،دار الطليعة اجلديدة ،دمشق ،ط .1997 ،10
(حممد) ،احلق والعدالة ،دار توبقال ،املغرب ،ط.2014 ،1 _ الزرق (عزيز) /اهلاليل ّ
_ العروي (عبد اهلل) ،مفهوم الدولة ،املركز الثقايف العريب ،بريوت /الدار البيضاء ،ط.2001 ،7
والسيايس يف اإلسالم ويف املاركس ّية ،دار الطليعة ،بريوت ،ط.2005 ،1
ّ يني
(حممد) ،الدّ ين واإليديولوجيا ،جدل ّية الدّ ّـ الرمحوين ّ
اإلسالمي( ،ترمجة هاشم صالح) ،مركز اإلنامء القومي /املركز الثقايف العريب ،بريوت /الدارّ أركون(حممد) ،تارخي ّية الفكر العريب
ّ ـ
- Milton (Rokeach), La Nature et la signification du dogmatisme: Archives des sciences sociales des reli-
gions. N. 32, 1971.
الزواوي بغوره*
ال هندف يف هذه املقالة إىل مناقشة الديمقراط َّية عىل وجه العموم ،وال املقابلة بني خمتلف أشكاهلا ،وإنَّام سنسعى للنظر يف نوع حمدَّ د
من الديمقراط َّية هو الديمقراط َّية الليربال َّية ،بام هي نظام حكم خرج منترص ًا من احلرب الباردة ،بحيث وصفه مشايعوه وأنصاره بـ:
(الديمقراط َّية الليربال َّية املنترصة) .واستعاروا يف هذا السياق عبارة الفيلسوف الفرنيس جان بول سارتر القائلة( :املاركس َّية هي األفق
الذي ال يمكن جتاوزه) ،واستبدلوها بعبارة( :الديمقراط َّية هي أفق اإلنسان َّية الذي ال يمكن جتاوزه) .كام نعتها املفكر األمريكي من أصل
بأنا( :أفضل العوامل املمكنة)،ياباين فرنسيسكو فوكوياما ،بنظام (هناية التاريخ) .وخلص الفيلسوف النمساوي كارل بوبر إىل اإلقرار َّ
قياس ًا عىل مقولة ليبنتز امليتافيزيق َّية.
وإذا كانت الديمقراط َّية الليربال َّية قبل اهنيار االحتاد السوفيتي تتحدَّ د بغريها من الديمقراط َّيات ،وبخاصة بتلك الديمقراط َّيات الشعب َّية
فإنا منذ بداية تسعينيات القرن العرشين قد أصبحت تتحدَّ د باجتاهاهتا وتياراهتا ،بحيث انتقل املرتبطة بالنظم الشمول َّية واالستبداد َّيةَّ ،
النقاش والبحث من حالة الديمقراط َّية يف عالقاهتا باألشكال اخلارج َّية عنها إىل عالقاهتا بأشكاهلا الداخل َّية .فام املقصود بالديمقراط َّية
الليربال َّية؟ وما موقف نظرية االعرتاف منها؟
.1نوع من الفكر املؤسس للحداثة الغرب َّية القائم عىل فكرة احلر َّية .فمن حر َّية الفكر نشأ العلم التجريبي احلديث ،ومن حر َّية التبادل
نشأ االقتصاد الرأساميل والصناعي ،ومن احلر َّية يف احلياة نشأت حقوق اإلنسان ،ومن حر َّية األفراد ظهرت حتوالت أساس َّية وجوهر َّية
يف مفهوم العائلة واألرسة والفرد ،ومن احلر َّية يف املشاركة والتنظيم نشأت الديمقراط َّية الليربال َّية.
.2ظهرت الديمقراط َّية الليربال َّية يف القرن الثامن عرش يف جمتمعات حمدَّ دة هي :بريطانيا وفرنسا وأمريكا ،بوصفها حركة فكر َّية
معي للتقاليد/وسياس َّية ونقد َّية للبنيات االجتامع َّية القائمة عىل االمتيازات ،أو حتديد ًا امتيازات بعض الفئات االجتامع َّية ،وعىل فهم َّ
للرتاث .وطالبت هذه احلركة بحر َّية أكثر يف املجاالت التي ذكرناها سابق ًا :أي يف العلم ،واالقتصاد ،والتنظيم ،واحلياة ،والفرد .وعملت
سيعب عنه الفكر الليربايل املغايل واملعروف بالفكر الليربتاين بـ(دولة احلد األدنى).
ِّ إمجاالً عىل احلدِّ من سلطة الدولة .وهو ما
إذا كانت الديمقراط َّية الليربال َّية قبل اهنيار االحتاد بوصفها أشكاالً رضورية للحكم ،بحيث أصبح من مهام الدولة
السوفيتي تتحدَّ د بغريها من الديمقراط َّيات، ضامن هذا املجتمع ،وأصبحت احلر َّية عنرص ًا رضوري ًا يف احلكم،
ومبد ًأ إجرائ َّي ًا من الدرجة األوىل ،وبذلك حتولت احلر َّية إىل مبدأ
وبخاصة بتلك الديمقراط َّيات الشعب َّية املرتبطة
للحدِّ من ُسلطة الدولة.1
فإنا منذ بداية بالنظم الشمول َّية واالستبداد َّيةَّ ،
تسعينيات القرن العرشين قد أصبحت تتحدَّ د إن األساس الذي يقوم عليه هذا الشكل من احلكم هو َّ
أن َّ .4
باجتاهاهتا وتياراهتا ،بحيث انتقل النقاش مزيد ًا من احلر َّية سيؤدي بالرضورة إىل جمتمع أكثر عدالة ،وأكثر
تقدُّ م ًا ،أو بتعبري آخر َّ
فإن املزيد من احلر َّية أو احلر َّيات ،إذا أردنا
والبحث من حالة الديمقراط َّية يف عالقاهتا
الدقة ،سيؤدي إىل جمتمع عادل ومتقدِّ م.
باألشكال اخلارج َّية عنها إىل عالقاهتا بأشكاهلا
الداخل َّية
.5يعكس ما حدث يف تاريخ املجتمعات الغرب َّية خالل قرنني
أن هنالك نوع ًا من الرصاع والنزاع بني خمتلف أشكال من الزمن َّ
وبخاصة التفاوت ما بني احلر َّية واملساواة والعدالة بشكل
َّ هذه احلر َّياتَّ ،
وأن احلر َّيات ليست متعادلة مجيعها وفيام بينها بشكل عام،
خاص .ويظهر هذا التفاوت يف ثالث نقاط أساس َّية هي:
.1احلر َّية بام هي رفع لإلكراه قد تؤدي ،من الناحية النظرية عىل األقل ،إىل إكراه أكرب ،بام َّأنا ستسمح للقوي بأن يستعبد
الضعيف.2
إن احلر َّية يف جمال االقتصاد قد تؤدي إىل االحتكار ،وهي ظاهرة كام هو معروف مالزمة لالقتصاد الرأساميل ،وقد تؤدي يف بعض َّ .2
األحيان إىل غياب املنافسة .ولتفادي عدم الوقوع يف مثل هذه احلاالت ال بدَّ أن تكون هنالك مؤسسات قانون َّية وترشيع َّية قو َّية .وبمعنى
آخرَّ ،
فإن عىل الدولة أن حتدَّ من احلر َّية االقتصاد َّية بقوانني ملزمة ،حتى ال تسمح للحر َّية االقتصاد َّية بأن هتدم نفسها.
أن احلر َّية تتطلب فضا ًء من التسامح ،ولكن ما العمل مع غري املتساحمني؟ بتعبري آخر ،هل يمكن التسامح .3مسألة التسامح :الواقع َّ
أن عدم التسامح معمع أفراد ومجاعات غري متساحمة؟ هذا ما تواجهه خمتلف املجتمعات ،بام يف ذلك املجتمعات العرب َّية .ومن الواضح َّ
غري املتساحمني باسم التسامح حيمل مفارقة ظاهرة .واألمثلة عىل ذلك كثرية عىل رأسها العنرص َّية وخمتلف اجلامعات املتطرفة ،بام يف ذلك
أن :للمتساحمني احلق يف أن يكونوا غري متساحمني يف بعض الوضعيات فإن املبدأ املقدّ م يف هذه احلالة هو َّ
اجلامعات اإلسالمية .وبالطبعَّ ،
احلا َّدة ،وذلك هبدف احلفاظ عىل التسامح.
ال يمكن أن تؤدي حر َّية اإلعالم والتعبري إىل الدعاية للكراهية َّ
إن الديمقراطية الليربال َّية قد تؤدي إىل حاالت غري ديمقراط َّية .فمث ً
ونرش أحكام خطرية وخاطئة ،مثل ما حيصل لبعض اجلاليات واألقل َّيات ،وملا يلحق بصورة اإلسالم واملسلمني يف السنوات األخرية
عىل سبيل املثال .ينجم عن هذا كله ،وجود نزاع أسايس داخل الديمقراط َّية الليربال َّية ما بني احلر َّية واملساواة والعدل .وحول هذا
فإن فالسفة السياسة إمجاالً ال يميلون إىل الطرح الثوري، أن ما جتب مالحظته يف هذا السياق هو أنَّه رغم هذا النزاع والرصاعَّ ، عىل َّ
وال إىل التفسري األحادي والشمويل ،وإنَّام أصبح احلديث يدور حول أفضل السبل لتحقيق الديمقراط َّية الليربال َّية .وإذا كان هنالك اتفاق
قائم حول ما هو أفضل نظام قانوين ودستوري حلامية حقوق اإلنسان ،ومراقبة النخب السياس َّية احلاكمةّ ،
وحل النزاعات االجتامع َّية
فإن هنالك خالفات بني خمتلف التيارات حول مسائل معينة ،ومنها :احلر َّية ودرجة تدخل الدولة ،املساواة وعالقتها والسياس َّية سلم َّي ًاَّ ،
فإن هنالك مسألة متعلقة بمصري الديمقراط َّية الليربال َّية ،يمكن صياغتها يف سؤال مبارش وهو :ما بالعدالة االجتامع َّية ،وقبل هذا وذاكَّ ،
مصري الديمقراط َّية الليربال َّية؟ وحول هذه األسئلة وغريها يدور نقاش بني عدد من الفالسفة يمكن تصنيفهم إىل ثالثة ت َّيارات أساس َّية:
التيار الليربايل اإلجرائي ،والتيار اجلمعايت ،وتيار التعدُّ د َّية الثقاف َّية .وال يتسع املجال هنا للتفصيل يف هذه النظريات ،وال يف القضايا
املختلفة املطروحة عىل الديمقراط َّية الليربال َّية ،إنَّام حسبي أن أنظر يف النظر َّية التي تدعو إىل سياسة االعرتاف( (�politique de la recon
،)naissanceبام هي سياسة عادلة.
إن االعرتاف يف املجتمعات التي تعرف تعدُّ د ًا ثقافي ًا قد أصبح حاجة ُم َّ
لحة ،وذلك للعالقة الرضور َّية ما بني االعرتاف واهلو َّية.3 َّ
«إن هو َّيتنا تتشكَّل جزئي ًا باالعرتاف أو بغيابه ،وكذلك
واألطروحة األساس َّية التي يتقدَّ م هبا هذا التيار ،وعىل رأسهم شارل تايلور هيَّ :
املشوه يمكن أن ُيعدَّ ظل ًام ،ويمكنَّ إن عدم االعرتاف أو االعرتاف باإلدراك اخلاطئ أو الس ِّيئ الذي يملكه اآلخرون عن هو َّيتنا»َّ .4
املشوه ،أو
َّ أن ُيشكِّل نوع ًا من االضطهاد ،وذلك ألنَّه يؤ ِّطر ويسجن شخص ًا ما أو جمموعة أشخاص يف نوع من الوجود اخلاطئ ،أو
املختزل.
مشوهة عن نفسها ،وعن هو َّيتها .وقد استبطنت فمثالً ،أثبتت بعض الدراسات النسو َّية َّ
أن املرأة يف املجتمع األبوي متلك صورة َّ
التحرر.
ُّ فإنا مع ذلك تبقى عاجزة عن املرأة هذه الصورة الدون َّية ،حتى أنَّه عندما ترتفع بعض العوائق واحلواجز يف وجه حر َّيتهاَّ ،
مشوهة عن الزنوج مل يتمكنوا من
وينطبق األمر نفسه عىل الزنجي ،وعن املست ْع َمر ،وذلك ألنَّه منذ أجيال فرض اإلنسان األبيض صورة َّ
3ـ االعرتاف مفهوم سيايس وأخالقي يحيل إىل معنيني :األول يتصل مبطالب خاصة لجامعات اجتامعية معينة ،والثاين يصف رشعية مختلف املطالب السياسية
واألخالقية .استعمل املعنى األول تايلور ،واستعمل املعنى الثاين أكسل هنيث .ملزيد من التفصيل انظر كتابنا:
-الزواوي بغوره ،االعرتاف ،من أجل مفهوم جديد للعدل :دراسة يف الفلسفة االجتامعية ،دار الطليعة ،بريوت ـ لبنان.2012 ،
4 . Charles Taylor, Multiculturalisme, différence et démocratie, Paris, Flammarion, 1992, p.41.
أن األقل َّية ال تعني دوم ًا قلة يف العدد .يؤكد هذا ما تشري إليه،
فإن ما هو جدير بالتوضيح َّ
وإذا كان مفهوم االعرتاف يشري إىل األقل َّياتَّ ،
عىل سبيل املثال ،حالة النساء أو السود/الزنوج .يقول الفيلسوف الفرنيس املعارص جيل دلوزَّ :
«إن األقل َّية واألغلب َّية ال تتميز بالعدد.
فإن األقل َّية تعني بالفعل وضع َّية أو حالة أو منزلة .وليس املقصود فاألقل َّية يمكن أن تكون أكرب من األغلب َّية من حيث العدد ،وبالتايل َّ
وضع َّية من هو قليل ،وإنَّام وضع َّية الذي فرضت عليه وضع َّية القارص ،وذلك وفق ًا ملفهوم كانط للقارص الذي ال يستطيع أن يقود نفسه
يتم توجيهه» .8أي ذلك الشخص اخلاضع حلكم الوصاية. من دون أن َّ
وتقر َّ
بأن ويف حماولتها لدراسة موضوع األقل َّيات وحقوقها ترى سياسة االعرتاف رضورة االعرتاف باهلو َّيات يف جمتمع متعدِّ دُّ ،
الديمقراط َّية الليربال َّية مل تنجح يف احلدِّ من التفاوت وعدم املساواة .والسبب يف ذلك َّأنا تنظر إىل املجتمع بوصفه جمموعة من األفراد
أن املجتمع ليس حاصل جمموع أفراده ،وإنَّام هو املستقلني الذين يتمتَّعون بمنزلة واحدة ،وباستقالل تام عن قيمهم وانتامءاهتم ،يف حني َّ
معي ،أو هو باألحرى حاصل ثقافات ومراحل تارخي َّية متعدِّ دة.
حاصل ثقافة مع َّينة وتاريخ َّ
تقر بالتفاوت ،إال َّأنا تشخصه عىل مستوى الفرد، أن الفكر الليربايل يف عمومه ،والديمقراط َّية الليربال َّية عىل وجه التحديد ُّ صحيح َّ
أن التفاوت أو الظلم يصيب اجلامعات ،وهو ما تؤكده أن الفرد فقط هو ضحية التفاوت أو عدم املساواة ،يف حني َّ وذلك العتقادها َّ
أن الفكر الليربايل بام هو تفكري فردي املالحظة املبارشة لواقع املجتمعات الليربال َّية .من هنا ختلص سياسة االعرتاف إىل نتيجة مؤداها َّ
يعاين من انفصال عن الواقع ،فهو غري قادر عىل أن ينظر بواقع َّية ملسألة احلر َّية والعدالة .باختصار مل تعد الليربال َّية بام هي فردية قادرة عىل
جمرد ،يف حني َّ
أن هذا الفرد يوجد دائ ًام يف إن الفكر الليربايل ينظر إىل الفرد بشكل َّ فهم البعد اجلامعي لإلنسان وتعدُّ د قيمه .وبتعبري آخرَّ :
فإن الفرد بقدر ما هو كائن ذايت يتمتع بقدرات شخص َّية ،هو يف وضع َّية مع َّينة ،وخيضع دائ ًام لتجربة ثقاف َّية متنح معنى لوجوده .وعليهَّ ،
الوقت نفسه كائن موضوعي ،ألنَّه عضو وعنرص يف مجاعة تعينه عىل تشكيل هو َّيته.
أن هذه الفكرة األساس َّية التي يتقاسمها عدد من الفالسفة منهم :مكنتري ،كيمليك ،سندال ،شارل تايلور ،ويل وما جتدر مالحظته هو َّ
كيمليكا ،ولكن بدرجات خمتلفة ،ال تشكِّل نوع ًا من الرفض ملرشوع احلداثة السياس َّية الغرب َّية ،بقدر ما هي حماولة إلجراء مراجعة نقد َّية
التنوع أو
لبعض مبادئ الديمقراط َّية الليربال َّية ،وذلك بالنظر يف حدودها ،وإمكان َّية إصالحها ،من خالل انفتاح هذه الديمقراط َّية عىل ُّ
التعدُّ د الثقايف.
وأن اإلنسان بحكم هذا أن اإلنسان كائن اجتامعي وأخالقي يف الوقت نفسهَّ ، عىل سبيل املثال يرى الفيلسوف الكندي شارل تايلور َّ
الوضع ال يمكن له حتقيق السعادة خارج مجاعته الثقاف َّية .وقد استند يف هذا الرأي عىل الفيلسوف األملاين هيغل الذي م َّيز بني أخالق
موضوع َّية ،وهي جمموعة من املعايري والقيم املشرتكة جلامعة مع َّينة ،وأخالق ذاتية ،وهي تلك األخالق الفرد َّية التي يتَّبعها الفرد ويمكن
يتم خارج نظام اجتامعي وأخالقي أن بناء اهلو َّية الفردية/الذاتية ال يمكن أن َّأن تكون ضدَّ مجاعته .واستنتج تايلور من هذا التمييزَّ :
معي .وحلل ذلك بإسهاب يف كتابه« :منابع الذات ،تشكُّل اهلو َّية احلديثة».9 َّ
اخلاصة،
َّ تتضمن اهلو َّية يف نظر هذا الفيلسوف عمليتني أساسيتني مها :عملية اكتشاف الذات/األنا ،أي قدرة الفرد عىل إدراك ذاته
ومن جهة أخرى هنالك عمل َّية االعرتاف بالذات/األنا من قبل اآلخر ،أي ذلك املوقف الذي يؤمن للفرد وضع َّية ومنزلة ضمن بيئته
عب عنه جون جاك روسو بعبارة :الشعور بالوجود .واليشء األسايس يف نظر تايلور هو َّ
أن حتقيق احلر َّية يعني االجتامع َّية املعطاة ،أو ما َّ
اإلقرار واألخذ بعني االعتبار للعمليتني املشكِّلتني للهو َّية الذات َّية أي :إدراك الذات/األنا ،واالعرتاف هبا .
10
وعىل الرغم من دراسته وتثمينه لظهور هذه اهلو َّية احلديثة ،إال َّ
أن ذلك مل يمنعه من الوقوف عند سلبيات هذه اهلو َّية ،وهو ما ب َّينه
يف كتابه« :قلق احلداثة» ،1991حيث حلل النتائج التي أ َّدت إليها هذه الفرد َّية واألولو َّية املعطاة للعقل األدايت عىل حساب املجتمع
واإلنسان احلديث .ومن بني املظاهر السلبية التي أ َّدت إليها هذه الذاتية ،يمكن اإلشارة إىل العزلة املتزايدة لألفراد داخل املجتمع،
والتذرير( )atomismeالذي أصاب املجتمعات احلديثة ،واالهتامم املتزايد بالذات عىل حساب اجلامعة ،واألولو َّية املعطاة لإلنتاج
تقوت بفعل التقنيات ،وهو ما أ َّدى إىل تراجع يف قيم املجتمع.
وللفعال َّية التي َّ
إن األقل َّية ليست شيئ ًا آخر غري أولئك الذين َّ يظهر هذا الرتاجع يف احلياة األخالق َّية ،بحيث انحرصت
ال نعرتف هلم يف أن يكون هلم احلق يف قيادة الغاية األخالق َّية كلها يف الرفاهية املاد َّية .كام يظهر هذا الرتاجع يف
جراء عزوف املواطنني عن وبخاصة احلر َّيات املدن َّية َّ
َّ احلر َّيات ذاهتا،
أنفسهم ،وننكر عليهم أن تكون هلم هو َّيتهم
وبخاصة بعد تنامي دور الدولة البريوقراطي، َّ املشاركة السياس َّية،
اخلاصة ونرفضها ،وال نرتك هلم خيار ًا آخر َّ وهو ما اصطلح عليه باالستبداد الناعم (.)despotisme doux
غري خيار اكتساب هو َّية األغلب َّية ولتجاوز هذه املظاهر السلب َّية يف الديمقراط َّية الليربال َّية ،وجب يف
نظره إعادة االعتبار للجامعة وحتديد جديد للحر َّية واملساواة.
ألن الفرد ال يمكن له أن حيقق خمتلف رشوط استقالله الذايت إال بارتباطه من هنا ُّ
حيتل مفهوم اجلامعة يف هذا الت َّيار مكانة مركز َّيةَّ ،
باجلامعة أو بجامعة معينة ،مجاعة تستقبله ،وتتحمله ،وتعلمه اللغة والتفكري ،وتسمح له ببناء مواقف أخالق َّية وشخص َّية .وهذا هو
مصدر اإلعالء الذي يبديه هذا التيار لقيمة اجلامعة يف موضوع االنتامء وتشكيل اهلو َّية األخالق َّية .ويسمح لنا بفهم أطروحة هذا التيار
وإن الفرد اإلنساين غري قادر عىل االكتفاء الذايت يف هذا إن اهلو َّية مرشوطة باالعرتاف ،أو اهلو َّية ال تنفصل عن االعرتافَّ ، القائلةَّ :
وبخاصة
َّ نتعرف عىل أنفسنا ،فإنَّنا يف حاجة إىل نظرة اآلخر،املجال .أو كام قال تايلور«:ال نستطيع أن نحدِّ د أنفسنا بأنفسنا» .فلكي َّ
12
وكل منسميه الرشيك الدال ،الذي تربطنا به عالقة انتامء أو تضامن ضمن مجاعة حقيق َّية ،كأفراد العائلة ،واألصدقاء ،والزمالءّ ، ملا ُي ِّ
يامثلنا ،وذلك من خالل النقاش املتبادل واللقاء واملصلحة.
وإذا كان الفكر الليربايل ُي ِّذرنا من خماطر اجلامعة ،ومن تأثريها السلبي عىل الفرد ،ومن قدرهتا عىل أن ُت ْلبِ َس ُه أخالق ًا نمط َّية وسلطو َّية،
ألن مثل هذه املقابلة تقوم عىل لبس يف مفهوم اختيار فإن الر َّد عىل ذلك هو بالقول إنَّه جيب ّأل نقابل احلر َّية باالنتامء إىل مجاعة ُمع َّينة .ملاذا؟ َّ
َّ
أن القيم التي يعتنقها الفرد تكون حاصل اختيار حر، الفرد .ويتمثل هذا اللبس يف طريقة االختيار ومضمون االختيار .ومعنى ذلك َّ
أن الفرد اخرتع واكتشف هذه القيم الشخص َّية، فإن هذا ال يعني َّ وتتناسب وقناعاته احلقيق َّية ،وهو أمر يف غاية األمه َّية ،ولكن مع ذلك َّ
معي.
معي وتاريخ َّ وأنا ال تنتمي إال لشخصه ،بام أنَّه يتقاسمها مع أشخاص كثريين ،وتنتمي إىل ت َّيار فكري متأصل يف تراث َّ َّ
أن من اخلطأ النظر إىل االختيارات السياس َّية واألخالق َّية عىل َّأنا حصيلة إنجاز فردي ،أو َّ
أن اهلو َّية األخالق َّية حصيلة عمل َّية يعني هذا َّ
ألن ذلك يؤ ِّدي إىل طرح هذا السؤال :ما هي هذه القيمة واملقرر .ملاذا؟ َّ
ِّ تتم يف سياق مغلق ،حيث يكون الفرد املستقل هو الس ِّيد فرد َّية ُّ
التي ال قيمة هلا إال بالنسبة إىل الفرد ،والتي ال يعرتف هبا أحد؟ من هو هذا الفرد الذي اخرتع بنفسه قيمة أخالق َّية؟ جييب تايلور عن هذا
السؤال بالقول« :إنَّنا نكون أصالء عندما نكون يف عالقة مع حقيقة عليا متتلك داللة مستقلة بالنسبة إلينا وإىل رغباتنا» .13يعني هذا أنَّنا ال
نكتشف هو َّيتنا األخالق َّية من ال يشء ،وإنَّام نكتشف هويتَّنا األخالق َّية من خالل نوع من االستكشاف الدائم واملستمر واملتقدِّ م لذواتنا.
يغذي هو َّيتنا األخالق َّية بأساليب خمتلفة ،منها ما يتصل بالعادات والتقاليد ،ومنها وأنَّنا نكرب وننمو يف حميط وضمن وسط إنساين خاص ِّ
ما يتصل باملؤسسات والترشيعات والقوانني ،ومنها ما يتصل بالوسط البيئي واالجتامعي .وباختصار ،بنمط من احلياة/الوجود الذي
يصبح طبيعي ًا بالنسبة إلينا ،ونألفه ونتعايش معه ونعيش فيه.
تصوراتنا حول اخلري ،وضمنه أيض ًا تكون لنا مواقف حيال القضايا ذات األمه َّية
وضمن هذا الوسط نتعلم اللغة التي متكِّننا من صياغة ُّ
كل فرد يف حاجة إىل فإن َّ
بالنسبة إلينا ،وتكون موضوع تفكري ومناقشة بيننا وبني غرينا .يقول تايلور« :حتى يكتشف مضمون إنسان َّيتهَّ ،
12 . Charles Taylor, Les sources de l’identité moderne, Québec, Sainte-Foy, PUL, 1996, p.350.
13 . Charles Taylor, Grandeur et misère de la modernité, trad. Charlotte Melancon, Montereal, Bellarmin, 1992, p.104.
أفق من الداللة ،ال يمكن أن يعطى له إال من خالل نوع من االنتامء إىل مجاعة ،وإىل تراث ثقايف .هذا يعني أنَّه يف حاجة باملعنى العام إىل
لغة لكي يطرح أسئلته الكربى وجييب عنها» .14فعندما أبحث عن معنى حليايت ،فإنَّام أبحث عن ذلك ضمن القيم واألفكار املوجودة
والقائمة واحلارضة يف بيئتي الثقاف َّية.15
صممة عىل َّأنا حر َّية االستقالل الذايت .وتقتيض هذه احلر َّية القدرة عىل االختيار ،وعىل ثم َّ
إن احلر َّية يف املنظور الديمقراطي الليربايل ُم َّ
أقرر بنفيس َّ
كل ما يتعلق يب ،بعيد ًا عن املؤثرات اخلارج َّية) .ولكن لكي حر عندما ِّالتحقيق أو التنفيذ ،وذلك وفق ًا للعبارة القائلة( :إنَّني ٌّ
حر ًا ،جيب أن يتَّبع مثاالً أخالق َّي ًا ،وأن يكون أصيالً .فام املقصود باألصالة؟
يكون اإلنسان َّ
.2تقتيض األصالة قدرة الفرد عىل العيش بصدق سواء يف عالقته مع نفسه أو يف عالقته مع اآلخرين.
.3أن يكون الفرد قادر ًا عىل تبنِّي معايري أخالق َّية تتناسب وذاته ،رافض ًا يف الوقت نفسه ك َُّل أنواع الشكالن َّية أو األحاد َّية االجتامع َّية،
أن لك ُِّل إنسان طريقته يف احلياة/الوجود ،وعليه أن يبحث عن شكل احلياة مثل تبنِّي نمط حياة اجتامعي مفروض من اخلارج .بمعنى َّ
اخلاصة به ،وأن جيد يف نفسه املنابع األخالق َّية لوجوده.َّ
14 . Charles Taylor, Rapprocher les solitudes : Ecrits sur le fédéralisme et le nationalisme au Canada, Sainte-Foy, PUL, 1992, p. 53.
كل يشء موضوع اختيار ،وهذا غري متاح واقعياً .ويطرح
15ـ كام ميكن الر ُّد عىل الطرح الليربايل الفردي بالقول :إ َّن املطالبة بحريَّة فرديَّة كاملة يعني أنَّه يجب أن يكون ُّ
تايلور سؤاالً جديرا ً بالتمعن وهو :ماذا ستفيدنا الحريَّة إذا كنا ال نرتبط ّ
بأي يشء؟ أو كام قال( :من غري هويَّة سابقة ،فكيف يل أن أقدر عىل االختيار)؟ انظر:
- Charles Taylor, Foucault, la liberté, la vérité, in, Couzens Hoy David(Ed), Michel Foucault : Lectures critiques, trad. Jacques Colson,
Editions Universitaires, Paris, 1989, p.182.
16 . Charles Taylor, Multiculturalisme, Op. cit. p.57.
ُعب عنها الديمقراط َّية إن التعدُّ د َّية التي ت ِّ أن إرادة احلياد التي يبدهيا النظام اجلمهوري يف الفضاء العمومي َّ
هي بمثابة حتدٍّ حقيقي تواجهه املجتمعات كل املواطنني يتمتعون حتمل مقاصد إجياب َّية ،بام َّأنا هتدف إىل جعل ِّ
تنوعت وتعدَّ دت باحلقوق نفسها ،وباملساواة أمام القانون مهام َّ
احلديثة ،وبه تتميز عن املجتمعات التقليد َّية.
حياهتم اخلاصة ،ولك َّن هذا املسعى الذي يعود إىل فلسفة روسو
والرهان األكرب أل َّية ديمقراط َّية ليربال َّية يقوم عىل مغالطة مكشوفة .ملاذا؟ َّ
ألن عدم االعرتاف باهلو َّيات
ناجحة يتمثل يف إجياد الطرق املناسبة لتسيري الثقاف َّية والعرق َّية والدين َّية يؤدي إىل وضعيات وحاالت من
نزاعاهتا ،بحيث ال تؤدي التعدُّ د َّية إىل إحلاق الظلم والتفاوت املكشوف .يؤكِّد هذا ما قامت به اإليديولوج َّية
اجلمهور َّية عرب تارخيها ،وما فرضته من ثقافة مهيمنة ،أدت إىل
الرضر أو املخاطرة بام ُيعترب سبب ًا يف وجود
فإن اإلنكار أو رفض االعرتاف سحق ثقافة األقل َّيات .وعليه َّ
الديمقراط َّية ،أال وهو احلر َّية والعدل يؤدي إىل حاالت من التعسف والقهر والظلم.
من هنا خيلص هذا التيار الناقد للديمقراط َّية الليربال َّية إىل القول باحلر َّية ،ويف الوقت نفسه رفض االختالف ُيعدُّ موقف ًا غري متطابق،
فإنا يف الوقت نفسه ال متنع مثل هذه احلقوق .ومبادئ الديمقراط َّية ألنَّه إذا كانت مبادئ الديمقراط َّية الليربال َّية حتدُّ من حقوق األقل َّياتَّ ،
يتم
الليربال َّية ليست فقط متوافقة مع إعطاء األقل َّيات العرق َّية والثقاف َّية مجلة من احلقوق ،وإنَّام تعرتف بمثل هذه احلقوق .وال يمكن أن َّ
تصور جديد للدولة واملواطنة تكون تصور الدولة املركز َّية األحاد َّية التي يتمتع فيها املواطنون بمنزلة قانون َّية واحدة ،إىل ُّ
ذلك إال بتجاوز ُّ
فيهام مكانة للتعدُّ د الثقايف ،سواء من خالل شكل من الدولة املركز َّية أو الدولة الفيدرال َّية.
وهنالك من ال يرى تعارض ًا بني الدعوة إىل مواطنة متعدِّ دة الثقافات17ومبادئ الليربال َّيةَّ ،
وأن نظر َّية ليربال َّية يف التعدَّ د الثقايف ستضمن
العدالة لك ُِّل مواطن ،وذلك بأن حتميه من جهة من املظامل التي قد ترتكبها اجلامعة املهيمنة ،ومن جهة أخرى حتمي الفرد من املظامل التي
أن سياسة االعرتاف رغم نقدها فإن من األمه َّية بمكان التأكيد عىل َّ يقرتفها األفراد أو قادة اجلامعة التي ينتمي إليها .18ويف هذا السياقَّ ،
فإنا تدعو إىل رضورة احرتام حقوق األفراد ،وال تقابل مطلق ًا حقوق اجلامعة لنموذج الدولة-األ َّمة ،ودفاعها عن سياسة االعرتافَّ ،
بحقوق الفرد ،وإنَّام جتعل من حقوق الفرد أحد األركان األساس َّية للمجتمع املتعدِّ د الثقافات.
ولكي تصبح اهلو َّيات اجلامع َّية والفرد َّية جزء ًا من املجال العام ال ُبدَّ من إعطاء أمه َّية كبرية للحوار أو ملبدأ احلوار َّية ،كام سبقت اإلشارة
يتم بناء اهلو َّيات بواسطة احلوار السلمي بني خمتلف اجلامعات ،فإنَّه من الطبيعي أن إىل ذلك .وذلك استناد ًا إىل القاعدة القائلة :حينام ُّ
يكون التشاور واحلوار واملناقشة يف املجال العام ،وأن يتداول املواطنون عىل احلكم .وهبذا املعنى لن تكون احلياة السياس َّية عبارة عن
مواجهة بني مواطنني هلم مصالح ماد َّية خمتلفة فقط ،وإنَّام يكون هنالك إمكان َّية للمداولة والتشاور حول خمتلف سامت هو َّياهتم.
ألنا ستؤدي إىل تعميق االختالفات ،أو ثمة خماطر عديدة يف معاجلة اخلصوص َّيات باالعرتاف هبا من غري حتديدَّ ، الشك فيهَّ ،
أن َّ َّ وممَّا
قد تزيد من وجودها ،وهذا قد يؤدي إىل انفجار املجتمع .لذلك فإنَّه ويف ِّ
ظل فضاء اجتامعي مع َّقد و ُمتعدِّ د الثقافاتَّ ،
فإن هذه املشاكل
تتطلب تفكري ًا نقدي ًا ،وحوار ًا مسؤوالً ،وانفتاح ًا عىل اآلخر ،وقدر ًا مع َّين ًا من التسامح ،مع رضورة التمييز بني ما هو أسايس وعريض.
17ـ تعني املواطنة مجموعة من الخصائص؛ أه ُّمها أنّها منزلة قانونية تحدّد حقوقاً وواجبات للفرد ،كام أنَّها تع ُّد مبدأ للرشع َّية السياس َّية ،للتضامن االجتامعي ً
بدال من
عالقات النسب والدين ،وهي ليست فكرة جوهريَّة ،وإنَّ ا فكرة سياسيَّة وتاريخيَّة متطورة ،تقتيض رضورة احرتام القانون.
18 . Will Kymlicka, La citoyenneté multiculturelle, une théorie libérale du droit des minorités, trad. Patrick Savidan, Paris, Editions la
Découverte, 2001, p.XII.
يعني هذا ،عدم وجود معادلة جاهزة وقابلة للتطبيق عىل مجيع الوضع َّيات واحلاالت ،وإنَّام هنالك مبادئ عامة وقيم مشرتكة ،كام أنَّه ال
أن االختيارات ستكون صحيحة ودقيقة .وهذا يعني ،أنَّه جيب االعرتاف وجود إلجراءات قانون َّية صارمة سابقة يمكن أن تضمن سلف ًا َّ
باالختالفات ضمن روح املصاحلة والتسوية.19
فإن سياسة االعرتاف تُعترب حماولة لفتح الديمقراط َّية الليربال َّية عىل قضايا اجلامعات واألقل َّيات ،وذلك باالستناد إىل مبدأ وإمجاالًَّ ،
أن اهلو َّية اإلنسان َّية تتشكل من عمليتني ذات َّية وموضوع َّيةَّ ،
وأن احلوار ُيشكِّل حقيقة اهلو َّية احلر َّية والعدل وحقوق اإلنسان ،وإىل فكرة َّ
وأن طبيعة املجتمعات احلديثة تقتيض سياسة يف االعرتاف تأخذ بعني االعتبار عاملني أساسيني مها :التعدد الثقايف واألخالقي احلديثةَّ ،
للمجتمع احلديث ،واهلجرة التي تطبع األلف َّية الثالثة.
ثم َّ
إن الديمقراط َّية الليربال َّية ،شئنا أم أبينا ،هي استجابة للتعدد َّية التي تطبع االجتامع اإلنساين .وهذه التعدُّ د َّية التي حتاول الديمقراط َّية
ُعب عنها الديمقراط َّية هي بمثابة حتدٍّ حقيقي تواجهه املجتمعات الليربال َّية االستجابة هلا أو تسيريها يطبعها النزاع .فالتعدُّ د َّية التي ت ِّ
احلديثة ،وبه تتميز عن املجتمعات التقليد َّية .والرهان األكرب أل َّية ديمقراط َّية ليربال َّية ناجحة يتمثل يف إجياد الطرق والوسائل املناسبة
لتسيري نزاعاهتا ،بحيث ال تؤدي التعدُّ د َّية إىل إحلاق الرضر أو املخاطرة بام ُيعترب سبب ًا يف وجود الديمقراط َّية ،أال وهو احلر َّية والعدل.
19 . Michel Metayer, La philosophie éthique : Enjeux et débats actuels, Editions du Renouveau Pédagogique, Canada, 1997, p.238.
حممد اخلراط *
مدخل:
مفصلة لقضية الديمقراط َّية ومطلب العدالة وصخب العنف أثناء الثورات ال تدَّ عي هذه الورقة تقديم دراسة أكاديم َّية ضافية أو َّ
املكونة للعنوان الذي وسمنا به عملنا فحسب ،بل ألنَّنا نطرق موضوع ًاالعرب َّية وبعدها ،ال لصعوبة ترشيع الربط بني هذه املصطلحات ّ
ما زالت خيوطه تنسج يف الواقع الفعيل أيض ًا ،بل ما زالت الذوات تتفاعل معه ،ومل تنشأ مسافة زمنية ها َّمة تكفي ملقاربة يسعها من العمق
ما هي جديرة به .فحسبنا إذن أن نتطلع إىل رؤية تطمح إىل التفكيك وتقنع باالسترشاف.
الديمقراط َّية بني مطلب العدالة وآلة العنف ليس عنوان ًا أو موضوع ًا راهن ًا فحسب ،إنَّه ،إضافة إىل ذلك ،سياق اجتامعي وسيايس
جيعلنا نتساءل :ملاذا جتابه وترتبط الدعوة إىل الديمقراط َّية بالعنف سواء ممَّن يرفعون شعارها أو ممَّن ُيك ِّفرون دعاهتا؟ دعوات ترتى
نسمعها تُن ِّظر للديمقراط َّية والعدالة االجتامع َّية وتدين العنف ،فلامذا يزداد العنف وتتَّسع رقعته يوم ًا وراء يوم وال نستشعر بداية حقيق َّية
عامدها تركيز أسس الفكر الديمقراطي وقواعد املامرسة الديمقراط َّية؟
سيكون منطلق تفكرينا يف املوضوع بشكل أسايس ما استوحيناه من التجربة التونس َّية انطالق ًا من خماض أحداث 17ديسمرب 2010
14 /جانفي ،2011دون أن نغفل عن جمموع األحداث اإلقليم َّية التي اكتنفت أو أعقبت ما ُس ِّمي عند بعضهم بالربيع العريب ،وعند
عمن يعترب ما حدث انتفاضة ال ترتقي إىل مستوى ال َّبعضهم اآلخر بالتسونامي العريب ،وعند فريق ثالث بأنفلونزا السياسة العرب َّية ،فض ً
احلدث الثوري .وستحاول هذه الورقة أن تكون مقاربة بين َّية جتمع بني التحليل السوسيولوجي والتفكيك السيايس والتأ ُّمل الفلسفي.
ألن مقاربة علم َّية من هذا النوع تقتيض انفصاالً عن
ولسنا نزعم أنَّنا نُقدِّ م مقاربة علم َّية للموضوع باملعنى الوضعي للمصطلح ،ال َّ
املوضوع ال يتاح لنا يف هذه القضية الراهنية فحسب ،بل ألنَّنا نحاول أيض ًا أن نجعل عملنا أقرب ما يكون إىل اإلجراء الفينومينولوجي،
والفينومينولوجيا تعرتف بالوصف وال تدَّ عي التفسري.
هناك يف البدء جمموعة من املقدّ مات التي ال ُبدَّ من أخذها بعني االعتبار:
املكونني
أقل من غريه من األنظمة التي ابتدعها العقل البرشي جمموع املواطنني ّ أن الديمقراط َّية هي النظام السيايس الذي يستغل َّ َّ -
للدولة ،بحيث صار هذا النظام مكسب ًا كون َّي ًا حتاول املجتمعات جاهدة أن ترتقي به إىل اإلجياب َّية الكاملة ،وأساسه حتقيق املواطنة وترسيخ
مبدأ املساواة يف احلقوق والواجبات.
* أكادميي من تونس
أن وجود الديمقراط َّية وعراقتها يف بعض الدول مل يمنع انسياق هذه الدول إىل العنف ،ممَّا جيعلنا نفكر يف مدى قدرة النظام َّ -
قوهتا وأساس َّياهتا أو خترتق يف نسيجها احلضاري ال حني ختترب هذه الشعوب يف َّ الديمقراطي عىل عصمة الشعوب من اإلرهاب ،مث ً
ونموذجها املجتمعي ،ويف مدى قدرتنا عىل حتقيق الديمقراط َّية والسلم االجتامعي يف البلدان التابعة اقتصادي ًا وعسكري ًا ،واملرهتنة يف
سيادهتا.
-أن نتساءل :هل تستطيع الديموقراط َّية ،بام هي آل َّية تنظيم سيايس /اجتامعي من جهة وبام هي مقولة حقوق َّية من جهة ثانية ،أن
تفجر الثورات العرب َّية شعور الناس وجدان َّي ًا وواقع َّي ًا بالظلم .وعن هذا
أهم أسباب ُّ لعل من ِّ تضمن العدالة إلنسان عريب مقهور؟ َّ
اإلحساس بالقهر املتصاعد من جهة املحكوم واإلحساس بال رشع َّية االحتجاج من جهة احلاكم خيلق العنف .يطلب األول العدالة كام
يتصورها ،والعدالة عنده أفالطونية امللمح ،وهي وضع ِّ
كل أمر يف نصابه ُّ فيتمرد ويزلزل هيبة الدولة ،ويطلب الثاين العدالة كام
َّ يراها
املقدَّ ر له ،وبالتايل رضورة الرضب عىل أيدي املارقني عن النظام.
بعد هذه املقدّ مات نتساءل :إذا كانت غالب َّية الرشائح االجتامع َّية والتنظيامت احلزب َّية واملدن َّية تؤمن بقيمة الديمقراط َّية وأمهيتها ،وتدين
العنف وتلعن أنصاره ،فمن أين ينبعث العنف إذا استثنينا العنف الغريزي الذي حياول ترويضه القانون؟
ّ
والظاهرة للعنف األسباب المباشرة
ال وتعتربها بدعة غرب َّية أوالً :يأيت العنف من بعض التنظيامت الطائف َّية أو السياس َّية أو الدين َّية التي ال تؤمن بالديمقراط َّية أص ً
املتطرفة التي تعلن
ِّ فتكرس نفسها ملحاربتها وترفع شعارات من شأهنا أن تثري العنف ،شأن بعض احلركات اإلسالمو َّية مضلةِّ ،
ولعل املرأة نموذج مثايل للعنف َّ شعائر تطبيق احلدود واجلهاد واألمر باملعروف والنهي عن املنكر وتلزم الناس بطاعة ويل األمر،
املسلط من قبل هذه اجلامعات يف قهرها جسد َّي ًا أو نفس َّي َا (الرضب ،اللباس ،اهلجر .)...والديمقراط َّية عند هذه التنظيامت مرفوضة،
املتطرفة
ِّ أن هذه اجلامعات املتطرفة عقائد َّي ًا بحاكم َّية اهلل ،واإلشكال َّ
ِّ يؤسس حلكم الشعب ،بينام تؤمن التنظيامتألنا نظام سيايس َِّّ
التصور، ُّ ّ ّ
تلتقي يف عنفها مع قواعد متصلبة ألحزاب دين َّية رس َّية أو معرتف هبا ،وكلها تنتمي بشكل رصيح إىل جمتمع ذكوري بدوي
له استعداد للقتل يف سبيل ما يراه قض َّية نبيلة ( ،)Cause nobleويعلن اجلهاد واحلرب املقدَّ سة عىل «الطاغوت» ،فهم أناس
متعصبون أخالق َّي ًا ال يؤمنون بفكر التسامح وقبول ِّ دوغامئ ُّيون معرف َّي ًا يعتقدون بامتالكهم احلقيقة واحتكارهم سبل اهلدى ،وهم
املختلف.
ثاني ًا :هناك عنف الدولة ،وهو عنف حتاول بمقتضاه حماربة ما تضعه يف خانة اإلرهاب ،فتجعل عنفها قانون َّي ًا رشع َّي ًا غايته فرض
حترك بدافعني: النظام ،إال َّ
أن عنف الدولة بعد الثورات العرب َّية َّ
-دافع غري واع ،لفرض هيبة الدولة بالعنف وعلو َّية السلطة الرسم َّية بالقهر اسرتجاع ًا لدور األمن يف دولة البوليس ،والعهد هبا ليس
ببعيد.
مترد شعبي يرهق امتيازاهتا وهيدِّ د استقرارها االقتصادي، هذا العنف يلتقي بعنف بعض األوليغارشيات الرأسامل َّية التي ختشى من ِّ
كل ُّ
املهمشة ،وختتار من بني من و َّظ َفتهم سابق ًا كجنود خفاء ،أكباش الفداء.
فيكون مسلط ًا رأس ًا عىل الطبقات َّ
تترشب نسغ النظام الشمويل القديم ،وهي أحزاب وتنظيامت اجتمعت من شظاياثالث ًا :هناك عنف األحزاب والتنظيامت التي مازالت َّ
النظام السابق وحتاول الدخول إىل اللعبة الديمقراط َّية بلباس يغ ِّطي سوءاهتا ،وهي أحزاب وتنظيامت ترفع شعارات الديمقراط َّية يف
حرة ورس َّية يتساوى فيها املواطنون ،حكم الشعب بالطريقة التمثيل َّية ،حر َّية الرأي والتنظيم وإنشاء
أركاهنا الصور َّية املألوفة :انتخابات َّ
األحزاب واجلمع َّيات ،الفصل بني السلطات ،واملطالبة باالنضواء حتت لواء املواطنة ،وجعل العالقات احلقوق َّية بني األفراد والدولة
كل هذه القواعد تو ِّظفها وبني األفراد واألفراد العنرص الرئيس يف العيش املشرتك ،واملناداة بالتداول عىل السلطة يف الفضاء العامُّ ،...
لصاحلها من خالل تأكيد ح ِّقها يف اللعبة السياس َّية وإدانة اإلقصاء واإليامن بحر َّية الرأي واالعتقاد ،وجعل صناديق االقرتاع هي الفيصل
أن اإلرهاب الذي متارسه يسترشي يف أن عنف هذه األحزاب والتنظيامت هو عنف إداري ،بمعنى َّ يف احلكم هلا أو عليها .واإلشكال َّ
شل حركتها أو تعطيلها ،فهو من نوع العنف الالمرئي الذي ينهك قوى الدولة وقوى املواطنني. مفاصل الدولة ،وله القدرة الصامتة عىل ِّ
ويتضخم بانضواء كثري من املارقني عن القانون واملجرمني السابقني حتت عباءة أحزاب سياس َّيةَّ وعنف هذه األحزاب والتنظيامت يزداد
ماض نضايل ـ يا للسخرية! ـ يف مقاومة الفساد.ٍ معرتف هبا ،بل يقدِّ م بعض هؤالء أنفسهم يف لبوس شخص َّيات جديدة هلا
كل أنواعيتضخم بتفكُّك أجهزة الدولة وخلخلة نسيجها الردعي واسترشاء التخريب وتفيش ِّ
َّ رابع ًا :هناك العنف اإلجرامي الذي
عمن اجلريمة ،ال س َّيام بعد فرار قطاع واسع من املساجني إ َّبان الثورات وخروج العديد منهم يف مناسبات عفو ورساح رشطي ،فض ً
ال َّ
شمله العفو الترشيعي ومل يكن له يف النضال ناقة وال مجل.
خامس ًا :يف املجتمع الرأساميل حيث ال ّليربال َّية املتوحشة آخذة بنصيب وافر من مصائر الناس وحيواهتم تصبح القيمة العليا هي السوق،
ال للعرض والطلب والرتويج واالستهالك حتى اإلنسان .وأكثر ما ينتهك يف اإلنسان جسده .يميس اجلسد عرضة ويصبح ُّ
كل يشء قاب ً
لالنتهاك ،بل يصري اجلسد ساحة استعراض فلكلوري لفنون االعتداء عليه والتمثيل به .لقد تراجعت القيم العليا التي كانت مالذ الناس
املتوحش العائد،
ِّ وال مندوحة من إعادة االعتبار ِّ
لكل القيم النبيلة ،القيم الدين َّية واألخالق َّية والقانون َّية واالجتامع َّية من أجل مقاومة
التطور املعريف والتكنولوجي رصاط ًا للهدم والقتلُّ إنسان احلضارة .أخطر ما تكون احلداثة حني تكون حتديث ًا بال حداثة ،حينام يصبح
والفوىض ،والس َّيام عندما تغيب الدولة وتضمر هيبتها ،كام هو الشأن يف البالد التونس َّية إ َّبان الثورة.
كانت دولة االستبداد تعيق حتقق الديمقراط َّية يف البالد العرب َّية بحيث شكَّل التحالف بني األعامل ( )Businessوالسياسة نظام ًا فاش َّي ًا
ألن الثورات التي تطيح غري قابل لالخرتاق ،وبعد الثورات العرب َّية سقطت األنظمة االستبداد َّية ومل ينشأ إصالح للدولة ومؤسساهتاَّ ،
ثمة جهد إصالحي وعمل تأسييس لنظام ديمقراطي بديل، تؤسس لديمقراط َّية إال إذا كان َّ بنظام أو بإيديولوجيا أو بحاكم مستبد ال ِّ
أن الثورات أسقطت أنظمة واستبدلت مكاهنا أنظمة أخرى غري قادرة عىل اإلصالح ،فوجدت احلكومات أ َّما ما حصل يف الواقع فهو َّ
نفسها يف مواجهة عنف شعبي شبيه بذاك الذي أطاح بالنظام االستبدادي ،واحتدم الرصاع السيايس بني األحزاب املتنافسة عىل احلكم
عندما اندلعت ثورات الربيع العريب كانت قبل تصفية اإلرث الدكتاتوري لألنظمة السابقة ،فقد كان من
هناك دعوات لوقف الظلم ورصخات املفروض أن تتحالف القوى التقدم َّية للقضاء هنائ َّي ًا عىل تركة
الفساد ،ثم تتواجه ديمقراط َّي ًا للتنافس عىل احلكم ،لك َّن ذلك مل
ضدَّ االنتهاكات وأصوات مبحوحة تطلب
أن بعض األحزاب حتالفت مع رؤوس النظام حيصل ،بل األنكى َّ
الشغل والكرامة والعدالة ...والديموقراط َّية االستبدادي الفاسد لتمويل انتخاباهتا وهيكلة نظامها الداخيل،
رغم صعوبة حرص مفهومها يف كلامت فام فقوي الرصاع بني أنصار يوتوبيا املستقبل وأنصار يوتوبيا املايض،
هي إال جتسيد رمزي عىل املستوى السيايس واشتدَّ العنف بني أنصار عدالة القصاص وأنصار عدالة التجاوز.
املهمشة ،وهي أقاليم داخلية حمرومة من ُج ِّل مرافق احلياة العرص َّية ،هو الشباب عينه الذي
إن الشباب الذي ثار يف املناطق التونس َّية َّ َّ
متزق ،هناك ترييف للمدينة ،هناك تفاوت يتعاظم ،نظام تعليمي أضحى أكرب مصدر لإلرهاب يف تونس بعد الثورة .هناك نسيج اجتامعي َّ
عمق محأة البطالة.
فاشل ما فتئ ُي ِّ
هذا األمر احلركي اجلديد اتَّصل بأمر مزمن يف البالد العرب َّية عموم ًا يرتبط بموضوع عالقة الفرد بالدولة القطر َّية منذ انبعاثها .مل ينظر
هلذه العالقة يوم ًا بعني الرضا ،ال من هذا الطرف وال من ذاك .املجتمع يرى يف الدولة جهاز ًا مصطنع ًا ومسقط ًا وآلة العدوان والضيم،
املتمردين ،وازداد األمر سوء ًا بعجز النظام الرأساميل الناشئ عن االضطالع بمها ِّمه ،نتيجة ِّ والدولة ترى يف املجتمع رعاع ًا أو أنفار ًا من
كل ذلك إىل رصاع عميق بني الدولة فك ربقته ،فأ َّدى ُّ
بأن الرأسامل َّية ليست إال الوجه اآلخر لالستعامر الذي بالكاد َّ إحساس املواطن َّ
واملجتمع ،انتهى هبيمنة هذه الدولة عىل الشأن العام وحمارصهتا للشأن اخلاص.
ثار اجلميع ولكنَّهم مل جيدوا شيئ ًا ممَّا ثاروا عليه .مل تقدِّ م هلم الدولة وال النخب املتصدِّ رة للمشهد السيايس البديل الذي بحثوا عنه،
وظهرت التنظيامت الدعو َّية واإلرهاب َّية لتحتضن هذا الشباب التائه واليائس ،فقوي جنب العنف ،بل وأمست البالد من أكرب البؤر
املصدِّ رة للشباب املتع ِّطش للقتل.
تارخيي ًا ،عندما جاء اإلسالم حاول عن طريق مرشوع َّية السيادة العليا للدين أن حيارص العنفَّ ،
وعوض مفهوم العصب َّية القبل َّية بمفهوم
األخوة الدين َّية واأل َّمة اإلسالم َّية .لك َّن هذه األخالق َّية الدين َّية بدأ يأخذ منها الوهن منذ تويف النبي ،ومل تستطع أن متسك بعقال العنف
َّ
ّ
القوة وسيادة القانون .وظلت الدولة تتحكَّم
القبيل الذي طفا إىل السطح من جديد ،والتزمت الدولة الناشئة بضبط هذا العنف من خالل َّ
يف بواعث الفتنة والتوتُّر مادامت حتتفظ بسطوهتا أو باحرتامها لعهودها وللحدِّ األدنى من متط ّلبات االنسان ،حتى إذا فقدت الدولة
مترد من هنا وانبعثت فتنة من هناك ،واهتاجت ثورة من قريب أو قوهتا أو س ّلطت عىل الناس ظل ًام يفوق قدرهتم عىل االحتامل ،نجم ُّ َّ
فاهتزت هيبة احلكم وسقطت سيادة املرشوع َّية .كانت معظم الثورات واالنتفاضات خترج تعبري ًا عن اإلحساس َّ ظهر عصيان من بعيد،
والتمرد لرفع مظامل واملطالبة بحقوق .عندما ثار الناس عىل اخلليفة الثالث عثامن بن عفان قال له أحد
ُّ بالظلم .تنشأ حركات االحتجاج
الصحابة« :اعتزل إن مل تعتدل».
عندما اندلعت ثورات الربيع العريب كانت هناك دعوات لوقف الظلم ورصخات ضدَّ االنتهاكات وأصوات مبحوحة تطلب الشغل
مر التاريخ كانت الثورات يف عمقها تعبري ًا عن رفض الظلم واالستعباد واحتكار اخلريات والكرامة والعدالة .يف مجيع العصور وعىل ِّ
ونشدان ًا لإلنصاف واحلر َّية .والديموقراط َّية رغم صعوبة حرص مفهومها يف كلامت فام هي إال جتسيد رمزي عىل املستوى السيايس لقيمة
أخالق َّية ثابتة هي قيمة العدالة ومتثل حقوقي معني لقيمة احلر َّية .الديموقراط َّية املنشودة هي الشوق املتجدِّ د للعدالة واحلر َّية والكرامة،
وحني رفع الناس شعار الديموقراط َّية أثناء الثورات العرب َّية التبس املفهوم داخل األذهان بتلك القيم التي ترضب بعمق يف الوجدان
تتنوع يف دالالهتا األخالق َّية من املساواة يف املعاملة كقوله تعاىل« :ولن تستطيعوا أن تعدلوا بني والذاكرة .والعدالة بمفهومها اإلسالمي َّ
النساء ولو حرصتم» (النساء ،)129/إىل معنى العدل يف احلكم والقضاء كقوله تعاىل« :وإذا حكمتم بني الناس أن حتكموا بالعدل»
فإنا
(النساء ،)58 /إىل معنى الصدق يف القول ،شأن قوله تعاىل« :وإذا قلتم فاعدلوا» (األنعام .)152/ومهام تباينت دالالت الكلمة َّ
كل ذي حق حقه .وكام كان األمر يف جمتمع أفالطونَّ 1
فإن الثقافة العرب َّية اإلسالم َّية الكالسيك َّية إذا جتتمع يف النهاية عند معنى إعطاء ِّ
أقل شأن ًا من الرجل (الزواج، تصور تراتبي للمجتمع ،حيث املرأة ُّفإن ذلك يكون منسج ًام مع ُّ حق ح َّقهَّ ، كل ذي ٍّدعت إىل إعطاء ّ
أن «سياق املفهوم التارخيي يف حينه هو تساوي األحرار مع الذمي ،...ذلك َّ واحلر قبل العبد ،واملسلم أوىل من ِّ
ُّ املرياث ،الشهادة،)....
ذاهتم ،وتساوي العبيد مع ذاهتم ،وليس تساوي العبيد واألحرار» .
2
َّ
إن العدالة التي حتدَّ ثت عنها الثقافة اإلسالم َّية ذات بعد أخالقي وليست ذات بعد حقوقي ،العدالة صفة لشخص وليست صفة لنظام
سيايسَّ ،إنا قيمة دين َّية أكثر ممَّا هي مبدأ تأسييس.
تصوره للعدالة وفق رؤيتني :رؤية ترى العدالة يف حتقيق أكرب يوزع ُّ تأسس الفكر احلديث عىل تنظري فلسفي ِّ وعىل النقيض من ذلكَّ ،
أن أساس األخالق هو احلر َّية التي هبا يستقيم قدر ممكن من السعادة واملنفعة ألكرب عدد ممكن من الناس ( هيوم ،بنتام ،)...ورؤية ترى َّ
مبدأ الواجب األخالقي ( كانط) .وفكرة العدالة هذه هي ذاهتا «التي تقوم عىل طاعة اإلنسان لقانون شارك يف سنِّه يف نظرية هوبز للعقد
يترصف وكأنَّه يس ُّن قانون ًا للمجتمع ككل ،وهذا ما يمنع حالة احلرب ال أن االنسان األخالقي احلر عند كانط َّ االجتامعي ،مع الفارق َّ
قمع الدولة املطلقة» .3وسوف ينقيض زمن ال بأس به قبل أن تُصاغ فكرة العدالة عىل قواعد املساواة االجتامع َّية والطبيع َّية ،ويتبلور
تصور العمل عىل تقليص التفاوت بني تصور العدالة منقطع ًا عن ُّ مفهوم احلقوق والواجبات توازن ًا بني احلر َّية واملنفعة .واليوم ال يبدو ُّ
«إن املنافع التي تشكّل فيام بينهاالطبقات والفئات والسهر عىل توزيع الفرص حسب الكفاءات واملؤهالت وبالتساوي بني اجلميعَّ .
أن العدالة تعرف يف املجتمع الديموقراطي قبل أقل عدالً ،وأكثر أو ّ
أقل إنصاف ًا ،عل ًام َّ الرفاه واهلناء هي إىل ذلك موضوع توزيع أكثر أو ّ
بأنا االعتناء بتوزيع الثروات املنتجة واملنافع املستهلكة يكون باستمرار أكثر إنصاف ًا».4 ّ
كل يشء َّ
كل فرد مبا هو موكول إليه يف املنزلة التي هو مخلوق فيها ولها بحسب مراتب النفس البرشيَّة ،وذلك بشكل يكون فيه نظام
1ـ التص ُّور اإلغريقي للعدالة أساسه قيام ّ
النفس متسقاً مع نظام الكون ونظام الدولة ،وهو نظام َّ
يتأسس يف جوهره عىل الالمساواة ،فال املرأة مثل الرجل ،وال العبد يف منزلة ال ُحر.
2ـ عزمي بشارة ،مداخلة بشأن العدالة :سؤال يف السياق العريب املعارص ،مجلة تبني العدد 1املجلد الثاين ،صيف 2013ص .14
3ـ املرجع السابق ،ص .19
4 . Robert Misrahi Existence et Démocratie PUF 1995 p.17.
يقتيض اإليامن بالديموقراط َّية االعتقاد يف تتجسدَّ مل تكن هناك دعوات رصحية للحر َّيةَّ ،
ألن هذه القيمة مل
مبدأ املساواة بني اجلميع والتشارك يف قيمة وألن الشعب مل يتمثل هذه القيمة باملعنى َّ يوم ًا كمفهوم حقوقي،
نضحي هبا يف ِّ املواطني ،وإنَّام ظ ّلت دائ ًام من صنف القيم التي
املواطنة ،بغض النظر عن الدين واجلنس
سبيل أن نقيم األود ،ويف أحسن األحوال ،متى ُخ ّينا بني احلر َّية
والتوجه اإليديولوجي،
ُّ والعرق واألصل والعدالة اخرتنا العدالة ،وإذا ُخ ّينا بني الديموقراط َّية مع الفوىض
وهذا االعتقاد سيكون طريق ًا شائكة بسبب واالستبداد مع األمن ،اخرتنا الثاين عىل األوىل.
تصور
ُّ تصور تراثي للعدالة واحلر َّية ،وهو ُّ
إنَّنا ال نتحدث عن احلر َّية الطبيع َّية التي كان من أشهر أصواهتا
يستلهم التعاليم الفقه َّية التي تتعارض
صوت الفاروق عمر حني قال« :متى استعبدتم الناس وقد
جوهر َّي ًا مع املواطنة يف مفهومها احلديث وعب عنها الشعراء بتحليق الطيور يف ولدهتم أمهاهتم أحرار ًا»؟ َّ
أعايل السامء ،وإنَّام نحن نتحدث عن احلر َّية كوهنا قيمة تُكتسب
تطور الفكر ا ّلليربايل من الوجه اإلنيس مع فالسفة بالوعي وتُطبق سياس َّي ًا واجتامع َّي ًا ،وهي القيمة التي نضجت يف الغرب عن طريق ُّ
النهضة إىل الوجه النضايل ضدَّ اإلقطاع واالستبداد ،وقد «مجعت يف ذاهتا بني ديموقراط َّية روسو ونخبو َّية فولتري واستبداد َّية هوبس» ،إىل
كل أشكال الدولة .واليوم يتحدث املجتمع الوجه النقدي «للدولة العرص َّية املهيمنة عىل األفراد واجلامعات» ،5إىل الوجه الفوضوي ضدَّ ِّ
وعي واجباته.الدويل عن احلر َّيات العا َّمة ،وهو مفهوم سليل عرص األنوار ووليد مفهوم العقد االجتامعي الذي حدَّ د حر َّية االنسان َّ
خاصة ،بل جيب أيض ًا عىل
«أن احلر َّية ال تكون جمدية إذا حتدَّ دت داخل اإلنسان الفرد يف املجتمع وأصبحت حر َّية َّ فاحلر َّيات العا َّمة تعني َّ
ألن املجتمعات املتوازنة تقوم عىل اتفاقات اخلاصة ويف حياته االجتامع َّية العا َّمة ،وذلك َّ
َّ السلط محايتها بحامية الفرد يف حياته احلميم َّية
حر ًا يف جمتمعه ،حتى يستطيع أن يتعاقد وخيضع وتعاقد ودساتري وقوانني ،ومجيعها يتطلب كرشط أسايس ورضوري أن يكون اإلنسان َّ
تكوهنا».6
للقوانني عن وعي واعتقاد بأنَّه طرف فيها ويف ُّ
َّ
إن احلر َّية التي نطمح إىل حتققها يف خاليا الوعي الفردي والنسيج املجتمعي ال تتعارض مع العدالة ،وال تتناقض مع الشعور بالسعادة
املرشع الديموقراطي يف بلورة القاعدة الدستور َّية ملجتمع جديد فإنَّه بطبيعة احلال ال يعرتضه
واالمتالء بنسغ احلياة« ،فعندما يرغب ِّ
ارتباط احلر َّية بالسعادة فحسب ،ولكن تعرتضه أيض ًا السعادة باعتبارها غاية تكون يف اآلن ذاته واضحة وحتم َّية ومستحقة» .
َّ 7
إن هذه املفاهيم احلقوق َّية والقانون َّية مازالت غائبة عن عموم الشعب ،وهي من صنف املطالب النخبو َّية ،لذلك فأقىص ما يمكن أن َّ
حممد وقيدي «ال ُبعد الديموقراطي» الذي ينوس بني التحقق واإلرجاء وبني سمه الباحث َّ نتحدث عنه يف املجتمعات العرب َّية اليوم هو ما َّ
ألن «الرشوط اخلف َّية يف سريورة البناء الديموقراطي يف كثري من املجتمعات كانت تسري يف الغالب يف اجتاه امتناع حت ُّقق القبول واإلقصاءَّ ،
كثري من املجتمعات ذاهتا هذا البناء ،عكس ما توحي به الرشوط املعلنة والظاهرة .وهكذا بني الرغبة يف التحقيق ورشوط االمتناع جتد ٌ
أن بلدان الربيع العريب مل تكن أطر ًا مالئمة أو فضاءات مه َّيأة لتحقق اليوم يف وضع متناقض بالنسبة إىل بنائها الديموقراطي» .8ورغم َّ
ُنجز وتصري جزء ًا من طموحاتنا وكينونتنا بالتدريج .لن نقول ما كان ير ِّدده معظم الزعامء الديموقراط َّية َّ
فإن هذه الديموقراط َّية ال ُبدَّ أن ت َ
مؤهل بعد لتق ُّبل الفكر الديموقراطي ،وإنَّام سنقول إنَّنا ال ُبدَّ أن نرشع يف ترسيخ قواعد االنتقالإن الشعب غري َّ العرب يف القرن املايض َّ
5ـ عبد الله العروي ،مفهوم الحريَّة ،املركز الثقايف العريب ،الطبعة السادسة 1998ص .40
6ـ فتحي الرتيك ،العقل والحريَّة ،ترب الزمان 1998تونس ص .104
7 . Robert Misrahi Existence et Démocratie p.14.
8ـ محمد وقيدي ،ال ُبعد الدميوقراطي ،ص .91
ألن الديموقراطية «مثال تسعى كثري من املجتمعات اليوم إىل بلوغه» ،9وضمن هذا الديموقراطي ورشوطه ،وهو سريورة ال تكتملَّ ،
لح ًا اليوم فال ُبدَّ للمواطن من أن يتمثل السعي يكون جدل االمتناع والتح ّقق وجدل الفعل واإلقصاء .وإذا كانت الديموقراط َّية مطلب ًا ُم َّ
األساس احلقوقي للحر َّية والعدالة ،فاإليامن بالديموقراط َّية يقتيض االعتقاد يف مبدأ املساواة بني اجلميع والتشارك يف قيمة املواطنة ،بغض
تصور تراثي للعدالة والتوجه اإليديولوجي ،وهذا االعتقاد سيكون طريق ًا شائكة بسبب ُّ ُّ النظر عن الدين واجلنس والعرق واألصل
تصور يستلهم التعاليم الفقه َّية التي تتعارض جوهر َّي ًا مع املواطنة يف مفهومها احلديث ،وتفرتض التساؤل عن مقدار واحلر َّية ،وهو ُّ
استعداد املواطن املسلم اليوم للتغايض عن رأي الفقه يف منزلة املرأة وحقوقها ،ومنزلة غري املسلم وحقوقه ،وإشكال َّيات النسب واملرياث
واخلاصة لإلنسان يف البالد العرب َّية
َّ واحلكم ،وقدرته عىل إعادة تأويل النصوص الدين َّية التي يستند إليها الفقهاء يف رسم معامل احلياة العا َّمة
كل رضوب العنف التي نعاين منها اآلن. واإلسالم َّية ،ألنَّه إن مل حيصل ذلك ،ولو تدرجيي ًا ،كان هذا عالمة الرفض املتبادل الذي خيلق َّ
يتأتَّى العنف إذن من رؤيتني للعامل وفلسفتني للحق ونمطني للمعرفة ،وال مناص من العمل بجدٍّ وسالسة عىل االنتقال من ُس ّلم للقيم
لم للقيم مركّز عىل اإلنسان واحلياة ،ومن املهم واحلال هذه أن تتحول احلر َّية والعدالة من سياق الطوبى والفكر مركّز عىل الغيب إىل ُس ّ
يتأسس عىل مجلة من احلقوق والواجبات التي تلزم املتعاقدين من أجل قيام دولة القانون األخالقي القديم إىل عقد اجتامعي وسيايس َّ
التي تقينا العنف والفوىض والظلم .ما نشاهده من العنف يف البالد العرب َّية بعد الثورات هو إذن وليد وضع اجتامعي وتارخيي وسيايس
تصور
تصورات بعيدة يف الزمان واملكان وقع استحضارها وإحياؤها أيام الثورة ،وهو إىل ذلك وليد ُّ واقتصادي وثقايف هجني ،ونتيجة ُّ
ألن العنف يزداد وتتَّقد محأته عندما تصبح اهلو َّية ـ دين َّية كانت أو عرق َّية أو غريها -معيار ًا للتصنيف ،ذلك َّ
أن اهلو َّية يف خاص للهو َّيةَّ ،
احلقيقة ليست مرآة صقيلة ،وإنَّام هي ُمركَّبة وغن َّية ،بل هي « ُمركَّب من العنارص املرجع َّية املاد َّية واالجتامع َّية والذات َّية املصطفاة التي
تسمح بتعريف خاص للفاعل االجتامعي».10
لقد أثريت يف تونس ُبعيد الثورة قضية اهلو َّية ،وبقطع النظر عن افتعال هذه القض َّية من عدمه وعن الدوافع اإليديولوج َّية والسياس َّية
تأجج نريان العنف اللفظي واملادي ،وتعالت بسببها أصوات التكفري الضيقة إلثارهتا ،فقد كانت من بني العوامل التي ساعدت عىل ُّ
والتخوين والتجهيل .مل تكن املشكلة يف األديان وال يف اهلو َّيات وإنَّام يف توظيفها للحرب السياس َّية واملصالح الذات َّية .وقد أشارت الباحثة
متزق العامل سببها اإلنسان ،وليس الدين أو اهلو َّية ،كام أشارت إىل ما أصاب أن الرصاعات التي ِّاهلند َّية راما ماين ( )Rama Maniإىل َّ
املؤسسة للوحدة ،فوقع تكريس التعدُّ د الذي أ َّدى إىل اإللغاء والقهر» .فإذا كان
11
تم « ُّيل عنق هذه الرسالة ّ
روح األديان من حتريف ،فقد َّ
أن اهلو َّية متعدّ دة و ُمركَّبة وغن َّية« ،واالعرتاف باهلو َّيات املتعدّ دة يف العامل ك ّله،ال ُبدَّ من طرح قضية اهلو َّية فال مهرب من أن نربهن عىل َّ
والتي تتجاوز االنتامءات الدينية حتى بالنسبة إىل أناس شديدي التدين ،يمكن ببساطة أن يغري من العامل املضطرب الذي نعيش فيه» .
12
واحلقيقة واهلو َّية واألهواء ،حني نعتقد أنَّنا مل نقرتف ذنب ًا إذ نصنِّف الناس حسب هو َّيات أحاد َّية حمدَّ دة دين َّية أو فكر َّية أو عرق َّية أو
تصوراته وهو َّيته ومعايري إنِّيته ،يف السياسة واملجتمع والثقافة والذوق جنس َّية ،نسقط يف رشك العنف .حقيقة اإلنسان أنَّه كائن األبعاد يف ُّ
وكل حماولة حلرص هذه الذات يف بوتقة ضيقة تنتهي إىل اإلقصاء فالعنف. تؤسس لذاته املتكثرةُّ ، لكل امرئ عوامل خمتلفة ِّ واالقتصادِّ .
تأسسة عىل قيمة احلر َّية ،حر َّية االعتقاد وحر َّية الضمري وحر َّية التعبري والعمل ،وأعمق أعامقها الوقوف أعمق ما يف الديموقراط َّية َّأنا ُم ِّ
مجيع ًا عىل قدم املساواة أمام ما بنيناه سو َّي ًا ،وهو القانون .القانون الذي يدعم املواطنة وحي ّقق العدل ،ال القانون الذي ديدنه تركيع الناس
وجتويع الناس وإذالل الناس .حينام تتح ّقق املقاصد األبد َّية ،وهي مقاصد خري اإلنسان وسعادة اإلنسان وأمن اإلنسان ،ينتفي العنف
السلم اجلامعي.
ونطمئن إىل ِّ
يقول بوبر يف مقدمة الطبعة الفرنسية« :موضوع هذا الكتاب هو املساعدة عىل الدفاع عن الحريَّة والدميوقراط َّية .لست أجهل شيئاً من صعوبات الدميوقراط َّية
يقل شيئاً عن رأيي يف أنَّها أملنا الوحيد .كثري من األمثلة ُّ
يدل عىل أ َّن هذا األمل ليس عبثاً. وأخطارها املحايثة ،ولكن هذا ال ّ
منويب غباش*
قدمة
ُم ّ
كل أشكال الظلم واحليف واالستغالل والعدوان املالزمة لعل ما حي ِّفز الفكر لتناول مسألة العدالة هو نقيضها املتح ّقق عمل َّي ًا ،أي ّ َّ
سوغه يف انعدام العدالة .ال توجد عدالة عىل األرض وال يمكن أن توجد، إن التفكري يف رشوط إمكان حت ُّقق العدالة جيد ما ُي ِّلواقع البرشَّ .
شك َّ
أن هذا املوقف ال قيمة له يف فالعدالة الوحيدة املمكنة هي عدالة السامء ،وهي ال تتحقق إال يف عامل آخر كام يرى َّ
اللهوت ُّيون ،وال َّ
كل حماولة لتحسني واقع اإلنسان. الواقع ،ألنَّه ينكر فاعل َّية التاريخ ،ويلغي الفكر ،ويع ِّطل َّ
مهها تلك التي تتع َّلق باملرجع َّية التي إن أ ّية حماولة لتحديد معنى دقيق ومقبول للعدالة تقتيض مواجهة بعض املفارقات وح َّلهاّ ،
لعل أ َّ َّ
تدل وتتطابق مع الرشع َّية (القانون) أم مع باحلق؟ هل ُّ
انطالق ًا منها أو يف إطارها يمكن تعريف العدالة؛ هل تتحدَّ د العدالة بالواقع أم ّ
أن العدالة تتحدَّ د بقاعدة قانون َّية ،فكيف يمكن التمييز بني العادل وغري العادل يف حالة انعدام تلك (احلق)؟ إذا افرتضنا َّ
ّ املرشوع َّية
أن العدالة يف املستوى يقل أمه َّية عن مفهوم العدالة ،وهو اإلنصاف .إذا افرتضنا َّ
1 القاعدة؟ قد يكون مفيد ًا هنا استعامل مفهوم آخر ال ُّ
العميل هي إنصاف ،فهل يعني ذلك َّأنا مفهوم إجرائي خالص؟ هل يمكن فصل العدالة عن اخلري باعتباره غاية الفعل اإلنساين؟
تصور إجرائي ،أي كربنامج أو كمرشوع لتنظيم الوجود االجتامعي اعتامد ًا عىل مؤسسات وأجهزة ُم َعدَّ ة يمكن فهم العدالة ،بحسب ُّ
للغرض .بحسب مثل هذا التصور تكون العدالة كإنصاف رضب ًا من رضوب املامرسة حتكمها رضورات الواقع ،وأ َّما إذا أدرجنا العدالة
تصور أخالقي ،أي إذا ربطناها باخلري كغاية ،فإنَّنا بذلك سنعتربها قيمة ُمدِّ دة ملا جيب أن يكون .يتعلق األمر بالبحث يف كإنصاف ضمن ُّ
جمرد إجراء يتع َّلق بتنظيم املجتمع؟ وهل باإلمكان فصلها عن اخلري وعن السعادة؟ وهل جيوز املعنى احلقيقي للعدالة .هل تُعترب العدالة َّ
أن ننفي عنها الطابع املعياري فال نرى فيها قيمة كون َّية؟
كل ذي حق تدل عىل ما يتطابق مع احلـق ،كام تعني إعطاء ِّ ُتيـل العدالة ،حسب االشتقاق َّ
اللتيني إىل احلق ( ، )jus،jurisوهي ُّ
ح َّقه ،وهلذا يمكن اعتبارها فضيلة أو مبدأ للفضيلة .وأ َّما يف استعامهلا احلديث فقد اقرتنت العدالة بتوزيع الثروات واملنافع االقتصادية
واخلريات االجتامعية .قد تكون العودة إىل أرسطو مفيدة يف هذا السياق .يم ِّيز أرسطو بني العدالة الكُل َّية والعدالة اجلزئ َّية :األوىل
تعني املساواة وطاعة القوانني ،والثانية تنقسم إىل نوعني :عدالة توزيع َّية تظهر «عىل مستوى قسمة الرشف أو الثروات أو عىل مستوى
* أكادميي من تونس
معي من العدالة فإنَّه هو ذاته عادل( )...مث َّة إذن تطابق بني العادل واملنصف،
عي من العدالة ،وهو «وإن كان أرفع من صنف َّ
1ـ امل ُنصف عند أرسطو رضب ُم َّ
وكالهام حسن ،وإن كان املنصف أفضلَهام» .انظر:
Aristote, Éthique à Nicomaque, (trad.fr. J. Tricot, Vrin, Paris, 1990), 1138 a, p.268.
ختص أفراد املجموعة السياس َّية ،وهي امتيازات قد تكون متساوية أو غري متساوية .»2وعدالة تعويض ّية ترتبط االمتيازات األخرى التي ُّ
اخلاصة ،وهي يف جزء منها إراد َّية ويف جزء آخر غري إراد َّية .اإلراد َّية مثل َّ باملعامالت والعقود .تتع َّلق العدالة التعويض َّية باملعامالت
ِرسي مثل الرسقة واخليانة والبغاء والقتل غيلة، البيع والرشاء والقرض والضامن واإليداع واالكرتاء .وأ َّما املعامالت َّ
اللإرادية فبعضها ِّ
خاصة ،4وهي تستمدُّ معناها ،كام هو التصور األرسطي ،فضيلة َّ ُّ إن العدالة ،حسب وبعضها عنيف مثل اجلريمة والقتل واالحتجازَّ .3
الشأن بالنسبة إىل الفضائل األخرى ،من السياق التليولوجي ،5بمعنى َّأنا فضيلة من أجل اخلري الذي هو كامل اإلنسان .تقال العدالة عن
كل يشء. ألن الفضيلة هي وسط َّية 6واعتدال يف ِّالفرد العادل الذي يأيت أعامالً معتدلة ،وذلك َّ
يتم عىل مستوى الفرد وعىل مستوى املدينة.7 ال خيتلف أفالطون عن أرسطو يف حدِّ العدالة باالنسجام واالعتدال ،وحتديده هذا ُّ
القوتان مع ًا َّ
للقوة للقوة الغضب َّية ،كام ختضع هاتان َّ العدالة يف الفرد تتم َّثل يف االنسجام بني قوى النفس ،بحيث ختضع َّ
القوة الشهوان َّية َّ
بكل طبقة الوظيفة الناطقة .وأ َّما بالنسبة إىل العدالة يف الدولة فهي تتم َّثل يف االنسجام والتوافق بني الطبقات املختلفة ،بحيث تُـناط ِّ
القوة الغضب َّية) هي (جتسد َّ
احلراس ِّ ومهمة طبقة َّ
َّ القوة الشهوان َّية) هي العمل واإلنتاج،(جتسد َّ
العمل ِّمهمة طبقة َّ
املالئمة لطبيعتهاَّ .
التصورُّ القوة الناطقة) هي احلكم وإدارة شؤون الدولة .تتطابق العدالة حسب (جتسد َّ
محاية املدينة والدفاع عنها .ووظيفة طبقة احلكَّام ِّ
اخلاصة ويف مستوى الوجود االجتامعي ،وهي بالتايل ليست اتِّفاق ًا واصطناع ًا. َّ األفالطوين مع االلتزام بالقانون الطبيعي يف مستوى احلياة
احلق، يتوجب عىل اإلنسان التق ُّيد بمبادئها .العدالة يف التقليد الفلسفي هي إذن مفهوم أخالقي وقيمة كون َّية تتطابق مع ّ ثمة عدالة طبيع َّية َّ
َّ
ُّ ِّ
وتتامهى مع قانون طبيعي يتعاىل عىل كُل اصطناع برشي ،ولك َّن الداللة األخالق َّية للعدالة ال تنفي إمكان َّية حتققها يف الواقع العميل.
2 . Aristote, Ethique à Nicomaque, Trad. J. Tricot, Vrin, Paris, 1990, 1131 a, p.225.
3 . Ibid. 1131a, p.225 -226.
4 . La justice « est une vertu complète au plus haut point, parce qu’elle est usage de la vertu complète, et elle est complète parce que l’homme
en possession de cette vertu est capable d’en user aussi à l’égard des autres et non seulement pour lui-même.» Ibid., 1130 a, p. 219
عم هو عادل ،وحسب مثل هذا التص ُّور يعترب العدل مج َّرد وسيلة أو
5ـ يتمثّل التص ّور التليولوجي يف تحديد الخري كغاية مطلقة ،ويُع َّرف يف إطاره عىل نحو منفصل َّ
والخية مع اآلخر ومن أجله .انظر:
طريق إىل الخري .التص ُّور التليولوجي هو إذن تص ُّور إيتيقي ،ألنَّه يرتبط بطلب الحياة الجيدة ِّ
Ricœur, Soi-même comme un autre, Édition du Seuil, Paris 1990 p. 211.
6 . La médiété « est égal, car en toute espèce d’action admettant le plus et le moins il y à aussi l’égal. Si donc l’injuste est inégal, le juste est
égal, et c’est là, sans autre raisonnement, une opinion unanime ». (Éthique à Nicomaque, op. cit., V, 6, 1131 a).
7 . Platon, La République, Plon, Paris, 1966, (liv. IV, 434c-435d).
8 .Lalande, Vocabulaires techniques et critiques de la philosophie, (Justice).
9 . Aristote, Ethique à Nicomaque, op.cit, 1137 b, p.266- 267: «En effet l’équitable, tout en étant supérieur à une certaine justice, est lui-
même juste, et ce n’est pas comme appartenant à un genre différent qu’il est supérieur au juste. Il ya donc bien identité bu juste et de
l’équitable, et tout deux sont bons, bien que l’équitable soit le meilleur des deux. Ce qui fait la difficulté, c’est que l’équitable, tout en étant
juste, n’est pas le juste selon la loi, mais un correctif de la justice légale. La raison en est que la loi est toujours quelque chose de général, et
qu’il y a des cas d’espèce pour lesquels il n’est pas possible de poser un énoncé général qui s’y applique avec rectitude».
احلق لصاحبه .ليست القوانني هي التي حتدِّ د معنى اإلنصاف، القانون َّية ،ولكنَّه يقتيض َسدَ اد احلكم وصدْ ق الشعور فيام يتع ّلق بإسناد ِّ
اخلاصة التي ينبغي التعامل معها حسب مبادئ مع َّينة للعدالة .هل يعني هذا أنَّه ال يمكن أن توجد قواعد حتكم َّ بل معطيات الوضع َّية
جمرد تقويم شخيص للعدل والظلم؟ لتجنُّب النسب َّية األخالق َّية املقرتنة باإلنصاف قد يكون من الرضوري اإلنصاف؟ وهل اإلنصاف هو َّ
ربط اإلنصاف بالعدالة باعتبارها معيار ًا كون َّي ًا وقيمة كُل َّية.
للتفكري يف مشكل العدالة من جهة مضموهنا األخالقي ومن جهة قابل َّيتها للتطبيق نقرتح اخل َّطة التاليةِّ :
سنبي ،يف حلظة أوىل ،مالمح
التصور اإلجرائي ،إبراز
ُّ التصور اإلجرائي للعدالة من خالل «نظرية العدالة» لدى رولز .وسنحاول ،يف حلظة ثانية ،وانطالق ًا من حدود
ُّ
أمه َّية األطروحة التي تقول َّ
إن العدالة ال تنفصل عن اخلري كقيمة كُل َّية ،لنخلص بعد ذلك إىل النظر يف قيمة مفهوم «العدالة االجتامعية»
كمفهوم معياري وإجرائي يف الوقت نفسه.
يبي رولز يف كتابه «نظرية العدالة» 11أنَّه ال يستخدم مفهوم العدالة يف دالالته األخالق َّية والفلسف َّية التقليد َّية ،بل إنَّه يستعمله من
ِّ
معي للوجود االجتامعي ،فهو يقول مثالً « :بالنسبة إلينا ،املوضوع األول للعدالة هو البنية األساس َّية للمجتمع جهة داللته عىل تنظيم َّ
املحصلة بالتعاون
َّ املؤسسات االجتامعية اهلا َّمة احلقوق والواجبات ،وحتدِّ د توزيع املنافع َّ أو ،بد َّقة أكثر ،الطريقة التي هبا ّ
توزع
االجتامعي».12
10 . Véronique Munoz-Dardé, La justice sociale: Le libéralisme égalitaire de John Rawls, NATHAN, Paris, 2000, p. 33.
11 . Rawls, Théorie de La justice, trad.fr. C. Audard, Paris, Éd. Du seuil, Paris, 1987.
12 . Ibid. liv.1.
التصور النفعي للعدالة ،كامُّ يرفض رولز يستند رولز إىل اإلطار املفهومي لنظر َّيات القرار (Théories de
التصور األفالطوين واألرسطي الذيُّ يرفض )décisionالتي بمقتضاها يتحدَّ د القرار العقالين بتأويج الفائدة
التحرر اخلاصة اعتامد ًا عىل احلساب واالستعالم ويف َّ واملصلحة
يربط العدالة بالفضيلة وبالكامل األخالقي. ُّ
كل انفعال .القرارات العقالن ّية هي حسابات واختيارات من ِّ
املؤسسات االجتامعية عندهإن مقياس عدالة َّ َّ بكل فردَّ .إنا قرارات اخلاصة ِّ توجهــــها املصالح
َّ رتوية ِّ ُم ّ
يتحدَّ د بمصري املحرومني فيه ،أي بمقدار ما التصور الكانطي ،املبدأ الذايت للفعل ُّ براغامت َّية حيكمها ،حسب
أقل ح َّظ ًا
يو ِّفر من منافع وخريات ملن هم ُّ ويوجهها األمر الرشطي .ولك َّن القرارات التي تؤ ِّدي ،يف نظر ِّية ِّ
رولز ،إىل استنباط مبادئ العدالة هي قرارات عقالن َّية ،ويمكن
أن األفراد يف «الوضع َّية األصل َّية» ال يتم من وراء «حجاب اجلهل» ،ذلك َّ إن اختيار مبادئ العدالة ُّ أن تكون قطع َّية باملعنى الكانطيَّ .
اخلاصة التي يمكن أن خيتاروا املبادئ املناسبة هلا .يمكن القول ،يف هذا َّ ال ،ما املصلحة يعرفون خصائص وضع َّياهتم وال يدرون ،مث ً
إن الذي خيتار مبادئ العدالة يف «الوضع َّية األصل َّية» ومن وراء «حجاب اجلهل» ليس فرد ًا ُمتَع َّين ًا ،بل هو «ذات كون َّية ( �uni السياقَّ ، ِّ
العميل اخلالص» .
13
ّ سمى لدى كانط كائن العقل
واخلاصة ،وهو ما ُي َّ َّ )sujet verselال تبايل بالتحديدات الكُل َّية الفرد َّية
أن نظر َّية العقد االجتامعي إن مبادئ العدالة عند رولز هي حصيلة عقد اجتامعي افرتايض .14يف مقدّ مة «نظر َّية العدالة» يعلن رولز عن َّ َّ
أهم من ذلك الذي يوجد يف التقليد النفعي .فهذه النظر َّية حتتوي عىل عنارص املداولة األخالق َّية التي متضمنة لتحليل للعدالة ّ ِّ تبدو له
التصور النفعي .فإذا
ُّ التصور التعاقدي للمجتمع وتبتعد عن ُّ إن نظر َّيته يف العدالة تندرج ضمن تتامشى متام ًا مع املجتمع الديمقراطيَّ .
والرتوي واحلساب العقالين. ِّ كانت النفع َّية تنطلق من خاص َّية إحساس الفرد باللذة واألملَّ ،
فإن التعاقد َّية تركِّز عىل قدرة الفرد عىل التقييم
التصور التعاقدي عىل ُّ إن النفع َّية ال تعطي قيمة للقيم وا ُمل ُثل العليا كاحلر َّية واخلري واملساواة إال بمقدار ما تسمح بتأويج املنفعة .ينبني َّ
أن السياسات واملحصالت .ومعنى ذلك َّ ِّ مبادئ َق ْبل َّية للعدالة كاحلر َّية واملساواة بني اجلميع ،أ َّما النفع َّية فهي مذهب يركِّز عىل النتائج
واملؤسسات االجتامع َّية ال تُق َّيم بالنظر إىل مبادئ وقواعد موضوعة مس َّبق ًا ،بل بالنظر إىل نتائجـها (تأويج حاصل املنافع). َّ
.1تضمن ،يف حدود مبدأ توفري عادل ،أكرب فائدة ممكنة للمحرومني.
.2تكون الالمساواة مرتبطة باملراتب والوظائف التي يفرتض أن تكون يف متناول اجلميع انطالق ًا من تكافؤ الفرص.
األول هو مبدأ احلر َّية ،وهو يقيض باملساواة التا َّمة يف احلر َّيات األساس َّية ،وأ ّما املبدأ الثاين فهو يتع ّلق باملساواة ،ولكن ليس
املبدأ َّ
املؤسسات االجتامعية .جلأ رولز إىل نحت جمموعة من املفاهيم إلسناد بمعنى املساواة التا َّمة ،بل بمعنى التكافؤ يف الفرص يف إطار َّ
ِ
نظر َّيته يف العدالة بام هي إنصاف مثل «حجاب اجلهل» و«الوضع َّية األصل َّية» و«ال ُبنية القاعد َّية للمجتمع» .تُعادل الوضع َّية األصل َّية
َفرض َّية احلالة الطبيع َّية يف التقليد التعاقدي ،وهي ،كام هو معروف ،عبارة عن صورة خيال َّية ملجتم ٍع بال دولة ،اهلدف من ورائها هو
تربير طرح السؤال املتع ِّلق بشكل الدولة املناسب الذي يكون يف الوقت نفسه مرشوع ًا وعادالً .يكون األفراد ،يف الوضع َّية األصل َّية،16
عب جاهلني بمالبسات وضع َّيتهم بحيث َّإنم ال يستطيعون أن خيتاروا املبادئ التي من شأهنا أن تُفيض إىل حتقيق العدالة .هذه احلالة َّ
يتم االتفاق عليها من خالل املداولة واحلوار يف إطار الوضع َّية األصل َّية عنها رولز بمفهوم «حجاب اجلهل» .تتم َّيز مبادئ العدالة التي ُّ
كل الناس أن يطيعوا الس ِّيد زيد) ،وهي يتم التعبري عنها بأسامء األعالم (مثل :عىل ِّ بكوهنا عا َّمة ،من حيث صياغتها ،فهي ال تُصاغ وال ُّ
كُل َّية من حيث تطبيقها ،بمعنى َّأنا صاحلة للجميع ،فال ُت ِّيز بني األشخاص عىل أساس اجلنس أو اخلصائص الثقاف َّية أو االجتامع َّية.
فإن لديه معرفة باخلريات الرضور َّية لتحقيق كل فرد يف الوضع َّية األصل َّية ظروف ومالبسات وجوده اخلاص ،ومع ذلك َّ جيهل ُّ
بمؤسسات اجتامع َّية قاعد َّية الزمة لتح ُّققها .يستعمل رولز مفهوم «البنية ِ
بغض النظر عن َذ ْوقه وقناعاته .هذه اخلريات ترتبط أهدافه ِّ
َّ
املؤسسات احلقوق والواجبات األساس َّية واملنافع َّ ُوزع تلك
املؤسسات األساس َّية ،وعىل الطريقة التي هبا ت ِّ َّ القاعد َّية» للداللة عىل
مؤسسات البنية القاعد َّية للمجتمع إىل صنفني: االجتامع َّية .هذه البنية القاعد َّية هي النظام السيايس واالجتامعي واالقتصادي .تنقسم َّ
ْتص بتوزيع اخلريات االجتامعية واالقتصادية .يقول ومؤسسات َت ُّ
َّ ختص النسق االجتامعي الذي ُيدِّ د احلر َّيات األساس َّية، مؤسسات ُّ َّ
َّ
املجتمع بمثابة رشكة تعاونية رهاهنا حتقيق املنافع املشرتكة .إن البنية القاعد َّية هي نسق َ رب نظرية العدالة بام هي إنصاف رولز« :تَعت ُ
عمومي من القواعد التي ُتدِّ د أشكال النشاط الذي يقود الناس إىل التعاون من أجل إنتاج أكرب حصيلة من املنافع ،وهي تعرتف
إن ما يقوم به شخص ما يرتبط بحقوقه املحدَّ َدة بالقواعد العمومية ،وهذه احلقوق نفسها تم إنتاجهَّ .
كل واحد يف جزء ممَّا َّ بحقوق ِّ
تم حتديدها بفضل ما يقوم به األشخاص عىل ضوء االنتظارات املرشوعة. ترتبط بام يقوم به .وينتج التوزيع عن حتقيق املطالب التي َّ
تقتيض هذه االعتبارات اعتبار التوزيع مسألة عدالة إجرائية حمضة» .العدالة كإنصاف هي إذن إجراء يتع َّلق بتوزيع املنافع واخلريات
17
االجتامعية بطريقة منصفة .ورولز نفسه يطلق عليها اسم «عدالة إجرائ َّية»َّ .18إنا ال تعني املساواة ،كام ال يمكننا أن نقول عنها َّإنا
شكل من أشكال املساواة االجتامعية.
16ـ ُّ
يدل مفهوم الوضع َّية األصل َّية عىل حياة اجتامع َّية ممكنة .تتم َّيز هذه الوضع َّية بوجود أفراد يتعايشون يف زمان ومكان ما ،وبكون قدراتهم الطبيع َّية والذهن َّية
متفاوتة ،ومبحدوديَّة املوارد ،وبرضورة العمل من أجل التغلُّب عىل مشكل الندرة.
17 . «La théorie de la justice comme équité considère la société comme une entreprise de coopération en vue d’avantages mutuels. La
structure de base est un système public de règles qui définit des formes d’activité conduisant les hommes à coopérer afin de produire une
plus grande somme d’avantages et reconnaît à chacun des droits sur une partie de ce qui a été produit. Ce que fait une personne dépend
de ses droits définis par les règles publiques, et ces mêmes droits dépendent de ce qu’elle fait. La répartition résulte de la satisfaction des
revendications qui ont été déterminées grâce à ce que les personnes entreprennent à la lumière de ces attentes légitimes. Ces considérations
suggèrent que l’on traite la répartition comme une question de justice procédurale pure». (Rawls, Théorie de la justice, trad.fr. C. Audard,
Éd. du Seuil, Paris, 1987, p.116).
18 . «Donc , pour appliquer à la répartition la notion de justice procédurale pure, il est nécessaire de créer un système d’institutions qui
soit juste (just) et de l’administrer impartialement. La juste procédure qui est donc nécessaire n’existe que si, à l’arrière- plan, la structure
de base est elle-même juste, ce qui inclut la justice de la constitution politique et la justice de l’organisation des institutions socio-
économiques». Théorie de la justice, p.118.
تصورتصور أوسع للتعاون االجتامعي املثايل ،إنَّه ُّتصور رولز للعدالة ال يم ِّثل نموذج ًا اجتامع َّي ًا مكتمالً ،وإن كان مشت َّق ًا من ُّ
إن ُّ َّ
تصور 20ديونطولوجي ( )déontologiqueوليس تليولوج َّي ًا ( ،21)téléologiqueبمعنى أنَّه حمدود بال ُبنية القاعد َّية للمجتمع .إنَّه ُّ
19
أن العدالة التوزيعية التي يدافع عنها رولز استناد ًا إىل مبدأ االختالف ال تقوم عىل رؤية تارخي َّية يرى روبرت نوزيك(َّ )Nozick
يتم االعرتاف باحلقوق التارخي َّية لألفراد :حقوق ملك َّية الذات وملك َّية اجلسد واخلريات .وهكذا يكون توزيع اخلريات بطريقة بموجبها ُّ
األقل ح َّظ ًا انتهاك ًا حلقوق الكثريين .هتدف العدالة التوزيعية ،حسب نوزيك ،إىل إصالح التفاوتات الناجتة عن احلظوظ يستفيد منها ُّ
( )Loterieوالظروف الطبيع َّية واالجتامع َّية العارضة ،وهذا يف نظره أمر يتامثل مع توزيع شبك َّيات عيون املبرصين عىل غري املبرصين.
ثمة تعارض ًا بني املبدأين اللذين بنى عليهام رولز نظر َّيته. فإن نوزيك يرى َّ
أن َّ العدالة التوزيع َّية تتعارض إذن مع مبدأ احلر َّية ،وهلذا َّ
يضع نوزيك 27مبدأين للعدالة بديلني عن مبدأي رولز من حيث َّإنام يتَّفقان مع مبدأ احلر َّية الفرد َّية .املبدأ األول هو مبدأ التم ُّلك
كل واحد ما ال ينتمي ألحد ،ولكن برشط أن يبقى ما يكفي لآلخرين، األصيل ( ، )appropriation originelleويقيض بأن يتم َّلك ُّ
وهو الرشط نفسه الذي وضعه جون لوك( )John Lockeلكي تكون امللك َّية الفرد َّية مرشوعة .املبدأ الثاين هو مبدأ نقل امللك َّية الذي
جيعل امللك َّية الفرد َّية مرشوع ًة انطالق ًا من حتصيلها بواسطة تبادل إرادي بني الفاعلني .يضيف نوزيك مبدأ ثالث ًا يتم َّثل يف اإلصالح أو
التعديل :إصالح اخلروقات التي يمكن أن تلحق باملبدأين السابقني .ينقد نوزيك مبدأ االختالف لدى رولس انطالق ًا من فردان َّية
أن النفع ّية تبدو نزعة فرد َّية (فردان َّية) ،ولكنَّها ال تأخذ يف االعتبار،جذر َّية تسمح له بتوجيه اهتام رولز للنفع َّية إىل رولز نفسه .يرى رولز َّ
ألنا تط ِّبق عىل املجتمع مبدأ االختيار الذي ينطبق عىل الفرد فقط (خيتار الفرد دائ ًام ما يتوافق بصورة جد َّية ،اخلصائص املم ِّيزة لألفرادَّ ،
التصور الذي ال يقبل به نوزيك، ُّ ال للتوزيع ،وهو اخلاصة) .مت ِّثل املوارد الطبيع َّية واملاد َّية ،يف نظر رولز ،رصيد ًا مشرتك ًا وقاب ً
َّ مع مصلحته
بحجة حتقيق َّ ألنَّه يتجاهل حقيقة كون املوارد املاد َّية تنتمي حرص َّي ًا إىل األفراد ،وبالتايل ليس من املرشوع سلبهم ملك َّياهتم وخرياهتم
العدالة االجتامعية.
واملتنوع
ّ عىل الرغم من أمه َّية نظر َّية رولز يف العدالة ،األمه َّية التي جت َّلت يف النقاش الفكري والسجال النظري املتعدِّ د املشارب
ٍ
جانب من ذلك النقاشَّ .
لعل بإمكاننا هنا أن نربز النقاط فإنا مل تكن يف منأى عن النقد ،وما نقد روبرت نوزيك سوى التوجهاتَّ ،
ُّ
األساس َّية يف ذلك النقد:
يتصوروا مبادئ العدالة .فإذا كانوا ال يعلمون شيئ ًا عن خصائصهم الشخص َّية وال عن
َّ .1ليس بإمكان األفراد يف الوضع َّية األصل َّية أن
تصور مبادئ حمدَّ دة للعدالة .كيف
ألي يشء ،ولن يكون بإمكاهنم ُّ وضع َّيتهم االجتامع َّية والثقاف َّية ،فلن يكون بإمكاهنم أن يعطوا قيمة ِّ
إن األفراد يف «الوضع َّية األصل َّية» ومن وراء «حجاب اجلهل» يستنبطون مبادئ العدالة؟ ال يمكن لإلنسان أن يفكِّر، يمكن القول إذن َّ
وأن يضع مبادئ للمامرسة خارج السياق االجتامعي والتارخيي.
تصور جزئي أو خاص للحياة اجل ِّيدة ،ال يمكن أن تُقبل إال يف أفق ليربايل إن الوضعية األصلية ،وبالرغم من أنا تبدو م ِ
ستبعدة َّ َّ .2
كل ُّ ُ َّ َّ َّ
يتناغم مع فكرة ِح َياد الدولة ،28وتلك الفكرة تفرتض رضور ًة استبعاد العدالة التوزيع َّية.
املوجهة ضمن َّي ًا الستنباط مبادئ العدالة آثار سلب َّية ،كأن تؤ ِّدي إىل رفض عالقات التعاون أو إنكار .3من املمكن أن تكون للفردان َّية ِّ
كل مبدأ أخالقي أسايس .يعني استنباط مبادئ العدالة من وراء حجاب اجلهل وبصورة فرد َّية أنَّه ليس هناك افرتاض ألفق معياري ِّ
موضوعي يمكن أن يكون أرض َّية مشرتكة بني األفراد الستنباط مبادئ العدالة .يرى كوهن( ) G. A. Cohenيف هذا السياق َّ
أن نظر َّية
ألن مبدأ االختالف الذي يقيض بأن تكون التفاوتات مفيدة ملن هم ُّ
أقل ح ّظ ًا يستند إىل دوافع رولز ال تتطابق متام ًا مع فكرة املساواةَّ ،
ُـتجم العدالة توجه أعامل األفراد وحتدِّ د اختياراهتم .جيب أن ت َ
نفع َّية فردان َّية .ال بدَّ حسب كوهن من وجود « إيتيقا اجتامع َّية مساوات َّية » ِّ
يف إتيقا اجتامع َّية ُمساوات َّية تتطابق معها املامرسات الفرد َّية ،29بمعنى أن يكون الوعي األخالقي برضورة حتسني أوضاع املحرومني هو
املوجه ألعامل األفراد ال الدافع النفعي الشخيص. ِّ
27 . Nozick Robert, Anarchie, Etat et Utopie, tard. fr. E .d’Auzac de Lamartine, Puf, Paris, 1988.
28 . Véronique Munoz-Dardé, La justice sociale, Op. cit. p.110.
29 . Ibid, p.107.
جمرد إجراء حتكمه اعتبارات سياس َّية واقتصاد َّية تارخي َّية؟يصح اعتبار العدالة إنصاف ًا ،باملعنى الذي يعطيه رولز هلذا املفهوم ،أي َّ
ُّ هل
وهل من املرشوع أن نفصل العدالة احلقيق َّية عن األفق األخالقي أي عن معايري أخالقية كُل َّية؟ نحن نستعيد هنا السؤال الذي طرحه
أن هدف رولز هو بتصور إجرائي هلا؟ يرى ريكور َّ ُّ ريكور يف كتابه« :العادل» هل يمكن أن نستعيض عن التأسيس األخالقي للعدالة
املؤسسات عىل نحو عادل .ولك َّن العدالة احلقيق َّية ترتبط باحلقيقة ِ تقديم ٍّ
حل إجرائي ملسألة العادل ،أي بلورة إجراء ُمنصف لتنظيم َّ
إن «املسافة بني مرشوع التصور اإلجرائي للعدالة .يف هذا السياق يقول ريكورَّ :
ُّ قيمتَني كون َّيتني .وهذا ُّ
يدل عىل حدود وباخلري باعتبارمها َ
تظل مسافة كبرية» .
30 ومرتويةُّ ،
ِّ ينشدُ التسويغ ،أي تسوية اخلالفات بطريقة ُمتع ِّقلة
يرمي إىل حتقيق املساواة ،أي احلدّ من اهليمنة ،ومرشوع ُ
ذلك هو رهان مرشوع رولز يف «نظرية العدالة» :تسوية اخلالفات يف جمتمع طبقي يتهدَّ ده االنقسام واالضطراب.
يطرح صندل السؤال األسايس وهو :هل هناك أسبق َّية للعادل عىل اخلري؟ ويؤكِّد عىل ارتباط العدالة باخلري ،وهذا موقف يتعارض مع
كل قيمة موضوع َّية (اخلري) من شأهنا أن حتدِّ د ما جيب عىل الفرد فعله ،وبالتايل َتُدُّ من حر َّيته .يرى صندل التصور الليربايل الذي يرفض َّ
ُّ
التصور اجلامع َّيتي .تَستمدُّ مبادئ العدالة خصائصها األخالق َّية، ُّ ثمة طريقتني للربط بني العدالة واخلري :الطريقة األوىل مت ِّثل جوهر َّ
أن َّ
أن العدل يتحدَّ د بالنظر إىل اخلري كام تتم ّث ُل ُه تلك اجلامعة .طبع ًا من التصور ،من بعض القيم التي تتبنَّاها مجاعة مع َّينة ،أي َّ
ُّ حسب ذلك
فإنا تكون فاقدة ِّ
لكل قيمة كون َّية .وأ َّما اجتامعي ،وبالتايل َّ
ّ التصور ليست سوى اصطناع أو اتِّفاق ُّ أن العدالة حسب هذا اليسري استنتاج َّ
بتصور اخلري فهي تقوم عىل إثبات مبادئ العدالة بربطها بالقيمة األخالق َّية أو باخلري َّية الداخل َّية للغايات التي ُّ الطريقة الثانية لربط العدالة
ٍ ِ
احلق حيرت ُم أو يساعد عىل حتقيق خري إنساين تم توضيح َّ
أن هذا َّ بحق إال إذا َّ
عرتف ٍّ
ُ التصور ال ُي
ُّ من أجلها ُوضعت تلك املبادئ .يف هذا
لتصور عالقة العدالة باخلري .اخلري يف نظره ليس خري مجاعة برش َّية مع َّينة ُّ التوجه اجلامعتي
ُّ أن صندل خيتلف عن عا ٍّم .32من الواضح إذن َّ
الكل أو املطلق باعتباره غاية يف حدِّ ذاته .يف هذا األمر يعود صندل إىل أرسطو وكانط ،وحتديد ًا إىل عي ،ولكنَّه اخلري ُّيف ظرف تارخيي ُم َّ
30ـ انظر :بول ريكور ،العادل ،ترجمة منري كشو ومنرية بن مصطفى ،نرش بيت الحكمة ،تونس.
31ـ يقول ميكل صندل يف كتابه «الليرباليَّة وحدود العدالة» موضِّ حاً موقفه من الوصف الذي عادة ما يلصق به وهو أنَّه «جامعتي» communautarienعىل غرار ٍّ
كل
من ألسدير مكنتري ( )Alasdair McIntyrوتشارلز تيلور ( )Charles Taylorوميكل فلزر ( ،)M.Walzerيقول« :لست دامئاً يف صف الجامعت ّيني» .انظر:
Le Libéralisme et les Limites de La Justice, trad. fr. J.F.Spitz, Éd. Du Seuil, Paris, 1999, p.12.
32 . Ibid, p.14.
اخلية كغاية ،كرشط لالتِّفاق عىل احلقوق الفرد َّية ،ولوضع الدستور الالزم للتنظيم فكرة الغاية :جيب تعريف اخلري األسمى أو احلياة ِّ
يتم اختيارها، تصور ًا تليولوج َّي ًا ( ،)téléologiqueبمعنى أنَّه ُيؤكِّد عىل الغايات التي ُّتصور صندل للعدالة ُّ السيايس .يمكن اعتبار ُّ
33
التصورين السائدين ،أي ُّ وانطالق ًا منها ُيدَّ ُد ما هو عادل ،ال عىل قدرة اإلنسان كذات أخالق َّية عىل االختيار .34وهو بذلك يتجاوز
حل َجج التي كل مرجع َّية أخالق َّية أو الهوت َّية ،كام َّ
أن ا ُ أن ُتدَّ َد بمعزل عن ِّ
أن احلقوق ينبغي ْ
الليربايل واجلامعتي ،فالليربال ُّيون يعتربون َّ
أي مذهب أخالقي أو ديني .وأ َّما ُعب أو تستند إىل ِّ يمكن إيرادها إلثبات تلك احلقوق ينبغي أن تكون ذات طابع حيادي ،أي َّأل ت ِّ
التصورين يشرتكان ُّ البي َّ
فإن هذين تتأسس عىل القيم االجتامعية السائدة .وعىل الرغم من اختالفهام ِّ أن احلقوق َّاجلامعت ُّيون فهم يرون َّ
يف استبعاد الغايات القصوى أو القيم الكُل ِّية التي من شأهنا ال أن ُتدّ د احلقوق فقط ،بل أيض ًا الوجود اإلنساين.
وخاصة اخلري واحلر َّية واملساواة والكرامة .ال خترج نظر َّية رولز يف العدالة
َّ َّ
إن العدالة احلقيق َّية ال تنفصل عن منظومة القيم الكون َّية،
اللمساواة وال إىل احلدِّ من التفاوتات االقتصادية واالجتامعية .ينبغي إذن جتذير التصور الذي ال هيدف إىل إلغاء َّ
ُّ التصور الليربايل،
ُّ عن
التفكري يف مسألة العدالة احلقيق َّية وبشكل خاص يف العدالة االجتامعية.
العدالة االجتماعية:
ال تعني العدالة املساواة التا َّمة والكُل َّية بني أفراد املجتمع الواحد ،ولكنَّها تتم َّثل يف التوزيع املنصف للخريات االجتامعية التي هي
واخلدْ مات داخل املجتمع الواحد ،بحيث ال ترتكَّز ثمرة التعاون والعمل االجتامعي .كام يمكن أن نعني هبا التوزيع العادل للثروات ِ
تلك اخلريات لدى طبقة أو بني أيدي فئة مع َّينة ،كام هو احلال يف النظام الرأساميل .العدالة االجتامعية هي إذن عدالة توزيع َّية يف إطار
يصح اعتبار العدالة
جمتمع ال يتساوى أعضاؤه يف القدرات واملواهب واالستعدادات الطبيع َّية .بام أنَّه ال مساواة طبيع َّية بني األفراد فقد ُّ
ِ
بمجرد حدْ سه ،أو لكونه أن مفهوم العدالة ال يتح َّققاللمساواة .معنى هذا َّ االجتامعية تعويض ًا أو إصالح ًا أو عىل ّ
األقل للحدِّ من هذه َّ
َّ
مؤسسات وأجهزة اجتامع َّية ،وهذا ما أكَّد عليه رولز حدس ًا أخالق َّي ًا كام ترى النزعة احلدس َّية ( ،) intuitionnismeبل ال بدَّ من وجود َّ
إن العدالة االجتامعية هي التوزيع املنصف املؤسسات االجتامعية .نستطيع القول إذن َّ يف «نظر َّية العدالة» ،فالعدالة كإنصاف هي فضيلة َّ
للخريات والثروات واخلدمات بني أفراد املجتمع وفئاته ،بحيث ال ُيرم فرد أو فئة أو طبقة من اخلريات االجتامعية الرضور َّية ،ومن
إن العدالة االجتامعية ليست سوى جتسيد الرشوط املاد َّية لوجود الئق باإلنسان كغاية يف حدِّ ذاته .حسب هذا املعنى يمكن القول َّ
الديمقراط َّية هي الرشط السيايس للمواطنة احلقوق األساس َّية للشخص .ونحن ال نقصد باحلقوق الشخص َّية
االجتامع َّية وللعدالة االجتامع َّية .ولكن جيب هنا ما يفهمه ال ِّليربال ُّيون من عبارة «احلقوق» ،أي حر َّية الفعل
َّأل نفهم الديمقراط َّية هنا يف معنى التمثيل وحق التعبري والنرش واالجتامع واالقرتاع ...إلخ ،بل املقصود
وحق
ِّ احلق يف التعليم
احلقوق االجتامعية واالقتصادية؛ مثل ِّ
السيايس املتناغم مع مركز َّية السلطة السياسية وحق احلصول عىل الوسائل املاد َّية
السكن ِّ
وحق ّ
الرعاية الصح َّية ِّ
تصوروانفصاهلا عن املجتمع ،وذلك ضمن ُّ للعيش .ال يمكن أن تتح َّقق العدالة االجتامعية من دون الرشط
سياسوي للسياسة ،بل علينا أن نحدِّ د ٍّ يتوجب طرحه هنا هو :ما النظامالسيايس .وهلذا فالسؤال الذي َّ ِّ
أي حدٍّ يستجيب النظام
السيايس املالئم للعدالة االجتامعية؟ وإىل ِّ
الديمقراطية باعتبارها الشكل الذي تكون
الديمقراطي ملطلب العدالة االجتامعية؟
اجتامعي ُتدِّ ده قيم ٍ
وجود فيه السياسة َ
نمط
ٍّ
موضوع َّية وغايات كُل َّية ينطلق ال ِّليربال ُّيون يف دفاعهم عن احلر َّيات واحلقوق الفرد َّية،
حق املِ ْلكية ،من مس َّل ِ
مة أسبق َّية احلر َّية الفرد َّية عىل القيم وخاصة ّ
ُ َّ َّ
ُّ َّ َّ
األخرى .فاحلر َّية لدهيم هي رشط احلصول عىل احلقوق األخرى ،وبالتايل فإن كل تدخل للدولة بواسطة إجراءات مع َّينة هتدف إىل حتقيق
املساواة االقتصادية أو العدالـــة االجتامعية (توزيع اخلريات بشكل منصف بحيث يستفيد َمن ُهم ُّ
أقل ح َّظ ًا ،أو من هم أكثر حرمان ًا)
اخلاصة .ولكن هل يمكن الفصل بني احلقوق املدن َّية والسياس َّية من جهة ،واحلقوق َّ هو انتهاك للحر َّية الفرد َّية واعتداء عىل امللك َّية
االقتصادية واالجتامعية من جهة ثانية؟ وبصيغة أخرى :هل يمكن املفاضلة بني احلقوق -احلر َّيات ( )droits/libertésواحلقوق-
القدرات ( )capacités/droits؟
شك إن إيالء احلر َّية أولو َّية مقارنة بالقيم األخرى فكرة يصعب تسويغها .فام الذي يمنع من إسناد األسبق َّية أل َّية قيمة مهام كانت؟ ال َّ َّ
يسوغ إنكار أو إمهال القيم األخرى أو اعتبارها أن احلر َّية قيمة أساس ّية ورضور َّية بالنسبة إىل وجود الكائن اإلنساين ،ولكن ذلك ال ِّ يف َّ
وحق ممارسة أسلوب العيش وحق السفر ُّ (احلق يف التفكري ويف التعبري عن الرأي ويف النرش ُّ ُّ إن احلقوق -احلر َّيات ثانو َّية مقارنة باحلر َّيةَّ .
سمها ماركس .ال بدَّ إذن من جمرد حقوق صور َّية كام َّبحر َّية) هي مجيعها حقوق تقتيض وسائل لكي تتح ّقق فعل َّي ًاَّ .إنا يف غياب الوسائل َّ
أن هذا التعارض بني صنفي احلقوق ُييل إىل تعارض بني نظر َّيتني التأليف بني احلقوق -احلر ّيات واحلقوق -القدرات .من املعروف َّ
أساس َّيتني م َّيزتا الفكر السيايس احلديث واملعارص ،نقصد الليربال َّية واالشرتاك َّية .يف املجتمع الليربايل يكون مجيع األفراد متساوين نظر َّي ًا
فإن مجيع األفراد يتمتًّعون باخلريات املاد َّية يف احلقوق ،ولكن يف الواقع يتمتَّع البعض فقط بحقوق فعل َّية .وأ َّما يف املجتمع االشرتاكي َّ
إن الفرد يف املجتمع الليربايل واالجتامع َّية (حقوق قدرات) ،ولكنَّهم ال يتمتَّعون بحقوق احلر َّيات أو احلر َّيات األساس َّية .هل لنا أن نقول َّ
هو املواطن احلقيقي أو الفاعل ،ما دام قادر ًا عىل محاية حقوقه الطبيع َّية من خالل مشاركته يف إدارة الشؤون العا َّمة عن طريق التمثيل
السيايس؟ وهل لنا أن نعترب الفرد يف املجتمع االشرتاكي ،الذي ال حقوق سياس َّية له ولكنَّه يتمتَّع بخريات وخدمات اجتامع َّية ،مواطن ًا
منفعالً؟36هل يمكننا التأليف بني احلر َّية الفرد َّية (الليربال َّية) واملساواة (االشرتاك َّية) يف مفهوم املواطنة االجتامع َّية؟
36ـ هذا التمييز بني املواطن الفاعل واملواطن املنفعل نجده لدى كانط ،وتحديدا ً يف كتابه« :نقد العقل العميل» .املواطن الفاعل هو عضو يف الدولة ،وهو يشارك يف
الشؤون العامة نظرا ً لكونه مالكاً ،وأ َّما املواطن املنفعل فهو مج َّرد جزء من الدولة ،وليس له تبعاً لذلك ُّ
حق االقرتاع .انظر:
A. Philonenko, Théorie et Praxis dans la pensée morale et politique de Kant et de Fichte en 1793, Vrin, Paris, 1976, p.66.
َّ
ويتجل ذلك التصور التعاقدي ،داللة سياس َّية رصفة .ليس املواطن هو ساكن املدينة ،بل هو جزء منها، ُّ السيايس .تأخذ املواطنة ،حسب
اخلاصةَّ .
إن التَّحديد السيايس َّ من خالل مشاركته يف الشؤون العا َّمة اعتبار ًا للمصلحة العا َّمة التي هي الرشط الرضوري لتح ُّقق املصالح
وحق تق ُّلد الوظائف السياس َّية) ويستبعد احلقوق االجتامعية ُّ للمواطنة جيعل حقوق املواطنة حقوق ًا سياس َّية ال غري ُّ
(حق االقرتاع،
(احلقوق املتع ِّلقة بالرشوط املاد َّية للوجود وباخلريات االجتامعية الرضور َّية حلياة إنسان َّية الئقة).
ُّ
حتتل احلقوق الفرد َّية والقيم االقتصاد َّية يف املجتمع الليربايل املكانة األرفع مقارنة باحلقوق والقيم األخرى ،بل َّ
إن االقتصاد هو الذي
احلق ،فاحلر ُّية الفرد َّية التي يتغنَّى هبا الليربال ُّيون تؤول إىل حر َّية امللك َّية وما يرتبط هبا من حقوق التبادل واالستهالك .صارت حيدِّ د َّ
كل احلقوق املنسوبة إىل الفرد ال قيمة هلا إذا إن َّ
يتم الرصاع من أجلهاَّ . ظل املجتمع الرأساميل هي الغايات التي ُّ الوسائل املاد َّية (املال) يف ِّ
مل تتو َّفر الوسائل املاد َّية لتحقيقها ،فحتَّى الكرامة اإلنسان َّية صارت مرشوطة باحلصول عىل هذه الوسائل .حسب منظومة القيم السائدة
اخلاصة ،حر َّية العمل والتبادل واالستهالك ،امللك َّية ،املنفعة ،املردود َّية ،املنافسة) َف َقدَ مفهوم حقوق
َّ ذات الطابع االقتصادي (املصلحة
اإلنسان داللته املوضوع َّية واحلقيق َّية فأصبح ُييل إىل إيديولوجيا تربير املصالح الطبق َّية والسلطو َّية.
37 . Ricœur, Soi-même comme un autre, Paris, Édition du Seuil, 1990, pp. 232 -234.
38 . Rawls, Théorie de la justice, Op. cit. p.29.
:المصادر والمراجع
مصطفى بن متسك*
مـة
قد َ
الم ِّ
ُ
حترر ًا تارخيي ًا من براديغامت الواحد واملثال
بقدر ما كان انتقال اإلنسانية إىل مرحلة التعدُّ د َّية السياسية والثقافية والعرقية والدينيةُّ ،
واجلوهر واملاهية واألرخي (األصل) واأليقوين ،بقدر ما وجلت إىل إشكاليات مستحدثة رافقت صريورة تشكُّل الفسيفساء التعدُّ د َّية
للمجتمعات الديمقراطية احلديثة.
مهها عىل اإلطالق هو كيفية املالئمة وخلق التوازنات الرضورية بني ِّ
كل هذه لقد محلت التعدُّ ديات املشار إليها مشكالت جديدة ،لعل أ َّ
األطياف واالختالفات ،وجتنب نزعات اإلقصاء والتفاضل والتمييز ِّ
بكل أشكاله ،حتى يكون العيش املشرتك ممكن ًا ودائ ًام بني الفرقاء
املختلفني املتواجدين يف فضاء مشرتك.
ومؤسستية
َّ تلكم هي اإلشكالية الكربى التي ما تزال املجتمعات املنخرطة يف األفق الديمقراطي تبحث هلا عن خمارج وحلول ترشيعية
وسياسية ،ختتلف حت ًام من بلد إىل آخر .وبإمكاننا رصد أبرز املخارج التي أمجعت عليها املجتمعات الديمقراطية الغربية ،وتتمثل يف
ُّ
(فكل اإلقرار بمبدأ املساواة بني ِّ
كل األطياف االجتامعية وعدم التفرقة بني املواطنني عىل خلفيات لونية أو مذهبية أو دينية أو سياسية
املواطنني يولدون أحرار ًا بطبعهم) ،ما يسمح بتساوي حظوظهم اجتامعي ًا وسياسي ًا واقتصادي ًا .فيصبح مبدأ التداول عىل السلطة حق ًا
ال عن إقرار قيم املواطنة بام تعنيه من تساوي احلقوق والواجبات ،تلتزم أجهزة الدولة باحلياد املطلق عن دستوري ًا متاح ًا للجميع .وفض ً
الرصاعات وامليوالت الفردية واجلامعية ،فال تتدخل لنرصة طرف عىل آخر أو إيديولوجيا عىل أخرى ،بل تسهر عىل تأمني حسن إنفاذ
القوانني ومحاية احلريات الفردية يف حدود القانون وردع املخالفني.
تلكم هي رشوط استمرار التعايش السلمي بني املواطنني األحرار يف جمتمع ديمقراطي .ولكن هل حتقق هذا املنوال بالشكل املثايل
ال من الدولة كيان ًا فوق مجيع الذي وصفناه؟ وبعبارة أوضح :هل حتققت «اجلَنَّة» التعدُّ دية والديمقراطية بالشكل الذي جيعل فع ً
تتحول التعدُّ د َّية يف تطبيقاهتا إىل بكل حقوقه ويقوم ِّ
بكل واجباته جتاه الدولة واملجتمع؟ أمل ْ َّ حر ًا ينعم ِّ
الطبقات؟ وجيعل املواطن كائن ًا َّ
جمرد آليات وإجراءات شكل َّية توهم بالديمقراطية ،بينام تستبطن رضب ًا خف َّي ًا ومسترت ًا من «اهليمنة الناعمة» عىل مقدرات املجتمع وقواه َّ
احل َّية؟
التعدد
ُّ -في البدء كان
مل يكن التعدُّ د ( )Pluralitéمأثرة اإلنسان ،بل «قانون األرض» ،كام تقول حنا أرنت .إنَّه التنوع والتكاثر والتناسل ُّ
وكل البدايات 1
* أكادميي من تونس
1 . Hannah Arendt, La vie d`esprit: la pensée, PUF, Paris, 1981, p.34.
واملتكررة .تكمن
ِّ العال باستقالل عن إرادة اإلنسان ،وهو يعمل منذ األزل بمقتىض قوانني مادته الداخلية وحتمياته املنتظمةُوجد هذا َ
أمهية َ
العال بالنسبة إلينا يف كونه فضا ًء زمني ًا وجغرافي ًا حتقق فيه «الوضع» الطبيعي للكائن .مل يكن اإلنسان خارج لوغوس التعدُّ د أو قبله،
بأي حال فصل املاه َّية اجلزئيةبل هو «املوجود يف العامل» و«بمعيته» ( ، )La co-existenceإنَّه إذن الوجود يف الكثرة ومعها ،وال يمكن ِّ
2
ونتجسد وننخرط
َّ نقر عىل إثر مرلوبونتي بأنَّه «حلم العامل»َّ .
إن هذا العامل الذي فيه نوجد إن كيفية انغراس اإلنسان يف العامل جتعلنا َُّّ
ٍ
كتاب ريايض (قالييل) ،بل هو ذواتنا جمرد
جمرد مادة ممتدَّ ة وعاطلة منزوعة الغرابة (ديكارت) ،وليس َّ ونقصد ليس حمايد ًا ،وليس َّ
وأجسادنا امللتحمة به.
ؤسس
كرس منطق االثنينية الديكاريت الذي فصل املادة املمتدَّ ة عن اجلوهر املفكر ،وهو فصل ُي ِّ َّ
إن القول بحياديته وال مباالته ُي ِّ
متأصلة يف املثاليات الفلسفية القديمة.
لتفاضلية أخالقية ماهو َّية ِّ
تنتهي بنا فينومينولوجيا «الوجود كام هو موجود» (بلغة القدامى) إىل جماوزة الثنائيات امليتافيزيقية واإلقرار باحتاد اجلسد بالعامل،
املعقول باملحسوس واملنظور بالال-منظور ،لكون بنيتنا اجلسدية ُمعدَّ ة بكيفية جتعلها يف وفاق مع املنظومات املورفولوجية املختلفة للعامل.
قل استنباط للكُل َّيات حيثأن واقعة التعدُّ د التي تناسل منها اإلنسان ذاته ،ستصطدم بمقتضيات املعرفة من حيث هي إدراك أو ْ
بيد َّ
«ال علم إال بالكُّيل» (أرسطو) ،لك َّن اجلزئي وحده هو املوجود .سوف تقع التضحية باجلزئيات (املحسوسات) لفائدة معقوالت كُل َّية
متنح الفيلسوف سلطة رمزية عىل عامل احلركة املتمرد.
والتنوع حتدي ًا معرفي ًا ضخ ًام بالنسبة إىل الفالسفة األول .كانت وقائع احلركة املوضوعية عنوان
ُّ لقد شكَّل التعدُّ د يف معنى التك ُّثر
فكل ما يظهر هو حقيقة جزئية الفوىض واالضطراب وجمال انتعاش الريبية السوفسطائية والعامية :فبام أنَّه ال يشء يمكث عىل حالهُّ ،
وباللنمطية أي بالصخب واهليجان َّ رسعان ما تزول ،وال يمكن بالتايل قيام مرجعيات موضوعية تقويمية .اقرتن التعدُّ د إذن بالفوىض
َّ
وكأن نظام الطبيعة وقوانينها القائمة عىل توازنات اجلزئيات املتناهية الصغر واملتعاظمة الكرب ال تتالءم و«التمرد الديونيزويس» (نيتشه).
ُّ
ونظام املدينة الذي نروم تأسيسه وفق نواميس النظام والتصنيف والرتتيب والثبات والنهائ َّية .من هنا انبثقت أوىل املواجهات بني نظام
الطبيعة القائم عىل التعدُّ د املعطى ونظام املدينة القائم عىل التجانس والوحدة والطاعة.
ما يزال هذا التحويل لوجهة الكثرة الطبيعية من جماهلا احليوي إىل جمال التفكُّر والتد ُّبر أسلوب ًا لاللتواء عىل قوانني احلياة ،ومن َّ
ثمة
ِ
النومني، عدم االعرتاف باحلقيقة حني تقع يف حمل اجلزئي والفردي ،أو حني نريد أن نربزها عىل السطح بدل العمق ،يف الفينومني بدل
يف املواطن بدل القوة والسيادة ،أو يف املجنون بدل العاقل .أليس إنكار واقع التعدُّ ديات كام تبدو ماثلة يف أنظمة الكون وطبقات الوجود
هو بداية الرشوع يف تنميط أنظمة احلياة املشرتكة بالشكل الذي جيعل من الذاتية مرجعية الترشيع املطلقة؟ أال ُيعدُّ إفراغ الكون من
واقعية التنوع والتكثر كام متليه علينا مقتضيات احلقيقة العلمية وكام متليه رشوط إمكان القول العلمي استعاضة عن احلقائق الالمتناهية
2 . Jean-Luc Nancy, Être singulier pluriel, Paris, Galilée, 1995, p.48- 51.
املنمطة واملنمذجة ،تلك التي تسمح بتداوهلا وتوثيقها وتعليمها؟ أليست التعدُّ د َّية قبل أن يبارشها العقل اختزاالً وتصنيف ًا
بـ«احلقيقة» َّ
وتنميط ًا هي هذه احلركة املتدفقة لألشياء ،املستعصية عن اإلمساك ،املتمردة عىل سلطان اخلطاب؟ أليست التعدُّ د َّية هي يف أصلها هذا
إن نظام املدينة يتخىل هنائي ًا عن
التعدُّ د وهذا التكثر الطبيعيان قبل أن تتدخل فيهام آليات االختزال واإلنشاء والتنميط؟ هل يمكن القول َّ
واقعة التعدُّ د الطبيعي املوصوفة بالفوىض واحلركية السالبة لصالح تعدُّ د َّية إنشائية تدافع عن الثبات والتوازن وتقاطع املصالح والطبقات؟
التعدُّ د َّية يف مفتتح دالالهتا هي مفهوم جديد للسلطة وللمرشوعية السياسية .ال تستمدُّ هذه املرشوعية نفوذها من التقاليد أو من
مبدأ احلق الطبيعي أو احلق اإلهلي ،بل من الوفاق واحلق املدنينيَّ .إنا ال تُفهم إال يف عالقتها العضوية بالسلطة وبمختلف التحوالت
التارخيية اجلذرية التي طرأت عليها .ال تنفصل احلداثة السياسية عن التفكري التعدُّ دي الذي اقرتن باهنيار اجلامعات املغلقة والرتاتبيات
وكل أنامط السلطة الشمولية والكليانية األنطولوجية (نظرية الطبائع الثابتة) اجلاهزة والقبلية وأشكال احلكم الفردية النزوية املطلقةّ ،
بكل أثقاله وأوزاره ،ستشهد احلداثة عموم ًااملستمدَّ ة إيديولوجي ًا سواء من َو ْه ٍم عرقي أو ديني أو قومي .ويف مقابل أفول العامل القديم ِّ
احلرة والذاتية املعتدَّ ة بنفسها ،كام رسمتها لنا نامذج الكوجيتو املختلفة.
تصور الذات َّ نقالت ضخمة يف ِّ
كل نواحي احلياة ،وال س َّيام يف ُّ
أن حرص التفكري التعدُّ دي يف إجرائيات توزيع السلطات وتقاطع املصالح وتوازن هيئات املجتمع ،إنَّام يطمس الرهان ويتبني حينئذ َّ
األول الثاوي خلف هذه اآلل َّيات ،ونعني به تأمني حرية املجتمع املدين املتكون من أفراد ومجاعات ومجعيات ومنتديات ونزعات َّ
إن «واقع التعدُّ د َّية» (ونحن نستعري هنا املصطلح الرولزي املعروف) ليس مذهب ًاوتلوينات ،من تعدِّ يات ونزوات السلطة الشموليةَّ .
تنوع اآلراء واملصالح واجلامعات يف جمتمع مدين ،وجيعل من التعدُّ د
كرس ُّ «تصور واقعي لنظام سيايس وحقوقي ُي ِّ
ُّ قائم الذات ،بل هو
الرشط الضامن للحر َّية» .
3
ُبش فلسفة التعدُّ د َّية بنهاية عصور «الوحدنة» ( )Monismeو«الشملنة» ( ، )Holismeوبالتايل تش ِّظي احلقائق وتبعثر الفرديات ت ِّ
و«أفول األصنام» (نيتشه) .وبالرضورة هناية املقادير ا ُملس َّلطة عىل البرش واأليادي اخلفية التي تعمل خلف ظهورهم (أفالطون)َّ .إنا
احلاكمية وقد اسرت َّدها اإلنسان ليضفي عليها إنسانيته اقتسام ًا ومشورة ونقاش ًا ُيدِّ د عىل إثرها معايري أخرى للحق واحلق املضاد.
نلج مع التعددية عامل اإلنسان بامتياز ،وتتعطل بذلك االمتدادات والتربيرات األسطورية والطبيعانية للسلطة ،بل تفقد السلطة بريقها
األسطوري واإلمرباطوري ،و«يتطاول» عليها من شاءها باسم احلق واملساواة فيه .وهكذا فحني تسقط األصنام وتنكشف التربيرات
تتحرر اإلرادات الفردية من جحيم «اللفياثان» الكلياين، وتستقر فكرة املساواة واالستقاللية الفردية يف األذهانَّ ،
ُّ اإليديولوجية للحكم
وبالتايل تتح َّيد الدولة عن التدخل يف حتديد مفاهيم «احلياة الط ِّيبة» ( .) La Vie bonneهبذا املعنى ترتدُّ التعدُّ دية إىل فلسفة االختالف
ويستقر هذا احلق يف مدلول واسع للمواطنة يطلق عليه البعض «املواطنة االختالفية» ( ،4)Citoyenneté différenciée ُّ وحق االختالف. ِّ
3 . P.Bo, «Pluralisme», in Dictionnaire constitutionnelle, PUF, 1992, pp. 756- 759.
4 . Genevieve Nootens, «Multiculturalsime et tolérance: penser le pluralisme culturel», in Paul Dumouchel et Bjarne Melkevik, Tolérance,
Pluralisme et Histoire, Harmattan, 1998, p.153.
اقرتنت التعدُّ د َّية منذ البدء بتصور مجاعي وديمقراطي للسلطة ،ك َّفت فيه أن تكون حكر ًا عىل طبقة أو حاكم فردي مطلق النزوات،
بالتحرر الفردي واحلقوق الفرد َّية .لقد أضحى احلق السيايس يف التداول عىل السلطة لدى عموم املواطنني من أبرز
ُّ بعد أن اقرتنت
بشت هبا احلداثة السياسية. احلقوق التي َّ
املتحرر من ِّ
كل الوصايا ،حتى غدت متشظية ومتكثرة ومرنة وغري ثابتة ونسبية مثله. ِّ تشكلت السلطة السياسية عىل صورة الفرد
مل تعد هذه السلطة مصدر ًا للخوف والرهبة ،بعد أن فقدت مصادراهتا املاورائية واملتعالية ،وأصبحت بمقتىض العقد االجتامعي
اجلديد شأن ًا عا َّم ًا يشرتك فيه اجلميع عىل قدر املساواة يف إدارة مرافقها العا َّمة.
أضحى العيش املشرتك ممكن ًا يف كنف التعدُّ دية الفكرية والعقائدية والسياسية والعرقية واللغوية ،واتفق القوم املختلفون عىل قبول
اختالفاهتم واإلبقاء عليها ،وعدم التنازل عنها لفائدة دولة قوية أو حاكم مستبد ،بل فقط اإلبقاء عليها ضمن الفضاءات اخلاصة عىل
غرار العائلة واجلامعة اخلصوصية واملعابد واألحياء ،ونعني هبا األقليات العرقية سواء منها أقليات أرض الوطن أو تلكم القادمة بطريق
اهلجرة عىل غرار األقليات العربية املسلمة أو اآلسيوية أو اإلفريقية إىل الغرب األورويب واألمريكي.
ويف مقابل االعرتاف باخلصوصيات الثقافية ومحاية وجودها داخل أفضيتها اخلاصة ،وضامن عدم إقصائها من الفضاء العام ،أو
استئصاهلا ألسباب إيديولوجية أو دينية ،بات يتعني عىل اهلو َّيات اخلصوصية املتواجدة يف الفضاء التعدُّ دي الغريب األورويب واألمريكي
حتديد ًا ،االنخراط يف قيم املواطنة باعتبارها الضامنة لرشوط العيش املشرتك وملعايري اإلنصاف االجتامعي .ذلك َّ
أن فضاء املواطنة هو
5 . Montesquieu, De l’esprit des lois, vol 1, Garnier-Flamarion, 1979, p.294 et 293.
الكفيل بالتخيل «مؤقت ًا» عن االنتامءات ما قبل املدنية أو ما قبل -املواطنية ،واالكتفاء بمامرستها يف األفضية اخلاصة التي تؤ ِّمنها الدولة،
املحرضة عىل
التجرد عن الوالءات اهلوو َّية ِّ
ُّ أ َّما الوجود املواطني املشرتك فقد بات يتطلب من اجلميع ،بام يف ذلك مواطنو الدولة -األ َّمة،
والتعصب وكره اآلخر-املختلف.
ُّ االنغالق
كل هذه األطياف اهلوو َّية هو فقط انتامؤها لقيم املواطنة ،بام تعنيه من مساواة أمام القانون الذي ال يميز مواطن عن آخرإن ما جيمع َّ
َّ
عىل خلفية االنتامء الديني أو العرقي أو القومي ،بل فقط عىل خلفية احرتام القانون ومؤسسات الدولة أو التعدي عليهام .وهبذا مل تعد
يعزز هذا املكسب هو حتييد أجهزة الدولة عن والءات األفراد االنتامءات الرمزية معيار ًا للحكم عىل املواطنني يف الفضاء املشرتك .وما ِّ
وميوالهتم الفكرية .وبموجب ذلك تصبح الدولة هيئة حمايدة ال يسمح هلا بالتدخل ملنارصة رؤية إيديولوجية أو قومية أو دينية أو تربوية
ما ،مكتفية بتحديد قواعد العدالة الشكلية وتأمني سيالهنا دون االنحراف هبا إىل «حرب اآلهلة» .يقول جون رولز« :ال تقوم اجلامعة عىل
تصور للخري كالذي كان فيام مىض ُيستمدُّ من الدين أو من مذهب فلسفي شائع ،بل تقوم عىل مفهوم مشرتك للعدالة يف صلتها بالتصور ُّ
الذي يتمثل املواطنني داخل دولة ديمقراطية ما كأشخاص أحرار ومتساوين» .
6
حققت التعدُّ دية الليربالية رضب ًا من اإلنصاف -الذي خيتلف جوهري ًا عن العدالة رغم تناسله منها -وسنبني ذلكَّ :ملا كانت العدالة
قيمة مطلقة ومفهوم ًا كُل َّي ًا غائ ًام وفضفاض ًا ،فهي ُّ
تظل إىل األبد غري قابلة للتحقق ،ور َّبام حتيلنا تطبيقاهتا املعيارية إىل السجل الديني،
ألنا شأن إهلي بامتياز .وربام ندرك اآلن
بأن «العدالة املطلقة» غري ممكنة عىل األرض ،بل ستكون يف السامءَّ ، كل األديان َّ تبشنا ُّ
حيث ِّ
تتجسد إال
َّ ملاذا ظلت العدالة عىل َم ِّر تاريخ اإلنسانية يف عداد ا ُملثل املنشودة عىل غرار احلر َّية والسعادة واملساواة ...،إلخ ،ومل يسعها أن
يف اليوتوبيات الشهرية :املدن الفاضلة (أفالطون ،الفارايب) واملجتمع الشيوعي املنشود (ماركس ،لينني) .وتلكم هي أقىص ما حققته
املخيلة البرشية ،وهي ُت ِّول حلم العدالة املطلقة من السجل املاورائي إىل السجل األريض.
تتجسد
َّ أن هناك جزء ًا من اإلنسانية أدرك أخري ًا استحالة املواصلة يف التضليل بعدالة معيارية ال يمكنها أن ألمر كهذا ،نعتقد َّ
ظل االختالفات املعطاة ،والتي ليست فقط من طبيعة طبقية ،بل أيض ًا ثقافية وحضارية ورمزية .هلذا متكَّنت من اخرتاع فكرة يف ِّ
«اإلنصاف» ( 7)Equitéالذي يعني يف مضامر التعدُّ د َّية السياسية متكني الطبقات األقل حظ ًا يف املجتمع الليربايل من متثيلية «مرشفة»
عرف «بالتمثيل النسبي» .ويعني يف مضامر التعدُّ د َّية الثقافية االعرتاف باالختالفات اهلوو َّية وتأمينها
يف مؤسسات الدولة ،وهو ما ُي َ
يتصل األمر بالشأن ُّ لكل مجاعة ،مع السعي إىل االندماج والفاعلية داخل الفضاء املواطني املشرتك ،عندما داخل األفضية اخلاصة ِّ
العام.
ألن البرش حسب رولز ليسوا مسؤولني عن كل أشكال التفاوت بني البرش ،بل التخفيف منهاَّ ، ال يدَّ عي براديغم اإلنصاف القضاء عىل ِّ
وضعية التفاوت الطبقي واالختالف الرمزي والثقايف التي جيدون أنفسهم عليها ،لكن يف املقابل عليهم َّأل يستسلموا هلذه القدرية ،وأن
يعملوا مع ًا ضمن جمتمع املواطنني األحرار عىل حلحلة هذه األقدار وتغيري املواقع الطبقية يف إطار ما توفره مبادئ العدالة كإنصاف من
فرص للمنافسة بينهم من أجل تنمية حقوقهم يف «احلياة الطيبة».8
6 . John Rawls,«Les libertés de base et leur priorité», in André Berten, Pablo Da Silveira et Hervé Pourtois, Libéraux et communautariens,
Paris, PUF1997, p. 185.
7 . Rawls,«La structure de base comme objet», in Justice et démocratie, Trad .fr. Catherine Audard, Paris, Seuil 1993, p.37- 38.
8 . Rawls,» La structure de base comme objet «, in Justice et démocratie, op.cit., p. 52.
تتمحور املطارحات النظرية يف العامل األنغلوسكسوين حول طريقة متثل الفرد يف املجتمعات الليربالية ،فالليرباليون اجلدد يؤكِّدون
عىل مبدأ احلريات الفردية وحيادية املؤسسات ،وال س َّيام مؤسسة الدولة ،عن التدخل يف حتديد نموذج «احلياة الطيبة» كام يرتئيها ُّ
كل فرد
ألنا قد تتصادم مع قيم املواطنة
لنفسه .وبناء عليه ال يعريون أمهية لالنتامءات االجتامعية والدينية والثقافية واللغوية املحددة هلو َّية الفردَّ ،
واملجتمع املدين القائمة أساس ًا عىل احليادية والصورية واإلجرائية والربغامتية.
أن اإلقرار هبذه االنتامءات هو رشط رضوري من شأنه أن يو ِّطن احلريات الفردية داخل أفق الدالالت أ َّما اجلامعت ُّيون فيعتربون َّ
فالتصورات الفردية للخري مطالبة بأن
ُّ املشرتكة ،بحيث لن ترتد إىل رضب من النسبوية والتقوقع حول مفهوم أحادي وفردي للخري،
التصور اجلامعي وتتامهى به ،واجلزء مطالب بأن يتناغم مع الكل ،وهذا هو رشط استقرار احلياة السياسية اجلامعية.
ُّ تنحو صوب
أن التعدُّ دية الرولزية ُبنيت عىل مبدأ إطالق احلريات الفردية وحتريرها من ِّ
كل تبعية للوالءات اجلامعية ،وهو ما من يعترب اجلامعت ُّيون َّ
توحد املواطنني حول مشرتكاتكل فرد مقياس ذاته ،وبالتايل ال يتقاطع األفراد حول دالالت مشرتكة من شأهنا أن ِّ شأنه أن جيعل من ِّ
مجاعية .وبالنتيجة تزدهر «النسبوية الناعمة» (.11)Relativisme doux
كل األفراد ،بموجب احرتام احلق يف االختالف وتعزيز جمال احلقوق الفردية واستقاللية اإلرادة ،غري أن َّ
تفيد «النسبوية الناعمة» َّ
ملزمني أو مكرهني عىل االعتقاد يف ثقافة «احلس املشرتك» ،أو حتى إظهار االنتامء إىل الثقافة اجلامعية ،بام يف ذلك األخالقيات العامة أو
املعتقدات الدينية والتقليدية للمجتمع.
يف املجتمعات التعدُّ د َّية يتخىل املجتمع عن دوره األبوي باعتباره مصدر هو َّية األفراد ،بحيث يمنحهم منسوب ًا عالي ًا من احلر َّيات يصل إىل
سمى التمش ضمن صريورة حترر َّية طويلة ،تعترب َّ
أن ما ُي َّ ِّ كل فرد مسؤولية نحت هويته الفرد َّية بمقدراته الذات َّية .يندرج هذا درجة حتميل ِّ
بوالء األفراد لألطر املرجعية الكربى (املجتمع ،التاريخ ،األلوهية ،الدولة) هي تعبريات سلطة ختفي يف طياهتا إرادة قوة مس َّلطة باإلكراه
لتحرر األفراد ،وهي األطروحة التي كان قد صاغها نيتشه ،ثم أفاض يف بياهنا النيتشيون اجلدد (فوكو -دلوز -دريدا). عىل املجتمع ومعيقة ُّ
9 . Rawls, Théorie de Justice, tr, Catherine Audard, Paris, Seuil, 1987, p.560.
10. Aristote, Politique, 1253 à 18.
11 . Charles Taylor, Malaise de la modernité, Edition du Cerf, Paris1994, p. 46.
كل فرد ،وهو ما يذكِّرنا باملشهد اليوناين حني كان السفسطائي بروتاغوراس يتباهى بذاتية احلقيقة وارتباطها بقائلها ،وبعدم قدرة ِّ
كل احلقائق متساوية يف الصالحية والوجود .يف حني أن َّ
اآلخر صاحب احلقيقة الذاتية املغايرة بدوره عىل دحضها أو نفيها ،باعتبار َّ
كان أفالطون وأرسطو ينافحان عن الوجود «املوضوعي» للحقيقة ،سواء أكانت جاهزة ومتعالية ومثالية (أفالطون) أو تأليفية ولسانية
ومفهومية (أرسطو) .ويف كلتا احلالتني ال ُبدَّ من اإلقرار بوجود «موضوعي» للحقائق باعتبارها كُل َّيات إنشائية باملنطوق األرسطي،
تيس التواصل اللغوي واللساين وأيض ًا ُتكِّن من تأسيس املعرفة باألشياء السائلة واملتكثرة والعرضية .ويفيدنا الدرس اإلغريقي الذي ِّ
كل فرد ،إنَّام ُيع ِّطل قيام معرفة مشرتكة وموضوعية بالعامل، أن تك ُّثر احلقائق بحسب إرادة ِّ
تستعيده الذاتية الليربالية اليوم بشكل آخرَّ ،
كل فرد يف «عتامت قلبه اخلاص» كام يقول توكفيل ،ال س َّيام بعد أن فقد َّ
كل السندات اهلوو َّية كام يع ِّطل التواصل بشأنه ،والنتيجة أن يتيه ُّ
احلاضنة.
لك َّن التداعيات اخلطرية ال تقف عند حدود العطالة املعرفية والتواصلية والتيه الفردي يف عامل أصبح «مرعب ًا» من شدَّ ة انفتاحه عىل
الال-متناهي كام وصفه باسكال منذ القرن السابع عرش ،بل نراها متتدُّ إىل سيكولوجيا األفراد «األحرار» ،هؤالء الذين ُت ُّوهلم «احلرية
السلبية» (إسحق برلني) إىل جمرد «زبائن» للدولة ومؤسساهتا (هابرماس) ،يدفعون الرضائب و ُيدْ َعون إىل االقرتاع ،ويف املقابل حيصلون
عىل بعض املغانم ،ويتعاطون مع ِّ
الكل تعاطي ًا أداتي ًا ونفعي ًا رصف ًا .وإذ يكتفون هبذه األدوار يكون يف وسع احلكومات أن تنفرد بمراكز
اهلوة اتساع ًا عندما يصاب املواطنونالسلطة والقرار وتضعها حتت ترصف النخب التكنوقراطية املعزولة عن مشاغل الشعب .وتزداد َّ
اخلاصة ،حيث ينغمسون يف إشباع الرغبات َّ بخيبة أمل يف سياس ِّييهم وقادهتم ،فينسحبون أفراد ًا ومجاعات من الشأن العام إىل األفضية
فيضمر اإلحساس بالوطنية ُ االستهالكية واأليروسية (ماركيوز) .ومن شأن مثل هذا الوضع أن ُيفقد الدولة والوطن والءات املواطنني،
واالنتامء ،و ُيستعاض عن املواطنني باملرتزقة حني يتعلق األمر بالدفاع عن مناعة الوطن ضدَّ األعداء (تايلور ،ماك أنتاير) .وهو ،لعمري،
أخطر ما تؤول إليه «ديمقراطيات النخب» احلاكمة.
12ـ يقول كانط « :ينبغي أن يتقدَّم العقل إىل الطبيعة ،ماسكاً بيد مبادئه التي تستطيع هي وحدها أن متنح الظواهر املتطابقة سلطة القوانني ،وباليد األخرى
كل ما يحلو له قوله ،بل عىل العكس من ذلك كالقايض
التجريب الذي تخيله وفق تلك املبادئ ،حتى يتعلم من الطبيعة ال محالة ،لكن ال كتلميذ يدع املعلم يقول َّ
عم يُطرح عليهم من األسئلة».
يجلس للقضاء ،فيحمل الشهود عىل اإلجابة َّ
Kant, Critique de la Raison Pure, Paris, PUF, 1968, pp.17- 78
إن رهان التعددية هو إلغاء األصول واملركزيات -مغالطات التجانس السياسي والطبقي
املاورائية للسلطة الوضعية وتوزيعها عىل رغم املغانم التي ح َّققها منهج االختزال والتوحيد يف جمال
خمتلف اهليئات املدنية بالتساوي وبالتداول العلوم الرياضية والتجريبية ،إال أنَّه مل يكن جمدي ًا حيال ُّ
تنوع
الظواهر اإلنسانية واختالفها املذهل.
يف مسعى لتأمني سيولة احلريات الفردية من
خالل إرساء إتيقا تفاوضية وحوارية لطرائق التعسفي يف تطبيقاهتا االجتامعية
ُّ انتهت رهانات التوحيد
مستحدثة للعيش املشرتك والسياسية واالقتصادية والثقافية إىل الدخول يف تناقض داخيل مع
بشت هبا الربجوازية الصاعدة يف بداياهتا.الرهانات التعدُّ د َّية كام َّ
إذ كيف يمكن التوفيق من جهة بني مطلب «اخلضوع املتد ّبر» والعقالين لسلطة قوانني ومؤسسات صورية تزعم التعاطي مع رعاياها
بمطلق املساواة التي يضمنها الدستور ،ومن جهة أخرى َت ُّمل أعباء التفاوت الطبقي ،أي الالمساواة االقتصادية وقبوهلا باعتبارها «قدر ًا
كتب حتت ستار جهلنا به» ويف غفلة منَّا (وفق نظرية ستار اجلهل الرولزية) ،أي قبل أن نوجد يف هذا العامل؟ بعبارة أخرى :كيف تتالزم
ربر املساواة والال مساواة مع ًا؟
أي دستور بإمكانه أن ي ِّ
املساواة السياسية والالمساواة االقتصادية؟ ّ
ي ُّل هذا التناقض إال إذا أزحنا َو ْه َم «املساواة السياسية» التي تزعمها الليربالية لتخفي من ورائها تفاوتات اقتصادية وطبقية مذهلة.
ال ُ َ
كل فئات املجتمع ،بل نخبه.أن دستور الدولة الليربالية ومؤسساهتا ال يمثل َّ ويف هذه احلالة علينا أن نقبل َّ
إن مضامني هذا الدستور الذي يدَّ عي ضامن «املساواة» إنَّام يعكس باألساس مصالح النخب املالية والتكنوقراطية والسياسية التي َّ
صنعته عىل قياسها .ولنفرتض وجود هذا الدستور املزعوم ،لسائل أن يسأل متى اتفقت اجلامعات الكربى واملوسعة (ال أقصد اجلامعات
أو األحزاب السياسية الضيقة التي تزعم بدورها َّأنا متثل املجتمع ككل) عىل صياغة دستور يستجيب بالفعل لتنوع كياناهتا وتقاليدها،
وال يرغمها عىل اخلضوع القرسي لسلطة األغلبية املزعومة؟ هل يكون هذا االتفاق افرتاضي ًا فحسب عىل شاكلة العقد االجتامعي
أي مدى املتخ َّيل؟ أليست االفرتاضات شك ً
ال من أشكال التربير اإليديولوجي ،ال س َّيام عندما يتعلق األمر باخليارات السياسية؟ وإىل ِّ
ُرسخ قواعد اللعبة الديمقراطية عىل خلفية بعض االفرتاضات اخليالية من قبيل «العقد االجتامعي» و«الوضعية البدئية» يصح أن ن ِّ
ُّ
و«ستار اجلهل»؟
ُرشع هلا األنظمة الديمقراطية تبدو غري ممكنة عملي ًا النخرام التوازن االقتصادي بني األفراد واجلامعات .إذ كيف إن التعدُّ دية التي ت ِّ َّ
واملهمشني أن ينخرطوا
ّ يمكن أن تنجح التعدُّ د َّية الديمقراطية يف إطار من التفاوتات االقتصادية الصارخة؟ وهل بإمكان اجلائعني والعراة
يف لعبة التعدُّ د َّية الليربال َّية؟ أمل ْ يعد العمل السيايس وقف ًا عىل تقنيي املال والسياسة؟
أن التعدُّ د َّية الليربالية العاجزة بنيوي ًا عن حمو الفوارق االقتصادية بشكل جذري ،إنَّام متارس تعدُّ د َّية ألواهنا ،وتصنع من
يبدو إذن َّ
تنوع ًا ،تومهنا بأنَّه تناقض واختالف ،يف حني تعمل باسم حق «االختالف» نفسه عىل طمس التعدُّ د َّيات احلقيقية التي تناقضاهتا الداخلية ُّ
املكونة للنسيج االجتامعي ،بل أيض ًا ُت ِّرر العملية
املرتسب يف أعامق اجلامعات ِّ
ِّ من شأهنا ليس فقط أن تفتح آفاقنا عىل الزخم التكويني
اإلنتاجية واالستهالكية من هشاشتهام ومتنحهام آفاق ًا أرحب.
جسدته حركة التوحيد الكربى ملختلف فروع العلوم املتنافرة فيام مىض ،وال س َّيام العلوم الرياضية من الواضح َّ
أن الفتح العلمي الذي َّ
والتجريبية ،والذي نتج عنه توحيد املادة األرضية باملادة الساموية ،وجتاوز نظرية االنشطار األرسطي إىل عاملني متفاضلني بالقيمة
غي جذري ًا رؤية اإلنسان احلديث لنفسه وللكون .فالثنائيات املتفاضلة واجلامدة يف سالمل قيمية وأنطولوجية ثابتة ُر َّدت وباملاهية ،قد َّ
بفضل بعض املهارات االختزالية املنطقية إىل العلم ليقوهلا بلغته الرمزية يف بعض السالسل الرياضية ،واقتحمت بالتايل جمال البداهة
والوضوح الذهنيني .استهدفت هذه احلركة التوحيدية واالختزالية للبنية التكوينية للكون حتييد الطبيعة عن مشاعر اإلنسان وصفاته
جمرد مادة ممتدَّ ة ،عاطلة
(نقد النزعة األنثروبومورفية) ،وبالتايل تربير سلطانه املرتقب عليها ،لكوهنا مل تعد مستودع أرساره ومشاعره ،بل َّ
ودون أعامق ،أي أصبحت موضوع ًا لالستثامر والتأليه وحسب.
رهان التوحيد والتحييد الطبيعيني هذا توحيدات وحتييدات أخرى يف املستويات السياسية واالجتامعية واألخالقية
َ سيرتتَّب عن
عب عنه بالدعوة إىل جتاوز مجيع أشكال الوالءات ما قبل املدنية ،والدخول يف منظومة املواطنة
واالقتصادية :فالتوحيد يف املستوى األول َّ
تتوحد حتت رايتها العالقات الدموية والعرقية والدينية .وهنا سيضطلع التوحيد بدور التحييد ،بمعنى َّ
أن العالقات الدموية لن التي َّ
تتدخل من هنا فصاعد ًا يف فضاء املواطنة.
أ َّما يف املستوى الثاين فالتوحيد يتمثل يف الدعوات الليربالية إىل التخيل عن «حرب املعاين» ورصاع اإليديولوجيات لفسح املجال
إليديولوجيا أحادية من شأهنا أن تقود املجتمع إىل التجانس «املعايش» واألخالقي الذي «ستقفل» به الليربالية الغربية واألمريكية
التاريخ حسب زعم فرانسيس فوكوياما.13
أ َّما التحييد فقد حتقق بالفعل عىل أرض الواقع من خالل نظرية «حيادية الدولة» عن التدخل يف االختيارات الفردية لنمط احلياة
اجليدة .يتمثل التوحيد والتحييد يف املستوى االقتصادي أخري ًا يف املركزة العالية والقطبية والتكتل التي شهدهتا حرك َّية األموال واألرباح
إن نتيجة ر ِّد ك ُِّل العقول واملعقوالت إىل العقل احلسايب وإلغاء ما عداه ،هو مركزة املال والنفوذ بيد النخبة املالية والتكنوقراطية.
واملصالحَّ .
تعمل هذه النخب عىل صبغ ألوان املجتمع الذي تديره بلوهنا األحادي الذي ِّ
تلخصه ثنائية اإلنتاج واالستهالك ،كام ال تفتأ يف التبشري
تفرده
حل بحلول قيم جمتمع العمل واالستهالك .يف هذا املستوى حقق العقل الذاتوي ُّ بأن عهد السعادة اجلامعية والرفاهية الدائمة قد َّ
َّ
ثمة إلغاء الرتاتببتعميم االقتصادي – كنشاط -عىل مجيع الطبقات ووقف السيايس ـ كنشاط -عىل النخب التقنية والقانونية .ومن َّ
القديم بني حياة العمل وحياة الدير والتأ ُّمل.
ظل احتكار آليات احلكم ومركزة جتانست الطبقات االجتامعية يف احلياة االقتصادية ،ومل تتجانس يف مستوى احلياة السياسية ،بل َّ
دواليبه يف األنظمة الديمقراطية كام يف األنظمة االستبدادية واقعة مل تتغري إال أشكاهلا .وقد أطلق علامء االجتامع السيايس عىل هذه
أن أسباب الرفاهية املادية مل تعد حكر ًا عىل الطبقات األرستقراطية البائدة ،بل
الظاهرة اصطالح «املثلنة» االستهالكية .ويعني هذا َّ
كل واحد ،وأن يسعى بمفرده ويبتكر أضحت إمكانات متوفرة للجميع دون متييز طبقي أو عرقي أو ديني أو عنرصي ،رشيطة أن يعمل ُّ
احللول التي متكنه من استجالب هذه الرفاهية.
أن الشكل «الكتلوي» ( )Massiveللتعايش االجتامعي يف ظاهره عنوان الوحدة والتامسك االجتامعيني بامتياز .لك َّن الغريب يبدو إذن َّ
ُفس هذه املفارقة؟
أن شكل الرفاهية الكتلوي هذا خيفي يف مضامينه الواقعية نزعة فردانية موغلة يف فردانيتها :كيف ن َِّّ
ترضب هذه املفارقة بجذورها يف عمق الفلسفة الليربالية ،وبالتحديد يف متثلها لصورة الفرد وملختلف ارتباطاته باجلسم االجتامعي
والتارخيي والسيايس .ال تكمن هذه املفارقة البنيوية كام يذهب إىل ذلك التحليل املاركيس يف التناقض املميت بني الطابع الفردي
`histoire et le dernier homme, Flammarion, Paris, 1992.ـ13 . Fukuyama, Francis, La fin de l
مل يعد غريبا يف املجتمعات التعددية أن يتحرر للملكية والطابع االجتامعي لإلنتاج ـ وإن كان هذا العامل حاس ًام
األفراد من والءاهتم للمجتمع وللدولة األبوية يف مستوى التشخيص االقتصادي ،بل وبشكل أكثر عمومية يف
نكران التعدُّ د َّية الطبيعية -التكوينية للحياة ،والتعاطي معها
وللمعتقدات الدينية ،لكوهنا تعبريات تسلطية
بشكل انتقائي ونفعي وفردي.
مارست عليهم عنف ًا مادي ًا ورمزي ًا أعاق طوي ً
ال
عقوهلم وأجسادهم ،لكن اخلطورة تكمن هنا تعاين الفلسفة الليربالية من أزمة بنيوية عميقة ،تتصل ليس
يف تشظي احلقائق وتكثرها بحسب كل فرد فقط باجلوانب االقتصادية والسياسية ،بل ترضب بجذورها يف
االختيارات األنطولوجية .لكن ألسنا هنا عىل شفري تناقض غري
مترد ًا عىل ك ُِّل األنطولوجيات اجلاهزة ،تلك التي تُفرض عىل املجتمعات مستساغ بني «الليربالية» «واألنطولوجيا»؟ أليست الليربالية ُّ
بوصفها رؤية ثابتة ويف بعض األحيان مقدَّ سة للعامل؟ بىل ،قد يكون هذا التسويغ يف عدم رشعية الوصل بني هاتني الرؤيتني للعامل وجيه ًا
أن الليربالية تستبطن بوعي أو بغري وعي تصور ًا أنطولوجي ًا وضعي ًا
من منظور وضعي رصف ،لكنَّه قد حيظى بمعقولية معينة حني نعلم َّ
متعال وغري ملزم لإلنسان الوضعي .لك َّن مفكرهيا خيشون اخلوض جمدد ًا يف هذه األرضية ،ويفضلون «تعليق احلكم» حول ٍ بمعنى غري
هذا املبحث املوغل يف امليتافيزيقا.
أن الروح الوضعية هي التي تتحكم يف مناهج البحث الليربايل ،وهي التي ُتدِّ د جماالت االهتامم يف عالقاهتا بام هو قابل وعليه ندرك َّ
وحمل خالف دائم ،فهي لن جتد أن مباحث األنطولوجيا وامليتافيزيقا أضحت موضوعات كيفية ومتعالية َّ للتقول والتعبري والتكميم .وبام َّ
ُّ
هلا موطأ قدم يف الرصح الفكري الليربايل.
هلذا ال جيد جون رولز حرج ًا يف االشتغال عىل مصادرات جاهزة من قبيل «ستار اجلهل» ( )Voile d`ignoranceو«الوضعية البدئية»
( )Position originelleو«العقد االجتامعي» ،14من أجل تسويغ وضعيات التفاوت التي ُرسمت لنا يف العامل «الالمرئي».
14 -John Rawls, La structure de base comme objet «, in Justice et démocratie, o.cit. p. 55 et J. 18. Rawls, Théorie de la justice, Trad .fr.
Catherine Audard, Paris, Seuil, 1987, p. 38.
15 . Charles Taylor, Les Sources du moi, la formation de l›identité moderne, par Charlotte Melançon, Paris, Seuil1998 .p.121.
ُيعترب الرباديغم الترشيعي األخالقي الكانطي املثال الذي استوحت منه الليربالية املعارصة والس َّيام هابرماس ورولز طرائقهام الصور َّية.
املرشع
مهمة ِّ
احلل األمثل حلرب املعاين التي كانت تغذهيا أخالقيات السعادة املتناحرة ،بحيث مل تعد َّ لقد مثلت القواعد الرشطية والكُل َّية َّ
حتديد نمط أخالقي مجاعي ملزم للسعادة كام كان يفعل من قبل ،بل اقترص دوره عىل وضع ترشيعات وقواعد عا َّمة تتعاىل عىل الزمان
ال غري ملزم للعمل .وبقدر ما اقرتبت من النمط الترشيعي احلقوقي واملكان وعىل امليوالت الفردية الظرفية .باتت األخالق املعارصة دلي ً
وعاضدته ،بقدر ما تناءت عن أسلوب الترشيع الديني والفلسفي املوسوم بالنسقية واإللزامية ،والذي منه استقت األنظمة األوتوقراطية
والكليانية إيديولوجياهتا اهليمنية.
أن الطريقة التي تعمل وفقها النزعة الصور َّية السياسية واإلتيقية بمنحها اإلجراء سلطة القانون الكيل الذي ختضع حتت من الواضح َّ
كل األوضاع ،هي ذاهتا الطريقة املتوخاة يف خمتلف العقالنيات التجريبية والرياضية .وتُعرف هذه الطريقة كل اجلزئيات ويف ِّطائلته ُّ
بـ«األكسمة» .وهي تفيد هنا منح بعض البدهيات واملصادرات الرياضية املتفق عليها دون حجاج سلطة منهجية عىل خمتلف مراحل
أن العلوم السياسية واإلتيقية مل تفلت بدورها من تأثريات العلوم الطبيعية ،وال س َّيام يف التميش احلجاجي .يكشف هذا كام ب َّينا سابق ًا َّ
فإن اإلجرائيات اإلبستمولوجية املتوخاة يف العلوم الطبيعية وأعني هبا :التعميم َّية مستوى اإلجرائيات اإلبستمولوجية .وكام نالحظ َّ
واالختزال َّية والنزعة الصور َّية واألكسيوم َّية ،هي بذاهتا املط َّبقة عىل العلوم السياس َّية ،وخاصة األنغلوسكسون َّية (حالة الواليات املتحدة
وكندا) ،حيث هتيمن املدارس الوظيفية والسلوكية واإلحصائية والتحليلية عىل خمتلف العلوم اإلنسانية واالجتامعية.
من أبرز تداعيات هذه اهليمنة هو التفكك الذي تعاين منه النظرية الليربالية بني الشكل واملضمون .وهو تفكك يمنح بموجبه الشكل
إن املضمون املتنازع عليه ال خيرج عن إطار ما هو إتيقي وسيايس ،فقد بات حتييد هذين أي اإلجراء مطلق النفوذ عىل املضمون .وحيث َّ
الرهان الليربايل بات منص َّب ًا عىل إفراغ املبحثني ،بل وفصلهام عن بعضهام بعض ًا ،من مستلزمات الطريقة الصور َّية .ويفهم من هذا َّ
أن ِّ
السيايس واإلتيقي من داللتهام التحريضية والثورية بحجة وضع حدٍّ «حلرب اآلهلة» .وقد ُط ِّبق هذا الرهان عىل مرحلتني :تعلقت َّ
مهة
حترر مطلق لقوانني السوق األوىل بفصل اإلتيقي عن السيايس ،وتعلقت الثانية بفك رباط السيايس عن االقتصادي وما أعقبه من ُّ
وهيمنة قيم اإلنتاج واالستهالك ،وما ترتَّب عنه من تراجع السيايس وأفول املجال العمومي للمناقشة.
أي جمال لإلتيقي والسيايس .لذلك انسحب األول إىل داخلية كل قلب عىل واخلاصة َّ
َّ مل ترتك إمربيالية االقتصادي عىل احلياة العا َّمة
حدة .ونطلق عىل هذا االنسحاب «التذييت اإلتيقي» .أ َّما مصري السيايس فهو ليس أفضل حاالً ،ألنَّه سقط بأيدي النخب التكنوقراطية،
وكأن
ِّ فتحولت القرارات السياسية بموجب ذلك إىل ترشيعات فوقية ال تفتأ يف تعزيز احلرية الفوضوية لقوانني السوق الرأساملية. َّ
بالسيايس (الرجل) مل يعد له من دور سوى أن يكون اخلادم الويف لس ِّيده وويل نعمته االقتصادي (أي من يمتلك املال) ،ونطلق عىل هذا
السقوط «التقننة» السياسية.
الخاتمـة
منذ قيامها ما تزال الليربالية الكالسيكية واجلديدة تعاين من تناقضات بنيوية ال يمكنها اخلالص منها سوى بإلغاء ذاهتا وإعالن موهتا
أي بديل جمتمعي قادر عىل إدارة التنوع واالختالف الالمتناهي لشعوب األرض؟ هل الرباديغم الليربايل َقدَ ٌر ال يمكننا الطوعي .ولك ْن ُّ
اخلالص منه ،بل فقط تعديله وجتديده يف أقىص احلاالت حتى يتالءم مع صريورات احلركة العاملية؟ هل يمكننا أن نصدِّ ق َّ
أن تاريخ
اإلنسانية سي ُقفل مع التشكيلة الليربالية الراهنة مثلام زعم هيغل ثم فوكوياما؟
شك َّ
أن اإلنسانية قادرة عىل جتاوز هذا العقم النظري والسيايس واالقتصادي الذي تر َّدت فيه بفعل االنبعاثات املتكررة للنظام ال َّ
الرأساميل من رماده ،ويف املقابل «موت» منافسيه وأفول وعودهم يف حتقيق جمتمع اشرتاكي ثم شيوعي أكثر عدالً وإنسانية.
اعتادت الدراسات ا ُملقارنة يف معظم املجاالت املعرف َّية عىل أن تقارن بني موقفني متباينني أو بني ُمفكِّرين ينطلقان من منطلقات
أن هذه املقالة تتناول موقف اثنني من املفكرين ينتميان ملدرسة واحدة وانطلقا من فكرة واحدة؛ حيث ُيعدُّ األول خمتلفة ومتعارضة .إال َّ
ال منهام قد انتهى هناية خمتلفة عن بمثابة األستاذ ا ُمل ِلهم للثاين ،وكالمها انطلق من فكرة «احلاكم َّية» واعتمد عليها يف بناء فكره .إال َّ
أن ُك ً
كل منهام؛ حيث يأخذ الثاين الفكرة من املحرك األسايس ألفكار ٍّ
ِّ اآلخر ،وهنا تكمن الطرافة؛ حيث تبدو لعبة اإليديولوجيات هي
تغي الظروف السياس َّية واألحوال اإلقليم َّية ،يف حني يتشبث الثاين هبا َأ َّيام تش ُّبث حتى النهاية. األول ،ويتنازل األول عن فكرته بعد ُّ
فإذا كان أبو األعىل املودودي ( )1979 -1903قد قال بجاهلية املجتمع وشاركه يف ذلك س ّيد قطب ( ،)1966-1906كام شاركه يف َّ
أن
أن املودودي تراجع عن موقفه املبادئ السياس َّية الغرب َّية لن حتقق العدالة املنشودة ،وإنَّام تتحقق بالرشائع الساموية وحاكم َّية اهلل ،إال َّ
أن اإلسالم بإرسائه مبدأ الشورى هو دي ٌن ديمقراطي ،...وأعلن حتالفه مع (فاطمة جناح) بعد استقالل باكستان عام ،1947ورأى َّ
أخت الرئيس الباكستاين السابق يف الكتلة الربملان َّية املعارضة ضدَّ احلكم العسكري ،بل قام برتشيحه هلذه املرأة حلكم باكستان ،وقبوله
بالتحالف مع العلامنيني من خالل انضامم حزبه إىل «جبهة الدفاع عن باكستان الديمقراطية» والتي تطالب باحلكم الديمقراطي ورفض
كل ذلك يؤكد دعوته إىل رضورة إعطاء الديمقراطية -كآلية لتحقيق العدالة -فرصة للتك ُّيف والنجاح احلكم العسكري االستبداديُّ .
يف البلدان اإلسالمية ،رشيطة أن ختضع ملفهوم التوحيد وال ختالف ثوابت الرشيعة ومقاصدها .يف حني رفض س ّيد قطب مصطلح
الديمقراطية قلب ًا وقالب ًا ،معلن ًا فشله يف الغرب فكيف له أن ينجح يف بالدنا؟
وخاصة فيام يتعلق بمصطلحي َّ ولك َّن األمر ليس هبذه البساطة ،وإنَّام حيتاج لرسد الكثري من التفاصيل التي متنع االلتباس والغموض،
أسس املودودي «اجلامعة اإلسالمية» يف اهلند أهم من ِّظري مجاعات اإلسالم السيايس عىل اإلطالق؛ فقد َّ العدالة والديمقراطية عند اثنني من ِّ
عام 1941مَّ ،
وظل يقودها ما يزيد عن ثالثني عام ًا ،وتُعدُّ هذه اجلامعة أكرب مجاعات اإلسالم السيايس بعد مجاعة اإلخوان املسلمني .بينام ُيعدُّ
جل اجلامعات اإلسالمية يف مرص وخارجها. إن عىل أفكاره قامت ُّ
س ّيد قطب املن ِّظر األول جلامعة اإلخوان املسلمني ،...بل يمكن القول َّ
* أكادميي من مرص
- 1غيضان السيد عيل ،العدالة بني الرشائع الساموية والقوانني الوضعية ،مجلة الثقافة الجديدة ،القاهرة ،الهيئة العا َّمة لقصور الثقافة ،العدد ،311أغسطس ،2016ص .127
أهم اآلل َّيات التي شهدها تاريخ البرشية لتحقيق العدالة ،وقد نالت من الشهرة واالنتشار ما مل ينله نظام
أ َّما الديمقراطية فهي إحدى ِّ
آخر ،وقد القت شيوع ًا و ُاختذت شعار ًا ألنظمة يف احلكم ختتلف فيام بينها اختالف ًا شديد ًا من حيث الشكل واألسلوب؛ فامللك َّية يف
كل هذه األشكال بريطانيا ،واجلمهور َّية يف الواليات املتحدة ،والشيوع َّية يف االحتاد السوفيتي ،وحكم الفرد يف مجهورية فرنسا اخلامسةُّ ،
إن الديمقراطية أصبحت اليوم شعار مجيع املختلفة ألنظمة احلكم ،وغريها من األنظمة املثيلة ،تتخذ الديمقراطية واجهة وشعار ًا .بل َّ
ال ما ،أو قرار ًا أو نظام ًا هو ديمقراطي ليكون ذلك حافز ًا إىل حسن تق ُّبله والرضا عنه. دول العامل بال استثناء ،ويكفي أن تقول َّ
إن عم ً
أن الديمقراط َّية تعدَّ ت النظام السيايس لتغطي كثري ًا من جماالت النشاط البرشي .فرجال االقتصاد ُيدِّ ثونك عن رضورة حتقيق كام َّ
أن «الديمقراطية االجتامعية» أساس ركني من أسس «الديمقراطية االقتصادية» بني أبناء الشعب الواحد ،وعلامء االجتامع يرون َّ
إن فالن ًا من الناس ديمقراطي النزعة ،وهو يقصد أنَّه ،برصف النظر عن مركزه وثرائه ،نبيل املجتمع الصالح ،والرجل العادي يقول لك َّ
األخالق ،ودود ،رسيع االختالط بالناس عىل اختالف أنامطهم ونامذجهم .
2
والعدالة لغ ًة من العدل ،والعدل هو اإلنصاف؛ وهو إعطاء املرء ما له وأخذ ما عليه .والعدالة هي إحدى الفضائل التي قال هبا
الفالسفة منذ القديم ،وهي الشجاعة ،والع َّفة ،والعدالة . 3والعدالة هي االعتدال واالستقامة وامليل إىل احلق ،4وعند أهل الرشع هي
االنزجار عن املحظورات الدينية؛ وعند الفالسفة هي ملكة يف النفس متنعها من الرذائل؛ وهي املبدأ الطبيعي أو املثايل أو الوضعي الذي
ُيدِّ د معنى احلق ،فإذا كان تعلقها باليشء املطابق للحق دلت عىل املساواة ،وإذا كانت متعلقة بالفعل كانت من الفضائل ،ويف العدالة
التوسط بني اإلفراط والتفريط ،وأساسها املساواة ،وجوهرها االعتدال والتوازن .والعدالة يف ُّ كل الفضائل .5وقيل العدالة هيتتمثل ُّ
االقتصاد هي عدالة املعاوضة وتتعلق بتبادل املنافع؛ وهي عدالة التوزيع ،وهي من مطالب العدالة االجتامعية ،وهي املعن َّية باملساواة بني
املواطنني أمام القانون ،وإتاحة فرص التعليم والعالج واإلسكان والتقايض والتوظيف للجميع؛ وهي الضامن للحر َّيات وللحدِّ من
الفوارق االجتامعية. 6
تم تعريبها من كلمة ( ،)Democracyوهي كلمة أصلها يوناين ،ومؤلفة من كلمتني« :ديموس أ َّما الديمقراط َّية فهي كلمة أعجم َّية َّ
( )Δήμοςأو ()Demosوتعني الشعب» ،والثانية «كراتوس( )cratosأو ( )Κρατίαأو ( )kratiaوتعني السلطة أو احلكم» ،ومؤداها
أن الشعب يتوىل حكم نفسه ،وأنَّه مصدر السلطات ،و َّملا كان يتعذر عىل الشعب أن يامرس احلكم مبارشةَّ ،
فإن سلطته تتجىل يف انتخاب َّ
- 2عبدالفتاح حسنني العدوي ،الدميقراطية وفكرة الدولة ،القاهرة ،الهيئة العامة لقصور الثقافة ،الطبعة الثانية ،2011 ،ص .18-17
- 3املعجم الوجيز ،مجمع اللغة العربية ،تصدير إبراهيم مدكور ،القاهرة ،الهيئة العامة لشؤون املطابع األمريية ،2005 ،ص .409
- 4مراد وهبة ،املعجم الفلسفي ،القاهرة ،دار قباء للطباعة والنرش والتوزيع ،1998 ،ص.444
-5عبد املنعم الحفني ،املعجم الشامل ملصطلحات الفلسفة ،القاهرة ،مكتبة مدبويل ،الطبعة الثالثة ،2000 ،ص .522
- 6املرجع السابق ،املوضع نفسه.
الرسي ،ويف فرتات زمنية حمدَّ دة ،ليتولوا مزاولة احلكم خالل مدَّ ة معينة ،وفق ًا ألحكام الدستور .عىل أن يراقبهم ممثلني له باالقرتاع العام ِّ
فإن حكومة الشعب أن إمجاع الشعب مستحيل ،خاصة يف القضايا السياس َّيةَّ ، بعد اختيارهم ،وال س َّيام من يقوم منهم بالترشيع؛ وبام َّ
أهم التعريفات وأشهرها َّأنا «نسق سيايس قائم عىل مبدأ ممارسة احلكم من خالل أصبحت تعني علمي ًا «حكومة األغلبية» .ومن ِّ
7
أن احلكومة تستمدُّ رشعيتها ـ بصورة مبارشة أو غري مبارشة -من إرادة غالبية أعضاء املجتمع أو من موافقة املحكومني وتقبلهم له ،ذلك َّ
املجتمع بأكمله» .8بحيث يتمكَّن املواطنون بالدولة من املشاركة بحر َّية يف القرارات التي تؤثر يف حياهتم الفرد َّية واجلامع َّية.
كل ظلم واستبداد قد حييط بالبرشية ،وهذا الظلم الذي يمأل العامل هنا أو هناك هو نتيجة النتشار ثم يصبح تأليه البرش هو رأس ِّ ومن َّ
رب العاملني .ولذلك يصبح الدواء هو أن يكفر اإلنسان األرباب واآلهلة البرش َّية يف ُج ِّل األقطار بدالً من اإلقرار بالوحدانية هلل ِّ
وخيصه باأللوه َّية والربوب َّية .وأن تُنزع مجيع سلطات األمر والترشيع من أيديّ بالطواغيت مجيع ًا ،ويؤمن باهلل العزيز الذي ال إله إال هو،
البرش منفردين وجمتمعني ،وال يؤذن ألحد منهم أن ينفذ أمره يف برش مثله فيطيعوه ،أو ليس َّن قانون ًا هلم فينقادوا له ويتبعوهَّ ،
فإن ذلك أمر
خمتص باهلل وحده ،ال يشاركه فيه أحد غريه.11 ٌّ
أن احلاكم َّية ( )Sovereigntyهلل وحده ،وبيده الترشيع وليس ألحد،... وهكذا ترتسم معامل العدالة عند املودودي ،والتي تتمثل يف َّ
فليس لفرد أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنني يف الدولة نصيب من احلاكمية ،وليس ألحد من دون اهلل يشء من أمر الترشيع ،واملسلمون
رشعوا قانون ًا واحد ًا ،وال يقدروا أن يغريوا شيئ ًا ممَّا رشع اهلل هلمَّ ،
وأن الدولة مجيع ًا ،ولو كان بعضهم لبعض ظهري ًا ،ال يستطيعون أن ُي ِّ
كل ظلم؛كل عدل وخيتفي ُّ املرشع من قبل اهلل تعاىل .وإنَّه بتطبيق الرشيعة الر َّبان َّية يتحقق ُّؤسس بنياهنا إال عىل القانون َّ اإلسالمية ال ُي َّ
ولذلك بعث اهلل الرسل ليقيموا يف العامل نظام العدالة االجتامعية ( )Social Justiceعىل أساس ما أنزله عليهم من البينات ،وما أنعم
عليهم من كتابه من امليزان ،أي نظام احلياة اإلنسان َّية العادل.12
- 7قاموس املصطلحات السياسية ،تقديم سامح فوزي ،القاهرة ،الهيئة العامة لقصور الثقافة ،الطبعة األوىل ،2012 ،ص .55
- 8محمد عيل محمد ،عيل عبد املعطي محمد ،السياسة بني النظرية والتطبيق ،اإلسكندرية ،دار املعرفة الجامعية ،1997 ،ص .328
- 9أبو األعىل املودودي ،نظرية اإلسالم السياسية ،تقديم محمد عاصم الحداد ،دار الفكر ،الطبعة الثالثة ،1967 ،ص .19
- 10املصدر السابق ،ص .23
- 11املصدر السابق ،ص .27
- 12املصدر السابق ،ص .40
إن العدالة ال يمكن ذهب املودودي إىل القول َّ ثم تصبح غاية الدولة عند املودودي هي العدالة التي تتمثل ومن َّ
وإن
أن تقوم عىل أساس القوانني الوضع َّية َّ ، يف منع العدوان بني الناس ،واحلفاظ عىل حريتهم ،والدفاع عن
الوطن وحتقيق نظام العدالة االجتامع َّية ،والنهي عن كافة املنكرات
التعاليم السامو َّية مل ترتك كبرية وال صغرية إال
الرش من جذورها ،والدعوة إىل التعاون عىل واجتثاث شجرة ِّ
أحصتها ،فاهلل عليم بأرسار الفطرة البرش َّية وال رب والتقوى .والتأكيد عىل احلر َّية الفرد َّية ،والبعد عن االستبداد
ال ِّ
ختفى عليه أهواء الناس ورشورهم ،وقد بسط والطغيان بكافة صوره وأشكاله.
للناس تعاليمه ،وال ُب ْعدُ عن هذه التعاليم هو ما
العدالة عند س ِّيد قطب
ُيولد الظلم والرش
التصور
ُّ أ َّما سيد قطب فقد نظر إىل قض َّية العدالة من خالل
اإلسالمي الشامل ،عن اإللوه َّية والكون واحلياة واإلنسان،
التصور الشامل؛ فاإلسالم حينام توىل تنظيم مناحي احلياة اإلنسان َّية ،كام يقول سيد قطب ُّ ورفض أن تُعالج بطريقة مفارقة بعيدة عن هذا
تصور ًا كُل َّي ًا متكام ً
ال عن األلوه َّية والكون واحلياة واإلنسان؛ ُير ُّد إليه «مل يعالج نواحيها جزاف ًا ،ومل يتناوهلا أجزاء وتفاريق .ذلك َّ
أن له ُّ
كافة الفروع والتفصيالت؛ ويربط إليه نظرياته مجيع ًا وترشيعاته وحدوده ،وعباداته ومعامالته؛ فيصدر فيها كلها عن هذا التصور الشامل
كل مشكلة وحدها يف عزلة عن سائر املشكالت».13 لكل حالة؛ وال يعالج ّ
املتكامل ،وال يرجتل الرأي ِّ
أن اإلسالم قد فرض قواعد العدالة االجتامعية ،فاملسلم ليس التصور الشامل ُيقدِّ م سيد قطب تصوره عن العدالة؛ فريى َّ ُّ ومن هذا
بحاجة إىل أن يناضل من أجلها شأن غريه من التصورات الشيوع َّية والقوم َّية ،فقد ضمن اإلسالم حقوق الفقراء يف أموال األغنياء،
لكل جوانب احلياة ومقوماهتا،كل يشء عدالة إنسانية ِّ
ثم يقول قطب« :فالعدالة يف اإلسالم هي قبل ِّ واعتنى بكافة صور العدالة .ومن َّ
جمرد عدالة اقتصادية حمدودة .وهي إذن تتناول مجيع مظاهر احلياة وجوانب النشاط فيها ،كام تتناول الشعور والسلوك ،والضامئر وليست َّ
والوجدانات .والقيم التي تتناوهلا هذه العدالة ليست القيم االقتصادية وحدها ،وليست القيم املادية عىل وجه العموم ،إنَّام هي هذه
ممتزجة هبا القيم املعنو َّية والروح َّية مجيع ًا».14
بتحرر اإلنسان من الطواغيت ،واالنصياع للتعاليم التي تتم ُّ إذن؛ فالعدالة يف اإلسالم عدالة شاملة؛ اجتامع َّية ،ودول َّية ،وقانون َّيةُّ ،
جاءت هبا الرشيعة السامو َّية .فمن بغى وظلم وجانب العدل فقد خالف كلمة اهلل وعىل املسلمني أن يقاتلوا إلعالء كلمة اهلل ،وأن ير ُّدوا
الشاردين عنها إليها ،حتى لو امتشقوا احلسام يف وجوه الباغني .فالعدل املطلق ور ُّد البغي والعدوان هو كلمة اهلل التي جيب أن تعلو يف
فبدال من نضال اجلامهري الكادحة املحرومة من أجل قضية العدالة االجتامعية ،جيب عليها النضال من ثم ً كل مكان .ومن َّ
15 كل حال ويف ِِّّ
ثم يعلن ثورته عىل األوضاعأجل العودة إىل «احلاكم َّية هلل» ،وعندها لن تنال هذه اجلامهري عدالة واحدة ولكن ستنال عدالة شاملة .ومن َّ
«إن اإلسالم ليرصخ يف وجه الظلم االجتامعي واالسرتقاق اإلقطاعي ويمدُّ املكافحني هلذه القائمة وعىل نظام احلكم القائم؛ فيقولَّ :
بقوة ضخمة للكفاح والرصاع .وما من وضع اجتامعي هو أبعد عن روح اإلسالم من أوضاعنا القائمة» .فاإلسالم ـ عند
16
األوضاع َّ
سيد قطب ـ حرب عىل األوضاع الظاملة والسلطات الغاشمة ،ودعوة لتلك اجلامهري الكادحة املحرومة املغبونة يف قضيتها أن تتوىل
قضيتها بأيدهيا فال تركن إىل املحرتفني من رجال الدين الذين يقومون بتغرير اجلامهري وختديرها ،وال إىل املستهرتين واملنحلني فهم ال
- 13سيد قطب ،العدالة االجتامعية يف اإلسالم ،القاهرة ،دار الرشوق ،1995 ،ص .20
- 14املصدر السابق ،ص .26
- 15سيد قطب ،السالم العاملي واإلسالم ،القاهرة ،دار الرشوق ،الطبعة الثالثة عرشة /2001الطبعة الرابعة عرشة ،2006 ،ص .26
- 16سيد قطب ،معركة اإلسالم والرأساملية ،القاهرة ،دار الرشوق ،الطبعة الثالثة عرشة ،1993 ،ص .22
وأن عدمشوهون صورة احلكم اإلسالمي ويعملون عىل انقسام العامل إىل كتلتنيَّ ، يقدمون وال يؤخرون ،وال إىل الشيوعيني الذين ُي ِّ
االنضامم إىل الرشق يقوي من نفوذ الغرب .واحلقيقة َّ
أن اإلسالم نظام مستقل ال ينحاز إىل كتلة وال ينضم إىل معسكر .فال بدَّ لإلسالم أن
حيكم ،هذا هو الطريق ،هذا هو الطريق .17لينتهي إىل هدفه املنشود وهو تقويض مرشوع َّية احلكم النارصي بمرشوع َّية أكرب هي مرشوع َّية
الدين ،حيث تظهر االشرتاك َّية العرب َّية يف مواجهة اإلسالم ،ويستبدل قطب العدالة االجتامع َّية التي قام هبا عبد النارص يف اإلصالح
الزراعي والقضاء عىل اإلقطاع وجمانية التعليم ...إلخ ،بعدالة شاملة تشمل مجيع املجاالت تتحقق فور سيادة احلاكم َّية ،فال حكم إال هلل.
التمرد عىل احلكم اهلندوكي.
َّإنا اإليديولوج َّية نفسها التي انطلق منها سلفه املودودي يف ُّ
والديمقراط َّية عنده «عبارة عن منهاج للحكم ،تكون السلطة فيه للشعب مجيع ًا ،فال ُت َغ َّي فيه القوانني وال تُبدَّ ل إال برأي اجلمهور،
وكل ما مل تسوغه عقوهلم يرضب به ُعرض وال تُس ُّن إال حسب ما توحي إليهم عقوهلم .فال يتغري فيه من القانون إال ما ارتضته أنفسهم ُّ
احلائط وخيرج من الدستور».18
يصح إطالق كلمة ُّ أن هذه الديمقراط َّية هبذا املعنى وتلك اخلصوصية ليست من اإلسالم يف يشء ،وال ثم خيلص إىل َّ ومن َّ
الديمقراط َّية عىل نظام الدولة اإلسالم َّية« .فقد رأى املودودي َّ
أن احلاكم َّية البرش َّية التي تثمرها الديمقراط َّية واالنتخابات النياب َّية
أن الديمقراط َّية نقيض لإلسالم» .
19 حرم االنتخابات ،ورأى َّ هي كارثة عىل اإلسالم واملسلمني بشبه القارة اهلند َّية ،ولذلك فقد َّ
سوغ أسباب ُبعد الديمقراط َّية عن اإلسالم ،فقال« :فقوانني البالد ومبادئها وأنظمتها يف األخالق أو املدن َّية أو وراح املودودي ُي ِّ
االجتامع أو السياسة تأخذ صفة احلق وتصري صحيحة ما دامت تؤيد رغبات أكثرية األ َّمة ،وتأخذ صفة الباطل وتصري خطأ ما
دامت جتايف هذه الرغبات التي تتبع أهواء النفوس ومتيل معها .وهلذه األكثر َّية أن ت َِسن من القوانني ما تشاء وتلغي ما تشاء ،وعىل
فكل ما ساير أهواء األكثر َّية وماألها كان احلكومة التي متثلها أن تركز مجيع إمكانياهتا لتحقيق األماين القوم َّية .وخالصة القولُّ :
وكل ما جانب تلك األهواء وجافاها كان حمض رش ،ولو كان فيه اخلري خري ًا وحق ًا وعدالً ولو كان يف الواقع رش ًا وباط ً
ال وظل ًامُّ ،
العميم».20
فتغي فيها ما تشاء وتبدِّ ل منها وفق األهواء والرغبات ال وهكذا تتالعب األكثر َّية -من وجهة نظر املودودي -بالقوانني واألنظمةِّ ،
وفق قواعد احلق الثابت التي ال تتغري وال تتبدل .و ُيعدُّ هذا جمافي ًا متام ًا لروح اإلسالم الذي به ثوابت ال تتغري ،...فامذا لو اجتمع رأي
األكثر َّية عىل إباحة الزنى؟ ففي الدولة الديمقراط َّية يصبح مباح ًا .لك َّن حتريم الزنى ثابت يف الرشيعة اإلسالم َّية وال خيضع ألهواء أو
ألن للديمقراط َّية قيود ًا
وأن هذا الفهم ُيعدُّ مغلوط ًا؛ َّ
ميول البرش أو لعدد املؤيدين أو املعارضني .ولك َّن هذا يف احلقيقة ُيعدُّ جمافي ًا للحقيقةَّ ،
- 17حسن حنفي ،الدين والثورة ج ،5الحركات الدينية املعارصة ،القاهرة ،مكتبة مدبويل ،1988 ،ص .203
- 18املودودي ،نظرية اإلسالم السياسية ،ص .30
- 19حاتم صادق ،أبو األعىل املودودي األب ال ُّروحي للجامعات اإلسالمية ،مجلة الثقافة الجديدة ،الهيئة العامة لقصور الثقافة ،القاهرة ،العدد 289أكتوبر ،2014ص .40
- 20أبو األعىل املودودي ،اإلسالم واملدنية الحديثة ،منرب التوحيد والجهاد ،ص .10-9عىل الرابط اإللكرتوين التايل:
-http://3almnow.blogspot.com.eg/201510//blog-post_5746.html
أن احلكومة مقيدة أخالقي ًا بالعمل لصالح األ َّمة .فاملبادئ األخالق َّية قيد ال سبيل إىل
من أمهها املحافظة عىل املطالب األخالق َّية ،بمعنى َّ
إنكاره عىل سيادة القانون.21
وتغي الوضع بعد ما كان املسلمون أقل َّية ال تتعدى نسبتهم ولكن بعد أن استقلت باكستان وأصبحت دولة ذات سيادة إسالم َّيةَّ ،
ُّ
يشك %25من السكان ،وكانت احلاكم َّية البرش َّية يف ذلك الوقت إ َّما سلطة االستعامر اإلنجليزي أو السلطة اهلندوك َّية التي ال
تغي املوقف من الديمقراط َّية ،وساهم املودودي يف االنتخابات النياب َّية؛املودودي يف كفرمها مع ًا ،ففي باكستان ذات األغلب َّية املسلمة َّ
ألن احلاكم َّية البرش َّية هنا ستكون حمكومة بحدود الرشيعة اإلسالم َّية وثوابتها ومقاصدها ،وبدأ املودودي يف هذا الواقع اجلديد َّ
يتحدَّ ث عن «الديمقراط َّية اإلسالم َّية» ،ويتغنَّى متباهي ًا وفخور ًا بـ«ديمقراطيتنا العريقة» ،وأكدَّ أنَّه ليس هناك عاقل يعارض هذه
الديمقراط َّية.23
تغي املوقف متام ًا من الزعم بأنَّه ال يصح إطالق كلمة الديمقراط َّية عىل نظام الدولة اإلسالم َّية ،إىل القول بالديمقراط َّية ومن هنا َّ
وأن إقامة الدولة اإلسالم َّية تكون فقط عن طريق اخليار الديمقراطي ،وعن طريق االنتخابات العا َّمة ،ولذلك يدعو اإلسالم َّيةَّ ،
املودودي احلكَّام إىل مراجعة أنفسهم وانتهاج الديمقراط َّية االنتخاب َّية منهج ًا يف احلكم .
24
ولكنَّه قطع ًا ال يقصد الديمقراط َّية الليربال َّية ،وإنَّام يعني الديمقراط َّية االنتخاب َّية التي تفرز اخليار الشعبي املطلوب ،بمعنى :ما هي
إن املودودي كان ينظر إىل الديمقراط َّية عىل َّأنا الطريق الفضىل إلدارة الرصاع هو َّية الدولة التي يريدها الشعب؟ من هنا يمكن القولَّ :
الداخيل والفصل بني القوى املتنازعة يف كثري من الدول اإلسالمية حول هو َّية الدولة وخياراهتا السياس َّية واالجتامع َّية ،لكنَّه يميز
الدولة اإلسالم َّية عىل َّأنا هلا سامت خمتلفة عن الصورة الديمقراط َّية السائدة يف الغرب ،ويرفض تلك الصورة ويعتربها من الصور
اجلاهل َّية.25
حتول املودودي من فكرة الرفض التام إىل قبول الديمقراط َّية يف صورهتا التي تتالءم مع املجتمعات والبيئات اإلسالم َّية ،تلك
وهكذا َّ
الصورة من الديمقراط َّية التي تنتج من خالل تربية الرأي العام يف البالد ،وتغيري مقاييس الناس يف انتخاهبم ملمثليهم ،وإصالح طرق
االنتخابات وتطهريها من اللصوص َّية والغش والتزوير ،ثم تسليم مقاليد احلكم والسلطة إىل رجال صاحلني ،حي ُّبون أن ينهضوا بنظام
البالد عىل أسس اإلسالم اخلالص.26
واحلاكم َّية عند س ّيد قطب كفكرة استلهمها من املودودي ،عقب الفتنة التي حدثت بني اإلخوان املسلمني ورجال الثورة ،وتشكلت
معاملها يف السجن احلريب؛ وقد وجد س ّيد قطب يف مفهوم احلاكم َّية «اخلالص إذا أحسن استعامله واستخدامه إلدارة الرصاع بني اجلامعة
وخصومها ،وتثوير املجتمع وجتييشه حلسم الرصاع لصالح الطرح اإلسالمي ضدَّ الطرح النارصي القومي .وبالفعل متكَّن قطب من
إعادة صياغة مفهوم احلاكم َّية حتى جعله منهج ًا عقد َّي ًا وشعار ًا سياس َّي ًا ،واستطاع الرجل أن يضفي الطابع العقدي عىل املفهوم ليكون
مرادف ًا لكلمة التوحيد وأصل اإليامن».27
كل األنظمة البرش َية بوصفها تأليه ًا للبرش ،وينعتها باخلرافة ،بل إنَّه يقولَ « :د ْعك من تلك اخلرافة التي تتحدث ثم يرفض َّ ومن َّ
عن «األ َّمة مصدر السلطات» ،وعن حق االنتخاب وحر َّية االختيارَّ ،إنا خرافة ال تستحق املناقشة» َّ .
وإن الديمقراط َّية وقوانينها 29
الوضع َّية كانت املالذ الوحيد لألوروبيني عندما مل جيدوا يف املسيح َّية ترشيع ًا للحياة ،وإنَّنا إذا قلدناهم يف ذلك فإنَّنا أشبه ما نكون
ألن اإلسالم قد صاغ نفسه يف عقيدة تتمثل يف رشيعة ،ورشيعة هي تفسري وحتقيق هلذه العقيدة ،ووحدة بالقرود الذين يقلدون بغري فهم؛ َّ
شعورية ترشيع َّية ،تتألف منها حياة واقعة ،ممثلة يف العقيدة والسلوك ،ويف العبادات واملعامالت ،ويف الرسائر واجلوارح ،ويف األفراد
واجلامعات.30
ألن «اجلاهلية هي عبودية الناس للناس :بترشيع بعض الناس درب من دروب اجلاهل َّية؛ َّ ثم َّقرر س ِّيد قطب َّ
أن الديمقراطية ٌ ومن َّ
يتم هبا هذا الترشيع .واإلسالم هو عبود َّية الناس هلل وحده بتلقيهم منه وحده للناس ما مل يأذن به اهلل ،كائنة ما كانت الصورة التي ُّ
والتحرر من عبود َّية العبيد» .
31
ُّ تصوراهتم وعقائدهم ورشائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم
- 27حاتم صادق ،أبو األعىل املودودي ،األب الروحي للجامعات اإلسالمية ،ص.39
- 28سيد قطب :معامل يف الطريق ،القاهرة ،دار الرشوق ،الطبعة الرشعية السادسة ،1979 ،ص .60-59
- 29سيد قطب :معركة اإلسالم والرأسامل َّية ،القاهرة ،دار الرشوق ،الطبعة الثالثة عرشة ،1993 ،ص .11
- 30املصدر السابق ،ص.57
- 31س َّيد قطب :معامل يف الطريق ،ص .149
كل من أيب األعىل املودودي وس ِّيد قطب؛ فعىل أساس احلاكم َّية حكم الرجالن عىل عال ٍّ
الس للدخول إىل َ إن احلاكم َّية هي كلمة ِّ َّ
املجتمع باجلاهل َّية ،وعىل أساسها وصام املجتمعات اإلسالم َّية بالكفر خلروجها عن تلك احلاكم َّية اإلهل َّية ،وعىل أساسها خاصم الرجالن
تصور ًا للعدالة بعيد ًا عن الديمقراط َّية.
الديمقراط َّية ،وبنيا ُّ
خيص مفهوم احلاكم َّية ،فقد استلهمت كل من املودودي وس ِّيد قطب فيام ُّ تأثرت اجلامعات اإلسالم َّية يف جمملها وسوادها األعظم بآراء ٍّ
مجاعة التكفري واهلجرة عن طريق زعيمها شكري مصطفى فكرة احلاكم َّية يف احلكم بجاهلية املجتمع ،كذلك األمر مع مجاعة اجلهاد ،فقد رأى
وسيوا عليهاأن األحكام التي حيتكم إليها املسلمون يف الوقت احلارض هي أحكام الكفار الذين وضعوها َّ حممد عبد السالم فرج َّ
زعيمها َّ
املسلمني .وكذلك فعلت مجاعة الناجني من النار يف استخدام مفهوم احلاكم َّية لتكفري املجتمع حكَّام ًا وحمكومني واعتباره جمتمع ًا جاهلي ًا،...
أن املودودي صاحب احلاكمية تراجع عنها بعد استقالل باكستان. وما زالت بعض اجلامعات املتطرفة تتبنَّى هذا الفهم ،ومل يدرك هؤالء َّ
إن االستخدام اإليديولوجي لفكرة احلاكم َّية يف مواجهة اخلصم السيايس ،هو الذي منع املودودي يف بداياته وس ِّيد قطب حتى هناياته، َّ
من أن ينتبها إىل أنَّه يمكن التوفيق بني الديمقراط َّية واإلسالم ،وكذلك منعت العديد من اجلامعات اإلسالم َّية التي انطلقت فكر َّي ًا من
وأن من يرفضها باسم اإلسالم فإنَّه يكون بعيد ًا إىل حدٍّ ما عن روح اإلسالم؛ أن الديمقراطية قد ُت ِّثل جوهر اإلسالمَّ ، احلاكم ّية أن ترى َّ
أمل يصبح الفصل بني السلطات أمر ًا رضور َّي ًا للحدِّ من جور احلكام واستفرادهم بالسلطة بشكل مطلق؟ واملجالس الترشيع َّية ما هي
احلل والعقد ،كذلك أصبحت النقابات وسائر املنجزات الديمقراط َّية يف هذا املجال من األمور األساس َّية إال الشكل املعارص ألهل ِّ
القادرة عىل ختليص األ َّمة من الطغاة واملستبدِّ ين ،واإلتيان باحلاكم العادل الذي يستطيع إقامة دولة العدل واملساواة وتطبيق الرشيعة،
ويقره .وهو ما فطن إىل بعضه املودودي الذي أن الدين اإلسالمي حيرتم االختالف ُّ وأصبحت التعدد َّية السياس َّية أمر ًا مباح ًا عىل اعتبار َّ
أن س ِّيد قطب ختل عن االستخدام اإليديولوجي للحاكم َّية ،...كام يزداد هذا األمر تأكيد ًا إذا أخذنا يف االعتبار َّ بدا مفكر ًا مرن ًا بعد أن َّ
ألنا كانت قبل املحنة وقبل جتربة االعتقال وقبل «معامل يف الطريق» ،وقبل تبلور فكرة مل يك ِّفر من خالف أفكاره يف العدالة االجتامع َّية؛ َّ
وج َّه َّل من خالف أفكاره يف احلاكم َّية ،أو قال بالديمقراط َّية الغرب َّية ،واعتربها تأليه ًا للبرش
احلاكم َّية كإيديولوج َّية سياس َّية ،ولكنَّه ك َّفر َ
من دون اهلل.
ُ
الكفر بالديمقراط َّية والعدالة في زمن ما بعد الربيع العربي:
بحث في المفاهيم التي دارت على غير معانيها
صابرة بالفالح*
مقدمة
ّ
يظل السؤال عن عالقة الديمقراط َّية بالعدالة ووجوه التالقي بني املفهومني من أكثر املباحث إحلاح ًا عىل الفكر العريب املعارص الذي ُّ
أهم
يرنو إىل حتقيق الديمقراط َّية والعدالة باعتبارمها من مكاسب اخلطاب الكوين القائم عىل احرتام حقوق اإلنسان ،وباعتبارمها من ّ
املتمسكة بالنموذج السلطوي الرعوي. ِّ مطالب الواقع العريب اجلديد الذي يسعى جاهد ًا إىل جتاوز النظم السياس َّية الكالسيك َّية
أن الدولة العرب َّية بدء ًا من االستقالل إىل الوضع الراهن مل تستطع وضع رؤية واضحة فيام يتعلقوقد ب َّينت ثورات الربيع العريب َّ
بالديمقراط َّية والعدالة الس َّيام االجتامع َّية ،وهو ما ّ
جتل يف دوران الشعارات األساس َّية للربيع العريب حول هذين املفهومني.
أن نعالج القضايا املتصلة باملفهو َمني انطالق ًا من النظر يف دالالت الدّ يمقراط َّية والعدالة ،وهدفنا من خالل
وقد ارتأينا يف بحثنا هذا ْ
النظر يف العالقات التي جتمع بني هذا الزوج الكشف عن حدود الوعي العريب املعارص بمتطلبات الديمقراط َّية والعدالة يف احلياة
االجتامع َّية والسياس َّية والدين َّية للفرد واجلامعة.
تتنزل عالقة الديمقراط َّية بالعدالة منزلة الوجه والقفا؟ وهل املساواة هي العدالة؟ وهل استطاعت ثورات الربيع العريب تغيري بنية هل َّ
الفكر العريب يف تناوله لقضايا الديمقراط َّية والعدالة االجتامع َّية؟
األول إىل
نتطرق يف َّتبي واقع العامل العريب املعارص بعد الربيع العريب ،وذلك يف عنرصين؛ َّ مفاهيم نسعى من خالل البحث فيها ُّ
َّ
املحك واملرجع َّية الرئيسة التي حتتكم إليها النخب املثقفة يف العامل عالقة الديمقراط َّية بالعدالة يف الفكر الغريب احلديث واملعارص باعتباره
العريب يف تناوهلا إلشكاليات عالقة الديمقراط َّية بالعدالة االجتامع َّية .يف حني نعالج يف العنرص الثاين واقع تلك العالقة يف بلدان الربيع
العريب (تونس ،مرص) وما انتهى إليه ذلك الواقع من آفاق مسدودة توحي َّ
بأن عالقة الديمقراط َّية بالعدالة يف بالدنا العربية ما زالت غري
واضحة املعامل.
أن تكونالعدالة يف املفهوم العام ال تعدو ْ عىل نوع النظام السيايس الذي جيعل الشعب صاحب السلطة دون
حق حقه ،وهي يف الفكر كل ذي ٍّ إعطاء ِّ متييز بني أفراد الشعب ،ويف ذلك إشارة واضحة إىل رضورة حمو
خمتلف أشكال التمييز والتصنيف بني اجلامعات واألفراد ،سواء
الفلسفي اليوناين من الفضائل األربع
تعلق األمر باألعراق أو باالنتامءات املذهب َّية والدين َّية أو باللون أو
(احلكمة والشجاعة واالستقامة والعدالة)، باجلنس أو باالنتامء اجلغرايف .أ َّما يف مستوى الشكل ،فالديمقراط َّية
وهو ما جيعل الديمقراط َّية والعدالة من تعني تنازل األفراد عن حقوق وحر َّيات طبيع َّية للمؤسسة السياس َّية
ال منمتطلبات االجتامع البرشي وشك ً تعب عن تطلعاهتم وآماهلم.
التي متسك بزمام السلطة التي ِّ
أشكال التواصل بني اجلامعة التي تنتمي إىل ومن هذا املنظور َّ
فإن التنازل عن تلك احلقوق واحلر َّيات ال
فضاء جغرايف وثقايف واحد َ
املنتخبة من يعني التخيل عنها أو فقداهنا بقدر ما يعني منح السلطة
قبل األفراد تلك احلقوق ،وهبذا الشكل تقوم الديمقراط َّية عىل مبدأ
التفويض ،فاملواطن إذ يعطي للمؤسسة السياس َّية نفوذ ًا فلكي ِّ
حيملها مسؤول َّية السهر عىل أمن اجلميع ومحايتهم واإلبقاء عىل حقوقهم.
تعب نتائجها عن وعي املواطن بمدى التزام السلطة القائمة وبنا ًء عىل ذلك َّ
فإن االنتخاب بام هو حدث سيايس دوري يكتيس قيمة رمز َّية ّ
يظل يعيد عرب صندوق االنتخاب توزيع األوراق من جديد. ببنود االتفاق السابق ،ويف ضوء تلك املعطيات يتحدَّ د موقف املواطن الذي ُّ
تصور غري دقيق عىل النحو الذي سنب ّينه بعد حني -وهو
قمة املامرسة الديمقراط َّية - ،وهو ُّ
ويف هذا السياق عدَّ السياسيون االنتخابات َّ
ما جيعل منها غاية وهدف ًا عند البعض ،وآل َّية من آليات احلكم الديمقراطي عند البعض اآلخر .
1
أن هذه املساواة هي اخلط الفاصل بني األنظمة السياس َّية الديمقراط َّية واألنظمة السياس َّية وقد ألفنا من الدراسات املعارصة التأكيد عىل َّ
االستبداد َّية والنظم التقليد َّية القائمة عىل سلطة الالهوت أو األنظمة الوراث َّية (اخلالفة.)... ،
تتوزع عىل فروع وأصناف؛ منها الديمقراط َّية السياسية التي جتعل الشعب حيكم نفسه بنفسه وذلك بانتخاب من َّ
إن الديمقراط َّية َّ
يسي شؤون الدولة واملجتمع اعتامد ًا عىل السلطة املمنوحة له ،ومنها الديمقراط َّية االجتامع َّية والثقاف َّية والدين َّية (حر َّية االعتقاد ،حر َّية ّ
العمل وتكبح مجاح االستغالل .أ َّما العدالة فهي التعبري عن الرأي )... ،والديمقراط َّية االقتصاد َّية التي تن ّظم اإلنتاج وحتافظ عىل حقوق َّ
أن تكون مفهوم شديد التقاطع مع املساواة ،2وذلك بالنظر إىل تعدُّ د مستويات مشاكلة األوىل للثانية ،فالعدالة يف املفهوم العام ال تعدو ْ
1ـ نشري إىل أ ّن الدميقراطية ال تكتسب أي قيمة يف ذاتها ألنّها ال متثّل هدفاً بقدر ما هي أداة تحقق من خاللها الدولة غاياتها املتمثلة باألساس يف تخليص اإلنسان من
شهواته .راجع سبينوزا ،باروخ (1632م 1677 -م) ( :)Baruch Spinozaرسالة يف الالهوت والسياسة ،ترجمة حسن حنفي مراجعة فؤاد زكريا ،دار التنوير للطباعة
والنرش والتوزيع ،ط ،1القاهرة مرص ،2005 ،ص ص .375 - 373
حق حقه .وثانياً املساواة )L’égalité(
كل ذي ّ
2ـ ال ب َّد من اإلشارة يف هذا السياق إىل رضورة التمييز بني ثالثة مفاهيم ،وهي :أوالً :العدالة ( )La justiceمبا هي إعطاء ّ
باعتبارها محوا ً ملختلف أشكال التمييز بني الجنسني واألعراق والفئات االجتامعية عىل أساس املساواة أمام القانون .وثالثاً اإلنصاف ( :)L’équitéالذي يتمثّل يف سعي
القانون إىل إرجاع الحقوق ألصحابها.
حق حقه ،وهي يف الفكر الفلسفي اليوناين من الفضائل األربع (احلكمة والشجاعة واالستقامة والعدالة) ،وهو ما جيعل
كل ذي ٍّ إعطاء ِّ
الديمقراط َّية والعدالة من متطلبات االجتامع البرشي وشك ً
ال من أشكال التواصل بني اجلامعة التي تنتمي إىل فضاء جغرايف وثقايف واحد.
ب .يف دالالت اختالف الفكر الغريب يف حتديد ماه َّية العدالة والديمقراط َّية
أن الثابت هو َّ
أن مسألة العدالة هي مسألة أخالق َّية ،ويعود ذلك طغت منزلة العدالة يف احلياة االقتصاد َّية واملاد َّية عىل بقية األبعاد ،بيد َّ
إىل كون العالقة بني الناس هي باألساس مرتبطة بمدلوالت الفضيلة وفق التصور األرسطي.3
أن قضية العدالة تؤ ّطرها وقد حدَّ د دافيد هيوم (1711م ـ 1776م) يف «مبحث يف مبادئ األخالق» 4العالقة بني العدالة واملنفعة ،مؤكد ًا َّ
أن الثورة الصناع َّية التي جعلت من اإلنتاج أساس احلياة عوامل خمصوصة تتصل بالوضع َّية التي يوجد فيها الناس ،5ويف ذلك إشارة إىل َّ
االقتصاد َّية واالجتامع َّية تنطوي عىل دعوة واضحة إىل إعادة التفكري يف ماه َّية العدل ودالالته األخالق َّية .فالقيمة املنفع َّية للعدالة يف تقدير
تصور مل يستطع الصمود أمام املقاربات املعارصة التي عملت عىل إعادة هيوم ال تتحقق إال يف جمتمع مدين يعرتف بامللك َّية اخلاصة ،وهو ُّ
فهم العالقة بني العدالة واملجتمع.
التصور التقليدي نذكر قراءة فريديريك نيتشه (1844م 1900 -م) ،فقد حرص يف ُّ أهم املقاربات التي عملت عىل زعزعةومن ّ
تبي ماهية العدالة يقتيض معاجلتها ضمن «جينيالوجيا األخالق» عىل إبراز أصل املعرفة والقيم والدوافع الكامنة وراءها ،مؤكّد ًا َّ
أن ُّ
ثنائ َّية العبيد والسادة ،فالشعور بالواجب وااللتزام الشخيص ضاربان يف القدم متعلقان بأقدم العالقات (التعاقد ،)..،ويف مقدّ متها
للمرة األوىل يف مواجهة شخص آخر ،وهو ما جيعله عالقة الشاري بالبائع وعالقة الدائن باملدين ،وهي عالقات يقف فيها الشخص َّ
يشعر بحدود الذات.6
3ـ وزّع أرسطوطاليس العدالة إىل صنفني ،وهام العدالة التوزيع ّية والعدالة التعويض ّية .فاألوىل تتمثل يف توزيع الخريات واألموال حسب االستحقاق .أما الثانية فتفيد
تعويض املظلوم من الظامل يف البيع والرشاء ، ....عىل أساس قاعدة املساواة الرياضية.
Aristote (384- 322 avant Jésus- Christ), Ethique à Nicomaque, Traduit par Jules Tricot (1883- 1963), Collection Biblio Textes
Philosophiques, éd Vrin, Paris, 1994, p. 224.
4 . Hume, David ; Enquête sur les principes de la morale, traduit par Philippe Saltel et Philippe Baranger, Collection G F, Flammarion,
Paris, 1991 «De la justice».
5ـ تتعدد مستويات املساواة االجتامع َّية والسياسية ،وهي تتجىل يف أبعاد عديدة أه ّمها التبادالت االقتصاديَّة والقانون َّية واألخالق َّية.
6 . Nietzsche, Friedrich; Généalogie de la morale, Traduit de l’allemand par Isabelle Hildenbrand et Jean Gratien,Collection Folio Essais,
Gallimard, Paris,1991, p. 75.
راجع أيضاً :نيتشه ،فريدريك« ،يف جينالوجيا األخالق» ،ترجمة فتحي املسكيني ،مراجعة مح َّمد محجوب ،املركز الوطني للرتجمة ودار سيناترا ،تونس ،2010 ،ص ص
98-97
فاملواطن باعتباره عضو ًا يف املجتمع ،جمتمع العمل ،فإنَّه يطالب بجزء عادل من اإلنتاج أي الثروة ،ومن شأن جتاهل ذلك املطلب ْ
أن
التمرد واملقاومة السلب َّية الناجتة عن اليأس .7وهذا يعني
تتحمل وحدها وطأة احليف والظلم ،وهو ما يدفعها إىل ُّ
َّ جيعل األطراف املحرومة
َّ
أن وحدة املجتمع ومتاسكه مسألتان ال سبيل إىل حتقيقهام ما مل نعمد إىل القضاء عىل خمتلف أشكال الضيم.
فالليربال َّية ربطت ربط ًا آل َّي ًا بني مفهوم الدولة ونموذج اإلنسان الفرد الذي يكون يف استقالل تام عن ّ
كل مرجع َّية ،سواء أكانت دين َّية
التصور الذي طبع النظم السياس َّية املوسومة بالديمقراط َّية يف املستوى السيايس واالقتصادي .فالقانون يم ّثل امتداد ًا
ُّ أم أخالق َّية ،...وهو
لألفراد .أ َّما السلطة فهي رضورة من رضورات احلياة االجتامع َّية.
وهو ما دفع هبنري برغسون (1859م 1941 -م) إىل القول َّ
إن الديمقراط َّية هي من نتاج العصور املتأخرة .فديمقراط َّية املدن القديمة
(أثينا القرن السابع قبل امليالد) هي ديمقراط َّية النخبة (املواطن) .وهي تفرتض وجود إنسان مثايل حيرتم اآلخرين مثلام حيرتم نفسه
وخيضع لواجبات يعدُّ ها مطلقة .8فلئن كانت عالقة األفراد ببعضهم بعض ًا تُعدُّ مصدر ًا جلملة من اإلشكال َّيات الدالة عىل عدم التوافق
فإن ذلك يؤكّد رضورة وجود تنظيم سيايس يسعى إىل جتاوز ذلك التضارب. بني املصالح (األفراد)َّ ،
ج .الفكر الغريب املعارص والبحث عن معنى جديد للديمقراط َّية والعدالة :جون رولز نموذج ًا
أهم ن َّقاد النظريات الكالسيك َّية التي مل تعد قادرة عىل إيفاء الواقع ح َّقه.
ُيعدُّ املفكّر األمريكي «جون رولز» (1921م 2002 -م) من ّ
بأن النظام الرأساميل والفكر ال ّليربايل يف صيغتهام القديمة
وقد انطلق «جون رولز» يف تأسيسه ملبادئ العقد االجتامعي اجلديد من اإلقرار َّ
تتوزع فيه الثروة بطريقة منصفة ،فالرأسامل َّية أ َّدت إىل تقسيم املجتمعات إىل طبقة غن َّية وأخرى
عاجزان عن بناء نظام اجتامعي عادلَّ 9
فقرية هي السواد األعظم من املجتمع ،وهو ما يو ّلد عندها شعور ًا بالقهر والظلم.
7 . Weil, Eric; Philosophie politique, Collection Problèmes et controverses, 5em éd, Librairie Philosophique J. Vrin, Paris, 1989, P183 «Que
la justice n’est rien sans l’efficacité et l’efficacité rien sans la justice, qu’ un système injuste se défait par la volonté de sa propre divinité
tutélaire qu’ est l’efficacité, et que tous les sermons, fussent- ils des plus nobles et des plus vrais dans leur abstraction, n’ont jamais contribué
à la création d’un système plus juste, aussi longtemps qu’ils ne se sont pas abaissés à prendre en considération les exigences de la réalité, de
l’intérêt, de l’organisation,du calcul rationnel».
8 . Bergson, Henri; Les deux sources de la morale et de la religion, Collection Grande textes10 édition Quadrige/PUF,Paris, 2008, P 299 «On
comprend donc que l’humanité ne soit venue à la démocratie que sur le tard (car ce furent de fausses démocraties que les cités antiques,
bâties sur l’esclavage, débarrassées par cette iniquité fondamentale des plus gros et des plus angoissants problèmes). De toutes les conceptions
politiques c’est en effet la plus éloignée de la nature, la seul qui transcende, en intention au moins, les conditions de la société close».
وتحقق لهم االحرتام املتبادل.
ّ 9ـ و َّجه «رولز» نقدا ً الذعاً للنفع َّية الكالسيك َّية ،مؤكدا ً أ َّن العدالة تهدف إىل تحقيق االندماح االجتامعي،
وحر َّية السوق أ َّدى إىل إمهال احلقوق االجتامع َّية لألفراد .ويف املقابل مل يرت َّدد «رولز» يف نقد
اخلاصة ّ َّ َّ
إن اهتامم النظام الرأساميل بامللك َّية
الرؤية االشرتاك َّية التي وقعت ،من حيث ال تدري ،يف مفاضلة بني العدالة والنجاعة ،10وللخروج من هذه املفارقة القائمة عىل املفاضلة
بحق احلر َّية للجميع دون أن يؤ ّدي ذلك بني العدالة االجتامع َّية ومبادئ الرأسامل َّية يرى رضورة وضع صيغة جديدة للعدالة تنادي ّ
أن حتقق ظواهر احلق ذاته الذي ال يمكن إلغاؤه [ ...و] (ب) جيب ْ لكل شخص ُّ إىل حمو الفروق ،فالعدالة هلا مبدآن يتمثالن يف(« :أ) ّ
اللمساواة جيب أن تتعلق بالوظائف واملراكز التي تكون مفتوحة للجميع يف أن َّ اللمساواة االجتامع َّية واالقتصاد َّية رشطنيَّ :أوهلام يفيد ََّّ
اللمساواة حمققة أكرب مصلحة ألعضاء املجتمع الذين هم ُّ
األقل مركز ًا أن تكون ظواهر َّ رشوط مساواة منصفة للفرص ،وثانيهام يقتيض ْ
(وهذا هو مبدأ الفرق) ».11
ظل نظرية جون رولز متطلبات املنفعة ليصبح اإلنصاف العمود الفقري الذي تبنَّى نظرية العدالة بام هي نظرية لقد جتاوزت العدالة يف ّ
أن مفاهيم عديدة مثل العقد واالتفاق وامليثاقتقارب مستويات العدالة وآليات حتقيقها يف النسيج االجتامعي .وقد الحظ «جون رولز» َّ
جتعل من العدالة ومبادئها اختيار ًا عقالني ًا.16
إن املراجعات املعارصة يف سعيها إىل جتاوز نقائص القراءات املؤدجلة ،وباخلصوص النموذج الليربايل والنموذج االشرتاكي ،انتبهت َّ
ظل جمتمع مدين ويف أحضان دولةإىل رضورة وجود عالقة جدل َّية بني العدالة االجتامع َّية واحرتام حقوق اإلنسان والديمقراط َّية يف ّ
17
10ـ رولز ،جون :العدالة كإنصاف ،ترجمة حيدر حاج إسامعيل ،مراجعة ربيع شلهوب ،املنظمة العربيَّة للرتجمة ،ط ،1بريوت لبنان ،2009 ،ص 358وما بعدها.
11ـ املرجع نفسه ،ص 148
12ـ املرجع نفسه ،ص .56
13ـ املرجع نفسه ،ص 95
14ـ فرميان ،صموئيل ،وآخرون :اتجاهات معارصة يف فلسفة العدالة ،جون رولز منوذجاً ،ترجمة فاضل جتكر ،مراجعة معني رومية ،املركز العريب لألبحاث ودراسة
السياسات ،سلسلة ترجامن ،ط ،1الدوحة قطر ،2015 ،ص .134
وال يفوتنا يف هذا املقام اإلشارة إىل أ َّن هذا التصور قد راهن عليه يورغن هابرماس (1929م ).... -الذي يُعترب من أه ّم منظري الدميقراطيَّة التشاوريَّة التي تُع ّد امتدادا ً
لنظرية هابرماس يف الفعل التواصيل .وقد بنى هابرماس نظريته يف شأن «الدميقراط َّية التواصل َّية» عىل أنقاض نقده للرأسامل َّية ،مؤكّدا ً أ َّن الفعل التواصيل يقتيض اإلقرار
بوجود اآلخر.
Habermas Jürgen L›espace public Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société bourgeoise, traduit par Marc de
Launay, Payot, Collection Critique de la politique, Paris, 1988.
Ferrarese, Estelle, Éthique et politique de l›espace public Jürgen Habermas et la discussion, Vrin, Collection La vie morale, Paris, 2015
15ـ رولز ،جون :العدالة كإنصاف ،مرجع مذكور ،ص .123
والسلطة والرأي العام .ويرتتب عىل ذلك نشأة النقاش العقالين
16ـ ذهب هابرماس إىل القول إ ّن النموذج الدميقراطي يقوم عىل مفاهيم ثالثة أساسية ،وهي العقالن ّية ّ
ُعب عن الرأي العام واإلرادة السياسيَّة للمواطنني.
والتداول الف ّعال بني املتحاورين يف ظل الدميقراطيَّة التشاوريَّة التي ت ّ
17 . Rawls, John ; Justice et démocratie, trduit par Catherine Audard, Seuil, Paris, 1993
إن املراجعات املعارصة يف سعيها إىل جتاوز َّ القانون واملؤسسات .وال جمال إىل حتقيق تلك العالقة إال باملحافظة
نقائص القراءات املؤدجلة ،وباخلصوص عىل الفضاء العمومي املستقل ،بام يؤ ّدي إىل توزيع عادل للثروة،
ويعزز اندماج األفراد يف جمتمع واحد ومتكافل .فالتنظيم اإلداري ّ
النموذج الليربايل والنموذج االشرتاكي،
العقالين يؤ ِّدي إىل تغيري بنية املجتمع وفق قاعدة التفاعل البنَّاء بني
انتبهت إىل رضورة وجود عالقة جدل َّية بني األفراد يف تشكيل دولة احلق.
العدالة االجتامع َّية واحرتام حقوق اإلنسان
ظل جمتمع مدين ويف أحضان والديمقراط َّية يف ّ .2العدالة والديمقراط َّية وإشكال َّية المفاهيم التي تدور
على غير دالالتها في واقع الربيع العربي
دولة القانون واملؤسسات
أ .بناء الدولة الوطن َّية واملفاضلة بني العدالة والديمقراط َّية
سوغت القوى االستعامرية لوجودها يف البالد العربية بطرق َّ
َّ ّ
مهها قدومها النتشال العرب من التخلف والرجعية واالنغالق ،واألخذ بيدهم نحو احلداثة والتمدُّ ن ،ويف املقابل فإن احلركات خمتلفة؛ أ ُّ
الوطنية -عىل اختالف درجاهتا وأنواعها -اعتمدت يف بناء خطاهبا املقاوم لالستعامر عىل ُبعدين ،وذلك حسب طبيعة املخاطبِني
املوجه ألبناء الوطن ،ويكفي اإلشارة إىلوأوضاعهم؛ فالبعد األول مت ّثل يف ِّاتاذ حترير بالد اإلسالم من دنس النّصارى ل َّب ًا للخطاب َّ
حرض عىل عدم دفن التونس ّيني الذين كانوا حيملون جنس َّية أن أكثر زعامء املقاومة الوطن َّية علامن ًّي ًة يف تونس ،ونعني به احلبيب بورقيبةَّ ،َّ
فرنس َّية يف مقابر املسلمني (1932م) رغم «تر ُّدد بعض مشايخ الزيتونة يف مساندته».18
انفك يو ّظفه دعاة االستقالل يف مجيع مراحل العمل الوطني ،فاملسألة الدين َّية وقضية اهلو َّية العرب َّية اإلسالم َّية هي
وهو موقف ما َّ
أهم «دعائم احلركة القوم َّية» التي حرصت عىل قطع الطريق أمام دعاة االندماج يف الدولة الفرنس َّية.
19
إحدى ّ
ِ
املستعمر. وال خيفى عىل أحد ما لعبته املؤسسات الدين َّية (الزيتونة ،األزهر ).. ،والنخب الدين َّية يف البالد العرب َّية يف تعبئة العا َّمة ضد
املوجه إىل النخب املثقفة يف البلدان االستعامر َّية ،ومدار هذا اخلطاب التذكري باملفارقة القائمة بني أ َّما البعد الثاين فقد مت ّثل يف اخلطاب َّ
وحق الشعوب يف تقرير ال من أشكال االستغالل ،وما نادت به املواثيق الدول َّية القاضية باملساواة بني البرش ّ االستعامر باعتباره شك ً
مصريها (اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان 10ديسمرب 1948م).
بأن حصول احلركات الوطن َّية عىل االستقالل قد أ َّدى إىل تغيري بنية اخلطاب الذي أصبح يدور وال بدَّ يف هذا املقام من التذكري َّ
باألساس حول مرشوع بناء الدولة الوطن َّية ،وباتت مقاومة اجلهل واألم َّية ورفع مستوى العيش وحتقيق املساواة االجتامع َّية اهلدف
الرئيس للدولة الوطن َّية ومؤسساهتا.
حتول
بسبل النجاة دون غريه من الرجال ،وقد ترتب عىل ذلك ُّ التمش تشكَّلت «صورة الزعيم املنقذ» العارف ُ ِّ وبالتوازي هلذا
«صورة الزعيم» من صورة الراعي لالستقالل إىل صورة اإلله املعبود -مجال عبد النارص (1970-1918م) ،احلبيب بورقيبة (-1903
2000م) .-...،وهو ما أنتج أنظمة كليان َّية شمول َّية ُتتزل فيها الدولة يف شخص الزعيم الذي بدونه يكون األبناء كاأليتام عىل مائدة
18ـ راجع يف شأن ذلك ما كتبه الدكتور سعد غراب يف كتابه «العامل الدّيني والهويّة التّونس ّية» سلسلة موافقات ،الدار التونس َّية للنرش ،ط ،2تونس ،1990 ،ص ص
.21 - 20
19ـ املرجع نفسه ،ص .20
يتغي ،ففي تونس ما بعد الثورة عمدت وسائل اإلعالم التي تدعم الرئيس الباجي قايد السبيس (1926
اللئام .ولعل الوضع مل َّ
20
م ).... -إىل تقديم م َّ ِ
وحمرر املرأة».21وهي بذلك كانت حتيي يف نفوس قسم كبري من رشحها باعتباره امتداد ًا لـ«صانع تونس احلديثة ّ ُ
التونسيني والتونس َّيات احللم باسرتجاع املايض اجلميل (الزعيم احلبيب بورقيبة) .وقد ب َّينت اإلحصائ َّيات التي تلت الدور الثاين من
أهم الفئات التي منحت السيد الباجي قايد السبيس أصواهتا. انتخابات الرئاسة التونس َّية َّ
أن املرأة واملتقدِّ مني يف السن من ِّ
ظل اخلطاب املتحكِّم يف األحزاب اليسار َّية يدور يف إن مل نقل مجيعها -عن آفاق االنتامء اإليديولوجي ،فقد َّ ومل خترج أغلب الرؤى ْ -
جتل يف الدعوات إىل رفع األجور والفلح والطبقات املحرومة ،وهو ما ّ َّ بحق العامل
فلك العدالة االشرتاك َّية ومفاهيمها الثور َّية التي حتتفي ِّ
ظل ن َفس ثوري يقوم باألساس عىل توزيع عادل للثروة .
22 وحتقيق العدالة بني اجلهات (املناطق الداخل َّية /املناطق الساحل َّية) ،وذلك يف ِّ
التوجه اإلسالمي (حزب حركة النهضة) إىل تقديم نفسها باعتبارها امتداد ًا للمرشوع اإلصالحي ُّ ويف املقابل عمدت األحزاب ذات
التونيس (خري الدين باشا 1890 - 1820م )... ،من ناحية ،ومن ناحية ثانية اختذت من التجربة الرتك َّية املعارصة املتمثلة يف «حزب العدالة
التصور اإلسالمي.24
ُّ والتنمية»23نموذج ًا هلا يف اخلطاب ومرجع ًا حترص عىل حماكاته واتباعه قصد بلوغ التنمية وحتقيق العدالة وفق
آماال يف
20ـ خري مثال عىل ذلك التجربة املرصيَّة بعد ثورة الضبّاط األحرار ،ثورة يوليو ،1952التي وضعت قانون اإلصالح الزراعي وأعطت مبوجبه لصغار الفالحني ً
وحسنت أوضاع صغار املوظفني ،وبنت املساكن االجتامع َّية ملحدودي الدخل ،ولك ّنها يف املقابل حلّت عام 1954األحزاب
الحياة ،ورفعت من مستوى أجور العاملَّ ،
السياسية واعتُقل املعارضون للسلطة ونُكّل بهم ،وهو ما اعتُرب تراجعاً عن مكاسب سياسيَّة متتّع بها املرصيون زمن حكم امللك فاروق ( 1920م 1965 -م) املمتدَّة من
1937إىل 1952م.
21ـ هذه الكلامت هي الكلامت املد ّونة عىل قرب الرئيس األ َّول للجمهورية التونسيَّة الحبيب بورقيبة.
22ـ اعتربت املاركس َّية أ َّن العدالة ترتبط بوجود الدولة التي تنمو فيها العالقات اإلنتاج َّية املعقّدة ،وهو ما يفرز تفاوتاً واضحاً بني الطبقات املشكلة للمجتمع ،يرتتب
عليه ظهور أشكال ومامرسات اجتامعيَّة ّ
(الرق ،اإلقطاعيَّة ،الرأسامليَّة.)... ،
تأسس حزب العدالة والتنمية الرتيك سنة 2001م عىل أنقاض حزب الفضيلة الذي كان نجم الدين أربكان زعيمه .وقد استطاع حزب العدالة والتنمية تصدُّر املشهد
23ـ َّ
السيايس الرتيك باعتامده خطاباً سياسياً معتدالً يدغدغ يف األتراك أحالم اسرتجاعهم ألمجاد اإلمرباطوريَّة العثامنيَّة ،وهو ما دفع باملتابعني السياسيني إىل القول إ َّن حزب
العدالة والتنمية بقيادة رجب ط ّيب أردوغان هو حزب «العثامنيني الجدد».
24ـ نشري إىل محاكاة جملة من األحزاب يف البالد العربيَّة للمثال الرتيك ،ففي تونس واملغرب نشأت أحزاب تحمل االسم نفسه «حزب العدالة والتنمية» (حزب العدالة
والتنمية يف املغرب تأسس 1997م ،أي قبل حزب العدالة والتنمية يف تركيا) .وقد تصدَّر يف املغرب األقىص مع عبد اإلله بنكريان ( 1954م )... -املشهد السيايس يف أكرث
من مناسبة آخرها االنتخابات الترشيعية األخرية (أكتوبر .)2016وما يلفت االنتباه هو أ َّن التجربة الرتكيَّة قد جمعت يف خطابها بني بعدين هام :البعد الديني والبعد
اطوري العثامن َّية) ،يف حني ركّزت األحزاب العرب َّية عىل ال ُبعد األول يف أغلب األحيان.
َّ القومي (اإلمرب
مل تكتسب النظم السياس َّية رشع َّية وجودها سار ضدَّ التيار اإلسالمي( )Islamiqueواإلسالموي()Islamiste
من طرق توليها احلكم (االنتخاب، الذي يعمد دائ ًام وأبد ًا إىل إعطاء املفاهيم املعارصة دالالت إسالم َّية
كي يؤكِّد وجودها يف اإلسالم ونصوصه الفقه َّية واألصول َّية.
االنقالب )....،فحسب ،وإنَّام أيض ًا من
قدرهتا عىل إقرار مبادئ العدالة بني أفراد ظل يدوران يف فلك إن التيار التقدُّ مي والتيار اإلسالمي َّ َّ
املجتمع ،بدء ًا من العدالة االجتامع َّية وصوالً املرجع َّيات التقليد َّية يف معاجلتهام للعدالة يف بعدها االجتامعي
إىل حتقيق العدالة يف مؤرشات احلياة (التعليم، والسيايس ،فكانت عندمها العدالة والديمقراط َّية صنوين ،أو من
املرتادفات التي يفيد احلديث عن إحدامها احلديث عن األخرى
الصحة )... ،والرفاهية
من جهة ،ومن جهة أخرى ض َّيقت تلك املقاربات دائرة العدالة
أن التونسينيواختزلتها يف إعطاء اجلياع خبز ًا ،ونيس اجلميع َّ
ينتظرون من الطبقة السياس َّية (احلاكمة واملعارضة) أكثر من الوعود ،فالتونسيون ما انفكُّوا ينادون قبل الثورة« :خبز و َما (ماء) وبن
عيل ال».
أن التونيس يبحث عن آفاق جديدة حتقق له الرخاء واحلر َّية ويف هذا الشعار الثوري وغريه من شعارات الثورة التونس َّية تأكيد عىل َّ
ثمة مسافة فاصلة بني اخلطاب السيايس املنغلق عىل اإليديولوج َّيات (الثقاف َّية ،الدين َّية ).... ،والثروة ،ويف ذلك إشارة واضحة إىل َّ
أن َّ
عب عنه الشارع التونيس الكالسيك َّية ،وخطاب الشارع املنفتح عىل الواقع والعامل واملتط ّلع إىل ما هو أبعد من وعود السياس ّيني ،وهو ما َّ
يف انتخابات ( 2014م) ،فالذين فازوا يف األوىل (انتخابات املجلس الوطني التأسييس 2011م) تراجعوا تراجع ًا واضحا يف الثانية
ً25
(االنتخابات الترشيع َّية والرئاس َّية 2014م) ،وال نستبعد تراجع الفائزين يف الثانية يف االنتخابات القادمة.
جاء الربيع العريب ليضع أمام الباحث يف علم االجتامع نمطني من العالقة بني الديمقراط َّية والعدالة ،فالتجربة التونس َّية ْ
وإن
فإن املامرسة تكشف عن مفارقات عديدة، أومهت بتحقيقها بعض مطالب ثورهتا التي دارت عىل ثنائ َّية «احلر َّية والكرامة» َّ
أن احلق يف االنتخاب ْ
وإن فالديمقراط َّية التي تبنى عليها مسارات العدالة االنتقال َّية انتهت إىل عودة قو َّية لـ«الثورة املضا َّدة» .ذلك َّ
ال من أشكال العدالة واملساواة بني األفراد واجلهات فإنَّه يف التجربة التونس َّية أعاد للواجهة ركائز النظام االستبدادي القديم ُعدَّ شك ً
وأحيا الدولة العميقة.
فإن الواقع خيرب عن بون شاسع بني اخلطاب ونحن إذا ما بحثنا يف مستويات العدالة االجتامع َّية يف تونس ما بعد ثورة 2011م َّ
تغي ًا ُينبِئ بوجود إرادة سياس َّية للخروج من نفاق التخيري بني «الديمقراط َّية أو
واملامرسة ،فالعدالة االجتامع َّية والثقاف َّية مل تشهد ُّ
العدالة».
بأن احلزب النازي بقيادة أدولف هتلر (1889ـ 1945م) يف أملانيا اعتىل احلكم بعد انتخابات مبارشة ونزهية فالتاريخ خيربنا َّ
ال من أشكال ممارسة يدل داللة قاطعة عىل َّ
أن الرهان عىل املامرسة االنتخاب َّية باعتبارها شك ً شارك فيها األملان بكثافة ،وهو ما ُّ
حتقق العدالة أو املساواة .وهو ما ُيعيد إىل األذهان السؤال عن حدود العدالة ومستوياهتا ،ففي الديمقراط َّية ال يعني بالرضورة ُّ
ظل انتشار «األم َّية السياس َّية» يف املجتمعات العرب َّية اإلسالم َّية ُيعدُّ منح االنتخاب للجميع خطر ًا عىل الديمقراط َّية ،وليس ّ
أدل ِّ
25ـ تراجع حزب املؤمتر من أجل الجمهوريَّة من 29مقعدا ً يف انتخابات 2011م ،إىل 4مقاعد يف انتخابات 2014م .أ َّما التكتل الدميقراطي من أجل العمل والحريات
بأي مقعد يف انتخابات 2014بعد أ ْن كان له 20مقعدا ً يف انتخابات ،2011وخرس حزب حركة النهضة اإلسالمي عرشين مقعدا ً يف مجلس ن ّواب الشعب.
فلم يحظ ّ
عىل ذلك من التهم التي رافقت احلمالت االنتخاب َّية الربملان َّية والرئاس َّية يف تونس ( 2014م) من استعامل للامل السيايس يف رشاء
األصوات.
أن العدالة يف املامرسة السياس َّية تتطلب من صاحب احلق وعي ًا سياسي ًا وشعور ًا باملسؤول َّية اجلامع َّية التي تقوم باألساس وما مل نستوعب َّ
ِ عىل دحض املصالح الذات َّية َّ
فإن الواقع العريب سواء أتى الربيع أم مل يأت يبقى معت ًام .
26
الرؤية مل تكن من ثوابت اخلطاب اإلسالمي ،فمنذ تأسيس اإلخوان املسلمني (1928م) أن هذه ُّ ويف ما يتَّصل هبذه املسألة نشري إىل َّ
حتوالت واضحة تأرجح فيها اخلطاب بني االنفتاح عىل يد «حسن البنَّا» (1906م 1949 -م) إىل اليوم عرف الفكر اإلخواين يف مرص ُّ
والتشدُّ د ،وقد سامهت النكسات التي عرفتها مرص (1967م) وإقدام القيادة املرص َّية سنة 1978م عىل إبرام معاهدة سالم مع إرسائيل
حتوالت اجتامع َّية واقتصاد َّية متثلت يف االنفتاح عىل اقتصاد السوق واتباع
(معاهدة كامب ديفيد) ( ،)Camp Davidوما تبعها من ُّ
فسحقت الطبقة الوسطى ،واتَّسعت عمق الفجوة االجتامع َّية بني الطبقات الغن َّية والطبقات الفقرية املحرومةُ ، النمط الليربايل ،وهو ما َّ
قاعدة الفقراء ،وتفاقمت اآلفات االجتامع َّية.
ظل هذا الوضع ساد املشهد العام الشعور باليأس الذي جعل من الثورة املرص َّية ثورة اليائسني الذين يبحثون عن أمل جديد يبعثويف ِّ
يفس االنخراط التلقائي من أغلب طبقات املجتمع املرصي يف يف األرواح امليتة احلياة وينتشل األجيال القادمة من املجهول .وذلك ما ّ
ثورة 25يناير 2011م.
وقد م ّثلت حلظة الثورة حلظة البحث عن البديل الذي حي ّقق أحالم اجلامعة الطاحمة إىل العدالة واحلر َّية ،وهي رغبة جعلت املرصيني
واملرصيات يعطون ثقتهم لإلخوان املسلمني باعتبارهم اجلامعة السياس َّية الوحيدة التي مل متارس احلكم ومل يثبت فسادها ،وبالنظر إىل
ما حيمله خطاهبا من أحالم ورد َّية تَعدهم بالغد السعيد .ويف املقابل اختذت املؤسسة العسكر َّية (عبد الفتّاح السييس (1954م )... -
حجة هلا يف إزاحة اإلخوان املسلمني الذين م ّثلوا يف تقدير السلطة العسكر َّية خطر ًا عىل الديقراط َّية وسلطة من تصحيح مسار الثورة َّ
سوغ النظام املرصي القائم القرار السيايس الوطني ،وباسم محاية الديمقراط َّية واملحافظة عىل مكاسب الدولة الوطن َّية وقيم احلداثة َّ
قوض حلم املرصيني حممد مريس (1951م ،)... -أ َّما اإلخوان فقد عدُّ وا ما قامت به املؤسسة العسكر َّية انقالب ًا ُي ِّ
إزاحته للرئيس السابق َّ
بالديمقراط َّية .فاإلخوان يف مرص ما زالوا يطالبون بإعادة الوضع إىل ما كان عليه احرتام ًا إلرادة الشعب املرصي ،وبني هذا وذاك ضاع
احلديث عن العدالة االجتامع َّية التي مل تعد اهلدف الذي حيرص النظام السيايس عىل حتقيقه.
26ـ راجع بشارة ،عزمي وآخرون :ما العدالة ،معالجات يف السياق العريب ،املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات ،ط ،1الدوحة قطر « 2014الفصل الثامن ملراد ِدياين
ص ،325الفصل التاسع ملح ّمد الحداد ص ،371الفصل الثاين عرش لعبد الكريم داود .ص .»477
يفس امليل الدائم إىل حرص العدالة يف ُبعد واحد، أهم سامت االجتامع البرشي الس َّيام املعارص ،وهو ما ِّ
تُعترب العدالة وقضاياها من ّ
وهو ال ُبعد االجتامعي «العدالة االجتامع َّية» .وعادة ما يقرتن احلديث عن العدالة بمطالب الثورات واستحقاقاهتا ،إذ ال نكاد نظفر بثورة
من الثورات القديمة أو املعارصة مل تتخذ من العدالة شعار ًا هلا .وهو ما يعني بالرضورة َّ
أن العدالة هي من أهم أبعاد احلر َّية ،فهي الوجه
أن املناداة بالعدالة ترتبط ارتباط ًا وثيق ًا بشعور السواد األعظم من الشعب /املجتمع بالقهرَّ ،
وبأن حقوقه اآلخر حلقوق اإلنسان ،ذلك َّ
وبأن النظام القائم هو نظام جائر ينترص لفئة عىل حساب أخرى. مغتصبةَّ ،
َ
واملبسط للعدالة ودورها يف قيام الثورات دفعنا إىل التساؤل :كيف جت ّلت عالقة الديمقراط َّية بالعدالة يف بلدان
َّ َّ
إن هذا الفهم املوجز
الربيع العريب؟
أن العرب اختزلوا واقعهم واجلزر ،فإذا بالعدالة الغائب األكرب .ذلك َّ ْ لقد ب َّينا َّ
أن العالقة بني الديمقراط َّية والعدالة قامت عىل املدّ
أن النظم السياس َّية مل تكتسب رشع َّية وجودها من طرق توليها احلكم (االنتخاب، يف مدى قدرهتم عىل إقرار نظام ديمقراطي ،واحلال َّ
االنقالب ).... ،فحسب ،وإنَّام أيض ًا من قدرهتا عىل إقرار مبادئ العدالة بني أفراد املجتمع ،بدء ًا من العدالة االجتامع َّية وصوالً إىل حتقيق
العدالة يف مؤرشات احلياة (التعليم ،الصحة )... ،والرفاهية.
وخيها بني العدالة االجتامع َّية والديمقراط َّية ،فـ« َبعد ويكشف هذا الوضع عن وجود بنية النظام االستبدادي الذي قايض الشعوب َّ
التطورات الرتاجيد َّية للربيع العريب يف بعض البلدان العرب َّية ،من املستحسن استعامل التقابل بني «الربيع العريب» و«ما بعد الربيع العريب»،
فقد نجح الربيع العريب يف حتطيم هياكل االستبداد املقنَّع لبعض األنظمة العرب َّية ،إال أنَّه مل يستطع حلد اآلن أن يقوم ببناء هياكل بديلة
لألنظمة املنهارة ،قائمة عىل مبادئ التوافق واحلوار ،ضمن رؤية العدالة االنتقال َّية .هبذا ،يكون «الربيع العريب» وكأنَّه قد أخلف موعده
حتول الربيع السيايس من مقام «ال َف َر ِج بعد ال ُغ َّمة» ،إىل مقام «ال ُغ َّمة يف ال ُغ َّمة». 27
مع التاريخ ،بل أكثر من ذلكَّ ،
وهبذا املعنى كانت أزمة العدالة والديمقراط َّية يف العامل العريب ،أزمة مفاهيم وقيم «تدور عىل غري معانيها» ،وهي مفاهيم ظ ّلت دالالهتا
التحول الديمقراطي يف بلدان الربيع
ُّ ولعل يف ذلك داللة واضحة عىل َّ
أن حرب ًا عىل ورق ،فإذا بالعدالة والكرامة شعارات ال وجود هلاَّ .28
العريب استطاع توسعة دائرة املشاركة السياس َّية ،ولكنَّه عجز عن تغيري بنية املجتمع والثقافة.
27ـ حوار مع الدكتور محمد املصباحي :يف قضايا الفلسفة اإلسالميَّة وأسئلتها الراهنة ،حاوره عبد النبي الحري ،منشور عىل موقع مؤسسة مؤمنون بال حدود ،بتاريخ
21نوفمرب .2013
28ـ نشري عىل سبيل املثال إىل أ َّن الدستور التونيس -منشورات البوصلة ،تونس 2014- ،أق َّر يف الفصل الرابع من الباب األول املبادئ العا َّمة بأ ّن «شعار الجمهورية
التونس َّية هو :حريَّة ،كرامة ،عدالة ،نظام» ،ورغم ذلك فإ َّن شعار الجمهورية التونس َّية املعتمد يف الوثائق اإلداريَّة واملؤسسات السياديَّة (قرص الرئاسة )... ،هو الشعار
القديم (شعار االستقالل) املك ّون من الثالوث :نظام ،عدالة ،حريَّة ،فهل يعني ذلك أ َّن الثالوث القديم مل يتحقق ،أم أ َّن الكرامة مج َّرد رمز ال فائدة من إدراجه يف شعار
الجمهوريَّة؟
أمارتيا صن
تقديم وترمجة :مصطفى العارف**
أمارتيا صن ( )Amartya Senمفكر اقتصادي حاصل عىل جائزة نوبل ،ساهم بقدر مهم يف إغناء النقاش السيايس املعارص حول
أن تنظريه هذا أهم منظري فكرة «العدالة» يف الفكر املعارص بعد جون رولز ،ب ْيد َّالعدالة والديمقراط َّية واحلر َّية والتنمية.وهو ُيعدُّ من ّ
ال يتلحف حلاف األ ْم َث َلة والتنظري بمفهومه الفلسفي ،مثلام نلفي األمر عند رولز مثالً ،بل نجد الرجل ال يريد لكتابه «فكرة العدالة» أن
يكون مصنف ًا يف نظرية العدالة وال يف مفاهيمها املتشعبة ،بل فقط يف فكرهتا؛ أي يف ما يتناسل من جتربتنا املعيشة معها ،بعيد ًا َّ
عم تُلحقه
هبا النظر َّية واملفهوم من َأ ْم َث َلة.
لتصورمها النظري ،فهو ال يقحم نفسه داخل إطار ُّ ال يستقيم احلديث عن العدالة والديمقراط َّية عند أمارتيا صن دونام نقد جذري
جمرد عن العدالة والديمقراط َّية ،وإنَّام غرضه وغايته إجرائ َّية املفهومني وما يتلومها من مفاهيم
تصور فلسفي َّ
نظري حمض ،وال يريد بناء ُّ
حمايثة هلام.
-اإلحاالت املرقّمة هي لكاتب املقال ،أ ّما املشار إليها بعالمة * فهي للمرتجم.
استفادت هذه الرتجمة من مالحظات وتوجيهات األستاذ محمد هاشمي املختص يف فلسفة جون رولز ،واألستاذ خالد العارف املختص يف الدراسات اإلنجليزيَّة
والكولونياليَّة.
-نبيل فازيو ،العدالة مبا هي رهان عمومي ،أمارتيا صن ضد جون رولز ،مجلة الفكر العريب املعارص ،عدد .161-160 ،ملزيد من اإليضاحات حول نظريَّة جون رولز يف
العدالة انظر دراسة متينة للباحث محمد هاشمي ،نظرية العدالة عند جون رولز نحو تعاقد اجتامعي مغاير ،دار توبقال للنرش .2014 ،
* AMARTYA SEN, Democracy as Public Reason, pp. 321 - 335, in. The Idea of Justice, Harvard University Press Cambridge,
Massachusetts, 2009.
** باحث ومرتجم من املغرب
الديمقراط َّية قيمة كون َّية ،قد حترض يف الغرب التصورات الفلسف َّية املن ّظرة
ُّ تصور الرجل هذا ال يستقيم ّ
وجل ُّ
كام قد تغيب عنه ،وقد تنبت يف بيئات غري غرب َّية لفكرة الديمقراط َّية ،حسبها َّأنا أمهلت مسألة الديمقراط َّية يف
البلدان غري الغرب َّية ،إ َّما عمد ًا أو جهالة ،وهو بذلك يزيح النقاش
مغايرة متام ًا
إن الديمقراط َّية السيايس املعارص بدرجات كبرية ،فامذا يعني القول َّ
قدَ ر غريب؟ إنَّه قول متهافت يف نظر أمارتيا صن ،ووهم ال ُّ
ينفك
إن «الديمقراط َّية نتاج خالص للقرن الفكر الغريب أن يتخلص منه .يكتب الرجل يف مقالة بعنوان« :الديمقراط َّية باعتبارها قيمة كون َّية» َّ
1
لتطور طبيعي ألشكال احلكم عرب التاريخ» ،وههنا يستدل العرشين ،لكن ال يفيد هذا القول َّإنا نتاج غريب بالرضورة ،بل ْقل َّإنا نتاج ُّ
مهها ،عىل تطور فكرة الديمقراط َّية ،من أ ُّ
أمارتيا صن بمجموعة من األحداث التارخي َّية التي سامهت ،وإن عن مسافة تارخي َّية مهمة ،يف ُّ
يؤسس يف القرن الثالث قبل امليالد قواعد النقاش سبيل املثال ،التجربة اهلند َّية من خالل اإلمرباطور آشوكا ( )Ashokaالذي راح ّ
العمومي ،وكانت بعض املدن اآلسيو َّية س َّباقة يف مطارحة بعض أنواع احلكم العام التشاوري الديمقراطي؛ ـ إيران وباكرتيا باهلند -يف
حكم البلديات خالل القرون التي تلت ازدهار ديمقراط َّية أثينا ،فكان ملدينة شوشان أو سوسة ( شوش اليوم) مثالً ،جنوب غريب إيران،
جملس شورى منتخب ،وجملس للعموم ،ووالة منتخبون من طرف هذا األخري ،...ومل يكن العامل اإلسالمي استثناء يف هذا الباب ،فعىل
فإن ُحكمنا هذا سيكون جمانب ًا للصواب إن نحن الرغم من االنتقادات واملالحظات التي يمكن أن نكيلها ألنظمة احلكم اإلسالمي قدي ًامَّ ،
فخ التعميم والتسفيه واالبتذال ،فقد كانت ،حسب أمارتيا صن ،نامذج حكم عريب -إسالمي مستنرية ،خصوص ًا يف األندلس، سقطنا يف ّ
حافظت عىل حلمة املجتمع واندماج األقل َّيات الدين َّية واإلثن َّية ،وحافظت عىل حقوقها كاملة ،بل ومن داخل بالط السلطة السياس َّية
أحيان ًا .وعىل الرغم ممَّا يمكن مالحظته عىل الرجل من فقر يف معرفته بتاريخ العامل العريب اإلسالمي لدرجة أنَّه يسقط يف أخطاء تارخي َّية
فادحة ،إال أنَّه اجتهد بام يكفي يف بلورة أطروحته األساس َّية ،حسبه أنَّه ال هيتم باألحداث التارخي َّية إال باعتبارها ذريعة ملجاوزة فكرة َّ
أن
«الديمقراط َّية غرب َّية املنشأ».
تستند الديمقراط َّية أساس ًا عىل احلوار والنقاش العمومي ،والتشاور ،واحلكم التشاركي ،ليس باملعنى الض ّيق الذي يفيد مشاركة
أن هذا ال يعني احتكارها بام ينتج عنه س ّن قوانني حسب اهلوى بداعي اجلميع يف السلطة ،فمن الرضوري وجود تفاوت يف السلطة ،ب ْيد َّ
إن األمر يرتكز عىل مشاورة سياس َّية بني مجيع األطراف يف تدبري الشأن العمومي .تلك هي نقطة ضعف الرشع َّية الرشع َّية االنتخاب َّية ،بل َّ
االنتخاب َّية ،فهي وإن كانت تستجيب لألصوات الشعب َّية يف التعبري عن اختياراهتا بك ُّل حر َّيةَّ ،
فإنا باملقابل قد ختلق جو ًا من الطغيان
واالستبداد «املرشوعني» اللذين قد يفضيان إىل رضب صميم الديمقراط َّية ،بام هي «حكم بالنقاش العمومي».
1 . Amartya Sen, Democracy as a Universal Value, Journal of Democracy 10.3 (1999), pp. 3 - 17.
المترجم
َ النص
ُّ
قد تكون فصول هذا الكتاب سامهت يف توضيح أمهية االستدالل العمومي* لفهم العدالة .جيرنا هذا األمر إىل إدراك الصلة بني فكرة
ُّ َّ
العدالة وممارسة الديمقراط َّية ،خصوص ًا إذا ما استحرضنا التأييد الواسع لفكرة الفلسفة السياس َّية املعارصة التي مفادها أن الديمقراط َّية
َّ
هي :احلكم عن طريق النقاش.
لعل وولرت باجهوت ()Walter Bagehotكان َّأول من صاغ هذه الفكرة ،لك َّن مسامهة جون ستيوارت ميل () John Stuart Mill
لعبت دور ًا كبري ًا يف تقريب هذه الفكرة للفهم والدفاع عنها.2
يوجد بطبيعة احلال املنظور األقدم واألكثر رسم َّية للديمقراط َّية ،الذي يتم َّيز أساس ًا بداللة االنتخابات واألصوات ،وليس باملنظور
توسع فيام بعد يف الفلسفة السياس َّية املعارصة بشكل كبري ،لدرجة مل يعد ُينظر إليها
األوسع كحكم بالنقاش .لك َّن فهم الديمقراط َّية َّ
سميه جون رولز« :ممارسة االستدالل العمومي» .وهذا ما انطالق ًا من عالقتها بمطالب التصويت العام ،بل بشكل أكثر رحابة؛ بام ُي ّ
حصل فعالً ،فقد أحدثت أعامل رولز 3وهابرماس 4واألدب َّيات السياس َّية التي نرشت مؤخر ًا يف هذا املوضوع ،ومن بينها إسهامات
* يعتمد أمارتيا صن عىل مفهوم جون رولز االستدالل العمومي ()Public reasonالذي ال يفيد القول املرسل أو الربهان أو األمر ،وإنّ ا تسويغ القول انطالقاً من مبادئ
يت ُّم التوافق حولها .االستدالل العمومي هو االستعامل العمومي للعقل بتجريد؛ مبعنى مساهمة فيلسوف السياسة يف إرساء مبادئ عا َّمة ومج َّردة للنقاش العمومي،
وعليه يكون النقاش العمومي مبثابة التداول العام الذي قد تشرتك فيه أطياف سياس َّية متعددة ،بينام يحيل االستدالل العمومي عىل األفكار واملبادئ املج َّردة التي ميكن
أن تساعد وتساهم يف تأسيس النقاش العمومي ،لذلك يتنزل االستدالل العمومي منزلة التجريد ،بينام يحيل النقاش العمومي إىل املشاركة السياسيَّة عامة .يقول جون
رولز« :تختص فكرة االستدالل العمومي يف العمق بالقيم األخالق َّية والسياس َّية األساس َّية التي مبوجبها تتحدد العالقة الدستوريَّة الدميقراط َّية بني الحكومة ومواطنيها
وعالقة هؤالء فيام بينهم ( )...إ َّن فكرة االستدالل العمومي لها بنية محددة من خالل خمسة مظاهر- 1 :املسائل السياسيَّة األساسيَّة التي تطبق عليها- 2 .األشخاص
الذين تطبق عليهم (الحكومة الرسم َّية واملرشحني للعمل الحكومي) - 3محتواها كام متنحنا إيَّاه مجموعة من املفاهيم السياس َّية املعقولة ملفهوم العدالة- 4 .تطبيق
هذه املفاهيم يف النقاشات حول املعايري اإللزاميَّة التي سيتم إعاملها وترشيعها يف قالب قانون رشعي لشعب دميقراطي- 5 .الضبط الذي يضطلع به املواطنون يف كون
املبادئ املستقاة من مفهومهم للعدالة تستجيب ملعيار التبادلية» .انظر:
- J. Rawls, The Idea of Public Reason Revisited, The University of Chicago Law Review, Vol. 64, No. 3 (Summer 1997). P. 767.
- 2يستحرض كليمونت أتيل ( )Clement Attleeالوصف الخاص للدميقراط َّية الذي يعترب خطاباً شهريا ً ال يستحق الشهرة ،ألقاه يف أكسفورد يف يونيو 1957عندما مل
يتاملك نفسه يف قول نكتة صغرية -أعتربها مرحة عندما ت ُسمع ألول م َّرة -حول موضوع ذي أهمية ،إذ قال« :تعني الدميقراطيَّة الحكم بالنقاش ،لك َّنها ال تكون فعالة إال
إذا استطاعت إسكات الناس» .عن مجلة الزمن15 ،يونيو .1957
- 3انظر عىل وجه خاص كتابه :نظرية العدالة والليرباليَّة السياسيَّة.1993 ،
4 - Jürgen Habermas , The Structural Transformation of the Public Sphere (Cambridge, MA: MIT Press, 1989); The Theory of
Communicative Action (Boston,MA: Beacon Press, 1984), and Moral Consciousness and Communicative
Action (Cambridge, MA: MIT Press, 1990).
كل من بروس آكرمان )Bruce Ackerman( 5وسيال بن حبيب )Seyla Benhabib( 6وجوشوا كوهن )Joshua Cohen( 7ورونالد ٍّ
حتوالً كبري ًا يف فهم الديمقراط َّية .تأويل مشابه للديمقراط َّية جيء به من طرف
دفوركن ( ) Ronald Dworkinوآخرين ،أحدثت ُّ
8
رصح جون رولز بشكل واضح يف كتابه «نظرية يف العدالة» قائالًَّ :
«إن الفكرة النهائ َّية للديمقراط َّية التشاور َّية هي فكرة التشاور ُي ّ
فإنام يتبادالن وجهات النظر ،ويتجادالن حول األسباب املساندة لتلك األفكار املتعلقة نفسها .فحينام يتشاور مواطنان فيام بينهامَّ ،
بمسائل السياسة العا َّمة».10
الرغم من ذلك مازال هناك قدر كبري من سوء الفهم املشرتك يف النقاشات اجلارية حول توصيف طبيعة االستدالل العمومي وعىل َّ
وحصيلته .مثال ذلك مالحظة هابرماس عىل نظرية رولز بكوهنا تعطي أولو َّية للحقوق الليربال َّية تبخس من مكانة العمل َّية الديمقراط َّية،
- 5كان بروس آكرمان قد دافع عن النظريَّة الليربال َّية يف االستدالل العمومي ،انظر:
Social Justice in the Liberal State (New Haven: Yale University Press, 1980). («Why Dialogue?» Journal of Philosophy, 86 (1989).
6 - Seyla Benhabib, Another Cosmopolitanism (New York: Oxford University) Press, 2006.
انظر كذلك املطارحة مع:
Bonnie Honig, Will Kymlicka and Jeremy Waldron. Seyla Benhabib (ed.), Democracy and Difference (Princeton, NJ: Princeton University
Press, 1996). On related matters; Elizabeth Anderson, Value in Ethics and Economics (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1993).
7 - Joshua Cohen and Joel Rogers (eds), On Democracy, London: Penguin1983 Associations and Democracy (London: Verso, 1995).
8 - Ronald Dworkin, Is Democracy Possible Here? Principles for a New Political Debate (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2006).
9 - James Buchanan, ‘Social Choice, Democracy and Free Markets’, Journal of Political Economy, 62 (1954); James Buchanan and Gordon
Tullock, The Calculus of Consent (Ann Arbor, MI: University of Michigan Press, 1962).
10 -John Rawls, Collected Papers (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1999), pp. 579–80; A Theory of Justice (1971), Political
Liberalism. (1993), and Justice as Fairness: A Restatement (2001).
11 - John Rawls, ‘Reply to Habermas’, Journal of Philosophy, 92 (March1995).
- 12علق هابرماس عىل الفوارق بني املقاربات العا َّمة املختلفة يف املفهوم وفكرة االستدالل العمومي .حيث يقارن بني تص ُّوره « التشاور اإلجرايئ» مبا يصفه باآلراء
الليربال َّية والجمهوريَّة .انظر دراسته:
Three Normative Models of Democracy’, in Seyla Benhabib (ed.), Democracy and Difference: Contesting the Boundaries of the Political
(Princeton, NJ: Princeton University Press, 1996)). Seyla Benhabib, ‘Introduction:
The Democratic Moment and the Problem of Difference’, in Democracy and Difference (1996), Amy Gutmann and Dennis Thompson,
Why Deliberative Democracy? (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2004).
ويدرج يف الئحة احلقوق التي يطالب هبا الليربال ُّيون «حر َّية االعتقاد والضمري ،ومحاية احلياة ،واحلر َّية الشخص َّية ،وحق امللك َّية» .13ب ْيد َّ
أن
أي عمل من أعامله.14 إدراج حق امللك َّية ههنا ال يتامشى مع موقف جون رولز ،كونه ،فيام أعرف ،مل يدافع حقيقة عن احلق العام يف امللك َّية يف ِّ
من الواضح جد ًا الفوارق الكثرية يف السبل املختلفة التي يمكن من خالهلا النظر إىل دور االستدالل العمومي يف السياسة
بأي حال من األحوال األطروحة التي أحاول تطويرها هنا .من املهم اإلشارة إىل َّ
أن ِ 15
واألخالق اخلطاب َّية .لك َّن هذه الفوارق ال هتدّ د ّ
تصور عام مفاده َّ
أن املسائل املركز َّية يف املفهوم الواسع للديمقراط َّية هي املشاركة السياس َّية، جممل هذه املسامهات اجلديدة ساعدت يف بناء ُّ
أن الدور احلاسم لالستدالل العمومي يف ممارسة الديمقراط َّية جيعل موضوعها ككل ذا صلة باملوضوع واحلوار ،والتفاعل العمومي .كام َّ
األسايس هلذا العمل؛ أعني العدالة .إذا كانت متطلبات العدالة يمكن تقييمها فقط بمساعدة االستدالل العمومي ،وإذا كان هذا األخري
فإن العالقة بني الديمقراط َّية والعدالة ستكون متينة ،لكوهنام تشرتكان يف سامت ِخطاب َّية.
مرتبط ًا بشكل وثيق بفكرة الديمقراط َّيةَّ ،
تبقى فكرة الديمقراط َّية كحكم بالنقاش يف بعض األحيان ،وهي فكرة مقبولة متام ًا بشكل كبري يف الفلسفة السياس َّية اليوم (وإن كان األمر
ّ
واألقل مرونة خالف ذلك لدى أنصار املؤسسات السياس َّية) ،مثار توتر يف النقاشات املعارصة حول الديمقراط َّية ودورها بمعناها القديم -
التوجه النيتي(، )*nitiالذي يعتمد عىل داللة األصوات واالنتخابات ،ليس تقليدي ًا فحسب، ُّ إن الفهم املؤسسايت ذا من الناحية التنظيم َّيةَّ .
«إن االنتخاباتالرشاح السياسيني املعارصين من بينهم صامويل هنتينغتون( ، )SamuelHuntingtonحيث يقولَّ : بل تبنَّاه العديد من َّ
التحول العام يف الفهم املبدئي للديمقراط َّية
ُّ احلرة واملفتوحة والنزهية هي جوهر الديمقراط َّية ،والرشط الالزم الذي ال حميد عنه» .ورغم
16
َّ
فإن تاريخ الديمقراط َّية يرتبط غالب ًا باملسائل التنظيم َّية الضيقة ،التي تركّز بشكل خاص عىل االقرتاع واالنتخابات.
يف الفلسفة السياس َّيةَّ ،
يبقى لألصوات االنتخاب َّية دور هام يف التعبري عن فعال َّية عمل َّية االستدالل العمومي ،لكنَّها ليست هي العنرص األهم ،بل يمكن
مهم جدَّ ًا وال حميد عنه -يف طريقة اشتغال االستدالل العمومي يف املجتمع الديمقراطي .تعتمد أمه َّية التصويت
اعتبارها جزء ًا فحسب ـ َّ
أن التصويت وحده قد يبدو غري مالئم للغاية ،مثلاموحق االختالف .17ب ْيد َّ
بالفعل عىل تبعاته مثل حر َّية التعبري ،والوصول إىل املعلومة ّ
13 - Jürgen Habermas, Reconciliation through the Public Use of Reason: Remarks on John Rawls’s Political Liberalism’, Journal of
Philosophy, 92 (1995), pp. 127–8
حق امللكية دورا ً ذرائع َّياً ها َّماً .يف حني أ َّن رولز يقبل التفاوت يف إجراءاته
-14رمبا تأثر هابرماس يف مقاربته بحقيقة مفادها أ َّن رولز ال يعطي مكاناً للحوافز ،األمر الذي قد مينح ّ
تحسن هذه املكتسبات حالة األفقر حاالً .ناقشت ذلك يف الفصل الثاين« :رولز وما بعده» عندما انتقدت جي إيه كوهن ،يف كتابه:
العداليَّة ألسباب تتعلق بالحوافز عندما ِّ
Rescuing Justice and Equality, 2008هذه الخاص َّية ملبدأي رولز يف العدالة أن نقبل أو نرفض التفاوتات ألسباب لها عالقة بالحوافز فإ َّن األمر ليس له أ ُّي دور فيام يزعم هو
أنَّه مجتمع عادل ،لك َّن املهم هو أن ندرك أ َّن رولز ال يؤيّد حقوق امللكيَّة بإطالق كجزء من حريَّة اإلرادة كام يعترب روبريت نوزيكAnarchy , State and Utopia, 1974 :
15 - Joshua Cohen, ‘Deliberative Democracy and Democratic Legitimacy’, in Alan Hamlin and Philip Pettit (eds), The Good Polity
(Oxford: Blackwell, 1989); Jon Elster (ed.), Deliberative Democracy (Cambridge: Cambridge University Press, 1998); Amy Gutmann and
Dennis Thompson, Why Deliberative Democracy? (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2004); James Bohman and William Rehg,
Deliberative Democracy (Cambridge, MA: MIT Press, 1997).
* تشري إىل فن الحكم عموما ،وتنسب إىل املفكر السيايس الهندي( 275 - 350 )Vishnugupta Chânakyaقبل امليالد ،له العديد من الكتب املفقودة باللغة
السنسكريتية حول فنون الحكم ،يعتربه بعض مفكري السياسة مبثابة ماكيافييل عرصه.
16- Samuel Huntington, the Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century (Norman, OK, and London: University of
Oklahoma Press1991), p. 9.
- 17حول أهم َّية حريَّة التعبري والنقاشات املتعلقة بها يف الواليات املتحدة األمريك َّية انظر:
إذا كانت متطلبات العدالة يمكن تقييمها فقط هو األمر يف االنتصارات االنتخاب َّية الكبرية للحاكمني الطغاة
بمساعدة االستدالل العمومي ،وإذا كان هذا داخل األنظمة التسلط َّية ماضي ًا وحارض ًا ،مثال ذلك كوريا
الشاملية حال َّي ًا .ال تكمن الصعوبة فقط يف الضغط السيايس
األخري مرتبط ًا بشكل وثيق بفكرة الديمقراط َّية،
والعقايب املامرس عىل املقرتعني يف عملية االقرتاع نفسها ،بل ويف
فإن العالقة بني الديمقراط َّية والعدالة ستكون َّ طريقة التعتيم رقابي ًا عىل آراء اجلمهور ،وحجب املعلومات عن
متينة ،لكوهنام تشرتكان يف سامت ِخطاب َّية الناس ،وزرع اخلوف وقمع املعارضة وعدم استقالل َّية وسائل
اإلعالم ،وغياب حقوق اإلنسان األساس َّية واحلر َّيات الفرد َّية
كل هذه املعطيات جتعل من السهل جد ًا عىل السلطات احلاكمة استخدام َّ
القوة املفرطة لضامن تطابق تام يف عملية التصويت. السياس َّيةُّ .
أي إكراه خالل عملية التصويت،ال بالنسبة إىل بعض الطغاة الذين حققوا انتصارات انتخاب َّية مدو َّية حتى دون استعامل ّ هذا ما حصل فع ً
جو من القلق واخلوف. من خالل قمع النقاش العمومي وحر َّية اإلعالم وخلق ٍّ
متحمسني للعدالة العامل َّية يف غياب الدولة العامل َّية السياد َّية ،ولكن أليست
ِّ قد يكون جون رولز وتوماس ناجل ()Nagel Thomasغري
حماولة الرفع من شأن العدالة العامل َّية من خالل النقاش العمومي تقوم هبا شعوب العامل نفسها بنفسها ولصاحلها عسرية هي األخرى؟ سبق
أن رشوط احلياد أن أرشنا يف الفصل اخلامس من هذا الكتاب« :احلياد واملوضوع َّية» والفصل السادس :احلياد املغلق واحلياد املفتوح ،إىل َّ
كل بقاع العامل املعارص .إن كان هذا صحيح ًا ،أفال تكون تلك الرضورة املفتوح ُتيس يف املنظور العاملي رضور َّية ملقاربة العدالة عا َّمة يف ّ
أن العامل منقسم انقسام ًا كبري ًا إىل مجاعات من الصعب جدَّ ًا إقناع الكثري منها باالستدالل العمومي؟ إنَّه تساؤل كبري مستحيلة إذا علمنا َّ
جدَّ ًا ،ومن الصعب جتاهله ،عىل الرغم من صالته الواقع َّية الوشيجة مع هذا العمل يف نظر َّية العدالة .ومنه فمن األمه َّية بمكان دراسة ما
إذا كان تقليد الديمقراط َّية ،سواء بمعناها التنظيمي باعتبارها تصويت ًا وانتخابات ،أم باعتبارها «حك ًام بالنقاش» أساس ًا ،غربي ًا كان أم ال.
عندما تعترب الديمقراط َّية يف املنظور املحدود استدالالً عموم َّي ًا يتجاوز السامت املؤسسات َّية النوع َّية التي نشأت قو َّية يف أوروبا وأمريكا
فإن علينا تقييم التاريخ الفكري للحكم التشاركي يف مناطق كثرية من العامل -ليس يف أوروبا وأمريكا يف القرون القليلة املاضيةَّ ،
الشاملية فحسب .18-غالب ًا ما تشري حركات االنفصال الثقايف التي تنتقد كون الديمقراط َّية قيمة كون َّية ،إىل الدور الفريد لليونان القديمة،
خصوص ًا أثينا ،حيث برز التصويت بشكل خاص يف القرن السادس قبل امليالد.
Anthony Lewis, Freedom for the Thought That We Hate: A Biography of the First Amendment (New York: Basic Books, 2007).
- 18ناقشت هذه العالقات يف مقااليت:
;Democracy as a Universal Value, Journal of Democracy, 10 (1999); Democracy and Its Global Roots, New Republic, 6 October 2003
Identity and Violence: The Illusion of Destiny (New York: W. W. Norton & Co., and London and Delhi: Penguin, 2006), pp. 51–5.
مسوغ للرأي االنفصايل ثقافي ًا يف أصول االنتخابات بأوروبا يتطلب فإن البحث عن ّ وحتى إن نحن فكَّرنا يف عملية التصويت فقطَّ ،
مجة يف تعريف احلضارات انطالق ًا ممَّا هو إقليمي ،وليس انطالق ًا من التاريخ الدقيق لألفكار قدر ًا كبري ًا من املالحظة .هناك َّأوالً صعوبات َّ
واألفعال ،كأن ننسبها بشكل فج إىل منطقة كاملة فنقول «أوروب َّية» أو «غرب َّية» .هبذا الشكل يف النظر للفئات احلضار َّية ،ال مانع ولن نجد
ال من الفايكينغ والقوط الغربيني ورثة أصليني للتقليد االنتخايب اليوناين القديم (كوهنم جزء ًا من الساللة صعوبة يف اعتبار املنحدرين مث ً
أن اليونان القدامى ،الذين كانوا منخرطني جد ًا يف التبادل الثقايف مع احلضارات القديمة األخرى رشقي وجنويب األوروب َّية) ،بالرغم من َّ
أي اهتامم للتو ُّدد إىل القوط الرشقيني أو الغربيني.اليونان (خصوص ًا إيران واهلند ومرص) ،مل يكونوا يعريون َّ
رواد ًا يف تدشني التصويت ،كانت هناك مناطق تتعلق املشكلة الثانية بام ييل التجربة اليونانية املبكرة يف التصويت .فبينام كان األثينيون َّ
أن التجربة اليونانية يف احلكم آسيو َّية كثرية اعتمدت التصويت يف القرون الالحقة ،والتي تأثرت باليونان .ليس هناك ما يشري إىل َّ
االنتخايب كان هلا أثر مبارش عىل بلدان غريب اليونان وروما فيام يعرف اليوم بفرنسا وأملانيا وبريطانيا .عكس ذلك متام ًا كانت لبعض املدن
اآلسيو َّية ـ إيران وباكرتيا باهلند -بعض عنارص الديمقراط َّية يف حكم البلديات خالل القرون التي تلت ازدهار الديمقراط َّية األثين َّية،
فكان ملدينة شوشان أو سوسة (شوش اليوم) مثالً ،جنوب غريب إيران ،جملس شورى منتخب ،وجملس للعموم ،ووالة منتخبون من
طرف هذا األخري.20
تعززت املامرسة الديمقراط َّية املحل َّية يف اهلند جيد ًا ،وقد كان سيدين كوارلز ( ) Sidney Quarlesيشري إىل ذلك وهو يتجاذب أطراف
َّ
احلديث مع راشيل( ،)Rachelباعتبارها موضوع ًا لدراسته الومه َّية بلندن ،لدرجة كان يقتبس أسامء كُتاب هلم صلة باملوضوع .كان
21
آمبيدكار( )Ambedkarالذي كان يشغل رئيس جلنة صياغة الدستور اهلندي اجلديد لطرحه عىل املجلس التأسييس بعد االستقالل سنة
موسعة يف اهلند
موسع حول هذه الصلة بني جتارب اهلند القديمة يف الديمقراط َّية املحل َّية وبني غاية بناء ديمقراط َّية َّ
،1947قد كتب بشكل َّ
احلديثة.22
- 19كان ظهور اإلجراءات الدميقراطيَّة يف اليونان بسبب مجموعة من الظروف االستثنائيَّة التي جعلت األمر ممكناً ومستم َّرا ً .وقد َّبي جون دان يف كتابه العميق عن
تاريخ الدميقراط َّية أ َّن الحكم الدميقراطي بدأ مرتجالً نتيجة صعوبة يونان َّية محل َّية قبل ألفني وخمسامئة سنة ،ثم ازدهر بعد ذلك خالل مرحلة وجيزة ،لك َّنه تراجع بعد
ذلك يف كل مكان تقريباً نحو ألفي سنة Democracy: A History (2005), pp. 13–14رغم أنَّني أرى أ َّن الدميقراطيَّة مبعناها الواسع كسجال عمومي مل تتط َّور ومل
تندحر بهذه الرسعة ،فإ َّن رأي دان ينطبق دومنا ّ
شك عىل املؤسسات الدميقراط َّية الرسم َّية التي ظهرت يف اليونان القدمية ،وانترشت بعد ذلك يف عدد من البلدان كإيران
والهند ،تحت تأثري التجربة اليونانية ،لك َّنها لن تعاود الظهور إىل عهد قريب ج َّدا ً يف أيامنا هذه.
- 20لالطالع أكرث عىل بعض التجارب الهنديَّة يف الحكم الدميقراطي املحيل ميكن العودة إىل:
Radhakumud Mookerji, Local Government in Ancient India (1919) (Delhi: Motilal Banarsidas, 1958).
يتبي ذلك من خالل الكتب التي يوردها
- 21كان ألدو هاكسيل ()Aldous Huxleyعىل اطالع واسع بأدبيات التجارب الهنديَّة القدمية يف الدميقراط َّية الحرضيَّةَّ ،
سيدين كوارلز لزوجه كمواضيع لدراسته خالل زيارته التي كان ينوي القيام بها إىل مكتبة املتحف الربيطاين.
- 22مل يجد آمبيدكار خالل دراسته لتاريخ الدميقراط َّية املحل َّية يف الهند القدمية أيَّة قيمة تذكر يف االعتامد عىل هذه التجارب املحل َّية القدمية من أجل وضع دستور
أن النظرة األوسع للديمقراط َّية باعتبارها استدالالً عموم َّي ًا هيلقد كان ملامرسة االنتخابات تاريخ مهم يف املجتمعات غري الغرب َّية ،ب ْيد َّ
مهم وممتاز ًا يف النقاش العموميَّ ،
فإن ً
سجال ًَّ سبب فشل االنتقاد الثقايف للديمقراط َّية كظاهرة إقليم َّية خالصة .23وعىل الرغم من َّ
أن ألثينا
أن من بني أقدم االجتامعات املفتوحة التي كانت هتدف التشاور املفتوح كان قد ازدهر بشكل كبري يف عدَّ ة حضارات قديمة أخرى؛ ذلك َّ
حل اخلالفات بني خمتلف وجهات النظر ،يف املسائل االجتامع َّية والدين َّية ،كانت قد جرت يف اهلند من خالل املجالس البوذ َّية ،حيث إىل ِّ
كان جيلس أصحاب وجهات النظر املختلفة ملناقشة خالفاهتم ،ابتداء من القرن السادس قبل امليالد .كانت أوىل هذه املجالس قد انعقدت
يف راجاغريا (( )Rajagrihaراجغري Rajgirحالي ًا) عىل إثر وفاة غوتاما بوذا (َّ ،)Gautama Buddha
ثم انعقد الثاين بعد حوايل مائة سنة
يف فيسايل ( ،)Vaisaliأ َّما آخرها فقد كان يف القرن الثاين للميالد بكشمري (.)Kashmir
اإلمرباطور آشوكا ( )Ashokaالذي استضاف املجلس البوذي الثالث واألكرب يف القرن الثالث قبل امليالد يف باتنا ( )Patnaعاصمة
(املسمة آنذاك باتاليبوترا ()Pataliputraحاول نرش بعض أقدم صيغ قواعد النقاش العمومي (شبيهة بنسخة قديمة َّ اإلمرباطورية اهلند َّية
من قواعد نظام روبرت * ( )Robertلإلجراءات الربملان َّية يف القرن التاسع عرش) .ويف اليابان وضع األمري البوذي شوتوكو ()Shotoku
24
يلح ،بشكل ويص عرش أ َّمه ،اإلمرباطورة سويكو ( ، )Suikoما ُس ّمي «دستور املواد السبع عرشة» ،سنة 604للميالد .كان هذا الدستور ُّ
يشبه كثري ًا روح امليثاق األعظم** التي ُعقدت بعده بستة قرون سنة ،1215عىل« :عدم اختاذ القرارات يف املسائل اهلا َّمة من طرف شخص
أن دستور القرن السابع املستوحى من البوذ َّية خطوة أوىل لليابان من أجل واحد ،بل جيب أن تناقش مع أناس كثريين» .25اعترب البعض َّ
فلكل امرئ قلبِّ ،
ولكل االرتقاء التدرجيي إىل الديمقراط َّية .26وأسهب هذا الدستور يف القول :جيب َّأل نغضب الختالف اآلخرين معناِّ ،
يتكرر يف تاريخ الكثري من البلدان غري الغرب َّية.
إن موضوع النقاش العمومي َّأن صواهبم خطؤنا ،وصوابنا خطؤهمَّ . قلب هوى .ذلك َّ
للدميقراط َّية الهنديَّة الحديثة .معتربا ً أ َّن مسألة «املحل َّية» أنتجت أفقاً ضيقاً ومنغلقاً ،كام أشار إىل أ َّن جمهوريات األرياف كانت سبباً يف خراب الهند ،انظر:
The Essential Writings of B. R. Ambedkar, edited by Valerian Rodrigues (Delhi: Oxford University Press, 2002), particularly essay 32: ‘Basic
Features of the Indian Constitution’.
-23عالجت هذه املسائل يف كتايب:
The Argumentative Indian (London and Delhi: Penguin, and New York: Farrar, Straus and Giroux, 2005), and Identity and Violence: The
Illusion of Destiny (New York: W. W. Norton & Co., and London: Penguin, 2006).
*( 1923 - 1873 )Henry Martyn Robertكان لواء يف الجيش األمرييك تكلف بوضع قواعد إجرائية للعمل الربملاين ،كان هدفه صياغة كراسة ال تتجاوز خمسني
صفحة ،لك َّنه ط َّورها لتصبح كتاباً يناهز 176صفحة ،وبعد نرشه َّ
توصل برسائل عديدة من قرائه تطالبه بإيضاح ما استغلق يف بعض قواعده اإلجرائيَّة .مل ميهله املوت
لتطوير عمله فأوىص زوجه وأبناءه باستكامل الكتاب.
**امليثاق األعظم أو ما يصطلح عليه املاكنا كارطا ( ،)MagnaCartaهو وثيقة إنجليزيَّة صدرت ألول م َّرة عام 1215م .ث َّم صدرت م َّرة أخرى يف القرن الثالث عرش
ولكن بأحكام أقل ،حيث ألغيت بعض األحكام املؤقتة املوجودة يف النسخة األوىل ،خصوصاً تلك التي تو ّجه تهديدات رصيحة إىل سلطة الحاكم ،وقد اعتمدت
هذه الوثيقة قانوناً عام 1225م وما تزال النسخة التي صدرت عام 1297م ضمن كتب لوائح األنظمة الداخليَّة إلنجلرتا وبالد الغال حتى اآلن .يحتوي ميثاق عام 1215م
عىل أمور عدَّة ،منها :مطالبة امللك بأن مينح حريَّات محدَّدة ،وأن يقبل بأ َّن حريته لن تكون مطلقة ،وأن يوافق علناً عىل عدم معاقبة ّ
أي «رجل حر» إال مبوجب قانون
الدولة ،وهذا الحق مازال قامئاً حتى اليوم يف هذه الدول.
- 24انظر الفصل الثالث من هذا الكتاب :املؤسسات واألشخاص ،وكذلك كتايب2005:
The Argumentative Indian.
- 25من أجل مناقشة مستفيضة ملسألة التقاليد أحيل عىل كتايب ،The Argumentative Indian 2005 :ث َّم كتايب.Identity and Violence 2006 :
26 - Nakamura Hajime, ‘Basic Features of the Legal, Political, and Economic Thought of Japan’, in Charles A. Moore (ed.), the Japanese
Mind: Essentials of Japanese Philosophy and Culture (Tokyo: Tuttle, 1973), p.144.
أي افرتاض ضمني لصيق بالتاريخ ال ينفلت منه ،لذلك فاالبتعاد عن املايض مطلوب دوم ًا ال تكمن صلة هذا التاريخ العاملي يف ِّ
بأشكال خمتلفة .وليس علينا أن نُولد ببلد له تاريخ طويل يف الديمقراط َّية الختيار تلك الطريق اليوم .تكمن أمه َّية هذا التاريخ يف إدراك
تظل تؤثر عىل أفكار الناس ،ويمكنها أن تُلهم أو تشكِّل عائق ًا ،وجيب أخذها بعني االعتبار سواء أكانت تدفعنا إن أن التقاليد الراسخة ُّ
َّ
كنا خاضعني هلا ،ونريد جتاوزها ،أو(كام قال الشاعر اهلندي رابندراناذ ( )Rabindranathبوضوح) نريد معاينة ونقد ما نو ُّد أخذه ونبذه
من املايض ،عىل ضوء اهتامماتنا وأولوياتنا املعارصة.27
ليس مفاجأة إن لعب الوعي بالتاريخ املحيل والعاملي دور ًا عظيم الشأن يف معركة الديمقراط َّية بزعامة سياسيني بواسل وذوي رؤية
ثاقبة يف خمتلف أنحاء العامل )مثال ذلك سن يات -صن( )SunYat-senوجواهر الل هنرو( )Jawaharlal Nehruونلسون مانديال
ومارتن لوثر كينغ وآنغ سان سوكي( .) Ang San Suu Kyiيقول مانديال يف كتابه« :الطريق الطويل إىل احلر َّية» واصف ًا انفعاله وتأثره
عندما كان يافع ًا لرؤية الطبيعة الديمقراط َّية لألحداث االجتامع َّية املحل َّية التي كانت تُعقد ببيت املدرس(:)Mqhekezweni
«كان اجلميع يمكنه احلديث .وكانت تلك هي الديمقراط َّية يف أهبى صورها .ر َّبام كان هناك تسلسل ألمه َّية املتحدّ ثني ،لك َّن صوت
تم سامعه ،الرئيس واملرؤوس ،واملحارب والطبيب ،والبائع واملزارع ،صاحب األرض واألجري ،...كان أساس احلكم الذايت هو اجلميع َّ
أن يكون اجلميع أحرار ًا يف إبداء آرائهم ،ومتساوين يف القيمة باعتبارهم مواطنني» .
28
مل يساهم فهم مانديال للديمقراط َّية كثري ًا يف املامرسة السياس َّية التي كان يرى من حوله من دولة التمييز العنرصي التي كان ّ
يسيها
بأنم «بِيض» فقط ،مع ما يكون هلذا الوصف ههنا من صواب ،بل انطالق ًا من مفهوم أناس من أصل أورويب ،يصفون أنفسهم ،ليس َّ
ثقايف كوهنم أوروب ّيني أيض ًا .مل تُسهم بريتوريا عاصمة جنوب إفريقيا يف فهم مانديال للديمقراط َّية ،ذلك َّ
أن وعيه بالديمقراط َّية ،كام
ستشف من مذكراته ،جاء نتيجة أفكاره العا َّمة يف املساواة السياس َّية واالجتامع َّية ذات اجلذور العامل َّية ،وانطالق ًا أيض ًا من مالحظته
ُّ ُي
ملامرسة النقاش العمومي التشاركي ببلدته املحل َّية.
استثناء؟
ً ِّ
يشكل الشرق األوسط هل
مرة أخرى معاجلة األرض َّية التارخي َّية للسامت الديمقراط َّية ،فإنَّه من الرضوري إعادة تقييم تاريخ الرشق األوسط ،بسبب إذا أردنا َّ
إن هذه اإلدانة املتداولة دائ ًام تيسء إىلألن هذه الكتلة من البلدان كانت دائ ًام معادية للديمقراط َّيةَّ . واملتداول عىل األلسنَّ ،َ االعتقاد السائد
مؤسسات َّي ًا
أن الديمقراط َّية بصفتها نظام ًا ّفإنا ال معنى هلا .صحيح َّ املناضلني يف سبيل الديمقراط َّية يف العامل العريب ،ولكوهنا تعمي ًام تارخي َّي ًا َّ
مل تكن حارضة يف مايض الرشق األوسط ،لك َّن الديمقراط َّية املؤسسات َّية هي يف الواقع ظاهرة جديدة متام ًا يف معظم أنحاء العامل.
فإن الرشق األوسط إذا نحن بحثنا ج ِّيد ًا بمنأى عن االستدالل العمومي والتسامح مع الرأي املخالف ،باملعنى الواسع للديمقراط َّيةَّ ،
سيكون له باع طويل يف األمر .جيب َّأل نخلط ههنا بني التاريخ الض ّيق للرصاعات اإلسالم َّية وبني التاريخ الكبري للشعب املسلم وتقليد
احلكم السيايس للحكام املسلمني .عندما ُأجرب الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون عىل اهلجرة إىل إسبانيا (املسلمة) يف القرن الثاين
حل حمل أنظمة احلكم اإلسالمي املتساحمة نظام آخر ّ
أقل تساحم ًا) مل يلجأ إىل أوروبا ،بل إىل مملكة إسالم َّية متساحمة يف العامل عرش (عندما َّ
أن صالح الدين كان مسل ًام قو َّي ًا، شك يف َّ
العريب ،حيث منحته وظيفة رشف َّية ذات شأن يف بالط اإلمرباطور صالح الدين بالقاهرة .ال َّ
27 - Ramachandra Guha, ‘Arguments with Sen: Arguments about India’, Economic and Political Weekly, 40 (2005), and Amartya Sen, ‘Our
Past and Our Present’, Economic and Political Weekly, 41 (2006).
28 - Nelson Mandela, Long Walk to Freedom (Boston, MA, and London: Little, Brown & Co., 1994), p. 21.
فقد حارب ريتشارد يف سبيل اإلسالم وأبىل بالء عظي ًام يف احلروب الصليب َّية ،وكان ريتشارد قلب األسد أحد أكرب خصومه .لك َّن موسى
مستقره يف مملكة صالح الدين ومتتَّع بحر َّية رأي كبريةَّ .
إن التسامح مع الرأي اآلخر أمر مركزي ههنا ملامرسة االستدالل َّ بن ميمون وجد
العمومي ،وقد منحت أنظمة احلكم اإلسالمي خالل جمدها حر َّية كانت أوروبا حتارهبا من خالل حماكم التفتيش (حتى عىل العلامء
والفالسفة).
أن العامل املعارص مثقل بالرصاع بني اليهود واملسلمني ،إال َّ
أن نظام احلكم اإلسالمي يف مل تكن جتربة موسى بن ميمون استثناء .فرغم َّ
حر َّياهتم
اح ُتمت ّالعامل العريب وإسبانيا العصور الوسطى كان له باع وتاريخ طويل يف استيعاب اليهود بأمان داخل نسيج املجتمع ،حيث ْ
الفرد َّية بل وأدوارهم القياد َّية أيض ًا .29تورد ماريا روزا مينوثال( )Maria Rosa Menocalيف كتاهبا «زينة العامل» (The ornament
أن إنجاز قرطبة يف إسبانيا املسلمة يف القرن العارش أضحى منافس ًا وندَّ ًا لبغداد ،حتى تكون أكثر بقاع العامل حترض ًا،
َّ )of the world
حيث يعود فضل هذا اإلنجاز إىل التأثري املشرتك للخليفة عبد الرمحن الثالث ( 961 - 912م) ووزيره اليهودي أيب يوسف حسداي بن
شربوط.30
توجد الكثري من الروايات حول النقاش العمومي واملشاركة السياس َّية عن طريق احلوار يف تاريخ الرشق األوسط واملسلمني .نلفي
يف املاملك اإلسالم َّية التي قامت حول القاهرة وبغداد وإسطنبول أو إيران أو اهلند أو األندلس الكثري من أبطال النقاش العمومي.
أن هذا التسامح يف تعدد َّية الرأي كان استثنائي ًا مقارنة بأوروبا .ففي الوقت الذي كان فيه اإلمرباطور املغويل العظيم أكرب يصدر
ب ْيد َّ
بيانات يف اهلند حول احلاجة إىل التسامح الديني والسيايس سنة ،1590منهمك ًا يف تنظيم حوارات بني أتباع الديانات املختلفة (هندوس
ومسلمني ومسيحيني وفارسيني وجينيني وهيود بل وملحدين) ،كانت حماكم التفتيش نشطة جد ًا يف أوروبا ،حيث ُأحرق الفيلسوف
جيوردانو برونو ( )Giordano Brunoح َّي ًا يف روما بتهمة اهلرطقة حوايل سنة ،1600وظلت نشيطة حتى حينام كان اإلمرباطور أكرب
يلقي حمارضات بأغرا ( )Agraحول التسامح واحلاجة إىل احلوار الديني واإلثني.
أن الفحص التقييمي ألسباب سمى ببساطة مفرطة «العامل اإلسالمي» كبرية ،غري َّ قد تكون املشكالت احلال َّية للرشق األوسط وما ُي َّ
هذه املشكالت حيتاج ،كام قلت يف كتايب «اهلو َّية والعنف» ،فه ًام مستفيض ًا لطبيعة ودينام َّية سياسات اهلو َّية .األمر الذي يتط ّلب اعرتاف ًا
وأن هذه االنتامءات قد تكون متفاوتة بني األولو َّيات الدنيو َّية واملصلحة السياس َّية باالنتامءات املتعدِّ دة للناس ،ماعدا االنتامء الدينيَّ ،
يتوجب علينا أيض ًا االلتفات إىل املواجهة اجلدل َّية للرشق األوسط مع ماضيه األمربيايل وحارضه َّ يف استغالل االختالفات الدين َّية.
اللديمقراطي للرشق إن وهم القدر َّ االضطهادي الذي فرضته عليه هيمنة الغرب األمربيايل ،وهي هيمنة ماتزال حارضة إىل اليومَّ .
األوسط الذي ال مناص منه ،ما هو إال تشويش مض ِّلل وخطري جدَّ ًا ،باعتباره منهج ًا للتفكري يف السياسة الدول َّية أو العدالة العامل َّية اليوم.
- 29من املهم أن ندرك يف هذا السياق كيف أثر الرتاث الفكري اإلسالمي عىل نهوض الثقافة األوروبية وظهور معامل كثرية تُربط اليوم بالحضارة الغربية ،انظر حول هذا
املوضوع:
David Levering Lewis, God’s Crucible: Islam and the Making of Europe, 570–1215 (New York: W. W. Norton & Co., 2008).
30 - Maria Rosa Menocal, The Ornament of the World: How Muslims, Jews, and Christians Created a Culture of Tolerance in Medieval
Spain (Boston, MA, and London: Little, Brown & Co., 2002), p. 86.
خاصة بعد مرور املرحلة التي كان ينظر فيها إىل فيلسوف الكينونة
حمل نقاش مستمرَّ ، مازالت مسألة تلقي الفكر اهلايدغري يف الثقافة العرب َّية َّ
والزمان نظرة سلب َّية ،باعتباره أحد رموز الفكر النازي واملضاد للنزعة اإلنسان َّية وداعية هناية الفلسفة ،وحرص أطروحاته األنطولوج َّية يف نطاق
ضيق داخل الفلسفة الوجود َّية املعارصة يف صيغتها األملان َّية.
لكن هناك جمموعة من األسامء التي بدأت تنظر إىل مارتن هايدغر نظرة جديدة ،ومع إعادة النظر يف كثري من اآلراء واألفكار السلب َّية انطالق ًا
َّ
من قراءة جديدة لنصوصه وإعادة ترمجتها .وقد بدأ هذه العمل َّية يف الرشق حممود رجب ،وفؤاد كامل ،وعبد الرمحن بدوي ،وعبد الغفار
أن كوكبة املغاربة لعبت وتلعب دور ًا كبري ًا يف استئناف وبسام حجار ،وفؤاد رفقة ،ومشري باسيل عون .كام َّ
مكاوي ،وجماهد عبد املنعم جماهدَّ ،
التفكري يف القضايا التي طرحها مارتن هايدغر من منطلق االنفتاح عىل الكوين دون إمهال اخلصويص ،نذكر من بني تلك األسامء عىل سبيل
السالم بنعبد العايل ،وحممد املثال وليس احلرص :فتحي املسكيني ،وعيل الفريوي ،وحممد املزوغي ،وإسامعيل مهنانة ،وحممد سبيال ،وعبد َّ
الشيخ ،وإسامعيل املصدق ،وعبد اهلادي مفتاح ،وأمحد العلمي ،وحممد الشيكر ،وحممد طواع ،وحممد مزيان...
*باحث من املغرب.
• مارتن هايدغر ،السؤال عن اليشء ،حول نظر َّية املبادئ الرتنسندنتال َّية عند كانت ،ترمجة إسامعيل املصدق ،بريوت .2012
مارتن هايدغر ،الكينونة والزمان ،ترمجة فتحي املسكيني ،بريوت • .2012
• رسائل مارتن هايدغر وحنة آرندت ،ترمجة محيد لشهب ،2014لبنان.
• مارتن هايدغر ،مدخل إىل امليتافيزيقا ،ترمجة عامد نبيل ،بريوت . 2015
• مارتن هايدغر ،األنطولوجيا هرمينوطيقا الواقعان َّية ،ترمجة عامرة النارص ،بريوت .2015
ومهمة التفكري ،ترمجة وعد عيل الرحية ،دمشق .2016 َّ • مارتن هايدغر ،هناية الفلسفة
• مارتن هايدغر ،الفلسفة -اهلو َّية والذات ،ترمجة حممد مزيان ،لبنان .2016
ُخصص هذا الركن ألحد األقالم التي خاضت يف الدروب اهلايدغر َّية ،ومت َّيزت بالدّ قة والتفكري الرصني بعيد ًا عن اخلطابات التبجيل َّية. ن ّ
يتعلق األمر باملفكر اللبناين مشري باسيل عون ،صاحب كتاب« :هايدغر والفكر العريب» الصادر باللغة الفرنس َّية عن دار الرماتان الفرنس َّية،
والذي عرف مؤخر ًا طريقه إىل لغة الضاد عن طريق األستاذ إييل أنيس نجم ،عن املركز العريب لألبحاث والدراسات.
ُيعدُّ الربوفيسور مشري باسيل عون -أستاذ تاريخ الفلسفة األملان َّية واهلرمينوطيقا يف اجلامعة اللبنان َّية -من األسامء العرب َّية البارزة التي تغني
تدل عىل مقدرة عالية عىل مستوى البحث واإلنجاز .ومن بني الدراسات التي أقدم عىل املشهد الثقايف العريب والعاملي بدراساهتا التي ُّ
إصدارها باللغتني العرب َّية والفرنس َّية:
بالعرب َّية:
• بني املسيح َّية واإلسالمٌ .
بحث يف املفاهيم األساس َّية (املكتبة البولس َّية ،جونية ،لبنان.)1997 ،
مقاالت الهوت َّية يف سبيل احلوار (املكتبة البولس َّية ،جونية ،لبنان.)1997 ، ٌ •
األول (املكتبة البولس َّية ،جونية ،لبنان.)2000 ،
• علم األصول الالهوت َّية .يف فلسفة الدين ،باالشرتاك مع عادل تيودور خوري ،اجلزء َّ
• علم األصول الالهوت َّية .يف قضايا اإليامن ،باالشرتاك مع عادل تيودور خوري ،اجلزء الثاين (املكتبة البولس َّية ،جونية ،لبنان.)2002 ،
• جوهر املسيح َّية ومفارقاهتا .املسيح َّية عىل مشارف األلف الثالث ،باالشرتاك مع كري ّلس سليم بسرتس (املكتبة البولس َّية ،جونية ،لبنان.)2001 ،
نظرات يف اإلحلاد املعارص (دار اهلادي ،بريوت.)2003 ، ٌ • بني الدين والفلسفة.
األسس الالهوت َّية يف بناء حوار املسيح َّية واإلسالم (جامعة القدّ يس يوسف ،دار املرشق ،بريوت.)2003 ، • ُ
الغريب (دار املرشق ،بريوت.)2004 ، الفلسفي بحث يف تاريخ علم التفسري الفسارة الفلسف َّيةٌ . • ِ
ّ ّ
املسيحي (دار املرشق ،بريوت.)2005 ، ّ الديني
ّ ومساءالت يف الفكر
ٌ اجتهادات
ٌ • حمن ُة اإليامن.
املسيحي .مقتضيات النهوض والتجديد واملعارصة (دار الطليعة ،بريوت.)2007 ، ّ الديني
ّ العريب
ّ • الفكر
• بني اجلامعة والسياسة (منشورات جامعة الروح القدس ،الكسليك ،جونية ،لبنان.)2007 ،
• النور واملصابيح .التعدُّ د َّية الدين َّية يف جرأة املساءلة الالهوت َّية املسيح َّية (منشورات جامعة البلمند ،لبنان.)2008 ،
اللبناين (دار النهار ،بريوت.)2008 ،
ّ النظري وواقعه
ّ املسيحي يف بنائه
ّ السيايس
ّ • بني الدين والسياسة .الفكر
تصورات املسيح َّية واإلسالم (املكتبة البولس َّية ،جونية ،لبنان.)2010 ، • بني االبن واخلليفة .اإلنسان يف ُّ
العريب لألبحاث ودراسة السياسات ،بريوت.)2015 ، ّ العريب (تعريب إييل نجم ،املركز ّ • هايدغر والفكر
البنيوي يف الذات اللبنان َّية (دار سائر املرشق ،بريوت.)2016 ،
ّ • أهؤالء هم اللبنان ُّيون؟ عوارض االضطراب
بالفرنس َّية
•La cité humaine dans la pensée de Martin Heidegger. Lieu de réconciliation de l’être et du politique, 2e éd.,
Paris, L›Harmattan, 2016.
•Frédéric Gentz. De la paix perpétuelle, Thesaurus de philosophie du droit, Centre de philosophie du droit,
Paris, Vrin, 1997.
•Heidegger et la pensée arabe, Paris, L’Harmattan, 2011.
•Pour une pensée arabe humaniste contemporaine. Paul Khoury et les promesses de l’incomplétude humaine,
Paris, L’Harmattan, 2012.
•Fils et Vicaire. Pour une anthropologie islamo-chrétienne comparée, trad. par Fadi Abdelnour, Paris, L›Har-
mattan, 2015.
•Le Christ arabe. Pour une théologie arabe chrétienne de la convivialité, Paris, Cerf, 2016.
Anthropologies croisées. Essai sur l›interculturalité arabe (à paraître).
تنجر عن انفتاح الفكر العريب عىل املرشوع اهلايدغري ،وذلك انطالق ًا من كونه يبسط مشري باسيل عون جمموع الفوائد التي يمكن أن َّ
مرشوع ًا قد يتيح لنا إمكانات التفكُّر يف كينونتنا بشكل يضمن حيو َّية نقد َّية استثنائ َّية ،وذلك بوقوفنا بأنفسنا عىل إمكانات حمتملة متكننا
يتوجب علينا الرشوع يف أقلمة املنهج
من بلوغ االختبار اخلاص بثقافتنا العرب َّية يف عمق مسعاها التارخيي اخلصويص .ومن أجل ذلك َّ
الفنومينولوجي يف الفضاء الثقايف العائد إىل العامل العريب احلايل .كام يؤكّد مؤلف الكتاب عىل رضورة أن يتخذ هذا االنفتاح شكل املساءلة
النقد َّية املتيقظة دون اإلرساف يف املديح والتم ّلق ملا خ َّطه فيلسوف الكينونة.
إن االلتزام باملساءلة األنطولوج َّية اهلايدغر َّية وما تتيحه من إمكانات مساءلة الذات عىل ضوء مسألة الكينونة تعترب حسب باسيل عون َّ
استمرار ًا للجهود التي بذلتها النخب الثقاف َّية العرب َّية ،سواء تلك التي أخذت لبوس ًا ماركسي َا اشرتاكي ًا ،أو التي أخذت لبوس ًا وجودي ًا
بحق الوجود التارخيي للبرش من دون الوقوع يف املقابل يف فخ شخصاني ًا .فاهلدف واحد وهو حترير املجتمع العريب من الظلم الذي ارتُكب ّ
اإليديولوجيا ،وختليص النفس العرب َّية من االنحرافات واألمراض التي ابتليت هبا عىل نحو مرير من دون االنعزال باملقابل يف األنا اآلرسة،
اجلوان َّية اهلانئة.
األنا َّ
أن املشكالت التي واجهها العامل والفكر الغرب َّيان التي خيتلف العامل الذي ظهر فيه هايدغر عن العامل الذي نشأ فيه الفكر العريب ،وهذا يعني َّ
استدعت قيام الفكر اهلايدغري ،ختتلف جوهري ًا عن املشكالت التي واجهها الفكر والعامل العرب َّيان ،والتي حتكم الفكر العريب املعارص يف نشأته
وتكونه .فمن جهة الغرب حداثة مفرطة ،ومن جهة العرب حداثة معطلة ،وفيام تثري احلداثة املفرطة يف الغرب ر َّدة فعل تتمثل يف احلنني إىل ُّ
التحرر واإلصالح. ُّ األصول والعودة إليها ،تساهم الفاقة والركود القائمتان يف العامل العريب يف شحذ اإلرادات شحذ ًا راديكالي ًا ،ودفعها باجتاه
وحيركه حرص ًا الكشف عن حقيقة الكون والكائن ،بموجب إذا كان الفكر اهلايدغري ذا طابع أنطولوجي ملغز تتصارع حوله التأويالتّ ،
فإن الفكر العريب يفتقر إىل منظومة متجانسة اإلقبال اخلاص بالوجود األصيل غري امليتافيزيقي ،وهو الوجود الذي يمتنع هايدغر عن تسميتهَّ ،
ومتناسقة ذات قاسم مشرتك قابل إلدارة جممل جتليات هذا الفكر إلنجازاته ،وذلك راجع لتعدُّ د مصادر الفكر العريب ،وتغلغل نزعاته
يظل اإلسالم اإليديولوج َّية ،باإلضافة إىل العامل الالهويت أو الكالمي ،فالقض َّية اإلهل َّية تسكن الفكر العريب وخترتقه جدل َّية العقل والنقل ،إذ ُّ
يف قلب املسألة العرب َّية ،إسالم يطبع املجتمع العريب يف العمق بطابعه اخلاص ،ويشغل ّ
كل األبعاد الروح َّية والزمن َّية املالزمة للحياة البرش َّية
تم جتاوز هذا الوضع لظهر الفكر العريب للعيان يف شكل صورة متناسقة تطرح فيها بإحكام متامسك ومنطقي ،املشكالت الفرد َّية واجلامع َّية .لو َّ
الفعل َّية التي يواجهها العامل العريب ،وأنامط االستدالل والتحليل التي تالئم بالضبط طبيعة هذه املشكالت الفعل َّية التي يواجهها العامل العريب،
تكون النسيجواحللول النظر َّية والعمل َّية القادرة عىل مداواة النواقص اخلطرية التي حتول دون تفتُّح الكائن البرشي يف خمتلف املجتمعات التي ّ
احلي هلذا العامل.
رغم التجريد املفهومي اهلايدغري املفرط والعيص عىل الفهم ،وما يلحقه من التباسات دالل َّية راجعة إىل االختالفات املفهوم َّية واالصطالح َّية
ظل انبجاس جمهود مستمر يسعى اىل التجديد والتكييف ،ويعيد املوجودة داخل الفكرين ،إال أنَّه ال يلغي إمكانيات االنفتاح والتك ُّيف ،يف ّ
النظر يف:
تقابل نقط االختالف واالنفصال القائمة بني الفكر العريب والفكر اهلايدغري نقط التقاء واتصال ،يمكن أن نجملها فيام ييل:
كل من الفكرين أن يكشف ،عىل طريقته ـ الفكران كالمها افتتنا بالغرب ،وأثار استنكارمها (انحالل/أفول ،هنضة/أصالة) ،وعليه يعتزم ٌّ
اخلاصة ،عن إشارات اخلالص التي تظهر يف الضالل املالزم للذات َّية العائدة إىل األزمنة احلديثة ،وهي الذات َّية التي اقتلعت من جذورها وأطلق
هلا العنان .وتوصيف فرص االستفاقة التي ترتسم مالحمها يف أفق النفور التقني احلديث ،وإجراء العالجات التي تصون الفكر البرشي وتعيد
احتامءه هبدف تصحيح مساره.
ـ يتناول الفكر اهلايدغري حركة الفكر الغريب اإلمجال َّية عىل َّأنا انبساط شبه حمتم للودائع األوىل التي آلت إلينا من الفالسفة الذين سبقوا
كل استذكار للحقبات سقراط ،والتي أملتها عليهم الدينام َّية املوسومة بسمة اللعب ،واخلاصة بحقيقة الكون (الكشف واحلجب) .يرسم ُّ
ثمة فليس بإمكان الفكر البرشي أن يتمثل ذاته إال بام ال من أشكال تكشف هذه احلقيقة عينها .ومن َّ الزمان َّية العائدة إىل هذا البدء التدشيني شك ً
كان استذكار ًا يتملك بموجبه االنفراجات التي تتبدَّ ى لنظرة اإلنسان ّ
املتبصة .باملوازاة مع ذلك يظهر الفكر العريب مسكون ًا هبم االستمرار َّية،
فالعودة إىل املايض ومت ُّلكه هي بالنسبة إىل الفكر العريب مرادفة للوفاء اخلالق واألصالة اخلالص َّية.
يتضمن غنى وطاقة جتعالنه وعاء َّ كل مقاربة تتناول حقيقة الكون .باعتباره ـ تركّز املقاربة اهلايدغر َّية عىل كشف املكانة العامل َّية ل ّلسان يف ّ
الكون أو بيئته .فبإمكان اإلنسان أن يشعر يف لسانه بقربه امللحوظ من حقيقة الكونَّ ،ملا كان اإلنسان حيمل معنى يف كيانه اخلاص ،فإنَّه يستطيع
إذن أن يدرك معاين األشياء والوجود .وباملوازاة مع ذلك يرى الفكر العريب يف لسانه الوديعة الرئيسة للعقل واهلو َّية العربيني .إذ يستند اللسان
املدونة يف النص القرآين ،ويعتربه املرجع التأوييل هلذا النص .وبالتايل يغدو اللسان العريب عنرص ًا ّ
مكون ًا للرؤية العريب إىل العبارات والدالالت َّ
يبجل فيه بعض العرب لساهنم حتى يصبح غاية يف ذاهتا ،فينأون بأنفسهم عن العامل الفعيل، العرب َّية الدين َّية والثقاف َّية للعامل .إىل احلدّ الذي ّ
وجيهدون يف إحالل الكلامت َّ
حمل األشياء.
األمة.
ـ الفكران كالمها يركِّزان عىل أمه َّية مفهوم َّ
خمتلف الرتاثات ُ استحسان َّية تَعمرها الق َي ُم الروح َّية التي تنادي هبا * كيف تُقدِّ م نفسك ل ُق َّرائك؟
قيم تزدان املجان َّية ...،إلخ) ،وهي ٌ الدين َّية (التغافر ،التضحيةّ ،
هبا إنسان َّية اإلنسان وتغتني أ َّيام اغتناء .أ َّما الدائرة الثالثة فهي أنا أستاذ الفلسفة األملان َّية يف اجلامعة اللبنان َّية (قسم الفلسفة،
قات الالهوت َّية الغيب َّية الصوف َّية التذو ُ ُّ استنساب َّية ذات َّية تستوطنها ُك ّل َّية اآلداب والعلوم اإلنسان َّية ،الفرع الثاين) .من مواليد البقاع
التي يركن إليها املؤمنون يف سعيهم إىل املطلق ،ومنها ُينشئون ودرست يف لبنان حتَّى مرحلة الدراسات ُ نشأت
ُ اللبناين (.)1964
ّ
وتصوراهتم الالهوت َّية وعقائدهم الدين َّية ُّ أنظوماهتم الدين َّية انتقلت إىل أورو َّبا (فرنسا ،أملانيا) إلعداد ُ ثم،
العليا .ومن َّ
سات اختبار َّية وجود َّية حتس ٌ قات هذه ُّ والتذو ُ
ُّ وأحكامهم الفقه َّية. تناولت
ُ الدكتوراه يف الفلسفة ،وقد حصلت عليها يف عام .1994
حر ٌة منعتقة من أ َّية إلزامات عقل َّية رصفة ،ال ترسي إليها إيامن ًّية َّ وأسسها يف فكر يف أطروحة الدكتوراه مسألة املدينة اإلنسان َّية ُ
مقوالت االستقامة والضالل طاملا َّأنا ،يف تد ُّبرها ُ وال تُصيبها مارتن هايدغر .ونُرشت األطروحة َّأوالً يف أملانيا ( ،)1996ومن
للحياة اإلنسان َّية الفرد َّية واجلامع َّية ،ال تع ّطل مبادئ الدائرة األوىل بعد ذلك يف فرنسا (الطبعة الثانية .)2016 ،من بعد إقامة طويلة يف
الكوين
ّ قيم الدائرة الثانية .ال سبيل ،يف نظري ،إىل التسامل وال تَصدُّ َ اجلامعي والبحث ّ وانخرطت يف التعليم ُ عدت إىل لبنان ُ أورو َّبا،
والثقافات
ُ ُ
واألديان ُ
والدول واملجتمعات
ُ الناس
ُ ما مل يتق َّيد ال فلسف ًّي ًا،الفكريُ .أعنى اليوم بتأصيل التعدُّ د َّية الكون َّية تأصي ً ّ
اخلاليص بني الدوائر الثالث. ّ واحلضارات بمثل هذا التمييز ُ اإلنساين
ّ االستفساري
ّ وأبحث عن مراتب املعنى يف أفق املسعى
فيجمعون عىل صون حقوق اإلنسان ،ويتسابقون عىل خريات تناولت فيها ،إ َّبان احلقبة األوىل ُ األرحب .كتبي تناهز الثالثني،
الق َيم الروح َّية ،ويبتهجون بعقائد عامراهتم الالهوت َّية من غري أن الديني ،والس َّيام يف ش َّقيه ّ مسائل الفكر َ من مسرييت الفكر َّية،
فلكل للحق يفرضونه عىل الناس أمجعنيّ . ّ ينصبوها أساس ًا وحيد ًا ّ ابتعدت عن هذه القضايا ابتعا َد ُ ثم،واإلسالمي .ومن َّ
ّ املسيحي
ّ
ّ
وتذوق جتلياته، ُّ وحتسس آثاره، ُّ احلق يف التَّوق إىل املطلق، إنسان ُّ التحول عن املوضوع نفسه، ُّ اجلذري يف التناول ال ابتعا َد ّ التحول
ُّ
التذوقات الصوف َّية يف حدود رحابة مثل هذه سوا ٌء انعقدت ُ ِ ِ
وأخذت أخوض يف مسائل الفسارة الفلسف َّية (اهلرمنوطيقا) ِ
ُّ
انعتاقي
ّ بعضهم من خروج يتصوره ُ ُّ الكون الشاسعة ،أو يف ما الفلسفي املحض للتعدُّ د َّية الكون َّية. ّ ومسائل التأصيل
إهلي. ِ
تافيزيقي ّّ ورائي م
ّ غيبي ما
يتجاوز هذه الرحابة إىل أفق ّ
رحت أنادي بإنس َّية كون َّية تتجاوز االنتامءات ُ لذلك
* كيف يمكن االستفادة من فلسفة مارتن هايدغر لنقد الثقافة اإليديولوج َّية الض ّيقة ،من سياس َّية ودين َّية ،وتستند إىل مؤالفة
واملجتمع العرب َّيني اليوم؟ يب
الرشقي العر ّ
ّ جريئة بني عقالن َّية احلداثة الغرب َّية ،ور َّقة الوجدان
متوجات احلديس ،وهناء السكون َّية اآلسيو َّية الوديعة املتناغمة مع ُّّ
مارتن هايدغر هو مفكّر البساطة الك ّل َّية التي أفصح عنها يف لغة الطبيعة احلاضنةَّ .إنا إنس َّية اجلمع اللطيف بني مكتسبات هذه
أملان َّية عسرية املنال .بساطة فكره منبثقة من إرصاره عىل التفكُّر اإلنساين الرامي إىل
ّ الكتَل احلضار َّية الكربى يف بوتقة املسعى
يف معنى الكينونة ،وذلك بمعزل عن حقائق الكائنات املنترشة احلر َّية
ترسيخ املع َّية الكون َّية املنفتحة املناضلة يف سبيل قيم ّ
مهه الوحيد أن يرعى تفتُّحات يف تضاعيف الكون والتاريخُّ . أن هذه القيم يستتبع واألخوة .ويف اعتقادي َّ َّ واإلنصاف والتسامل
احلرة ،وأن يصون هذه التفتُّحات من هيمنة العقالن َّية الكينونة َّ أخوة من دون تسامل ،وما من تسامل من بعضها بعض ًا ،إذ ما من َّ
أن الفلسفة مل تستطع ،يف نظره ،أن تتأ َّمل احلسابة .ذلك َّ الغرب َّية َّ فاحلر َّية عندي هي
ّ حر َّية.
دون إنصاف ،وما من إنصاف من دون ّ
األقل منذ االنحراف الذي أصاهبا عىل ّ يف ماه َّية الكينونة ،عىل خاصة يف بناء املع َّية اإلنسان َّية الكون َّية عىلَّ األصل .ويل نظر َّية
أن أفضل تناول للكينونة اكتسبته يد أفالطون وأرسطو .يف ظنّه َّ التمييز النبيه بني ثالث من الدوائر الوجود َّية املستقطبة للمعنى
اإلنسان َّي ُة يف زمن املفكّرين اإلغريق األوائل الذين سبقوا سقراط. اإلنساين األقىص .الدائر ُة األوىل إلزام َّية ،تتأ ّلف من املبادئ ّ
احلر َّية الذات َّية التي تنعم هبا الكينونة
هم استطاعوا أن يتب َّينوا عمق ّ اإلنسان َّية األساس َّية التي ينبغي جلميع الناس االعتصام هبا (رشعة
حني تنكشف وتنحجب وفق ًا إليقا ٍع لصيق بطبيعتها القدَ ر َّية. حقوق اإلنسان الكون َّية) ،وذلك بالرغم من التباين يف تأويل
فاألشياء تظهر عىل حقيقتها حني تصون يف ذاهتا ُبعد ًا جلي ً
ال بعض مضامني هذه املبادئ و ُمستتبعاهتا القانون َّية .الدائرة الثانية
مولوجي التي يمكنها أن* ما أهم العوائق ذات الطابع اإلبيستِ احلساب .ال بدَّ إذ ًا من لغة
ّ ُّ املرتصد َّ
ّ ينحجب عن أنظار اإلنسان
اهلايدغري؟
ّ العريب للفكر
ّ تُعيق استقبال الفكر الفكر
ُ جديدة ترعى جت ّليات الكينونة وانحجاباهتا حتَّى يفوز
اجلوادة. ُ
املقبل بإقامة هن َّية يف استضافة الكينونة َّ
يب الراهن إىل استقبال الوعود دفع الفكر العر ّ املهمت ُ من أصعب َّ
الت هايدغر يف الكينونة ويف اخلالص َّية التي تنطوي عليها تأ ُّم ُ يب املعارص مها يف سياق الثقافة العرب َّية املعارصة واملجتمع العر ّ
احلقيقة ويف اللغة ويف الوجود ويف اإلنسان .أنا ال أحتدُّ ث عن أهل اهلايدغري .وليس يف مستطاع الفكر ّ الفكري
ّ اهلم
خمتلف عن ّ
الصفاء من املفكّرين العرب املعارصين الذين يستلهمون هايدغر يب ،يف اللحظة التارخي َّية الراهنة ،أن يتأ َّمل يف ُمنجزات الفكر العر ّ
يب املعارص يف حقائق الكينونة وحقائق إلخصاب التفكّر العر ّ النقدي يف مرسى الرتاكامت ّ اهلايدغري ما مل يعمد إىل النظر ّ
اإلنساين ،وهم ك ُثر ،جيتهدون اجتهاد املناضلني األحرار يف ّ الوجود ّ
التارخي َّية التي عطلت نشاطه منذ سقوط العقالن َّية الرشد َّية،
يب
يغيوا يف الواقع العر ّالني .هؤالء ال يملكون أن ّ صوامع فكرهم ّ احلر َّيات السياس َّية واالجتامع َّية ،وتس ّلط ذهن َّية التعانف وتضاؤل ّ
أن هايدغر ال يفرتض يف الفكر األصيل أ َّية شيئ ًا .واملأساة العظمى َّ املجتمعات
ُ األبدي بني القبائل التي تتأ ّلف منها ّ واالحرتاب
املجان َّية ِ
العرب َّية .الثقافة العرب َّية هي ثقاف ٌة متافيزيق َّي ٌة بحسب املعنى
فكر َّ
فكر الكينونة هو ُالسيايس املبارشُ .
ّ قدرة عىل التغيري العنفي
ّ
املطلقة والزهد الشامل ،يستلزم انكفاء اإلنسان إىل مقام اإلصغاء الذي استخلصه هايدغر من معايناته النقد َّيةَّ .إنا ثقافة األخذ
اخلشوعي؟
ّ يب املعارص من هذا املقام الورع .فأين الفكر العر ّ بالقوة ،ولئن اختربت لدى بعض مبدعيها شيئ ًا من الصوف َّية َّ
املساملة اخللقة .وهذه الثقافة تناقض ،يف أغلب مطاحمها ،املسعى ّ
ناشئ من تباين اخللف َّيات الفكر َّية العائق اإلبيستِ
األول ٌ مولوجي َّ
ّ السلمي يف فكر مارتن هايدغر ،والس َّيام يف تأ ُّمالته التي ساقها ّ
األملاين ،ولئن ا َّدعى ّ والفكر
ُ يب
الفكر العر ُّ الرتاث َّية التي ينتمي إليها احلر يف منفسحات الرعاية اإلنسان َّية للتجل ّّ يف قابل َّيات الكينونة
الفلسفي املعارص ،غرب ًّي ًا كان أم عرب ًّي ًا ،هو ُبر َّمته
َّ أن الفكر هايدغر َّ يب يفتقر إىل مثل هذه املنفسحات أن املجتمع العر ّ األصيلة .واحلال َّ
وتفرعاهتا الوسيط َّية واحلديثة .أعني ِ احلرة ،وال يني يغرق يف مستنقعات التص ّلب واإلكراه واهليمنة عىل
أسري املتافيزيقا األفالطون َّية ُّ ُ َّ
وجودي
ّ لغوي
ّ يب إىل اختبار الفكري انتساب الفكر العر ّ ّ بالتباين الرحيب. الكائنات اإلنسان َّية وعىل األشياء التي تستوطن الكون َّ
الوجودي
َّ اللغوي
َّ األملاين
َّ حضاري خيالف االختبار ّ تارخيي
ّ
إبيستمولوجي
ٌّ احلضاري .يف هذا التباين استعصا ٌء َّ التارخيي
َّ أن املجتمعات العرب َّية حت ُّن إىل عقالن َّية املفارقة يف ذلك ك ّله َّ
اختباري ّ خطري ،ألن االصطالحات اهلايدغر َّية تنتسب إىل فضاء َّ املعتزلة وعقالن َّية ابن رشد وواقع َّية ابن خلدون ،يف حني َّ
أن
يب ،لذلك نشأت معضلة كأداء يف االختباري العر ّ
ّ مغاير للفضاء هايدغر يضع هذه اإلسهامات ك ّلها يف موضع اخلضوع لألنظومة
تعريب اصطالحات هايدغر األملان َّية واألوضاع اللغو َّية التي يب العريق، ِ
النساءة .قد يعثر املر ُء يف الرتاث العر ّ املتافيزيق َّية َّ
أهل الفلسفة يف استحدثها .فبالرغم من اجلهود اجل َّبارة التي بذهلا ُ واإلسالمي ،عىل التامسات صوف َّية إرشاق َّيةّ واملسيحي
ّ اليهودي
ّ
يب ،ما فتئت النصوص اهلايدغر َّية يب ويف املغرب العر ّ املرشق العر ّ تدنو من حقيقة األشياء عىل النحو الذي يعتمده هايدغر يف عودته
املعربة ال تُنطق نطق ًا عرب َّي ًا صافي ًا. َّ احلنين َّية إىل اإلغريق األوائل وانذهاله بإبداعات الشعراء الذين
استسلموا ،يف مجيع األزمنة ويف مجيع احلضارات ،إىل إحياءات
آت من صور َّية املضامني التي العائق اإلبيستِمولوجي الثاين ٍ الكينونة اللطيفة ،فأنشدوا فيها وهلا أهبى العبارات االستذكار َّية.
ّ
اهلايدغري .وهي صور َّية ختالف ما ّد َّية القضايا التي
ّ الفكر
ُ حيملها أن السؤال األخطر يتناول حاجة املجتمعات العرب َّية إىل بيد َّ
يب .أعني بصور َّية املضامني إغراق الفكر الفكر العر ّ
ُ ينادي هبا البنيوي
ّ الشعر َّيات والوجدان َّيات والصوف َّيات يف زمن االنعطاب
اإلنساين،
ّ اهلايدغري يف استجالء البنى اخللف َّية الناظمة للتفكُّر ّ أن شيئ ًا منيب املعارص َّ الراهن .يقني أهل االستنارة يف العامل العر ّ
يب ،والس َّيام يف ش ّقه احلديث
جترؤ الفكر العر ّ وأعني بام ّد َّية القضايا ُّ خليق بإنقاذ جمتمعاهتم من اهلالك. العقالن َّية واملوضوع َّية والعلم َّية ٌ
اإلنساين
ّ حيملها للوعي واملعارص ،عىل تسمية املضامني التي ّ ولكن كيف السبيل إىل مثل هذه الق َيم احلديثة من غري السقوط يف
التحرر
ُّ يب احلديث واملعارص يروم واجلامعي .فالفكر العر ُّ
ّ الفردي
ّ حمنة األنظومة املِتافيزيق َّية التي ينتقدها هايدغر أشدَّ االنتقاد؟
لست أرى ت َّيار ًا عرب َّي ًا جارف ًا حيمل راية هذا التبدُّ ل .وهيهات ُ ويمجدّ احلقيقي،
ّ الفكري
ّ من االستعامر ،ويصبو إىل االستقالل
ٍ ٍ
أن يكفي العرب هنوض فيلسوف من املرشق وفيلسوف من العزة القوم َّية ،ويستطيب االشرتاك َّية العادلة ،ويكدح يف سبيل َّ
نولوجي اهلورس ّيل الف ِ
نوم املغرب يناديان باستدخال املنهج ِ إصالح البنى الرتبو َّية واإلدار َّية واالقتصاد َّية ،ويف سبيل التقدُّ م
ّ
واهلايدغري حتَّى تستقيم س ُب ُل االستقبال والتق ُّبل واالقتبال .يف ّ الطليعي ،وما إىل ذلك من قضايا تارخي َّية مصري َّية ال ّ العلمي
ّ
ال ما مل ً
بعضها إىل بعض نفوذا فاع ً أن احلضارات ال ينفذ ُ يقيني َّ يب باستخراج رشوطها املعرف َّية النظر َّية املحضة، الفكر العر ُّ
ُ يكتفي
شعوبا وأفرا ُدها اختالط ًا سلم َّي ًا مقرون ًا باملقاصد اإلنسان َّية
ُ خيتلط ضمة من املضامني واملعاين واملرامي .أ َّما الفكر يعي هلا َّ بل ّ
النبيلة .أ َّما القهر واإلذالل واهليمنة فك ّلها س ُب ٌل رديئ ٌة تُفيض إىل تبي الروابط النظر َّية ٌ
موغل حتَّى اإلرساف يف ُّ اهلايدغري فهو
ّ
التعانف والتحارب واإلفناء. املجردة التي تنعقد بني الكينونة واللغة ،وبني مراسيم الكينونة َّ
العفوي
ّ وحدَ ثان التاريخ ،وبني العمل الفن ّّي وانبساط األشياء َ
بعض الدراسات ،ومنها دراسة الصديق الربوفسور تذهب ُ الوجد ّية التي ُترج اإلنسان إىل ذاته ومآالتْ فيه ،وبني البنى
نادر البزري (اجلامعة األمريك َّية ،بريوت) ،إىل افرتاض تشابه الفكر
ُ جراء هذا التجريد املغايل ،ينكفئالعالقات اإلنسان َّية .من َّ
جدير باالعتناء بني منهج هايدغر ومنهج ابن سينا يف اعتامد الس ُبل يب
احلر ،فيام الفكر العر ُّ
اين ّاملج ّ
اهلايدغري إىل مناسك التأ ُّمل َّ
ّ
للتبص يف حقيقة الكينونة وللفوز بحقائق الوجود ِ ِ
الفنومنولوج ّية ُّ املصريي.
ّ الوجودي
ّ منخرط يف الرصاع
نولوجي بني ابن سينا وهايدغر ،جامعة الف ِ
نوم القصوى (املسعى ِ
ّ
أبحاث أخرى تربط فكر هايدغر بفكر ٌ وثمة العائق اإلبيستِ
بنغهامتونَّ .)2000 ، صادر من االختالف احلا ّد ٌ مولوجي الثالث
ّ
وإن ال
املل صدرا وفكر غريه من اإلرشاق ّيني العرب واملسلمنيّ . ّ املبني عىل ِمتافيزيقا األخذ ّ يب
الذي يرضب بني الفكر العر ّ
طلب دكتوراه الفلسفة يف املعهد العايل للدكتوراه حض ّ أتر َّدد يف ِّ احلر
اهلايدغري املستند إىل االعتالن ّّ بالقوة وأنطولوجيا الفكر َّ
(اجلامعة اللبنان َّية ،بريوت) عىل إنشاء املقارنات املمكنة بني بالقوة ناشب ٌة أن متافيزيقا األخذِ للكينونة يف الكائنات .ويبدو َّ
َّ
يب القديم واحلديث واملعارص لع ّلهم هايدغر ونُبهاء الفكر العر ّ يب تضبط له تد ُّبراته النظر َّية وإيقاعاته يف عمق أعامق الوعي العر ّ
أهلفذة مل يفطن هلا ُ يعثرون عىل مواضع مبتكرة أو خترجيات ّ التارخي َّية ومسلك َّياته العمل َّية .وهي تناقض ما يأنس إليه هايدغر
التخصص يف كال احلقلني .وقد سبق لبعض الفالسفة اللبنان ّيني ُّ هني لنداءات الكينونة ،ورعاية رقيقة النسياباهتا من استسالم ّ
املعارصين ،ومنهم عىل سبيل املثال شارل مالك وبولس اخلوري، تصورهُّ احلرة يف تضاعيف الوجود .فاإلنسان الراعي الذي َّ
نولوجي الف ِ
نوم أن تدبروا يف ابتكار فريد مستلزمات املنهج ِ األنطولوجيا اهلايدغر َّية يناقض مناقضة كاملة اإلنسان الس ّيد
ّ َّ
يت لوقائع الوجود وآل َّيات تطبيقه يف تنويع مدارك الفهم احليا ّ تتعشقه املِتافيزيقا العرب َّية ،وإليه ترنو يف حنينها العضال الذي َّ
التارخيي .وال ُبدَّ من التنويه باجلهد الرصني الذي بذله
ّ اإلنساين
ّ الذكوري يف اجلزيرة العرب َّية وزمن الفتح ّ البدوي
ّ إىل زمن التس ُّيد
أستا ُذ الفلسفة الالمع يف اجلامعة اللبنان َّية الربوفسور أنطوان األول يف بدايات الدعوة اإلسالم َّية .حتَّى يف زمن احلداثة ،يز َّين َّ
خوري حني عكف يف كتابه (مدخل إىل الظاهرات َّية ،بريوت، يب أن الفوز باإلصالح الشامل للمجتمعات العرب َّية ال َّ للوعي العر ّ
الف ِ
نومنولوجيا اهلورسل َّية واإلفصاح عنها )1984عىل مت ّثل أصول ِ تتعزز ق َيم السيادة العقل َّية عىل املوجودات يتح ّقق َّإل عىل قدر ما َّ
بلغة عرب َّية أنيقة ومؤاتية. وعىل األحوال وعىل املصائر.
يب املعارص باعتامد املنهج أ َّما ربط فالح الفكر العر ّ العريب للمرشوع
ّ إن نجاعة استقبال الفكر * هل يمكن القول َّ
محال ُة ِ ِ
أن الفنومنولوجيا ّ نظر .ذلك َّ الف ِ
ِ نولوجي يف ِ ِ
اهلايدغري ترتبط بالرضورة بمدى أقلمة املنهج الفنوم
نولوجي ،فمسألة فيها ٌ
ّ نوم ّ ّ
الف ِ
نومنولوجيا التي أن ِ
أوجه حتَّى يف بيئتها األصل َّية .انطباعي َّ العريب؟ الثقايف العائد إىل العامل الفضاء
ّ ّ
نومنولوجيا التي تستهدي هايدغر. الف ِتستلهم هورسل هي غري ِ
لتصور الكينونة
ُّ فاألوىل تُفيض إىل تنصيب األنا املتعالية مصدر ًا أن جتاوز هذه العوائق اإلبيستِمولوج َّية يستتيل تبدُّ الً يته ّيأ يل َّ
يف الكائنات ،ومصدر ًا الرتسام عالمات التدليل عىل الكائنات، يب .ولكنَّني خطري ًا يف البنية الذهن َّية العرب َّية وبنية التفكري العر ّ
يب .أ َّما هايدغر فكان اإلنسان َّية التي كانت تستقطب العامل الغر ّ يت أن يتناوهلا من مناظريوهي العالمات التي تتيح للوعي الذا ّ
أن بناء اإلنسان واملجتمع والدولة باالستناد يعتقد اعتقاد ًا راسخ ًا َّ نومنولوجيا ال يوائم األصول التي نشأ الف ِ
شتَّى .هذا الرضب من ِ
إىل موارد العقالن َّية الغرب َّية احلديثة يع ّطل اعتالن الكينونة ،أي تافيزيقي الذي ارتىض أن ترتسم كينونة الرتاث العريب املِ
ُ عليها
ُّ ُّ
احلقيقة اجلوهر َّية القصوى يف كائنات العامل وأشياء الوجود ووقائع اإلنساين بحسب
ُّ ُ
العقل الكائنات بمحض إرادة علو َّية يعقلها
تافيزيقي عىل املِتافيزيقا األفالطون َّية،
ّ انقالب ِم
ٌ التاريخ .فاملاركس َّية مراتب شتَّى حتدَّ ث عنها فالسفة العرب األوائل .وإذا ما أعرض
املؤسسايت
املجتمعي َّ
ّ أنرتوبولوجي عىل الطغيان
ٌّ انقالب
ٌ والوجود َّية بعض أهل الرتاث عن العقالن َّية املِتافيزيق َّية ،عىل غرار ما صنعه
وعىل العبث َّية التارخي َّية املغ ّفلة .كال املنهجني ،عىل سبيل املثال ،ال املتعرجة
الغزايل ،فاإلعراض ال ُيفيض إىل إيثار الكينونة ومراقيها ّ
جيعالن اإلنسان يفوز بحقيقة الوجود التي يعاينها هايدغر منطوية َ
اإلنسان بر َّمته يف دائرة النور يف االنكشاف واالنحجاب ،بل يولج
احلرة املنعتقة من ّ
كل ومرشوطة يف اعتالن األشياء وفاق ًا لسج َّيتها َّ الصويف
ّ الديني
ّ اإلهلي املنقذف يف صدر املرتدّ املهتدي .والسبيل ّ
قيود املفاهيم واملقوالت والقوالب. ِ
اإلرشاقي هذا إنَّام يرسم السبيل الثالث يف موازاة سبيل املتافيزيقا ّ
ِ ِ
النساءة والفنومنولوجيا األنطولوج َّية اهلايدغر َّية األفالطون َّية َّ
املجتمعات العرب َّية أن تنهض من عثارها ،فلها ُ فإذا أرادت نومنولوجيا هايدغر هذه هي أنطولوج َّية عىل وجه املستذكرة .فِ ِ
ات أن ختتار إ َّما النهوض امللتبس الناقص الذي تضمنه القوم َّي ُ أصل القابل َّيات التيألنا تفرتض يف الكينونة عينها َ االمتيازَّ ،
السلمي
ّ ات ،وإ َّما الركون ات والدين َّي ُ ات والوجود َّي ُ واالشرتاك َّي ُ االعتالين .فالكائنات تعتلن ّ الكائنات يف مسعاها
ُ تنطوي عليها
إىل االنبساطات العفو َّية التي تُفرج عنها الكينونة يف اعتالناهتا عىل قدر مؤانستها ملراسيم الكينونة احلاكمة بأمرها .يف كتايب
اهلايدغري
َّ أن السبيل املضيئة وانحجاباهتا املربكة .معنى ذلك َّ أن مثل هذه الكينونة احلاكمة أرشت إىل َّ
ُ يب)
(هايدغر والفكر العر ّ
األول أن إرهاق َّ يب إرهاق ًا فوق إرهاق .ذلك َّ ُيرهق الوعي العر َّ يب
بأمرها تُشبه ،إىل حدٍّ بعيد ،احلاكم َّية اإلهل َّية يف الرتاث العر ّ
الثقايف ،أ َّماّ السيايس
ّ االقتصادي
ّ االجتامعي
ّ ناجم عن خت ّلفه ٌ اإلسالمي .فكام تستنهض الكينونة الكائنات لالستواء يف ّ الديني
ّ
اإلرهاق الثاين فقد يأتيه من اضطراره إىل االعتصام بالسكون منارات اعتالناهتا وانحجاباهتا ،كذلك تستخلف األلوهة اإلنسانَ
والرت ّقب والرعاية اخلفرة للموجودات العرب َّية ،بحسب ما أن الشبه ينحرص يف والترصف بمواردها .غري َّ
ُّ الستعامر األرض
يب يسكنه ،عىل وجه فأي إنسان عر ّ اهلايدغريُّ .
ّ النص
ُيمليه عليه ُّ شاسع بني
ٌ ثمة ٌ
بون البنية الصور َّية ،فال يتعدَّ اها إىل املضمون ،إذ َّ
ري، الكياين وخنو ُغ االستسالم القدَ ّ ّ املفارقة ،مح َّيا االنتفاض ماه َّية الكينونة وطبيعة األلوهة ،أو بني مراسيم الكينونة وأحكام
الفكريّ سيهنأ بام يقرتحه له هايدغر من انزواء يف صوامع التأ ُّمل الرشيعة اإلهل َّية.
املزاجي التي تز ّفها إليه الكينونة ّ االستذكاري يف وعود اإلرشاق ّ
يب املعارص ُ
يف صميم حقيقتها اخللبة؟ هل يستطيع اإلنسان العر ُّ ّ * هل يمكن أن نعترب املساءلة األنطولوج َّية اهلايدغر َّية للرتاث
الصحراوي يف بدايات اإلفصاح ّ أن يعود إىل اختبارات التأ ُّمل العريب استمرار ًا للجهود النهضو َّية التي بذلتها النُّخب الثقاف َّية
ّ
الشعري عن معاين الوجود حني كان حييا يف ترحال دائم بني ّ الشخصاين؟
ّ والوجودي
ّ االشرتاكي
ّ املاركيس
ّ العرب َّية ذات املنحى
ثمة من يفرتض شيئ ًا من األصالة املراعي والكثبان والوديان؟ َّ
األول قبل إغراق اإلنشادي َّ
ّ العرب َّية املتج ّلية يف مثل هذا االختبار أن مجيع هذه املذاهب الفكر َّية (اإلنس َّيات يف عرف هايدغر َّ
يب بمكتسبات العلوم اليونان َّية والفارس َّية واهلند َّية ،أي الوعي العر ّ املعارصة) هتمل الكينونة وتُغلق عليها يف غياهب النسيان.
التحسسات األوىل للوجود واحلياة ،حيث كانت التعدُّ د َّية يف زمن ضم هذه اإلكراهات ِ
ُّ نفسها حيلو هلا أن تنحجب يف خ ّ والكينونة ُ
اجلامعي عىل ّ يب
االستطالعي للوعي العر ّ َّ الدين َّية ترسم األفق الثقايف
َّ زلت أعتقد َّ
أن السياق واالستيالءات املنهج َّية القاهرة .ما ُ
العفوي.
ّ الشفهي والتواصل ّ امتداد القرون األوىل لإلبالغ املعريف
ّ يب احلديث واملعارص خيتلف اختالف ًا ب ّين ًا عن السياق العر َّ
أهل النهضة العرب َّية يفالذي تنتسب إليه األنطولوجيا اهلايدغر َّيةُ .
يتبص يف البؤس الناجم عن اهلايدغري َّ
َّ انطباعي َّ
أن الفكر وتوسلوا املرشق ويف املغرب أرادوا بناء اإلنسان واملجتمع والدولةَّ ،
اإلنساين الناجم
ّ نسيان الكينونة ،وال طاقة له عىل معاجلة البؤس املذاهب
ُ يف سبيل ذلك بالعالجات النظر َّية التي انطوت عليها
يب
مؤرخي الفكر العر ّ مجيع ّهذه األنساق الثالثة حتدَّ ث عنها ُ السيايس .يقني الفكر ّ االقتصادي
ّ االجتامعي
ّ عن التخ ّلف
احلديث واملعارص .ومل أضف شيئ ًا جديد ًا يف هذه املسألة .أ َّما أن يف خالص الكينونة الذي حيمله إلينا اإلل ُه األخري اهلايدغري َّ
ّ
نظر. فأمر فيه ٌ
اهلايدغري يف فلك هذه األنساق ٌ ّ دوران الفكر خالص ًا لإلنسان ولإلنسان َّية قاطبة .ولك َّن الرضورات العرب َّية
ً
أن األنساق الثالثة ك ّلها ال تطيق استضافة االنقالب أعتقد َّ كل يشء َّتو ًا يب أن ُيمل َّ التارخي َّية القاهرة ال تتيح لإلنسان العر ّ
يت ال حيتمل ولكل نسق أسبا ُبه الذات َّية .النسق الالهو ّ ّ اهلايدغري،
ّ يعرجه يش ٌء عىل الصويف امللهمة ال ّ
ّ ويقصد مناسك االنكفاء
كل سطوة غيب َّية ،عىل نحو ما ينادي به هايدغر إعتاق الكينونة من ّ اإلطالق ،وال تثنيه حاجة وجود َّية مهام اشتدَّ ت إلزام َّيتُها احليات َّية.
يف وضوح شديد اجلرأة واالستفزاز .فال سبيل عند هايدغر صالح لزمن ما بعد احلداثة الغرب َّية أو لزمن ما قبل
ٌ فكر هايدغر
السببي بني الكينونة واهلل ،عىل غرار ما فعلته األنظومة ّ للجمع احلداثة الغرب َّية .ولكنَّه ،عىل وجه اليقني ،ليس صاحل ًا لزمن
للسمو الدين َّية املتافيزيق َّية األفالطون َّية التي أخضعت الكينونةِ يب املتلكّئ لولوج احلداثة التي ينتبذها هايدغر
ّ االستعداد العر ّ
اإلهلي ،فجعلت اهلل كائن ًا أعىل ،وحبست عىل الكينونة يف مبدأ ّ انتباذ ًا قاطع ًا.
احلر مقام الصدارة، لامين ُيفرد لإلنسان ّ الع ّل َّية املتسامية .النسق ال َع ّ
ويضعه يف أعىل املراتب الكيان َّية يف الوجود .فال سبيل عند هايدغر أي سبيل ينتهج .فإذا ما أراد يب ّثم ،حيار اإلنسان العر ُّ ومن َّ
ألن املرسى الذي ينسلك فيه اإلنساين َّ
ّ لالعرتاف بصدارة املقام إصالح جمتمعاته املتهالكة كان يف وسعه استلهام املعاجلة
يبي لنا ذلك بوضوح بحثه هو مرسى الكينونة وحسب ،عىل ما ّ يت ،كان يف مستطاعه املاركس َّية ،وإذا ما انتوى تقويم الوعي الذا ّ
التوفيقي ،فيعيب عليه هايدغرّ يف رسالته يف اإلنس َّية .أ َّما النسق االسرتشاد بنصائح الشخصان َّية والفرويد َّية واليونغ َّية
تافيزيقي الذي منه ينبثق ِ تالزم الضالالن فيه؛ ضالل الرتاث امل النفيس .وإذا والالكان َّية ،وما إىل ذلك من مذاهب االسرتداد
ّ ّ
ُ
وضالل احلداثة العقالن َّية التي إليها يرنو. يب
الفكر العر ّ ُ ما شاء تد ُّبر املع َّية اإلنسان َّية ،كان يف قدرته االئتامر بتوجيهات
الوجود َّيات املزدهرة يف الغرب .وإذا ما عزم عىل ضبط
اهلايدغري
ّ * ما رأيك يف تلك املقاربات التي تستثمر الفكر انسيابات اللسان ،كان يف مكنته استثامر املناهج األلسن َّية الناشطة
ألن أحد
وتتَّخده ذريعة حديثة لرفض احلداثة ورفض رشورهاَّ ، يف مذاهب الغرب ّيني .أ َّما إذا اسرتهب سؤال هايدغر عن املعنى
الغريب ،وبالتحديد هايدغر ،قد سلك هذه
ّ أهم وجوه الفكر ّ ال آخر ُيبعده عن األبسط واألشمل للكائنات ،فله أن خيتار سبي ً
الطريق اخلالص َّية؟ هذه املعاجلات املوضع َّية .هذا السبيل املتط ّلب يضعه يف قربى
اإلصغاء إىل مهسات اإلغناء التي تُفصح عنها الكينونة يف حياء
انتقادات
ُ قد ينجذب املرء إىل املوهبة الفائقة التي اتَّسمت هبا عظيم .ولكنَّه إذا ما أصغى إصغا ًء هايدغر َّي ًا ،فهل يقوى عىل
أن انتقاد احلداثة الغرب َّية ال يستقيم هايدغر للحداثة الغرب َّية .غري َّ الصمود أمام اجتياحات اهليمنة التقن َّية واأليديولوج َّية التي
واحلر َّية الفكر َّية واملقام
ّ املحاجة العقل َّية
َّ من دون االستناد إىل وصوب؟ كل َحدب َ ُتدق به من ِّ
املستقل .وهذه من ُمس ّلامت احلداثة ومن وعودها ّ اإلنساين
ّ
يب) ،امتدحت الفتوحات الزاهية .يف كتايب (هايدغر والفكر العر ّ أن هناك * أوضحت يف كتابك الق ّيم «هايدغر والفكر العريب» َّ
الفكر َّية الو ّثابة الواعدة التي أنجزها هايدغر ،ولكنَّني يف الوقت األول يرتبط العريب املعارصَّ :
ّ ثالثة أنساق تتعايش داخل الفكر
اهلايدغري عن
ّ أبرزت بعض املثالب التي تُظهر عجز الفكر ُ نفسه اإلسالمي) ،الثاين ينتمي إىل
ّ بالالهوت أو علم الكالم (الفكر
العقالين املسؤول .فانتقاد العاقل َّيةّ االضطالع بتحدّ يات التفكّر توفيقي أمني
ّ الغريب ،الثالث
ّ العلامن َّية ويؤثر الدوران يف فلك الفكر
بح َّجة جنوح العقل إىل التس ّلط عىل الكائنات ال جييز اإلنسان َّية ُ أن هذه األنساق ال تقترص منفتح عىل احلداثة .كام ب َّينت َّ
ٌ للرتاث
يت للوجود .أ َّما العقالين الذا ّ
ّ كل ملكات التد ُّبر جتريد اإلنسان من ّ الفلسفي فقط ،بل تتعدَّ اه إىل علم االجتامع والتاريخ ّ عىل الفكر
ثمة من واإلسالمي ،فاألمور تنحو منحى آخرَّ . ّ يب
يف العامل العر ّ إن استقبال والشعر والرواية والعلوم السياس َّية .هل يمكن القول َّ
اإلسالمي احلداثة الغرب َّية ملناقضتها
ّ يب والعامل
ينتقد يف العامل العر ّ ويتم تأويله
اهلايدغري يدور يف فلك هذه األنساق الثالثةُّ ، ّ الفكر
الديني
ُّ ُ
الرتاث مبادئ املِتافيزيقا األنطو-الهوت َّية التي يقوم عليها وفق أسسها ومنطلقاهتا؟
فكر اإلنسان اخلليفة يف املجتمعات العرب َّية التي تنتسبهيمن ُ وثمة من ينتقد هذه احلداثة ملخالفتها ق َيم االجتامع اإلسالميَّ .
ُّ
فكر
اهلايدغري ُ
ُّ الفكر
ُ اإلسالمي.
ّ الديني
ّ يف معظمها إىل الرتاث وثمة من ينتقدها ملا علق هبا من ابتداعات واإلسالميَّ .
ّ يب
العر ّ
اإلنسان الراعي ،املستذكر ،املتأ ّمل ،املصاحب ملراسيم الكينونة مسلك َّية ينعتها املحافظون العرب باالنحرافات األخالق َّية
التي تُفصح عن مشيئتها يف انسيابات الطبيعة العفو َّية وتفتّح يب
وثمة من ينتقدها ملا استتلته يف سياسات العامل الغر ّ اخلطريةَّ .
يت.
التلقائي وازدهار املوجودات الذا ّ
ّ الكائنات من هيمنة استبداد َّية خارج أسوار املجتمعات الغرب َّية .واحلقيقة
أن النقد الذي يصوغه هايدغر يسلك مسلك ًا خمالف ًا ،ألنَّه يعيب َّ
الفكرين تلغي إمكانات * هل هذه االختالفات القائمة بني ِ
عىل احلداثة انتام َءها إىل املتافيزيقا األفالطون َّية التي ينبني عليها
َ
التالقي والتواجه والتبادل؟ اإلسالمي .لذلك أعجب من املحافظني ُّ والفكر
ُ يبالفكر العر ُّ
ُ
اهلايدغري،
ّ اإلسالم ّيني والعروب ّيني الذين يستطيبون النقد
ثمة سبيالن إىل التقابس بني البيئات الفكر َّية :إ َّما النظر يف َّ يقوضون مباين احلداثة الغرب َّية .غري َّأنم ،حني ويف ظنّهم َّأنم ّ
اإلرادي .يف احلالة ُّ القابل َّيات الذات َّية البنيو َّية ،وإ َّما االستدخال يقوضون املباين النظر َّية يتبي هلم َّأنم ّ يتفكَّرون التفكُّر السليمَّ ،
الدخيلَ الزرع
َ يب
الفكر العر ُّ ُ األوىل ،قد ينضج اللقاح ويستهضم اإلسالمي .فالذين ُّ يب والرتاثالتي يقوم عليها الرتاث العر ُّ
تكونه أسايس من عنارص ّ ّ ويضمه إليه كعنرص ّ الوافد ،فيستسيغه اهلايدغري للحداثة جيب عليهم أن يستعدّ وا ّ يبتهجون بالنقد
يبالفكر العر ََّ تؤهلالتارخيي .وينجم هذا ك ّله من قابل َّية ذات َّية ّ ّ االستعداد اجلريء الصادق إلعادة بناء العامرة النظر َّية الرتاث َّية
اهلايدغري .أ َّما يف حالة االستدخال ّ لالغتناء بإسهامات الفكر التي ُتضع الكينونة لأللوهة ،وجتعل الزمان حاضن ًا إلمالءات
اإلرادي ،فالزرع الدخيل قد يربك العامرة الفكر َّية العرب َّية ّ وحتول التاريخ خادم ًا للمشيئة اإلهل َّية ،وتستخلف ُّ الغيب،
االنغالقي املتشنّج. ّ يضطرها إىل انتباذ اللقاح والتقوقع ُّ إرباك ًا اإلنسان يف عامرة األرض وتس ّلطه س ّيد ًا عىل الكائنات .ويف
إن املجتمعات العرب َّية يعوزها ُ
القول َّ يب
الفكر العر َّ
َ وال ُيسعف صادق يف االستدالل عىل هندسة وجود َّية ٌ إعادة الرتتيب اجتها ٌد
رفيع كاإلسهام الذي أتى به هايدغر .قاهلا املفكّرون فكري ٌ ٌّ إسها ٌم تليق بكرامة اإلنسان وبمقتضيات وعيه املتط ّلب يف مطالع القرن
العرب يف زمن النهضة العرب َّية األوىل ،وير ّددوهنا يف زمن النهضة احلادي والعرشين.
اللبناين
ّ العرب َّية الثانية التي ينادي هبا ،عىل سبيل املثال ،الفيلسوف
اإلرادي كثري ٌة يف والعرب من إخفاق االستدخال ناصيف نصارِ . اهلايدغري عن الفكر * ما أبرز النقاط التي تفصل الفكر
ّ َّ ّ
النخب العرب َّية أن ُ يب احلديث واملعارص .فقد أرادت الزمن العر ّ العريب؟
ّ
تُصلح جمتمعاهتا ،فطفقت تنادي بمذاهب فلسف َّية غرب َّية شتَّى،
الفلسفي الرصني يف ّ صاغتها يف إتقان نادر كوكبة من أهل التفكّر تافيزيقي ،فيام الفكر ّ فكر ِم
يب هو ٌ إن الفكر العر َّ أوجز فأقول َّ
يتكرر من جيل إىل جيل :هل املجتمعات الغرب َّية .فإذا بالسؤال عينه َّ اإلنشادي
َّ أنطولوجي يستلهم االستذكار ٌّ فكر
اهلايدغري هو ٌ
ّ
يب املاركس ّي َة استدخاالً جعلها عنرص ًا تكوين َّي ًا الفكر العر ُُّ استدخل الذي انطوت عليه أقوال اإلغريق األوائل الذين أتَوا قبل ُ
يب ،عىل النحو عينه، الفكر العر ُّ ُ يف عامرته الذات َّية؟ وهل استدخل فكر االئتامر باملبادرة اإلهل َّية الغيب َّية. يب ُ سقراط .الفكر العر ّ
الوجود َّية والشخصان َّية والتأويل َّية والتارخيان َّية والوضع َّية املنطق َّية فكر االستهداء باملبادرة التي حتملها الكينونة اهلايدغري ُ
ُّ الفكر
نومنولوجيا، والف ِ والعقالنية النقدية والتحليلية الداللية والبنيوية ِ القصدي يف اإلرادي فكر اإلصالح
َّ َّ َّ َّ َّ ّ ّ يب ُ إىل اإلنسان .الفكر العر ُّ
ُنصب العقل حك ًام يف تفقهّ وما إىل ذلك من سائر اإلنس َّيات التي ت ّ فكر الزهد اهلايدغري ُ
ُّ القوم َّيات والوجود َّيات والدين َّيات .الفكر
املوضوعي،
ّ احلر َّي َة نرباس ًا للبحث معاين الوجود ،وتستهدي ّ فكر التوفيق بني يب ُ التغيريي املبارش .الفكر العر ُّ ّ باإلصالح وباألثر
املتنوعة يف نطاق املدينة سبيل إىل تد ُّبر املع َّية ّ وتعتمد ال َعلامن َّية اهلن َّية ً احللوفكر ّ ُ اهلايدغري فكر التط ّلب األقىص، ُّ العقل والنقل .الفكر
اإلنسان َّية؟ والسؤال األخطر هو :هل أفلحت املجتمعات العرب َّية احلسابة، ِ
النساءة والعقالن َّية َّ اجلذري يف اإلعراض عن املتافيزيقا َّ ّ
والرقي من بعد أن استوعبت مطالب هذه اإلسهامات ّ يف التقدُّ م فكر اإلنسان يب ُ الفكر العر ُّ
ُ وفكر النقد واهلدم وإعادة البناء. ُ
الفكر َّية؟ وفكر االبن الوريث يف املسيح َّية ،ولئن ُ اخلليفة يف اإلسالم
اإلنسان إىل اإلصغاء اخلاشع لنداءات الكينونة واإلعراض عن أ َّما السبيل األضمن للنظر يف هذه املسألة ،فيقيض بالعودة
تصور ماه َّية اإلنسان منغرسة االستبدادي ،وإيثاره ُّ
ّ العقيل
ّ القبض الفكر
َ قل يل ،عىل سبيل املثال ،كيف حتدّ د إىل األصول املعرف َّيةْ .
يف العامل ،منغ ّلة يف الزمان ،ناشبة يف التاريخ ،وركونه إىل فعل أقل لك هل تعي له هو ّيته؟ ْ يب وكيف ترسم معامله وكيف ّ العر َّ
التجل األبرز ّ يت ،جيعل املدينة اإلنسان َّية موضع وي إنصا ّ سيايس َت َق ّ
ّ اهلايدغري وهل يمكنه إنجاز االستدخال ّ يمكنه مالقاة الفكر
حلقيقة الكائنات واألشياء واألحداث ،ووثوقه باعتالن وشيك اإلرادي واهلضم واالستساغة واالغتناء .فال يكفي أن أقول ّ
حيوي ( )das Geviertيقرن املائتني باآلهلة ّ رباعي
ّ الشتباك يب حتّى يتح ّقق برضورة استدخال هايدغر أو سواه عىل الفكر العر ّ
تافيزيقي رسال َة ِ
واألرض بالسامء ،و ُيسند إىل اإلله األخري الالم يل ما أردت .يمكنني أن أذكر فيلسوف ًا لبنان َّي ًا آخر يطوي أ َّيامه
ّ
الكوين .يف هذه ّ الرفق بتعدُّ د التج ّليات اإلهل َّية يف ثنايا الوجود األخرية ،وهو عىل مشارف السنة السادسة والتسعني من عمره،
اهلايدغري املحتمل ّ عاينت ما يشبه االستنهاض ُ املواضع اإلهلام َّية عنيت به بولس اخلوري ( )Paul Khouryالذي أنشأ عرشات ُ
يب املعارص وللمجتمعات العرب َّية املعارصة .ولكنَّني للفكر العر ّ األبحاث الرصينة يف فلسفة املحدود َّية التارخي َّية ،ويف فلسفة
قلت قولتي هذه ،ويف ذهني خشية من السقوط يف جتريدات نظر َّية ُ اإلسالمي .وهو
ّ املسيحي
ّ واحلواري
ّ الدين ،ويف الرتاث اجلدا ّيل
يب
يب يف عمق أصوله ،وثوابت الوعي العر ّ ختالف مباين الفكر العر ّ وتعرفت بفضله إىل فكر هايدغر. درست عىل يده الفلسفة َّ ُ الذي
أدق مستلزماته ،وطبائع الشخص َّية العرب َّية يف صميم ذات َّيتها. يف ّ الفلسفي يعرفون مقام بولس اخلوري ّ التخصص
ُّ ندر ٌة من أهل
الفكري يف املرشق ويف املغرب .هو قال بإمكان التوفيق بني ّ
نولوجي لألنطولوجيا عند هايدغر هيدف الف ِ
نوم إن التقويض ِ * َّ ِ ِ
الرتاث واحلداثة ،واستند يف ذلك إىل مقاربة فنومنولوج َّية لكلتا
ّ
ِ
إىل إعادة النظر يف كامل مسار املتافيزيقا لبلوغ طالئع الفكر الذي جوهره ،فعاينه اإلسالمي يب
َ ّ العامرتني .فاستخرج من الرتاث العر ّ
طواه النسيان .هل يمكن هلذا التقويض أن ينطبق عىل الرتاث يف مقولة التسامي أو التجاوز .واستخرج من احلداثة جوهرها،
االسالمي؟
ّ العريب
ّ البنيوي
ّ وأكب يستطلع أبعاد التقارب َّ فعاينها يف مقولة النقد.
أن مقولة بني مقولة التجاوز ومقولة النقد .فإذا به خيلص إىل َّ
اهلايدغري بوحدة املِتافيزيقا يف مجيع تش ُّعباهتا ّ إذا اعتمدنا القول كل ما ُينجزه جتاوز ّ
َ التسامي تستوجب ،عىل غرار مقولة النقد،
نولوجي ِ ِ
وتفرعاهتا ،وجب علينا أن نربط مصائر التقويض الفنوم التارخيي .فكلتا املقولتَني تستلزمان الناس يف مستوى التح ّقق
ّ ُّ ّ
يب بمآالت التقويض عينه يف الرتاث الفكري الغر ّ ّ يف الرتاث أن التوفيق بني الرتاث التقويم والنقد والتجاوز .لذلك اعترب ّ
الكشفي. يظل حمدو َد األثر أن هذا الربط ُّ يب املعارصَّ .إل َّ ِ ِ
ّ العر ّ نولوجي
ّ يب واحلداثة الغرب َّية ممك ٌن بفضل االستخراج الفنوم العر ّ
اإلصالحي؛ ّ يب ينعم برضبني من اإلسعاف الفكري الغر ُّ
ُّ فالرتاث للجوهرين الناظمني هلاتني العامرتني.
فهو َّأوالً ينطوي عىل قابل َّيات ذات َّية تتيح له استضافة مجيع رضوب
املراجعة والنقد واهلدم والتقويض والرتميم وإعادة البناء ،وهو الفلسفي ّ
الفذ يف البنى ّ أسأل اليوم عن مصري هذا االجتهاد
ثاني ًا حيظى بقرائن اجتامع َّية واقتصاد َّية وسياس َّية تُعينه عىل جتاوز وعي اإلنسان ُ الذهن َّية والفكر َّية واالجتامع َّية التي هبا يتبلور
النامذج املعرف َّية
ُ التشنُّجات والتص ّلبات واإلرباكات التي تستثريها حاولت
ُ يب املعارص .أجل، ُ
الفعل العر ُّ يب املعارص ،وهبا ينتظمالعر ّ
اإلسالمي
َّ يب
أن الرتاث العر َّ السائدة يف حقبة من احلقب .اعتقادي َّ يب أن أشري بخ َفر ٍّ
وتأن إىل إمكانات يف كتايب هايدغر والفكر العر ّ
اإلصالحي .سندي يف هذا ّ ال ينعم هبذين الرضبني من اإلسعاف يب املعارص أن يسترشفها يف اإلغنائي التي جيدر بالفكر العر ّ ّ اللقاح
اإلسالمي املهيمن ّ الديني
ّ أن القابل َّيات الذات َّية يف الرتاثالقول َّ لست متي ّقن ًا من َّ
أن ما اقرتحتُه يف كتايب إسهامات هايدغر .ولكنّي ُ
الديني ّ يف املجتمعات العرب َّية هي غري القابل َّيات الذات َّية يف الرتاث يب سوا ٌء يف اجتهادات الفالسفة العرب سيلقى الصدى اإلجيا َّ
حق املعرفة َّ
أن املسيحي املهيمن يف املجتمعات الغرب َّية .أعرف َّ ّ التحوالت البنيو َّية التي قد تطرأ عىل ُّ املعارصين أو يف مرسى
يب. يستفز كثري ًا من أهل املعرفة يف العامل العر ّ ُّ مثل هذا القول الذهن َّية العرب َّية السائدة يف املجتمعات العرب َّية .يف الفصل الرابع
األول مرتبط بام ولكنّي أميل إىل اعتامده لسببني اثنني :السبب َّ أبنت بعض املواضع التي قد تستثري األول من كتايب ُ من القسم َّ
استخرجتُه من متايز بني صورة االبن الوارث يف املسيح َّية وصورة يب واملجتمعات العرب َّية ،ومنها دعوة هايدغر اهتامم الفكر العر ّ
يب ،ال يف مستوى االقتصاد وال يف مستوى السياسة وال يف العر ُّ اخلليفة املد ّبر يف اإلسالم .فاخللف َّيتان األنرتوبولوج َّيتان هت ّيئان،
مستوى االجتامع .هذا االختالف يف القرائن ليس من احلتم َّيات عىل نحو متباين ويف مقادير شتّى ،مسالك املراجعة النقد َّية الذات َّية
الصيني
ّ يب ،وشأنه يف ذلك شأن العامل التارخي َّية .فالعامل العر ُّ واهلدم والرتميم وإعادة البناء يف البنى والذهن َّيات والترشيعات
التحوالت
ُّ اهلندي ،قد خيترب رضوب ًا شتَّى منّ الياباين أو
ّ أو فمقرتن بام أعاينه من اختالف يف ٌ والتنظيامت .أ َّما السبب الثاين
االقتصاد َّية والسياس َّية واالجتامع َّية تُفيض به إىل إدراك التقويض تصور مستندات احلقيقة .فاإلسالم يعاين احلقيقة متج ّلية يف ُّ
نولوجي الذي استثارته األنطولوجيا اهلايدغر َّية يف سياق الف ِ
نوم ِ القرآين ،فيام املسيح َّية تعاين احلقيقة متج ّلية يف شخص النص
ّ ّ ّ
يب الراهن، يب املعارص .أ َّما يف الزمن العر ّقرائن االجتامع الغر ّ ً ً
اإلنجييل شاهدا أمينا لسريته وفكره ُّ النص
يسوع املسيح الذي أتى ُّ
فالتمخضات العسرية التي تنتاب املجتمعات العرب َّية ما فتئت ُّ منزالً احلق عينه َّالديني الذي ينطوي عىل ّ ُّ فالنصُّ وأقواله وأفعاله.
أي منقلب والتموج والتناثر .ولست أدري ّ ُّ يف طور التذبذب الديني الذي ينطوي عىل شهادة ّ النصإنزال هو غري ّ تنزيل أو ً ً
أحوال املجتمعات العرب َّية يف املقبل من األ َّيام .يقيني ُ ستنقلب إليه يب
الرسل يف شخص الس ّيد املسيح .لذلك نشأت يف الرتاث العر ّ
فكري عميق يستلزم هذين الرضبني من اإلسعاف ّ كل تقويض أن َّ َّ القرآين ختتلف عن األنظومة ّ للنص
ّ اإلسالمي أنظوم ٌة تفسري َّية
ّ
عنيت هبام القابل َّيات الذات َّية ومؤاتاة القرائن ُ اإلصالحي،
ّ أن األنظومة التأويل َّية التفسري َّية التي نشأت يف املسيح َّية .اعتقادي َّ
االجتامع َّية والسياس َّية واالقتصاد َّية .يف مسألة القابل َّيات الذات َّية، اإلنساين هي
ّ ال من إدراك حقائق الوجود اإلسالم َّية تستتيل س ُب ً
األسايس الناشب بني مقام ّ ال ُبدَّ من االعرتاف باالختالف غري الس ُبل التي تستتليها األنظومة التأويل َّية املسيح َّية .ويف هذا
النص االبن يف املسيح َّية ومقام اخلليفة يف اإلسالم ،وبني مقام ّ يبّ .إل كثري من أهل املعرفة يف العامل العر ّ القول أيض ًا خيالفني ٌ
أي انتقاص لكال اإلنجييل .وليس يف ذلك ُّ ّ النصالقرآين ومقام ّ ّ النص ّ تصور مقام ُّ تصور مقام اإلنسان ويف ُّ أن االختالف يف َّ
احلضاري.
ّ القيمي أو التفضيل ّ ولست يف مقام احلكم ُ املقامني. التحوالت السياس َّية واالقتصاد َّية ُّ الديني ،إذا ما ُقرن بسياقات ّ
املمهدات الثقاف َّية ّ املوضوعي يف
ّ كالمي يأيت يف سياق النظر خاص ًا يف البيئتني الغرب َّية َّ واالجتامع َّية والثقاف َّية ،يو ّلد وعي ًا
البنيو َّية التي هت ّيئ البيئة االجتامع َّية لتق ُّبل مكتسبات احلداثة يصوروا والعرب َّية ،إليه يستند الناس يف فاعل َّيتهم التارخي َّية لكي ّ
الغرب َّية ،ومنها الديمقراط َّية يف مجيع وجوهها ورضوب تك ُّيفها. هيئة العامل الذي يستطيبون اإلقامة فيه واالنطالق منه ملعاينة
املمهدات الثقاف َّية البنيو َّية
وإن أدرك العالقة اجلدل َّية الناشبة بني ّ ّ أن األنظومة التأويل َّية حق املعرفة َّ وإن أعرف َّ العوامل األخرىّ .
واألحوال السياس َّية واالقتصاد َّية واالجتامع ًّية ،حيث تنشط اإلسالم َّية اختربت حيو َّي ًة فائق ًة يف التفسري املبتكر والتكييف
ات شتَّى من التأ ّثر والتأثري قد تُفيض إىل تبدُّ الت خطرية يف كيف َّي ٌ وأن األنظومة التأويل َّية املسيح َّية خضعت خضوع ًا مديد اخللقَّ ، ّ
املمهدات وقطب األحوال. عنيت هبام قطب ّ ُ هيئة هذين القطبني؛ أن احلداثة حني أزف املؤسسة الكنس َّيةّ .إل َّ ّ الزمن إلمالءات
أن االبن الوارث تُسند إليه املسيح َّي ُة رضوب ًا شتَّى من جل األمر َّ ُّ زمانا يف الغرب صارعتها املسيح َّية يف بداية األمر ،وانتهت إىل ُ
احلر َّية الترشيع َّية ال ُيسندها اإلسال ُم إىل اإلنسان اخلليفة ،ولئن ّ مصاحلتها واعتامدها واستدخاهلا يف بنيتها املعرف َّية واملسلك َّية .أ َّما
انطوى مقا ُم اخلليفة عىل مسؤول َّية كون َّية جليلة الشأن ،عظيمة يب ،فاحلداثة أط ّلت من اخلارج ،ال من الداخل يف الرشق العر ّ
باملمهدات الفكر َّية التي ّ األثر ،شاسعة املدى .املسألة ك ُّلها متَّصلة الرتاثي املتشنّج املأسور بقرون من ُّ الديني
ُّ يت .فجاهبها الوعي
الذا ّ
هت ّيئ حلضارة من احلضارات أو جمتمع من املجتمعات أن يستوي تعس ًا بنيو َّي ًا يف
أن هناك ُّ وتبي يل َّواخلارجيَّ .
ّ يت
االستبداد الذا ّ
املستقل ومسؤوالً عن أعامله. ّ حر ًا قائ ًام يف كيانه
اإلنسان فيه فرد ًا َّ
ُ جمرد اعتبار هذه احلداثة من صنيعة تق ُّبل احلداثة الغرب َّية يتجاوز َّ
أن مجيع احلضارات اإلنسان َّية ال هت ّيئ لإلنسان البلوغ إىل الواضح َّ يلح علينا يف االستدالل عىل الغرب املستعمر .ويبقى السؤال ُّ
مقام الفرد الذي بلغ إليه يف احلداثة الغرب َّية عىل النحو الذي ه َّيأته أسباب انعدام احلداثة العرب َّية املنشأ .فأين حداثة العرب املنبثقة
املسيح َّية له ،وذلك بالرغم من املشا َّدات الدمو َّية التي نشأت بني من ذات َّيتهم اللصيقة برتاثهم؟
الكنيسة الغرب َّية واملجتمعات الغرب َّية يف زمن اإلصالح وزمن
النهضة وزمن األنوار وزمن احلداثة حتّى مطالع القرن العرشين، هذا يف القابل َّيات الذات َّية يف املسيح َّية ويف اإلسالم .أ َّما يف
الديني
ّ حيث استعادت املسيح َّية الكاثوليك َّي ُة استعاد ًة نقد َّية ترا َثها حتوالت خطرية مل خيتربها العامل يب اخترب ُّ القرائنَّ ،
فإن العامل الغر َّ
يب يف القرون الوسطى .واجلميع يعلم التي اختربها العامل العر ُّ واستخرجت منه أسباب املصاحلة السلم َّية مع مطالب احلداثة
األكويني يف االعتامد عىل ّ أن جرأة ابن رشد جتاوزت جرأة توما َّ الغرب َّية .حتَّى البيئات احلضار َّية اآلسيو َّية ال تعتمد مقام اإلنسان
ال عن العقل لتفسري النصوص الدين َّية امللتبسة املعاين .ومل أكن غاف ً تصو ٌر يتاميز
ُّ الفرد عىل نحو ما تعتمده احلداثة الغرب َّية .فلها
االجتهادات الرصينة التي أتى هبا املعتزلة يف بناء أنظومة تأويل َّية تصور الفردان َّية الغرب َّية .ومع ذلك ،بلغت بعض متايز ًا جل َّي ًا عن ُّ
القرآين .ولست أجهل االجتهادات الرصينة ّ النص
حديثة لتفسري ّ املجتمعات اآلسيو َّية هنضة علم َّية وهنضة فكر َّية تالئم ما انعقد
النقدي يف املجتمعات العرب َّية ّ الديني
ّ أهل الفكرالتي أفرج عنها ُ عليه ترا ُثها من عنارص االستثارة والتحفيز والتطوير والرت ّقي.
حممد أركون الذي األملعي َّ
ّ املعارصة ،ومنهم عىل سبيل املثال املفكّر
يب، الف ِ ألن التقويض ِ عت يف اإلجابة َّ
وقف نفسه من أجل تطوير العلوم اإلسالم َّية وهنضة الفكر العر ّ اهلايدغري
ّ نولوجي
ّ نوم توس ُ َّ
حيث املجتمعات العرب َّية عىل الديني .فها هو ذا ّ ّ والس َّيام يف ش ّقه تصور آخر للكينونة ولأللوهة وللوجود وللكون ُّ ُيفيض إىل
اإلسالمي تناول نقد َّي ًا باالستناد إىل أحدث العلوم ّ تناول الرتاث وللتاريخ ولإلنسان وللفكر وللثقافة .فالكينونة عند هايدغر
اللغو َّية والتارخي َّية واالجتامع َّية والنفس َّية واألنرتوبولوج َّية والبنيو َّية حيو َّية فائقة يف االنكشاف واالنحجاب ،وليست قوام ًا صلب ًا جيد
فلسفي شامل ثم ،إىل النهوض بتقويم ٍ
ّ والتحليل َّية .ويدعوها ،من َّ جنبات كامله يف هيئة األلوهة .واأللوهة عنده منار ٌة خفر ٌة تيضء
لنتائج هذا التناول وخالصاته ،واستصفاء العنارص الرتاث َّية املغنية اإلنساين من غري أن تستقيم كيان ًا متعالي ًا ّ منكفئة من الباطن
(من أخالق َّية وروح َّية) ،واعتامد النامذج املعرف َّية الغرب َّية العلم َّية رسمد َّي ًا مس ّلط ًا عىل الكينونة وعىل الكائنات من خارج رحابة
يب املقبل الذي ال طاقة ألحد عىل الفكري العر ّ
ّ الفتَّاحة يف البنيان حلر َّية إقبال الكينونة إىل الكائنات مرادف ّ
ٌ الكينونة عينها .واحلقيقة
املهمة املعرف َّية اخلطرية.
استرشاف هيئته قبل إنجاز هذه َّ أو إدبارها وانكفائها ،وليست هي مطابقة األعيان ملا يف األذهان،
وليست قوالً فلسف َّي ًا أو علم َّي ًا أو الهوت َّي ًا جيب عىل مجيع الناس أن
هو نفسه يأسف النسحاق نظر َّية املعتزلة عن القرآن املخلوق يأمتروا به .واإلنسان عنده هو راعي الكينونة املتواضع الوديع،
واضمحالهلا ،وهيمنة النظر َّية احلنبل َّية يف القرآن غري املخلوق. املرشع احلاكم املطلق عىل الكائنات .والتاريخ هو وليس هو الس ّيد ّ
غني به نص ٌّ فالقرآن هو كالم اهلل بالنسبة إىل املسلمني ،ولكنَّه ٌّ موضع اعتالن مراسيم الكينونة يف تعاقب جت ّلياهتا وانحجاباهتا،
النص من قيود التل ّقي حيرر َّ ماس ٌة إىل التأويل .والتأويل ّ حاج ٌة َّ وليس مرسح ًا لتح ُّقق املشيئة اإلهل َّية أو إلنجاز مرسى الروح
ويرشعه عىل وعود خالص َّية زاهية .وهذا ما فعلته املسيح َّي ُة األولّ ، َّ خاشع الستدعاءات الكينونة ،وأهبى ٌ العلوي .والفكر هو إصغا ٌء ّ
ُ
الغرب َّية عندما استثارهتا األبحاث النقد َّية التارخي َّية ،فأخذت عىل ّ
اخلفر الذي هو تقوى الفكر .هذا كله يستتليه ُ ُ
ما فيه السؤال
حممل اجلدّ القطيعة املعرف َّية التي أنشأهتا احلداثة الغرب َّية يف بنى اهلايدغري .وهذا ك ُّله ال ُيطيقه اآلن نولوجي ِ
الفنوم التقويض ُِ
ّ ّ
أسلفت القول، ُ التفكري واملسلك .وأسعفها يف ذلك ،عىل نحو ما املجتمعات العرب َّية املعارصة .فكالمها
ُ يب املعارص وال الفكر العر ُّ ُ
األنرتوبولوجي الذي حيظى به اإلنسان يف الالهوت ّ طبيعة املقام َعارض ما برحا يف طور البحث عن الذات العرب َّية املقبلة .وما ت ُ
اإلنجييل.
ُّ النص
التأوييل الذي ينتسب إليه ُّ
ّ املسيحي وطبيعة املقام
ّ أهل الفكر واالجتامعي التي ينادي هبا ُ
ّ الفكري
ّ مشاريع اإلصالح
أ َّما يف اإلسالم ،واملجتمعات العرب َّية تدين بمعظمها به ،ما خال أن املجتمعات العرب َّية ما فتئت يف يب املعارص إال الدليل عىل َّ العر ّ
بعض األق ّل َّيات املسيح َّية وبعض األفراد ال َعلامن ّيني املنكفئني التفور واملخاض والته ُّيؤ العسري. حالة ُّ
مقرتن هبيمنة ٌ الديني السائد
َّ التصور
ُّ إىل مناسكهم الفكر َّيةَّ ،
فإن
الديني يف النص ِ ِ
يب .ذلك السيايس العر ّ
ّ التقليدي واستبداد اجلهاز
ّ الديني
ّ اخلطاب ّ أي حدٍّ يمكن أن نتحدَّ ث عن هرمنوطيقا ّ * إىل ّ
غائب
ٌ أن مفهوم الوساطة التارخي َّية يف التل ّقي والتفسري واإلبالغ َّ اخلاصة ببلداننا؟
َّ ّ
ظل الرشوط البنيو َّية املجتمع َّية
الديني ،ما خال بعض االلتامعات
ّ اإلسالمي
ّ حتَّى اآلن يف الفكر
القديمة ،عىل نحو ما انتهت إليه دراسة الصديق الربوفسور كل ما ال يمكن اإلجابة عن هذا السؤال ّإل باالستناد إىل ّ
الديني يف اإلسالم ،بريوت ،دار الفارايب،
ُّ (النص
ُّ وجيه قانصو النص أنشأت املقارنة بني مقام اإلنسان ومقام ّ
ُ سبق ذكره .عندما
يتبسط
الطبعة الثانية .)2016 ،من هذه االلتامعات القديمة التي َّ الديني بني املسيح َّية واإلسالم ،مل أكن غاف ً
ال عن احليو َّية الفكر َّية ّ
بأن الدعوة إىل النهوض ولكنَّنا نحن ،ـ معرش املفكّرين ـ نشعر َّ َ
الرسول فيها الربوفسور قانصو ُ
قول اجلويني َّ
إن جربيل أفهم
تتجاوزنا بمقادير مرعبة .فمن نحن حتَّى نفرض عىل املجتمعات ُ
وقول ابن القرآين «من غري نقل لذات الكالم».
ّ معاين الوحي
والتطور واالرتقاء؟
ُّ العرب َّية الصحوة والنهضة واإلقدام واالبتكار الزماين
ّ كلب َّ
إن كالم اهلل واحدٌ ،ولكنَّه حني خيرج إىل الفضاء ّ
أهل هذه املجتمعات الذين ومن نحن حتَّى نأمل أن ُيصغي إلينا ُ ويتجل يف نصوص متعدّ دة. ّ واملكاين ،يتَّخذ أشكاالً خمتلفة
ّ
ما انفكُّوا ينظرون إلينا نظرة الريبة واحلذر واالستهتار؟ كيف َّ
اجلويني ،يعترب عبد الرمحن بدوي أن التنزيل هو
ّ وتعليق ًا عىل كالم
أن النصوص املنرية التي يب املعارص طاملا َّ
نغي الوعي العر َّ
لنا أن ّ فتح
تنزيل للمعاين الرشيفة ،ال لأللفاظ بعينها .وهذا ،لعمريٌ ، ٌ
أهل احلداثة يف الغرب مل تُفصح بعدُ عن مضامينها يف قول أبدعها ُ يب املعارص من هذه
الديني العر ُّ
ُّ تأوييل مبني .ولكن أين هو الفكر
ٌّ
أن أعامل كبار الفالسفة يب مكني؟ أفيعجب املر ُء حينئذ من َّ عر ّ الفتوحات التأويل َّية القديمة؟
ُعرب بعد مرور الغرب ّيني ،من أمثال هيغل ونيتشه وهايدغر ،مل ت َّ
ما يقارب املئة عام عىل صدورها؟ فكيف هلذه األفكار أن ّ
تنغل يب مل يقطع قطيعة معرف َّية جل َّية حاسمة أن العامل العر َّ إحسايس َّ
ال يف امتحانات يب؟ هل ُيسأل عن هايدغر مث ً يف نسيج الوعي العر ّ جل األمر أنَّه استعذب بعض االلتامعات مع القرون الوسطىُّ .
الثانو َّية الرسم َّية (البكالوريا)؟ وهل يقرأ املث ّقفون العرب ،من الفكر َّية احلديثة ،واعتمد بعض املعارف العلم َّية يف سطح َّيتها
قضاة وحمامني وساسة وإدار ّيني وصحاف ّيني وأط َّباء ومهندسني املعريف احلديث الذي انبنت ّ الرتيبة ،من غري أن يتأ ّثر بالنموذج
األملاين؟ وهل يتد َّبرون معانيها ّ وأدباء ،نصوص هذا الفيلسوف يب بني اعتامده عىل علوم مريض يف الوعي العر ٌّّ فثمة فصا ٌم
عليهَّ .
االنقالب َّية؟ وما نسبة القراءة يف املجتمعات العرب َّية عىل وجه الغرب الوضع َّية وانحباسه يف أنظومة القرون الوسطى الفكر َّية،
اإلطالق؟ يته ّيأ يل يف بعض األحيان أنّنا ،نحن معرش الفالسفة، اللمعة .هناك ما خال بعض الشطحات الصوف َّية واألدب َّية َّ
ونعزي بعضنا بعض ًا عىل قدر ما يقرأ ُ
بعضنا إنَّام نحادث أنفسنا ّ األيديولوجي للهو َّية الثقاف َّية العرب َّية
ّ التصور
ُّ شاسع بني
ٌ ٌ
فرق
الفكري الرفيع .ويف هذا ّ أعامل بعضنا اآلخر يف و ّد التضامن التارخيي املنبثق
ّ العقالين
ّ اإلنساين املنفتح
ّ التصور
ُّ اإلسالم َّية وبني
أقىص أمنيات التغيري املرتقب حتَّى اآلن. من آفاق احلداثة غري املكتملة.
السلفي هبذا
ّ أن انتشار الفكر
* هل تتّفق مع القول الذي يرى َّ يبال بدَّ إذ ًا من قراءة نقد َّية تارخي َّية مسؤولة للرتاث العر ّ
العريب هو بمثابة مكر للتاريخ،
ّ الشكل املريع بعد ما ُس ّمي بالربيع يب أن يبني عالقة اإلسالمي بر َّمته ،لكي يتسنَّى لإلنسان العر ّ
ّ
بحيث لفظ هذا األخري أحشاءه ليتخ ّلص منها مستقبالً؟ اإلهلي تأوي ً
ال ّ جديدة بينه وبني اهلل تساعده عىل تأويل التوحيد
ِ
حيرر اإلنسان وجيعله مبدع ًا إلنسان َّيته عىل غري ما ألفته األنظومة ّ
السلفي أسبابه البنيو َّية االجتامع َّية والسياس َّية ّ لنشوء الفكر السيايس .هذا كلهّ
ّ ّ
الرتاث َّية املتلكّئة املتعثرة املتواطئة مع السلطان
ِ
واالقتصاد َّية .فهو مل يأت من عدم .من األسباب الذات َّية الداخل َّية فذ ًا
أن املجتمعات العرب َّية جيب عليها أن حتيي إحيا ًء َّ إنَّام يعني َّ
وتعظيم الذات العرب َّية والذات
ُ اجرتار املقوالت الدين َّية الرتاث َّية،
ُ خلق ًاالصلة التارخي َّية النقد َّية بالرتاث ،وأن تستدرك استدراك ًا ّ
واالستهتار بالغري َّية
ُ يت املتط ّلب، اإلسالم َّية ،ونبذ النقد الذا ّ التأخر الذي بينها وبني احلداثة الغرب َّية والذي قد يمتدُّ إىل أربعة ُّ
املختلفة واملخالفة ،وهيمنة الذهن َّية االستبداد َّية البطريرك َّية منظرهيم
ّ بعض
العرب إىل انتقاد ما يظنّه ُ
ُ هيب
قرون .وقبل أن َّ
العداوات املتعاقبة بني الرشق
ُ الذكور َّية .من األسباب اخلارج َّية املتشنّجني من انحرافات مسلك َّية تشوب عرص ما بعد احلداثة
يب احلديث ومواطأته أنظمة االستبداد واالستعامر الغر ُّ
ُ والغرب، ومن خواءات اجتامع َّية ترضب يف بناه ،ينبغي هلم أن هيضموا
الصهيوين الظامل .ال بدَّ من تذكري اجلميع َّ
بأن ُّ ُ
واالستيطان يب، العر ّ مطالب احلداثة يف ما تنطوي عليه من بناءات واعدة لكرامة
االستعامر مسألة نسب َّية .فاجلميع استعمر اجلميع يف إ َّبان العرص ثم ينارصون أهل وحر َّيته ومسؤول َّيته الذات َّية .ومن َّ
ّ اإلنسان
الذهبي للهيمنة العسكر َّية املتن ّقلة من صقع إىل صقع .منهم من ّ احلداثة الغرب َّية عىل اجتناب الثغرات البنيو َّية والفراغات املنهج َّية
ً
اخلارجي فتحا باسم َّ التوسع
ُّ وجيمل ويتعاىل ،فريى ّ يالطف وااللتواءات املسلك َّية التي أصابت املجتمعات الغرب َّية من شدَّ ة
الدين ،أو غزو ًا لطلب االستثامر ،أو انبساط ًا لنرش احلقيقة والعلم اإلغراق يف األمانة القصوى ملطالب الفردان َّية واالستقالل َّية.
اإلنساين
ّ يت ،وتقويم املسلك اخلي عىل شحذ الوعي الذا ّ الرصني ّ يب ال أن مراعاة التد ُّين العر ّإذا ما انتبذ الدين انتباذ ًا قاطع ًا .غري َّ
واجلامعي .فالفلسفة قادر ٌة عىل اقرتاح سبيل من احلكمة ّ الفردي
ّ لكل رضوب األحكام الدين َّية التي تروم فرضها يعني اخلضوع ّ
يتخ ّطى معاثر اإليديولوجيات الدين َّية والسياس َّية ،ألن احلكمة
َّ املؤسسة الفقه َّية .حتدَّ ثت فلسف َّي ًا ،ولكنَّني تناولت أيض ًا املسائل َّ
التي تقرتحها الفلسفة ال ترمي إىل التس ّلط واهليمنة ،بل تصبو يب من اضطرابات والتواءات. السياس َّية يف ما تو ّلده يف الوعي العر ّ
أن الفلسفة احلقيقي .ومع َّ
ّ الداخيل
ّ يف صميم متط ّلباهتا إىل التسامل يب ال جيوز أن ُتمل أن الفلسفة يف العامل العر ّ واليقني يف هذا ك ّله َّ
أي انخراط رسا ّيل تنأى بنفسها ،يف نظر الكثريين من أهلها ،عن ّ يب
هذين احلقلني األساس َّيني الناشطني يف توجيه الوعي العر ّ
يب املعارص أن الواقع العر َّ مبارش يف معرتك احلياة اإلنسان َّيةّ ،إل َّ واجلامعي .لذلك أعاين للفلسفة مقام ًا خطري ًا يف تقويم ّ الفردي
ّ
يستنجد الفلسفة استنجا َده بسبيل النجاة األخري .فالفلسفة تز ّين اعوجاجات اإليديولوجيات الدين َّية والسياس َّية يف املجتمعات
املعريف،
ّ النظري ،والوضوح
ّ البرشي بصفات اجلالء ّ الكائن نصار العرب َّية كا َّفة (راجع النقد الصائب الذي أنشأه ناصيف َّ
اخللق ،والصرب الذهني ،واجلرأة النقد َّية ،واالبتكار ّ ّ والصفاء وعبد اهلل العروي يف افتضاح معايب اإليديولوجيا) .فالفيلسوف
اإلنساين
ّ صفات البناء
ُ الكياين .وهذه ك ّلها
ّ الوديع ،والتواضع يب يتحتَّم عليه أن جيبه استبداد األنظومتني الدين َّية والسياس َّية العر ُّ
يب
مسلك اإلنسان العر ّ ُ السليم الذي ينبغي أن ينهض عليه ويفضح تواطؤمها املشني .الفلسفة العرب َّية املقبلة لن تقوم عىل
املعارص. األول تس ّلطت ألن خمتربات العامل َّ الكوينَّ ،
ّ اإلبيستمولوجي
ّ الفتح
املتطورة.ّ يف ما يشبه االحتكار عىل مصادر املعرفة العلم َّية
أن الفلسفة هي وحدها التي املجتمعات العرب َّية َّ
ُ إذا أدركت أسس القوم َّيات امللتبسة، والفلسفة العرب َّية املقبلة لن تنهض عىل ُ
يب اخلطري ،أفردت هلا املسلكي العر ّ
ّ تستطيع تقويم االعوجاج القومي كحافزّ ألن املجتمعات البرش َّية املعارصة ال تثق باالنتامء َّ
مقام ًا خليق ًا برسالتها اإلصالح َّية ،وأقبلت إليها تستنطقها عن األخوة اإلنسان َّية
َّ الثقايف ،وطفقت تنحو اليوم منحىّ لإلبداع
التارخيي.
ّ أفضل الس ُبل التي تُفيض هبا إىل تغيري وقائع وجودها الكون َّية التي تتجاوز حدود العرق واملنبت واللغة واملذهب.
فال العلوم وحدها ،والعرب ال تصيب منها ّإل النزر اليسري، الفلسفة العرب َّية جيب يف بداية األمر أن تتم ّثل إسهامات الفلسفة
املتطرفة املهيمنة ،وقد ذهبت بالعرب مذهب ًا قص َّي ًا ّ وال الدين َّيات يب األرحب .يف ذلك الكون َّية وتك ُّيفها يف قرائن االنتامء العر ّ
يف التعانف الفتّاك ،وال السياس َّيات االستبداد َّية االنتهاز َّية ،وقد ال للفلسفة يف املجتمعات العرب َّية يتجاوزأسترشف مقام ًا جلي ً
كل طاقة فيهم عىل االنتفاض والصحوة أهلكت يف العرب َّ جمرد التم ّثل واهلضم.َّ
والنهضة ،تستطيع أن تساعد املجتمعات العرب َّية عىل اخلروج
من املحنة الوجود َّية التي تصيبها يف أعمق أعامق كياهنا .وحدها أن املجتمعات العرب َّية املعارصة ختتزن بعض ًا من حقيقة األمر َّ
األخالقي البنَّاء ،تستطيع
ّ الفلسفة ،وقد انتهجت منهج التفكّر احلكمة اإلنسان َّية الرفيعة ُدفنت يف مطاوي النصوص العرب َّية
اإلنساين
ّ أن متنح املجتمعات العرب َّية الطاقة السليمة عىل التفاعل الرتاث َّية وبعض النصوص العرب َّية احلديثة ،ورست أيض ًا يف
واحلر َّية الذات َّية والعدالة والتضامن
ّ املستند إىل ق َيم الكرامة الفرد َّية اختبارات األفراد واجلامعات التي تقطن األرض العرب َّية .يف
واألخوة.
َّ يستشف املرء أبعاد ًا أخالق َّية سن َّية
ُّ ثنايا هذه احلكمة اإلنسان َّية
جيدر بالفلسفة أن تُعمل الفكر فيها ،وتستخرج منها أصوهلا
عالو ًة عىل ذلكَّ ،
فإن الفلسفة تنشئ يف الذات اإلنسان َّية كفاء ًة املعريف.
ّ النظري
َّ األنرتوبولوج َّية القصوى ،وترسم هلا نطاقها
أهلنقد َّي ًة وجود َّي ًة هي غري الكفاءة العلم َّية التي يبحث عنها ُ أن الفلسفة العرب َّية املقبلة هي فلسفة وجود َّية حكْم َّية اعتقادي َّ
املجتمعات العرب َّية ،والس َّيام الش َّبان والشا َّبات ،لالنعتاق من يب وللمجتمعات أخالق َّية عمل َّية تستطيع أن تنهج لإلنسان العر ّ
ٍ
نجوة مظامل الدهر واكتساب املناصب اإلدار َّية التي تضعهم يف واالقتصادي. والسيايس االجتامعي سبيل اإلصالحَ العرب َّية
ّ ّ ّ
هتذب الكيان أن الكفاءة العلم َّية املحضة ال ّ
من العوز .واحلال َّ ألن العرب تستكره بالسليقة التجريدات أقول هذا القول َّ
ضم ًة من املعلومات والتقنيات تزوده َّالفردي ،بل ّ
َّ اإلنساين
َّ ثم، الواقعي .من َّّ احلس
التبص ّ َّ ُّ النظر َّية املاورائ َّية ،وتستحسن
الذهني.
ّ اإلدراكي
ّ التفوق
ُّ واملهارات التي جتعله يف موقع ّ
احلث يب املعارص فإن من ألزم واجبات الفلسفة يف العامل العر ّ َّ
* هل هناك أزمة هو َّية عند العرب واملسلمني اليوم؟ أ َّما الكفاءة النقد َّية الوجود َّية التي تزرعها الفلسفة يف الوعي
للتبص احلكيم يف أحوال ُّ يب
تؤهل اإلنسان العر َّ
فإنا ّ اإلنساينَّ ،
ّ
ألن اإلسالم تستلهمه دعني أحتدَّ ث عن العرب وحدهمَّ ، واجلامعي ،ومتكّنه من التمييز
ّ الفردي
ّ الزمان وحتدّ يات التاريخ
شعوب وأقوا ٌم تنتمي إىل بيئات وجمتمعات قد خيتلف بعضها عن ٌ احلصيف واحلكم الصائب عىل وقائع املستجدّ ات الطارئة عىل
الفاريس،
ّ يب هو غري اإلسالم ً ً
بعض اختالفا جل َّيا .فاإلسالم العر ُّ يب
حياته .وحدها الفلسفة الوجود َّية األخالق َّية هت ّيئ لإلنسان العر ّ
األندونييس ،واإلسالم
ّ األفغاين هو غري اإلسالم ُّ واإلسالم الكياين األشمل الستثامر طاقات وجوده يف بناء فرد َّية َّ اإلمكان
األفريقي .أنا أعرف العرب ّ واهلندي هو غري اإلسالمُّ الصيني
ُّ ذات َّية واعية مسؤولة مستقيمة مساملة متعاطفة تُفيض بالذات َّيات
اللبناين ينتمي إىل البيئة العرب َّية ،وقدّ معرف ًة قريب ًة َّ
ألن االجتامع الفرد َّية العرب َّية املتقابلة إىل مع َّية متكاملة متضامنة يف سبيل خري
ُأخذت يف أوسع مدلول هلا ،ولئن ا َّدثرت بناه الثقاف َّية واالجتامع َّية اإلنساين األرحب.
ّ االجتامع
والسياس َّية برداءات منسوجة يف عمق مفارقات الذات اللبنان َّية.
ألنم أن العرب ،حتَّى اليوم ،يسرتهبون الغري َّية َّ أنا أعلم َّ أن واقع الفلسفة الراهن يف املجتمعات العرب َّية ال بيد َّ
يسرتهبون الذات َّية ،أي يسرتهبون ما تنطوي عليه ذات َّيتُهم من مقبل ال حمالة عىل اعتامد السبيل يب ٌ يدل عىل َّ
أن اإلنسان العر َّ ُّ
والتطور .لذلك أعاينهم عىل الدوام ُّ قابل َّيات لالنتفاض والتجديد التبص يف حقائق وجوده ُّ الفلسفي يف اكتساب مهارات ّ
أهل يف موضع التق ّلب امل ّطرد بني الذات واآلخر .وقد وصفهم ُ التارخيي .واألسباب شتَّى .منها ما يتَّصل بأزمة اهلو َّية العرب َّية،ّ
املعرفة فيهم ،وهم ك ُثر (هشام جعيط ،أزمة الثقافة اإلسالم َّية، ومنها ما يتَّصل بإغواءات اليقين َّيات الدين َّية اجلاهزة ،ومنها ما
بأنم يف وضع الضياع ال يفقهون بريوت ،دار الطليعةَّ ،)2000 ، املتوهجة بوعود ّ يتَّصل بإغراءات اإليديولوج َّيات السياس َّية
اإلسالمي
ّ احلنيني بالعرص
ّ من احلداثة سوى استعادة االرتباط الفالح والتس ّلط ،ومنها ما يتَّصل أيض ًا بمقام الفلسفة يف
الذهبي ،فيام احلداثة هي يف عمق متط ّلباهتا قطيعة معرف َّية شامل ٌة ّ يب املعطوب .ال بدَّ ،إذ ًا، الكوين ويف الزمن العر ّ
ّ زمن العوملة
مع املايض. من التد ُّبر الصبور ملواجهة هذه األسباب التي تعيق ازدهار
الفلسفة يف املجتمعات العرب َّية املعارصة .فالفلسفة ال حتمل
التأزم يف املجتمعات العرب َّية الضياع بني الرتاث من عالمات ّ اخللبة ،وال تذيع استباقات األوطوب َّيات الديني ّ
ّ وعود الرجاء
إبداعات
ُ واحلداثة .فالناس يف املجتمعات العرب َّية تستهوهيم السياس َّية املثال ّية املتأللئة ،وال تقبض عىل مقاليد الفتوحات
مقتضياتا يف نطاق
ُ احلداثة يف جماالت العلوم والتقانة ،وختيفهم العلم َّية التقن َّية الزاهية .هي أفقر العلوم قاطب ًة ،ولكنَّها ُ
أفعل
العلوم اإلنسان َّية ،والس َّيام الدين َّية منها .يف القرون اخلمسة األخرية الس ُبل يف حترير الذات اإلنسان َّية من أوهام السعادة الزائفة،
العرب آل ًة علم َّي ًة واحد ًة ذات منفعة كون َّية ،ومل يكتبوا ُ مل خيرتع والفالح امللتوي ،واإلنجاز الرديء.
هز املشاعر نبي جربان خليل جربانَّ ، كتاب ًا واحد ًا ،يف ما خال ّ
الناس يف مجيع أصقاع األرض .وهم ما ُ وحرك الضامئر وقرأه َّ الوجودي
ّ الفلسفي
ّ ال ينقذ املجتمعات العرب َّية ّإل التفكُّر
كل هو َّية ثقاف َّية هي يف ذاهتاالفذةُّ .
فتئوا يتحدَّ ثون عن هو َّيتهم ّ خضم األزمة ّ النقدي البنّاء .هذا يقيني الثابت يف ّ األخالقي
ّ
فذة إذا ما استطاعت أن تُفصح عن ذاهتا من غري أن تُلغي اهلو َّيات ّ الكيان َّية التي تعصف باملجتمعات العرب َّية .وال ينفعنا اهلروب
األخرى ،وإذا ما هت َّيأ هلا أن تُغني البرش َّية بقيمها الرفيعة .أفال املرتهلة،
ّ إىل حلول ومه َّية نستخرجها إ َّما من أنظوماتنا الدين َّية
يليق بنا ،واحلال هذه ،أن نتواضع وأن نسائل أنفسنا عن أسباب املتفسخة ،وإ َّما من اسرتاتيج َّياتنا ّ وإ َّما من أيديولوجياتنا القوم َّية
الضحل؟ املعادلة شديدة ْ يب
الثقايف املريع يف هذا الزمن العر ّّ عقمنا السياس َّية العقيمة .مثل هذه الفلسفة تتناول املكانز احلكْم َّية التي
نفسه باالستناد إىل ثوابت يب َ عرف اإلنسان العر ُّ اإلرباك .فإذا َّ املجتمعات العرب َّية يف قاع تراثاهتا ،فتستخرج منها ق َيم ُ ختتزهنا
تراثه ،أوشك أن خيرج من احلداثة ويناصبها العداء .وإذا أقبل إىل ُ
اإلنسان األصالة الراقية وعنارص اإلغناء الرفيع التي حيتاج إليها
استثامر مكتسبات احلداثة املعرف َّية يف التعريف بنفسه ،استشعر يف يب القادرة التارخيي العر ّ
ّ يب املعارص يف استنباط معاين الوجود العر ُّ
يت واخليانة احلضار َّية .األخطر يف ذلك باطنه شيئ ًا من التنكُّر الذا ّ اإلنساين القويم.
ّ عىل إهلام املسلك
اإلسالمي.
ّ سبيل إىل مداناة الذات العرب َّية من غري اعتبار األصل أن املجتمعات العرب َّية ال تستطيع اآلن أن تُفصح عن نفسها ال ك ّله َّ
مقوالت اهلو َّية
ُ اإلسالمي ال ُيطيق أن تُنسب إليه
َّ أن األصل غري َّ الفكري الراقي ،وال يف اخلروج من سياق احلداثة ّ يف هدأة التأ ُّمل
بعضهم َّ
أن التي ابتدعتها العقالن َّية الغرب َّية احلديثة .لذلك يظ ّن ُ وأسئلتها اجلارفة .مجيع االجتهادات العرب َّية يف اإلفصاح عن هو َّية
يتصور هو َّيته بمعزل َّ يب ال يستطيع عىل اإلطالق أن اإلنسان العر َّ الذات اجلامع َّية أتت يف سياق التشنُّج واملواجهة واالحرتاب.
أن املسألة تقوم يف تعيني هو َّية اإلسالم .عن عن إسالمه .غري َّ خضم معاداةّ أن العرب اعتادوا املجاهرة باهلو َّية الذات َّية يف ذلك َّ
أي إسالم يتحدَّ ث السلف ُّيون املنادون بأصالة اهلو َّية اإلسالم َّية ّ اآلخرين ،أو حتَّى باالستناد إىل نفي اآلخرين .فليس من إثبات
الديني
ُّ الفكر
ُ أي إسالم يتحدَّ ث يف مواجهة الغرب؟ وعن ّ للذات العرب َّية من دون استحضار الغري َّية اآلثمة وحماكمتها.
اإلحيائي الراغب يف تشذيب املجتمعات اإلسالم َّية ُّ اإلسالمي
ُّ أقدر الناس إن العرب ُ وقد قال نبهاء الفكر يف الذات العرب َّيةَّ :
تصور الدين احلنيف؟ وعن من رواسب االنحطاط والشطط يف ُّ يف املجاهبة وأعجز الناس يف اإلبداع .أفال يستطيع العرب أن
أي إسالم يتحدَّ ث املسلمون العلامن ُّيون املعارصون ،عىل ق ّلتهم ّ التعرض ُّ يعرفوا أنفسهم من دون يتحدَّ ثوا عن ذات َّيتهم وأن ّ
احلر ودائرة التدبري وضعفهم ،حني يفصلون بني دائرة اإليامن ّ لآلخرين ومقاضاهتم وإدانتهم؟
يب املعارص؟
املدين يف نطاق االجتامع العر ّ
ّ
التأزم أيض ًا انبثاث قيم البداوة العرب َّية يف ُّ ومن عالمات
هذه األسئلة وغريها هي التي ينبغي التصدّ ي هلا حني يتحدَّ ث وعي املجتمعات العرب َّية املعارصة .فالعصب َّية واملروءة والرشف
اإلنسان عن أزمة اهلو َّية يف املجتمعات العرب َّية املعارصة .وحني رواسب ثاوية
ُ واملكابرة احلرب َّية اجلهاد َّية واالستبداد ،هذه ك ّلها
يقارن املرء بني املجتمعات العرب َّية واملجتمعات الغرب َّية (أورو ّبا واجلامعي .وليس من سبيل ّ الفردي
ّ يب
يف أعمق أعامق الوعي العر ّ
أن التدبري يتبي له َّ والواليات املتَّحدة وكندا وأسرتاليا)َّ ، يب حيدّ د هو َّيته باالستناد أن اإلنسان العر َّإىل االنعتاق منها طاملا َّ
احلضاري الذي أفىض هبذا الغرب إىل التمييز بني دائرة اإليامن َّ إىل هذه الرواسب اهلدَّ امة .وإذا ما تناول املرء املجتمعات الغرب َّية
االجتامعي هو الذي نحت للمجتمعات ّ الفردي ودائرة االنتامء
ّ يب بقيم احلداثة الغرب َّية وقيم ما بعد وقارن فيها ق َيم التقليد الغر ّ
الغرب َّية مالمح خصوص َّيتها الثقاف َّية بعد سقوط الدولة الدين َّية أن قيمة اخلضوع يف احلداثة الغرب َّية ،وجد ،عىل سبيل املثالَّ ،
يب يف التمييز بني املسيح َّية فيها .فهل جيوز اعتامد املثال الغر ّ يت يف األنظومة التقليد َّية الغرب َّية ناهضتها قيمة االنعتاق الذا ّ
كثري من الدين َّيات واملدن َّيات يف فضاء الثقافة العرب َّية املعارصة؟ ٌ األنظومة احلديثة الغرب َّية ،وما لبثت أنظومة ما بعد احلداثة أن
الفكري الرصني يعتربون هذا املسعى من املستحيالت ّ أهل التد ُّبر مثال عىل يت .هذا ٌ عارضت القيمتَني بقيمة التش ّظي أو التبعثر الذا ّ
ألن املجتمعات اإلسالم َّية ال تعرف يف أصل احلضار َّية القصوىَّ ، اجلدل َّية احل َّية التي ترسي يف رشايني املجتمعات الغرب َّية املعارصة
اإلسالمي
َّ َّ
وألن الوعي نشأهتا متييز ًا واضح احلدود بني املجالني، احلاملة يف وعيها ملآثر هذه األنظومات الثالث .أ َّما يف املجتمعات
اجتامعي
ّ اإلسالمي كنمط حياة
َّ واجلامعي خيترب الدين
َّ الفردي
َّ العرب َّية فالتنازع عىل أشدّ ه بني اخلصوص َّية الذات َّية والغري َّيات
سيايس.
ّ ثقايف
ّ اإلتيان بمثال جد ّيلُ املطبقة من اخلارج .وقد يكون يف املستطاع
يب املذكور .فالعصب َّية خت ّفف من غلوائها يف يب شبيه باملثال الغر ّ
عر ّ
كيف يمكن إذ ًا أن تتفاعل املجتمعات العرب َّية هي العييل بني أبناء
ّ االجتامعي قيم ُة التامسك والتضامن ّ يب
الوعي العر ّ
واستنهاضات احلداثة الغرب َّية التي تضع الدين يف موضع االختبار أن هذا ك ّله ينبغي أن يستقيم يف مرسى من األرسة الواحدة .غري َّ
ثمة س ُب ٌل كثرية؛ منها أن يعمد ُ
أهل احلر؟ َّالفردي ّ
ّ يت
الوجداين الذا ّ
ّ املراجعة النقد َّية الذات َّية الرصينة املوضوع َّية النزهية .وهذا ما تفتقر
املجتمعات العرب َّية إىل ابتكار حداثة إسالم َّية لصيقة بالرتاث محى انتفاضاهتا العنف َّية اهلدَّ امة. املجتمعات العرب َّية يف َّ
ُ إليه
يب ،عىل نحو ما جيتهد يف بنائه طه عبد الرمحن يف كثري من العر ّ
العناء واإلسقاط واملغاالة (روح احلداثة .املدخل إىل تأسيس جمرد أن أزمة اهلو َّية يف املجتمعات العرب َّية تتجاوز َّشك يف َّ
ال َّ
يب
احلداثة اإلسالم َّية) .ومنها أن حيفر املرء يف حتت َّيات الرتاث العر ّ التحوالت التي طرأت عىل األنظومة الثقاف َّية التقليد َّية
ُّ التحري عن
ّ
اإلسالمي ليستخرج منه قابل َّيات ذات َّية ملؤاتاة احلداثة الغرب َّية
ّ خطري بني اهلو َّية واإلسالم ،إذ ال ٌ مزج
يب ٌالعرب َّية .يف الوعي العر ّ
إن املرشوع النقدي الذي يمتلكه سعيد يقطني ممتدٌ زمني َا؛ فهو يشمل عدد ًا من الدراسات واألبحاث التي صدرت خالل أكثر من ثالثة َّ
أهله لتحقيق ذلك عمق تكوينه املعريف ،وسعة ثقافته رحب معرف َّي ًا؛ ألنَّه يصل احلارض األجنبي باملايض األهيل ،وقد َّ
ٌ عقود من الزمن،
وتنوع اهتامماته البحث َّية ،وطول مدارسته النصوص الرسد َّية العرب َّية واألجنب َّية ،احلديثة والقديمة.
املنهج َّيةُّ ،
لقد قدَّ م يقطني قراءات نظر َّية وتطبيق َّية جا َّدة لعدد من النصوص اإلبداع َّية الرسد َّية ،القديمة واحلديثة ،وأصدر عدد ًا من الدراسات
النقد َّية ،منها عىل سبيل املثال ال احلرص :حتليل اخلطاب الروائي (الزمن ـ الرسد ـ التبئري) ( ،)1989انفتاح النص الروائي :النص -السياق
( ،)1989الرواية والرتاث الرسدي ،من أجل وعي جديد بالرتاث ( ،)1992ذخرية العجائب العرب َّية :سيف بن ذي يزن ( ،)1994الكالم
واخلرب :مقدّ مة للرسد العريب ( ،)1997قال الراوي :البنيات احلكائ َّية يف السرية الشعب َّية ( ،)1997الرسد العريب :مفاهيم وجتليات (.)2006
إن الباحث مل يفته أن يتفاعل مع الثورة املعلومات َّية والتقن َّية التي يشهدها العامل املعارص ،فأصدر يف جمال الرقم َّيات كتابني رائدين،
ثم َّ
مها :من النص إىل النص املرتابط ،مدخل إىل مجال َّيات اإلبداع التفاعيل ( ،)2005والنص املرتابط ومستقبل الثقافة العرب َّية (نحو كتابة عرب َّية
رقم َّية) (.)2008
من هنا ارتأت جملة يتفكَّرون إجراء هذا احلوار مع الناقد والباحث األكاديمي الدكتور سعيد يقطني ،فمرحب ًا به ،وله الشكر اجلزيل
أوالً وآخر ًا.
*****
* أكادميي من املغرب
التاريخ ومع الرتاث .لك َّن التعامل اجلديد مع الرتاث يف الرواية أن املشهد
ثمة شبه إمجاع بني نقاد الروا َّية باملغرب ،عىل َّ* َّ
اجلديدة متصل اتصاالً وثيق ًا بالتجريب .فكام حاول صنع اهلل أن الرواية املغرب َّية قد شهدت، تطور ،وعىل َّ
الروائي باملغرب قد َّ
إبراهيم (نجمة أغسطس) مث ً
ال اخلروج عىل النمط التقليدي يف ابتداء من سنوات التسعني من القرن املايض ،عدَّ ة حتوالت،
الرواية الواقع َّية ،رام الغيطاين (الزيني بركات) القصد نفسه يف أبرزها ظهور نمط جديد من الكتابة الروائ َّية ،هو نمط الرواية
كتابة رواية تارخي َّية جديدة ،تقيم صورة أخرى من صور التعامل تطورت؟ وهل أن الرواية املغرب َّية قد َّ
الرتاث َّية .فهل ترى مع هؤالء َّ
مع الرتاث. مرحلتي التقليد والتجريب إىل مرحلة التأصيل؟ ْ انتقلنا فع ً
ال من
وماذا قدَّ م الرتاث الرسدي العريب ،العامل والشعبي ،للرواية املغرب َّية
مناهج خمتلفة ومقاربات
ُ * جتاذبت نقا َد الرسد احلديث باملغرب ثم ،باملقابل ،ما الذي قدَّ مه الرسد العريب ال ومضمون ًا؟ َّ شك ً
رواد نقد الرسد باملغرب ،إىل املنهج
متباينة ،فمن املنهج التارخيي مع َّ احلديث للموروث الرسدي العريب؟
ثم املنهج البنيوي ،واألسلويب ...،وغريها .كيف السوسيولوجيَّ ،
تنظر إىل هذا التعدُّ د املنهجي الذي طبع نقد الرسد باملغرب؟ وما أن سؤالك يتمحور حول العالقة بني الرواية والرتاث أرى َّ
رأيك يف ظاهرة «التكامل املنهجي» التي دعا إليها كثري من النقاد إمجاالً .وأبدأ ،جواب ًا عن هذا السؤال ،بالتأكيد عىل َّ
أن الرواية
املغاربة؟ ال عىل مستوى الكم .لقد تزايد االهتامم هبا تطورت فع ً
املغرب َّية َّ
إبداع ًا وقراءة ،إىل درجة َّأنا أصبحت بمثابة الرجز للشعرِّ ،
وكأن
تعدُّ د املناهج يف جتربة ثقاف َّية مع َّينة دليل عىل الغنى والتنوع. هبا باتت «رجز» النثر .لكن هذا ال يعني َّأنا مالت بكاملها نحو
ولست ممَّن يفاضلون بني املناهج إذا كانت تستعمل بشكل مالئم الرتاث .صحيح صار الرتاث بعض ًا من العوامل التي ترتادها،
ودقيق .أ َّما إذا كانت غري ذلك فال يمكننا احلديث عن عمل وليس ذلك إىل احلدّ الذي يمكن معه اعتبار تبلور نوع روائي
منهجي ،وإن تل َّبس ببعض مالمح أو إجراءات بعض املناهج. جديد ،يمكن أن نسميه «الرواية الرتاث َّية» .قد نتحدّ ث ،مثالً ،عن
لكل منها خصائصها لك َّن التعدُّ د يعني أنَّنا أمام مناهج خمتلفة ٍّ «الرواية العرفان َّية» التي ابتدعها الكاتب عبد اإلله بنعرفة ،لكن
املميزة ،ومقدّ ماهتا ومبادئها ومقاصدها .فكيف يمكن اجلمع بني كل ذلك ال عالقة له بـ«تأصيل» الرواية .فال عالقة يف رأيي بني ّ
إن أكرب أسطورة «منهج َّية» يف الوطن العريب هي عدَّ ة مناهج؟ َّ التقليد والتجريب والتأصيل ،والنظر النقدي العريب الذي يربط
القول بـ«التكامل املنهجي» .لقد ْأز َرت هذه األسطورة بالنقد تأصلت الرواية العرب َّية منذ بينها أسري فهم «تقليدي» للرواية .لقد َّ
العريب ،ومل جتعله خيرج عن دائرهتاَّ ،
فظل يدور يف حلقة مفرغة. أن صارت نوع ًا رسدي ًا ينتج فيه الكتاب ،ويتعامل معه َّ
القراء .أ َّما
فكل من يكتب كتاب ًا يسهل عليه ا ّدعاء «التكامل املنهجي» ُّ إن الرواية القول بالتأصيل فقد جاء ر َّد فعل عىل الذين يقولون َّ
النص األديب الذي هو بحجة أنَّه ال منهج يستطيع التعامل مع ّ َّ نوع دخيل جاءنا عن طريق الغرب .ولذلك عُدَّ ت الرواية التي
كل من ال يريد وجع متعدّ د الدالالت ،...إنَّه منفذ يسلك منه ُّ وكأنا تسعى إىل جتاوز «هتمة» تقليد اآلخر عن تنهل من الرتاثَّ ،
إن املنهج الواحدالرأس ،أو املحاسبة عىل االشتغال بمنهج حمدَّ دَّ . أن الرواية نوع رسدي ارتبط طريق «تأصيل» الرواية .يف حني َّ
يستدعي االنطالق من علم حمدَّ د .وغياب االشتغال يف نطاق أحد بتحوالت ورشوط تارخي َّية واجتامع َّية وثقاف َّية .أ َّما التقليد فإنَّه
ُّ
علوم األدب املعروفة يف الغرب ال يمكنه إال أن ُيسلم إىل األخذ يتصل بالتجربة الروائ َّية التي ارتبطت بالواقع َّية ،ومل تغدُ هذه
باملناهج املتعدّ دة املتنافرة .هناك فرق بني «املنهج التكاميل» وتعدُّ د الرواية «تقليد َّية» أو كالسيك َّية إال مع ظهور الرواية اجلديدة يف
األول يعني اهلجانةَّ ،
فإن االختصاصات وتداخلها .فإذا كان َّ فرنسا َّأول األمر .والتجريب الذي ظهر يف الرواية العرب َّية يف
يتم االنفتاح
الثاين يستدعي توظيف منهج منطلق ،ومن خالله ُّ السبعينيات أتى ليقدّ م جتربة روائ َّية خمتلفة عن الرواية التي أرسى
عىل املناهج األخرى. أن هذه املفاهيم ،ال دعائمها حمفوظ يف الثالث َّية .هكذا يبدو لنا َّ
يمكن إال أن نتعامل معها تعامال يراعي خصوصيتها يف سياقاهتا
* ارتباط النقد األديب -مناهج ومفاهيم -بالفلسفة ال ختفى املختلفة .أ َّما استغالل الرتاث العريب يف الكتابة الروائ َّية العرب َّية
أن قراءاتك يف جمال
مه َّيته عىل أحد ،وقد ذكرت يف حوار لك َّ
أ ِّ فهو ليس وليد اليوم؛ فالروايات األوىل حاولت إقامة عالقة مع
كتطوير ملفهوم النص ،ال يمكن إال أن يسلمني إىل االنتقال إىل عمقت لديك اإليامن بقيمة املنهج، الفلسفة والعلوم اإلنسان َّية قد َّ
«النص املرتابط» ،باعتباره تطوير ًا للنص مع ظهور الوسائط ووجهتك نحو االهتامم بطريقة التفكري والكتابة بدل االكتفاء َّ
حتوالً من جمال إىل آخر ،كام فعل املتفاعلة .لذلك فليس األمر ُّ بالوقوف عىل املضامني .فام الذي يمكن للفلسفة أن تقدِّ مه لإلبداع
بعض الدارسني العرب الذين ط َّلقوا ممارسة نقد َّية اشتغلوا هبا خاصة؟
وللرواية َّ
عامةّ ، َّ
أن عليهم إهناءها ،واخلروج منها إىل ممارسة مدة ،ثم ارتأوا َّ
حتول
إن ما قمت به ُّ عم كانوا يشتغلون بهَّ . ختتلف جذري ًا َّ أي عمل فكري أو ثقايف أو اجتامعي ال ُبدَّ له من َّ
إن َّ
طبيعي يواكب التغريات وينخرط فيها هبدف توسيع املرشوع االنطالق من فلسفة مع َّينة ،ومن رؤية حمدَّ دة للعامل ولألشياء.
الذي ابتدأت به منذ القراءة والتجربة ( .)1985ولعل ما جعلني والعمل األديب ليس نشاز ًا يف هذا النطاق .فمختلف النظريات
بالسديات .ولو ملبالرقميات هو اشتغايل َّ أنتهي إىل االهتامم َّ تتأسس عىل قاعدة فكر َّية أو فلسف َّية ،وهي التي تضمن واملناهج َّ
بالسديات ،باعتبارها عل ًام ،ما كنت أسعى إىل تطويرأكن مهت ًام َّ مكوناته وعالقاته الداخل َّية
ّ قراءة النص باإلحاطة بمختلف
بـ«السديات
َّ السديات ،بجعلها منفتحة عىل ما يمكن تسميته َّ ومع العامل اخلارجي ،أي َّأنا متكِّننا من ممارسة قراءة مالئمة
السديات النَّصية) ،إىل النصالرقمية» .فمن النص (موضوع َّ تتأسس عىل خلف َّية إبستيمولوج َّية جتنّبنا االنزالق وراء األهواءَّ
الرقمية» بشكل طبيعي بال إكراه «السديات َّ املرتابط ،ننتقل إىل َّ ّ
واالنطباعات ،وما شاكل ذلك من األمور التي يتعثر فيها النقد
وال تبديل. أن املبدع أو الروائي ال ُبدَّ له من االنطالق من رؤية العريب .كام َّ
مع َّينة للعامل ،وإال فهو سارد قصص هبدف تزجية الوقت ،بال
ثت يف كتابك النص املرتابط ومستقبل الثقافة العرب َّية
* حتدَّ َ مقاصد وال غايات.
إن الرتقيم ُيعدُّ مرحلة عن عالقة التحقيق بالرتقيم ،وقلت َّ
متقدّ مة بالقياس إىل التحقيق ،ودعوت إىل علم حتقيق جديد، * عرف القارئ العريب الدكتور سعيد يقطني باحث ًا متميز ًا يف
وأي مستقبل له؟
سميته الرتقيم ،فام مالمح هذا العلم؟ ّ
َّ السد قديمه وحديثه ،يمتلك مرشوع ًا طموح ًا يتَّسم بام جمال َّ
تتَّسم به املشاريع عادة من انتظام واستمرار َّية يف اإلنتاج ،ومن
تلق هذه الدعوة االستجابة املالئمة ،لسبب لألسف الشديد مل َ وحدة يف املنهج واملوضوع واهلدف ،ومزج بني التنظري والتطبيق،
بسيط هو أنَّنا مل ندخل بعد املرحلة الرقم َّية ،رغم توظيفنا للوسائل وقابل َّية لإلغناء والتطوير؛ ومن مظاهر ذلك ما قدَّ مته من قراءات
الرقم َّية اجلديدة .فإذا كانت الطباعة جعلت إمكانية حتويل النص جا َّدة ،نظر َّية وتطبيق َّية ،يف املنجز الرسدي العريب القديم واحلديث.
املخطوط ممكنة عن طريق ظهور علم التحقيق الذي يقارن بني حتولت الحق ًا من جمال الرسد إىل جمال الكتابة أن اهتامماتك َّ غري َّ
النسخ ،ويقدّ م النص األقرب إىل الصيغة األصل َّية ،مع استخدام الرقم َّية واإلبداع التفاعيل ،وأصدرت يف هذا السياق دراسات
تسهل عملية قراءة النص املخطوط، اهلوامش والفهارس التي ّ أهلتك لتكون أبرز من ّظري الكتابة الرقم َّية والنص رائدة وجا َّدة َّ
فإن الرقامة ،وهي تتيح لنا إمكانية التعامل مع النص املطبوع َّ السديات إىل التحول من َّ
ُّ رس هذا
املرتابط يف العامل العريب .فام ُّ
بشكل يتالءم مع الشاشة ،تتطلب علم الرتقيم الذي جيعل إمكانية الرقميات؟ وهل من عالقة تربط بني املرشوعني؟ َّ
إن صيغة حتويل ذلك النص ممكنة لكي تتالءم مع الوسيط اجلديدَّ .
( )PDFليست سوى نسخ للكتاب املطبوع وتقديمه كام هو .لك َّن ال اعترب بعض الباحثني والكتَّاب تأليفي لكتاب «من فع ً
علم الرتقيم يستدعي اعتامد النص املرتابط الذي يتالءم مع الرقميات، حتوالً من َّ
السديات إىل َّ النص إىل النص املرتابط» ُّ
الوسيط اجلديد .وهذا العلم يتط َّلب معرفة بالنص ،وبالتحقيق، وكأن بذلك ط َّلقت الرسد ،ودخلت جماالً ال عالقة له ِّ
تسهل عملية قراءة النص املطبوع بشكل وبالتقنيات اجلديدة التي ّ إن اهتامميلكن العكس هو الصحيحَّ .باألدب ،وال بالرسدَّ .
مناسب للوسيط .كيف يمكننا قراءة لسان العرب أو املوسوعات بـ«اخلطاب» ،يف حتليل اخلطاب الروائي ( ،)1989وتوسيعي
العرب َّية القديمة بدون حتويل هذا النص من خالل عملية الرتقيم، له باستعامل النص يف انفتاح النص الروائي ( ،)1989واشتغايل
نص مرتابط؟ إىل ٍّ بـ«التفاعل النيص» يف الرواية والرتاث الرسدي (،)1992
هناك أعامل كثرية؛ بعضها شبه جاهز وال يتط َّلب سوى وقت
عيل استخراجه من التزامات كثرية ومتعدّ دة إلهنائه مناسبَّ ،
ال للنرش ،وبعضها اآلخر ما يزال ينضج عىل نار هادئة. وجعله قاب ً
وهذه األعامل تتَّصل بام هو ثقايف ،ورسدي ،ورقمي.
وعىل رغم ذلك فليس هناك تعارض حقيقي بني املجالني، إن ابن رشد فيلسوف «الفصل» بال منازع. نستطيع أن نقول َّ
ومهمة الفيلسوف هي رفع هذا َّ جمرد تعارض ظاهري. بل هو َّ «شخصيتني ثقاف َّيتني» متاميزتني:
َّ فهو يرى َّأوالً يف شخصه
أن َّ
كل ما أ َّدى التعارض عن طريق التأويل :و«نحن نقطع قطع ًا َّ ثم هو ينادي بالفصل بني ما للعلامء «أهل الفيلسوف والفقيهَّ ،
أن ذلك الظاهر يقبل التأويل إليه الربهان وخالفه ظاهر الرشعَّ ، الفطر الفائقة» ،وما للعا َّمة ،وأخري ًا فهو يدعو إىل الفصل بني هذه
يشك فيها مسلم» .إنَّناعىل قانون التأويل العريب ،وهذه قض َّية ال ُّ العا َّمة ،وبني اخلوض يف املسائل الكالم َّية.
بأن نظرة أهل الفلسفة إىل صناعتهم ال تكفي إذ ًا أمام فقيه يشعر َّ
لتعطيها الرشع َّية ،لذا فهو يلجأ إىل إصدار فتوى يف املسألة و«بيان أن صاحب «فصل املقال» خيص النقطة األوىل ،نحن نعلم َّ فيام ُّ
أن الدين يوجب النظر حكم الرشع يف علوم األوائل» ،ليؤكد َّ متفردة يف تاريخ الفلسفة يف اإلسالم،
ُيشكِّل حالة تكاد تكون ِّ
أن الرشع أوجب النظر بالعقل يف املوجودات تقرر َّ
العقيل« :وإذا َّ شارح أرسطو يف الوقت
ُ مج ُع ُه بني الفقه والفلسفة .فقد كان
وهي ْ
واعتبارها ،وكان االعتبار ليس شيئ ًا أكثر من استنباط املجهول ذاته مصنِّف ًا لـ«بداية املجتهد وهناية املقتصد» ،يامرس القضاء،
من املعلوم ،واستخراجه منه ]...[ ،فواجب أن نجعل نظرنا يف ويتمتَّع بمكانة اجتامعية مل يكن ليستمدَّ ها من حيث هو فيلسوف.
املوجودات بالقياس العقيل». كام حاول ر َّد الفلسفة إىل أصوهلا ،وانتقاد خمتلف التحريفات التي
وشاح أرسطو. ِ
تعرضت هلا من ق َبل فالسفة اإلسالم ُ َّ َّ
ال يكتفي ابن رشد بإثبات رضورة الفلسفة اعتامد ًا عىل منطق
بالرجوع إىل املنطق األصويل.الفالسفة كام فعل املتقدِّ مون ،وإنَّام ُّ مل يكن ابن رشد ينظر إىل هذا اجلمع بني الفقه والفلسفة عىل أنَّه
تؤسس صناعة ظن َّية معرف ًة برهانية؟ لكن ال ينبغي قد يقال كيف ّ «توفيق» ،عىل نحو ما دعا إليه املتقدِّ مون عليه .إال أنَّه مل يكن يرى
يتم من طرف فقيه يتمتَّع بـ«وجاهة أن هذا التأسيس ُّ أن ننسى َّ إن املقصد يف نظره واحد فيه كذلك ما يمكن أن ننعته بالفصام .إذ َّ
اجتامع َّية». احلق» واحلقيقة
فـ«احلق ال يضاد ّ
ّ سواء يف الدين أو يف الفلسفة.
يتوجه إليه كال اخلطابني؛ الديني واحدة .االختالف فقط يف من َّ
الشيعةفإن فيلسوفنا يتش َّبث بـ«الفصل» بني َّ ومع ذلك َّ والفلسفي :الرشيعة خطاب للناس كافة ،أ َّما الفلسفة فهي علم
للشع .الفلسفة هلا للشع َّوالفلسفة .فام للفلسفة للفلسفة ،وما َّ خيتص بعقول متميزة هي عقول «الراسخني يف العلم»« ،أهل ُّ
نظامها املعريف ،هلا منطقها .وعيب أصحاب الكالم َّأنم مل حيرتموا الفطر الفائقة».
هذا «الفصل» ،ومل يبقوا عىل التعارض القائم بني املنطق الربهاين
الذي تعتمده الفلسفة واخلطاب اجلديل السفسطائي الذي
اعتمدوه هم ،حيث مل يكن هدفهم بناء احلقيقة وإنَّام التأثري يف * مفكر وأكادميي من املغرب.
املهم هو :ما هو أكثر اخلطابات أ َّما بالنسبة إىل الغزايل فليس ُّ نسوغ هجوم فيلسوفنا عىل الغزايل يف هذه النقطة كيف ِّ
العال الذي يتو َّفر عىل أكثر الصناعات برهان ًا؟ِ حقيقة؟ ومن هو «حجة اإلسالم» كان قد دعا ،هو بالذات ونحن نعلم َّ
أن
َّ
لذا فهو مل يكن ليكتفي باالنتظام املنطقي معيار ًا للحقيقة ،مل يقترص كذلك ،إىل «إجلام العوام عن علم الكالم» ،ورأى أنَّه ينبغي أن
عىل الوقوف عند الصالح َّية املنطق َّية للخطاب ،بل أراد حماسبته يرتك العا َّمة «عىل سالمة عقائدهم التي اعتقدوها ،وتعليمهم
من وجهة نظر مفعوله :فعندما يستعرض يف «املنقذ» أصناف الكالم رضر حمض يف حقهم ،إذ ر َّبام يثري هلم ش َّك ًا ،ويزلزل
الطالبني ويقوم بتحليل خمتلف الطرق التي انتُهجت يف املعرفة، عليهم االعتقاد»؟
فإنَّه ال يعرض هلذه الطرق من حيث هي مناهج معرفة ،وإنَّام
يسأل اخلطاب ،كام يقول ،من وجهة «اآلفات التي تتو َّلد عنه»، ال اختالف بني ابن رشد والغزايل يف املوقف من العا َّمة :فال
حجة اإلسالم ،حتى وإن كانت تؤدي إىل فهذه الطرق ،يف نظر َّ هم إال بالعلم الديني يف حدوده الرضور َّيةعالقة هلؤالء بالعلم ،ال َّل َّ
فإن اآلفات التي تتولد عنها قد تقود معارف صادقة يف ذاهتاَّ ، خيص من التي حيتاجها املرء ليستقيم دينه .االختالف بينهام هو ما ُّ
إىل الضالل .وهذا ال يصدق عىل الفلسفة وحدها ،وإنَّام حتى كل منهام بالعلامء .فابن رشد ال يعرتف للغزايل بالعلم. يعنيه ٌّ
جتر البعض «إىل أن يكفر بالتقليد عىل املعارف الرياض َّية التي قد ُّ يقر له قرار ،إذ «مل يلزم مذهب ًا من املذاهب يف فهو يف نظره ال ُّ
املحض» ،أو املنطق الذي «ر َّبام ينظر فيه من يستحسنه ويراه كتبه ،بل هو مع األشعر َّية أشعري ،ومع الصوف َّية صويف ،ومع
أن ما ُينقل عن أصحابه من الكفريات مؤيد بمثل واضح ًا فيظ ّن َّ الفالسفة فيلسوف» .ال يعمل فيلسوف قرطبة هنا إال عىل ترديد
تلك الرباهني» .فالضالل ليس بالرضورة أفكار ًا خاطئة ،كام َّ
أن ما سبق أن قاله فالسفة األندلس قبله كابن باجة الذي كتب:
فإنا تعمل عمل احلقيقة. «الشبهة إذا انترشت» َّ «وهذا الرجل يبني من أمره أنَّه غالط ومغلط بخياالت احلق»،
أو كابن طفيل« :وأ َّما كتب الشيخ أيب حامد الغزايل فهي بحسب
إن حياة احلقيقة وانتشار األفكار وانتصارها ال يتو َّقفان يف نظر
َّ وحتل يف آخر ،وتكفر بأشياء، خماطبته للجمهور :تربط يف موضعُّ ،
تروج هلا.
الغزايل عىل صدقها املنطقي ،وإنَّام عىل السلطة التي ّ إن ابن رشد يذهب حتى الطعن يف مدى ا ّطالع ثم حت ّللها» .بل َّ
العلم كام يقول «اإلحياء» «ال ُي َذ ُّم لعينه»،والكالم يتخذ معناه صاحب «مقاصد الفالسفة» عىل الفلسفة يف أصوهلا« :فإنَّه مل ينظر
من املنرب الذي يصدر عنه« .فإذا نسبت الكالم وأسندته إىل قائل الرجل إال يف كتب ابن سينا ،فلحقه القصور يف احلكمة من هذه
َح ُسن فيه اعتقا ُدهم قبلوه وإن كان باطالً ،وإن أسندته إىل من ساء اجلهة».
يف اخلطاب املتامسك الذي يراعي قواعد املنطق ويتولد بفعل احلق بالرجال، فيه اعتقادهم ر ُّدوه وإن كان حق ًا ،فأبد ًا يعرفون َّ
آلياته .هذه احلقيقة قيلت واكتملت مع أرسطو .ما يتب َّقى عىل وال يعرفون الرجال باحلق» .هذا ما يؤكده كتاب «الفضائح»:
األول ممَّا علق هبا من شوائب الفيلسوف هو تطهري فلسفة املعلم َّ التشوقُّ «فاليشء إذا نسب إىل مشهور بالفضل ،يغلب عىل الطبع
الشاح ،بمن فيهم جراء خمتلف التأويالت التي أعطاها إ َّياها ُّ ََّّ إىل التش ُّبه به ،فكم من طوائف رأيتهم اعتقدوا حمض الكفر تقليد ًا
فالسفة اإلسالم املتقدِّ مون .ومن حيث هو فقيه ،فقد جتنَّد ألفالطون وأرسطوطاليس ومجاعة من احلكامء قد اشتهروا
لبيان حكم الرشع اإلسالمي يف علوم األوائل و«بالتخصيص إن وحب التشبه باحلكامء»َّ .
ّ بالفضل وداعيهم إىل ذلك التقليد
الفلسفة وعلوم املنطق» ،هبدف إعطاء رشع َّية للحقيقة الفلسف َّية ولعل هذا َّ األلفاظ ذاهتا تنطوي عىل مفعول يتجاوزها كألفاظ.
يف عامل اإلسالم ،وإثبات كون «احلكمة صاحبة الرشيعة وأختها حجة اإلسالم عىل ترمجة لغة املنطق ونقلها يفس إحلاح َّ هو ما ِّ
الرضيعة» .وعىل رغم ذلك فال ينبغي اخللط بني املجاالت ،بل إىل لغة «القسطاس املستقيم» نظر ًا لإلحياء الذي لتلك األلفاظ
تلزم مراعاة «الفصل» بينها :الفصل بني الفقه والفلسفة ،بني ووقعها عىل اآلذان والعقول ،فقيمة اللفظ ليست يف ذاته ويف ما
األقاويل السفسطائ َّية واجلدل َّية وبني األقاويل الربهان َّية ،بني حيمله من معنى ،وإنَّام يف مفعوله وما يتو َّلد عنه.
للخاصة.
َّ اجلمهور وعلم الكالم ،بني ما للعا َّمة وما
يفس كون الغزايل «ال يبقى عىل حال» ،كام لعل هذا هو ما ِّ َّ
يؤاخذه عىل ذلك ابن رشد .ذلك أنَّه مل يكن لريى مانع ًا يف أن
قوة األسلوب وغموضه يف بعض األحيان ،وإىل براعة يعمد إىل َّ
اجلدل فال «ينهض ذا َّب ًا عن مذهب خمصوص» ،بل «جيعل الفرق
إلب ًا واحد ًا عىل أعدائهَّ .
فإن سائر الفرق ر َّبام خالفونا يف التفاصيل،
يتعرضون ألصول الدين ،فلنتظاهر عليهم ،فعند الشدائد وهؤالء َّ
تذهب األحقاد».
مل يكن فيلسوف قرطبة ليقنع هبذا الدور املشاغب للفلسفة ،وال
ِ
«العال بام هو بأن هذا هو دور العقل وال هو دور ِ
العال ،إذ ليقتنع َّ
عامل ،إنَّام قصده طلب احلق ،ال إيقاع الشكوك وحتيري العقول».
جمرد «أقاويل كلها يف غاية أن ما يقوله الغزايل َّ لذا فقد َّ
ظل يعتقد َّ
أدل عىل ذلك من كونه سعى هو نفسه يف الوهن والضعف» ،وال ّ
«املنقذ» إىل أن يقيم ،إىل جانب الطرق التي يعرضها ،طريق ًا أخرى
للمعرفة مصدرها نور النبيئني والصديقني «فأدوات العبادات كام
يقولُ ،مقدّ رة من جهة األنبياء ال يدرك وجه تأثريها ببضاعة عقل
العقالء ،بل جيب فيها تقليد األنبياء الذين أدركوا تلك اخلواص
النبوة ال ببضاعة العقل» .إنَّه جحود للعقل كان ابن باجة قد بنور َّ
ر َّد عليه قبل ابن رشد عندما كتب« :وهذه الغاية التي ظنُّوها إذ ًا
عمل ال ال َلو كانت صادقة [ ]...لبقي أرشف أجزاء اإلنسان فض ً
له ،وكان وجو ُده باطالً».
سعيد بنگراد*
يستقر
ُّ املذاهب والفرق الدين َّية ،بغاية االنزياح عن تفسري مشرتك إن قصد اللغة كان دائ ًام أوسع من قصد الذات التي تتكلم أو َّ
عىل معنى واحد يمكن أن يؤلف بني الضامئر والعقول .وهو املبدأ وتعي وتفصل بني الكائنات واألشياء ّ تسمي
تكتب .فهي ال ِّ
كل التيارات الصوف َّية عىل اختالف مشارهبا، ذاته الذي تبنَّته ُّ فحسبَّ ،إنا باإلضافة إىل ذلك توسع من ذاكرة الكون،
ال وحيد ًا نحو االستغراق يف ملكوت اهلل .وذاك هو واختذته سبي ً فأي قول إنَّام هو يف
أي ختلق عوامل جديدة ال قبل للطبيعة هباّ .
دال عىل الرجوع والعودة ،ومنهمعنى التأويل يف اللغة ذاهتا ،فهو ٌّ األصل استحضار لذات َّية الذي يتكلم واستثارة لذاكرة الكلامت
األول واملآل الذي يشري إىل مصري هنائي ،أي ما يصري عليه اشتُق َ تدل وال تعني ،بل أن الكلامت ال ُّ يف الوقت ذاته .وهذا معناه َّ
«احلال» .هناك رغبة عند الذات تدفعها إىل االستقرار عىل «معنى تشري إىل شخص يفكّر يف يشء ما (فالريي) .لذلك عُدَّ التأويل
كيل» هو القصد النهائي من الواقعة ،ما يوازي حاالت انصهار يف أكثر تعريفاته شيوع ًا حماولة الستعادة جتربة صيغت يف املعاين
التطهر يف املاء ،أو ذوبان العاشق يف
ُّ املؤول يف موضوع تأويله: ّ املضافة بعيد ًا عن املحددات التعيينية املبارشة ،أو هو الكشف
جسد املعشوق ،أو تش ُّبث الوليد بجسد أ ّمه .وتلك هي احلاالت عن «مناطق» يف اإلنسان مل تستوعبها حاالت التمثيل التقريري.
كل يشء عدا جيسدها «مقام الغيبة» حيث يغيب الصويف عن ّ التي ّ يتعلق األمر بالبحث يف ذاكرة الوقائع ذاهتا عن قصد آخر غري ما
السكر» ،حيث يتالشى حرضة اخلالق يف قلبه ،أو تتحقق يف «مقام ُّ يقوله املنطوق أو املمثل فيها؛ ما يشكل استحضار ًا ملا استوطن
املتصوفة من حميطها لتذوب يف ذات اهلل.
ّ الكون وتتخلص الذات والرموز وجممل الصيغ املجاز َّية.
َ االستعارات
أن التأويل يف الطقس الصويف ال يقود إىل معنى وهو ما يعني َّ إن التأويل يف احلالتني مع ًا «نقل لظاهر اللفظ عن وضعه األصيل
َّ
قابل للتجيل داخل سياق خمصوص ،بل يدعو إىل االنحالل يف إىل ما حيتاج إىل دليل لواله ما ت ُِرك ظاهر اللفظ» (لسان العرب)،
«عادة» سلوك َّية تفتح الذات عىل بارهيا ضمن حاالت انفعال أو هو «العدول باللفظ عن معناه الظاهر إىل معنى آخر ال دليل
مطلق :قد تكون تلك هي احلاالت التي يشري إليها التطابق الكيل املؤول يف هذه السياقات جمتمعة ال
إن ّ عليه» (املعجم الكبري)َّ .
بني العالمة وموضوعها :إلغاء للتوسط املفهومي واإلمساك يبحث عن معنى جاهز يف النص ،بل يلهث وراء ما يمكن أن يقود
باملعي من خالل جوهر مفرتض وفق ما يؤدي إىل انتفاء مطلق َّ إىل استنفار ملخزون داليل ،ال يشكّل الظاهر يف األلفاظ والوقائع
لكل تأويل ،فالعالمة متوت حلظة انكفائها عىل ذاهتاَّ ،إنا ختتفيّ سوى طبقة من طبقاته .هناك تشكيك يف قدرة الكلامت عىل قول
لتسمي ،أو « جتنح إىل تشكيل عادات هي الفعل العميل» يشء ما يصدق عىل حقيقة الكائنات واألشياء وحدها.
(بورس) .يتعلق األمر بمحاولة لتقليص «الفجوة الفاصلة
بني املعرفة واحلس» (كريامص) :جتليات انفجار الواحد الكيل إنَّه يتضمن ،من هذه الزاوية ،التفسري الباطني للنصوص
يف شظايا هي الظاهر أمام الذات ،أو انجذاهبا نحو الوحدة يتضمن
َّ الدين َّية (نظرية املعاين األربعة يف الكتاب املقدَّ س) ،كام
األول ،يف الرحم أو يف املنشودة ،هي الوعد بالعودة إىل األصل َّ تأ ُّمالت القباليني اليهود وغريهم ،وتُصنَّف ضمنه أيض ًا شطحات
ال يف اليشء،تراب األرض .فـ«احللول هو أن يكون اليشء حاص ً الغنوص َّية واهلر َمس َّية القديمة ّ
وكل التأويالت التي تبناها أصحاب
وتكون اإلشارة إىل أحدمها إشارة إىل اآلخر حتقيق ًا ،أو تقدير ًا»
(الكل َّيات أليب البقاء الكفوي). * مفكر وأكادميي من املغرب
رشوره (نعوذ باهلل من رشور أنفسنا وسيئات أعاملنا) .فإذا كان املتصوفة لأللوهة :فهي «كنز خمبوء َّقرر
ّ تصور
وإىل ذلك استند ُّ
العقل يدرك التعدُّ د وحده ،ففي املتصل انتفاء للمعنىَّ ،
فإن أن ُيعرف»« ،1كنت كنز ًا ال أعرف ،فأحببت أن أعرف فخلقت
الوجدان الروحي ُيمسك باهلالمي وامللتبس وما استعىص عىل رس «إجياد الوجود» وغايتُه.خلق ًا فعرفتهم يب فعرفوين» ،وذاك ُّ
التقاطبات الضد َّية ،أي ما ليس مدرج ًا ضمن آليات التأ ُّمل واستناد ًا إىل هذه املعرفة أيض ًا َي ِصل املر ُء ذاتَه بذات خالقه« ،فمن
املنطقي .يتعلق األمر باالنتشاء بام يمكن أن يوجد خارج الزمن َّية عرف نفسه فقد عرف ر َّبه» .ففي «العامء كان ر ّبنا قبل أن خيلق
مشوهة للخلود» ،كام أعلنت أن «الزمن حماكاة ّ وضدّ ها ،ذلك َّ العامل» ،أي كان يستوطن حالة «متصل» يضع مضمونه يف «الكيل»
الغنوص َّية عن ذلك منذ قرون خلت ،وهي تذ ُّم اجلسد /القرب فيه ال يف أجزائه ،والكيل ليس بؤرة ملعنى عارض ،بل هو املادة التي
إن اهلل يوجد خارج التقاطب ،فهو «ليس حمصور ًا وال وتتربأ منهَّ . كل املعاين املمكنة .إنَّه اجلوهر غري القابل للتصنيف تتشكل منها ُّ
املتصوفة« ،فهو ليس يف يشء أو من
ّ حمموالً وال حمدث ًا» ،كام يقول كل احلاالت املفرتضة التيدال عىل ّ كل املعاين ،إنّه ٌّ
ألنَّه هو أصل ّ
يشء أو عىل يشء» ،ومن قال بذلك فقد أرشك. تفيض عنها التقابالت :يتعلق األمر بحالة «وحدة الشهود»،
حيث ال يرى املرء سوى اهلل ،أو هي حالة «وحدة الوجود» حيث
وبذلك تكون الصوف َّية أقرب التجارب إىل التأويل اهلرمويس كل ما يراه.يرى املرء اهلل يف ّ
( )herméneutiqueوأشدّ ها ارتباط ًا بممكناته يف تناسل
السياقات رغبة يف الوصول إىل ما يشكّل «جوهر» املعنى ،ما كان وبذلك عُدَّ التأويل عند الصويف أداة لتحرير املعنى من قيود
يشكّل عند البنيويني األوائل النقطة النهائ َّية التي ينتهي عندها ُّ
كل السياقات املألوفة ،إنَّه ختليص للكلامت من طاقات التسمية
إمكان لوجود معنى ،ما يوازي سدرة املنتهى أو «جوهر» الذات املتصوفة ممَّا تراه العني
ّ والتعيني داخلها .ما يقود إىل انتشال الذات
«فالكل هلا ،بل هي ُّ
الكل ُّ اإلهل َّية التي يفيض عنها الكون كله، عيان ًا ،أو ممَّا يتشكل يف الذهن باعتباره معادالت لعامل مصدره
عينه» (ابن عريب) ،ما يوازي بني «فيض» َّأول هو من عند اهلل، اإلحالة عىل التجربة املشرتكة وحدها .لذلك انزاح الصويف
تتضمنه
َّ وبني «شوق» إليه هو من عند الذات العاشقة .وهذا أمر املتخصصني لكي يصنع معج ًام خاص ًا ّ عن املعجم املتداول بني
الطبيعة التي يكون عليها «احلال» ذاته؛ فهو انفعال خالص ،أي به وحده .فام يعيشه الصويف يف اللغة ويف الطقوس ويف تفاصيل
استهواء كيل ال يعرف التجزيء أو التفصيل ،لذلك ستكون حياته ال يمكن أن يكون سوى سبيل نحو االنغامس يف «حاالت
االستكانة إىل حمدّ داته إلغا ًء للوسيط املفهومي الذي يمنع الذات كل «حاالته» ،بام يؤدي به إىل مطلق ينتهي استيهام» تستوعب َّ
من االستغراق يف حسيتها األصل َّية .فـ«بقدر ما يعرف العبد من كل يشء ضمن «مقام» هو الدال عىل «الفرق»« :فناء عن عنده ُّ
ربه يكون إنكاره لنفسه ،ومتام املعرفة باهلل متام إنكار الذات» (ذو اخللق بقاء للحق»« ،فال وجود لألعيان الثابتة خارج الذات
النون املرصي). اإلهل َّية» ،فتلك ليست سوى ما يأيت من فيض هاته :ما يشدُّ إىل
«األفق املبني وهو هناية مقام القلب» ،أو ما يقود إىل «األفق
وتلك هي «حال الشهود» حيث ال يرى الصويف سوى اهلل ،ما عم األعىل ،وهو هناية مقام الروح» .ويف املقامني انفصال الذات َّ
يشبه الذوبان ،أي مغادرة القمقم اجلسدي واالنصهار يف ذات يربطها بوجود َع َريض يف حياة ليس سوى ظاهر جلوهر هو الفناء،
سمى يف لغة األهواء العودة إىل أخرى هي مصدر الوجود فيه ،ما ُي َّ أي عودة إىل حاالت استهواء قصوى ليست سوى االنصهار يف
احلس األدنى حيث ال يشء هناك سوى االنفعاالت اخلالصة ،ما ّ الذات اإلهل َّية.
ال إليها يف الوقت ً
يوجد سابقا عىل ممكنات الداللة ،وما ُيعدُّ سبي ً
ذاته ،كام يمكن أن تنبثق عن املتناقض واملختلف واملتشابه، َّإنا عودة الذات إىل الواحد الكيل القادر عىل استيعاب ّ
كل
متناه ،والثاين فيه حدٌّ للسلسلة ،أ َّما الثالث ٍ فالواحد يف ذاته ال التناقضات ،أي استثارة حالة إجياب مطلق تُصفي الكون من
فرابط بني االثنني :تسبيح بحمد املمتد منه وإليه إىل ما ال هناية.
بكل موجوداته وتلك أيض ًا «حال الوجود» ،حيث ينهض الكون ّ 1ـ حديث يُنسب إىل الرسول ،يقول« :كنت كنزا ً ال أعرف ،فأحببت أن أعرف
شاهد ًا عىل وجود اهلل وحده (وسع ملكوته الساموات واألرض)، فخلقت خلقاً فعرفتهم يب فعرفوين».
بني رحم األم وبطن األرض ،وهو مصدر الدالالت االستعار َّية فنحن ال نتوفر عىل لغة قادرة عىل الكشف عن ملكوت اهلل ،لذلك
إن الفعل اجلنيس األولَّ .
التي جتعل الفرد مشدود ًا إىل حضنه َّ يضعنا التأ ُّمل أمام عامل هو الدليل عىل وجوده ،فنحن ال نستطيع
ذاته ،بحسيته الرصحية ،ليس سوى رغبة دفينة يف العودة إىل جنَّة حتمل شعاع النور كام هو يف ذاته ،لذلك ال نقوم سوى باالستمتاع ُّ
منها خرج اإلنسان قرس ًا ،ما يسميه أوتو رانك «صدمة الوالدة»، باألشياء املنريةَّ .
إن النور األصل هو اهلل ذاته.
حني ُأ ْج ِب عىل مغادرة جنَّته واالنغامس يف معيش أريض حتكمه
املكائد والرشور .يتخلص املرء حني يعود إىل حضن األم ،أي إىل املتصوف «احلاالت» و«املقامات» جمتمعة ضمن ّ لذلك ُيدرج
األنوثة يف مفهومها املطلق ،ممَّا علق به من موبقات املامرسة النفع َّية احلنني إىل الواحد املطلق ،احلقيقي يف العقيدة أو املفرتض يف
إن «وصل احلبيب هو الصفاء» (ابن حزم) .إنَّنا نتطهر يف حياتهَّ ، كل التناقضات ضمن املتخ ّيل اإلنساين .ففي هذا الواحد تنصهر ُّ
باجلنس من رشور الدنيا ،ففي اللذة تنتفي الفواصل بني اجلسد «منتهى» يف الزمان ويف املكان ال يشء قبله وال يشء بعده .يتعلق
وبني العقل الذي يفكر فيه. األمر بإحساس جديد يتجاوز حقيقة االنفعال ،كام تصفه اللغة،
لكي يطلق الطاقة احلس َّية يف الذات ويدفعها نحو االلتحام
إن إحالة الفعل اجلنيس عىل االنصهار والفناء يف جسد اآلخر َّ باحليس يف الوجود ،متام ًا كام هي التجربة الفن َّية حماولة لإلمساك
تتم يف الروح وحدها :هناك تناظر قوي بني هو الظاهر يف رحلة ُّ «بالعيان العيني يف ذاته فهو من حيتضن الذات املطلقة باعتبارها
احتكاك ذكر بأنثى (االحتاد اآلين) ،وبني التحام الذات الفرد َّية املتصوفة كشف عن ّ املثل األعىل» (هيجل)َّ .
إن التأويل عند
باخلالق للكون (االنصهار األبدي) .لذلك مل يكن الفعل اجلنيس للس ُبل التي تقود إليها ،كام هو الشأن يفحقيقة ،وليس إعداد ًا ُ
يف املتخ ّيل األسطوري ويف التمثالت اجلامع َّية «متعة فردية ونشاط ًا إن السميائي معني بالسريورة وحدها فتشكُّل املعنى السميائياتَّ .
شخصي ًا معزوالً ،بل طقس يربط اإلنسان املتناهي بامللكوت جز ٌء منها ،أ َّما الصويف فال يستهويه سوى اجلوهر فيه.
يكرر فيها الفرد عىل املستوى الالمتناهي .يتعلق األمر بعبادة ّ
األصغر ما قامت به القدرة اخلالقة عىل املستوى األكرب» .
2
املتصوف ،فجزء كبري منّ وذاك أيض ًا ما تشري إليه األنوثة عند
مفاهيم جتربته العرفان َّية مستوحى ،بشكل رصيح أو ضمني ،من
جسدت ألوهة أنثو َّية
وهو ما تشري إليه أسطورة عشتار التي َّ عوامل حتيل عىل فكرة التزاوج ،حقيقة وجماز ًا ،فهو املنبع الذي
تعلق الناس هبا طويالً ،فقد « ولدت ابنها ،شقها الذكري الكامن كل يشء يف الوجود :يف األلوهة باعتبارها مصدر ًا يفيض عنه ُّ
تزوجته لتُخصب نفسها به فتستعيد قوهتا فيها منذ األزل ،ثم َّ لوجود أصيل( ،الفيض الذي نشأ عنه الكون) ،ويف املرأة باعتبارها
اإلخصاب َّية الذات َّية التي أطلقتها نحو اخلارج» .ال يبحث الرجل،
3
ُتاكي من خالل جسدها فعل اخللق ذاته (اإلنجاب) .لذلك ليس
وهو الراشد العاقل ،عن متعة وهو ُيق ّبل حلمتي هندي زوجته ،بل رس اخللق ممَّا يمكن أن يصدر عن أنثىهناك من يشء أقرب إىل ّ
يرغب يف استعادة األمومة التي ضاعت منه. «حتيض» و«تستوعب» و«تأخذ» و«تعطي» ،ففي جسدها إيقاع
التا ،وهي مصدر احلياة وعودة إىل األصل يف وحتو ُ
ُّ الطبيعة
لذلك ال يتجىل «االنتصاب الصويف» يف اجلسد ،بل يف قدرة الوقت ذاته .فمن الرحم نخرج وإليه نعود حني تبلعنا األرض،
االنفعال عىل التخلص من العابر فيه ،لكي يصبح «حاالً» ،أي كل معاين العطاء .وقد يكون ذاك هو ما حاول ويف هذه وتلك ُّ
َو ْجد ًا يقتات من عشق دائم .وعىل عكس كتب اإلباحة التي َّ
روج غوستاف كوربات ( )Gustave Courbetالتعبري عنه يف لوحته
فإن املرأة يف نظر الصويف كيان استعاض هلا الكثري من الفقهاءَّ ، سمها «أصل العامل» ،حيث مل يلتقط من جسد املرأة الشهرية التي َّ
إن تفاصيل عن احلس َّية فيه بالروح االستعار َّية املنبثقة منهَّ . والبوابة
سوى عضوها التناسيل وما حييط به ،فهو األصل والنهاية َّ
التي تشري إىل سبيل املجيء وسبيل العودة يف الوقت ذاته.
2ـ فراس السواح :لغز عشتار ،أصل األلوهة والدين واألسطورة ،دار عالء الدين،
الطبعة السابعة ،2000ص .178 َّ
إن اخلصوبة يف الطبيعة عفو َّية ،وهي عند املرأة ُمستثارةَّ ،إنا
3ـ نفسه ص .175 حاصل تالقح بني ذكر وأنثى .ومع ذلك ،هناك تناظر داليل قوي
وتنوعه يف ّ
الكل ،ففي «األلوهة الصويف يبحث عن جتدُّ د الظاهر ّ الشبق واإليروس َّية ليست سوى ظاهر لغابر هو التعبري عن
رس إن انكشف سقطت األلوهة ذاهتا».
ٌّ «إيقاع»خاص حلركة الذات داخل العشق الصويف .وبذلك
تتحول األنوثة ،يف وعي الصويف ،إىل رحم كوين منه تنبثق احلياةَّ
وإليه تعود .وهي الصيغة االستعار َّية الكربى التي يشري إليها
املثل العا ّمي عندما يربط بني الدار واملرأة والقرب (قرب الدنيا)،
أو بني حاجة هذا إىل ذلك :الولوجي واالستيعايب ،السيف
يتحسس طريقه إىل سم َّ الباحث عن غمده ،أو اخليط الذي
اإلبرة.
يؤول النص لكي يصل إىل «اخلالص»يف لقد كان عىل الصويف أن ّ
كل يشء ،يف «احلق» و«اخلري» و«الصدق» و«اجلامل» ،أي التوق ّ
إىل إجياب مطلق ضمن دائرة ختلو من زمن َّية رشيرة يف النفس ويف
الرش يف الطبيعة فتغنَّوا بالنور الذي
املتصوفة َّ
ّ املحيط .لذلك واجه
هو ،يف جممل السياقات ،مصدر للحقيقة والوضوح والصفاء
والطهارة والرؤية الصاحية .ولكنَّه نور ال ُيسلم نفسه إال من
خالل إجالء طبقات النصوص الظاهرة ،للوصول إىل ما يشكّل
جوهره ،أي حقيقة ال يملكها أحد ،فهي عند اخلالق وحده،
ونحن ال نقوم سوى بالبحث عنها.
إن التأويل عند الصويف رضورة ،ال بحكم ما بعبارة أخرىَّ ،
ٍ
يترسب إىل الذات من بقايا معان ال معادل هلا يف حقيقة الوجود، َّ
ألن التمثيل املفهومي ذاته ناقص ،فالعاجز عن اإلحاطة بل َّ
املبارشة بالعامل ال يمكنه ادعاء امتالكه .فنحن ،مثلنا يف ذلك مثل
الصوف َّية ،منتجات لغة ليست وف َّية دائ ًام ملا تقوم بتسميته .لقد كان
.1في المنهج المقارن أن حضور هذا ال ّثالوث ويف ما يتعلق هبذه املسألة نشري إىل ّ
إن مطلب تعريف دقيق للمنهج املقارن مطلب صعب التَّح ُّقق، َّ خيتلف من ح ّيز ثقايف إىل آخر ،ومن زمن إىل آخر .فاإلشكال َّيات
فأغلب املحاوالت التي رامت ذلك اقترصت عىل النظر يف التي تتصل بعلم األديان املقارن يف الثقافة العرب َّية اإلسالم َّية
أطواره ومراحله ومقاصده واملفاهيم الدين َّية املشرتكة بني األديان، ليست هي اإلشكال َّيات التي تفرض نفسها عىل الباحث ا ُملقارن يف
أو انطلقت من املس َّلامت الفكر َّية التي ُبني عليها .ز ْد عىل ذلك َّ
أن الغرب (الواليات املتحدة األمريكية ،أملانيا ،)... ،وليست املسألة
املركَّب االسمي بالنعت «املنهج املقارن» يقوم عىل مصطلحني مل يف تقديرنا موصولة باإلمكان َّيات املعرف َّية واألكاديم َّية بقدر ما هي
يقع إمجاع بني الباحثني حول ماهيتهام. متعلقة بنوع العوائق وبنية الثقافة التي يكتب فيها الباحث املقارن.
1ـ نُ ّيز يف هذا املجال بني اإليديولوجيا ( )L’idéologieمبا هو علم يتناول وزعنا البحث عىل عنرصين ننطلق فيهام من القضايا وقد َّ
خصائص األفكار وطبيعتها ومدى صحتها من ناحية ،وباعتباره مصطلحاً داالً اخلاصة؛ فتناولنا يف العنرص األول قضية املنهج
َّ العا َّمة نحو
عىل النظام الفكري والعاطفي واملواقف السياسية ،...من ناحية أخرى .ويُع ُّد املقومات التي يقوم عليها العلم
أهم ِّاملقارن ،باعتبار املنهج أحد ِّ
البحث يف خصائص اإليديولوجيا من أه ّم مجاالت البحث يف علم االجتامع .راجع
ميتشيل (دينكن) :معجم علم االجتامع ،مقال «اإليديولوجية» ،ص .122-121 * أكادميي من تونس
واالستدالالت ،ومن شأن االعتامد عىل تلك الرباهني جعل هل هي ممارسة فكرية تنطوي عىل مجلة من األسس النظر َّية؟
الباحث خيلص إىل مجلة من القواعد واألسس التي من شأهنا فتح نتوسل به ملعاجلة اإلشكال َّية مرتبط بنوع َّ وهل املنهج الذي
النص الذي يدرس.
آفاق جديدة للبحث يف ِّ املبحث (أنرتبولوجي)... ،؟ أم هل هو مرتبط بالغايات (إبراز
اخلصوصيات والقواسم املشرتكة بني الثقافات)... ،؟ أم هل
وتطورُّ إن تدافع املقاربات وقيامها عىل أنقاض بعضها بعض ًا، َّ هو متصل أشدّ االتصال باالنتامء الفكري واملذهبي والفلسفي
ثمة عالقة بتطور املعارف اإلنسان َّية ،يؤكد َّ
أن َّ ُّ بعضها اآلخر للباحث؟ وهل تكمن ماه َّية املنهج يف اآلل َّيات املعتمدة إلنجاز
أن للمسألة -يف جدل َّية بينها وبني بنية الفكر اإلنساين .عىل َّ البحث أم َّأنا تتحدَّ د انطالق ًا من الرؤية التي يتَّخذها الباحث
تصور ُّ كل منهج هو بالرضورة أن َّتقديرناُ -بعد ًا آخر يؤكِّد َّ أهم املبادئ التي قام عليها املنهج املقارن؟ مسار ًا للبحث؟ وما ُّ
معريف يبحث له أتباعه عن أسس نظر َّية وعقل َّية تؤكِّد وجاهة أهم بواعث تصور معريف؟ وما ُّوهل املقارنة منهج؟ أم هل هي ُّ
اعتامده يف دراسة الظاهرة البرش َّية .فاملقاربات هي صياغة رؤية املقارنة وأسباهبا؟ وهل للمقارنة خصائص ثابتة؟
تتفرع إىل آل َّيات ،وتقوم عىل ؤسسون يف قواعد َّ جديدة ُيرتمجها ا ُمل ِّ
يتأسس عىل بنية عقل َّية ومنظومة من مراحل متالمحة ،فإذا باملنهج َّ أ .يف َحدِّ املنهج
العالقات الداخل َّية التي جتمع أجزاءه إىل بعضها بعض ًا ،وك َّلام إن املنهج ( )La méthodeيف أبسط تعريفاته ال يعدو ْ
أن يكون َّ
اكتشف الباحثون فجوات يف تلك العالقة املتامسكة بانت احلاجة الطريقة 2التي يتَّبعها الباحث يف دراسة موضوع من املواضيع
إىل مراجعة األسس أو جتاوزها بالتأسيس ملقاربة جديدة ،ويف التوصل إىل مجلة من القوانني واملبادئ النظر َّية ،وهو ماُّ قصد
بأن الباحث ال يمتح من فراغ ،فهو يستند إىل ذلك إقرار واضح َّ يتم اعتامدها يف
أن املقصود باملنهج اخلطوات العمل َّية التي ُّ يعني َّ
السائد من املعارف واملقاربات وحياورها ،فإذا باحلوار ينتهي به حتليل النصوص أو الظواهر ،...قصد اإلملام بام تنطوي عليه من
تصور جديد لطرق البحث، إىل تشذيب بعض األسس أو بناء ُّ حقائق.3
وعىل هذا النحو تتو َّلد املناهج واملقاربات من رحم بعضها بعض ًا.
وذلك بعد النظر يف مدى صالبة اآلل َّيات ومتانة منطقها وقدرهتا من هذا املنظورَّ ،
فإن املنهج يقوم عىل مجلة من املبادئ النظر َّية
عىل احتواء الظاهرة مدار البحث واإلحاطة بأبعادها.4 ُكون مبادئ عا َّمة مدارها عىل منظومة من الرباهني
والعمل َّية التي ت ِّ
ب .املقارنة يف دائرة العلوم االجتامع َّية 2ـ نشري إىل أ َّن هذا التص ّور كان متداوالً عند العرب القدامى ،ففي «لسان
تُؤكِّد الدراسات املعارصةَّ 5
أن علامء اللغة يف القرن الثامن عرش العرب» البن منظور (ت711هـ) نقرأ «أَنْ َه َج الطَّر ُ
ِيق َوضَ َح َو ْاستَ َبا َن [َ ]...و ِف
ول اللَّ ِه َص َّل اللَّ ُه َعلَي ِه َو َسلَّ َم َحتَّى ت َ َركَ ُك ْم َع َل طَرِيقٍ يث الْ َعبَّ ِ
اس لَ ْم َ ُي ْت َر ُس ُ َح ِد ِ
كل مقاربة هي بالرضورة رؤية اشرتك يف صياغتها جامعة من الباحثني
4ـ إ َّن َّ ِيق َسلَ ْكتُهُ» .ا ُنظر ابن منظور (جامل نَا ِه َج ٍة أَ ْي َو ِاض َح ٍة بَ ّي َن ٍة [َ ، ]...ونَ َه ْج ُت الطَّر َ
والعلامء ،ولالشرتاك أسباب عديدة معقدة يعود أغلبها إىل تأثري الواقع االجتامعي الدّين) :لسان العرب ،دار صادر ،ط ،1بريوت لبنان ،1997،مادة (ن ،هـ ،ج).
تتأسس عىل محاورة الباحث للمناهج
والسيايس والثقايف واملعريف .فاملقاربات َّ البي القويم سواء تعلّق األمر
من هذا املنظور ،فإ َّن املنهج هو الطريق ِّ
كل املقاربات موصولة ببعضها بعضاً،
السابقة من جهة ،ومن جهة أخرى فإ َّن َّ بالرشائع والعقائد أم اتصل باألخالق ،واملتّفق عليه أ َّن الوضوح والقدرة عىل متييز
مم جعل] العلوم [..
وذلك بالنظر إىل «ترابط املواضيع و َوحدة املشاغل [َّ .. الخبيث من الطّيب -مثلام ذهب الع َّباس -هام من أهم مق ّومات املنهج الذي
متداخلة] إىل ح ّد أ َّن بعض الدراسات املتاخمة تستغل أضواء متعددة مأخوذة الحق (الهداية،)..،
يتطلّب بالرضورة اتباع طريق السابق من الصالحني قصد بلوغ ّ
من اختصاصات مختلفة منها االجتامعي البحت ومنها غري االجتامعي» .بوحديبة فإذا باملنهج يؤدي إىل مامرسة جملة من املبادئ والقيم تنتهي مبن يعتمدها إىل
(عبد الوهّاب) :ألفهم ـ فصول عن املجتمع والدين ،سلسلة موافقات عـ 8ــدد، الرصاط املستقيم.
الدار التونسية للنرش ،ط 1تونس 1992 ،ص 29 3ـ ا ُنظر ديكارت (رنيه) :تأ ُّمالت ميتافيزيقية تثبت أ َّن الله موجود ،وأ َّن نفس
5ـ انظر ميتشيل (دينكن) :معجم علم االجتامع ،ترجمة إحسان مح ّمد الحسن، اإلنسان تتميز عن جسمه ،ترجمة كامل الحاج ،سلسلة زدين علامً ،منشورات
دار الرشيد ،بغداد العراق ،1980 ،مقال «طريقة املقارنة» ،ص 54-50 عويدات ،ط ،4باريس فرنسا( ،1988 ،التّأ ُّمل ال َّرابع).
االجتامع َّية ،وذلك باملقارنة بينها جغرافي ًا وتارخيي ًا (تايلور)... ، هم َّأول من استخدم املقارنة طريقة لتحديد األصل اللغوي الذي
بغية الوقوف عىل خمتلف وجوه االرتباط الرضوري بني ظاهرتني تنحدر منه أغلب اللغات. 6
أو أكثر.
شجعت علامء وقد ح َّقق علامء اللغة يف هذا املجال نتائج َّ
مهمة َّ
وقد َّبي األنرتبولوجيون املعارصون ما انطوت عليه ُّ
كل االجتامع عىل اعتامد املقارنة طريقة للكشف عن وجوه الشبه بني
نظرية من ثغرات ،فاملقارنة يف املقاربة التطور َّية 10انتهت إىل حمو املؤسسات االجتامع َّية ،قصد حتديد اجلذور املشرتكة التي تأخذ
كل ثقافة ،وذلك عندما جعلتها تقوم عىل قانون واحد. خصائص ِّ منها ،ويف ما يتعلق هبذه املسألة أكَّد مؤ ّلف «معجم علم االجتامع»
أ َّما االنتشار َّية فقد عجزت عن تقديم تفسري واضح ودقيق للتشابه أن استعامل علامء االجتامع للمقارنة له جذور ضاربة يف القدم ،ففيَّ
القائم بني الثقافات واألديان املتباعدة التي مل تقم بينها وشائج ضمت نصوص هريدوت ( 482ق م425 -ق م) الثقافة اليونان َّية َّ
قربى أو اتصال يف غابر األيام والعصور .فهي «ترى َّ
أن نمو ( )Hérodoteمقارنات عديدة ،وكذلك فعل أرسطو طاليس
7
يتم [ ]...عن طريق األخذ والتقليد [وهو ما جعلها املجتمعات ُّ (ت 322ق م) الذي قارن بني النظم السياسية .8ويف التاريخ
تعنى بــ] البحث عن صيغ االنتشار من ثقافة إىل أخرى» .
11
عول تشارلز مونتسكيو (1689م1755 -م) 9وأوغست احلديث َّ
كونت عىل املقارنة بني املجتمعات والثقافات البرش َّية ذاهتا،
أن املقارنة قد اختذت مع إيميل دوركايم ُبعد ًا آخر،عىل َّ وذلك خالل فرتات زمنية متباعدة ،قصد الوقوف عىل خصائص
أهم مقومات «قواعد املنهج» ،بل َّ
إن املقارنة وذلك عندما عدَّ ها َّ القوانني املن ّظمة للظواهر االجتامع َّية وتتابعها من ناحية ،ولإلملام
هي االسم اآلخر لعلم االجتامع ،وهي القاعدة األساسية
12
بقوانني التعايش من ناحية أخرى.
للبحث يف الظواهر االجتامعية سواء تعلق األمر باملقارنة داخل
الفضاء االجتامعي الواحد أو بني فضاءات اجتامعية خمتلفة أو بني وقد أعطت الدراسات االجتامع َّية منحى جديد ًا للبحث املقارن
أزمنة متباعدة. اهتمت بالبحث يف اجلذور التارخي َّية املشرتكة للظواهر
َّ عندما
جتل ذلك يف كتاب «االنتحار» ( )Le suicideالذي مل وقد ّ 6ـ ال نحسب أ َّن دينكن ميتشيل ال يعرف أ َّن الثقافات القدمية اعتمدت املقارنة
يكتف فيه دوركايم بمقارنة ظاهرة االنتحار يف مجلة من الطوائف ِ (اليونان ،).. .،ولكن نقدّر أنَّه مي ّيز بني استغالل املقارنة واستعاملها ،من ذلك
باملتغيات ،وقد
ّ اهتم
املسيحية (الكاثوليك /الربوتستانت) ،وإنَّام َّ أنَّه قد جعل من املقارنة املقوم الرئيس املميز لعلم االجتامع بدءا ً من كونت
كان هدفه من ذلك إبراز الدور الذي تنهض به العوامل اخلف َّية ومونتسكيو ،وهي إشارة إىل أ َّن املنهج املقارن نشأ يوم نشأ علم االجتامع ،وما
(املشاعر الدين َّية) يف التأسيس للظاهرة االجتامع َّية. قبل ذلك ال يعدو أ ْن يكون استعامالً للمقارنة.
7ـ لونوار (فريديريك) :املص ّنف الوجيز يف تاريخ األديان ،ترجمة مح ّمد الحدّاد،
.2خصائص البحث المقارن في الدراسات الدين َّية مراجعة حافظ قويعة ،دار سيناترا واملركز الوطني للرتجمة ،ط ،1تونس( ،د ت)،
أ .يف حدود املقارنة ص (7مقدّمة املرتجم)
8ـ بادي (برتراند) ( )Bertrand Badieوهريمت (غي) (:)Guy Hermet
10ـ انظر أهمية البحث املقارن بالنسبة إىل األنرتبولوجيا التطورية علبي السياسة املقارنة ،ترجمة عز الدين الخطّايب ،مراجعة نادر رساج ،املنظمة العربية
(عاطف) :املنهج املقارن مع دراسات تطبيقية ،املؤسسة الجامعية للدراسات للرتجمة ،ط ،1بريوت لبنان.2013 ،
(مجد) ،ط ،1بريوت لبنان ،2006 ،ص .139-133 9ـ تشارلز مونتيسكيو ،فيلسوف فرنيس ،من أه ّم فالسفة القرن الثامن عرش،
11ـ لومبار (جاك) :مدخل إىل األثنولوجيا ،ترجمة حسني قبييس ،املركز الثقايف ُعرف بتنوع اهتامماته (الفيزياء ،التاريخ ،القانون ،)... ،ألّف كتباً عديدة يف
العريب ،ط ،1بريوت (لبنان) ،الدار البيضاء (املغرب) ،1997،ص .124 القانون وفلسفة التاريخ والنظم السياسية والعسكرية ،وقد سعى يف أغلب
Durkheim (Emile): Les règles de la méthode sociologique, (op . 12 مؤلّفاته إىل تأكيد أهميَّة العوامل العقلية والطبيعية يف السلوك االجتامعي
cit), P. 137 ونشأة املؤسسات االجتامعية.
يظل حديث ًا غامض ًا يف أوساط إن احلديث عن أسس للمنهج ُّ َّ مل يتّخذ املنهج املقارن منحى واحد ًا يف الدراسات الدين َّية أو
البحث العلمي ،فاختزال املنهج املقارن يف القول إنَّه بحث يف األدب َّية أو االقتصاد َّية أو السياس َّية أو القانون َّية ،13ويعود ذلك يف
وجوه االئتالف وحتديد مواطن االختالف ُّ
يظل أمر ًا غامض ًا، أهم آل َّيات البحثأن املقارنة كانت -وما تزال -من ِّ تقديرنا إىل َّ
ألنَّه مل جيب عن السؤال الرئيس املتَّصل باألسباب الداعية إىل يعول عليها يف العديد من املجاالت املعرف َّية ،فنحن ال نجد عل ًام ال ِّ
النص الالحق من النصوص السابقة له ،األحداث ِّ استعارة يف استخراج قوانينه وقواعده أو يف اختبار نظرياته.
والشخصيات ...من جهة ،وإحداث مجلة من التغريات عليها
حتى تتالءم مع املنظومة املعرفية التي تنقل إليها (األحداث، وال غرابة يف ذلك ،فاالستناد إىل املقارنة يف الدراسات اإلنسان َّية
الشخصيات )... ،من جهة أخرى .فاملقارنة بام هي بحث يف تصور فكري ،وإنَّام كان واالجتامع َّية مل ينتج عن مذهب فلسفي أو ُّ
وجوه االئتالف ووقوف عىل مواطن االختالف بينها ،قد ألغت -باألساس -أسلوب ًا يف حتليل الظواهر اإلنسان َّية املتامثلة بالنظر
واتذت من البنى واألنساق والوظائف مدار ًا معايري املفاضلةَّ ، تبي املحاسن يف وجوه االئتالف واالختالف القائمة بينها قصد ُّ
التطور وبواعثه،
ُّ هلا ،وذلك بالنظر فيها نظرة تارخي َّية ُتدِّ د أسباب وتغيها تطورها ُّ والنقائص املتَّصلة هبا من جهة ،ومعرفة أسباب ُّ
وتبي أسباب اقرتاض هذا النص أو ذاك الرؤى واملفاهيم من ِّ من جهة ثانية ،وجلعل معارفنا ب ِّينة وواضحة من جهة ثالثة.
النصوص السابقة له.
إن حماولة اإلملام بأبعاد الظاهرة والكشف عن أصوهلا والوقوف َّ
ب .يف السؤال عن املوضوع َّية يف الدراسات االجتامع َّية حتوالت مقاصد جامعة للمنهج املقارن عىل ما طرأ عليها من ُّ
أشار يورغن هابرماس (1929م ـ 16)...إىل استحالة إقرار صيغة وجلملة من املناهج األخرى (املنهج الوصفي التحلييل ،املنهج
دقيقة للموضوعية ( )L’objectivitéيف العلوم االجتامعية ،ومأتى التارخيي ،)... ،وهي مسألة تدفعنا إىل التساؤل عن عالقة املنهج
ذلك ارتباط املعرفة االجتامعية بمصالح الفاعلني االجتامعيني، املقارن ببقية املناهج واملقاربات.14
وهو ما دفع هبابرماس إىل احلديث عن علم اجتامع يساري
أن تصورات علامء االجتامع وعلم اجتامع يميني ،17وهذا يعني َّ أن املقارنة يف العلوم اإلنسان َّية ويف هذا السياق نشري إىل َّ
ونظرياهتم -عىل اختالفها -متأ ّثرة بمصاحلهم وانتامءاهتم تستو منهج ًا له قواعد وأسس ومبادئ إال يف القرن واالجتامع َّية مل ِ
فإن االعتقاد هو الذي االجتامع َّية والتارخي َّية ،...وبناء عىل ذلكَّ ، حتوالت التاسع عرش والقرن العرشين ،فقد عرف هذا املنهج ُّ
أن النقد الداخيل (نقد عوض املوضوعية ،ويف هذا املستوى يبدو َّ ُي ّ بالتطورات املعرف َّية واألنساق الفلسف َّية
ُّ عديدة متأ ِّثر ًا يف ذلك
الباحث للمسلامت التي ينطلق منها) ،والنقد اخلارجي (مواجهة (الوضع َّية التارخي َّية ،اجلدل َّية املاد َّية )... ،والنظريات املختلفة
النظريات ومقارعتها ومقارنة مقدّ ماهتا وأسسها )... ،مها أساس (نظرية التناص ،نظرية التَّل ِّقي )... ،التي سامهت يف فتح آفاق
يعب جديدة للبحث املقارن الذي أصبح يم ّثل أسلوب ًا يف املعرفة ِّ
16ـ يورغن هابرماس ،فيلسوف وعامل اجتامعي أملاين ،وهو من أهم وجوه فكري يروم جتاوز دائرة الذات بالسؤال عن وجوه ٍّ تصور
عن ُّ
مدرسة فرانكفورت .حرص هابرماس عىل معالجة مجموعة من القضايا املوصولة تفاعلها مع اآلخر الذي ينتمي إىل فضاءات ثقاف َّية مغايرة،
15
بالفعل التواصيل يف املستوى السيايس واألخالقي ،...بنى هابرماس نظرية نقدية تعميق ًا لوعي الذات بخصوصياهتا.
تدافع عن قيم عرص التنوير ،وقد نحا بالتأويلية منحى جديدا ً ،سعى من خالله
والتعصب،
ُّ إىل تجاوز املقاربات الوضعية ،داعياً إىل تحرير الذات من التط ُّرف 13ـ راجع بوحديبة (عبد الوهّاب) :ألفهم ـ فصول عن املجتمع والدين( ،سبق
وقد ُعنيت نظريته بأشكال التواصل (اللغة )... ،التي تُع ُّد القاعدة الرئيسة التي ذكره) ،ص .37
بُنيت عليها مؤلّفاته. 14ـ انظر علبي (عاطف) :املنهج املقارن مع دراسات تطبيقية( ،سبق ذكره) ،ص
17 . Boudon (Raymond) Bourricaud (François): Dictionnaire .147-131
critique de la sociologie, PUF, Quadrige, 4ém, Paris, 2011, art 15ـ انظر أركون (مح َّمد) :نحو تاريخ مقارن لألديان التوحيدية ،ترجمة هاشم
«Objectivité». صالح ،دار الساقي ،ط ،1لندن إنجلرتا.2011 ،
السؤال عن عالقة الذات باملوضوع يف البحث العلمي يتَّخذ أكثر فإن واضعيالقراءة املوضوعية من جهة ،ومن جهة أخرى َّ
احلق
أن الذات عندما تصبح الفيصل يف التمييز بني ِّ من وجه؛ منها َّ أن الباحث يف علم االجتامعالنظريات ال ينهلون من فراغ ،ذلك َّ
فإنا جتعل من االعتبارات الذاتية األساس الذي تُبنى والباطلَّ ، ينطلق من نامذج مثالية ،وهي نامذج غري ثابتة .فاملوضوعية بام
18
عليه احلقائق ،ويف املقابل دعا ماكس فيرب إىل اتباع مقاربة أخرى
24
هي «وصف ملا هو موضوعي[ ،هي] مسلك الذهن الذي يرى
عامدها رضورة فهم الظواهر الدين َّية كام هي ،وللفهم ( (�Com األشياء عىل ما هي عليه».19
)préhensiveيف هذه املقاربة داللة واضحة ،فهي باألساس
حماولة الباحث فهم ذاتية األفراد من الداخل ،وهو ما يعني َّ
أن ويف ما يتصل هبذه املسألة برزت صيغتان للموضوعية يف علم
أفعال األفراد هي املادة األساسية للظواهر االجتامعية (الدين، االجتامع :صيغة أوىل وضع أسسها دوركايم ،وهي تقوم عىل
ثمة واقع ًا موضوعي ًا قائ ًام بذاته من جهة،
أن َّ .)...فامكس فيرب يرى َّ رضورة وجود مسافة تفصل الذات عن املوضوع 20الذي ُّ
يظل
بأن الوقائع االجتامعية هي يف عمقها وقائع يقر َّومن جهة أخرى ُّ ال خارجي ًا مداره عىل رضورة تشيئة الظواهر بام التعامل معه تعام ً
ً21
ذاتية هلا دالالت خمصوصة بالنسبة إىل الفاعلني االجتامعيني ،عىل يف ذلك الدين ،كي يتسنى لنا تفسريها تفسري ًا علمي ًا دقيق ًا وحمايدا
أن له مواقف وآراء تؤ ّثر يف أن انغامس الباحث يف الواقع يؤكد َّ َّ ،ففصل الذات عن املوضوع أول خطوة جيب اعتامدها لدراسة
مقاربته ،وعى ذلك أم مل يع. الظاهرة دراسة حمايدة تنتهي إىل إبراز حقائق األشياء ،عىل َّ
أن هذا
أن مفهوم احلقيقة مفهوم ذايت يف املطلب ُّ
يظل مطلب ًا عص َّي ًا ،ذلك َّ
جترد الباحث منتصور ماكس فيرب ال تعني ُّ َّ
إن املوضوع َّية يف ُّ داريس الظاهرة الدِّ ينية ،وهو ما يقودنا إىل القول َّ
إن ْ تصور أغلب
ُّ
سلطان الذات عىل النحو الذي ذهب إليه الوضع ُّيون (كونت، أن الدين رؤية وجودية .فمختلف
22 أصحاب تلك الرؤية مل يعوا َّ
دوركايم ،)... ،وإنَّام املوضوع َّية عنده تتمثل يف االهتامم بأحكام العلوم بام يف ذلك العلوم اإلنسانية هي نتاج للفكر البرشي الذي
الواقع بعيد ًا عن األحكام القيم َّية. يتَّخذ ُبعدين ،مها :بعد ذايت وبعد موضوعي ،23وهو ما جيعل من
تتجل أهم مظاهر خمالفة ماكس فيرب ّ ويف هذا املستوى 18 . Ibidem.
للتصور الدوركايمي ،فلئن جعل دوركايم انفصال الباحث عن ُّ 19ـ راجع صليبا (جميل) :املعجم الفلسفي ،دار الكتاب اللبناين ومكتبة
املوضوع أساس املوضوع َّية يف علم االجتامعَّ ،
فإن املوضوع َّية املدرسة ،بريوت لبنان ،ج ،3ص .450
عند ماكس فيرب تتحقق بمحو احلدود بني الذات واملوضوع، 20ـ الالند (أندريه) :موسوعة الالند الفلسفية ،ترجمة خليل أحمد خليل،
فلكي نفهم املوضوع فه ًام دقيق ًا ال بدَّ من التامهي مع ذاتية األفراد إرشاف أحمد عويدات ،منشورات عويدات ،ط ،2بريوت لبنان ،2001 ،ص .889
(املتد ِّين.)...، 21-Durkheim (Emile): Les règles de la méthode sociologique, (op
cit), PP 136- 137.
أن فيرب جعل السؤال عن املوضوع َّية مسألة وبالرغم من َّ الشيف (عبد املجيد) :لبنات ،دار الجنوب للنرش ،سلسلة معامل
22ـ انظر ّ
موصولة برضورة التمييز بني الوقائع والقيم ،معترب ًا هذا التمييز الحداثة ،تونس ،1994 ،ص100
قادر ًا عىل وضع األسس التي جتعل الباحث ال يتأ َّثر بأحكامه 23ـ انظر مقدمة كتاب «الفكر العلمي الجديد» لغاستون باشالر (1884
فإن آليات الفصل بني الوقائع والقيم القيم َّية يف تناوله للوقائعَّ ، ، Gaston Bachelard )1962-وفيها نقرأ:
«La science est un produit de l’esprit humain، produit conforma
24ـ تجاوزت الفلسفة املادية ( )Le matérialismeهذا التصور ،وذلك عندما aux lois de notre pensée et adapté au monde extérieur. Elle offre
ذهبت إىل القول إ ّن املوضوع موجود وجودا ً مستقالً عن الذات ،أ ّما املثاليون donc deux également nécessaires, car il nous est aussi impossible
فعدّوا املوضوع ( )L’objetامتدادا ً ألنشطة الذات ( ، )Le sujetوهو تص ّور ما de changer quoi que ce soit aux lois de notre esprit qu’à celles du
انفكّت املناهج املعارصة تق ّوض بنيانه طامحة إىل اإلقرار بأ ّن اإلنسان باستطاعته Monde». Bachelard (Gaston): Le nouvel esprit scientifique, P U F,
إدراك الحقائق القامئة بذاتها بعيدا ً عن مؤثّرات النفس املدركة. Collection «Quadrige», Paris, 2013, P 2.
واإلدراك فكري ًا وعاطفي ًا -من قبل الوعي الفردي[ -وهو ما تظل مدار السؤال .25فالباحث -شاء أم أبىُّ -
يظل (الذات) ُّ
يؤدي بالرضورة إىل التمييز بني] نمط املوضوعية الذي تطمح طوع االنتامء اإليديولوجي ،ممَّا جيعل معاجلته للظواهر االجتامعية
هتتم بأمره العلوم املجتمعية
إليه اإلناسة عن [كذا من] ذلك الذي ُّ تتحرك يف األفق الذي حتدِّ ده املرجعية الثقاف َّية والفكر َّية التي يدين
َّ
األخرى».29 يتجل يف خمتلف املواقف التي يتخذها من القضايا ّ هبا ،وهو ما
إن املوضوع َّية يف العلوم والظواهر ،وهو ما دفع إىل القول َّ
تؤسس خطاب ًا علمي ًا موضوعي ًا استطاعت األنرتبولوجيا أن ِّ االجتامع َّية واإلنسان َّية ال تتحقق بالصيغة التي نألفها يف العلوم
حمايد ًا ،تتطلب من اإلنايس معاجلة املباحث والظواهر من الصحيحة . 26
موضعني خمتلفني ،ومها املعاينة والوصف من اخلارج (التاريخ،
اجلسد) وتفكيك بنية الثقافات واألديان والنصوص والظواهر ج .املقارنة يف ِّ
ظل املقاربة األنرتبولوج َّية البنيو َّية
من الداخل بمعايشة التجربة االجتامعية أو الدينية موضوع عمدت املقاربة األنرتبولوج َّية البنيو َّية مع كلود ليفي سرتاوس
البحث ،فهي تدرس الدين من خارج املنظومة الدينية -شأن (1908م 2009-م) إىل مراجعة الصيغتني السابقتني إىل مراجعة
تتفرد بقدرهتا عىل فهم ماه َّية
علم االجتامع وعلم النفس -ومنها َّ الصيغتني السابقتني ،فقد طالب سرتاوس بالتدقيق يف دالالت
الدين ودوره من داخل املنظومة الدين َّية. مفهوم املوضوع َّية واملقصود من هذا املفهوم ،فاملوضوع َّية يف
تقديره رضبان :رضب تتقاسمه مجيع العلوم االجتامعية ،ومداره
نؤول األشياء عىل عىل َّ عىل جترد الباحث من معتقداته وأفكاره املسبقة ،وصنف ٍ
أن فلسفة التأويل ما انفكَّت تؤكد أنَّنا ّ ثان هو ُّ
النحو الذي نشتهي ،فاألشياء جوفاء تستمدُّ قيمتها من إدراكنا خمصوص باألنرتبولوجيا ،وهو صنف ال يكتفي فيه اإلنايس
هلا ،وهو ما جيعل املعنى غري ٍ
متناه ،فالفينومولوجي يق ّلب األشياء اخلاصة به فحسب ،وإنَّام يسعى من بالتجرد من األفكار والقيم
َّ
والظواهر عىل وجوهها املختلفة ع ّلها تبوح بامهياهتا.30 خالهلا (املوضوعية) إىل وضع «صياغة صاحلة ليس فقط بالنسبة
للمعاين [كذا بالنسبة إىل املعاين] النزيه واملوضوعي بل بالنسبة
َّ
إن األزمة التي تعيشها الدراسات الدينية املقارنة مدارها31عىل كل] املعاينني املمكنني» . 27فاإلنايس من هذا لكل [كذا إىل ّ ّ
آليات البحث ومدى قدرة الدراسة املقارنة عىل بناء رؤية واضحة املنظور ال يكتفي بإجلام مشاعره ومواقفه فحسب ،وإنَّام يسعى
وموضوعية للمشرتك بني األديان ،وهي أزمة دفعت بـ«مرسيا أيض ًا إىل «إدخال مقوالت زمانَّية ومكان َّية ومقوالت يف التضاد
إلياده» إىل املناداة برضورة جتديد آل َّيات البحث يف علم تاريخ أن ذلك ال يقع إال يف مستوى خمصوص والتناقض» ،28عىل َّ
أهم مظاهر األزمة عدم قدرة األديان وأهدافه ورؤاه ،ومن ّ
32 ُّ
وتظل قابلة للفهم « حتتفظ فيه الظاهرات بداللة برش َّية ما،
29ـ املرجع نفسه ،ص 386 25ـ ذهب عبد املجيد الرشيف يف لبنات ،IIدار الجنوب للنرش ،ط ،1تونس ،ص
30ـ هذا التص ُّور يقود إىل القول :إ َّن املوضوعية ال تعني تداخل الذات 37إىل رضورة توخّي وضعني معرفّيني ،يتمثّل الوضع األول يف اإللحاد املنهجي
باملوضوع بقدر ما تؤكد أ َّن الحياد مستحيل .راجع بوغام (سريخ) (Serge الذي -دعا إليه بيرت برجر ( - )Petre Bergerيتطلّب الوقوف عىل الحياد إزاء
:)Paugamمامرسة علم االجتامع ،ترجمة منري السعيداين ،املنظمة العربية الظواهر التي ندرسها .أ ّما الوضع الثاين ففيه يتق ّمص الباحث شخصية املؤمنني
للرتجمة ،ط ،1بريوت لبنان ،2012 ،ص .114 بكل عقيدة والتعاطف معهم لتف ّهم مواقفهم دون التامهي معهم بالرضورة».
31ـ هذه األزمة مل تقترص عىل البحث يف األديان ،وإنَّ ا طالت األدب املقارن. 26ـ غارغاين (أَلدُو) ( :)Aldo Garganiالتجربة الدينية كحدث وتأويل ،ضمن
راجع رينيه (ويليك) :مفاهيم نقدية ،ترجمة مح ّمد عصفور ،سلسلة عامل املعرفة كتاب الدين يف عاملنا ،ترجمة مح ّمد الهاليل وحسن العمراين ،دار توبقال للنرش،
عــدد ،110املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب ،الكويت ،فيفري،1987 ، ط ،1الدار البيضاء املغرب ،2004،ص .113
الفصل الحادي عرش «أزمة األدب املقارن» ،ص .362 27ـ سرتاوس (كلود ليفي) :اإلناسة البنيانيّة -األنرتبولوجيا البنيويّة (القسم
32ـ انظر إلياده (مريتشيا) :البحث عن التاريخ واملعنى يف الدين ،ترجمة سعود الثاين) ،ترجمة حسن قبييس ،مركز اإلمناء القومي ،بريوت لبنان( ،د ت) ،ص .385
املوىل ،املنظمة العربية للرتجمة ،ط ،1بريوت لبنان ،2007 ،ص .135 28ـ املرجع نفسه ،والصفحة نفسها.
ترمجة سعود املوىل ،املنظمة العربية للرتمجة ،ط ،1بريوت لبنان، الباحثني املعارصين عىل اخلروج من دائرة الرؤى التأسيس َّية التي
.2007 وضعها املسترشقون (ماكس ميلر ،إيميل برنوف 33).. ،أو أعالم
ـ بادي (برتراند) وهريمت (غي) :السياسة املقارنة ،ترمجة عز املقاربة االجتامع َّية (إيميل دوركايم ،)... ،واملقاربة األنرتبولوج َّية
الدين اخل َّطايب ،مراجعة نادر رساج ،املنظمة العربية للرتمجة ،ط (إدوارد تايلور ،جيمس فريزر. 34)... ،
،1بريوت لبنان.2013 ،
الوهاب) :ألفهم ـ فصول عن املجتمع َّ ـ بوحديبة (عبد ويف هذا السياق املعريف سعت الدراسات املعارصة إىل اإلفادة
والدين ،سلسلة موافقات عــ 8ــدد ،الدار التونسية للنرش، من التطورات املعرفية يف علم االجتامع ،وما ترتَّب عىل ذلك من
ط ،1تونس1992 ، جتديد آلل َّيات البحث يف الدراسات املقارنة (األدب ،األديان)...،
ـ بوغام (سريخ) :ممارسة علم االجتامع ،ترمجة منري السعيداين، ورغم نجاح القراءات املعارصة يف ختطي القراءات التارخي َّية
املنظمة العربية للرتمجة ،ط ،1بريوت لبنان2012 ، فإنا وقعت يف واجلدال َّية واملقاربات االسترشاق َّية التقليد َّيةَّ ،
ـ ديكارت (رنيه) :تأ ُّمالت ميتافيزيقية تثبت َّ
أن اهلل موجود، تفس التعميم ،وذلك من خالل سعيها إىل وضع قراءات أحادية ِّ
وأن نفس اإلنسان تتميز عن جسمه ،ترمجة كامل احلاج ،سلسلة َّ النصوص والظواهر بطريقة واحدة متجاهلة بذلك اخلصوصيات
زدين عل ًام ،منشورات عويدات ،ط ،4باريس فرنسا.1988 ، التي مت ّيز بعضها من بعض .فإذا بالدراسات املقارنة واقعة حتت
حممد عصفور ،سلسلة ـ رينيه (ويليك) :مفاهيم نقدية ،ترمجة َّ تأثري املرجع الفكري واإليديولوجي ،وهو ما جعل السؤال عن
عامل املعرفة عــ110ـــدد ،املجلس الوطني للثقافة والفنون عالقة الذات باملوضوع يتَّخذ يف البحث املقارن أكثر من وجه.35
واآلداب ،الكويت ،فيفري1987 ،
ـ سرتاوس (كلود ليفي) :اإلناسة البنيان َّية -األنرتبولوجيا الذات عن إن فصل َّ وقد ذهبت أغلب الدراسات إىل القول َّ
البنيو َّية (القسم الثاين) ،ترمجة حسن قبييس ،مركز اإلنامء املوضوع هي أول خطوة جيب اعتامدها لدراسة الظاهرة الدينية
القومي ،بريوت لبنان( ،د ت). أن أغلب دراسة حمايدة تنتهي إىل إبراز حقائق األشياء ،عىل َّ
الشيف (عبد املجيد) :لبنات ،دار اجلنوب للنرش ،سلسلة ـ ّ داريس الظاهرة الدِّ ين َّية ب َّينوا َّ
أن الدين رؤية وجود َّية ،تتداخل فيها
معامل احلداثة ،ط ،1تونس1994 ، أسالذات باملوضوع ،وهو ما جيعل من االهتامم بتلك العالقة َّ
الشيف (عبد املجيد) :لبنات ،IIدار اجلنوب للنرش ،سلسلة ـ ّ املوضوع َّية التي تفيد قدرة الباحث عىل مت ّثل األديان من داخلها
معامل احلداثة ،ط ،1تونس. وفهم مساراهتا وما جيمعها بغريها من األديان.
ـ صليبا (مجيل) :املعجم الفلسفي ،دار الكتاب اللبناين ومكتبة
املدرسة .بريوت ،لبنان. قائمة المراجع المعتمدة في هذا البحث
ـ علبي (عاطف) :املنهج املقارن مع دراسات تطبيقية ،املؤسسة (حممد) :نحو تاريخ مقارن لألديان التوحيد َّية ،ترمجة
ـ أركون َّ
اجلامعية للدراسات (جمد) ،ط ،1بريوت لبنان.2006 ، هاشم صالح ،دار الساقي ،ط ،1لندن إنجلرتا.2011 ،
ـ غارغاين ( َألدُ و) :التجربة الدينية كحدث وتأويل ،ضمن ـ إلياده (مريتشيا) :البحث عن التاريخ واملعنى يف الدين،
حممد اهلاليل وحسن العمراين ،دار كتاب الدين يف عاملنا ،ترمجة َّ
توبقال للنرش ،ط ،1الدار البيضاء املغرب.2004 ، 33ـ املرجع نفسه ،ص .139
ـ الالند (أندريه) :موسوعة الالند الفلسفية ،ترمجة خليل 34ـ املرجع نفسه ،ص .-142 141
أمحد خليل ،إرشاف أمحد عويدات ،منشورات عويدات ،ط ،2 35ـ اعترب املثاليون املوضوع ) )L’objetامتدادا ً ألنشطة الذات) ،) Le sujet
بريوت لبنان2001 ، وهو تص ُّور ما انفكَّت املناهج املعارصة تق ّوض بنيانه طامحة إىل اإلقرار بأ َّن
ـ لومبار (جاك) :مدخل إىل األثنولوجيا ،ترمجة حسن قبييس، اإلنسان باستطاعته إدراك الحقائق القامئة بذاتها بعيدا ً عن مؤثّرات النفس
املركز الثقايف العريب ،ط ،1بريوت (لبنان) ،الدار البيضاء املدركة من جهة ،ومن جهة أخرى أق َّر املاديون بأ َّن املوضوع موجود وجودا ً
(املغرب).1997، مستقالً عن الذات.
وتنضم إىل
ّ بدورك إىل ما تكتنزه طبقات تارخيك العابقة بالفكر، ُيتَّهم اإلنسان العريب إمجاالً باملغاالة واالبتعاد عن العقالن َّية
قافلة الباحثني فتسهم بجهدك يف مسرية بناء رصوح املعرفة. تطرفني ،يرتاوحان بني إفراط واملوضوع َّية ،إذ نراه يتأرجح بني ّ
وتفريط :لدينا من جهة ،العريب الذي ينبهر بأنوار الغرب انبهار ًا
ويف الوقت عينه ،يقف الفيلسوف لريفع الصوت عالي ًا يف وجه فيحجمه ،ويرميه يف يعمي بصريته إىل حدٍّ جيعله غري ٍ
آبه برتاثه،
ّ ُ
ال له :استيقظ ُّأيا النائم واضبط ساعتك وفق املتطرف الثاين قائ ً
ّ تم جتاوزه ،إذ ال نفع منه دائرة التخ ّلف واملايض السحيق الذي َّ
ِ
زمنك احلارض ،انغرس يف واقعك الفكري وال تكتف بمواكبة البتة اليوم .نراه خيجل من نفسه ومن تارخيه ومن إنجازات أسالفه
ال عن مسار الفكر يف السعيالتطور املادي للحضارة الغرب َّية ،غاف ً
ُّ ضخه من أفكار وتقنيات واكتشافات متسارعة يتم ُّ
مقارنة مع ما ُّ
وراء املزيد من النقد واحلفر والتفكيك والقفز إىل األمام نحو عىل الساحة العامل َّية .لذا نجده َيطوي صفحات مرشقة خ ّطها
ختش من ارتكاب متعة التفكري ،وتعرية الواقع األفق األبعد .ال َ األوائل مركّز ًا فقط عىل البضاعة املستوردة باعتبارها األجود
من اإلسقاطات .معارشة العقالن َّية جر ٌم حالل عرفه األقدمون واألنفع واألكثر مالءمة للعرص.
اللمعنى.فنجوا حلظة القيام به من الفناء يف َّ
مسه جنون ال َع َظمة ،فغرق يف ويف املقابل ،هناك العريب الذي َّ
ما أحوجنا اليوم يف العامل العريب ويف لبنان عىل وجه اخلصوص، التباهي بامضيه وتراثه و ُعظامئه مكتفي ًا بالتغنّي باألجماد الغابرة
خضم ما نشهده من ورش ّ يف هذا الزمن احلارض حتديد ًا ،ويف املس به ،معترب ًا َّأنم
كل ما أنتجه األسالف ،وحتريم ّ وتقديس ّ
عمل لتجديد املناهج الرتبو َّية ،وبخاصة يف ما يتعلق بالفلسفة بكل ما جيب فعله يف هذا املجال أو ذاك ،فال رضورة للبحث قاموا ّ
كل اجلهد لالبتعاد عن هذين العرب َّية ،ما أحوجنا إىل أن نبذل َّ كل ما نحتاج إليه ،ولن نتمكن من ألن الرتاث حيوي َّ
عن املزيدَّ ،
التطرفني ،فنحافظ عىل خصوص َّية الفكر العريب اإلسالمي، ُّ نصبهم ساد ًة عىل حارضه ّ
بكل خت ّطي الكبار الذين سبقونا ،لذلك ُي ِّ
يتضمنه من سياقات ومصطلحات وإشكال َّيات مت َّيز هبا ،من َّ بام أبعاده وحاجاته وأزماته.
دون تقليص أمه َّية الغرب وما أنتجه من مناهج ومصطلحات
حتملنا مسؤول َّية كربى ،والويل لنا من وأفكارَّ .
إن الفرتة الراهنة ّ لألسف ،نجد الفيلسوف يقف وحيد ًاَّ ،
تتوهج يف عقله شعلة
لعنة األجيال إن تغاضينا عنها؛ مسؤوليتنا تكمن يف كشف الثروة شغف الربهان
ُ وحيرك قل َبه
التطرفنيّ ،
ُّ نور ترشده بعيد ًا عن هذين
الدفينة ،ونفخ الغبار عن الذهب ،وتشجيع املزيد من الشباب عىل التعصب واألدجلة والترشنق ونفي اآلخر
ُّ عىل َّ
أن احلقيقة أبعد من
قوهتا واالشتغال عشق الفلسفة العرب َّية بدالً من جلدها ،ويف إبراز َّ املختلف.
عىل تأوينها وجعلها أكثر قابل َّية الحتواء القلق الفكري والعطش
مدعوون لاللتفات إىل ُّ املعريف .نحن ،وأكثر من أي وقت مىض، األول فيعلن له ما يأيت :يف الغرب
للمتطرف َّ
ّ يتصدَّ ى الفيلسوف
الذات العرب َّية يف املرآة ،والتأ ُّمل يف مكامن وجعها ،والعمل عىل كثر ُأعجبوا برتاثك ،فانك ُّبوا عليه ،وأمضوا العمر يف احلفر فيه،
ٌ
النهوض هبا من كبوهتا .نحن اليوم ،ولكي يعرتف بنا الغرب، والتح ّلق من حوله ،واالهنامم بمقوالته ،فكم باحلري بك أن تلتفت
كل يشء أن نعرتف بأنفسنا ،أن نق ّيم تراثنا بنظرة علينا قبل ّ
موضوع َّية .علينا أن نتدافع يف سبيل املعرفة العلم َّية الرصينة * أكادميية من لبنان
«وهذا الرأي [يقصد اختصاص اليونان دون غريهم بالفلسفة] توقفت عند هذه النصوص لكي نجول بمعيتها للحظات،
أن جنس ًا من الناس هو وحده ا ُملعدُّ للكامالت
إنَّام يكون صحيح ًا لو َّ فنعود إىل زمن التفكّر الرصني ،حيث جيتهد العقل يف السعي وراء
وبخاصة النظر َّية منها .ويشبه أن يكون هذا هو ما َّ اإلنسان َّية، األول للكندي يتحدَّ ث
النص َّ احلق وتأسيس املعرفة املوضوع َّيةُّ .
كان يعتقده أفالطون يف اليونانيني ،وقد نس ّلم َّأنم ،يف الغالب، فيه عن أمه َّية الفلسفة ،والثاين للرازي الذي يربز ارتقاء منزلة
ُمعدُّ ون بالطبع لقبول احلكمة؛ ولكن ال يلزم عن هذا أن نُنكر والنص الثالث
ُّ العقل مشدّ د ًا عىل دوره القيادي يف عمل َّية املعرفة،
كثري من هؤالء أعني ا ُملعدّ ين للحكمة ،أمثال أولئك الذينوجود ٍ البن رشد الذي ينتقد أفالطون يف اعتقاده باختصاص اليونان من
كانوا يف بالد اليونان وما جاورها ،ويف بلدنا هذا ،أعني األندلس، دون سواهم بالفلسفة.
ويف الشام والعراق ومرص ،وإن كان وجود ذلك يف بالد اليونان
أكثر .وحتى لو قبلنا هبذا ،فاألوىل أن نقول يف سائر الفضائل، «إن أعىل الصناعات اإلنسان َّية منزلة وأرشفها مرتبة صناعةَّ
يمتنِع أن تكون أ َّمة من األمم معدَّ ة بالطبع ،عىل األغلب، إنَّه ال ْ الفلسفة ،التي حدّ ها :علم األشياء بحقائقها بقدر طاقة اإلنسان،
لفضيلة بعينها دون غريها ،كأن يكون اجلزء النظري (من النفس: ألن غرض الفيلسوف يف علمه إصابة احلق ويف عمله العمل باحلق، َّ
احلكمة) لدى اليونان ،أغلب ،والغضبي (الشجاعة) عند األكراد وأرشف الفلسفة وأعالها مرتبة الفلسفة األوىل.)...(،وينبغي لنا
ٍ
فحص دقيق؛ إذ ُي َظ ُّن أنَّه عندما واجلاللقة أقوى .وها هنا مكان اقتناء احلق من أين أتى ،وإن أتى من األجناس القاصية عنا واألمم
يكون اجلزء النظري (من النفس :العقل) حاك ًام تكون الفضائل فح َسن
املباينة لنا ،فإنَّه ال يشء أوىل بطالب احلق من احلق(َ .)...
أنسب وأصلح؛ أعني الصالح الذي يف الطبع(.3 »)... بنا أن نلزم إحضار ما قال القدماء ( )...وتتميم ما مل يقولوا فيه
قوالً تام ًا ،عىل جمرى عادة اللسان ُ
وسنَّة الزمان( ،)...مع العلة
العارضة لنا يف ذلك ،مع االنحصار عن األتباع يف القول ،اتقاء
الطب الروحاين ،ضمن رسائل فلسف َّية ،نرشه بول كراوس،
- 2أبو بكر الرازيُّ ، سوء تأويل كثري من املتّسمني بالنظر يف دهرنا ،من أهل الغربة عن
القاهرة ،1939 ،ص.19-17 احلق( ،)...ليضيق فِطنهم عن أساليب احلق وقلة معرفتهم».1
- 3أبو الوليد بن رشد ،الرضوري يف السياسة ألفالطون ،ترجمة أحمد شحالن،
تقديم محمد عابد الجابري ،مركز دراسات الوحدة العربيَّة ،بريوت ،ط،1،1998 - 1الكندي ،رسالة إىل املعتصم بالله ،تحقيق أحمد فؤاد األهواين ،بريوت،
ص.82 ص.86-85
نعانيه من هتميش ملادة الفلسفة العرب َّية ،طارحة عىل خمتلف يع ّلق الكندي ،يف النص املذكور أعاله ،أمهي ًة كربى عىل طلب
املهتمني بالشأن الرتبوي النقاط اآلتية:
ّ احلق وعدم االكتفاء بذلك وحسب إنَّام يقرنه بالسعي إىل العمل
مهمة الفيلسوف ب ُبعدهيا النظري والعميل انطالق ًا من
به .حيدّ د َّ
َّ -
إن ما تشهده املجتمعات العرب َّية اإلسالم َّية يف زمننا احلارض البحث العقالين عن احلق .نلحظ أنَّه ُيسقط احلدود يف عمل َّية
يرتّب علينا أن نربز بوضوح مكامن العقالن َّية يف الرتاث والتي أي جهة أتى ،من دون البحث هذه ،إذ يدعو إىل طلب احلق من ّ
القوة فيه ،حيث جت ّلت عرب التاريخ أبرز املقاربات تشكّل نقاط َّ إن يف هذه اخلطوة إبراز ًا
التقوقع يف إطار اللغة أو الدين أو األ َّمةَّ .
والنظريات الفلسف َّية ،وذلك يف جمال املعرفة واإلهل َّيات واألخالق كل من لديه جتربة ناجحة يف لقيمة االنفتاح عىل القدماء ،أي عىل ّ
والسياسة. طلب احلق.
إن الرتاث العريب اإلسالمي ،نظر ًا إىل تعدُّ د حقوله املعرف َّية،
َّ - أ َّما الرازي فنجده يضع العقل يف مرتبة القيادة ،وال يقبل بام هو
يتم تقديمه إىل ووسع احلقبة التارخي َّية التي يغ ّطيها ،جيب أن َّ ملفت ما ُيلحق بالعقل من دور ،ومهام ،ومسار. ٌ دون ذلك مقام ًا.
التعصب واحلذف ُّ املتع ّلم من منظور فلسفي موضوعي بعيد عن أهم نِ َعم اخلالق عليه .إطالق
ُي ّمل اإلنسان مسؤول َّية كربى جتاه ّ
والتحوير ،األمر الذي يستدعي متابعة البحث والتدقيق وتسليط راق يدعونا الكندي للعمل عليه. رساح العقل من سجنه هدف ٍ
يتم جتاهله يف احلقبة الراهنة.
الضوء عىل ما ُّ مل حيدّ د أ َّي ًا من األمور علينا أن نرجع فيها إىل العقل لكي يرشدنا
نحو املسار الصحيح .بتعبري آخر ،جعل الكندي من العقل املرجع
مقرر الفلسفة إن ما حيصل من حولنا بخصوص هتميش َّ َّ - للبت يف خمتلف األمور التي تواجه اإلنسان يف حياته. األساس ّ
العرب َّية ،أو التقليل من شأنه ،أو اعتباره عبئ ًا عىل املتع ّلم ال
إن هذا النهج يفيده الكثري يف التحضري ملستقبله األكاديميَّ ، نص ابن رشد أنَّه كان يواجه يف زمانه نوع ًا من يبدو من خالل ّ
يمهد عىل األرجح لعمل َّية تسطيح األجيال ،وعدم حتفيزها عىل ٍ
شعب ما أو حضارة حمدَّ دة .مل يقبل بنفي التفلسف عن ٍ تعظيم شأن
ّ
البحث ،أو مواجهة أ َّية صعوبة .كام أنَّه يعمل عىل اقتالع املتع ّلم العرب .مل حيرص عشق احلق والبحث عنه بحضارة دون سواها.
من جذوره الفكر َّية واحلضار َّية ،وجعله يعيش يف غربة عنها. ُثر يف زمننا احلارض ،إذ نسمع وكم نجد يف كالمه هذا ما جييب عىل ك ٍ
إن هتميش مادة الفلسفة العرب َّية يف املناهج الرتبو َّية ،التي كذلك َّ بعض األصوات التي ترت َّدد هنا وهناك حول عدم إمكان َّية احلضارة
ظهرته احلضارة العرب َّية عن عقالنيتها ،وعن هي بمثابة نموذج ّ العرب َّية من أن تنتج عل ًام عقالن َّي ًا كالفلسفة ،وإن ُوجدت فلسفة ما
إن هذا التهميش من شأنه أن كيف َّية مقاربتها إشكاليات عرصهاَّ ، وكأن يفَّ فهي يف أغلب األحوال مأخوذة من اليونان أو الغرب.
متحجرة عن تراث غارق يف ّ جيعل املتع ّلم حيتفظ بصورة تقليد َّية نص ابن رشد إظهار ًا لقيمة التجربة العقالن َّية التي خاضها مفكرو ّ
الرصاعات الدين َّية التي يطغى عليها طابع التذ ُّمت وإقصاء الرأي العصور الوسطى ومفكرو النهضة من بعدهم يف احلضارة العرب َّية،
املغاير ،والتسليم التلقائي لسلطة العقل الديني. وذلك من دون إنكار فضل اليونان والغرب ،وال قيمة ما أنتجوه
إن هذا املوقف الرشدي حيثنا عىل مضاعفة عىل الصعيد الفلسفيَّ .
املتعمد يف سبيل دمج مادة الفلسفة العرب َّية بالفلسفة
َّ َّ -
إن السري البحث عن مزيد من التجارب العقالن َّية ،ليس فقط يف الرتاث
العا َّمة ،يبقى يف نظرنا مقدّ مة إللغائها ،وهو ما جيوز لنا أن نصنّفه العريب اإلسالمي الوسيط والنهضوي ،إنَّام أيض ًا يف التجربة احلديثة
باجلريمة الكربى يف حق العقالن َّية العرب َّية ،كام يف حق بناء فكر واملعارصة .فالفلسفة ليست حكر ًا عىل شعب واحد ،وال عىل
نقدي حر ومنفتح ومستقل .وهو أيض ًا حماولة رصحية وواضحة يمسه شغف احلكمة أن خيوض غامرها حضارة مع َّينة ،فبإمكان من ّ
للقضاء عىل هنج فكري من شأنه أن يتصدَّ ى للظالم َّية املستفحلة. متسلح ًا باألدوات املنهج َّية الالزمة واملفاهيم املتوفرة يف عرصه.
يتع ّلق األمر بخطوة غري مسؤولة تُسهم يف ترسيخ صورة غري
مستح َّبة عن احلضارة العرب َّية اإلسالم َّية ،إن يف الوعي العريب أو تركت ك ً
ال من الكندي والرازي وابن رشد يعيدوننا إىل أجواء
يف الوعي الغريب .إنَّه خدمة ال سابق هلا تُقدَّ م عىل طبق من ذهب كانت تنضح بالعقالن َّية ،لكي ألقي الضوء من خالهلم عىل ما
تدق بعد ساعة املصاحلة مع املايض يستح ّقه من جهد ودراسة؟ أمل ّ ومروجي اجلهل
ّ كل أعداء احلضارة العرب َّية ،وحم ّبذي التسطيح إىل ّ
والتعاطي معه يف املجال الرتبوي بصفته جماالً واسع ًا للبحث املقنَّع بكثرة املعلومات املمكننة واملربجمة ،كام أنَّه خدمة ألولئك
بأن اعتامد الطريق والتدقيق واحلفر والتحليق؟ أمل نقتنع بعدُ َّ املنك ّبني عىل سلخ األجيال الطالعة عن لغتهم األم وتراثهم
وكسل مرشعن ٌ ٌ
جبان إىل اخللف، هروب
ٌ السهلة يف الرتبية املتوهجة.
ّ ومنابعهم الفكر َّية
وممدوح زور ًا ،ال جيلب لنا سوى املزيد من اجلهل املس َّيس املؤ ّدي
لتتوحد اجلهود يف سبيل تأت الساعة بعدُ إىل هنايات قاتلة؟ أمل ِ -من املؤسف أن يفاخر الغرب بأعالمه من أدباء وشعراء
َّ
خاصة ،من تعاظم خماوفه َّ حترير اإلنسان العريب عا َّمة واللبناين وفالسفة ،ويو ّفيهم حقهم من خالل إدخاهلم يف منهاج التدريس،
وتضخم أوهامه ،عاملني نحن ـ الرتبويني ـ عىل كرس حواجز ُّ بينام نجد من حياول عندنا التقليل من أمه َّية مفكرينا عن طريق
االغرتاب عن الذات وعن اآلخر؟ اختصار إنجازاهتم ،ودجمها بتاريخ فكر غني يزخر باملبدعني،
وفيه ما يكفي من نتاج ٍ
راق ال حيتاج إىل املزيد.
أن هدف تعليم الفلسفة يف النهاية -أخري ًا نو ُّد أن نشري إىل َّ
هو بناء اإلنسان ،من خالل متتني املقاربة العقالن َّية لدى املتع ّلم،
وتوسيع أفق تفكريه ،وتقعيد أسس االنفتاح الفكري عىل اآلخر
جو من احلوار العقالين والنقاش املرتكز عىل احلجج املختلف يف ٍّ
والرباهني وإعادة النظر الدائمة بالفرضيات الفكر َّية .
يبقى لنا أن نطرح هذه األسئلة لتنخر يف وعينا ،لع َّلنا نبحث
سوي ًا عن أفق جديد بشأهنا:
مشمرين
أمل حين الوقت بعدُ لكي يقف أهل الفلسفة يف بالدنا ّ
عن سواعدهم ليكتبوا بأحرف من نور مناهج تعليم َّية ،يف املرحلة
الثانو َّية ويف التعليم اجلامعي ،تربز لطالب املعرفة أهبى وأرقى
ما أنتجه الفكر العريب يف مساره احلضاري ،ولكي يعطوه ما
السلف:
صورة َّ ُ
الداللة والوضع
تأمالت فلسف َّية في ّ
ُّ
منصف الوساليت*
يكون للفلسفة موقع خمتلف ضمن إطار املقاربات املختلفة ألواهنا مقدمة
ّ
«السلف».
ملسألة ّ تتخيَّ «السلف» مقاربة فلسف َّية
1
أن تكون مقاربتنا لصورة َّ
عي اختالفها عن غريها من لنفسها مقام ًا يف النَّظر والتناول ُي ّ
إن موضع هذه املقاربة ُيقاس يف تقديرنا بوضع التناسب ،حيث َّ رضوب التناول ،وأن يكون ذلك مواجهة ال مداورة بحسب ما
«السلف» جمال انشغاهلا تكون مجيع املقاربات التي تتَّخذ من مسألة َّ تقتضيه طبيعة التفلسف من رضورات نقد َّية ،فذلك من شأنه أن
عىل نحو يكون وافي ًا بمقصودها ،مقاربات تُنجز بالنسبة إىل مرجع جيعل من هذا العمل رضب ًا من رضوب التحدّ ي الفكري ّ
لكل
يظل من قبيل املنطلق البدهي الذي تفرتضه هذه املقاربات دون ُّ ا ُملسبقات من األحكام التي تقيض بغربة موضوع النَّظر عن جمال
تفكري أو نظر فيكون بمثابة املسكوت عنه ،ونقصد بذلك أساس ًا وكأن األمر ال يتع ّلق بالشأن اإلنساين
َّ اهتامم الفيلسوف وانشغاله،
السلف الذي يتع ّلق بطبيعة الوجود الوضع األنطولوجي لصورة َّ جمال نظر الفكر الفلسفي بامتياز .ولك َّن رفع التحدي ال يكون
«السلف» الذي يستحيل إىل ظاهرة تؤسسه فكرة َّ أو الكيان الذي ّ بتعليل األسباب املقتضية ملقاربة املسألة عىل نحو فلسفي فحسب،
فكل مقاربة (فقه َّية أو بعد أن يكتسب كثافة واقع َّية اجتامعي ًاُّ ، بل أيض ًا بدفع هذا التحدّ ي إىل حدوده القصوى ،وذلك بجعل
تصورهاتؤسس ُّ تارخي َّية أو اجتامع َّية أو سياس َّية أو نفس َّية...إلخ) ّ تتحرك ضمن أفق بكر من خالل تعليل خصوص َّية َّ هذه املقاربة
السلف انطالق ًا من متظهرها أو تشكُّلها برش َّي ًا يف ظاهرة ملسألة َّ الكيف َّية التي بحسبها يكون االنشغال الفلسفي هبذه املسألة حتى
أنمع ّللة األسباب املقتضية لوجودها برضورات خمتلفة ،كام لو َّ
االختالف يف األسباب وليس يف طبيعة الوجود ،من أجل ذلك *أكادميي من تونس
«السلف»من تعمد هذه املقاربة الفلسف َّية إىل االنشغال بصورة َّ -1أُنجز هذا املقال عىل إثر مداخلة قمنا بها ضمن إطار فعاليات الندوة الدول َّية
أن تلك جهة ُم َساءلة بداهة الوضع األنطولوجي ،وذلك باعتبار َّ التي أنجزها قسم اللغة واآلداب والحضارة العربيَّة يف كليَّة اآلداب يف سوسة
الصورة ُت ِّسد يف تقديرنا كيف َّية وجود خمتلفة ومغايرة .ولذلك «السلف والخلف يف الفكر العريب الحديث»
بالجمهوريَّة التونس َّية ،تحت عنوان َّ
السلف ال يتع ّلق األمر يف مستوى هذه املقاربة الفلسف َّية لصورة َّ بتاريخ 17/16/15أفريل . 2013وقد عمدت إىل إعادة صياغة املداخلة إلعدادها
بظاهرة يمكن تفسريها من خالل هذا املنظور أو ذاك ،وإنَّام بظهور السلف.
للنرش يف هيئة مقال فلسفي بشأن مسألة َّ
جيسد فكرة ويعلن عن كيف َّية خمتلفة للوجود اإلنساين .وبناء كيان ِّ ـ تتأسس محاولتنا يف هذا املقال عىل افرتاض يقيض مبعاينة الوضع املفارقي الذي
كل انشغال تفسريي وتعلييل للظاهرة عىل وجاهته يظل ُّ
عليه ُّ مؤسسة رغم أنَّها بغري أساس ،وال
السلف من جهة كونها صورة ّ
تحوزه صورة َّ
مهيته مرشوط ًا بمقاربة جذر َّية تتعلق باملستوى األنطولوجي، وأ ّ يتس َّنى لنا معالجة هذا االفرتاض معالجة فلسفيَّة ما مل منيّز بني الفكرة والكيان
السلف إىل ما هو كل انشغال بمسألة َّ األمر الذي ُيع ّلل نسبة ِّ والظاهرة يف مقاربتنا لصورة السلف التي تتشكل يف تقديرنا انطالقاً من فكرة
السلف قيد يرشع رضورة وضع مسألة َّ ال ّ أنطولوجي أساس ًا تعلي ً تجسد رضباً متميّزا ً من الكيان يتجىل واقعياً يف ظاهرة .ولذلك ليس باإلمكان
ّ
النَّظر الفلسفي.2 نتبي طبيعة الفكرة السلف انطالقاً من الظاهرة َّ
السلفية ما مل َّ متثل حقيقة صورة َّ
تجسده.
التي تحملها وخصوصيَّة الكيان الذي ّ
السلف فلسفياً مبقصد رفع االلتباس بني
2ـ ال تعلل الحاجة إىل مقاربة مسألة َّ صورة -فكرة -كيان -ظاهرة
تتميز بكوهنا «كل َّية عين َّية» ، 5تُؤ ّمن يف الوقت ذاته ختليص الواقعة السلف» فلسفي ًا ُيعدُّ شك يف َّ
أن اإلقبال عىل مقاربة «مسألة َّ ال َّ
موضوع النَّظر من جزئيتها وذلك برفعها إىل مستوى ّ
الكل ،عىل يف تقديرنا امتحان ًا لقدرتنا عىل اإلصغاء إىل صوت التفلسف
أن الكيل مستقر يف ّ
كل واقعة أو ظاهرة إنسان َّية.6 أساس َّ واالستجابة القتضائه انطالق ًا ممَّا يوجبه من التزامات تقيض
بمامرسة «النظر» عىل نحو ينأى به عن املشهور من الرأي
يستقر يف الظاهرة أو الواقعة إال بعد أن
ُّ أن ّ
الكل ال ثاني ًا :اعتبار َّ واملألوف من التناول سعي ًا إىل الوجاهة وأم ً
ال يف اجلدَّ ة ،3بيد
يكتسب كثافة أنطولوج َّية بحيث يتع ّلق التفلسف بالنَّظر يف طبيعة أن ذلك يقتيض منَّا بيان املعنى الذي بمقتضاه تستحيل خاص َّية َّ
السلف ،والذي يتمظهر يف ظاهرة أو تؤسسه فكرة َّ الوجود الذي ّ «النَّظري» إىل رشط إمكان فلسف َّية «النَّظر» ،وال يكون ذلك
واقعة إنسان َّية بكيف َّية يكون معها هذا الوجود جمال النَّظر الفلسفي عم هو أصيل يف ممكن ًا يف تقديرنا إال إذا ما اضطلعنا بالكشف َّ
أنطولوجية،
َّ بامتياز ،وتكون املقاربة الفلسف َّية بذلك مقاربة نظر َّية مدلول النَّظري «ثيوريا» ( )théoriaمن جهة إحالته إىل معنى
تظل بالنسبة إىل الفيلسوف ظهور ًا لكيان أن الظاهرةُّ 7 عىل أساس َّ َّ
وألن «الس ُمو يف كيف َّية املقاربة»مقارنة مع غريها من الكيفيات،4
ُّ
ال بذلك صورة متم ّيزة. جيسد فكرة أو مفهوم ًا مش ّك ً ّ السامية يف النظر ترتَّب عىل ذلك ّ
«النَّظري» ها هنا يتعلق بالكيفية َّ
السياق ُّ
تظل رهن القدرة أن خصوصية النظر الفلسفي ضمن هذا ّ َّ
بمهمة الفهم ،وأن يكون ذلك متناسب ًا مع فرادة ثالث ًا :االضطالع َّ عىل االستجابة للرشوط التالية:
بمجرد واقعة/ َّ النَّظر وخصوص َّية املوضوع ،إذ األمر ال يتع ّلق
ال من الناحية اإلنسان َّية .وعىل هذا ظاهرة ،بل بمسألة تثري مشك ً أوالً :التع ّلق بمطلب الكل َّية ،وذلك من خالل اعتبار َّ
أن أ َّية
«السلف» مقاربة فلسف َّية «نظر َّية»،األساس تكون مقاربتنا ملسألة َّ جتسد الكيل عىل نحو ظاهرة أو واقعة موضوع النَّظر عىل جزئيتها ّ
وألن األمر ههنا َّ ويكون منظورنا الفلسفي منظور ًا «أنطولوجي ًا». الصورة احلاملة لفكرة أو ملفهوم، ما ،والذي يتجىل يف مستوى ُّ
حري بنا
بمهمة فهم صورة ،فإنَّه ٌّ ال يتعلق بمطلب تفسري ظاهرة بل ّ بحيث تكون ممارسة النَّظر الفلسفي يف الظاهرة متع ّلقة بام هو كيل
بالسياق أن نموذج الفهم ضمن هذا اإلطار ال يرتبط ّ
8 التأكيد عىل َّ جتسدها ،والتي متثل السلف التي ّ فيها ،ونعني بذلك أساس ًا فكرة َّ
اإلبستمولوجي (العلوم اإلنسانية :علم التاريخ ،علم االجتامع، رشط إمكاهنا ،من أجل ذلك كان النَّظري يف إطار التفلسف رؤية
علم النفس ،األنرتوبولوجيا) ،وال يستمدُّ رشوط إمكانه منه،
Lacroix (J), Interview, In Revue la nouvelle critique , 1972,p 20.ـ 5 الفكرة والكيان والظاهرة فحسب ،بل تُعلّل فضالً عن ذلك بالقدرة عىل التفكري
6ـ انظر موريس مرلوبنتي ،تقريظ الحكمة ،ترجمه وقدَّم له :مح َّمد محجوب، يف الظاهرة انطالقاً من رشوط إمكانها األنطولوج َّية ،أي من جهة كونها ّ
تجسد
دار أميَّة 1995 ،ص .100 كياناً متميّزا ً.
7ـ خالفاً ملا يقتضيه املنظور العلمي يف مقاربته للظواهر من رضورة تنزيل ترسب من تصورات متهافتة ال ترى
3ـ تقرتن الجدّة ههنا بالقدرة عىل تجاوز ما َّ
الظاهرة منزلة املعطى الحامل لحقيقة ما والتي يجب اكتشافها من بعد يف النظر الفلسفي غري تأمالت جوفاء يُقاس عمقها بعمق اله َّوة التي تفصلها عن
إخضاعها آلليات التفكري العلمي ،فإ َّن مقاربتنا الفلسف َّية تنخرط ضمن أفق واقع البرش واألشياء ،األمر الذي يجعل من ذلك التجاوز رضورة للنجاح وسبيالً
وتجل لكينونة ميكن مقاربتها
فلسفي تأوييل ال يرى يف الظاهرة غري ظهور لكائن ٍّ له يف امتحان تلك القدرة من جهة ،ورهاناً عىل ما يجعل من «النظر» طريق
تأويل َّياً باعتبارها رشط إمكان ظهور الظاهرة. التفلسف يف مقاربته للوقائع عىل نحو يجمع فيه بني عمق التفكري النافذ فيها
8ـ فيام يتعلّق بالداللة األنطولوجيَّة للفهم مقابل التأويل اإلبستيمولوجي ،انظر من جهة واستيعاباً لحميميَّة القرب منها من جهة أخرى.
والسد ،ترجمة وتقديم سعيد غامني ،املركز
مؤلف ديفيد وورد ،الوجود والزمان َّ السمو يف كيف َّية النظر ال يعني اإلعراض عن معالجة الوقائع أو الظواهر
4ـ إ َّن ُّ
الثقايف العريب ،املقال الثالث ،أسالف فلسفة ريكور ،يف «الزمان والرسد» لصاحبه والتعايل عنها لجزئيتها أو عرضيتها ،بل يعني عىل العكس من ذلك متاماً اإلقبال
كيفن فانهوزر ص .72ويف السياق نفسه ،انظر أيضاً جان غراندان ،املنعرج يخص
جسد خصوص َّية الرؤية وفرادة املعالجة مادام األمر ُّ
عليها من موقع يُ ّ
الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا ،ترجمة وتقديم د .عمر مهيبل ،الدار العربيَّة املجسدة له أو عرضيَّة
الشأن اإلنساين بوجه عام ،برصف النظر عن جزئيَّة الواقعة ّ
للعلوم ـ نارشون .2007الفصل الرابع ص .152 املعبة عنه.
الظاهرة ّ
وأن غرييته السلف آخر مغاير ًاَّ ، تقيض خاص َّية «الغري َّية» باعتبار َّ خيص فهم بل يرتبط أساس ًا بالسياق األنطولوجي مادام األمر ُّ
مؤسسة عىل أفضليته بام هي أفضل َّية يف الدرجة ال يف الطبيعة ،األمر َّ هذه الكينونة التي تتجىل يف مستوى الظاهرة ،ذلك ما جيعلنا نؤكّد
الذي يرفعه إىل مستوى النموذج/املثال ،عىل نحو تكون عالقة خصوص َّية هذه املقاربة مقارنة بغريها من املقاربات ،وذلك من
حيوله إىل آخر اخللف به عالقة عىل جهة املحاكاة واالقتداء ،اقتداء ّ جهة اضطالعها بالنَّظر يف األساس األنطولوجي باعتباره مستوفي ًا
مغاير بدوره رغم كوهنا ليست من جنس غري َّية املثال .وبرصف «السلف» ضمن هذا املقال.
ملقصود انشغالنا بمسألة َّ
فإن ماالسلف واخللف َّ النَّظر عن االختالف يف طبيعة الغري َّية بني َّ
يتعي أساس ًا بالسلف َّ يميز طبيعة الكيان الناتج عن عالقة اخللف َّ وحتى تكون حماولتنا يف هذا املقال وافية بمقصودها من جهة
«السلف» .وأ َّما يف هذه الغري َّية التي متثل داللة من دالالت فكرة َّ «السلف» من زاوية أنطولوج َّية وضمن االضطالع بمقاربة فكرة َّ
خاص َّية «التارخيان َّية» فنقصد هبا اجتامع عنرصين متعارضني يف سياق فلسفي نظري ،كان لزام ًا علينا تغيري وجهة السؤال والدفع
كائن؛ عنرص الزمن َّية من جهة ،وعنرص الالزمن َّية من جهة أخرى، بالتفكري إىل حدوده القصوى من خالل إثارة تساؤل يكون أكثر
متجذر يفّ يتعي ككائن تارخيي فالسلف من جهة وضعه البرشي َّ َّ جذر َّية وتكون صياغته عىل النحو اآليت:
مقوماته الثقاف َّية ،ولكن من جهة وضعه الرمزي/ بكل ّ عرص ما ّ السلف سلف ًا؟ أو ما وجه سلف َّية َّ
السلف؟ ما الذي جيعل من َّ
اإليتيقي يظهر كائن ًا ال تارخيي ًا خارج إطار الزمن َّية باعتباره نموذج ًا السلف ليس باإلمكان اإلجابة عن هذا السؤال ما مل نتمثل صورة َّ
وألن األمر يتع ّلق باجلمع بني عنرصين َّ للمحاكاة ومثاالً لالقتداء، جمسدة لرضب من الكيان املتميز يف كيف َّية من جهة اعتبارها فكرة ّ
«حمصلة» للعالقة10
ّ السلف إىل حتول َّمتناقضني ترتَّب عىل ذلك ُّ حضوره وتواجده ،األمر الذي يستوجب متييز ًا بني الظاهرة
بني الزمن َّية والالزمن َّية ،يصري بمقتضاها كائن ًا «تارخيان َّي ًا» .وكذلك ورشوط إمكاهنا األنطولوج َّية .وعىل هذا األساس تقرتن اإلجابة
يتحول بفعل االقتداء واملحاكاة َّ الشأن بالنسبة إىل اخللف الذي عن سؤالنا بالتفكري يف هذا الكائن الذي يمثل رشط إمكان
ويعمقها .عىل ِّ جيذر غرييتهامإىل كائن تارخياين بدوره ،األمر الذي ّ السلف .فإذا كانت الظاهرة تعني جيسد فكرة َّ الظاهرة ،والذي ّ
السلف يف وعي اخللف جترد َّهذا األساس يمكن تعليل كيفية ُّ سلفي
ّ انتظام برش وتشكّله يف مجاعة عىل أساس عقدي َّ
فإن ما هو
كل الرشوط جترد من ّ كل زمن َّية ،وما يرتتَّب عىل ذلك من ُّ من ّ يتعي كأساس هلذا االنتظام ورشط إمكانه السلفية َّ يف مستوى َّ
التارخي َّية والثقاف َّية (السياس َّية واالجتامع َّية واالقتصاد َّية) ،بحيث األنطولوجي .هبذا التمييز بني الظاهرة والكيان يتسنَّى لنا حتديد
الرمز َّيةيصبح كائن ًا ال زمني ًا Intempestifلكي يرتفع إىل مقام َّ مقصود سؤالنا وحتديد سبيل اإلجابة عنه .ولك َّن استيعابنا لداللة
فكرة«السلف» وفهمها عىل نحو كيل ال يكون إال فلسفي ًا وخارج َّ
كتاباته ،والس َّيام مؤلّفه األسايس «الكينونة والزمان» ،ألنَّنا سنكتفي باستدعاء ما تظل يف تقديرنا جزئ َّية عىل وجاهتها ،األمر الرشوط املعرف َّية التي ُّ
السمة
هو أنطولوجي/ف ّني من تلك الداللة الفلسفيَّة ،حيث تفيد التاريخانيَّة ّ الذي يقيض برضورة توجيه النظر باجتاه تلك الداللة باعتبارها
التي تجعل الكائن (والسيام الكائن الفني) مفتوحاً عىل املمكن ،األمر الذي يؤكّد «السلف».
مستوفية ملقصود انشغالنا بصورة َّ
خلوده وتواصله يف الحضور رغم انتفاء رشوطه التاريخيَّة ،فيستحيل مبقتىض ذلك
إىل كائن يجمع بني التاريخ َّية والخلود ،أي كائناً تاريخان َّياً .انظر يف هذا السياق السلف
في داللة فكرة َّ
املقال تحت عنوان: السلف
«السلف» أو معنى سلف َّية َّ
يرتبط حتديد داللة فكرة َّ
)( Imagination et Œuvre d’art chez Heidegger باالنتباه إىل خاصيتني أساسيتني ُت ّيزان الكائن الذي ِّ
جيسد فكرة
لصاحبه ( ) Jean Marie Vaysseالوارد ضمن املجلة التونسيَّة للدراسات السلف ،ونقصد بذلك أساس ًا خاص َّية «الغري َّية» من جهة، َّ
الفلسف َّية ،العدد الخامس ،مارس .1986 وخاص َّية «التارخيان َّية» من جهة أخرى.
9
ماضي ًا َم ْع َلمي ًا بفعل «التحنيط» القائم عىل بداهة االعتقاد .هبذه والقداسة ،ويستقر يف وعي اخللف حضور ًا لصورة
ُّ العلو
ُّ حيث
اخلاص َّية التحنيط َّية يف التعامل مع املايض من ناحية طبيعة الرؤية التجرد من حضوره
ُّ مقدَّ سة ومعلم َّية ،وباملقابل يسعى اخللف إىل
بالسلف هذا الكائن / نتبي خصوص َّية عالقة اخللف َّ واالعتقاد َّ الصورة
التجرد من احلارض والتواصل مع تلك ُّ ُّ الزمني ،أي
السلف وغري َّية اخللف بفعل
األثر عىل نحو يمكننا من فهم غري َّية َّ جمسد ًا بذلك كيان ًا ال زمني ًا .وبخاصيتي
خارج إطار الزمن َّية ّ
املجسدة
ّ نتأول غري َّية اخللف
املحاكاة عىل جهة االقتداء .ولكي َّ حيوهلا
«السلف» التي ّ
«الغري َّية والتارخيان َّية» ،نحدّ د مدلول فكرة َّ
هلذه الكيف َّية يف الوجود املختلف واملتميز التي تتجىل يف ظاهرة اخللف إىل كائن من خالل فعل االقتداء واالعتقاد.
اجتامع َّية (فرقة ،مجاعة )...سنعمد إىل االستئناس بمفهوم
«النَّابت» وفق التحديد اخلاليف ٍّ
لكل من «الفارايب» و«ابن باجة». تح ُّول الفكرة إلى كيان
مشخصة يف ّ «السلف» وضع «الصورة -الرصيد» حتوز فكرة َّ
لنتبي معنى «النَّابت»ألفيناتصور الفارايب َّ إذا ما انرصفنا إىل ُّ تصوره ويف سلوكه، يتعي نموذج ًا بالنسبة إىل اخللف يف ُّ كائن َّ
وبتصوره للوجود املدين ُّ حتديده مرشوط ًا بمنظوره املدين فإن االستيعاب القيمي ـ األخالقي هلذه الصورة ـ الرصيد لذلك َّ
املتعي نظر َّي ًا يف املدينة الفاضلة ،األمر الذي يؤدي إىل ّ الفاضل وإن الرمز َّيةسموه وقداستهَّ . الرمز يف ّالسلف إىل مستوى َّ ترفع َّ
ألن وجوده يكون عىل نحو خمالف اعتبار «النَّابت» كائن ًا فاسد ًا َّ حتوله بالنسبة السلف إىل مستوى «املثال» فهي ّ والقداسة إذ ترفعان َّ
أن «النَّابت» كائنملقتضيات الوجود املدين الفاضل ،وهو ما يعني َّ حتوله مرجع ًا إىل اخللف مرجع ًا للحق ،حيث اليقني الراسخ ،كام ّ
يرتصد وجود املدينة الفاضلة َّ يوجد بكيف َّية تستحيل إىل خطر ختص الصورة النَّمطية التي ُّأن هذه ُّ قيمي ًا حيث اخلري األعظم .بيد َّ
بتصور ابن باجة ألفينا حتديده ُّ ويتهدَّ دها ،12أ َّما إذا ما استأنسنا السلف باعتباره نموذج ًا ومرجع ًا تستوجب مقاربة تأويل َّية وضع َّ
«للمتوحد»،
ّ تصوره
ُّ ملعنى «النَّابت» يستمدُّ رشوط إمكانه من متكِّن من استيعاب هذا الوضع املخصوص واملتميز وفهمه،
ال يف جمتمع فاسد ،وذلك نظر ًا إىل بحيث يكون «النَّابت»كائن ًا فاض ً جيسد وضع ًا اختالف َّي ًا يكون الغياب فالسلف من جهة الكينونة ّ َّ
الكيف َّية املتميزة يف الوجود التي يكون عليها هذا «النَّابت» ،والتي ً ً َّ
بمقتضاه حضورا ،فيصبح بذلك دال من غري ظهور ومؤثرا يف ً
تكون عىل جهة التدبري والنَّظر العقليني ،وهو شأن الفيلسوف.13 اخللف تأثري ًا بالغ الوقع رغم الغياب مادامت كينونته قدَّ ت من
«أثر» ،11وشأن األثر أن يكون عص َّي ًا عىل الوضوح والتم ُّيز ،ألنَّه
هبذا املعنى يفيد «النَّابت» من حيث الداللة الكائن الذي يتموضع يف منطقة تصل احلضور بالغياب ،فاألثر حضور لكائن
جيسد كيف َّية خمتلفة ومتميزة يف الوجود سواء اعتربنا هذا الكائن
ّ غائب ،فال هو غياب تام وال هو حضور ّبي ،األمر الذي جيعل
ال من منظور فاسد ًا من منظور مدين فاضل أو اعتربناه فاض ً االلتباس والغموض خاصيته األساس َّية ،عىل نحو يستحيل معه
بالسلف صورة «املتوحد» ،وبناء عليه يكون اخللف يف ارتباطه َّ
ّ إىل كائن ـ أثر حيوز بفعل االقتداء كثافة أنطولوج َّية جتعله كائن ًا
تدل عىل كائن «نابت» متميز يف كيف َّية وجودهوكيان ًا ظاهرة ُّ تتحول فيه صورة السلف النموذج َّية دائم احلضور إىل احلدّ الذي َّ
وخمتلف يف تواجده .وبرصف النَّظر عن موقف احلسم املنترص
14
إىل «أيقونة» تكون عالمة عىل يقني راسخ وحق مكني ،فنحصل
حتوله إىل مثل أعىل من جهة بذلك عىل صورة نموذج َّية للاميض ّ
12ـ انظر :أبو نرص الفارايب ،كتاب السياسة املدنيَّة ،دار سرياس للنرش ،تونس رمزيته وقداسته ومرجعيته بالنسبة إىل احلارض ،األمر الذي جيعله
1994ص.98
الصائغ بن باجة ،تدبري املتو ّحد ،دار سرياس للنرش ،تونس
13ـ انظر :أبو بكر بن َّ 11ـ فيام يتعلّق بعبارة لفيناس ،انظر مقال:
،2009ص. 19/18 »« Etre en tant que laisser une trace
14ـ وليس ّ
أدل عىل ذلك من التواجد الراهن للجامعة/الفرقة ذات املنزع -Strasser (stéphan), Le concept de « Phénomène » chez Lévinas
السلفي فكرة وواقعاً برشياً يف مجتمعات ذات طبيعة مدن َّية من حيث كيف َّية
َّ et son importance pour la philosophie religieuse, in Revue
الوجود وما يرتتب عىل ذلك من تباين يف املواقف التقييميَّة ،فمن منظور philosophique de louvain,Quatrième série, Tome 76 n 31,1978,
تجسد كائناً نابتاً ُّ
تدل كيف َّية وجوده عىل «الفساد» مدين ت ُع ّد السلف َّية ظاهرة ّ p.329.
التام لنفوذ املحدّ ث بتوسله ما أمكن له من الوسائل باسم احلق يتأول معنى
تؤسس لفهم َّ هلذه الرؤية أو تلك َّ
فإن املقاربة التأويل َّية ّ
السلفي يف اإلسالم واألخالق .وبمقتىض ذلك أضحى املنزع َّ هذه الظاهرة أنطولوجي ًا من جهة اعتبارها داالً عىل كائن «نابت»
جيسد فلسفي ًا العالقة بني احلق والسلطان .ولكنَّه ال ظاهرة دين َّية ّ جيسد كيفية وجود فريدة وخمتلفة جتعله ظاهرة.15 ّ
السلفي إىل ظاهرة إال من خالل حتول املنزع َّ يتسنى لنا أن نشهد ُّ
امتداد اجتامعي وجغرايف ،حيث التشكُّل البرشي ضمن إطار تح ُّول الكيان إلى ظاهرة
السلفية بجميع مظاهرها إال كيف َّية من كيفيات مجاعة أو فرقة ،وما َّ جسد إن تشكّل صورة اإلسالم عقيدة وسياسة تارخي َّي ًا قد ّ َّ
أن تلك الكيف َّيةاملجسد هلذا املنزع اجتامعي ًا وجغرافي ًا ،عىل َّّ الوجود وضع ًا فارق ًا ومتميز ًا لإلسالم ضمن سياق مسار التاريخ
ال عن كوهنا تتعلق بتأويل ما السلف فض ً ال تستويف داللة سلف َّية َّ واحلضارة ،سواء من جهة سريورة تشكّل النّص املرجعي
تصور اخللف وعن طبيعة متثله لداللة تلك يعب عن ُّ السلف ّ لفكرة َّ للعقيدة الذي انتهى إىل رضورة التوحيد من خالل املصحف
الفكرة وما يرتتب عن ذلك عملي ًا من استحالة املنزع السلفي إىل اإلمام أو من خالل تدوين السرية متهيد ًا لتأسيس ُ
السنّة أو من
فإن مقاربتنا الفلسف َّية تتميز بخصوص َّية التعامل ظاهرة ،ولذلك َّ جهة سريورة اخلالفة عىل امتداد التاريخ إىل حدود ال ّلحظة التي
مع «الظاهرة» ،وذلك من جهة اعتبارها «ظهور ًا» لكائن ما عىل متاهت فيها العقيدة بالسياسة إىل احلدّ الذي أضحت معه عقيدة
أن الكائن ال يكون إال بام يظهر ،وهو ما معي ،عىل أساس َّ نحو َّ النَّاس تُضبط بقرار سيايس ،16األمر الذي جيعل من هذا التجسيد
أن الظاهرة ال تكون فقط يف ما يظهر بل يف ما به يوجد هذا يعني َّ تأسيس ًا لتاريخ ورس ًام لقدر ،والذي ضمنه نشهد بداية تشكّل
أن الكائن ال حيوز قيمة الوجود بالنسبة الكائن بالنسبة إلينا ،كام لو َّ «السلف»من جهة اعتباره مرجع ًا للحق ومرجع ًا للخري صورة َّ
إلينا إال بام هو ظاهرة .17ومن هذا املنطلق تكون الظاهرة جتسيد ًا نتبيالسياق الذي َّ األعظم بالنسبة إىل اخللف ،كام نشهد تشكل ّ
لكائن يظهر عىل نحو ما ،ممَّا جيعلها حتوز وضع ًا وقيمة أنطولوج َّية السلفي ،األمر الذي جيعل من هذه النشأة حدث ًا ضمنه نشأة املنزع َّ
بالنسبة إلينا ،ذلك ما يعلل رضورة التزام املقاربة النَّظر َّية باألفق ومؤسس ًا لقدر .من هذا املنطلق يمكن اعتبار املنزعّ فاحت ًا لتاريخ
تتأسس عىل استيعاب مهمة الفهم التي َّ األنطولوجي ضمن إطار َّ السلفي حدث ًا من جهة تأسيسه لتاريخ التحالف بني السيايس َّ
مؤسس ًاهلذا الكائن املنكشف أو الظاهر وفق كيفية ما استيعاب ًا ّ والعقدي حتالف ًا ُيفرض فيه العقدي سياسي ًا و ُيرشع فيه السيايس
للمعنى. عقدي ًا ،ولكن أيض ًا من جهة رسمها لقدر تكون فيه سيطرة
النقل عىل العقل بإسناد سيايس وبتأييد منه ،كام يكون فيه البسط
كل سعي إىل فهم هذه الظاهرة، السابق إىل القلب يف ّ
إذا كان َّ
الرغبة يف االستئناس باملقاربات ذات الطبيعة املعرف َّية عىل يرتصد وحدته ،يف حني أنَّه من
الذي يتهدَّد مدن َّية االجتامع وعىل الخطر الذي َّ
ال عناختالف ألواهنا العتقادنا يف قدرهتا التفسري َّية نظري ًا فض ً مجسدة للوجود الفاضل يف مجتمع فاسد
منظور»الجامعة» تكون هذه الظاهرة َّ
الصدر أن تكون فإن الذي يرضب يف َّ مستطاع نتائجها عملي ًاَّ ، ج َّراء كيف َّية تواجده.
تنزل هذه الظاهرة منزلة املوضوع حتت مجيع هذه املقاربات التي َّ 15ـ إ َّن أهميَّة هذه املقاربة تكمن أساساً يف التنبيه عىل أ َّن االختالف ليس
رش َطي الزمان واملكان ،عاجزة عن أن تدرك من حقيقة الكائن عرضياً ،بل إنَّه اختالف أنطولوجي ،مادام األمر يتعلق برصاع وجود يتخذ شكل
تظل تلكجتسده هذه الظاهرة غري بعض من داللته ،ولذلك ُّ الذي ّ كل اإلمكانيات .وقد يكون
«حرب إرادات» غري مأمونة العواقب قد تُستنفد فيها ُّ
املقاربات مستوفية لرشوطها املعرف َّية غري وافية بحقيقة الكائن. من الغباء النظري أو السيايس متثل هذا الرصاع عىل غري هذه األرض َّية وضمن
من أجل ذلك ال نرى وجاهة إال يف مقاربة تتمثل الظاهرة بناء عىل أفق مغاير.
جتسده ،بحيث ال يتعلق األمر يف تقديرنا خصوص َّية الكائن الذي ّ نص االعتقاد القادري الذي نُسب إىل الخليفة الع ّبايس القادر
16ـ انظر مضمون ّ
هبم تفسريي لظاهرة-موضوع ،بل يتع ّلق بمطلب فهم ملعنى كيان ّ باللّه ،أورده الحافظ ابن الجوزي يف تاريخه «املنتظم يف تاريخ امللوك واألمم»
كل مقاربة ذات متفرد يف كيف َّية تواجده ،األمر الذي جيعل من ّ ّ دراسة وتحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا ،راجعه
وص َّححه نعيم زرزور ،دار الكتب العلميَّة ،بريوت -لبنان ،حوادث سنة 433هـ،
17ـ انظر مقال ( Strasser (stéphanاملذكور سالفاً. الجزء 15ص.282/281/280/279
الصورة املحاكية للمرجع، السلف حممل ُّ واملثال يقيض بحمل َّ وال اتفاق عىل الفرتة التارخي َّية ،األمر الذي يؤكّد هشاشة صورة
السلف أن حيوز وضع النَّموذج خللفه ،ما مل بل إنَّه ليس بإمكان َّ السلف يف مشهور الرأي من جهة وهن أسسها ومرتكزاهتا ،كام َّ
يكن متش ّبه ًا بذلك املرجع عىل نحو جيعله صورته ،وههنا وجب السد .واجلدير
20 ً
يقيض باعتبارها إنشاء رصفا ال وجود هلا إال يف َّ
الصور :صور حماكية للمرجع ومتش ّبهة به، التمييز بني رضبني من ُّ نتبي التهافت يف مستوىتتعمق حني َّأن تلك اهلشاشة َّ باملالحظة َّ
السداد وأخرى متش ّبهة باملثال وحماكية له .وحتى نُجري أمرنا عىل َّ مقوماهتا إىل
الصورة عىل هشاشة ّ بالسلف من وضع ُّ االنتقال َّ
كان لزام ًا علينا أن نُخضع ُّ
الصور إىل تراتب َّية تفاضل َّية ،إذ ليست وضع الكيان أو الوجود الفعيل.
املتش ّبهة باملرجع واملحاكية له كتلك املتش ّبهة باملثال ،فهناك اختالف
يف الطبيعة وفارق يف الدرجة والقيمة بينهام ،وعليه سوف نعمد إىل فإنا
السلف املثالية حمض إمكان إنشائيَّ ، أن صورة َّ رغم َّ
الصور األوىل «أيقونات» واعتبار التي دوهنا درجة وقيمة اعتبار ُّ تكتسب كثافة أنطولوج َّية بمقتىض اعتقاد اخللف فيها ،فتستحيل
«نسخ ًا» .وبناء عىل هذا االعتبار يمكننا القضاء بكون األيقونات كل خالف متعي ال ريب فيه ،بل وموضع إمجاع بمنأى عن ّ إىل كيان ّ
الصورأن ُّ (السلف) نسخ ًا أصيلة الرتباطها باملرجع ،يف حني َّ َّ الصورةبالسلف من جمال ُّ وخارج دائرة التظنُّن ،فيكون االنتقال َّ
(اخللف) نسخ ًا عن النسخ أو نسخ ًا من الدرجة الثانية ،فإذا كانت السديات أو إىل واقع الكيان بضامنات االعتقاد وضمن سياق َّ
كل الصور شبيهة بالشبيه ،ويف ّ األيقونات شبيهة باملرجع َّ
فإن ُّ أن االعتقاد هو الفعل الذي املرو َّيات التارخي َّية ،وذلك عىل أساس َّ
ألن ذلك من شأنه احلاالت ال يمكن محل عالقة الشبه عىل املطابقةَّ ، من شأنه أن يؤ ّمن العالقة التي تربط الصورة بالكائن ،وتربط
أن حيول دون التمييز بني املرجع واملثال ،وهو أمر خمالف ملقتضيات الصورة ،ويف املقابل املحايث باملتعايل ،فيكون الكائن شاهد ًا عىل ُّ
ثم
اإليامن .ولكنَّه رغم االختالف بني األصل والشبيه من جهةَّ ، تكون هذه األخرية رشط إمكان ما هو كائن وحمايث ،ولذلك ال
فإن اخللف ينزع االختالف بني الشبيه واملتش ّبه به من جهة أخرىَّ ، يؤسس السياق العقدي الذي ّ يتسنَّى لنا فهم هذا الوضع خارج ّ
إىل االعتقاد يف كون التش ُّبه باملثال جيعله مطابق ًا يف اعتقاده وسلوكه الصورة إىل الكائن الذي جيمع بني الزمن َّية من هلذا االنتقال من ُّ
ال للحق عقيدة وسلوك ًا، ترشع له أن يكون ممث ًللمرجع مطابقة ّ واللزمنية من حيث حيث النشأة أي من حيث رشوطه التارخييةَّ ،
وألن األمر يتع ّلق باعتقاد يف صورة إنشائ َّية ال إمجاع بشأهنا إال
َّ االستمرار يف احلضور .تلك هي حقيقة هذا الكائن الذي تشكَّلت
ِ
داخل م ّلة أو نحلة أو فرقة أو مجاعة ،...ترتَّب عىل ذلك تشكُّل صورته املثال َّية إنشائي ًا ورسد َّي ًا ،والتي أضحت بمقتىض االعتقاد
وتنوعها واختالفها بناء عىل اختالف طبيعة الفرق أو اجلامعات ُّ واقع ًا فعلي ًا ،كام ستصبح بفعل «االقتداء» يقين ًا راسخ ًا.
السلف ،وهو رضب من التأويل الذي ال متثلها وإنشائها لصورة َّ
السلطة التي تدعمه وجتعله واقع ًا
فضل فيه عىل غريه إال بمقدار ُّ السلف بمقتضاها وضع يؤسس فعل االقتداء عالقة حيوز َّ
أن ّ
فعلي ًا ،بل وجتعله املمثل الوحيد والرشعي للحق عقيدة وسلوك ًا. املثال/القدوة عقيدة وسلوك ًا ،ويضطلع فيها اخللف بمهمة
وألن األمر يتع ّلق بتمثل قائم عىل اإلنشاء والتأويل فإنَّنا بذلك
َّ السلف
االستيعاب واملحاكاة ،فذلك من شأنه أن جيعل من َّ
كل نغادر دائرة الرضورة لننخرط يف جمال املمكن املفتوح عىل ّ نموذج ًا ،وجيعل من اخللف صورته عىل جهة التش ُّبه الذي جيري
اإلمكانيات ،وذلك ما يع ّلل سعي ّ
كل منزع (فرقة ،مجاعة )...إىل أن التمييز الذي أجريناه بني املرجع يف معتقده كتطابق ،بيد َّ
السبل ،بام يف ذلك
متوسلة يف ذلك مجيع ُّ
حتويل تأويلها إىل واقعّ ،
سبيل العنف سواء بالنسبة إىل من خيالفها االعتقاد أو من خيالفها التاريخ َّية لتواجدهم .وحتى ما تواتر من حديث يقيض مضمونه بأ َّن «خري الناس
وإن العنف يف هذا السياق الذي نحن فيه ليس ممارسة التأويلَّ ، قرين والذين يلونهم».فإنّه ال يزيد األمر غري الغموض .انظر يف هذا السياق كتاب
جمرد وسيلة أو غاية ،ألنَّه اقتضاء مرتبط
عرض َّية وال يمكن اعتباره َّ اإلصابة يف متييز الصحابة للعسقالين ،املجلّد األ ّول ،الجزء األ ّول والثاين ،الفصل
ً21
يتجسد يف حرب إرادات عمليا . َّ برصاع تأويالت نظري ًا، الثالث يف بيان حال الصحابة من العدالة ،دار نهضة مرص للطبع والنرش 1970
ص.8
21ـ سنعمد يف مقال الحق إىل تفصيل القول يف العالقة بني رصاع التأويالت 20ـ فيام يتعلّق بهشاشة مفهوم الصحبة ومراجعتها نقدياً ،انظر حياة عاممو،
وحرب اإلرادات. أصحاب مح َّمد ودورهم يف نشأة اإلسالم ،دارالجنوب ،تونس .1996
خاتمة
يتعي أساس ًا يف االعتبار
فإن ما يمكننا أن نخلص إليه َّ وباجلملة َّ
السلف حمض إنشاء يندرج ضمن دائرة بأن صورة َّ القايض َّ
اإلمكان حيث جمال ال ّظن َّيات ،وذلك بالنظر إىل غياب اإلمجاع
عىل األشخاص وعىل رمزيتهم أو قداستهم وانعدام االتفاق بشأن
وأن االنتقال بتلك الصورة من ال ّلحظة التارخي َّية لتواجدهمَّ ،
جمال اإلنشاء إىل جمال الواقع الفعيل انتقال رسدي يرفع االعتقا ُد
بالسلف عىل ال عن كون العالقة التي تربط اخللف َّ قواعده .فض ً
والشبه عىل جهة االقتداء قائمة عىل خلط والتباس بني املطابقة َّ
أساس االعتقاد يف إمكان َّية محل عالقة التش ُّبه عىل معنى املطابقة
التّامة ،وما يرتتَّب عن ذلك من تأسيس لرضب من الرشع َّية بناء
عىل ذلك اخللط وااللتباس الذي من شأنه أن يع ّلل تشكُّل الفرق
التفرع واالنقسام قائمة عىل
ال ال متناهية يف ُّ ال ونِح ً
واجلامعات ِمل ً
وثوق َّية يف مستوى العقيدة ،وثوق َّية من شأهنا أن جتعل من العنف
بجميع أشكاله إمكان ًا من بني ممكنات التواصل بينها سواء يف
اللدين َّية أويف مستوى عالقة مستوى عالقة الفرق باجلامعات َّ
الفرق بعضها ببعض ،أو أيض ًا يف مستوى عالقة األفراد بعضهم
ببعض من داخل الفرقة الواحدة ،ذلك ما جيعلنا ننتهي إىل اإلقرار
السلف حتوز وضع ًا مفارقي ًا باعتبارها فاقدة لألساس بأن صورة ََّّ
يتجل يف ظاهرة من جهة أخرى ،هذا ومؤسسة لكيان ّ ّ من جهة،
الوضع املفارقي من شأنه أن يع ّلل العالقة بني الدغامئ َّية يف مستوى
االعتقاد والعنف يف مستوى املامرسة.
توفيق فائزي*
َّ
والتذكر عند فرجينيا وولف .1الزمن في عالقته بالتفكير َّ
ملخص:
الروائيني الزمن موضوع ًا من موضوعات كالمهم جعل بعض ُّ يوجد أكثر من نوع من الزمن .عىل األقل يوجد زمن الساعة
ٍ
بنظر شبيه بنظر الفالسفة ،ولكن دائ ًام تكون حياة ٍ مستق ً
ال املوضوعي ،وهو الزمن الكرونولوجي ،ويوجد زمن النفس
الشخصيات وسيط ًا لبيان ما ُّ
خيتص به .ونأخذ عىل سبيل املثال ما التي تكابده .وليس زمن النفس وهي تتذكر كزمنها وهي تفكر،
صادفناه من قراءة رواية لفرجينيا وولف بعنوان أورالندو ،وهي إن كان للتفكري زمن .مفكِّر مثل بريغسون هو الذي جعل قسط ًا
شخصية ستجعلها الكاتبة بخياهلا تعيش ثالثة قرون .تستطرد وافر ًا من فلسفته للتمييز بني الزمن املوضوعي والزمن النفيس،
فرجينيا وولف يف جزء من الفصل الثاين من روايتها هذه للكالم أن الزمن األول ك َِّمي ،والزمن الثاين كيفي .وكيفية الزمن معترب ًا َّ
عن نمط الزمن النفيس الذي هو زمن تفكر شخصيتها الرئيسة الثاين جتعله يدخل يف عالقة غريبة مع الزمن األول ،فيكون ما
يف الرواية .وذلك حني بلغت الثالثني عام ًا من عمرها ،وبعد أن ترسمه عقارب الساعة املوضوعية غري الذي ترسمه عقارب
الشعر ،تنسحب من احلب ومن ِّ
ِّ يئست من النساء والشعراء ،من وإن الذي جيعل للنفس الساعة يف النفس ،فال تقع املطابقة بينهامَّ .
األحداث خارج نفسها أحيان ًا ،فتستبدل بزمن الفعل زمن التفكري مقاييسها الزمنية هو األحداث النفسية التي تعيشها (تذكُّر ًا أو
والتذكُّر. تفكُّر ًا) التي متأل ساحتها فيطول الزمن أو يقرص؛ فأحيان ًا تصل
بأن الزمن قد توقف ،وأحيان ًا أخرى بأنَّه النفس إىل اإلحساس َّ
أن للزمن عىل اإلنسان أثر ًا غري الذي له عىل باقي
يبي الراوي َّ
ِّ يرسع بام ال مزيد عليه.
إن للنفس اإلنسانية عىل الزمن أثراًالكائنات .أو لنقل كام قال َّ
النفس،َ ينتج عنه تغري صورته كل َّية .1وبمجرد أن يسكن الزم ُن سنسعى يف ما سيأيت إىل املقارنة بني رؤيتني للزمن النفيس يف
َّ
وتتضخم وبمجرد االنسحاب إىل داخل النفس تتغري طبيعة الزمن عالقته بالزمن املوضوعي .رؤية للروائية اإلنجليزية فرجينيا
الثواين ،ويتضاعف الزمن أضعاف ًا مضاعفة ،وتدوم ساعة النفس نص هلا يف روايتها بعنوان :أورالندو تضمنه ٌّ
وولف من خالل ما َّ
عف .وتصري أكثر من زمن الساعة اجلدارية مخسني أو مائة ِض ٍ ( ،)Orlandoورؤية للفيلسوفة األملانية حنَّا أرندت من خالل
ثانية خارج النفس كام تشري إليها الساعة اجلدارية ،ساعة كام تضمنه فصل من فصول اجلزء األول من كتاهبا :حياة العقل َّ ما
تشري إليها الساعة يف الرأس .2ولكن ما الذي يدور يف الرأس؟ ( ، )The life of the mindوهو بعنوان التفكري .سنسعى أوالً
يفكر أورالندو ويتساءل عن احلب وعن الصداقة وعن احلقيقة. تصور أرندت ،وثالث ًا
تصور فرجينيا ،وثاني ًا إىل عرض ُّإىل عرض ُّ
املخصص للتفكري؛ فيمأله بعد َّ ويرسع املايض كله لذلك الزمن التصورين ،وهو اجلواب عن تساؤل ُّ إىل استخراج الفروق بني
لتغي من حجمها وتصلح الستقبال امتداد أن تتمدَّ د اللحظات ِّ بكل من كل منهام للزمن يف عالقته ٍّ تساءلناه عن الفرق بني تصور ٍّ
التذكر والتفكري.
1 - Woolf Virginia, Orlando, Traduction de Catherine Pappo-
Musard, Librairie Générale Française, 1993, p. 98.
2 - Ibid, p. 98. * باحث من املغرب
النفس تذكُّر ًا أو تفكُّر ًا ،ويتمدَّ د أو يتقلص تبع ًا لكثافتهام أو املايض .3ولطلب اجلواب عن تلك األسئلة ُت َّصص األشهر
ختلخلهام .وهذا هو السبب الذي يميز الزمن الكرونولوجي واألعوام قياس ًا بوحدة الزمن النفيس .وال جيد الراوي مبالغة يف
الذي ُيقاس ك ّ ًَم عن الزمن النفيس الذي هو زمن كيفي .ولكيفيته القول َّ
إن أورالندو كان يف س ِّن الثالثني حينام تناول فطوره وخرج
قد يتكاثف ما يتضمنه من الفكر فتزن الثانية من الزمن النفيس ما ليستقر حتت شجرة البلوط ليفكر ويتذكر ،وصار حيمل عىل كاهله َّ
يزنه الدهر من الزمن املوضوعي. ُّ
ما ال يقل عن مخس ومخسني سنة حني عاد إىل منزله لتناول وجبة
العشاء يف اليوم الواحد .4وبضعة أسابيع كانت تضيف قرن ًا من
.2التفكير والزمن عند ح َّنا أرندت الزمن النفيس لعمره أحيان ًا ،وأحيان ًا ال تضيف أكثر من ثالث
أن الذي لدى حنَّا أرندت مدخل آخر للنظر يف املسألة .ونذكر َّ أن الزمن النفيس الذي هو زمن التفكري والتذكر ثوان .ورغم َّ
كان يعنيها هو التفكري ذاته يف عالقته بالزمن .خيتلف السياق ،فإذا يتجول وحيد ًا يف صحارى األبدية
َّ يتَّسع حتى يبدو َّ
أن اإلنسان
كانت فرجينيا وولف قد وضعت نتائج رؤيتها يف رواية؛ َّ
فإن حنَّا َّ
ليفك رموز ما حتتويه الرقوق يقص فال يكفيالشاسعة ،فإنَّه ُ ُ
أرندت ستضع ذلك يف كتاب ينتمي إىل جنس آخر من الكتابة، املغطاة باحلوايش والتعليقات التي لفتها بإحكام ثالثون عام ًا من
وهو جنس الكتابة الفلسفية ،يف كتاب هلا بعنوان حياة العقل، العيش بني الرجال والنساء يف قلبه ورأسه.5
خصصت اجلزء األول ملوضوع وهو كتاب يف ثالثة أجزاء .وقد َّ
التفكري .يغلب النظر الفلسفي يف املوضوع .ولكن تنطلق حنَّا ال يكفي ذلك الزمن أيض ًا للجواب عن األسئلة التي سأهلا.
نصها أرندت ملعرفة معنى التفكري من متثيالت قصصية ،فينفتح ُّ ويف الزمن الذي أورقت فيه شجرة البلوط ونثرت أوراقها عىل
جمرد ًا
أن التفكري لكونه َّ والقصة .وهي ذاهتا اعرتفت َّ
َّ عىل األدب للمرة الثانية عرشة ،لنقل ملدة اثنتي عرشة سنة؛ كان
َّ الرتاب
حيتاج ملعرفته إىل التمثيالت . أورالندو أبعد ما يكون عن االنتهاء إىل جواب عن سؤال احلب .
6
إن الزمن النفيس رغم امتداده وطوله ال يكفي وال يفي بغرض َّ
يفرتق عيش اإلنسان املنغمس يف انشغاالته اليومية (الزمن) ما يتطلبه التفكري والتذكر .ذلك َّ
أن األفكار والذكريات تتزاحم
عن عيش اإلنسان املفكر له .فاإلنسان اليومي يوجد داخل وتتنازع فيام بينها لتصري َّ
حمل االنشغال ،ممَّا يسبب استطرادات
ت َّيار الزمن الذي جيرفه .ولكن حني أفكر هل أكون داخله؟ هل ال يف متاهات التفكري .والذي كان جيعل التفكري بال هناية ،وتوغ ً
أكون؟ وأين أكون؟ ومتى؟ تتغري عالقة اإلنسان بالزمن حني يبدأ ال هو أيض ًا تعاظم املعنى الذي اختري للتفكري فيه بغريه ممَّا
طوي ً
بحث عن طبيعة تلك العالقة.التفكري .وسعي حنَّا أرندت هو ٌ يستدعيه ويرتبط به؛ من متثيل باللوحات والعطور واألصوات.
أن موضوعات تفكريه التي حياول طردها من وجيد أورالندو َّ
لتفس لنا اإلنسان وهو تنطلق حنَّا أرندت من قصة لكافكا ِّ ذهنه قد َث ُقل محلها بام التصق هبا من موضوعات أخرى .
7
يتجذر يفَّ هل يكون التفكري بذلك منتمي ًا إىل الزمن؟ لنقل إنَّه اخلصمني .8هذه األنا هي أنا التفكري التي تقع خارج الزمن ،ال
أن هذا احلارض احلارض املحصور بني قويت املايض واملستقبل .إال َّ عمر هلا وال مكان هلا وال تكون .يقول فالريي ( : )Valeryأحيان ًا
كل مكان أمواجه، ال زمن له ،وإن كان يضايقه الزمن وتتقاذفه من ِّ أفكر وأحيان ًا أكون .تتساءل أرندت :أليس حلم كافكا حلم
وهو يف فجوة منه .ومتثل أرندت ذلك بعني هي يف عاصفة ،رغم َّأنا حلم بمكان خارج امليتافزيقا الغربية« :من بارمنيدس إىل هيجلٌ ،
منفصلة عنها .وتقول« :يف هذه الفجوة بني املايض واملستقبل نجد الزمن ،وبحضور أبدي يف سكون تام ،يف الضفة األخرى املقابلة
مكاننا يف الزمن حني نفكر ،أي حينام نتوىل إىل اخللف بصورة كافية للساعات والتقاويم ( )Calendarsالبرشية ،وبالتحديد ،منطقة
بعيد ًا عن املايض واملستقبل لنرى أنفسنا حاملني ملسؤولية اكتشاف التفكري ذاته؟».9
وقاض يف شؤون الوجود ٍ معنييهام ،واالضطالع بدور «حكم»
نفك ألغازها هنائي ًا ،ولكنّنا دائ ًام
اإلنساين التي ال تنتهي ،دون أن َّ ُغي من الصورة التي اقرتحها كافكا ،مستدركة أن أرندت ت ِّ إال َّ
كل هذا؟» .
13 مستعدُّ ون حلمل أجوبة جديدة لسؤال معرفة ماذا يعني ُّ عليه ،وتقرتح تصورها هي لعالقة التفكري بالزمن ،فتجعل
التفكري منتمي ًا إىل العامل .ترى أرندت أنَّه ال داعي ألن َّ
تفر األنا
إن له زمن ًا
إن التفكري يكون خارج الزمن أو َّ باختصار نقول َّ بعيد ًا عن حلبة الرصاع ،فداخلها جتد األنا املفكرة مكان ًا للراحة
إن له مكان ًا خاص ًا.
إن التفكري يكون خارج املكان أو َّ
خاص ًا ،لنقل َّ من الن ََّصبُ .تكِّن حنَّا أرندت لألنا املفكرة من أن جتعل هلا مكان ًا
املخصص لفعل التفكري.َّ وتلك هي الناحية اخلفية من َّ
الل زمن يف احلارض بني املايض وبني املستقبل؛ وهي الفجوة بينهام .وهذه
قوة قويت املايض واملستقبل؛ ممَّا ُينتج َّالفجوة التي هي نتاج التقاء َّ
.3الفرق بين الرؤيتين أخرى يمثلها خط مائل 10بني خطي املايض واحلارض ،وستكون
ونتساءل ما الفرق بني تصور فرجينيا وولف للزمن وتصور حنَّا الفجوة بينهام منطلق ًا للميض يف التفكري .تقول أرندت« :هذه
أرندت له؟ خيتلف املوقعان :موقع الروائي وموقع الفيلسوف. عرف مصدرها ،والتي حيدد القوة التي ُم ِّثلت باخلط املائل ،والتي ُي َ
َّ
الغلبة لالستعاري ولالستعارات والتشبيهات يف نص وولف، اجتاهها املايض واملستقبل ،ولكن تتحقق يف اجتاه نقطة غري حمددة،
والغلبة للمفهومي يف نص أرندت .ولكن يستعني نص أرندت كام لو َّأنا تستطيع إدراك الالهنائي؛ هذه القوة ،كام يبدو يل ،هي
بالقصص التمثيلية وينتهي إىل متثيل األفكار ،لنقل َّإنا متثيالت االستعارة الفضىل لفعل التفكري».11
نجرد منه أفكار ًا
مفهومية .وينتهي نص وولف إىل ما يمكن أن ِّ الالهنائي الالهنائي
فلسفية .يتنحى مفكر أرندت عن خطي املايض واملستقبل
ال أو لنقل خيرج من الطريق الذي يرسمه املايض ليتبع خط ًا مائ ً املستقبل اطراد التفكري
واملستقبل جانب ًا .ينسحب أورالندو من حومة األشغال اليومية الالهنائي
وينعزل حتت شجرة البلوط .ويبلغ أورالندو إىل مثل ما يبلغه املايض
احلارض
أن أورالندو مفكر أرندت وهو االنقطاع عن الزمن للتفكري .إال َّ
ال ينقطع هنائي ًا عنه فهو يف صلة بالزمن؛ أي أنَّه مل يبلغ يف جتريده (رسم حلنَّا أرندت يمثل طبيعة العالقة بني التفكري والزمن)12
جتريد زمن التفكري .ولذلك يتَّسع الزمن ويضيق .وما زالت
املقارنة ممكنة بني الزمنني :الزمن النفيس والزمن املوضوعي.
ختتف من العامل وما زالت ولذلك تكون «أنا» أورالندو ما زالت مل ِ 8 - Arendt Hannah, the Life of the Mind, New York, A Harvest
حتول تذكرها إىل تفكر تتالشى ارتباطاهتا تتجول فيه .وعىل قدر ُّ Book Harcourt, Inc, 1978, p.202.
بالعامل .خيتلط يف جتربة أورالندو التفكري والتذكر .ليس تفكرها 9 - Ibid, p.207.
جمرد ًا .ويصعب متييز حدود بينه وبني التذكر .وأجوبته عن 10ـ انظر الرسم يف األسفل.
11 - Arendt, op. cit, p.209
13 - Ibid, pp. 209 - 210. 12 - Ibid, p.208.
الئحة المراجع: أسئلة فكرية كسؤال احلب والصداقة واحلقيقة؛ أجوبة ال تتجرد
- Woolf Virginia, Orlando, Traduction de Cather- من استحضار الذكريات وجتارب املايض .ودائ ًام ُيربط اجلواب
ine Pappo-Musard, Librairie Générale Française, بالتجربة الذاتية وبحاالت متفردة عاشها الشخص يف املايض.
1993. ولذلك تُستحرض أماكن بعينها وأسامء ولوحات .وال ينقطع وهو
- Arendt Hannah, the Life of the Mind, New York, عم حييط به من أصوات وروائح وألوان وأشكال يفكر أو يتذكر َّ
A Harvest Book Harcourt, Inc, 1978. تع ُّن له يف العامل وتؤثر يف جمريات أحداثه الذهن َّية.
أن التفكري لدهيا تصور حنَّا أرندت خمتلف ًا هو َُّّ ما جيعل من
جمردة ال مكان هلا ،وال ختتلط هو تفكر حمض جيعل األنا املفكرة َّ
بشخص حيمل اس ًام ويتذكر ماضي ًا ينتمي إليه من التجارب
والذكريات املحسوسة ،ويعمل عىل أن يتخيل أمامه ما سيصنعه
يف مستقبله .عىل القارئ أن يشعر ،تقول أرندتَّ :
«إن األنا املفكر
ليس هو األنا الذي يظهر ويتنقل يف العامل ،مع ذكرى ماضيه
أن (ه) يف بحث عن الزمن الضائع ،14أو ُي ِّيئ البيوغرايف ،كام لو َّ
ألن األنا املفكر ال يوجد يف أي مكان ،وال مشاريعه املستقبليةَّ ،
فرغني ،إن جاز عمر له؛ بإمكان املايض واملستقبل أن يتجليا هلا ُم َ
وم َّررين ممَّا ُيمل عليهام من القول ،من مضموهنام املحسوسُ ،
أحكام املكان».15
إن زمن وولف هو زمن مل يتخلص لنقل ،إذن ،يف ختام قولناَّ :
بعدُ من العامل ،زمن يعيشه فرد من الناس .وما زال مايض هذا
الفرد ممتلئ ًا بالذكريات واألحاسيس والصور التي تستحرضها
أن هذا الفرد بدأ يتخلص من وطأة الذات يف حارضها .رغم َّ
الزمن بطلبه ماهيات املوضوعات التي جعلها للتساؤل والتفكري
كاحلب والصداقة واحلقيقة .وبدأ التفكري يف طريقه للخالص من ِّ
جربه بشكل حمسوس التذكر .ولكن ما زال يلتصق بطلبه ذاك ما َّ
خاصة من املايض .بدأ الزمن ُستحض أمثلة َّ َ يف حياته ،ولذلك ت
النفيس يدخل يف عالقة جديدة مع الزمن املوضوعي الذي ترسمه
الساعات اجلدارية والذي يبلغ أحيان ًا أن يتوقف .أ َّما التفكري عند
أرندت فيقوم يف ذات جمردة هي األنا املفكرة ،ال مكان هلا .ورغم
وأن احلارض منطلقه ،إال أن شؤون الوجود اإلنساين موضوعهَّ ، َّ
ال ثالث ًا خارج الزمن ،هو غري سبيل املايض وسبيل أنَّه يرسم سبي ً
املستقبل ،وهو بعيدٌ عنهام.
14ـ إشارة إىل رواية الكاتب الفرنيس مارسيل بروست ()Marcel Proust
15 -Arendt, Op.cit. p.206.
محادي ذويب*
والعقل والسمع مصدران للمعرفة لكن ليس هلام القدرة عىل يقوم منهج إبراهيم النَّ َّظام التأوييل عىل رفض ِّ
كل تفسري للقرآن
اإلدراك ،فهام طريقان ال أكثر وال أقل ،4أ َّما املعتزلة فالعقل خيالف منهجه العقيل يف التفسري ،وعىل البعد يف التأويل عن املعنى
كل معرفة ،وهو الذي يدرك ويعرف وإن اختذ عندهم هو أساس ّ تدل عليه األلفاظ بحسب عادة العرب يف تعبريهمَّ ،1
ولعل الذي ُّ
احلواس طريق ًا أو مصدر ًا للمعرفة .وبالفعل فاملعلومات عند أن النَّ َّظام يطالب برشح
هذا ما قصده أحد الباحثني حني ذكر َّ
النَّ ّظام رضبان :حمسوس وغري حمسوس ،واملحسوس منها أجسام القرآن رشح ًا حرف َّي ًا.2
واحلس عنده ال يقع إالُّ احلس.
ّ يصح العلم هبا إال من جهة
ُّ ال
عىل جسم ،واللون وال َّطعم والرائحة والصوت عنده أجسام، أن النَّ ّظام وإن آمن بأصل القرآن فإنَّه آمن أيض ًا بالعقل
واملالحظ َّ
وهلذا أدركت باحلواس يف رأيه ،وأ َّما غري املحسوس فرضبان أصالً .والوحي يف نظره ويف نظر املعتزلة ال يمكن إال أن يؤكّد ما
قديم وعرض ،وليس طريق العلم هبام اخلرب ،وإنَّام يعلامن بالقياس يصح أن يقع التناقض بينهام .وهذا ُّ وأقره وال
توصل إليه العقل َّ َّ
(العقيل طبع ًا) والنظر دون ّ
احلس واخلرب.5 ظاهري فحسب ،ويمكن تالفيه بالتأويل. ٌّ التناقض إن وجد فهو
ويف هذا السياق يقول اجلاحظ« :ولألمور حكامن :حكم ظاهر ويتأسس نقد النَّ ّظام لألخبار عىل خلف َّية نظر َّية رئيسة هي العقل
َّ
احلجة» .6
للحواس وحكم باطن للعقول ،والعقل هو َّ الذي قد يكون سلطانه عليه بلغ درجة اعتباره يمكن أن ينسخ
ألنا
األخبار .وهي فكرة غري مستغربة منه ،لكنَّنا نقدِّ مها باحرتاز َّ
وعىل أساس منزلة العقل هذه وقع حتكيمه يف نقد اخلرب سواء وردت عىل لسان خصم له هو ابن قتيبة الذي يقول« :فهذه أقاويل
اهتم النَّ ّظام بمصدر اخلرب
كان سند ًا أو متن ًا ،ففي مستوى السند َّ النَّ ّظام قد ب َّيناها وأجبناه عنها ،وله أقاويل يف أحاديث يدَّ عي عليها
صحته وينقده ،أ َّما عىل صعيد املتن فقد ليتث َّبت منه أو ّ
يشك يف َّ حجة العقل،
َّأنا مناقضة للكتاب وأحاديث يستبشعها من جهة َّ
رفض كثري ًا من األخبار التي ّ
يكذهبا العقل أو العيان أو التجربة، حجة العقل قد تنسخ األخبار.3»... أن جهة َّوذكر َّ
أو التي يف متوهنا غرابة ،أو التي يلوح منها تشبيه أو جتسيم أو
إثبات صفات اهلل. وإذن فاخلالف بني النَّ ّظام ،واملعتزلة عموم ًا ،وبني أهل ُّ
السنَّة
السنَّة يرون َّ
أن يرتكَّز عىل طرق كسب املعرفة أو مصدرها ،فأهل ُّ
مصدر املعرفة السمع والعقل ،فالسمع مصدر املعرفة الرشع َّية أي
- 4يقول الشهرستاين« :أ ّما السمع والعقل فقال أهل الس ّنة الواجبات كلّها األوامر والنواهي ،أ َّما إدراك وجود اهلل وصفاته والبحث يف مثل
بالسمع واملعارف كلّها بالعقل ،فالعقل ال يحسن وال يقبح وال يوجب والسمع هذه املسائل التي عليها مدار التوحيد فمصدرها العقل.
ال يعرف أي ال يوجد املعرفة بل يوجب ،وقال أهل العدل املعارف كلّها معقولة
بالعقل واجبة بنظر العقل ،وشكر املنعم واجب قبل ورود السمع ،والحسن * أكادميي من تونس
والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبح» ،امللل والنحل ،ص .53 - 1عادل الع ّوا ،املعتزلة والفكر الحر ،ص .193
- 5انظر البغدادي ،أصول الدين ،ص ص .141-140 - 2فؤاد سيزكني ،تاريخ الرتاث العريب ،املجلد .69-68 ،1
- 6الجاحظ ،الحيوان ،ص .207 - 3ابن قتيبة ،تأويل مختلف الحديث ،ص .50
كل عرص. معي بل هو مطلق يف ّ األ َّمة يف نظره غري حمدود بزمن َّ ومن جت ّليات نقد الن َّظام لرواة األخبار واملحدّ ثني قوله« :وكيف
وهذا يعني َّ
أن عرص الصحابة يمكن أن يقع فيه اإلمجاع عىل اخلطأ. يضطره خربه ومل يكن معه علمّ جييز السامع صدق املخرب إذا كان ال
يدل عىل صدق غيبه وال شاهد قياس يصدّ قه وكون الكذب غري ُّ
أن النَّ َّظام استند يف إنكاره مرشوع َّية ومن املفيد أن نشري إىل َّ مستحيل منه مع كثرة العلل التي يكذب النَّاس هلا ود َّقة حيلهم
القياس إىل العقل يف مقابل استناد بعض نفاة القياس إىل أد ّلة نقل َّية فيها ،ولو كان الصادق عند الناس ال يكذب ،واألمني والثقة ال
والسنَّة وإمجاع الصحابة أو إمجاع أهل البيت .9والواضح من القرآن ُّ والويف ال يغدر ،لطابت املعيشة ولسلموا من سوء العاقبة.ُّ ينسى،
أن العقل يقتيض أهم فكرة بنى عليها النَّ َّظام نفيه للقياس تتم َّثل يف َّ َّ
أن َّ وكيف نأمن كذب الصادق وخيانة األمني وقد ترى الفقيه يكذب
التسوية بني املتامثالت يف أحكامها واالختالف بني املختلفات يف يف احلديث ويد ّلس يف اإلسناد ويدَّ عي لقاء من مل يبلغه ومن غريب
أحكامها والشارع (الفقهاء) قد رأيناه َّفرق بني املتامثالت ومجع بني اخلرب ما مل يسمعه ثم ال يرى أن يرجع عن ذلك يف مرضه قبل أن
املختلفات ،وهو عىل خالف قض َّية العقل ،10وحتى يدعم النَّ َّظام تغرغر نفسه وقد أيقن باملوت وأشفى (أرشف) عىل حفرته بعد
أطروحته عاد إىل واقع الترشيع وذكر عدد ًا من األمثلة ملا مجع الشارع طول إرصاره والتمتُّع بالرياسة يف حياته وأكل أموال الناس به.
بينها يف احلكم وهي خمتلفة وملا َّفرق بينها وهي جمتمعة. أن الفقهاء واملحدّ ثني والرواة والصلحاء املرضيني يكذبونولوال َّ
يف األخبار ويغلطون يف اآلثار ملا تناقضت آثارهم وال تدافعت
واملستخلص من موقف النَّ َّظام اعتامده يف إنكار القياس عىل أخبارهم ،ولو وجب علينا تصديق املحدّ ث اليوم لظاهر عدالته
أن القياس ال ينسجمحجة منطق َّية عقل َّية يرى بموجبها َّ حجتنيَّ :
َّ لوجب علينا تصديق مثله وإن روى ضدَّ روايته وخالف خربه،
وحجة تارخي َّية تربز َّ
أن القياس مل يكن متواتر َّ مع معطيات العقل، وإذ ًا نحن قد وجب علينا تصديق املتناقض وتصحيح الفاسد،
االستخدام يف التاريخ اإلسالمي ولدى أعالم املسلمني وقادهتم خاص ًا يف بعض
ألن الغلط يف األخبار والكذب يف اآلثار مل نجده َّ َّ
الروحيني وهم الصحابة. دون بعض».7
وإنكاره للقياس هو يف هناية األمر رفض للمنظومة الفقه َّية، مهيته من جهة ولصعوبة النص عىل طوله أل ّ
لقد أوردنا هذا َّ
ذلك َّأنا ال تستند إىل العقل ،وتشتمل عىل أحكام ذات طابع أن املصدر الذي نقله غري االطالع عليه من جهة أخرى ،ذلك َّ
احلر والعبد مثالً ،وتعتمد ظاهر العبادات واملعامالت متييزي بني ّ منترش وغري معروف عموم ًا .وتعزى هذه األمه َّية إىل ما يبدو فيه
مقدّ مة إ َّياه عىل األخالق الفرد َّية من صدق وإخالص وإيامن. أن الكذب يف األخبار تارخيي جعل صاحبه يدرك َّّ حس نقديمن ٍّ
أن هذا اإلنكار رفض جلمود األحكام وعدم اعرتاف َّ
بأن كام َّ بالسلطة
تقف وراءه أسباب كثرية ذكر أبرزها؛ وهي التمتُّع ُّ
هذه األحكام البرش َّية أحكام إهل َّية كام يريد هلا الفقهاء أن تكون، جراء ذلك. والتقرب من احلكَّام وكسب املال من َّ
ُّ
ذلك أنَّه «برز يف املجتمعات اإلسالم َّية صنف من املسلمني اعترب
ال دون عا َّمة املؤمنني للترشيع باسم اهلل واعتربت األحكام مؤه ً
َّ وعندما ننظر يف موقف النَّ َّظام من اإلمجاع نالحظ أنَّه هنض َّأوالً
التي يصدرها رشيعة إهل َّية ال جيوز ر ُّدها .فكان الفقهاء واملفتون يؤصل هبا هذا املصدر الترشيعي عىل دحض األد ّلة النقل َّية التي ّ
والقضاة ينتصبون لبيان احلالل واحلرام وإصدار حكم اهلل يف حجة عقل َّية تتم ّثل يف اعتبار َّ
أن األ َّمة جيوز عادة .وقام ثاني ًا عىل َّ
تتكون من أفراد ،8وجتويز خطأ ألنا َّ عليها اخلطأ مثل الفرد متام ًاَّ ،
كل واحد منهم ملا كان إنساناً
أل َّن توهّم الخطأ ال ينعدم باالجتامع ،أال ترى أ َّن ّ
وكل واحد من القادرين حالة االنفراد ال
قبل االجتامع فبعد االجتامع هم ناسُّ ، النص رواه الجاحظ يف كتابه «األخبار» عن أستاذه النظَّام ،وقد وصلنا من خالل
- 7هذا ّ
يصري عاجزا ً بعد االجتامعُّ ،
وكل واحد من العميان عند االنفراد ال يصري باالجتامع أيب نشوان سعيد الحمريي ،رسالة الحور العني ،املصدر املذكور ،ص ص .285-284
وال تصري جملتهم أيضاً بهذه الصفة بعد االجتامع» .أصول الرسخيس.295/1 ، - 8يقول الرسخيس« :وقال النظَّام وقوم من اإلمام َّية ال يكون اإلجامع ح َّجة
- 9الغزايل ،املستصفى ،املصدر املذكور ،ص ص .289-288 كل فرد غري
موجبة للعلم بحال ألنَّه ليس فيه إال اجتامع األفراد ،وإذا كان قول ّ
- 10اآلمدي ،اإلحكام يف أصول األحكام ،املصدر املذكور.12-11/4 ، موجب للعلم لكونه غري معصوم عن الخطأ فكذلك أقاويلهم بعدما اجتمعوا،
وهذه النزعة العقل َّية التي سيطرت عىل النَّ َّظام ظهرت يف خمتلف املسائل املعروضة عليهم من أمور الدنيا والدين عىل
توصل إليها ،من ذلك اعتامده
منهجه الفكري ويف النتائج التي َّ السواء ،فأصبحوا بذلك يقومون بوظيفة كنس َّية غري معرتف هبا يف
الشك والتجربة .يقول اجلاحظ « :وقال أبو إسحاق :نازعت من ّ مستوى التنظري ومقبولة يف مستوى الواقع واملامرسة اليوم َّية».11
الشكّاك أبرص بجوهر الكالم فوجدت ُّ
ُ امللحدين الشاك واجلاحد
أقرب إليك من ُ من أصحاب اجلحود .وقال أبو إسحاق :الشاك ونرى من بني الباحثني املحدثني من استغرب من نقد النَّ َّظام
شك ومل ينتقل أحدٌ عن يقني قط حتى كان قبله ّ ِ
اجلاحد ومل يك ْن ٌ خاصة أنَّه معتزيل قوام مذهبه الستخدام العقل يف الرشع َّيات،
َّ
شك .وقال أبو حال ّ ٍ
اعتقاد إىل اعتقاد غريه حتّى يكون بينهام ُ النص كي يستقيم مع العقل.12
االعتداد بالعقل إىل حدّ تأويل ّ
ٍ
طبقة أي ِ إسحاق :إذا أردت أن ِ
تعرف مقدار الرجل العال ويف ِّ
الص َّح ُة هو وأردت أن ِ يفس يف نظرنا َبأ ّن النَّ َّظام مل ينتقد العقل بل انتقد َّ
الكور وتنفخ عليه ليظهر لك فيه َّ تدخله ولعل األمر ّ
الص َّحة والفساد فكن عامل ًا يف صورةمقداره من ّ
ُ من الفساد أو األحكام املرتتّبة عن استخدام الفقهاء للقياس .وهي أحكام ال
16 ِ
متع ِّلم ثم اسأله سؤال من يطمع يف بلوغ حاجته منه . » . تنسجم مع معطيات العقل ونظامه .13وإذن فإنَّه ينتقد َّ
اللمعقول ال
اللمعقول هو الذي يكمن عىل سبيل املثال يف إجياب العقل .وهذا َّ
كام نجده يقوم ببعض التجارب الختبار بعض املعتقدات قطع يد سارق القليل وعدم تطبيق هذا احلكم عىل غاصب الكثري.
التوصل إىل معرفة استجابة بعض الكائنات ،من ذلك ُّ الرائجة أو
مشاركته يف جتربة سقي اخلمر لبعض احليوانات ،وجتربة قذف وبناء عىل ما تقدَّ م وعىل خمتلف مواقف النَّ َّظام يمكن أن َّ
نقر
التطي
ُّ اجلمر أمام الظليم ،وهو نوع من النّعام ،وجتربة حول بأن رؤية هذا العامل املعتزيل ختضع أساس ًا للعقل ،وهذا مطمئنني َّ
الشك وهذه التجارب وشدّ ة ُّ استنتج منها بطالن الطرية ،17وهذا ليس غريب ًا عن املدرسة االعتزال َّية البرص َّية التي كانت مدرسة
غوصه عىل املعاين وروحه االنتقادية خترب أنَّه يتس َّلح بالعقل يف كل ما هو موجود مردود أن َّ
عقالن َّية؛ بمعنى َّأنا قد ذهبت إىل َّ
حماولة فهم قوانني الظواهر فه ًام عقل َّي ًا ال أسطور َّي ًا.18 أن النَّ َّظام
أن هذه النزعة العقل َّية ال تعني َّ
إىل مبادئ عقل َّية ،14غري َّ
يؤسسون نظامهم الفكري عىل استخدام العقل واملعتزلة عموم ًا ّ
تطرف ًا
هلذا ولغريه عدَّ بعض الباحثني النَّ َّظام أبعد املعتزلة ُّ نص ديني .
15 مستقل عن ّ
كل ٍّ ّ وحده بشكل
واستقالالً يف الرأي وأقرب مم ّثيل هذه الفرقة إىل الفلسفة .19وهذا
أناملوقف ال جيانب الصواب ،ألنَّه منذ القديم اعترب بعض العلامء َّ - 11عبد املجيد الرشيف ،حدود االجتهاد عند األصوليني والفقهاء ،املرجع املذكور،
النَّ َّظام من أشدِّ خصوم التقليد.20 ص .42وانظر املطابقة بني أحكام اإلنسان وأحكام الله يف هذا الخرب الذي ينقله
األستاذ الرشيف« :قال أبو حنيفة رحمه الله تعاىل :إذا كان اإلمام قد قال «من
أصاب شيئاً فهو له» فأصاب رجل جارية ال يطؤها ما كان يف دار الحرب .وقال
وجل .قال أبو يوسف :ما أعظم قول
األوزاعي له أن يطأها وهذا حالل من الله ع َّز َّ
- 16الجاحظ ،الحيوان ،املصدر املذكور.36/6 ، األوزاعي يف قوله «هذا حالل من الله» ،نقالً عن كتاب األم للشافعي.351/7 ،
- 17املصدر نفسه 83/2 ،و.139/3 - 12أحمد محمد صبحي ،يف علم الكالم ،املرجع املذكور ،ص .232
تعليال
- 18لذلك نراه يعلّل ما يرويه العرب من عزيف الج ّن وتغ ّول الغيالن ً - 13انظر ما يقوله صاحب فصل قياس بـ د.م.إ ،.املرجع املذكور ،ص .238
عقلياً ،املصدر نفسه.248/6 ، «Selon le Mu’tazilite al-Nazzam, le procédé du kiyas est loin de
- 19انظر قولد زيهر ،مذاهب التفسري اإلسالمي ،ص .182 toujours respecter le modèle rationnel».
- 20يقول الحمريي :وإنَّ ا ذكر الجاحظ وال َّنظّام أ ّن دين الناس بالتقليد ال بالنظر - 14انظر:
والبحث واالستدالل ،وقد ذ َّم الله يف كتابه املقلّدين .وقالت العلامء املقلّد مخطئ Joseph van Ess: Une lecture à rebours de l’histoire du Mu’tazilisme,
الحق بغري ح َّجة وال دليل مثل من
يف التقليد ولو أصاب الحق ،أل َّن من اعتقد َّ Les deux écoles: Basra et Baghdad.
اعتقد الباطل بغري ح َّجة وال دليل ،الحور العني ،املصدر املذكور ،ص .210 - 15راجع فصل معتزلة ( )Gimaretبـ د.م.إ .ط 2بالفرنسية ،املرجع املذكور ،ص .793
حنان درقاوي*
يشبه العهدة التي نعهد هبا إىل اآلخر .اآلخر الذي يمكننا من «قبل األديان تظهر احلاجة إىل اإليامن كحاجة فردية ،غري
كل السلبي الذي يتأسس امتالك قوة يف احلياة متجددة رغم ّ مؤسسة ،حاجة تقود اإلنسان العاقل إىل القول« :أومن ّ
أن» ،أو
عليه الوجود اإلنساين ،من حيث هو حداد عىل اإلقامة يف الرحم أن» ،أي أنّني أمسك احلقيقة ،ليست حقيقة رياضية أو«أعتقد ّ
وحداد عىل االنفصال عن جسد األمّ .إنا حياة متجددة يف أفق عيل ،تستغرقني والملموسة أو قابلة للعد لكنّها حقيقة تستحوذ ّ
الشعور الكوين الذي يتحدث عنه فرويد ،أي الشعور بالتوحد يمكنني إال أن أومن بصحتها» ،هكذا تبدأ جوليا كريستيفا كتاهبا
مع العامل ،منبع األمان والفرحّ .إنا عودة احلياة من خالل احلواس الشائق عن تلك احلاجة التي ال تصدق لإليامن .هذه احلاجة قبل
التي تستكشف العامل حتى قبل اللغة واللسان. دينية هي ما تسائله جوليا كريستيفا يف كتاهبا املذكور .كيف نفكر
يف وضعية الدين داخل جمتمعاتنا ما بعد احلداثية التي يتزامن فيها
هذا هو ما يؤثث اإليامن ،هذا التوحد مع العامل الذي ال يمكن التطرف الديني مع النزعات العدمية؟
لتعب عن
الشك فيه ،يبدو حقيقة مطلقة وال حتتاج إىل اللسان ّ
إن جتربة التصوفنفسها .أليس هذا مضمون التصوف الذي يقول ّ الكتاب هو عبارة عن حمارضات ألقتها الفيلسوفة واملحللة
إن تلك احلقيقة الداخلية تنتصب ضد حقيقة ال حتكى بل تعاش؟ ّ النفسانية يف مناسبات عدة ،ويتضمن أيض ًا جزء ًا من حواراهتا
الرمي خارج ًا :الرمي خارج الرحم ،الرمي خارج الوطن ،وهنا مع النارشة اإليطالية كارمن دونزييل .تلقي جوليا كريستيفا
تظهر قوة جوليا كريستيفا كوهنا مهاجرة ،تظهر قدرهتا عىل إعادة بحجر كبري يف بركة مدارس التحليل النفيس ويف تاريخ األفكار.
الوالدة يف لغة أخرى ،وطن آخر .هناك طاقة حيوية تقود الكائن ّإنا تسائل تاريخ النزعة اإلنسانية وتطرح سؤاالً حيرج الكثريين
إىل الوالدة املتجددة مراوغة القلق من املوت واالنتظار. الذين رأوا يف الدين عصاب ًا مجاعي ًا عىل إثر فرويد .جوليا كريستيفا
تتساءل ماذا لو كانت النزعة اإلنسانية امتداد ًا لألخالق املسيحية؟
يف عمق هذا اإلحساس الكوين هناك األب ،تقول كريستيفا،
لكنّه ليس األب القاهر ،املقتص كام عند فرويد ،بل هو األب ّإنا بذلك تقلب الرباديغم العلمي يف تاريخ األفكار الذي
املحب الذي يقتلع الطفل اإلنسان من االحتياج املطلق إىل األم يرى يف النزعة اإلنسانية منذ بيك دوالمريوندول حتى مونتيسكيو
والبقاء رهن رغباهتا املجنونة يف بعض األحيان .األب الذي يدفع وديدرو والفلسفة املعارصة قطيعة مع األخالق املسيحية .الكتاب
الطفل إىل التسامي ويعطيه اليقني بأنّه موجود. امتداد ملرشوعها الذي افتتحته يف كتاب حتت عنوان «يف البدء كان
احلب ،التحليل النفيس واإليامن» ،وفيه تسائل أشكال احلب
تربط كريستيفا التفكري يف احلاجة إىل اإليامن بالتفكري يف واإليامن عىل ضوء التحليل النفيس.
أحداث العنف التي عرفتها ضواحي باريس .2006تتساءل
حول ما إذا كانت هناك حاجة إىل اإليامن غري مشبعة ترتاءى من يف كتابه «موسى والتوحيد» خيلص فرويد إىل القول ّ
إن الدين
خالل هاته األحداث التي كان صانعوها مراهقني وشباب ًا .تربط وهم و ُعصاب مجاعي ،لك ّن جوليا كريستيفا تعود إىل أصول
إن املراهقاملراهقة باحلاجة إىل اإليامن ،بالسعي نحو املثل العلياّ . أن املساءلة اجلد ّية ألصول هذا الشعور يمكنها االعتقاد ،وجتد ّ
شخص مسكون باملثل وباإليامن ،إنّه يؤمن بوجود موضوع مثايل حتل جزء ًا من مشاكل الفكر أن حتدّ من غلواء التطرف ،وأن ّ
للرغبات ،رغم أنّه ال جيده ،ومن ثم يتساءل عنه ،ووحده التسامي العلامين ومآزقه .تتساءل يف الصفحة « :39أليس مثري ًا ّ
أن جمتمعاتنا
يشكل خمرج ًا للفشل يف إجياد املوضوع املثايل وجنة اإلشباع العلامنية أمهلت تلك احلاجة اخلارقة إىل اإليامن»؟
يستقر االكتئاب وامللل واإلدمان
ّ املطلق .عندما يتعذر التسامي
والعنف. يؤسس وجود الكائن اإلنساين ّ
إن احلاجة إىل اإليامن هي ما ّ
آت من الالتينيةإن الفعل (اعتقد) يف الفرنسية ٍ
ككائن متكلمّ .
هدف جوليا كريستيفا هو إعادة بناء النزعة اإلنسانية ،منتقدة كريدو ،ويعني «أن تعطي قلبك طاقتك احليوية يف انتظار
بذلك العقالنية املترسعة التي أسست العقل عىل اجلانب الريايض، مكافاة» ،إنّه فعل وضع الثقة التي تستوجب الوفاء هبا .اإليامن
خالل الصداقة والتضامن والتفكري أيض ًا .ال يشء يشفي العامل من يف عمق احلاجة إىل اإليامن تربض جتربة اإلحساس الكوين
البغض غري معرفة الذات واآلخر» .تدعو كريستيفا إىل إعادة بعث «التوحد مع الكون» ،أو «الشعور البحري» الذي يعرتف به فرويد
التفكري الذي يشكل املرتاس الوحيد ضدّ الرببرية والتوحش .جيب ويعتربه جتربة استثنائية تعيشها الذات ،هي جتربة داخلية تسبق
حتليل هاته احلاجة إىل احلب واألمل فيه ،كذلك الكره الذي يشكل اللسان ويعيشها الرضيع الذي ال يعي بعد االنفصال بني جسده
الوجه اآلخر للحب .جيب أن نستبدل احلاجة إىل احلب بروابط إن هاته التجربة الوثوقية تدخل ضمن املعتقد ،اإليامن. وجسد األمّ .
صداقة يمكنها أن تزيل التشنج يف العالقات بني األديان .يمكن أن الشعور الديني ينبع من التامهي مع األب ،األب يعترب فرويد ّ
أن ننشئ عالقات بعيدة عن التشنج ،وذلك بالتعاون املشرتك الذي يمثل ما قبل التاريخ الفردي ،األب األوديبي الذي جيب قتله
وباحلوار املستمر بني األديان الثالثة ،وأيض ًا بني املتدينني وغري من أجل احلياة .لك ّن هناك أب ًا آخر يقبع يف عمق احلاجة إىل اإليامن،
املتدينني ،وهو ما تفعله هي نفسها من خالل املشاركة يف حلقات إنّه األب املحب وليس األب املتسلط الذي ال بدّ للذات أن تقتله
التفكري التي ينظمها الفاتيكان. كي توجد وتولد يف العامل .األب وهو يعرتف باالبن جيعله موجود ًا،
ويؤسس قدرته عىل التسامي وعىل التعبري اللغوي والرمزي .هاته
يف معرض حتليلها ألزمة الضواحي التي انفجرت فيها أحداث هي القدرات التي تسائلها احلاجة إىل اإليامن .التصوف والتحليل
عنف وقتها تقوم بتحليل عميق لطبيعة احلاجة إىل املعتقد عند النفيس متقابالن ،متضادان يف تفكري فرويدّ .إنام نموذجان خمتلفان
املراهق .تعرف املراهق بأنّه إنسان مؤمن ومستعد لإليامن باجلنة، فيام يتعلق بعالقة اهلو باألنا .التصوف انتصار للهو وغياب له يف آن
ألنّه يعتقد ّ
أن هناك إمكانية لإلشباع املطلق وحني ال جيد املوضوع أن التحليل النفيس جيعل احلوار بني األنا واهلو ممكن ًا
واحد ،يف حني ّ
املثال يتحول إىل العنف ضد الذات وضد املجتمع .تقرتح بفعل اللغة والرتميز .رأي ستختلف فيه مع كوستاف يونغ الذي
كريستيفا أن نأخذ مأخذ اجلد تلك احلاجة عند املراهق .إذا مل يتم يعيد االعتبار للتجربة الداخلية والروحية.
فإنا تتحول التفكري يف تلك احلاجة وترميزها يف اخلطاب واللغة ّ
إىل قوة مدمرة ،وينتمي املراهق إىل طوائف دينية أو خيتار التطرف توضح كريستيفا أنّه إذا كنا نعرتف بتلك احلاجة التي ال تصدق
أو أشكال تعذيب الذات. إىل اإليامن ّ
فإن األمر ال يعني تربير الطبقية والرتاتبية باسم الدين،
ألن يف ذلك اختزاالًوال يعني أيض ًا أن نتجاهل هذه احلاجةّ ،
أن اجلمهورية الفرنسية قادرة عىل مواجهة أزمة ّإنا تعتقد جازمة ّ للقدرات الفردية يف التفكري واإلبداع .يتعلق األمر باالعرتاف
يمس يف العمق طبيعةاملعتقد الذي مل تعد األديان حتتويه ،والذي ّ هباته احلاجة ملا فيه خري التعايش الديمقراطيّ .إنا حاجة
العالقات بني البرش .تعتقد بإمكانية عالقات حوار وتضامن بني أنثربولوجية ،لكن ال جيب رهنها بتاريخ األديان ،بل جيب أن
األديان الثالثة ،بل حتى بني املتدينني وغري املتدينني .هناك إنسانية ال للتسامي والتطوير الذايت. نعتربها عام ً
جديدة تولد بفعل تطور معرفتنا باإلنسان بعد التطور الذي عرفته
العلوم اإلنسانية والنظرة اجلديدة لإلنسان ،من حيث هو كائن «إن متأكدة من أنّنا إذا ما ساءلنا هاته
تقول يف الصفحة ّ :70
يبحث عن املعنى ويسعى إىل التسامي عىل الرغبة املحضة .يسعى الرغبة ومحلناها حممل اجلد فإنّنا سنصنع الظروف املالئمة ملواجهة
إىل املعرفة ،وليس فقط اإليامن الغافل عن حقائق الوجود. التطرف ومآزق جمتمعاتنا العلامنية التي ال متنح أسس ًا صلبة لإليامن
ببنائها ،لدعائمها األخالقية ،بل تكتفي بدعائم قانونية وبمنظومة
استناد ًا إىل هذه التغريات ،ال بدّ من إعادة بناء النزعة اإلنسانية حقوق اإلنسان التي ال تنجح دائ ًام يف توحيد اجلميع .هل تكفي
استناد ًا إىل تقدّ م العلوم اإلنسانية التي أتت بمواضيع جديدة حقوق اإلنسان لتحقيق اإلمجاع؟ هل تكفي هاته املنظومة ضامنة
خمتلفة عن امليتافيزيقا وعلم األخالق الذي تدرسه الفلسفة. للعيش املشرتك؟ هل هناك إمكانية يف أن تتحابب األديان فيام بينها؟
هناك حاجة إىل إعادة بناء النزعة اإلنسانية وإقامتها عىل أسس أي معنى ،أ ّية أخالق ،أ ّية قواعد سلوك يمكنها أن متنح لوجودنا ّ
جديدة تتناسب مع اإلنسان املعارص وإشكالياته ومواضيعه معنى يف زمن تتزامن فيه النزعة العدمية والتعصب الديني؟
اجلديدة. املعضلة يف التعصب تكمن يف تأويل احلاجة إىل احلب واألمل من
ِ
«هدومه» ِ
الباص غري ومل يكن يف «وضعت عشري على نحري»
طالت عليهِ ِ
احلديد» وحني وقفنا بـ«باب
وبعض مرىض ال جييدون التذك َّرُ أنخنا ِ
اجلامل
وانتظار املوتِ تركنا ركائبنا بـأمحاهلا
ِ
النسيان والفوىض كان يكمل دورة ودخلنا املدينة
حني صاح به الطريق ّ
معذب ًا بالباص: أذان وسابلة
كان ثـ ََّم ٌ
أين أغنيتي؟ ومقاه وفوىض يلوذ هبا الغرباءٍ
فقال: ِ
الركب: وقال لنا آمر
-أنا ٌ
رجل -هذي حلب
ودون إضافة وصفٍ
*** رأينا املدين َة يف حزن عينيه
رأينا اشتباك البيوت
ال بأسئلتي ومل يكن نيسان منشغ ً حني َّ
ظل يش ّبك بني يديه
خيضل عشب الصمت من مطري َّ ومل املؤذن
ُ أتم
إىل أن َّ
قلت يل قويس وراحلتي ُ ذاك النشيد اجلليل
وبعض طرائد يف األفق
شجر ويل وجعي ٌ يل «ولست بح َّلال ال ّتالل»
ولكن أين أغنية املسافر؟ قليل َّ
احلظ رجل ُ أنا ٌ
نيسان يا ولدي
َ حني نعو ُد من ٍ
قال حمتشد ًا بأغنية نمت يف احلزن
شتاء تالي ًا
سريتكب احلنني هنا ً خيط رسال ًة للموت الشتاء لكي ّ َ وانتظر
َ
ختم دفاتري
سيفض َ ُّ ٌ
ترشين حطت نحلة يف البيت ّ َ يف
ويقول للموتى :استق ّلوا باصكم ال تالي ًا
أجل فكر َة اهلذيان فص ً ّ
وسيتّكي ٌ
رجل عىل غدنا واغتاب حراس الكتابةِ
َ َّ َ
ِ
كالغريق: ويرصخُ دس أغنية الطريقِ َّ
-أنا بقوس شتائهِ:
ِ وقال حمتشداً
رجل قليل -أنا ٌ
***
***
وهناك ثمة نحل ٌة
ِ
النهايات الغريبة فاضت عىل عسل *شاعر من سورية
(مرث َّية)
م أَبي*
َغا َر َن ْج ُ ِ
إبراهيم بورشاشن**
الذكرى
عيل القاسمي*
عصفور مذعور ،وأنا َأمدُّ يد ًا مرتعش ًة إىل مطرقة الباب ،فيش ُّلها اخلوف فال تكاد ٍ جناحيَ ست بقلبي يضطرب وخيفق بشدَّ ة ،مثل َأ ْح َس ُ
رس املرأة الوحيدة التي تقطن تلك الدار العالية األسوار .فهي يفض امرؤٌ َّ تلمسها .مل يكُن َأحدٌ يدري ما وراء ذلك الباب املوصد دوم ًا ،ومل َّ
أي منَّا يف َأ ِز َّقة البلدة الصغرية ،بل ال نعرف حتَّى اسمها .فلم تكُن من أهايل البلدة التي تربط ال تزور جرياهنا وال يزوروهنا ،ومل يشاهدها ٌّ
وفدت عليها من مدينة من املدن قبل بضع سنوات.ٍ ْ أوارص القربى ،وإنَّام معظمهم
ُ َ
وكنَّا ـ نحن األطفال ـ نتحاشى السري عىل الرصيف املحاذي حلائط دارها ،ونتَّجه تلقائ ّي ًا إىل الرصيف اآلخر عندما نقرتب منها .وكان
ٍ ٍ
غصانا مثل ُ تنسدل َأ
ُ يمر بالقرب من ُجنينة املنزل القابعة وراء أشجار الصفصاف السامقة التي بعضنا يتهامس عن ِجنِّ َّية أو جمنونة ،حني ُّ
طويل يغ ّطي وجه صاحبته. ٍ ذؤابات َش ٍ
عر ِ
كنت ألعب هبا وحدي عرص ذلك سوء ح ّظي عرب اجلدار إىل داخل تلك الدار ،حينام ُ ولكنّي ال ُبدَّ أن أستعيد كُريت اجلديدة التي قذف هبا ُ
وانتظرت
ُ وطرقت طرق ًة واحد ًة مبترسة، ُ وقبضت عىل املطرقة، ُ كل شجاعتي ورغبتي يف أطراف أناميل، عت َّ مج ُاليوم القائظ .وأخري ًا َّ
أهم برفع عدت ال َّطرق ثاني ًة وانتظرت ،وثالث ًة وانتظرت .وبينام ُ حلظات حسبتُها ساعات ،دون أن ُيفتَح البابَ ،فأ ُ ٍ
كنت ُّ ٌ ومرت بتوجسَّ . ُّ
وأخذت أرفع ُ ت أمامي ،فاصطدم برصي بجس ٍم متل ِّف ٍع بالسواد. فجفلت إىل الوراء متع ِّثر ًا .وحدَّ ْق ُ ُ ِ
املطرقة من جديدُ ،فتح الباب فجأةً،
أن لتلك املرأة وجه ًا حنون ًا رأيت َّ
ُ رأيس رويد ًا رويد ًا ،حتى التقت نظرتانا .إنَّني اآلن أمامها وجه ًا لوجه .ولشدَّ ما كانت دهشتي حينام
وابتسام ًة ودود ًا.
ف قائالً: ِ
وأرد ُوتلعثمت وأنا ألقي التحية عليها ُ ُ
سقطت كريت يف ُجنينتكم. ْ ـ آسف ،يا سيديت ،لقد
َك. ِ
ال بك .ادخل واستعد كُرت َ حممد .أه ً ـ ال بدَّ أنَّك الصغري عيل ابن ِ
جارنا احلاج َّ
أرصت وأ ْن أبقى أنا خارج الباب يف الزقاق ،متأهب ًا إلطالق كنت ُآمل َأ ْن تأتيني هبا هيَ ،
إن حصل ما ُيريب .ولكنَّها َّ ساقي مع الريح َّْ ُ
ٍ ٍ ٍ
وألتقط كريت بنفيس ،مشجعة إ َّياي بابتسامة عذبة ونظرة رؤوم. َ َ
أدخل بلطف عىل أن ٍ
وتشابكت
ْ أعشابا ت ٍ
نباتاتا منذ مدَّ ة طويلةَ ،فن ََم ْ
ُ ُشذب ٍ ُ
دت وهل ًة قبل أ ْن أجتاز َعتب َة الدار بِ َو َج ٍل ،أللفي نفيس يف ُجنينة واسعة مل ت َّ َ تر َّد ُ
ُ
وأخذت أفتِّش عنها بني األعشاب وخلف جذوع األشجار بإحدى عين ََّي ،يف ُ مكون ًة عدَّ ة أمجات ،فاستحال العثور عىل كُريت. شجرياتا ِّ ُ
وتيص حركاهتا. ت عيني األخرى ملتصق ًة باملرأة تراقبها ُ حني ظ َّل ْ
كراس ،وعليها إبريق شاي ٍ ٍ
حريري مزخرف حتيط هبا أربعة ٍ
قيمت طاول ٌة مغ ّطا ٌة بغطاء اجلنينة القريب من باب الدار الداخيل ُأ ْ طرف ُِ ويف
ٍّ
فنجان شاي ،ولكنَّها ال ترتشفه ،وأمامها قطعة َ ت لنفسها ِ
وعد ٌد من الفناجني وقالب حلوى كبري .وجلست السيدة إىل املائدة ،وقد ص َّب ْ
حلوى يف صحن صغري ،ولكنَّها مل تأكل منها.
ثمة ما يميزه عن غريه من الوجوه ،فغاللة احلزن التي ال ُتطئها العني، وجهها طبيع ّي ًا مثل وجوه َّأمهاتنا يف البلدة .وإذا كان َّ بدا يل ُ
أن ابتسامتها احلنون مل تفارق شفت ْيها. والتجاعيدُ الكثرية التي رسمتْها السنون حول عين ْيها وعىل سحنة وجهها .غري َّ
ـ ر َّبام اختفت كرتك وراء تلك الورود.
ودلفت مرسع ًا نحو الباب .ويف طريقي سمعتُها ُ عثرت عىل كريت ،التقطتُها
ُ أشارت بيدها ،و َل َشدَّ ما كانت فرحتي حني ْ واجتهت إىل حيث ُ
تقول:
ـ أال تريد أن تتناول قطع َة حلوى قبل أن تذهب؟
اإلجابات املتناقضة لساين بره ًة قبل أن أقول:
ُ ِ
وتنازعت ثت قليالً، وتر ّي ُ
ـ شكر ًا« ال» شكر ًا .
ك وتبلغهام سالمي. ـ َّإنا حلوى طازجة صنعتُها بنفيس هذا اليومَ .
تعالُ ،خ ْذ شيئ ًا منها ،قبل أن تعود إىل والد ْي َ
فاقرتبت منها بِ َو َجل ،آم ً
ال ُ ِ
وجلستها املسرتخية عىل كرس ِّيها ،ومل أستط ْع مقاومة منظر تلك احللوى الشه َّية. وطمأنتني نربات صوهتا اهلادئة ِ
أن تناولني قطع ًة منها ألخرج هبا مرسع ًا .قالت:
كأس من احلليب مع احللوى. ٍ اجلس إىل الطاولة ،فقد ترغب يف تناول ْ تفض ْل، ـ ّ
رشعت يف التهامها يف احلال ،وسمعتُها تقول: ُ ت يل قطع ًة كبري ًة من احللوى، الكريس األبعد عنها .وقط َع ْ
ِّ وألفيتني أجلس عىل
عمرك ،يا عيل؟ عرش سنوات؟ ِ ـ أنت تُذكِّرين بفريد! ولدي فريدَ .
رحل عنّا وهو يف سنِّك .كم ُ
ـ نعم.
ـ لقد غادرنا فريد وعمره عرشة أعوام بالضبط.
ووجدتُني أسأهلا ،وفمي ممتلئ باحللوى:
ـ إىل أين ذهب؟
املوت الذي ال يرحم. ُ رمحة اهلل! اختطفه منّي ـ إىل ِ
هنضت وهي تقول: ْ ت، هنيهة صم ٍ ِ وبعد
َ ْ
ـ دعني أريك شيئ ًا. ُ
ِ
هببت واقف ًا مستدير ًا نحو الباب ،وعيناي ترمقان بقية قطعة احللوى التي مل آت عليها بعد. ُ هنضت حتى ْ وما إن
ريك صورته. ُ
قطعتك من احللوى … سأعود بعد قليل… سأ َ َ كمل َ
اجلس وأ ْ ْ تذهب!
ْ ـ ال ،ال
وفتحت ا ُملج َّلد يف وسطه ،باحث ًة فيه
ْ وجلست بالقرب مني ْ ٍ
ورجعت بعد حلظات ،وهي حتمل ُم َّلدَ صور (ألبوم) ضخ ًام. ْ البيت
َ ووجلت
ْ
عن صورة ما ،ثم قالت:
ـ ال ،األفضل أن نبدأ من البداية.
وعادت تفتح ا ُملج َّلد من َّأوله.
كل يوم. ال وسي ًام فارع الطول .كان حي ُّبني ح ّب ًا ّ
مج ًا ،و ُيد ِّللني ويغمرين باهلدايا واحللوى وال ُقبل َّ ـ انظر ،يا عيل ،هذا هو والدي .كان رج ً
ال وال شيخ ًا عندما أصابته سكت ٌة قلبي ٌة قاتلة … ،آه لو ولكنَّه مات وهو يف عنفوان شبابه ،وأنا صغرية .مل يكُن شا َّب ًا ،ولكنَّه مل يكُن كه ً
حزنت عليه وافتقدتُه… ،وما أزال أفتقده. ُ تدري ،يا عيل ،كم
ٍ
وقلبت الصفحة وأرتني صور ًة المرأة جالسة ،وهي حتتضن طفل ًة صغرية ،وقالت: َ
ٌ
طويل شعر
الناصع البياض ٌ
َ املستدير
َ وجهها
ويتوج َتضمني إىل صدرها .كانت امرأ ًة مجيل ًة ،وهلا عينان دعجاوانِّ ، ـ وهذه هي ُأ ّمي ،وهي ُّ
تتعجل اللحاق به .ولكنَّهاماتت بعد بضعة أشهر من وفاة والدي ،كأنَّام مل حتتمل فراقه ،أو كانت َّ ْ فاحم السواد ،فتبدو كالقمر .ولكنَّها ُ
ٍ ٍ ً
تركتْني يتيمة األب واألم .أنا ال أقول ذلك عىل سبيل اللوم ،فقد حتا َّبا بإخالص ،وكان والدي ُياطبها دائام بكلامت رقيقة ،مل أسمع مثلها َ
حتى اليوم.
إيل وقالت: نظرت َّ
ْ ثم
كأنا ال تريد أن تقلبهاَّ .
بت أصاب ُعها عىل الورقة التاليةَّ ، وتص ّل ْ
أعجبتك ،أليس كذلك؟َ ـ سوف أعطيك قطع ًة أخرىَ .أرى َّأنا
وهززت رأيس موافق ًا ومل أ ُفه بيشء. ُ
كل صباح ونعود إىل البيت بعام ْي فقط .وكنَّا نلعب سو َّي ًة ،ونمرح كثري ًا .وكان يرافقني إىل املدرسة َّ يكربين َ َ
ـ وهذا هو أخي الكبري .كان ُ
مع ًا بعد انتهاء الدروس .وكان يصطحبني يف األعياد إىل ساحة املدينة ،حيث نركب دواليب اهلواء ونلهو باملراجيح .ولكنَّه مات وهو
أن املوت كان األسبق إليه. أن يكون طبيب ًا يداوي املرىض وخي ِّلصهم من خمالب املوتَ ،بيدَ َّ يأمل ْ التخرج يف ك ّل َّية ِ
الطب .كان ُ ّ ُّ وشك عىل
ثم تقلب الصفحة مرسعة. وملحتُها ترفع مندي َلها إىل وجهها ومتسح عين ْيهاَّ ،
ـ وهذا هو زوجي وهو عىل صهوة جواده .لقد كان فارس ًا مولع ًا بركوب اخليل .ك َّلام عاد من عمله امتطى جواده األدهم ،وذهب إىل
أن املوت كان يرتصده هو اآلخر .سقط من صهوة جواده عىل رأسه إثر ٍ
قفزة غري موفقة ،ومل يكُن املزارع املتامخة لشاطئ النهر .مل ِ
يدر َّ
َّ
ال بفريد. وكنت حام ً
ُ يمض عىل زواجنا أكثر من عا ٍم واحد …، ِ يرتدي خوذتَه .كان واثق ًا بنفسه جدَّ ًا .مات ومل
ِ
فالحت صور ٌة كبرية متأل الصفحة بأكملها. ْ مر ًة ُأخرى إىل عين ْيهاَّ .
ثم قلبت الورقة وأشاحت بوجهها عنّي ،وهي ترفع مندي َلها َّ ْ
كل ما تب َّقى يل من أهيل .وكان يف غاية ٍ
َّك تشبه فريد ًا كثري ًا؟ هذه آخر صورة له وعمره عرش سنوات متام ًا .كان هو َّ أرأيت؟ أمل ْ أ ُق ْل لك إن َ َ ـ
األو َل يف مدرسته .لو عاش ألصبح اليوم طبيب ًا أو مهندس ًاَ .من يدري؟ الوداعة ،وجمتهد ًا كذلك .كان َّ
فنهضت،
ُ أمتمت قطعتي الثانية من احللوى ُ وكنت قدُ بيديا.
ت وجهها ْ مر ًة ُأخرى ،وغ َّط ْ
فرفعت منديلها إىل وجهها َّ ْ وخنقتْها ال َعربات،
ولكنَّها قالت يل:
ال … ،سأقطع لك قطعة أخرى من احللوى حتملها معك إىل منزلك .يمكنك أن تأخذها معك غد ًا إىل املدرسة .سأل ُّفها َ
لك ـ تر َّيث قلي ً
تنس أن تب ّلغ سالمي إىل والديك. بعناية .هكذا كان يفعل فريد .ال َ
وش َّيعتني إىل الباب وهي تقول:
يمكنك أن تأيت إىل هنا متى ما شئت. َ ـ
َ
لت وجنتي بحنان ،وأوصدت الباب خلفي يف تُؤدة. ووضعت يدَ ها عىل رأيس برفق ،وق ّب ْ ْ
ويف الزقاق ،شاهدين َأحدُ الرفاق من األطفال ،وأنا أخرج من دارها ،فقال يل بدهشة:
ـ هل رأيت ِ
اجلنِّ َّية؟
أجبت ُه باقتضاب:
نظن. ـ َّإنا عىل غري ما كنَّا ُّ
ومضيت إىل منزيل بصمت. ُ
جدا
سعي ٌد ًّ
قصة للكاتبة اإلسبان َّية :آنا ماريا ماتوتي
َّ
ال يف «الباسيو دل مار» .كانت تتحدَّ ث بال توقف ،وأنا أنصت هلا كعاديت .زفافنا يوم األحد قبل الغداء ،خرجت مع إليسا لنتنزه قلي ً
أن
كان بعد ثالثة أيام ،وكنَّا مشغولني بمشاريع يضايقنا تنفيذها ،إذ مل تكن مشاريع عاطفية ،فام من عواطف بيننا ،ولو وجدت فمن املؤكد َّ
املشاريع األخرى ستغتاهلا :البيت ،املال ،السفر لقضاء شهر العسل ،وآالف التفاصيل األخرى املرتبطة بطقس الزواج .مشاريع أبد َّية ال
بأن أسبح فوق سحاب إسفنجي ألنظمة تبدو يف ظاهرها ناعمة ،ومن فوقي تعرب مشاريع هناية هلا .أثناء ذلك شعرت ،كام كنت أشعر دوم ًاّ ،
أنال هنائ َّية يف شكل حلقات متصلة منذ حلظة ميالدي األوىل (كام قلت من قبل) .وبينام كنت أستمع وهي تتحدَّ ث وتتحدَّ ث ،خطر ببايل َّ
أن ضجيج ًا مشاهب ًا قد حدث يوم جئت أنا للعامل ،ومنذ تلك اللحظة كل هذا الضجيج .يف الوقت نفسه فكَّرت يف َّ املوضوع ال يستحق َّ
األول عند الوالدة .وأنا كنت أسري ،وما بالتحديد بدؤوا خيططون مشاريعي ،ومن يدري ،فربام تعلقوا بمشاريع حيايت قبل أن أطلق بكائي َّ
زلت ،يف طريق هذه املشاريع املرسومة بال هوادة .حتى اجتاحني فتور كبري ميلء بالضباب كان قد بدأ يف مواقف أخرى سابقة ،وكان يدفعني
ألبوي (حيث جئت متأخر ًا من ّ متكرر من شامل األرض إىل جنوهبا مثل كرة يائسة .احلصة الدراس َّية التي تشبه ذكرى اليوبيل الذهبي بشكل ّ
فكل األصدقاء كم التلغرافات التي كنَّا نتسلمها يف ذاك اليومُّ ،
زواج متأخر) كانت من بني األسباب التي زرعت يف قلبي الفتور .أتذكَّر اآلن َّ
كل عام وطوال أعوام كثرية ماضية ،بالتحديد منذ إمتام صفقة الزواج .كانوا يكتبون ألبوي التهاين ،كام يفعلون َّ
َّ واملعارف والدائنني يرسلون
وحتملها أيب وأمي مع ًا ،ويشريون إىل املرأة القو َّية والزميلة النشيطة واملثال َّية التي تبذل أقىص جهدها يف
يف بطاقات التهاين عن صفقة متَّت َّ
العمل ...،إلخ .كام يتحدَّ ثون عن السنوات الطويلة التي عاشاها مع ًا ،كتف ًا بكتف ،بال راحة ،بال حفالت ،بال مرح وال دخان (كام ُيقال).
أن هذه األمور تزيد من احرتام الناس يل وجتعلني مطمئن مرة كلام سمعت َّ
مرة بعد َّ ُّ
كل هذه األشياء كانت تبعث َّيف فتور ًا كان يكرب َّ
النفس سعيد ًا بحيايت اهلادئة .بالتايل ،كان فتور ًا خارج السيطرة ،ينمو ويتكاثر كلام تذكَّرت املهن التي عمل هبا أيب منذ كان صانع جبن
سوقي ،ثم كرب بفضل إخالص ّأمي ويدها االقتصاد َّية .تع َّلم أيب املهنة من جدّ ي الذي كان راعي غنم بوجه ممتلئ وغامق بحاجبيه
بمجرد النظر إليها .واآلنَّ العريضني وشاربه الكبري ،كام يبدو يف صورة نحتفظ هبا يف النيش الذي ال نستخدمه أبد ًا ،إذ تنكرس كؤوسه
(بعد يوم اليوبيل الذهبي) صار أيب صاحب أكرب سلسلة لتصنيع اجلبن داخل املنطقة وخارجها ،وقد ذاع صيته يف مدريد ،وغدا اس ًام المع ًا
أن اسمه ارتبط باجلبن ال باحلرب). (حتى َّ
2017
(2016)10
العدد ()9
العدد
298
أدب وفنون /شعر سعيدٌ جدًّ ا
وبجانبها خبز متبل بامللح والثوم والفلفل .رغم ّأن لست عىل يقني من وجود تلك األشياء التي أشري إليها ،إذ أراها مبعثرة من خالل ثقب
بايب الذي مل أنتبه جلدواه من قبل .وأخري ًا ،كي ال أطيل ،جاءت إليسا يف صباح ذاك اليوم ،وكانت ثرثارة كالعادة:
لنتصور صور ًا فور َّية ،أتعلم؟ ستكون آخر صورة أليام العزوب َّية.
َّ ـ رومانثيتو ،ه َّيا
بأن هذه الكلامت خلقت َّيف حالة غريبة ،كام لو كانت كلامت بأسنان غري منتظمة تقطع يف تروس مشاعري .لقد سارت حيايت
أعرتف َّ
(وكأن حكمة الطبيعة أرادت
َّ دوم ًا يف إطار برنامج دقيق (ودوم ًا كانوا يذكرون ذلك يف حضوري) .نظام َّ
تأسس من أجيل منذ يوم ميالدي
بمولدي أن تضع نفسها موضع شك).
صباح ذلك اليوم ،خرجت مع إليسا لنتنزه يف «الباسيو دل مار» ،وحدثتني عن اليوم األخري يف حياة العزوب َّية .حينها اقرتب منَّا رجل
ال به كامريا تصوير ُصنعت يف القرون الوسطى .وافقت عىل اقرتاح إليسا قصري يرتدي زي العمل وفوق رأسه قبعة ،كان يقود تروسيك ً
املصور أن نبتسم .التقط الصورة ثم دخل حتت قامشة سوداء ،فيام تابعناه بالنظر وهو يسحب ّ ألن مل أكن جمادالً .تأ َّبطت ذراعها ،فأمرناّ
شبحني ،ثم نرى نفسينا يف صورة آخر أيام مقوى لنرى َ الفيلم من الكامريا ويضعه يف دلو صغري ميلء بسائل ،ثم طبع الصورة عىل ورق َّ
كأنم وضعوين يف سائل سحري، كل يشءَّ ،أرقتني هذه التفاصيل التي أحكيها ،كنت َّالعزوب َّية .حينام أعطانا الصورة بعد أن انتهى من ّ
بعيني.
ّ مرة أخرج إىل احلياة وأرى نفيس وألول َّ
َّ
ُقص أطرافها بمهارة .واألدهى ّأن وجدت نفيس بجانب امرأة رأيت نفيس ثالثة أضعاف نفيس يف هذه الصورة الصغرية الرطبة التي مل ت ّ
يعب عن يشء .أنا بعزوبيتي وبدلتي الكحل َّية التي تأملت الصورة جيد ًا :إنَّه أنا .أنا بشحمي وحلمي ،بوجهي البليد الذي ال ّ
ال أعرفهاَّ .
بتأمل .هذه ذراعي ،لكنَّها تتعلق بامرأة ال أعرفها. ِ
أرتدهيا يوم األحد (وكانت رجل البنطلون مرتهلة) .إنَّه أنا ،أنظر لنفيس ُّ
عمتي إميليا تزورنا .متيل ناحيتي بقبعتها املز َّينة التي تضفي عليها ظالالً صفراء شاحبة ،فتقتحمني بموجة
(يف أيام اإلجازة ،كانت َّ
من عطور مركَّبة .كان فمها يستدير ،وتضع إصبعها الطويل املطيل ظفره باللون األمحر الالمع يف خدها بالتحديد ،يف املكان الذي جيب
لدي من طاقة كره ونفور ممتزجني ،كرهتهام أن يتلقى قبلتي .أعتقد ّأن كرهت هذا اخلد وهذا الفم الذي يشبه الدائرة ،كرهتهام ّ
بكل ما َّ
واملخصصة هلا بشكل واضح ،صارت حيايت َّ بمقدار سهدي وأرقي خالل سنوات حيايت املاضية ،إذ بداية من تلك القبالت املربجمة
عمتي الفتاة إليسا إىل بيتنا يف إجازة الصيف .كانت إليساسلسلة من االنصياع واخلضوع .كنت يف الصف الرابع تقريب ًا ،عندما أحرضت َّ
299 2017
(2015)10
العدد ()7
العدد
آنا ماريا ماتويت /ترمجة :أمحد عبد اللطيف أدب وفنون /قصة قصرية
يف عمري نفسه ،وكانت سمينة جد ًا وشاحبة ،بعينني زرقاوين بلون السامء ،مجيلتني جد ًا ،وكانت ضفائرها كثيفة .وذات يوم ،عندما
كنت ألعب معها وبصحبة أطفال آخرين ،بحامقتي اختبأت يف البدروم ،فظهرت يل من الدوالب وأحاطتني بذراعيها السمينتني واستدار
عمتي إميليا ،وباغتتني بقبالت كثرية ورنَّانة .ال يمكنني وصف إحسايس بدقة ،لكن ،عندما نظرت إىل باقة الورود الصناع َّية فمها كفم َّ
أقرر املعلقة بفتحة صدر فستان امرأة معلقة يف ذراعي دون وجه حق ،أدركت مأسايت وانتبهت حلنقي املقيد ،واقتحمني شعور بالرت ُّدد يف أن ّ
وحدي من سأق ّبلها وأين أق ّبلها .من تلك اللحظة ،ر َّبامَّ ،تولد بداخيل النفور من تقبيل أحد يل ،أو تقبييل ألحد).
نظرت إىل باقة الورود يف فستان املرأة الغريبة والثقيلة عىل نفيس وتساءلت :ملاذا؟ اجتاحتني حينئذ نوبات بكاء غامضة ،فرتكتها يف
بأن أميل إىل القبح
«الباسيو» ورست وحدي وواصلت السري .يف طريقي راجعت مشوار حيايت ،وشعرت بمتعة ما ،واعرتفت لنفيس ّ
خاصة يف الصيف ،كانت اجلميالت يرقن يل ،مع ذلك وجدت نفيس مأخوذ ًا من ذراعي ،وإليسا املعلقة يب تنتظر موافقة بذقني املتدل َّيةَّ .
بكل وضوح) .إنَّه الربنامج الذي خ َّططته َّ
عمتي إميليا بمساعدة أيب .لقد كنت تلميذ ًا منحتها هلا دون أن أعرف السبب (اآلن أعرف ّ
األول وال األخري ،فدخلت يف صناعة اجلبن مع عائلتي وتساقطت أيامي وسنوات عمري يوم ًا وراء آخر وسنة وراء أخرى ،فيام رماد َّي ًا ،ال َّ
كنت قابع ًا خلف باب زجاجي علقوا عليه الفتة منذ وقت قريب مكتوب ًا عليها «املدير».
وعمتي إميليا وإليسا .اجلميع بال استثناء خيطف الكلمة من فم اآلخر ويعيد تركيب شخص َّيتي
وأمي َّ
يف البيت ،يتناول اجلميع سرييت .أيب ّ
رس ًا نظرات األطفال الذين أعرفهم وهم بني أذرع أمهاهتم أو من وجهة نظره .يوم ًا ما ،سيصل أوالدي إىل هذا العامل ـ كنت أراقب َّ
ألنم حمرومون من احلر َّية -كنت أشعر بأنَّني مغلف ،حماط ،أمحل فوق كاهيل أطفاالًمربياهتم ،يسيل لعاهبم ويرصخون رصخات مفاجئة َّ
ُبدُن ًا بعيون زجاج َّية مثل إليسا ،ربام يكربون يف يوم ويصريون مدراء( ،أو يشغلون وظائف أخرى يف علم الغيب) .كنت أسبح مع خيايل،
مح َصتهم الشمس ،الشحاذين والكالب واملراكب ،حتى عيني ذكرى فتيات الصيف اجلميالت ،ذكرى األوالد النحيفني الذين َّ فتظهر أمام ّ
النَّمل واحلرشات الطائرة .ثم أتذكَّر هذا اإلصبع الطويل املطيل بلون أمحر ويشري إىل اخلد الناعم الرقيق املج َّعد ،حيث جيب أن أضع قبلة
بال إرادة.
كل هذا حدث بفضل الصورة الفوتوغراف َّية ،وبفضلها أيض ًا أنا هنا اآلن ،سعيد جدَّ ًا ،مطمئن وحر ،وأعرتف ّ
بأن يف إحدى أن َّ
أكرر َّ
ّ
أن املعركة التي أفرتض
لكن أعصايب ملجمة بالطاعات ،كام َّ ً
وعمتي إميليا املختبئة دوما حتت ق َّبعةَّ .
حمطات يأيس فكَّرت يف أن أذبح إليسا َّ
حدوثها ،كانت ستحدث عندما يفيض يب الكيل .هذه األشياء املعلقة بالدماء تبعث يف نفيس التقزُّز ،كام َّأنم نزعوها من رأيس منذ زمن
بعيد .ما من يشء أفضل من جتنبهام ،من أال أنظر يف عيوهنام وال أسمع أصواهتام ،إذ لو فعلت ذلك فسأعود يف احلال كام كنت يف السنوات
املاضية ،مطيع ًا وغامض ًا.
منذ أسبوع وأنا هناُ ،مدَّ د يف رسيري وأنظر إىل السقف واحليطان املغ َّطاة بنقوش مرحة .مغطاة بأجزاء من حياة رجال ،رغم ّ
كل يشء
حققوا ما أرادوا .نعم ،حققوا مثلام فعلت أنا.كيف استطاعت مصانع جوترييث وابنه لصناعة اجلبن أن تبلغ الصيت واالسم؟
أحب إشعال الكربيت وتركه يف األرض حتى ينطفئ وحده ،فيأيت أيب مهروالً ويرضبني.اآلن أنا سعيد. أتذكر ّأن ،يف طفولتي ،كنت ُّ
يؤرقني اآلن أن يستدعي يل أطباء
أن ما ّيأيت أيب أحيان ًا بعينني مرحيتني وأنف أفطس لرياقبني من العني السحر َّية أو ليحرض يل الطعام .غري َّ
أي عناء إن أخربهتم ّأن إنسان طبيعي ،وباإلضافة لذلك سعيد.نفسيني ،أو برش ًا من هذا النوع ،ليأخذوين من هنا .لكن ،لن يكلفني ّ
للشخص َّية اإلنسان َّية وجتارهبا ،تظهر الطبيعة البرش َّية يف أروع مل حيظ شاعر عرب التاريخ باهتامم الباحثني كام حظي به
حاالهتا املمكنة دون االستعانة بالدين املسيحي». مدونته الشعر َّية ممثلة بملحمتي«هومريوس» ،فقد جرى تقليب ّ
ولعل أطرف ماَّ و«األوديسة» من وجوهها كا َّفة،
َّ «اإللياذة»
انكب عىل دارسة هومريوس، َّ أن «غالدستون» من الصحيح َّ جرى الكشف عنه هو غياب اللون األزرق عنها ،وقد فتح هذا
يتحرك يفوسهر الليايل يف ترشيح أشعاره بسفر ضخم ،لكنَّه كان َّ الباب عىل تاريخ األلوان وكيفية إدراكها يف الثقافات
َ الكشف
مدار رغباته أكثر ممَّا كان يمتثل ملعايري البحث املوضوعي الدقيق؛ واآلداب القديمة ،وهو موضوع يستحق الوقوف عليه لطرافته
ألن عامل هومريوس أصبح حمراب ًا له ،يتع َّبد فيه ،فيرتنَّم ويتغنَّى، َّ مهيته.
وأ ّ
وما رأى شيئ ًا من العامل إال بعيني الشاعر اإلغريقي .مل هيتم بعمى
الشك يف وجوده ،فقد غمرته مآثر ّ هومريوس ،وال التفت إىل حينام كان «وليم غالدستون» يف التاسعة واألربعني من عمره،
الشاعر وملكته وأعمته ،وجعلته محاسته املفرطة يضفي عليه من وقبل زهاء عرش سنوات من تسنّمه منصب رئاسة الوزراء يف
األمه َّية فوق ما كان عليها .أصبح الباحث املبرص أسري ًا يف حظرية توله أربع مرات -نرش يف عام 1858م مرة -وقد َّ بريطانيا ألول َّ
الشاعر األعمى .ومل يقترص كتابه عىل األحكام التبجيل َّية وإنَّام كتاب ًا كبري ًا يف ثالثة أجزاء بعنوان «دراسات حول هومريوس
واألوديسة ،وح َّلل
َّ درس أمكنة األحداث وأزمنتها يف اإللياذة والعهد اهلومريويس» رفع فيه من مقام هومريوس فوق ما كان
الشخصيات وأخالقها ،فاعترب امللحمتني أفضل وسيلة متثيل «أسس عليه من رفعة ،إىل درجة أشار فيها إىل أنَّه الشاعر الذي َّ
لألحداث التارخي َّية ،واستغرقته التفاصيل التي مل ختطر عىل بال أحد للجنس البرشي مقام الشاعر الرفيع ،الذي ش َّيد عىل أسسه
من قبل ،ومن ذلك األلوان التي استخدمها هومريوس يف أوصافه، اخلاصة رصح ًا شاخم ًا ومتين ًا ما يزال حي ّلق سامي ًا ال تدركه أيدي
فال غرابة أن ينظر إىل الكتاب بعني الريبة من طرف ن ّقاده إلفراطه العا َّمة من البرش ،بل حتى أيدي االستثنائيني منهم» .ويبدو أنَّه
يف التنقيب والتأويل ،ور َّبام الشطح واالسرتسال ،لكنَّه حظي أفرط يف املبالغة حينام اعترب شعره امللحمي «أروع ظاهرة بال منازع
القراء ،ألنَّه أشبع تو ّقعاهتم عن الشاعر الكفيف الذي باهتامم عموم َّ فلكل أ َّمة شاعرها األكرب ،وال ينبغيّ يف تاريخ ثقافة اإلنسان»،
يسجله الرسد من مآثر، سجل مآثر اإلغريق عىل خري ما ينبغي أن ّ َّ مدّ نفوذ هومريوس ليشمل العامل ك ّله .وطبق ًا لـ«غاي دويترش»
أ َّما األكاديميون فقد نظروا إليه بعني االستغراب واالستهجان ،فام فإن «غالدستون» الزم ملحمتي مؤلف كتاب «عرب منظار اللغة» َّ
التمحل وااللتواء؛ إذ سلك ّ حظي بتقديرهم العلمي ملا رأوا فيه من قل نظريها عند غريه منذ مقتبل عمره ،فمع أنَّه هومريوس مالزمة َّ
متعرجة من أجل الربهنة عىل أهداف نائية ال سبيل فيه مؤلفه طرق ًا ّ ترسخت يف وجدانه، كان متش ِّبع ًا بالقناعات الدين َّية املحافظة التي َّ
إىل بلوغها وال فائدة منها ،يف زعمهم ،حينام أطال البحث يلتمس خضم هومريوس ،وهذا ما جعله ال يرى يف ّ فقد رمى بنفسه يف
احلجج عساه أن جيعل من هومريوس مأثرة التاريخ التي ال نظري هلا. ال سبق إنجيل الس ّيد املسح، أشعاره أدب ًا حمض ًا ،وإنَّام رآها إنجي ً
وفيها اجلوهر الديني االستباقي ملآل الدنيا ،بل هي «خالصة وافية
هاجت عاصفة من االعرتاضات عىل «غالدستون»؛ ألنَّه أزجى
حيظ به أحد من قبل ،ومن ذلكمن األحكام عىل هومريوس ما مل َ * مفكر وأكادميي من العراق
مرة،
ذلك ،فيام ظهر اللون األمحر ،واألصفر ،والبنفسجيَّ 13 ، فقد اعترب ماركس الكتاب مثاالً عىل عجز اإلنجليز عن تدوين ما
مرات ،عىل التوايل ،ومل ترد عنده أ ُّية كلمة تشريمرات ،وَّ 6
وَّ 10 َّ
وكأن «غالدستون» ير ُّد بكتابه هو مفيد يف جمال علم اللغة ،وبدا
إىل اللون األزرقَّ ،
ولعل أكثر ما يلفت االنتباه أنَّه ما نعت السامء عىل الشكوك التي بدأت تنترش حول وجود الشاعر ،وحول نسبة
والبحر بالزرقة ،فهو يطنب يف احلديث عن الضوء واإلرشاق، و«األوديسة» إليه ،فام هو إال منشد رضير طاف البالد
َّ «اإللياذة»
يفصل يف ذكر األلوان تظهر عنده مبهمة ومتقلبة: وحينام ينبغي أن ّ يتغنَّى بأجماد القدامى ،فيجمع ما يراه داع ًام لبناء صورة اإلغريق
بحره داكن بلون النبيذ ،وما وصفت السامء بأهنا زرقاء. يف حروهبم ومغامراهتم ،ويتع َّيش من ذلك ،ويل ّبي رغبات
متأخرة عن أحداث سالفة صار استدعاؤها موضوع عناية من ّ
سوف خيطر عىل البال تفسري متو َّقع له صلة باالفرتاض الشائع قبل عا َّمة اإلغريق ،بل متادت الشكوك فذهب بعضها إىل َّ
أن
عن عمى هومريوس ،فتداخل األلوان أو اجلهل هبا معروف عند السياق الشعري احلاضن ألحداث امللحمتني مل يكتمل إال بعد
العميان ،لك َّن «غالدستون» مل ُيعر هذا االفرتاض اهتامم ًاَّ ،
ألن « قرون من التاريخ املحتمل الذي عاش هومريوس فيه ،واحلال
خيص األلوان- أوصاف هومريوس -يف مجيع اجلوانب ما عدا ما ُّ الشك باآلداب ّ هذه ،فقد كُتب الكتاب عىل خلفية من صعود نربة
زاهية جد ًا ،ممَّا جيعل من املستحيل أن تكون طرح شخص ال القديمة ،وكان هلومريوس النصيب األوفر فيها ،ومل جيد الباحثون
خاصة به من دون أن تلك احلالة َّ افتض َّ
يرى العامل بعينيه» .ولو ُ مادة خيضعوهنا للنقاش النظري أكثر من املالحم اهلومريوس َّية،
معارصيه من الشعراء فال بد أن جيري تنبيهه إىل ذلك بام يؤ ّدي إىل الشك بالشاعر وشعره ،فال عجب أن ينتبه «غالدستون» ُّ فجرى
تصحيح األوصاف « ،لك َّن احلال مل تكن كذلك قط ،بل َّ
إن آثار ألن «اإللياذةإىل ذلك ،ويرفض نظريات الشك مجلة وتفصيالًَّ ،
تلك الغرابة تظهر زاخرة يف أعامل اإلغريق القدامى ،حتى بعد واألوديسة من تأليف شاعر واحد ذي عبقرية عظيمة».
َّ
كأن «غالدستون» يقول باحتامل عهد هومريوس بعدة قرون» .بدا َّ
يرصح بذلك ،فذهب إىل إصابة اإلغريق بعمى األلوان ،لكنه مل ّ أن إحدى أطرف النتائج التي وصل «غالدستون» إليها يف عىل َّ
أن القدرة عىل اإلحساس تفسري أصبح مقبوالً فيام بعد ،وهو « َّ سياق إثبات وجود هومريوس ،هي قوله بغياب اللون األزرق
ألن العضوباختالف األلوان مل تتطور متام ًا إال يف تاريخ متأخر»َّ ، يف أشعاره .فهو وأرضابه من قدامى الشعراء «كانوا يرون العامل
املسؤول عن « تقدير األلوان كان ما يزال يف طور النمو لدى باللونني األبيض واألسود» .اختفى األزرق عىل الرغم من أنَّه
اإلغريق يف الزمن البطويل» ،فقد كان « معارصو هومريوس يرون اللون الغالب يف جبال األوملب حيث موطن آهلة هومريوس ،بل
العامل أساس ًا من منظور النور والظالم ،فتظهر لدهيم ألوان قوس َّ
إن اللون األزرق هو رمز احلكمة اآلهل َّية التي حرضت يف ملحمتيه،
كتدرجات غري حمدّ دة للنقيضني األبيض واألسود فقط ». ُّ قزح ال عن ذلك ،فكثري من أحداث امللحمتني يدور يف البحار أو وفض ً
وعىل هامش هذين اللونني يظهر لون شبيه باألمحر ،كالدم والنبيذ عىل سواحلها ،فغياب األزرق دليل عىل وجود شاعر عاش قبل
والنحاس .يستعني هومريوس هبذه األوصاف بدل اإلحالة معرفة البرش َّية هبذا اللون ،نفي األزرق عن لغة هومريوس يؤكِّد
أن عيون القدامى مل تتدرب املبارشة عىل ذلك اللون .وعلة ذلك َّ وجوده قبل إدراك هذا اللون يف القرون الالحقة.
أن «اللون كمفهوم منفصل عن عىل التمييز بني األلوان ،ذلك َّ
اليشء املصبوغ به مل يكن ذا أمه َّية إال بعد معرفة اإلنسان لألصباغ قامت فرضية «غالدستون» عن غياب اللون األزرق عىل
واأللوان الصناع َّية» .ومن بني ذلك يغيب اللون األزرق عن شعر الركيزة اآلتية :عالقة هومريوس باأللوان غامضة ،فهو يستخدم
هومريوس ،فام وصف البحر به ،إنَّام نعته بأنَّه داكن اللون. عم يعرف به يف العصور احلديثة،الكلمة للتعبري عن لون خمتلف َّ
ويستعني بنعوت من األلوان ختتلف عن تلك التي حتيل عليها
حاول «غالدستون» إثبات غياب اللون األزرق عند قدامى يف الثقافات املعارصة ،وإىل ذلك جتنَّب استخدام الكلامت الدالة
خيص الزرقة يف تضاعيف «اإللياذة» اإلغريق ،فام عثر عىل نعت ُّ عىل األلوان يف سياق يقتيض ذكرها ،وقد هيمن اللونان األسود
و«األوديسة» ،مع َّ
أن أحداثها تقع يف البحار أو عىل ضفافها ،إنَّام َّ واألبيض يف عامله االفرتايض ،إذ استخدمهام كصفة نحو 170
استخدم الشاعر وصف ًا للبحر هو ( ،)wine-darkأي «نبيذي مرة ،عىل التوايل ،ما خال استخدام األفعال الدالة عىل
مرة ،وَّ 100
َّ
األربع لأللوان ،وهي عىل التوايل :األبيض ،واألسود ،واألمحر، غامق» ،فحيثام جرى تقليب امللحمتني توارت نعوت الزرقة عن
ثم األصفر ،وما ورد ذكر لألزرق فيها ،وإىل ذلك ،فقد وجد وألنا مالحظة َّ صورت أهوال البحار، األبيات الشعر َّية التي َّ
أن لون قوس أن معارصه الفيلسوف «أكزينوفان» قد أشار إىل ََّّ متر
جريئة ،وأقرب إىل أن تكون شطحة من شطحات اخليال ،مل ّ
قزح هو البنفسجي الغامق ،وهو خليط من األصفر واألخرض مرور الكرام ،إنَّام أهلمت الباحثني ،بعد ذلك ،للتنقيب يف مدى
واألمحر ،وقد غاب ذكر األزرق عند فالسفة القرن السادس قبل صحتها ،فإذا جرى إثبات جهل املجتمعات القديمة بالزرقة، َّ
تقص ذلك يف النصوص الدينية التي روعي أمر امليالد .وحينام َّ فيمكن ،يف آن واحد ،إثبات أمرين اختلف الناس فيهام منذ القدم:
تدوينها أكثر من النصوص األدبية ،كالتوراة ،والقرآن ،ما وجد وجود الشاعر «هومريوس» بدليل عدم ذكره اللون األزرق ألنَّه
أن زمن بعضها متأخر كثري ًا عن
فيها إشارة واضحة للزرقة مع َّ كان جمهوالً عند الشعراء كافة يف عرصه ،واألعرص السابقة عليه،
عرص هومريوس .إنَّام عثر عىل استخدام اللون األزرق يف الثقافة ونفي عامه بدليل ذكره لأللوان األخرى ما خال اللون األزرق
املرص َّية القديمة ،فإىل املرصيني يعزى اشتقاق هذا اللون ،فهم و«األوديسة» ،إذ ال يتأتّى
َّ الذي مل يستخدمه نعت ًا يف «اإللياذة»
أن غياب اللون األوائل يف ابتكاره واستخدامه .وكان تعليله َّ ذلك إال للمبرصين الذين يرون األلوان رؤية عني؛ فبعد زهاء
األزرق يعود إىل عدم قدرة الشعوب القديمة عىل إداركه ،فض ً
ال عرش سنني من نرش كتاب «غالدستون» ألقى عامل لغة أملاين ُيدعى
عن أنَّه كان نادر ًا يف الطبيعة. «الزاروس غايغر» حمارضة يف عام 1867م أمام مجاعة «من علامء
الطبيعة املرموقني» يف «فرانكفورت» بعنوان «يف إدراك األلوان
ٍ
ومسند هلا؛ حلجة «غالدستون»،
انتهى «غايغر» إىل تفسري داعم َّ وتطوره» اهتدى فيها بفرضية «غالدستون» ّ لدى العصور البدائ َّية
فقد جاءت املؤازرة من عامل باللغات ،ومل تكن خاطرة شطح هبا عمق اهتاممه باملوضوع ،فعزم عىل دراسة األلوان يف الثقافات ثم َّ َّ
متبحر يف األدب ،إنَّام قاده البحث يف أصول الكلامت، سيايس غري ِّ ً
حجته ،وكتبا دين َّية ال يكاد القديمة ،فاختار مالحم عريقة إلثبات َّ
ومنها كلمة «أزرق» إىل إثبات وجود لون داكن مع خرضة خفيفة، يشوهبا الشك ،ومن ذلك فقد ح ّلل ملحمة «الفيديا» اهلند َّية التي
أ َّما اللون األزرق فلم يكن معروف ًا يف العصور القديمة .وتوصل تعود إىل القرن الرابع عرش قبل امليالد ،ومت ّثل حجر الزاوية لألدب
أن األزرق «غايغر» إىل الرتتيب الزمني لظهور األلوان ،وظهر له َّ املدون باللغة السنسكريت َّية ،فقد أفاضت أناشيدها الدين َّية اهلندي َّ
كان آخرها يف إدارك اإلنسان ،فقد بدأ إدراك اللونني األسود أي موضوع آخر ،فأتت عىل يف وصف السامء ،كام مل ترسف بذكر ّ
واألبيض ،تالمها اللون األمحر ،ثم ظهر األصفر ،أعقبه األخرض ذكرها يف سائر أحواهلا ،وأسهبت ،لكنَّها مل تصفها بالزرقة .إثبات
عىل التوايل ،وختمت األلوان باألزرق الذي مل يكن معروف ًا يف «أن هومريوس غياب اللون األزرق يف ملحمة «الفيديا» برهن عىل َّ
مر إدراك احلقبة اهلومر َّية وما قبلها .وع ّلل ذلك بالصورة اآلتيةَّ : مل يكن وحده غري قادر عىل رؤية اللون األزرق ،فقد شاركه يف
اإلنسان لأللوان بمراحل قبل أن يستكملها ويستوفيها ،وكان ذلك شعراء اهلند القدامى» ،كام قال «غاي دويترش» يف كتابه
عم وقع لأللوان األخرى .ولو متأخر ًا َّ
ّ إدراكه للون األزرق الطريف «عرب منظار اللغةِ :ل َ يبدو العامل خمتلف ًا بلغات أخرى؟»
صحت نتائج بحوثه يكون «هومريوس» شاعر ًا مبرص ًا عاش يف َّ وإىل ذلك فقد التفت «غايغر» إىل دراسة التوراة ،فوجدها ختلو
الفرتة التي مل تدرك هبا العيون اللون األزرق ،إنَّام كانت تتلمس من ذكر اللون األزرق ،ومل يغب عنه القرآن الكريم.
طريقها يف ألوان داكنة ،ويبطل النظرية الشفو َّية املشكّكة يف
جوالني مجعوا املرويات اليونان َّية
وجوده ،وتدَّ عي وجود شعراء َّ ال شغل الباحث األملاين يف حفره عن األلوان كان هذا شاغ ً
القديمة ،وأسندوها إىل شخص اتفق أن يكون اسمه «هومريوس» املظان القديمة ،لك َّن توصالته مل تكن رضب ًا من التأويل ،وال
ّ يف
اجلوال الرضير.أي َّ للمدونات
َّ شطح ًا من اخليال الشعري وإنَّام هي استقراء من َّظم
القديمة من أجل الربهنة عىل الفرض َّية ،فوجد ،عىل سبيل
ثم جنت شطحة «غالدستون» ثمرة أخرى أكثر نضج ًا ،فبعد أن الفيلسوف اإلغريقي «أمبيدوقليس» وقد عاش يف املثالَّ ،
الطب
ّ حماولة األملاين «غايغر» بعرش سنوات أخرى ،نرش مؤرخ القرن السادس قبل امليالد ،بعد هومريوس بنحو قرنني ،وعرف
األملاين ،والدارس للعالقة بني األلوان والعيون يف الثقافات عنه تدوين أفكاره بشذرات شعرية ،قد وضع الئحة بالفئات
يصح أن جتمع ُّ كل ذلك ،فقدفإن هومريوس كان يف منأى عن ِّ َّ واملتبحر بتاريخ الثقافة الطب َّية وتارخيها «هوغو ّ القديمة،
األدلة من أجل الربهنة عىل غياب اللون األزرق يف ملحمتيه، تطور إدراك األلوان اعتامد ًا عىل
ماغنوس» يف عام 1877م بحث ًا عن ُّ
أن الشاعر الذي مل ِ
يأت عىل ذكرها ال ُبدَّ ولكن ليس مؤكد ًا َّ ترشيح خاليا العني وأعصاهبا ،ضمن سلسلة من البحوث عالج
ألنا مل تكن معروفة يف عرصه ،واألعرص ال هباَّ ،أن يكون جاه ً وطب العيون عند القدامى ،والتطور ّ فيها ظاهرة عمى األلوان،
يشذ هومريوس عن هذه القاعدة. السابقة ،ومل ّ التارخيي ملفهوم اللون ،وداللة األلوان عند الشعوب القديمة،
«إن رؤية القدامى تتشابه وانتهى إىل ما كان سلفاه قد أشارا إليهَّ :
مع ما تستطيع أعني العرص احلديث أن تراه وقت الغسق حني
تبهت األلوان وتظهر حتى األشياء الفاقعة اللون بلون رمادي
فكأن القدامى ينظرون إىل العامل هبذا الشكل حتى يف وضحَّ مبهم.
النهار» .ثم راح يرشح ذلك الرتتيب الزمني النبثاق اإلحساس
باأللوان حسب ألوان املوشور :فاللون األمحر هو أكثر األلوان،
نتدرج يف
وفيه أعىل درجة للطاقة ،وتتناقص طاقة الضوء عندما َّ
ألوان الطيف من األمحر إىل البنفسجي ،فال تبدأ األلوان الباردة يف
تتطور حساسيتها للون ،ومل تصل الظهور عىل الشبك َّية إال حني َّ
تلك احلساسية يف عهد هومريوس إىل أبعد من اللون األصفر،
فكان من املمكن التمييز بني األمحر والربتقايل واألصفر ،وكان
اإلحساس باألخرض يف طور النمو ،أ َّما األزرق والبنفسجي ،ومها
أقل األلوان حدَّ ة ،فقد كانا ما يزاالن مسدودين وحمجوبني عن ُّ
العني البرش َّية ،كام هي احلال بالنسبة إىل األشعة فوق البنفسج َّية
اليوم .وطبق ًا هلذا فلم يكن هومريوس رضير ًا ،وإنَّام كان مدرك ًا
لأللوان ،ما خال األزرق الذي كان جمهوالً يف عرصه ،فحينام جيري
التدقيق يف اآلداب التي سبقت عرصه أو عارصته ال يظهر اللون
أن عينيه عاجزتان عن إدراك هذا األزرق فيها ،فليس العيب يف َّ
ألن ذلك اللون مل تدركه األبصار بعدُ .وما لبث أن اللون ،وإنَّام َّ
أصبح املوضوع مثار اهتامم يف القرن العرشين بجهود كثرية،
ومنها ماقام به «برنت برلني» ،و«بول كاي».
بابلو نيرودا
1904ـ 1973
تقديم وترمجة :د .حسن الغُريف*
قصائـد من نيــرودا رئيس مجهورية تشييل (سلفادور أليندي) الذي كان ينتظرهم يف
مكتبه دون أن يكون له من رفيق غري قلبه العظيم ،وقد أحيط
. 1السوناتا اخلامسة والعرشون بالدخان والنريان.
ياحبيبي ،قبل أن أح ّبك مل يكن لدي يشء لقد كان هلم أن ينتهزوا هذه الفرصة النادرة ،كان ال ُبدَّ من
كنت أتر َّدد عرب األشياء والدروب الرشاشات يف جسده ،فهو لن يتخىل أبد ًا عن
إفراغ الرصاص من َّ
ال يشء حتدَّ ث عنِّي ،وال يشء كان له اسم رس ًا يف مكان ما .لقد مىض ذاك اجلثامن
منصبه .فدفن ذاك اجلسد َّ
العامل انتسب إىل انتظار اهلواء. إىل ال َّلحد ال يصاحبه إال امرأة واحدة وحيدة حتمل يف نفسها
إن تلك الشخص َّية املجيدة امليتة كانت متيض وهيأمل العامل كلهَّ ،
عرفت مع ذلك الصالونات الرماد َّية اللون ُ مرة
خمرقة برصاص رشاشات عساكر تشييل الذين خانوا تشييل َّ ّ
عرفت أنفاق ًا مسكون ًة بالقمر
ُ أخرى» .
1
ُّ
الكل مل يكن إال فارغ ًا ،وموت ًا وصمت ًا
كل يشء كان ساقط ًا سقوط يف اإلمهالُّ ،
من غري استالب كان ُّ
الكل مستلب ًا.
ِ
وأنت بعدُ َح ّية حبيبتي ،إذا ِم ُّت
حي ِ
حبيبتي ،إذا م ِّت وأنا بعد ٌّ
ال نُو ِّل َي لألمل مدى أكرب
فال مسافة تفوق مدى حياتينا.
ورمال عىل رمالٌ غبار عىل القمح،
املاء التائه والزمن ،والريح املتسكعة
محلتنا مع ًا كبذور ُمبحرة
كان باإلمكان أال نلتقي يف هذا الزمن.
ويف هذا املنتجع الذي فيه التقينا - 1مذكّرات بابلو نريودا (أشهد أنَّني قد عشت) ،ترجمة ورشوح :د .محمود
أ َّيتُها اخلالدة الصغرية ،ها نحن مع ًا من جديد صبح ـ املؤسسة العربيَّة للدراسات والنرش ،بريوت ـ ط 1 .ـ يونيو ،1975ص:
لك َّن هذا احلب ،ياحبيبة ،هو حب بال حدود. .503/502
افتقدتا.
ُ ألن
ونفيس حزينة ّ وكام أنَّه مل يعرف والدة
أن هذا احلزن هو آخر ما أودعتنيرغم َّ فإنَّه جيهل املوت ،إنَّه كنهر طويل
ورغم َّ
أن هذا القصيد ،هذه األبيات آخر ما أودعتُها. غي الضفاف فحسب واملجرى. ُي ِّ
هناك مقابر منعزلة أستطيع أن أكتب الليلة أشدَّ األشعار حزن ًا
أرضحة مليئة بعظام بغري رنني مرصعة بالنجوم أن أكتب مثالً« :هذه الليلة َّ
يعرب القلب نفق ًا وكواكب السامء ترتعش من بعيد».
مظل ًام ،مظل ًام ،مظل ًام الرياح جتوب الليل وتُغنِّي. ّ
نموت نحو الداخل كأنَّنا يف سفينة تغرق استطعت أن أكتب الليلة أشدَّ األشعار حزناً ُ
كـأنَّنا نغرق يف القلب أحببتُها ،وأح ّبتني أحيان ًا هي أيض ًا
الروح. يف ٍ
كأنَّنا نسقط من اجللد إىل ُّ ذراعي
َّ ليال كهاته الليلة كانت بني
مرات حتت السامء ،السامء الالمتناهية. ق َّبلتها َّ
هناك جثث أح َّبتني ،وأحببتُها أحيان ًا أنا أيض ًا
هناك أرجل من طني لزج ،بارد كيف ال أعشق عينيها الواسعتني؟
هناك املوت يف العظام أستطيع أن أكتب الليلة أشدَّ األشعار حزن ًا
كصوت خالص افتقدتا.
ُ أن أخت َّيل َّأنا مل َت ُعد يل ،أن أشعر ّأن
كنباح بدون كلب أن ُأنصت إىل الليل الشاسع ،الشاسع أكثر من دوهنا
ينبعث من نواقيس ما ،من قبور ما، والشعر ينزل عىل القلب كام ينزل عىل العشب النَّدى. ِّ
يكرب يف الرطوبة كالدموع أو املطر. ِ
عيل إن كان ُح ِّبي مل يستطع أن ُيبق َي عليها ماذا َّ
أرى ،وحيد ًا ،أحيان ًا الليل ميلء بالنجوم وهي ليست معي.
توابيت من أرشعة هذا هو احلال .غناء هناك من بعيد .
تُقلع بموتى شاحبني ،بنساء بضفائر ميتة إنَّه من بعيد .ونفيس حزينة لفقداهنا.
بخ َّبازين بيض كاملالئكة
بصبايا كئيبات مرتبطات بعدول لكي ُأ ِّقرهبا َط ْريف الذي يبحث عنها
توابيت تصعد النهر العمودي للموت افتقدتا.
ُ ألن
وكذلك قلبيّ ،
النهر البنفسجي غري َّأنا الليلة نفسها التي َّلونت األشجار بالبياض
نحو األعىل بأرشعة منتفخة بصوت املوت غري أنَّنا نحن االثنني نحن املرتبطني مل نعد كام كُنا.
منتفخة بصوت املوت اخلافت. مل أعد أح ُّبها ،هذا حق ،غري ّأن طاملا أحببتُها
يأيت املوت بصخب كان صويت يدعو الريح كي يدلف إىل مسمعيها.
رجل يرتدهياكحذاء دون ِرجل ،كبدلة بغري ُ لسواي ستكون .كام كانت من قبل لقباليت َ لسواي،
َ
فص له وال إصبع فيه يأيت ليرضب بخاتم ال َّ ستكون لسواي بصوهتا ،بجسدها البض ،بعينيها الواسعتني.
يأيت ليرصخ دون فم ،دون لسان ،دون حنجرة. مل أعد أح ُّبها ،هذا حق ،غري ّأن طاملا أحببتُها
ترن ،يتجاوب رجعها فإن خطاه ُّ ومع ذلك َّ ما أقرص عمر احلب! وما أطول أيام النسيان!
يرن رجعه ،بصمت مثل شجرة. ودثاره ُّ ذراعي
َّ يف مثل هذه الليايل ،كانت بني
عن براكني مسقط رأيس العظيمة؟ ال أعرف ،أعرف أشياء قليلة ،أرى بصعوبة
تعالوا تروا الدم يف الشوارع لكنّي أظ ُّن َّ
أن ألغنيته لون أزهار البنفسج الرطبة
تعالوا تروا أزهار البنفسج التي ألفت الرتبة،
الدم يف الشوارع ألن وجه املوت أخرض َّ
تعالوا تروا الدم ونظرة املوت خرضاء
يف الشوارع!. من ِّ
طل ورقة من بنفسج
ولون قاتم من شتاء ثائر.
. 6مقطع من قصيدة (استيقظ أهيا احل َّطاب) لك َّن املوت أيض ًا يذرع العامل ممسك ًا مكنسة
من ديوان «النشيد العام» يلعق األرض باحث ًا عن ضحايا
املوت عىل املكنسة
لي ُع َّم السالم الغسق الزاحف هي لسان املوت يف البحث عن موتى
ليعم السالم النبيذ
ليعم السالم اجلرسَّ ، َّ هي إبرة املوت يف البحث عن خيط.
ليعم السالم احلروف التي تنشدين َّ األرسة:
َّ املوت فوق
وتصعد يف دمي ،ناسجة فوق األفرشة اللينة ،فوق األغطية السود
مع األرض واحلب النشيد القديم يعيش متح ِّفز ًا يف استلقاء ،ثم فجأة ينفث:
ليعم السالم املدينة عند طلوع الشمس َّ ينفث بصوت ُمعتم ينفخ األغطية
ليعم السالم جمرى
حيث يستيقظ الرغيفَّ ، أرسة تسبح نحو مرفأ وهناك َّ
اجلذور ،هنر املسيسيبي حيث تنتظر ،يف لباس أمري البحر.
ليعم السالم قميص قريبي، َّ
ليعم السالم الكتاب الشبيه بأثر من ريح َّ .5مقطع من قصيدة (لنرشح بعض األمور)
ليعم السالم « كييف» وكوخلوزها العظيم َّ
ليعم السالم رماد ضحاياها َّ من ديوان «إسبانيا يف القلب»
ليعم السالم حديد
وضحاياها اآلخرينَّ ، ُّأيا اجلنراالت
ليعم السالم ساعي الربيد بروكلني األسودَّ ، ُّأيا اخلونة:
الذي يرت َّدد عىل املنزل تلو املنزل كالنهار انظروا إىل منزيل امليت
مصمم الرقص الذي جيهر بالقول ّ ليعم السالم َّ انظروا إىل إسبانيا اجلرحية.
يف ِق َم ِع الزهر األرجواين كل منزل ميت خيرج معدن ملتهب لكن من ّ
ليعم السالم يدي ال ُيمنى َّ َبدَ ل الزهور.
التي ال ترغب سوى يف كتابة «روزاريو»: كل ُجرح إسبانيا لكن من ّ
ليعم السالم «البوليفي» الغامض َّ تنبعث إسبانيا.
ليعم السالم كحجر من قصديرَّ ، كل طفل ميت تبزغ بندقية ذات عيون لكن من ّ
ليعم السالم
من أجل أن تتزوجَّ ، كل جريمة تولد رصاصات لكن من ّ
كل منارش اخلشب بضفاف هنر «بيوبيو». َّ سوف جتد يوم ًا مكان ًا
املمزق ليعم السالم القلب َّ َّ يف قلبكم.
إلسبانيا املغاوير تسألون ملاذا ال يتحدَّ ث شعري
ليعم السالم املتحف الصغري يف «فيومينغ» َّ عن احللم ،عن أوراق الشجر
حاتم الساملي*
فحسب ،وإنَّام هي أيض ًا قائمة باألساس عىل لغة أدب َّية كُتبت مدخل
لب اخلطاب الذي نتل َّقاه ونتفاعل معه بوصفنا َّقراء. هبا ،و هي ُّ أن يشتغل الدارس بآل َّيات يبدو من الغريب منذ الوهلة األوىل ْ
جاف يشعرنا ٍّ يب اجلام ُّيل لكنَّا إزاء رسد َف َل ْوال هذا اخلطاب األد ُّ السد الركن نثريُ ،ي َعدُّ َّ روائي نصالشعر َّية ( )Poéticitéيف ٍّ
1
ّ ّ
با َملالل والكَالل ،وما كان للروايات املكتوبة يف العرص احلديث الركّني يف بناء عامله املتخ َّيل ا ُملشكَّل من األحداث والشخص َّيات
شأن ُيذكر .وعليه بدأت أنظار الباحثني تنْرصف إىل رصد الرسدي ()narrative Perspective ّ واألمكنة واألزمنة واملنظور
حتفية أغلب نصوصها الراهنة مظاهر شعرية الرواية العربية ا ُمل ِ النص والراوي ( ،)Narrateurذلك َّ
َّ َّ أن البحث يف ما يكون به ُّ
والرمز واألسطورة والصورة واملعجم حفاوة بالغة باإلحياء َّ عمل جيريه الدارس يف نص ًا شعر َّي ًا متو ِّفر ًا عىل طاقة أدب َّية عالية ٌ
َّ
واإليقاع لبناء أركاهنا الرسد َّية ،فلم َت ُعد احلكاية املبن َّية عىل نظام شعري ،باعتبار القصيدة سواء أكانت قديمة َأ ْم ّ نص
العادة عىل ٍّ
قصيص صارم َي ِصل األسباب بالنتائج يف الرواية التجريب َّية ّ املدونة اخلليقة بمثل هذا التناول ،بحكم ما حيتوي حديثة هي َّ
ِ
أساس القصص َّية (َ ،)Narrativitéب ْل تستمدُّ هذه الرواية مقومات الشعر َّية كاإليقاع والصورة واملعجم نصها من ّ عليه ُّ
كالشعر تعزز بالغة خطاهبا ّ مشارب وروافدَ أخرى ّ َ قصص َّيتها من نصه عىل نحو املقومات املذكورة يف ّ يرصف ّ والرتكيب ،فالشاعر ّ
والسينام ،إىل غري ذلك من ألوان الفنون التي والرسم ّ واملوسيقى ّ روائي
ّ نثري
نص ّ خمصوص خيالف يف الغالب ترصيف الكالم يف ٍّ
أن تصهرها استطاعت الرواية بفضل حوار َّيتها(ْ ) Dialogisme
3
رسدي.
ّ
أن ّ
يول الرسدي .فال غرو -واحلال هذهْ - ّ مكونات نسيجهايف ِّ
لفيف من الباحثني العرب اليوم وجوههم شطر الرواية العرب َّية الرواية ال تنبني عىل حكاية ( )Histoireينقلها إلينا لك َّن ّ
4
املعارصة الستجالء أرسار شعر َّيتها وآيات مجال َّيتها. الرواة انطالق ًا من وجهة نظر( )Point de vueمع َّينة
2
راو من ٍُّ
إن الشعر َّية بوصفها جمال عملنا يف رواية الق َّفاش ليست ذات َّ إن اهتاممنا يف هذا املقال باستخالص بعض آل َّيات الشعر َّية َّ
تقليدي راجع إىل وجود االستعارات والتشابيه ّ بالغي
ّ ُبعد يف رواية « ترصيح بالغياب» لألديب املرصي منترص الق َّفاش
ِ
واملجاز بصفة عا َّمة يف الكالم الذي صيغت به الرواية ،بل هي مواصلة ملا قطعته الدراسات العرب َّية من أشواط حممودة يف هذا
رسدي من جهة كون طرائق الرسد القائمة أساس ًا عىل ّ ذات طابع النطاق .5لذلك نحاول يف هذا العمل تد ُّبر بعض مواطن الشعر َّية
ِ
القصيص هي التي ُت َعدّ ا ُملنشئة لشعر َّية اإلحياء والتصوير والتوقيع نص «ترصيح بالغياب»؛ ملا ملسناه يف الرواية مدار
ّ وآليات بنائها يف ّ
رواية «ترصيح بالغياب» يف مستوى العنوان والتصدير واملتن نظرنا من كثافة إحياء ( )Connotationوبالغة تصوير وانتقاء
6
الروائي.
ّ اإليقاعي ،كان هلا بالغ األثر
ّ باملكون
ّ معجمي وعناية واضحة ّ
يف صياغة رسد َّية روائ َّية ذات شعر َّية عالية .فبالرسد ومن الرسد
. 1يف شعر َّية العنوان« :ترصيح بالغياب» بالغة التلميح تستمدُّ هذه الرواية شعر َّيتها.
عىل هذا النّحو يشمل ال ّلبس العنوان ،ألنَّه قائم عىل احلذف ثم تتَّسع
فيتأهل للداللة عىل أكثر من معنى .ومن َّ
8
َّ الغموض،
يرصح الذي هو صورة من صور الغياب .فعنوان الرواية ال ّ إن ال ّلبس
أدق َّ دائرة دالالته لقبول تأويالت شتَّى ،أو ْ
لنقل بلغة ّ
باملبتدأ الذي يقدّ ره القارئ (هذا) وحتَّى اخلرب الكائن يف العنوان ا ُملج ِّلل العنوان هيبه عدَّ ة تأويالت ال يبطل بعضها بعض ًا.
النحوي الدال ُّيل حضور ًا
ُّ (ترصيح بالغياب) ال حيرض فيه اإلسناد
ثم فنحن لسنا إزاء تا َّم ًا ،بل نقف عىل ما يشبه اإلسناد .ومن َّ إن َّأول ما يطالعنا من هذه الرواية عنواهنا «ترصيح بالغياب» َّ
روائي واضح ومكتمل من الناحية الرتكيب َّية ،وإنَّام نحنّ عنوان إسنادي يقوم عىل مصدر ّ الوارد من الناحية النحو َّية مركَّب ًا شبه
مبني عىل بالغة احلذف حيال «شبه عنوان» ،إن جازت العبارةٌّ ، يدل بصيغته الرصف َّية االشتقاق َّية عىل مطلق احلدث (ترصيح) ُّ
والغياب .ذلك أنَّنا ال نعلم علم اليقني َم ْن ا ُمل ِّ
رص ُح بالغياب؟ و َم ْن باجلر (بالغياب) املجرور فيه متع ّلق به مفعول به جاء مركًّب ًا حرف َّي ًا ّ
أي غياب يتحدَّ ث العنوان؟ رص ُح له بالغياب؟ وعن ِّا ُمل َّ واللم («الـ القمر َّية» التي توحيمعرفة باأللف َّ ورد كلمة مفردة َّ
بمعنى الغياب الرتباط القمر رغم ضيائه بالليل قسي ًام للنَّهار).
أن الترصيح بأمر من األمور يقرتن باحلضور هذا عالوة عىل َّ ليعب عن
يتجرد من الزمن ِّ فهي أيض ًا من جهة االشتقاق مصدر َّ
واللم العنوان غموض ًا تو ّلد ال بالغياب الذي زاد تعريفه باأللف َّ ثم يتك َّثف املعنى ويصبح غائب ًا غائ ًام بفضل مطلق احلدث ،ومن َّ
أن حييل عليه العنوان ،الس َّيام َّ
أن مكن ْ منه لبس كبري يف املعنى ا ُمل ِ اإلطالق َّية التي استمدَّ ها من املصدرين املذكورين.
حمل املجرور املعرب بالكرسة ،وقد ارتبط املصدر «غياب» جاء يف ّ
بمشتق قائم مقام الفعل مغرق يف التنكري (ترصيح) .فهل يعني ٍّ الفرنيس
َّ يف هذا املضامر أ َّن ُمرت ِج َم ْي «معجم تحليل الخطاب» يع ّربان املقابل
أن الكرس الذي شمل العنوان تركيب َّي ًا هو وجه من وجوه بناء هذا َّ ِّمي املصطلح املذكور عىل هذا النحو «االلتباس
( )Ambigüitéبالتباس مقد ْ
داللة روائ َّية تكرس القاعدة ،وتُبنى بالتعريض الذي هو خالف ظاهرة ترتبط بإخراج امللفوظ يف صورة خطاب .وتتولّد هذه الظاهرة عندما
ّ
والشك مثلام جاء يف املعب عن الباطن وال َب ْي
الترصيح وبالغياب ِّ تتوفَّر يف الجملة الواحدة معانٍ عدَّة ،ومن ث َّم تكون قابلة لتُؤ َّول بطرق كثرية».
لسان العرب؟ .9 ا ُنظر:
Jean Michel Gouvard: la pragmatique outils pour l’analyse
يتأسس العنوان عىل شعر َّية التلميح وبالغة فعىل هذه َّ
الشاكلة َّ littéraire, Ed Armand colin .1998. p.28et pp.48 - 49.
معي أو حمدَّ د يمكن ْ
أن حييل ال ّلبس والغياب ،فال حضور ملعنى َّ وانظر أيضاً:
متعي يف الواقع .فإذا كان املصدر عىل حدث واضح وعىل مرجع ّ «معجم تحليل الخطاب» لباتريك شارودو ودومينيك منغنو ،ترجمة عبد القادر
اجلر وفق«ترصيح» متعدّ ي ًا إىل مفعوله «بالغياب» بواسطة حرف ّ املهريي وحامدي صمود ،نرش املركز الوطني للرتجمة ،تونس ،2008 ،ص .36
فإن مضمون اخلرب الوارد يف العنوان صناعة النحاة وقواعدهم َّ 8ـ اشتغل قبلنا مح َّمد الخبو يف نطاق ندوة علميَّة دوليَّة نظَّمتها وحدة البحث
النيص وال يتعدَّ ى إىل اإلحالة عىل العامل
ّ الزم ال يفهم إال يف نطاقه يف التداول َّية بكل َّية اآلداب والعلوم اإلنسان َّية بالقريوان أيّام 30نوفمرب و-1
اخلارجي ،ومن هنا ُي ْس ِهم ال ّلبس بمختلف جتل َّياته يف بناء شعر َّية
ّ 2ديسمرب 2006برواية «ترصيح بالغياب» ملنترص القفَّاش ،مركِّزا ً عىل خصائص
الروائي ،فيغدو العنوان من جهة كونه َّأول عتبة نلج ّ هذا العنوان اللبس املرجعي فيها.
من خالهلا عامل الرواية عتمة .وهذا -يف تقديرنا -وجه من وجوه املرجعي يف الرواية املدروسة ،فإنَّنا
ّ ولنئ ك َّنا نشرتك معه يف إثارة مسألة اللبس
توليد الشعر َّية يف رواية « ترصيح بالغياب». نصل ذلك بقض َّية الشعريَّة التي هي أصل عملنا هذا وفصله ،مستفيدين
استفادة كبرية من مقاله املذكور يف تفكُّر مبحث الشعريَّة يف رواية القفَّاش.
بنائي
مكون ّ هكذا نظرنا يف العنوان العتبة -العتمة باعتباره َّأول ِّ ا ُنظر:
يتعامل معه القارئ يف عالقته باألثر املدروس ،فبدا لنا ُم ْلبِس ًا يف مح ّمد الخبو :من خصائص اللّبس املرجعي يف الرواية «ترصيح بالغياب» ملنترص
قفّاش منوذجاً ،ضمن أعامل ندوة (اإلحالة وقضاياها يف ضوء املقاربات اللّسان َّية
9ـ ا ُنظر ابن منظور (جامل الدين) :لسان العرب ،دار صادر ،ط ،1بريوت ـ والتداوليَّة) ،منشورات مسكيلياين للنرش وكليَّة اآلداب بالقريوان ،سبتمرب ،2008
لبنان 1998 ،مادّة (غ.ي.ب). ص ص .166-157
الرواية ،يضاف إىل ذلك توزيع القول املسرت َفد عىل ثالثة أسطر من لبس جعله مبن َّي ًا عىل غياب املعنى الرصيح .
11
احلرة ،ناهيك
تشبه من حيث بناؤها األسطر الشعر َّية يف القصيدة َّ
متدرجة من القرص إىل الطول الذي َّأنا جاءت يف تصدير الق َّفاش ّ نص مصاحب ()Paratexte أن التصدير(ٌّ )Epigraphe وبِ َم َّ
يبلغ أقىص مداه يف السطر األخري مع األخذ بعني االعتبار طريقة يب ويف استكشاف يسهم حسب جريار جونات يف إضاءة األثر األد ّ
رسم األسطر ،إذ هي ليست باملتجانسة من جهة اإلخراج عىل أن نقف عىل طبيعته يف رواية مسارات املعنى فيه ،فإنَّه من املفيد ْ
وجه الورقة من الناحية العمودية وال من الناحية األفق َّية .فهي «ترصيح بالغياب» .12
ال واحد ًاِ .ز ْد عىل ذلك َّ
أن بناء اجلملة ال ختضع لتوزيع َيتَّخذ شك ً
األولني ونصف السطر الثاين. موزع عىل السطرين َّ األوىل متق ّطع َّ .2يف شعر َّية التصدير :بالغة اإلحياء
هلذا جاء التعريف متش ّظي ًا ال نظفر بمعناه للوهلة األوىل متى
ستضاف يف أن الق َّفاش أضفى بصمة ثانية 14عىل الشاهد ا ُمل َ أدركنا َّ ينص منترص الق َّفاش ـ مثلام جرت العادة يف معظم الروايات مل ّ
األصيل الذي قصده ابن منظور ،إ ْذ
َّ حور بمقتضاها املعنى
روايته َّ العرب َّية -عىل كلمة تصدير ،بل أورد شاهد ًا قول َّي ًا()Citation
ِ
جاء يف كالم صاحب «لسان العرب»« :واجليش :نبات له قضبان اسرتفده من معجم «لسان العرب» البن منظور(ت711هـ)
ض وله سنفة كثرية طوال مملوءة ح َّب ًا صغار ًا .واجلمع طوال ُخ ْ ٌ ال عليه بعض التحوير دون كتابة عبارة تصدير ،ممَّا جعل ُمدْ ِخ ً
جيوش» .15 هذه العتبة تنرصف عن الوظائف املوكولة إليها يف ا ُمل َ
تداول من
الكتابة األدب َّية املعارصة .13
األصيل بالتصدير املكتوب يف الرواية تسرتعي َّ إذا قارنَّا الشاهد
تعمد عدم شكل الكلمة أن الق ّفاش َّانتباهنا بعض األمور؛ منها َّ لقد جاء التصدير يف رواية «ترصيح بالغياب» عىل هذا النّحو
يعمق شعر ّية اللبس التي زرعها بدء ًا مدار احلدّ والتعريف حتَّى ّ ض ،مملوء ح َّب ًا صغري ًا، ٌ
طوال ُخ ْ ٌ نبات له ُقضبان
... «:واجليش ٌ
املعجمي
ّ «اجليش» املعن َّية بالضبطأن كلمة ِ خاصة َّ
َّ من العنوان، واجلمع جيوش»« .لسان العرب».
والدال ّيل تبدأ بجيم مكسورة مثلام جاءت يف «لسان العرب»
«جيش» بفتح اجليم التي تعني اجلند ومجاعة لذلك تلتبس بكلمة َ
الناس يف احلرب ،مثلام تعني غثيان النفس عندما جتيش وتفيض 10ـ ذكر روالن بارت ( )1980-1915يف كتابه «املغامرة السيميولوج ّية» أ َّن
مؤذنة بموت صاحبها ،ومنها حذف جزء من التعريف (وله العنوان ينهض أساساً بوظيفة إعالنيَّة إشهاريَّة من جهة كونه اختزاالً ملحتوى
سنفة كثرية طوال) العائد دالل َّي ًا عىل النبات ،ومنها أيض ًا تغيري األثر .ا ُنظر:
األصيل يف كالم ابن منظور واستبداله بعد ا َمل ْحو والتّبديلّ املنعوت Roland Barthes : L’aventure sémiologique, Ed.Seuil, Paris. S D.
خب عن صفة املوصوف يف أن النعت ا ُمل ِ بمنعوت جديد ،ذلك َّ p.33
أن النعت تصدير الق ّفاش يعود مبارشة عىل «نبات» .عىل حني َّ 11ـ يعترب هيوك ( ) Hoekالعنوان عالمة لغويَّة دالّة واسمة ملضمون األثر
األد ّيب .ا ُنظر يف هذا النطاق كتابه:
14ـ ا ُنظر: Leo. (H) Hoek : La marque du titre. la Haye. Paris .1981.
Antoine Compagnon: la Seconde main ou le travail de la citation, 12ـ ا ُنظر:
Ed Seuil 1979 Paris. pp. 68 - 70. Gérard genette: Seuils. Ed Seuil. Paris. 1987. pp. 134 - 149.
15ـ ا ُنظر لسان العرب البن منظور ،مادّة (ج .ي .ش). 13ـ ا ُنظر.Ibid. pp.145 - 149 :
أن ال ّلبس يغشى التصدير املوسوم باحلذف ا ُملجتنَى من هذا ك ّله َّ كلاألصيل موصول باملنعوت «سنفة» (وهي وعاء ِّ ّ يف الشاهد
اف
ستض َ َ
القول ا ُمل َ نح ال ومضمون ًا ،ممّا ْ
يم ُ والبرت والتش ّظي شك ً ال كان أو مستدير ًا .و ُي َق ُال ألكمة الباقالء واللوبياء ثمر ،مستطي ً
أن أعمل فيه الق ّفاش معول احلذف والتغيري إىل الرواية -بعد ْ والعدس وما أشبهها :سنوف ،واحدها سنف .والسنف :العود
والزيادة -شعر ّي ًة ُم َضا َف ًة مدارها عىل خرق املألوف والسائد حيول الصفة من التأنيث وفضال عن ذلك ّ ً املجرد من الورق) .16
َّ
واالحتكام إىل مجال َّية جديدة ،هي مجال َّية التشظي( (�Fragmenta األصيل إىل صيغة املذكَّر لتعود
ّ لكوهنا راجعة عىل «سنفة» يف القول
أن يورد الق َّفاش تعريف ًا لكلمة
.)tionفال عجب ،واحلال هذهْ ، بدالً النعت يف صيغة اجلمع «صغار ًا» الصفة عىل كلمة «نبات» م ِ
ُ
يؤهلها إلمكان َّية اإلحياء بمعنى «جيش» تُكتب بجيم مكسورة ممَّا ّ فكأن الق َّفاش يستعيض عن الكلّ َّ بنعت يف صيغة املفرد «صغريا»ً
املحور إحياء برغبة املؤ ّلف
َّ القضبان والقيد .أليس يف هذا التصدير باجلزء الذي يرسم كتابته الشذر َّية املتش ّظية.
يف جتاوز قضبان القوالب األدب َّية اجلاهزة نحو كتابة روائ َّية ُم ْلبسة
َتن ِْسج خيوط رسد َّيتها عىل غري مثال سابق؟ َأ ُي ْعزى حذف عبارة «سنفة» يف التصدير إىل كوهنا حتمل املعنى
ونقيضه مثلام ورد يف «لسان العرب» اخلصب واالمتالء يف مقابل
عىل هذا النحو وقفنا عىل بعض أرسار شعر َّية التصدير املتأتية الروائي يركّز عىل
ّ املجرد من الورق)؟ أم لكون َّ اجلدب (العود
أساس ًا من بالغة احلذف والغياب وكثافة اإلحياء الذي جعل األول من تعريف «جيش» الرتباطه بمعنى القضبان الذي القسم َّ
ِ ِ
متعي املعنى ملتبس ًا ممتنع ًا عن اإلحالة عىل مرجع واضح دقيق َّ للسلطة والتس ّلطَّ ،
خاصة يص الطويلة رموز ًا ُّ
حييلنا مبارشة عىل الع ّ
مهم
أن خطاب العتبات كالعنوان والتصدير باب ّ يف الواقع ،وبِ َم َّ إذا أخذنا يف احلسبان إحلاح املتك ّلم يف الشاهد عىل طول القضبان
خارجي للرواية له بالغ ٌّ النص األ ّم وبنا ٌء
أن ندخل منه ّ يمكن ْ ولوهنا األخرض الذي يذكّرنا بالبدلة العسكر َّية والثكنات
الداخيل القائم أساس ًا عىل الرسد َّ
فإن قيمته الفن َّية ّ األثر عىل تركيبها والسجون؟ ور َّبام استخدم الق َّفاش كلمة «جيش» بكرس اجليم
الروائي ،باعتباره عصب ّ حق الفهم بمعزل عن املتن ال تُفهم َّ انطالق ًا من جرياهنا يف ال ّلهجة املرص َّية لتسمية َّ
املؤسسة العسكر َّية،
الروائي يتوجه هبا ِ
ُّ الكتابة الرسد َّية وجوهر الرسالة األدب َّية التي َّ «ج ْيش» ليعبوا عن معنى َإذ يقول املرصيون «غيش» بكرس اجليم َّ
القراء .و َّملا كان ذلك كذلك ،نحاول يف هذا املستوى من عملنا إىل َّ يب الفصيح. بال ّلسان العر ّ
البحث يف بعض اآلل َّيات البانية لشعر َّية رواية «ترصيح بالغياب»
الروائي.
ّ يف مستوى املتن إن هذا التأويل ممكن متى ربطناه بمضمون الرواية الذي َّ
يتحدَّ ث عن حماولة الراوي استعادة روايته التي كان أودعها من
بالسد ِ
الروائي :فتنة التصوير وبراعة التَّوقيع َّ
ّ . 3يف شعر َّية املتن ذي قبل يف أحد املخازن بمدرسة متريض عسكر َّية قام فيها بواجبه
ب عىلالعسكري وأزف موعد مغادرهتا مغادرة هنائ َّية ،إال أنَّه ُي َ ُ
ّ
مستهل هذا القسم من العمل تقديم رواية «ترصيح ّ َ ْي ُسن بنا يف يعرفه عىل البقاء وتنتهي الرواية بتس ّلم الراوي ترصحي ًا بالغياب ّ
يتيس لنا يف موضع الحق التعامل مع متنها أثناء حماولتنا بالغياب» كي َّ هذا النحو« :هو ترصيح آخر بالغياب يبدو يف ط َّياته العديدة
تضم س َّت ًا
رصد آل َّيات الشعر َّية فيه ،فهذه الرواية من احلجم الصغري ُّ رس مكنونة ،وحمفوظة لكي ترس يف خدمة جديدة،... كلمة ٍّ
وستّني صفحة ذات مساحة نص َّية وجيزة ُو ّزعت فيها الفقرات بطريقة ترصيح تضعه يف حمفظتك جوار البطاقة الشخص َّية وال تدري إىل
قسمها شذر َّية َّاتذت أسلوب توزيع الكالم يف قصيدة النثر .لذلك َّ متى ستحتفظ به ومن سيطلبه منك وملاذا ،...اآلن وهذا الترصيح
ال جاءت أشبه ما تكون بمقاطع قصرية الق َّفاش إىل ستَّة وثالثني فص ً كل ما انتهت إليه الرواية التي جئت الستعادهتا. يف يدك يبدو كأنَّه ُّ
مبن َّية عىل طراز األقصوصة ،و َم ُصوغة بلغة رسد َّية كثيفة تقرتب إىل صفحة منها .اسمها .هوامش كُتبت بحروف دقيقة جتهد يف
الشعر إيقاع ًا ومعج ًام وصور ًة وتركيب ًا.
حدٍّ كبري من ُروح ِّ قراءهتا كاملة » .17
وإذا ما حاولنا ربط بنية الفصول وأشكاهلا النص َّية بالتصدير 16ـ ا ُنظر املرجع نفسه ،مادّة (س.ن.ف).
الذي وقفنا عليه من ذي قبل ِ
فه ْمنا سبب إحلاح منترص الق َّفاش 17ـ منترص القفّاش :ترصيح بالغياب ،مرجع مذكور ،ص .74
قصيص واضح .وإىل ذلك فهي ال تُرسد ّ أحداث ت ُْروى يف مسار عىل استعامل صيغة اإلفراد يف نعت منعوت مجع (ح َّب ًا صغري َا)
وفق منطق قائم عىل التتابع واالنتظام .فال وجود ألحداث تُنجز أن النعت يتبع املنعوت يف علم النَّحو فيطابقه يف عالمة واحلال َّ
أن الرسدعىل هيئة دقيقة ب ّينة فيمكن نقلها ورسدها ،وآية ذلك َّ فيرتسخ لدينا حينئذ مبدأ كرس القاعدة
َّ اإلعراب واجلنس والعدد
وجه ًا بانفعاالت الذات الراوية متل ّبس ًا بعاملها
كثري ًا ما جييء ُم َّ النص الذي جاءت فصوله عىل شاكلة يف الكتابة الروائ َّية يف هذا ّ
الذهني وقد متكَّن منها احللم والالوعي َّ
كل ّ الداخيل وبنشاطها
ّ ست وثالثني ح َّبة متناثرة ال رابط بينها سوى ما جييش يف الذات ٍّ
متكّن .فاجلهة ( ) Modalitéالتي يصدر عنها الراوي يف هذا
20
املتك ّلمة يف الرواية من مشاعر وما يتوارد عليها من رؤى وأخيلة.
20ـ تعني الجهة يف اللّغة واللّسانيات وجهة نظر املتكلّم إزاء امللفوظ الذي مدار هذه الرواية عىل حدث رئيس عىل غرار ما نجده يف
كل قول يتلفّظ به القائل يحمل مضموناً قضويّاً (املَقُول) ووجهة
ينجزه أل َّن َّ ويتلخص هذا احلدث الذي ُيم ّثل عصب املتن َّ األقصوصة،
اعتقاد تتَّصل مبوقف القائل من كالمه ،لذلك ميكن أ ْن يكون املضمون يف جملتني تسلم الراوي ـ وهو موضوع الرسد يف اآلن نفسه - الروائي يف ُّ
ّ
مختلفتني واحدا ً ،ولك َّن جهة اعتقاد القائل يف كلتيهام مختلفة ،عىل نحو ما ّ
كثري من الغموض واللبس .ذلك الترصيح بالغياب الذي شابه ٌ
نالحظه مثالً يف الجملتني التاليتني: النص ليتس ّلم
ّ َّ
أن الراوي يأيت إىل املدرسة العسكر َّية يف بداية
الجملة األوىل« :نزلت األمطار بكميَّات غزيرة» .مضمون الجملة هاهنا مداره هذا الترصيح فال حيصل عليه بادئ األمر .ولكن حيوز عليه يف
عىل نزول األمطار بكم َّيات غزيرة .ووجهة نظر املتكلّم إزاءه هي اإلثبات امل ُد َرج النص والرواية قاب قوسني أو أدنى من هنايتها يف ظروف آخر ّ
يف دائرة الكالم «الواجب» املستق ّر الثابت يف ذهن املتكلّم عند سيبويه (ت غامضة جعلت النهاية بمنزلة َق ْفلة أقصوص َّية مباغتة ترتك انطباع ًا
180هـ). حف بالنهاية .ذلك وحيد ًا يف نفس القارئ مر ُّده إىل التعتيم الذي َّ
«لعل األمطار تنزل بكميَّات غزيرة» .نالحظ أ َّن هذه الجملة
الجملة الثانيةّ : أنأن حمتوى الترصيح غري واضح وغري حمدَّ د بشكل حاسم ،كام َّ َّ
تشرتك مع الجملة السابقة يف املضمون نفسه (نزول األمطار بكم ّيات غزيرة)، ظريف؟ ّ هنائي أم هل هو
الراوي ال يعلم علم اليقني هل الترصيح ٌّ
التجي املنضوي إىل الكالم
غري أنَّها تختلف عنها يف جهة القول املوصولة مبعنى َّ كل لذلك يقول« :اآلن وهذا الترصيح يف يدك ،يبدو كأنَّه (كذا) ُّ
أي إىل ما مل يثبت وقوعه أو عدم وقوعه يف ذهن
«غري الواجب» بتعبري سيبويهْ ، ما انتهت إليه الرواية التي جئت الستعادهتا .صفحة منها .اسمها.
املتكلّم ،عىل خالف الواجب الذي استق َّر يف ذهن املتكلّم وقوعه أو عدم وقوعه، هوامش كُتبت بحروف دقيقة جتهد يف قراءهتا كاملة .يف يدك،
وباختصار فغري الواجب هو اإلمكان .وبناء عىل ما سلف فحدث نزول املطر غري وأنت متدُّ ها لتحكم القايش حول وسطك ،فتنتبه لعدم وجوده،
مستق ّر يف ذهن املتكلّم .ويُستحسن يف هذا السياق اإلشارة إىل أ َّن سيبويه أدرج وإن شعرت بملمس نسيجه يف أناملك» .18 ْ
األمر والنهي والعرض واإلغراء والتَّحذير والتَّحضيض واالستفهام والدعاء والقسم
امل ُن َجز بال ُّنون الثقيلة وال ُّنون الخفيفة والرشط والجزاء والنفي والنداء والحروف أن أحداث الرواية تقع بني البداية فعىل هذه السبيل نالحظ َّ
لعل -كأنَّ» والفعل املضارع املنصوب يف مجال الكالم غري
امل ُش َّبهة بالفعل«ليت ـ َّ أن الكالم ا ُمل ْلبسة والنهاية املعتمة ،الس َّيام إذا وضعنا نصب أعيننا َّ
الواجب يف العربيَّة .ا ُنظر يف هذا النطاق: والتقني
ّ احلرصي
ّ الفني باملعنى
ّ عن األحداث يف هذا العمل
سيبويه :الكتاب (4أجزاء) ،تحقيق عبد السالم مح ّمد هارون ،عامل الكتب ،الطبعة والتجوز .
19
ُّ التسمح
ُّ ملفهوم حدث يف القصص ،إنَّام هو من باب
الثالثة.1983 ،
السد عموماً ال
ولعلّه من املفيد أ ْن نشري أيضاً إىل أ َّن استخالص الجهة يف َّ يعزز هذا االستنتاج أنَّنا ال نقف يف متن الرواية عىل
والذي ّ
يتأت من تحليل الجمل والوحدات اللغويَّة بِقدْر َما يُستَصفى من طرائق بناء
َّ
عنارص الرسد أحداثاً وشخص َّيات وأمكنة وأزمنة ومنظورا ً تُنقل منه الحكاية 18ـ ترصيح بالغياب ،مرجع مذكور ،ص .74
النص .لهذا فالجهة يف الرسد هي وجهة نظر الراوي حول مرسوده
عىل امتداد ّ 19ـ الحظ قبلنا مح َّمد الخبو هذه الظاهرة الفنيّة الرسديَّة يف الرواية مجال
ووجهة نظر الشخص َّية أيضاً إزاء ما تقول .وهذه الفكرة يف التعامل مع الجهة عملنا .ا ُنظر:
القصيص استمدَّها مح َّمد الخبو من أعامل ثلّة من علامء القصص
ّ النص
يف ّ املرجعي يف رواية «ترصيح بالغياب» ملنترص
ّ مح َّمد الخبو :من خصائص اللّبس
األنجلوسكسون ّيني ُمحاوالً تطوير فرضياتها النظريَّة وتنصيصها يف ما اهت َّم به من قفّاش منوذجاً ،مرجع مذكور ،ص .160
املثال التايل «أبواب تتواجد أمامك تفتحها وتدخل ،ال تسمع تكدير طالبة تقف أمامك؟).
يظل مفتوح ًا أو ُّ
حيل يف مكانه اجلديد صوت الغلق ،جتد الباب ُّ
حتَّى تفتحه يف خطوة أخرى .أحيان ًا كنت تطيل السري يف املسافة ومتى أنعمنا النظر يف األمثلة ا ُملستَدَ ّل هبا عىل كيف َّية بناء شعر َّية
التي تفصل بني بابني حتَّى تشتاق لفتح باب آخر» (ص.)11 التوهم املستبدّ ة ُّ الرسد يف هذه الرواية ألفينا حضور ًا كثيف ًا جلهة
بكالم الراوي ،من نحو ما نقف عليه يف املثال الثالث «كأنَّني
أن الباب بِ َم هو املرجع املحال عليه يف الرواية غري نتبي َّ هكذا َّ العسكري ...كأنَّني» ،واملثال السادس «وخت َّيلت نفسك فيام سيأيت ّ
متحرك ًا
ّ ومرة أخرى مرة ثابت ًا َّ
مستقر عىل حال واحدة ،إذ نلفيه َّ ّ ُّ
من أ َّيام تضيف حقائق جديدة » ،واملثال الثامن «وستظل ظالل
غيشَ حيل يف مكانه اجلديد) ومن هنا نكتشف ما متبدّ الً (أو ُّ احلقائب ،وتبدو مماثلة لظالهل َّن» ،فصورة احلقائب مماثلة لظالل
تغي مر ُّده إىل أحوال الذات املتك ّلمة املتق ّلبة ،مع العلم املرجع من ُّ ولعل الفعل الفتيات ال تبدو عىل هذا النحو إال يف ذهن املتك ّلمَّ ،
أن املرجع الواحد أحيان ًا يشمل أكثر من موضوع واحد موصوف َّ الدال عىل احلال منسوب ًا إىل الراوي خري «تبدو» يف صيغة املضارع ّ
«الظل» يف املثال الثامنّ وفق مبدأ االنعكاس ،من ذلك مرجع التوهم تتأكَّد حدَّ هتا يف تكرار ُّ أن جهة دليل عىل ذلك ،خصوص ًا َّ
الذي سقناه منذ حني ينعكس عىل احلقائب والفتيات واليدين مطوي
ٌّ (كأن) يف املثال التاسع « كأنَّه يف يدي اآلن، َّ حرف التشبيه
فتصبح هلذه املوصوفات ظالل متامثلة قائمة يف ذهن الراوي أكثر من ط َّية » ،فحدث احلصول عىل الترصيح يغشاه االشتباه
املدرك هلذه املراجع غري خارجة عن نطاق وعيه هبا .22 والتوهم .فهو ليس بيد املتك ّلم حتت ُّ
ترصفه متام ًا ،وإنَّام يظ ُّن أنَّه ُّ
بحوزته ،من جهة كون املتك ّلم فاقد ًا إرادته ووجوده يف هذه ْ
إن اإلحياء يف الرسد نابع أساس ًا من هتافت احلكاية بمفهومها َّ املدرسة العسكر َّية ،شأنه يف ذلك شأن الترصيح موجود وغري
حدثي وهناية مرتوبة
ّ وحتول
التقليدي القائمة عىل بداية معلومة ُّ
ّ «كأن» يف َّ موجود يف آن واحد الندراج التشبيه بواسطة احلرف
قصيص متامسك يقوم عىل ربط األسباب بالنتائج .ففي ّ وفق منطق تصور سيبويه الدال عىل اإلمكان وفق ُّ دائرة الكالم غري الواجب ّ
احلكائي حتَّى يغدو كاحل َّبة الصغرية
ّ املكون
هذه الرواية يتضاءل ّ تعرضنا له يف موضع سابق .فمن هذا املنطلق نالحظ َّ
أن 21
الذي َّ
َضمر التي يتحدَّ ث عنها التصدير الذي اصطنعه الق َّفاش ،لذلك ت ُ الشك ُّ كالم الراوي عىل التَّرصيح املوصوف يف خطابه يكتنفه
ّ
الشك والظ ّن املوجه بجهاتَّ الرسدي
ّ احلكاية فيبسط اخلطاب مستقر يف ذهنه ،غري ثابت يف اعتقاده. ّ أن هذا األمر غري نظر ًا إىل َّ
والتوهم سلطانه عىل الرواية من أ ّم رأسها إىل أمخص قدميها .
23
ُّ ال للتَّعبري عن املعنى الذي أنجزه الراوي يف وإذا ما استعملنا فع ً
وعليه فتهافت احلبكة يف الظاهر يبطن منطق ًا غري ظاهر ،هو يف أن الترصيح يف يدي اآلن». «أشك يف َُّّ املثال التاسع قلنا:
حدِّ ذاته حبكة فيها جدَّ ة وطاقة تصوير َّية عالية ،من جهة كون
حتول يف سامت املراجع املحال عليها هذه احلبكة تنهض عىل ُّ وبناء عىل ما سلف كان لغياب التأكُّد من وقوع احلدث عظيم
ال يف األحداث املرسودة ،ألنَّنا يف «ترصيح بالغياب» لسنا إزاء ُّ
الشك يف األثر يف صياغة الرسد القائمة عىل وجهة نظر ملؤها
حتول يف أحوال الشخص َّية أحداث ماد َّية مثبتة ،بقدر ما نحن إزاء ُّ يت
املرو ِّيات ويف بناء املرجع غري الثابت اخلاضع للتوجيه الذا ّ
الراوية السجينة احلسرية التي أرهقها االستبداد واإلكراه والظلم للمتك ّلم ،من قبيل ما نقف عليه من ُّ
حتول يف صفات الباب يف
- 22هذا االستنتاج سبقنا إليه مح ّمد الخبو ،ا ُنظر مقاله «من خصائص اللّبس 21ـ ذكر خالد ميالد يف أطروحته أ ّن سيبويه أدرج التشبيه بالحرف «كأنّ» يف
املرجعي يف الرواية «ترصيح بالغياب» ملنترص قفاش منوذجا» ،مرجع مذكور،
ّ نطاق الكالم غري الواجب القرتاب هذا الحرف من إفادة معنى ّ
الشك ،انطالقاً من
ص.165 املثال الذي ساقه صاحب«الكتاب» (كأ ّن زيدًا ُمنطلِ ٌق) ،ففي هذا املثال تقرتب
والشك والوهم لَيُخْر ُجه
ّ 23ـ إ َّن قيام كتاب «ترصيح بالغياب» عىل الظ ّن أداة التشبيه من إفادة معنى ّ
الشك يف حدث االنطالق وعدم ثبوته يف اعتقاد
بحسب ما ذهب إليه سريل يف تعريفه للقصص امل ُف َرتض قيامه عىل األعامل املتكلّم .ا ُنظر:
اإلثباتيّة امل ُصط َن َعة ( )Actes assertifs feintesمن الدائرة القصصيّة .ا ُنظر: خالد ميالد :اإلنشاء يف العربيّة بني الرتكيب والداللة ،منشورات كليَّة اآلداب
John. Searle, Sens et expression, Éd Minuit, Paris, 1982. p.115. مب ّنوبة ،2001 ،ص .156
إن هذا اإليقاع املنتظم القائم عىل تكرار املركَّب اإلضايف ( صدى َّ وغريها من الكلامت اإلحيائ َّية يف هذه الرواية مثل ( دخول-
احلوش -صدى احلامم -صدى مكتب الرس َّية ـ صدى املخزن- خروج -س ّلم -صوت ـ ترصيح -غياب -سجن -خمزن -ظلمة
صدى الطرقة ـ صدى السكن -صدى مكتب املقدَّ م) املتع ّلق به -الباب -إغالق -من الداخل -من اخلارج -الرائحة -صدى -
اسمي مسبوق بنقطتني عموديتني ّ جل األمثلة املذكورة مركَّب يف ّ نجز بميزان التفعيلةاحلائط )...ختلق بتعاودها إيقاع ًا رسد َّي ًا ال ُي َ
(انتصاب سارية علم : -مياه تندلق حتّى تغرقه متام ًا :-مصباح دائ ًام وموسيقى الشعر ،بقدر ما ُيو َّقع بالصورة الرسد َّية القائمة عىل
يبحث : -أبواب تتوارى -األيدي تغادر مطارحها :-س ّلم ينتبه عندما واملعجمي لبعض الكلامت .وهذا ّ الرتكيبي والصويت
ّ التكرار
جتعله األقدام قبو ًا خلطواهتا :-طالء حوائط ،سجادة ،مقبض حديد) اإليقاعي تتحدَّ د هيئته وفق ما تعيشه الشخص َّية املتك ّلمةّ النظام
يصنع صورة رسد َّية مدارها عىل إحساس الراوي املسلوب حر ّيته يف الكم اهلائل من ّ من أحوال نفس َّية ومن انفصام وانشطار ،بدليل
املجسمة يفَّ املدرسة العسكر َّية بمعاين الرتابة واالستالب واملعاناة ثم
النقاط السوداء املتناثرة يف الرواية كح َّبات التصدير .ومن َّ
إضايف ويف تعاود
ّ كل مركَّب«الصاد» يف رأس ّ
الصفريي ّ
ّ تعاود احلرف فإن اإليقاع املنشطر القائم عىل تراكيب نحو َّية غري مكتملة وعىل َّ
األسامء الدا ّلة -عىل خالف األفعال -عىل الثبات واستمرار الوضع مجل ُمت ََز َلة مبن َّية عىل احلذف وج ٌه من وجوه الشخص َّية احلبيسة
املعمقة ملعنى الغموض السلبي القائم ،ويف تكرار املفردات النكرة ّ
ّ املنشطرة ،فتُعاضد البنية اإليقاع َّية الصورة الرسد َّية يف بناء املعنى
وانسداد األفق والسلب َّية (مياه مغرقة -مصباح يبحث عن اإلنارة- التصويري
َّ أن نعترب اإليقاعالنص الق َّفايش .ويمكن ْ ال ّلطيف يف ّ
حرفان يتامديان يف الصغر -س ّلم َّ
يتحول إىل قبو). النص ،متأتّية من هذه حينئذ خصلة فن َّية منشئة لشعر َّية عالية هلذا ّ
«ال ّلغة السامية» التي كُتب هبا ،إذا ما استعرنا العبارة من «جون
فلعل ما يك ّثف شعر َّية هذه الصورة وقع األصوات املختلفة َّ كوهني» .وكفى بنا شاهد ًا عىل ما نقول هذا املقطع املو َّقع احلامل
التي تعتمل يف باطن الراوي الشخص َّية :أصوات القمع والكبت لصورة رسد َّية كثيفة:
الرمزي
ّ بح ُث عنها يف صوته املعادل
واحلرمان واحلر َّية التي َي َ
وثمر ُت ُه روايت ُه املنسوج ُة بحضور الكلمة نفي ًا للغياب
لقلمه َ « صدى احلوش :انتصاب سارية علم ،يرفرف فوق رؤوسهن
وحتدّ ي ًا لسلطة الرقابة واملنع.
صدى احلامم :مياه تندلق حتى تغرقه متام ًا
الرسدي وجه ًا آخر متو ّلد ًا من الصوت ّ عىل َّ
أن لإليقاع
يستقر عىل سمت واحد ُّ القص .فهو ال
ّ الرسدي القائم بوظيفة
ّ صدى مكتب الرس َّية :مصباح دائ ًام يبحث عن وسيلة لينري يف
يف تصوير املشاهد واألحداث وما يعتمل يف النفس ،وآية ذلك مكان آخر
الرواية يرسد بضمري املتك ّلم املفرد حكاية األول من ّ
أنَّه يف الفصل َّ
األول املأخوذ من هو أبرز أطرافها عىل غرار ما رأيناه يف املثال َّ صدى املخزن :أبواب تتوارى لتبطل عمل املفاتيح.
يتحول إىل
َّ النص رسعان ما الصفحة التاسعة من الرواية .ولك َّن َّ
القص بضمري املخا َطب املفرد املذكَّر (أنت) ،عىل نحو ما وقفنا ّ صدى الفصول :األيدي تغادر مطارحها دون أن تصحبها
القص يبسط ّ َّ
عليه يف املثالني ( )6،7الس َّيام أن هذا الرضب من الظالل.
األول والفصل الثاين نفوذه عىل معظم الفصول ماعدا الفصل َّ
ش والفصل الثاين والعرشين .ومن هنا «يزدوج املرجع القو ّيل: َع َ َ صدى الطرقة :من...إىل ...حرفان يتامديان يف الصغر
ال خيتلف عن مقوله يف مقام ال ومقوالً ،ويكون قائ ً يكون قائ ً
وتذررت ،وتش َّظت َّ الذ َات فيها
اخلدمة العسكر َّية التي تفتَّتت ّ صدى السكن :س ّلم ينتبه عندما جتعله األقدام قبو ًا خلطواهتا
حممد اخلبو . 28حتَّى َلتنكر الذات ذاهتا» ،عىل حدّ تعبري َّ
صدى مكتب املقدم :طالء حوائط ،سجادة ،مقبض باب»(.ص
املرجعي يف الرواية ،مرجع مذكور ،ص .162
ّ 28ـ مح َّمد الخبو :من خصائص اللبس ص)62-61
واآلخرين إدراك ًا مبن َّي ًا عىل الوهم والتخاييل .31 ولعل يف هذه املرواحة بني الصوتني الرسديني داخل أعامق َّ
متزق بني الواقع حتس به من ُّ الشخص َّية القائلة احلبيسة جتسي ًام ملا ُّ
الرسدي القائم عىل صوتني
ُّ عىل هذا النحو يكون اإليقاع يعزز ما ذكرناه سابق ًا والوهم وبني املوجود واملنشود .فهذا األمر ّ
يبدوان يف البداية خمتلفني صورة تعبري َّية ملا تعيشه الشخص َّية حول اهتامم الرواية برصد احلركة الباطن َّية الذهن َّية للشخص َّية ،ممَّا
يف املدرسة العسكر َّية من انفصام وازدواج ترتَّب عليهام فقدان إن أغلب األقوال يف «ترصيح بالغياب» هي يسمح لنا بالقول َّ
فعمه الراوي باعتباره العون الناهض بعمل َّية الرسد هو َّيته َّ حرة مبارشة أقوال غري منطوقة تنبثق من أعامق الشخص َّية بطريقة َّ
الرسدي املزدوج الذي ذكرنا ومن ّ املتأت من اإليقاع
الغموض ِّ فوري حلظة ُماطبة ذاهتا خطاب ًا باطن َّي ًا غري مسموع وغري ّ وبشكل
احلر()Style indirect libre يح ًة للقارئ فرصة ِ
استدعاء األسلوب غري املبارش ّ بأي أفعال القول وبأ َّية عالمة تقديم ُمت َ مسبوق ّ
أيض ًا يف بعض املواطن من الرواية إيقاع ًا رسد َّي ًا كأنَّه حم َّطة اال ّطالع عىل ما يعتمل يف باطنها إ َّبان انبثاقه .
29
اسرتاحة بني اخلطاب بضمري املتك ّلم واخلطاب بضمري املخا َطب
املؤسس عىل َّ (أنت) .فيسهم عندئذ يف كرس نسق إيقاع الرسد فالنص بر َّمته يمكن أن يكون خطاب ًا مبارش ًا
ُّ وبناء عىل ذلك
الضمريين املذكورين سابق ًا إسهامه يف تدثري الراوي املتك ّلم يتوجه به املتك ّلم إىل وجه اآلخر أي إىل ظ ّله ،إ ْذ يقول يف الفصل َّ
بغاللة من الغموض جعلته متعدّ د الوجوه أو الظالل ،ولنا يف ِ ظل الذي ال أراه يتبع أثري يف هذه احللكة َّ
الثاين والعرشين« :كأن ّ
هذا املثال املأخوذ من الفصل األخري من الرواية شاهد بليغ أن وددت ْ ُ قوة دون صوت. العميقة املمتلئة بأبواب تتخابط يف َّ
عىل ما نقول « :يف صعوده ال يركن إىل مسارات منتظمة ،تألفها عم تب َّقى من خطوي ،أصف له حركتي يف أستدير إليه وأحدّ ثه َّ
العني املتت ّبعة .رؤوس ُمسندَ ة إىل رؤوس مثلها .إىل أفخاذ متدَّ دت بكل ما يعكسه منّي .كأنَّني وكأنا ملرآته املصقولة ّ َّ هذا املكان،
سيقاهنا ،واسرتاحت أصابع األقدام من خنقة البيادة» .32 بـ«ظل». ّ وأكف عن مناداته
ُّ فكَّرت يف اختيار اسم جديد له،
ال تكفي تلك التسمية التي تُوهم أنَّه دائ ًام موجود ،يتبعني ،ال
اخلتامي
ّ نالحظ انطالق ًا من هذا الشاهد انفتاح الفصل التجول
َّ لك أن ت َ
َكون يف أثر آخر ال يتيح َ يفارقني ،يشء صعب ْ
أخص خصائصه ِّ احلر الذي من
للرواية باألسلوب غري املبارش ّ تك».30 يف املكان بحر َّي َ
ِ
بمهمة الكالم بدالً من الشخص َّية أولنَ ُقل بتعبري اضطالع الراوي
َّ
ثم
الراوي ،ومن َّ إن الشخص َّية هي املتك ّلمة بصوت َّ«جونات» َّ باطني
ّ أن الكالم الطاغي عىل الرواية هو كالم نتبي َّ
وهكذا َّ
الراوي .
33
يمتزج صوت الشخص َّية بصوت َّ صامت خياطب به الراوي ظ َّله أو لنقل بعبارة أخرى وجهه
النص ك ّله بحسب ما ذهبالغائب ،وعىل هذا األساس يغدو ُّ
املجسم يف الع ّينة التي أوردنا
َّ احلر
إن األسلوب غري املبارش ّ َّ إليه اخلبو ختاييل وأوهام ًا ال خترج عن بؤرة الذات املدركة نفسها
ال عن وظيفته يف الكشف عن باطن الشخص َّية (رغبة ا ُملتحدَّ ث
فض ً
التحرر من شتَّى
ُّ عنه يف ركوب األقايص عىل غري منوال سابق ويف 29ـ يطلق جونات يف كتابه «صور ثالث» عىل هذا الرضب من الكالم املبارش
القيود والعادات) يضاعف اللبس املكتنف القائل وا َمل ُقول يف كل آثار الراوي ،وينبني عىل جمل نحويَّة ناقصة من الناحية
الذي متَّحي فيه ُّ
أنت
هذه الرواية .ذلك أنَّنا إزاء ضامئر يف الرسد خمتلفة ( أنا َ - الفوري» ( )Discours immédiatفتتكلّم شخصيَّة
ّ الرتكيبيَّة أو مختلّة «الخطاب
الروائي ،وهي يف األصل ترجع إىل ّ تذررت يف اخلطابـ هو) َّ مبارشة متح ّررة متاماً من سلطة الراوي .وتس ّمي دوريت كوهن ()Dorrit Cohn
متك ّلم واحد انشطر نتيجة شعوره بالضياع واحلصار يف املدرسة يف كتابها « الشفافيَّة الداخليَّة» هذا الكالم «منولوجاً مست ِقالّ» (Monologue
.)autonomeا ُنظر:
31ـ مح ّمد الخبو :املرجع نفسه ،ص.163 G. Genette, Figures III, op. cit. pp. 193 - 194.
32ـ ترصيح بالغياب ،مرجع مذكور ،ص.72 Dorrit Cohn, La transparence intérieure, Ed. Seuil, Coll.Poétique,
33ـ ا ُنظر يف هذا النطاق: 1981. pp.245 - 246.
Gérard Genette: Figures III, Op. cit. p. 194. 30ـ ترصيح بالغياب ،مرجع مذكور ،ص .44
املعجمي أدب َّية متم ّيزة ،لذلك يمكن احلديث عن شعر َّيةّ واالنتقاء العسكر َّية .لذلك فضمري الغائب «هو» املقموع ا ُمل ِ
غرتب يف املثال
السد القائم عىل ذات قيمة ُم َضافة يف هذه الرواية نابعة من بالغة َّ الذي سقناه منذ قليل ليس سوى قناع للضمريين « أنا -أنت».
الشك والوهم ّ مجال َّية قصص َّية جديدة خترق بفضل كثافة جهات
والظ ّن ما رسمه سريل من حدود للقصص املتخ ّيل القائم عنده توخي مثل هذا األسلوب القائم عىل ثالوث من َّ
ولعل يف ّ
حداثي كهذا ْ
أن ّ روائي
ّ لنص
عىل أعامل إثبات َّية ُمصطنعة .فأنَّى ّ األصوات الرسد َّية يف بناء الرسد دالل ًة عىل متكُّن الشعر َّية من
تامسك البنَى الرسدية واضح املالمح يف عامل متشظٍ يكون م ِ كل التمكّن ،باعتبار هذه األصوات رواية «ترصيح بالغياب» َّ
َّ ُ ُ
يب اليوم صورة جماز َّية ُم َص َّغرة
الروائي العر ُّ
ُّ النص َ َ
مفكّك؟ أل ْي َس ُّ املختلفة يف الظاهر ،املؤتلفة يف الباطن ،أقنعة للمتك ّلم الذي
ملا يعيشه أهل الضاد من ُفرقة وانقسام وانشطار؟. ّ
كالظل الذي ال وتغيت
َّ انشطر نتيجة القمع فتعدَّ دت وجوهه
يستقر عىل صورة واحدة.
ُّ
خاتمة:
حاولنا يف هذا العمل استجالء بعض اآلل َّيات ا ُملو ّلدة للشعر َّية
يف رواية «ترصيح بالغياب» ملنترص الق َّفاش يف مستوى خطاب
العتبات من خالل الوقوف عىل العنوان والتصدير حتديد ًا ويف
أن اللبس الذي اكتنف العتبتني الروائي ،فبان لنا َّ
ّ مستوى املتن
غذي املدروستني واملراجع املتحدَّ ث عنها يف الرواية هو املعني ا ُمل ّ
رس مجال َّيته إذا ما وضعنا يف احلسبان النص الق َّفايش ومن ّ
لشعر َّية ّ
أن الرواية تصنع بالرسد إحياء وإيقاع ًا ومعج ًام وصورة مراجعها، َّ
تعارف عليه من خالل سعي وقد هتافتت فيها احلكاية بمفهومها ا ُمل َ
ثم بدايت ،ومن َّ داخيل له اتّساقه الذا ّ
ّ نيص
الروائي إىل بناء منطق ّ
ّ
ً
الروائي شديد التكثيف واإلحياء الزما ال حييل عىل ُّ النص
هذا ُّ
يسوغ لنا الكالم عن عامل خارج أحياز الرواية ذاهتا ،األمر الذي ّ
الرسدي املوصول بعدم ّ «شعر ّية ال ّلزوم» يف هذه الرواية باملفهوم
النص الق ّف َّ
ايش ألن َّ الروائي عىل مرجع خارجهَّ ، ّ النص
ّ إحالة
يشكّل مراجعه من الداخل بال ّلغة ومن ال ّلغة ال س َّيام إذا أخذنا
والتوهم التي بسطت سلطاهنا ُّ ّ
الشك والظن بعني االعتبار جهات
ِ
عىل القائل وا َمل ُقول مضاعفة مقدار اللبس يف هذه الرواية ،فهي
تبع ًا لذلك القلب النابض لشعر َّية الرسد يف هذه الرواية ،هلذا
والتوهم السائدة يف «ترصيح بالغياب» ُّ ّ
الشك والظ ّن فجهات
تساهم يف بناء وجهة نظر رسد َّية غامضة جت ّلت خصوص ًا يف
الفوري املبارش بشكل مك َّثف ّ انشطار الرسد ويف اعتامد اخلطاب
ِ
ب فيه الشخص َّية احلبيسة ذاهتا ،واجلنوح يف مواضع قليلة ُتاط ُ
احلر الذي يلتبس فيه صوت الشخص َّية إىل األسلوب غري املبارش ّ
السد حم ّققة بصوت الراوي فتتضاعف اخلصائص الذات َّية للغة َّ
أن الشعر َّية تتح َّقق
ثم انتهينا إىل َّ
أعىل درجات الشعر َّية .ومن َّ
بطرائق الرسد التي تُنجز يف هذه الرواية بالتصوير والتوقيع
فيلم
«لو ح َّركت ال ِّريح الرمال»
ٌ
قابل للتصوير؟ هل الموت
حممد اشويكة*
مقدمة:
ّ
حركت الريح الرمال» تستدعي العودة لفيلم «لو َّ
( 2006 )Si le vent soulève les sablesملخرجته الفرنكوبلجيكية
«ماريون هانسيل» ( ،)Marion Hänselويف هذا الوقت بالذات،
أكثر من داللة ما دامت الصحراء تشكل جماالً اسرتاتيجي ًا للتنافس
كل القوى سواء بني القوى العظمى من جهة ،واهلاربني من بطش ِّ
كانت كبرية أم صغرية من جهة أخرى ،وهي جمال حيوي لكونه
مهم من الثروات ذات احلساسية البالغة يف رسم حيوي عدد ًا َّ ً
خريطة املعامالت االقتصادية الضخمة التي تتحكم يف حتديد
السياسات اخلارجة للدول العظمى.
بالرغم من َّ
أن بناء فكرة الفيلم أراد الرتكيز عىل عدم االرتباط
كل من جمردة لتنطبق عىل ِّ
بحيز جغرايف معني ،وترك فكرته َّ
فإن تصويرتدفعه قساوة الظروف للهجرة االضطراريةَّ ،
أحداث الفيلم قد متَّت بجيبويت؛ إذ تغادر أرسة إفريقية البلد
للبحث عن املاء.
-I-
-II- رحالة بطبعه) ،وهو مرغم عىل مغادرة مسكنه ووطنه (ولو كان َّ
القيام هبذا ،هلو فِ ْع ٌل بالغ القسوة والتعقيد ،ممَّا يضع املخرج أمام
تنتهج خمرجة الفيلم أسلوب ًا متفرد ًا يف تصوير الصحراء ،فقد رهانات صعبة تتجىل يف القدرة عىل االنغامس بالكامريا يف أعامق
ألن الفضاءات متنوعة ووعرة وموحشة، اختارت الصعب َّ املأساة .وقد نجح الفيلم يف إيصال صوت هذه الع ِّينة من الناس
تصور ًا برصي ًا لألحداث واملكابدات التي ُّ وحاولت أن تقرتح بشكل ملتزم بالدفاع عن قضايا حقوقية واضحة يف املجتمعات
عانتها األرسة ،موضوع الفيلم ،ومعها كافة احلاالت الشبيهة. اإلفريقية :وضعية الطفولة ،واقع املرأة ،املسألة األمن َّية ،األمن
بالتصور هنا ما أوضحه إدغار موران بشمولية املفهوم؛ ُّ ونقصد الغذائي ،الصحة ،املساواة ،الديمقراط َّية.
كل احلقول االجتامعية والسياسية والتطبيقية والتقنية إذ يغطي َّ
للنشاط اإلنساين :هكذا يكون تشكيل مجهورية وبرنامج حزب الر َّحل يف صحراء دول الساحل ينقل الفيلم نمط عيش البدو ُّ
أو حكومة وبناء نظرية وعمل فني وخمطط حضاري وابتكار ٍ
اإلفريقي وما يشاهبه افرتاض ًا ،وهو نظا ُم حياة صارم يستمدُّ
التصور)
ُّ صممة من أجل تصور اآلالت ا ُمل َّ
أداة أو آلة (ومن بينها ُّ أسسه من التعامل مع الفضاء الذي ينبثق منه ،فالصحراء متقلبة
التصور .
2
ُّ واإلخراج املرسحي أو السينامئي من عمل كل يشء ،واالكتفاء وشحيحة املوارد ممَّا يفرض االقتصاد يف ِّ
ف البقايا؛ إذ ال يمكن لقاطنيها أو بشظف العيش ،ومللمة ُشدَ ِ
جلامل املوحش الذي يدثر ت ََص َّيدَ ت كامريا املخرجة ذلك ا َ قاطعيها الثقة يف ظروفها املناخية .ولذلك بدأ الفيلم برصد أجواء
الصحراء ،والذي يقوم يف جوهره عىل الشساعة املخيفة والفاتنة، الفرحة البادية عىل بعض الناس املتحوطني حول غدير ماء صغري:
واالختالف البيئي واملناخي املختلف .وتكشف مجالية ا َمل َش ِ
اهد األطفال يلعبون ،النساء يتطهرن وينظفن املالبس ،احليوانات
خاصة لإلحاطة بتلك الشساعة وحرصها َّ واللقطات عن رؤية أن املاء أساس احلياة ُّ
والكل مستقر ومتآلف ،ممَّا يعني َّ ترشب،...
جلامل:
يف إطارات برص َّية تسعى يف جمملها إلبراز تناقضات ذلك ا َ يف الصحراء وغريها.
جمال للتحرر والتسرت واالختفاء واملغامرة .وقد راكمت املخرجة
خربات أظهرها انتقاؤها املو َّفق لفضاءات وأمكنة التصوير، يضع الفيلم األحداث يف سياقها الثقايف واالجتامعي ،ويرسم
وذلك إثر زياراهتا واستطالعاهتا املتعدّ دة هلا ،وهي األمور التي أهم سامت ومالمح التاريخ االجتامعي والثقايف والسيايس َّ
سامهت يف حتقيق املالءمة الواقعية لعوامل الفيلم التخييلية التي وخاصة عىل مستوى العالقات األرسية املتميزة للبدو َّ للمنطقة،
تكاد تكون وثائقية بسبب القدرة عىل االنغراس يف البيئة الطبيعية احلب النموذجي املسترشي بني األرسة ِّ الرحل ،والتي تتجىل يف
َّ
حيس فيه املتفرج للصحراء ،واالقرتاب من احلياة بشكل ال ُّ التي يقدمها الفيلم ،وخاصة بني األب وزوجه ،ومها مع ًا واألوالد
بتدخل التقنيات التي تفصل يف السينام بني واقع احلياة وواقع ال عن عالقة األب بابنته بعد وفاة األم .فمن خالل الثالثة ،فض ً
الفيلم ،وجتعلهام يتامهيان وخيلقان االلتباس. ونستشف أن
ُّ تراصها وتضامنها نفهم معنى اللحمة اجلامعة هلا،
يمر عرب بناء أرسة قوية متامسكة ،ويساهم جتاوز قساوة الصحراء ُّ
جمرد ديكور ،بل كان فاع ً
ال مل يكن فضاء الصحراء يف الفليم َّ خاصة للعيش فيها .وتشري بعض البحوث إىل يف تكييف مهارات َّ
حيو َّي ًا يف تنامي األحداث ،وصانع ًا هلا ،فك ّلام تقدَّ مت األرسة يف عمق معرفته ببيئة الصحراء عىل حقيقتها أنَّه كان عىل البدوي أن ُي ِّ
طريقها تفاجأت بمعطى جديد ،وهنا تربز قدرة املخرجة وينجيل ليعزز فرصه يف البقاء والوجود ،وليتغلب عىل حتدّ يات املعيشة ّ
وعيها بخصوصية تصوير الفضاءات الشاسعة (الصحارى، الصحراوية وخماطرها التي حتدق به .
1
أال تقود مثل هذه األحداث اإلنسان نحو اجلنون عوض االكتفاء
باهللوسة؟
يا هلا من فتاة نموذجية يف جتاوز املحن واملشاق!
فس التزامه.
ذلك جزء من رسالة الفيلم ،وما ُي ِّ
خاتمة:
نجح الفيلم يف نقل روح الرواية التي انطلق منها ،وترمجها
3
مصورة من اجلنوب نحو الرشق ،رحلة ملؤها السعي َّ إىل رحلة
جل َلد والقدرة الفائقة واألمل ،مفعمة باحلياة واملوت ،وطافحة با َ
التحمل واملجاهبة .تسائل الصورة السينامئية هشاشة اإلنسان ُّ عىل
جتاه احلتم َّيات البيولوج َّية والطبيع َّية (اإليكولوج َّية) واحلامقات
والتطور.
ُّ جمرد مكون بسيط يف دائرة النشوءاإلنسان َّية التي حتيله إىل َّ
فالربغم من املجرى اخل ّطي الذي انتهجه الفيلم ،فالوعي بالقضايا
التي يعاجلها ،واحلمولة اإلنسانية التي حيملها ،تتط ّلب ذلك
االختيار الذي ،وإن رام التبسيط ،فإنَّه يتغ َّيا إيصال رسائل مكثفة
وواضحة للبرشية ،وأن يع ّلق اجلرس يف آذان املسؤولني لتأ ُّمل ما
يقع من حوهلم ،والتخفيف من املأساة التي يتس َّبب فيها الرصاع
السلطة واملوارد االقتصاد َّية.
البشع واجلشع حول ُّ
مصطفى بوجمعاوي
العبور نحو
الماورائيات
بنيونس عمريوش*
وتوابع الفضيلة ونقيضها .عرب هذه الرؤية املجازية تندلع األسئلة ماغريت الذي َخ َّصه بومجعاوي هبذه االستعارة املتسامية ذات
الوجودية باستحضار ماه ّية احلياة واملوت ،الروح واجلسد ،اجلواين الصلة بالروح السوريالية ،ضمن عبور يغرف من الرتاكم الفني
والرباين ،...ولذلك« ،حتولت العنارص إىل فضاءات ُم ْس ِهبة ،إىل تتحول الكأس داخل «شاشة» حالِة ّ املشرتك .يف «ليل وهنار»،
نمط من لوح مقدّ س يستقدم َح ْفر نظرنا فيام يستقطب الشحنة إىل مقطع َق َمري ،يستدعي البرص الستكشاف التوريقات اخلطية
االنفعالية التي تبعثها القامشة»( فريد الزاهي .)2015 ،بينام مل متنع تتوجه اللوحة نحو التخلص من احلجب .هناّ ،املتوغلة يف سديم ْ
حل ْلمية» صاحبها من استدراك فعل هذه التصويرية «ال َغ ْيبِية /ا ُ مادية العنارص ،لتستحيل النقط الدقيقة أكثر انسياب ًا وتداخ ً
ال
(الس ِجل) والقلم بصفيحة ليتم استبدال الورق ِّ
التشكيل داخلهاّ ، ضمن بناء مرتاصُ ،يضحي معه النظام اخلطي نسيج ًا برصي ًا
األلوان( )Paletteوالريشة بأصابع ا َملالك َْي ،إيامن ًا منه بكون منفتح ًا عىل غنى التأمل واإلحياء الرمزي.
اإلبداعية التشكيلية هي األخرى تدوين بدورها كتابة ال تستثني
فعل التفلسف وإثارة األبعاد األنطولوجية الكامنة بني املرئي تم توظيف « ثقب لشساعة النظرّ ، يف مقابل الشاشة العاكسة َ
والالمرئي .يف حني ،قد تلبس أيقونة املالك «روحانية» الفنان ذاته، خمتص يستدرج العني للدُّ نُو، املفتاح» املحدد بالضوء ،كشكل َ
املوصوف بالعيش يف وضع ت ََو ُّحد إرادي ،يروم االعتكاف لبلوغ ت ّقب «املاورائيات» التي جتعل اإلطاللة موسومة باستكشافية ِ
لََ
أقىص مدارك الصوفية باعتبارها حالة استعالء إبداعي. زوج ْي يف حالة حتاورَ ُح ْل ِمية ،ختتزل تصاوير مالئكية ضمن
وجتاوب وانسجام ،فيام يطلع الوجهان املليحان بوضعية جانبية
املسمة «حمادثات»()Conversations
إحدى املقاطع من لوحاته ّ ( )Profilإىل دائرة «ال ُّث ْقب» ليشكّال تكوين ًا جنيني ًا لتوأم وديع.
(أكريليك عىل قامش 114x160 ،سم ،)2013 -2008 ،املطبوعة ذلك ما يدعونا للوقوف عند الشخوص املجنحة التي تُعدّ
العالمة األيقونية اجلديدة ،وا ُمل ْل َحقة
بالعنارص األيقونية املعهودة ،كإضافة
متس تشخيصية تزكي التعبري ،دون أن ّ
األسلوب الذي أمسى معها ُمتجاوز ًا
للموضوع( )L’objetودالالته املرتبطة
فإنّ باليومي وا َملعيش .من ّ
ثمة،
استثامر هذه األيقونات التي ترسم
«العبور املالئكي» ،يفيد ختصيب
األسلوب باستدعاء التخييل ومنحه
صبغة «ميتافيزيقية» متنح غنى التوليف
والتأويل واملساءلة.
أن هذا التميز ينبثق من التقاليد البرصية الشبيهة ،ومن املامرسة غري ّ تشع من خالهلا أناقة بألوانه الرمادية ( )Les gris colorésالتي ّ
اليومية ،وذلك موازاة مع ارحتاالت عرب املعطى اإلنساين بوصفه األصفر والوردي ،أعادتني ّتو ًا إىل «حدائقه اخليالية» (قاعة
حضارة» كام جاء يف ورقة عبد الرمحن أجبور التقديمية (كاتالوغ املرسم ،الرباط .)1984 ،فمن داخل تقاسيم ومناخات قامشاته
ثمة ،عمل بومجعاوي عىل َمْو املسافة يف هذا املعرض .)2015 ،من ّ األخرية املنذورة للغوص بعيد ًا يف الذات والنفس واهلواجس،
ِ
«العبور احلضاري» الذي يكتيس ص ْب َغة اجلمع ،ليقحمنا وإ ّياه يف وعالقة ذلك بالسرية الشخصية ،هناك عو ٌد عىل َبدْ ءَ ،ع ْودة
ترحاله إىل اجلذور املشرتكة ،حيث تُضحي االحتامالت أنساق ًا ل َّلعب ببهاء اللون ،واصطفاء بصيص النور الذي ينبعث رويد ًا
تشكيلية ُمتزلة باملعنى الفضائي ،إال ّأنا مفتوحة عىل طراوة رويد ًا ،من حتت التفريش الصباغي ا َمل ْوزون بمعيار الكيميائي
التصور املدفوع بمرجعية مفاهيمية ُّ رش َعة عىل نداوة
الرمز ،و ُم َّ ا ُمل َحنَّك .ما يعني استعادة الديار األصلية املقرونة بالنفسية الرائقة
متس ذات ا ُمل َص ِّور()Le peintre جو َهرانية ّ
تستدعي مدلوالت ْ والطموحة التي تستبدل جفاء املكان (وجدة) برونق اخليال ،ما
متس اإلنسان من منظور حتققه الفيزيقي يف امتداده الزمني. بقدر ما ّ يؤكد باستمرار ن َفس املغامرة ا ُملكابِر لديه ،واستعداده اجلسدي
واإلبداعي مهام استوطن أمام أفق متمنّع.
هكذاّ ،
يظل بومجعاوي مبدع ًا استثنائي ًا ،لكونه «اختذ مسلك ًا
فريد ًا قائ ًام عىل األسئلة والدراسات واجلرأة والبحوث املستمرة.
تقديم
مل يتس َّن يل حماورة باربارا كاسان مبارشة ألطرح عليها جمموعة
بأهم معجم فلسفي يف تاريخ الفكر املعارص من األسئلة تتع َّلق ِّ
قامت باإلرشاف عليه ،وهو «املعجم األورويب للفلسفات:
ألن هذا القاموس ينطوي عىل مفاهيم قاموس املتعذر ترمجته»َّ ،1
أترجم هذا احلوار الذي يطرح تقريب ًا األسئلة نفسها التي ُ
كنت فلسفية مستخلصة من اللغة العربية 2باملقارنة مع حجم الفلسفة
أنوي أن أطرحها عليها. العربية اإلسالمية يف العرص الوسيط عرب أعالمها الشهريين مثل
الكندي ،وابن سينا ،والفارايب ،وابن رشد ... ،إلخ .مل يتس َّن يل
باربارا كاسان فيلسوفة فرنسية معارصة ،ه ّلينية وجرمانية ارتأيت أن
ُ املتكرر هبا.
ِّ إذن حماورة السيدة كاسان رغم االتصال
متخصصة يف الثقافتني اليونانية العريقة
ِّ التخصص ،يعني
ُّ
واألملانية ،مرتمجة ومديرة البحث يف املركز الوطني للبحث * Colette Briffard et Barbara Cassin, « Entretien », Revue Texto,
العلمي يف باريس ( ،)CNRSترأست ابتدا ًء من 2010الكوليج vol. XI, n°2, Juin 2006, Institut Fernand de Saussure, Paris.
الدويل للفلسفة ،ومديرة جملة «شارع ديكارت»( (�Rue Des 1 . Barbara Cassin (éd.), Vocabulaire européen des philosophies.
املرتجم عن
َ )cartesالتي يصدرها الكوليج .تكشف يف احلوار Dictionnaire des intraduisibles, Paris, Seuil/Le Robert, 2004, 1532
جوانب من سريهتا الذاتية والعلمية .من أشهر أعامهلا« :املفعول pages.
السفسطائي» (« ،)1995أرسطو واللوغوس :حكايات يف 2ـ الكلامت العربية الواردة يف املرسد (ص )1494ويف املقاالت املخصصة
الفينومينولوجيا العادية» (« ،)1997جاك السفسطائي :الكان، للمباحث التوجيهية ،هي :العامل ،الله ،املصورة ،املتخيلة ،القوة املفكرة ،العقل،
اللوغوس والتحليل النفيس» (« ،)2012أكثر من لغة» (،)2012 الرشيعة ،الذكاء ،الفلسفة ،الفؤاد ،الجوهر ،الحد ،الحدس ،الحقيقة ،الحق،
«أرخبيل أفكار باربارا كاسان» (.3)2014 الهيوىل ،الحكمة ،العلة ،االتصال ،الكل َّيات ،اللطيف ،اللب ،اللطف ،املعنى ،املادة،
املاهية ،املقول ،املركز ،املوجود ،امليثاق ،املطابق ،الناموس/النواميس ،القلب،
3 . Barbara Cassin, L’effet sophistique, Paris, Gallimard, 1995, السنة ،الصورة ،الطبع/الطبيعة،
السبب ،الصادق ،اليشء ،الشيئية ،الصدقُ ،
Aristote et le logos : contes de la phénoménologie ordinaire, Paris, التلطف ،العنرص ،األسطقس ،الوجود .من أهم املرتجمني واملعربني الذين
PUF, 1997, Jacques le Sophiste. Lacan, logos et psychanalyse, تخصصوا يف الفلسفة العربية اإلسالمية والذين شاركوا يف تدوين املعجم تحت
Paris, EPEL, 2012, Plus d’une langue, Paris, Bayard, 2012, coll. إرشاف باربارا كاسان ،ميكن ذكر :رميي براغ ( ،)Rémi Bragueأالن دو ليبريا
«Les petites conférences», L’archipel des idées de Barbara Cassin, ( ،)Alain de Libéraجون فرانسوا كورتني (.)Jean-François Courtine
خاصة يف كلامت لغة أخرى :هل ترمجة كلامت أجنبية ذات محولة َّ جمموع األجوبة التي قدَّ متها كاسان يمكن إمجاهلا يف العبارات
حتتفظ الكلامت عىل معقوليتها اخلاصة يف اللغة األصلية أم تفقدها التالية التي نبني عليها تقديمنا القصري للحوار« :النص هو دائ ًام
يف عملية النقل والرتمجة؟ بعض الكلامت تفقد من معقوليتها ألنَّه نص لنصوص أخرى»« ،اللغة تفعل شيئ ًا»« ،تعني الرتمجة قبل ٌّ
ثمة كلامت حتتفظ يف يتم تكييفها مع مضامني اللغة اجلديدة ،لكن َّ
ُّ كل يشء القراءة»« ،هذا ما أقصده بالرتمجةَّ :إنا تتيح فهم اللسان
التاريخ بعراقتها وأصالتها من فرط القوة الداللية والرمزية التي النص يف جوهره تناص، اخلاص بإدراك وجود ألسنة أخرى»ُّ .
َّ
املتعذر ترمجته( (�intraduis حتملها ،وأصبحت بالتايل يف عداد ويمهد لنصوص قادمة. ِّ يتفاعل مع نصوص ،يأخذ من نصوص
)ibleمثل كلامت «ديمقراطية»« ،فلسفة»« ،ميتافيزيقا» ،التي فهو ُينجز يف ذاته األصل االشتقاقي الذي انحدر منه« :نسيج»
احتفظت هبذا املنطوق يف لغات العامل كلها تقريب ًا. ( .)textusالنص نسيج متشابك من العالمات والدالالت .ال
متحرر ًا من جدل التأ ُّثر والتأثري ،بل
ّ يمكنه أن يكون نص ًا مطلق ًا
مهمة الرتمجة عسرية من حيث إعادة الكتابة والرتكيب، تبدو هنا َّ هو امتداد لنصوص سابقة وإمداد لنصوص الحقة؛ يتفاعل مع
ألنا تصطدم هبذا املتعذر ترمجته واألمر الغامض أو امللتبس الكامنَّ نصوص حارضة ،يتحاور معها وجيادل بشأهنا .ال يمكن مت ُّثل
فيه .لذا ،عن حق ،حتدِّ د باربارا كاسان مهام الرتمجة أو نشاطاهتا النص سوى كسديم من العالمات والدالالت ،وعندما نتحدَّ ث
كل يشء ،قراءة تارخيية وفكرية يف القراءة .الرتمجة قراءة قبل ِّ عن السديم ،باملعنى الكوسمولوجي للكلمة ،فإنَّنا نستحرض
ٍ
ومضن عىل الكلامت للنصوص املراد ترمجتها واشتغال دقيق بدهي ًا جانب التبعثر أو الكاوس ( ،)chaosلكنَّه كاوس منتظم
واملصطلحات بتحليلها وإعادة تركيبها ،بنحتها والغوص يف وخلق (نلمس هنا تناقض ًا يف احلدود) ،يعطي للنص معنى ،وإن َّ
معقوليتها .جعل الرتمجة عبارة عن قراءة هو املدخل األساس نحو كان حيمل يف طياته التناقض واملفارقة.
ألن الرتمجة والتأويل مرادفان لبعضهام بعض ًاُّ .
كل جعلها تأويالًَّ ،
ترمجة هي تأويل يف النص املراد ترمجته ،ونلمس ذلك يف ترمجة سمى النص هو الرهان األول واخللق» ا ُمل َّ
َّ هذا «الكاوس املنتظم
مارتن لوثر لإلنجيل بإعادة تأويله وفق مقتضيات اإلصالح الديني ألنا أمام شبكة من الكلامت واألفكار ذات واألخري للرتمجةَّ ،
الذي شهد االنشقاق الداخيل الذي وقع يف املسيحية بني طائفتني جذور متشعبة ومتداخلة يصعب إجياد مكافئ هلا بدقة .عىل الرغم
متصارعتني :الكاثوليكية والربوتستانتية .ما كان هلذا أن يقع لوال فإن الرتمجة تنتظم وفق هذه املهمة يف إعادة كتابة النص من ذلكَّ ،
كل تأويل ال جديد ًا لإلنجيل .كذلك ُّ الرتمجة التي أتاحت تأوي ً يف لغة أخرى .هذه اإلعادة يف الكتابة ( )récritureالتي شدَّ د عليها
هو ترمجة ،بحكم أنَّه يرجع إىل سرية املصطلح األصلية ،ينبش يف يتم فيها نقل مضامني لغة أجنبية مارك دولوين هي الطريقة التي ُّ
4
أرضيته ،يفتّش يف تارخيه ،بمعنى أنَّه يرتجم املضامني التي انتقلت إىل اللغة األم وفق معقولية يقوم املرتجم بتحديدها وإبرازها .إذا
إليه من مصطلحات لغات أخرى سابقة أو معارصة للمصطلح. كانت الرتمجة هي نقل نصوص لغة أجنبية إىل لغة أخرى بإجياد
أن تاريخ اللغة من ثقافة إىل أخرى خيتلف مكافئ نسبي ،مع العلم َّ
هبذه القراءة املزدوجة ،التي تعني الرتمجة والتأويل يف الوقت من حيث االشتقاق والتعبري واملضامني الفكرية والرمزيةَّ ،
فإن
نفسه ،ندرك بدون لبس التفاعل اجلوهري بني اللغات ،وأنَّه ال يتم النطق هبابمجرد أن َّ
َّ أن اللغة تفعل شيئ ًا هذا دليل ساطع عىل َّ
انفكاك للغة عن أخرى .تواجدها املشرتك ( )Mitseinهو ما يتيح وحتيينها .فهي تؤدي إذن أدوار ًا تداولية يصدِّ قها السياق والظرف
فهم كينونتها اخلاصة ( .)Daseinونعرف ببداهة ال نقاش فيها والذات الناطقة .اللغة تفعل شيئ ًا ،وليست الرتمجة سوى الوسيط
كل ترمجة هي اشتغال عىل اللغة األم فيام هي تنقل لغة أخرى أن َّ
َّ ( )médiumالذي ُي ِّقق الطابع األدائي ( )performatifللغة يف
ٍ
لتستضيفها يف بيتها .عندما نرتجم فإنَّنا ال نتفاعل فقط مع اللغة يتمأي لسان كانت .تبدو هذه األدائية أكثر إحلاح ًا وإشكاالً عندما ُّ ِّ
األجنبية ،لكن نتعامل أيض ًا مع اللغة األم التي ننتمي إليهاَّ ،
ألن
الرتمجة تدفعنا لنقوم بعملية حرث وتقليب يف اللغة األم بالبحث Paris, MSH, 2014, coll. «L’archipel des idées».
عن مصطلحات دقيقة ونحت كلامت مناسبة واالنغامس يف 4 . Marc de Launey, Qu’est-ce que traduire ? Paris, Vrin, 2006, coll.
تاريخ الكلامت« .ضيافة» اللغة األجنبية هي بشكل ما «إضافة» «Chemins Philosophiques», p. 14 - 15
يمكن أن نكون سابقني عىل سقراط ( )présocratiquesبشكل يف اللغة األم ،اشتغال حثيث عليها ،جتديد جوهري يف هيكلها
أن شعرآخر؛ استعامل مغاير للغة :لقد أظهر جورجياس كيف َّ ومضامينها .الرتمجة بالتعريف عبارة عن حتديث يف اللغات ،هي
بارمنيدس بدالً من أن ينطلق ،كام يزعم ،من «يوجد» الكائن (il y بالدرجة القصوى عبارة عن حداثة الفكر يف اصطناعه حلدث
«ثمة» كائن كام يقول هايدغر،)es gibt Sein( 6 )a de l’êtreأو َّ الفكرة بالكلمة .هذا ما يمنح الرتمجة الدور األساس واخلطري
فهو يصنع باألحرى كائن ًا بالتعبري عنه ،جيعله كائن ًا (.)le fait être يف الوقوف جرس ًا بني اللغات والثقافات ،عىل أساس اجلسارة يف
بكل وفاء وتطابق ،لكن ال نذهب من الكائن إىل التعبري عن الكائن ِّ الكلمة والفكرة والشجاعة يف احلقيقة.
عىل العكس من ذلك الكائن هو مفعول القول ،منتوج القصيدة، ***
اشتغلت مع جون ُ بدأت من هنا.ُ حصيلة أدائية اخلطاب .لقد ترجمة
بوالك ( )Jean Bollakوهاينز ويزمان ( )Heinz Wismannيف هل يمكنك أن تقدّ مي لنا حمتوى بحوثك ،من الوجهتني
عيل أن أعرف اللغة اليونانية [مدينة] ليل ( ،)Lilleألنَّه كان لزام ًا َّ الفلسفية والفيلولوجية ،وحتى «املعجم األورويب للفلسفات:
كنت أريد معرفة درست اآلداب الكالسيكيةُ . ُ كنت قد
أكثر ،وإن ُ ّ
املتعذر ترمجته»؟ قاموس
يتم حتقيق النصوص بتمحيصها، مغزى الفيلولوجيا ،كيف ُّ
مثل «رسالة الالوجود» ،عىل غرار عظام احليوان قبل التاريخ، متخصصة يف الفلسفة اليونانية ،عىل وجه التحديد اخلطابة ّ إنَّني
حيوان مستهان وحمت َقر من طرف الرتاث؛ وذلك بإعادة تركيب بكل ما من شأنه أن ُي َفهم اليوم من هذه املعارف. والسفسطة ،وأهتم ِّ
مت رسالتي يف الدكتوراه ،قال هيكله العظمي .أتذكَّر عندما قدَّ ُ شاركت يف ملتقى تور ( )Thorمع مارتن هايدغر عند رونيه ُ لقد
فهمت
ُ يل جون بول دومون (« :)Jean-Paul Dumontآه! لقد كنت وقتها شار ( )René Charسنة ،1969بعد أحداث ماي ُ .68
قمت بجعله يف األعىل!». كل ما كان يف األسفلِ ، ِ
أردت فعلهُّ . ما طالبة عند الفيلسوف والشاعر ميشال ديغي (،)Michel Deguy
حاولت إعادة نرش النص الذي مل يفقهه النارشون ،واعتربوا ُ لقد وتابعت أيض ًا حمارضات جون بوفري ( :)Jean Bauffretرابطة ُ
ألن أفالطونجمرد مترين أسلويب رديء دون معنى فلسفيَّ ، ذلك َّ حض ُت إجازة حول ليبنتز، كنت وقتها قد َّ من الشخصياتُ .
األبة النقديةوكل أخيار الناس َّقرروا ذلك .قامت َّ وأرسطو َّ اندهشت
ُ «مقالة حول امليتافيزيقا» و«مراسلة بني ليبنتز وأرنولد».
بـ«الصعود» جزئي ًا يف النص حتت دهشة دومون. أي يشء ،وقاال اليشء نفسه تقريب ًا ،بكلامت من كوهنام مل يتفقا يف ِّ
كل واحد منهام شدَّ د متشاهبة« :ما ليس بكائن ،فهو ليس بكائن»ُّ .
ورأيت َّ
أن اللغة هي ُ لقد تع َّل ُ
مت االشتغال عىل مادية النصوص، عىل العبارة ،وحصل بعد ذلك نوع من اجلمود .لقد كانت أوىل
أن ملتقى (تور) كان جتاريب متع ّلقة باللغة ،بطريقة التعبري .يبدو َّ
Pierre Aubenque, Le problème de l’être chez Aristote, Paris, PUF, قمت باستبطان ما اقرتحه هايدغر يف جممله حول ليبنتز .مذ ذاك ُ
1962 ; La prudence chez Aristote, Paris, PUF, 1963 ; Concepts فهمت أيض ًا كيفُ بشأن العالقة بني الفلسفة وتاريخ الفلسفة.
et catégories dans la pensée antique, Paris, 1980 ; Problèmes تم تقديسهام اليوم بشكل تتداخل األملانية مع اليونانية ،وكيف َّ
;aristotéliciens, 1- Philosophie théorique, Paris, Vrin, 2009 أدركت وقتها َّأنام لغتان متفلسفتان (langues ُ خطري ،رغم أنَّني
Problèmes aristotéliciens, 2- Philosophie pratique, Paris, Vrin, 2011. اشتغلت عىل «رسالة الالوجود» ُ .)philosophantesثم
6ـ الكلمة األملانية es gibtتعني حرفياً «هذا مي ُّد أو يُعطي» (،)ça donne عيل بيري
جلورجياس (لقد كان موضوع الدكتوراه الذي اقرتحه َّ
والعبارة es gibt Seinحرفياً« :الكائن هذا املعطى» أو «الكائن كام هو شق الطريق ،أنَّه واكتشفت ،بعد ِّ
ُ أوبينك،)Pierre Aubenque 5
معطى» ،والعبارة تدور فلسفياً حول الوجود بوصفه منحة أو عطية .ميكن
الرجوع إىل الفيلسوف الفرنيس املتخصص يف الفينومينولوجيا جون لوك ماريون املتخصصني الغربيني يف
ِّ 5ـ بيري أوبينك ( Pierre Aubenqueولد سنة ،)1929أحد أهم
لفهم الطابع الجودي للوجود (املرتجم) .طالع كتابه: أرسطو .من أشهر أعامله« :مشكلة الوجود عند أرسطو» (« ،)1962الحصافة عند أرسطو»
Jean-Luc Marion, Etant donné. Essai d’une phénoménologie de la (« ،)1963مفاهيم ومقوالت يف الفكر العريق» (« ،)1980مشكالت أرسطية 1- :الفلسفة
donation, Paris, PUF, 1997. النظرية» (« ،)2009مشكالت أرسطية 2- :الفلسفة العملية» (( )2011املرتجم).
أصناف ًا مهدَّ د ًة باالنقراض :الفرنسية ،األملانية ،اإلسبانية ... ،إلخ. يشء يف صدد التشكيل .كام يقول شاليرماخر بشأن العالقة بني الكاتب
وإن كانت الفلسفة التحليلية األنجلوسكسونية تويل اهتامم ًا خاص ًا ولغته« :إنَّه عضوها ،وهي عضوه» .بالنسبة إىل السفسطائية واهلراطقة
باللغة ،فهي تساهم يف دعم هذه احلالة .تتداول فكرة مفادها أنَّنا ثمة صيغ يف التعبري ينبغي ابتكارها ،التي هي عموم ًا هذا يشء مهمَّ :
نفكر كلنا بالطريقة نفسها ،وتتنكَّر للتاريخ وللغات (أرسطو، يف صدد االبتكار يف النص ،والتي مل توضع مسبق ًا بشكل معياري.
أن اللغة ليست سوى زمييل يف أكسفورد ،)...عىل الرغم من َّ جاءت هذه اجلمل إجاب ًة عن ُجل أخرى .كام يشري نيتشه ،النصوص
أن اإلنجليزية هي لغة اإلمرباطورية، ثياب عديمة الفائدة .بحكم َّ أن جورجياس استعاد بارمنيدس، شك يف َّ
اليونانية هي أطراس .ال َّ
لغة القوة السياسية-االقتصادية ،لغة التحا ُدث ،اللغة العادية دون كل هذا يمكن قراءته ،لكن يتطلب وأن بارمنيدس استعاد هومريوسُّ . َّ
االنتفاخ امليتافيزيقي ،فاللغة التي ُيتعا َمل هبا هي إذن اإلنجليزية. حاولت اقتناءها قدر املستطاع وما أزال أقتنيها .أعتقد أنَّه
ُ معرفة وفرية
ال القومية األنطولوجية وال الكل-باإلنجليزية ،ها نحن أوالء نص هبذه الفكرة نعرف ما نقصده من كلمة «ثقافة» :النص هو دائ ًام ٌّ
نجد هايدغر ،من جهة ،والفلسفة التحليلية ،من جهة أخرى، لنصوص أخرى ،خصوص ًا عند اإلغريق .ما تعلمته من اخلطابة
عب عن حتت اإلقامة اجلربية يف القاموس :ال أحدمها وال اآلخر ُي ِّ أن اللغة «تفعل» شيئ ًا ،أنَّه يمكننا أن نجعل كائن ًا بالتعبري ،وهبذههو َّ
الفلسفة يف جمملها. تم ابتكار املدينة والسياسة ،احلارضة اليونانية ،العامل «األكثر الطريقة َّ
ثرثر ًة من غريه» ،تقول حنَّه أرنت ( )Arendtباستشهادها ببوركهرت
ما معنى الترجمة بالنسبة إليك؟ ( .)Burkhardtإذا قمنا بمقابلة هذا ال ُبعد األدائي (dimension
كل يشء القراءةَّ .إنا عملية قراءة النصوص تعني الرتمجة قبل ِّ ال عىل كل فيلسوف يشتغل قلي ً )performativeللغة بانشغاالت ِّ
ألن الكتابة عبارة عن طِرس ،8 يف لساهنا .وهي مع َّقدة للغايةَّ ، اليونانية ،بمعنى انشغاالت الرتمجة ،فإنَّنا نقوم بغمر هذه األدائية يف
كل ما يوجد حتت النص، والقراءة عبارة عن َع ْرض .ينبغي معرفة ِّ متا ُيز اللغات :هذا بالضبط ما دفعني إىل القاموس .يساهم القاموس يف
كل يشء ،وهذا ما ال ومعرفة ما نضيفه عليه .يتطلب األمر سامعِّ 9 نزع القداسة ( )désacraliserعن اليونانية واألملانية.
ثم االنتقال من لسان إىل آخر بمراعاة املفاجأة نفعله يف الغالبَّ .
ثمة طريقتان األصلية يف لغة الوصول .كام يقول شاليرماخرَّ ، ليست اليونانية واألملانية اللغتني الوحيدتني اللتني تتقنهام
ُقرب القارئ من الكاتب ،والرتمجة يف الرتمجة :الرتمجة التي ت ِّ الفلسفة .يقوم القاموس بإبعادنا عن «القومية األنطولوجية»
أن هناك ،يف احلقيقة، ُقرب الكاتب من القارئ .ويضيف َّ التي ت ِّ (عبارة جلون بيري لوفيفر ،)Jean-Pierre Lefebvreألنَّه ينطلق
ترمجة واحدة ،تلك التي يقرتب فيها القارئ من الكاتب .الرتمجة من املتعدِّ د ،وليس من وحدة أصلية ذات منبع وحيد ،تنفرد هبام
األخرى هي الرتمجة الفورية ( .10)interprétariatاالهتامم بام هاتان اللغتان (اليونانية واألملانية التي هي يونانية أكثر من اليونانية
ذاهتا) .فهو يقوم بنزع األقلمة ( )déterritorialiseويدفعنا ببهجة
نحو ما بعد بابل .عالو ًة عىل هذه اهليدغرية الكاريكاتورية نوع ًا
لكل مخطوط مصنوع من مادة جلدية
8ـ يُقال الطرس (ِّ )palimpseste عدونا هو «الكل -باإلنجليزية» ()tout-à-l’anglais؛ ماَّ ،
فإن َّ
مستعملة (برشامن) ،ميكن محو الكتابة فيها إلعادة كتابة يشء آخر (املرتجم). اإلنجليزية التي مل ت ُعد لسان ًا ،املنقطعة كل َّي ًة عن أصحاهبا وعن
9ـ الكلمة entendreتعني «السامع» وأيضاً «الفهم» .أضع السامع بدالً من الفهم، التداول العاملي ،يشء من قبيل اللغة الشائعة ُ جمرد لغة يف
أعامهلاَّ ،
ألنَّه يفيد االنتباه ويفيد سريورة العملية اإلدراكية نفسها .الفهم يُت ّوج هذه العملية تواصل ،لكنَّها
ُ ( )koinèالتي ال نستغني عنها بال شك يف ِّ
كل
اإلدراكية ،وقد يأيت ناقصاً أو سيّئاً .نركِّز إذن عىل السريورة وليس عىل الغاية (املرتجم). التواصل العاملي،
ُ جمرد أداة سهلة يف
ليست يف يشء لغة الثقافةَّ .إنا َّ
قسم شاليرماخر الرتجمة إىل قسمني :الرتجمة األصيلة ()Übersetzung
10ـ يُ ّ تنطوي عىل العديد من املفاعيل الفاسدة .تكمن اخلطورة يف َّأل
والرتجمة التقنية ( .)Dolmeschungالرتجمة األوىل تأويلية وفلسفية ،كتابية 7
تكون هنالك لغة أخرى غريها ،يش ٌء من قبيل األنجلوكوكبية
يف جوهرها ،ت ُفكّر يف الكلامت فيام هي ترتجمها أو تنقلها من لسان إىل آخر؛ املعوملة ،وهلجات نتحدث هبا يف املنزل ،تتطلب االحتفاظ بوصفها
والثانية هي لغوية وتلقائية ،شفهية يف الغالب ،كام هو الحال مع االجتامعات
والندوات .تنخرط الرتجمة الفورية يف هذه الرتجمة التقنية (املرتجم). 7ـ الكلمة ُ Globishمركَّبة من الكوين أو الكوكبي ( )Globalواإلنجليزية (( )Englishاملرتجم).
اهلم األساس الذي اعرتانا) ،وهوالغرض من القاموس (كان ُّ سوى بيشء خارج عنها .يف الواقع ،ال يتك َّلم الشخص لسانه
تبيان االنتقاالت والتحويالت ،أي كيف تؤ ِّثر اللغات الفلسفية جيد ًا سوى بمقارنته بلسان آخر .ال نُدرك نظام اشتغال اللسان
حتدثت من
ُ والنصوص يف بعضها بعض ًا ،وكيف تتفاعل .لقد ّإل عندما نقارنه بنمط اشتغال لسان آخر .هذا ما أقصده بالرتمجة:
قبل عن اليونانية لغة طرسية ( ،)palimpsestiqueلكن يبدو بأنا
َّإنا تتيح فهم اللسان اخلاص بإدراك وجود ألسنة أخرى َّ
أن الثقافة األوروبية يف جمملها (وفيام وراءها بال شك) ذاتَّ ألسنة خمتلفة ،وملاذا هي خمتلفة .هذا حييلني إىل جتربة ال أحتدَّ ث
طرس خاص باللسان ( ،)interlingualإذا جاز يل التعبري كنت مربيةعنها غالب ًا ،لكن كانت حاسمة كاللقاء هبايدغرُ .
هبذه الصيغة .مل تكن فرنسية ديكارت كذلك سوى باالنتقال أطفال يعانون من الذهان يف مستشفى األمراض العقلية .لقد
إىل الالتينية التي محلت هي األخرى اليونانية وقامت بقولبتها؛ تعذر عليهم الكالم، كانوا أطفاالً يعانون من كسب لغة أمَّ ،
معي من اليونانية .هذا وأيض ًا نفي نمط َّ
معي من الالتينية ،ونمط َّ تساءلت ما
ُ وكانوا أحيان ًا يبثون أصوات ًا ،رغم َّأنم كانوا أذكياء.
هو املثري لالهتاممَّ :أل تكون هنالك هو َّية سوى باملقارنة مع هو َّية العمل إلقناعهم بأنَّه لدهيم لغة أم ،أي لغة أكثر أمومة من غريها.
وأن هذا النوع من املقارنات غري ثابت أو فج؛ بل هناك أخرىَّ ، أخذت حماورة «كراتيلوس» األفالطونية حول استقامة األسامء، ُ
ارتباطات ،انتحاالت ،خمالفات ،وهذا ُيش ِّغل من جديد األلسنة وكتبت بعض الكلامت اليونانية عىل السبورة .لقد كانوا ينظرون ُ
كل لسان بالشبكة التي نرميها عىل واألفكار .يقارن هومبولت َّ وكأنا يشء غريب حيصل يف حياهتم .قرأنا بعض َّ إىل األبجدية
العامل لنستخرج جزء ًا آخر من العامل .ينبغي املقارنة إذن بني ما اجلمل من «كراتيلوس» ،وأدركوا أنَّه يمكن اللعب باللغةَّ ،
وأن
حتتويه الشبكة. أفالطون كان يلعب باللغة اليونانية ،التي مل تكن لغتهم األم.
دفعني األمر ألن أفرس هلم اللعب بالكلامت يف «كراتيلوس»،
صادفت حاالت خت َّل ِ
يت فيها عن إدراج كلمة يف القاموس؟ ِ هل وقلت هلم« :وأنتم ،ماذا بإمكانكم فعله بلغتكم؟» .الكلمة ُ
ِ
ثمة حدود قمت بوضعها وتوضيحها؟ هل َّ «بواب»( (�conعيل اشتقاقها كانت الكلمة َّ األوىل التي اقرتحوا َّ
مقسمة إىل اثنني ،أتتخ َّيلني ذلك؟
َّ ، )cierge
14
كل يشء .لقد اشتغلت بام كان بالنسبة َّإنا حدود قوانا قبل َّ
إلينا عبارة عن عالمة بارزة دون ا ِّدعاء الشمول َّية .لقد تقاسمنا هل تقبلني بصورة املرتجم بوصفه عابر ًا ألنامط الفكر؟
بعض املجاالت الكربى التي قمنا بتغطيتها إرادي ًا ،مثل الذاتية
واملوضوعية ،احلق والقانون ،التاريخ والزمن ،اجلامليات، أعترب هذا صحيح ًا جدَّ ًا .االنتقال من لسان إىل آخر هو
األخالق؛ وبحثنا عن األمر الذي شدَّ نا مجيع ًا ،مع العلم أنَّنا بالضبط االنتقال من فكر إىل آخر ،ومن ثقافة إىل أخرى .ال ُبعد
مزدوجو اللسان عىل األقل ،ويف احلقيقة كنا نتقن أربع لغات، مهم جدَّ ًا .ال نتك َّلم لسان ًا وال نفكر به ،وبنمط َّ
معي املقارنايت ٌّ
ليس إىل درجة احلديث هبا بطالقة ،وإنَّام من أجل مواجهتها بلغات ثمة ألسنة أخرى .لكن ،ال ينبغي من التفكري سوى بالقناعة َّ
بأن َّ
كنت الوحيدة التي كانت أخرى ،وقراءهتا وحماولة الرتمجة منهاُ . السكون مع هويات ثابتة ،الواحدة بجانب األخرى .كان هذا
وانسحبت أحيان ًا .أترين كيف متَّت عملية بناء
ُ لدهيا رؤية عا َّمة،
ثمة مداخل مشكَّلة من كلمة واحدة يف لسان واحد القاموس؟ َّ -1 14ـ يف الفرنسية الكلمة conciergeتعني البواب يف مدرسة أو عامرة أو
ثم مداخل («لوغوس» logosأو «أوفبونغ» )Aufhebung؛ َّ -2 مؤسسة ،وشق الكلمة إىل نصفني ( )con-ciergeيُعطي داللة مغايرة متاماً
مشكَّلة من شبكات يف املقارنة (حول «النف س ،âmeالروح �es وغريبة ،وهي conوتعني أحمق أو مغفَّل و ciergeوتعني شمعة طويلة
»pritمثالً ،مع مرادفاهتا يف اللغات األخرىsoul, spirit, : تُستعمل يف الكنائس .هل البواب إذن «شمعة حمقاء»؟ كشفت بعض الدراسات
mind, will, Geist, Gemüt, Witzأو أيض ًا «بنية ،structure السيكولوجية كيف أ َّن الذي يعاين من الذهان أو ال ُعصاب له القدرة الفائقة عىل
ثم مداخل أوسع (التي نموذج ،patternصورة )»Gestalt؛ َّ -3 شق الكلامت الستخالص داللة مغايرة أو قلب الكلامت ،وهذا ما تحدَّثت عنه
ِّ
سميناها فيام بيننا مداخل من النظام الثاين) ،تأخذ بعني االعتبار َّ كاسان وهو اللعب بالكلامت ،بشكل طريف يف بعض الحاالت ،وأحياناً بشكل
خاصة (مثالً ،يف اإلسبانية َّ جمموع اللغة انطالق ًا من وجهة نظر غريب متاماً (املرتجم).
طبع ًا ،صادفنا هذا النوع من العوائق ،لكن قمنا بتذليلها بطريقة االختالف بني serو ،)estarأو جمموع املشكلة املغمورة يف خمتلف
جتريبية فاعلة .قمنا بضبط َّأول جمموعة من الكلامت ارتأينا أن ثمة مداخل ال نظام التتابع يف الكلامت)؛ -4أخري ًاَّ ،
األلسنة (مث ً
ألنا كانت تزعجنا وكنَّا يف حاجة إليها .لقد أدركنا تكون واردةَّ ، «توجيهية» تقود القارئ انطالق ًا من كلمة فرنسية نحو ما مل خيطر
ال اللغات السالفية، ٍ
أنَّنا كنا نفتقر إىل معرفة قدر من اللغات ،مث ً عىل باله البحث عنه ،وختترص االختالفات ،دون نسيان املسارد،
وقمنا باالستشارة .األمر نفسه مع الربتغالية واإلسبانية اللتني كانتا ذات أمهية قصوى لقاموس يسعى ألن يكون وسيلة تعليمية
تقتضيان إعادة التفكري يف احلدود الكائنة بني األدب والفلسفة. ( ُكتَّاب ،مرتمجون ،نصوص مستشهد هبا ،كلامت معاجلة لغة بلغة).
قام قسطنطني سيكوف 16باإلرشاف عىل جمموعة البحث التي
اهتمت باللغة السالفية .األوكرانيون من كييف الذين اشتغلوا َّ هناك مداخل أتأسف عىل غياهبا ،يف املداخل ذات النظام
معنا اقرتحوا كلامت اعتربوها من أغرب وأهم ما يوجد يف أردت إدراجه ،يعالج الطابع االستعاري ُ ثمة مدخل الثاين َّ
ال (وهنا نسقط يف املشكلة عينها) «مري» اللغة الروسية .هكذا مث ً اعتقدت أنَّه بإمكاين إدراجه بجانب من ُ االختاليف بني اللغات؛
( )mirتعني يف الوقت نفسه «العامل» و«السلم» و«بلدة ريفية» املخصص :هل نتحدَّ ث باألحرى عن حدود أم إطار أم َّ املكان
و«سفيت» ( )svetالتي تعني «العامل» و«النور» ،أو «برافدا» ْ مساحة أم ُبعد ،أم أفق أيض ًا ،واليشء نفسه مع ال ُعمق واألساس؟
ً
( )pravdaالتي تعني «العدالة» و«احلقيقة» بقدر مماثل .أ َّيا كانت ما االستعارات التي تتيح لنا احلديث عن الفكر يف املكان؟ يف
يتم التح ُّقق عرب القاموس من اللغة ،بام يف ذلك الفرنسية عندناُّ ، الفرنسية ،هل رسم احلدود هو ما يسمح بالتعبري عن( ) Grund
أن «اللغة ليست شيئ ًا آخر سوى جمموع االلتباسات التي خ َّلدها َّ وهو األساس يف األملانية؟ إنَّه مقال مهم .لكنَّه مقال لعني ،مل ُي َف َّعل
تارخيها» ،عبارة جلاك الكان أعتربها صحيحة عىل نحو بارز ،يف أسميها ظرفية ،ينعدم فيها املحاربون ،سلسلة مؤملة من ألغراض ِّ
«املذهل» .17اللغة هي إذن جمموع االلتباسات واملجانسات التي االنشقاقات .مل نصل أيض ًا بتات ًا إىل هناية املقال حول السلب15
اهلوة الكائنة بنيال تظهر سوى باملقارنة مع لغة أخرى .بشأن َّ ( :)négationخمتلف أشكال النفي أو السلب يف اللغات .يف
لغة وأخرى ،يتعلق األمر ربام بالتباسات مل ندركها جيد ًا ،فقط قمت بإرساء توجيه يقود نحو جمموعة من املقاالت مثل( النهايةُ ،
يف حالة ما إذا رأيناها من اخلارج وبالتحكُّم يف اللغتني .هذا أمر ،)Verneinunggبمعنى املحتوى الداليل («النكران» �dénéga
مهم .يمكن هلذه االلتباسات أن تكون نحوية ،وليس فقط داللية tionعند فرويد ،مثالً) ،أو مقال صغري حول «ال» ( )neالزائدة.
(سيامنطيقية)؛ يمكنها أيض ًا أن تتع َّلق بنظام الكلامت .يمكنني يدل عىل طريقة يف االشتغال ،فهو فعل يتوسعُّ ،أن املعجم عامل َّ غري َّ
ألن القاموس أن أحكي لك قصة .مل نشتغل عىل اللغة الصينية َّ ال مكتمالً. كونه عم ً
ال وطموح ًا هو معجم أورويب؛ ينبغي فعل ذلك ،وسيكون عم ً
سافرت إىل الصني مع فرانسوا جوليان 18قبل أسابيع،ُ آخر .عندما وجدت نفسك ِ صادفت عوائق يف اجلانب األلسني؟ هل ِ هل
أمام وضعية ال تفعلني فيها شيئ ًا ملعرفة ناقصة بلغة مع َّينة؟ هذا
16ـ قسطنطني سيكوف ( )Constantin Sigovهو مدير «املركز األورويب ألن األطفال الذين يأتون بكفاءة لغوية أخرى ،فمن هيمنا كثري ًاَّ ،
لألبحاث يف العلوم اإلنسانية» ،جامعة كييف -مويال (أكرانيا)؛ ومدير دار النرش املحتمل وجود عقبات يستحيل خت ِّطيها.
«الروح والكلمة» (املرتجم).
17 . Jacques Lacan, « L’Etourdit », Scilicet, n°4, Paris, Seuil, 1973, p. 47 15ـ تقصد كاسان أ َّن القاموس الذي وضعته مل يتح لها الذهاب إىل أبعد الحدود
18ـ فرانسوا جوليان ( François Jullienولد سنة 1951يف مدينة أمربان املمكنة من اإلتقان والشمولية ،أي إدراج املباحث واملفاهيم كلها ،مخافة أن
Embrunيف فرنسا) هو فيلسوف فرنيس معارص ،هلّيني متخصص يف العامل يتعدى ذلك املساحة املخصصة للقاموس (عدد صفحاته 1532صفحة) ،ومخافة
اليوناين العريق ،وعامل الصينيات ،متخصص يف الحضارة الصينية؛ درس يف أن يهجر الكُتاب عملية تدوين القاموس التي كانت مرهقة من حيث الدقة
جامعات بيكني وشنغهاي وطوكيو .من أشهر أعامله« :االنعطاف والوصول: التقنية والعرض التاريخي واملقارنة بالقراءة يف لغات متعددة .لذا ،تخلت كاسان،
اسرتاتيجيات املعنى يف اليونان ويف الصني» (« ،)1995الحكيم بال فكرة أو آخر بوصفها املرشف عىل القاموس ،عن املدخل الخاص بالطابع االستعاري للكلامت
الفلسفة» (« ،)1998يف الطريق :معرفة الصني ،استئناف الفلسفة» (« ،)2006من املدروسة ،سوى رمبا ما كان يقتضيه االشتقاق (املرتجم).
يدل عىل فتحة بني خيوط السلسلة وخيوط أن «كايروس» ُّ مفادها َّ وقمنا بإجراء حلقة دراسية حول احلقيقة ،كلمة غري موجودة يف
الشبكة يف ِحرفة النسج .انطالق ًا من هذه الفكرة ،يطرأ يشء ال قمت يف هذا
اللغة الصينية ،عىل األقل ليس بالصيغة التي نعرفهاُ .
نتوقع حدوثه؛ وعندما يبلغ السهم الكايروس (يف خياطة الصدغ الدرس باحلديث عن أرسطو ،وكيف تشكَّل مفهوم احلقيقة يف
أن الفكرة تنطبق عىل مت ُّثل
مثالً) ،فإنَّه يكون مميت ًا .نرى جيد ًا كيف َّ تكلمت عن البنية النحوية للمبتدأ واخلرب يف
ُ التصور اليوناين.
ُّ
الكايروس عىل غرار الشاب الوسيم واألصلع من اخللف الذي عالقتها بالبنية الفيزيائية أو امليتافيزيقية للجوهر وال َع َرض .يف
ينبغي أخذه من اخلصلة األمامية قبل فوات األوان .هناك مقاالن هناية الدرس ،جاء أحد الطلبة النبيهني األذكياء ليتحدَّ ث معي
ٍ
ماض من القاموس جييبان مبارشة عن تساؤلك :املقال «حارض قائالً« :سيديت ،املرتجم الذي كان معك مرتجم جيد ،مرتجم
مستقبل» ( ،)Présent passé futurومقال آخر حول اهليئة حم َّلف ،مرتجم بارع ،لكنَّه يرتجم الكلامت وال يرتجم املعنى؛
( ،)aspectيف تعارض مع الزمن النحويُ .ي ِّبي هذا األخري ،يف يف قوله « َع َرض» ،يأخذ كلمة نستعملها للداللة عىل حادث
اليونانية والروسية خصوص ًا ،شيئ ًا ال نستطيع إدراكه يف الفرنسية، السيارة ( .»)accidentمل أنتبه لاللتباس ،وأتساءل ما كان بإمكان
والذي حييل إىل الطريقة التي جيري فيها الفعل (لقد أكل ،أكل، احلارضين أن يفهموه من الدرس.
أكل فعالً) ،20وليس فقط الزمن (كُل ،أكل ،سيأكل) .21أ َّما
أن الكلامت ٍ
ماض مستقبل» ،فإنّنا نرى َّ بالنسبة إىل املقال «حارض أن أحسن ناقل للغة ما ،عليه أن يكون هذا يدفعنا إىل اعتبار َّ
«ماض»« ،مستقبل» مل يكن يعرفها اليونان القدامى. ٍ «حارض»، عىل األقل ثنائي اللغة ( ،)bilingueليتسنَّى له فهم العوائق التي
للداللة عىل هذه اللحظات البدهية بالنسبة إلينا ،كانوا يقولون: جياهبها املتلقي يف سعيه نحو تع ُّلم إحدى اللغات .هل يمكن أن
«األشياء التي فاتت»« ،األشياء التي ستأيت»« ،األشياء احلارضة»، توضحي لنا الطريقة التي نتكلم هبا عن الزمن يف خمتلف اللغات،
ثمة بمعنى انطالق ًا من املحتوى ،ال من احلاوي .نرى أيض ًا َّ
أن َّ وبالتايل التفكري يف هذا الزمن؟
طريقتني يف احلديث عن املايض يف األملانية .نقول «املايض الزائل»
( )Vergangenو«املايض املحت َفظ يف احلارض» ( )Gewesenالذي جمموع اإلشكاليات املتعلقة بمختلف أشكال التعبري عن الزمن
يمكنه أن يدخل يف احلركة اجلدلية اهليغلية؛ وطريقتني يف التعبري موضوعة حتت مدخل توجيهي «زمن» ( )Tempsالذي يقود
عن احلارض« :األمر الذي نحن أمامه» ( )Gegenwartو«احلضور مهم جد ًا .نعالج فيه
إىل «حلظة» ( ،)Momentوهو مقال أعتربه َّ ً
اخلالص للحارض» ( )Anwesenheitالعزيز عىل هايدغر .بينام يف خصوص ًا الكلمة «زمن مالئم» ( )kairosباملعنى اليوناين العريق.
الفرنسية ،يكمن االختالف باألحرى بني «الزمن القادم» ()futur ما معنى القطيعة يف خط الزمن ،اقتحام ،ثغرة يف الزمن ،التي
ألنا مفتوحة و«املستقبل» ( .)avenirينبغي قراءة هذه املقاالتَّ ، قمت برتمجته ونرشهيتس َّلل منها اإلمكان؟ أنصح بقراءة كتاب ُ
عىل مسائل جوهرية كالتاريخ والذاكرة. يف سلسلة «النظام الفلسفي» (،)L’Ordre philosophique
منشورات سوي ( ،)1999عنوانه «أصول الفكر األورويب»
هل هناك خاص َّية تريدين إثارة انتباهنا إليها؟ للكاتب ريتشارد بروكستن أنيانس .19نجد يف الكتاب فكرة رائعة
وهيم
هيمني ُّ أدركت َّ
أن ما كان ُّ ُ بالفعل مسار خيلو من النمطية)،
تالميذي ،أ َّي ًا كان مستواهم ،كان االشتغال عىل النصوص ،يف
املساحات التي كانت تعتمل فيها األشياء ،وليس يف األفكار
واملجردة .كان االشتغال عىل النصوص يف لغات متعددةَّ العا َّمة
طبع ًا .إنَّه اشتغال يذهب إىل أبعد من «استجواب ذي خيارات
متعددة» ،)QCM( 22ومن ضبط املعارف الذي نستعمله اليوم،
ومن الفكر اجلاهز ( .)prêt-à-penserأعتقد َّ
أن «قاموس املتعذر
يتم
ترمجته» أداة تُربز الطريقة الصحيحة يف العمل ،الكيفية التي ُّ
هبا العمل اليومي.
جعفر عاقل*
إن الدارس للمقاربات الفوتوغرافية املحدودة التي تناولت ثم ّ يكاد يأخذ موضوع فضاء الصحراء يف املنتج اإلبداعي
موضوع الفضاء الصحراوي املغريب ،تثري نظره جمموعة من املغريب ،بمختلف أجناسه وأشكاله التعبريية ،وضع ًا استثنائي ًا.
التأطريات واملوضوعات واألساليب البالغية التي يقوم عليها خصصت حيز ًا متميز ًا هلذا إذ قليلة هي األعامل اإلبداعية التي ّ
هذا الربريتوار اإليكونوغرايف ،سواء عىل مستوى املحتوى أو الفضاء الغني بأناسه وجغرافيته وعاداته وعالقاته اإلنسانية...،
عىل مستوى الشكل .وذلك مقارنة مع باقي املتن الفوتوغرافية إلخ .ويمكن احلديث ،وبالنَ َفس ذاته ،عن التجربة الفوتوغرافية
صورت لنا احلياة اليومية باملغرب .ويمكن التمييز إجرائي ًا
التي َّ باملغرب يف اهتاممها أو انشغاهلا هبذا املوضوع وإعادة بناء معانيه
يف هذا املوضوع بني نموذجني من الصور :األول :التقطته عيون ثم إنتاج دالالته .فاملتأمل يف جتارب الفوتوغرافيني املغاربة
اآلخر/عيون األجنبي وهي ختضع بشكل عام لنظر وبالغة أن االهتامم بتمثيل موضوع الصحراء مل يشغل سوى يلمس ّ
األسلوب اإلثنوغرايف أو باألحرى الكولونيايل يف متثيل اليومي فضول وانشغاالت أسامء حمدودة جد ًا ،األمر الذي يطرح أسئلة
املغريب ورسد حكاياته ،ويمكن تقسيم هذا املوروث البرصي عديدة بخصوص هذا الغياب .هل يعود األمر إىل حواجز نفسية
بدوره إىل صنفني أو مقاربتني إذا صح التعبري .1ونموذج ٍ
ثان فتحولت إىل تطورت فصوهلا مع مرور الزمن
ّ أو لغوية أو فكريةّ ،
سياج سميك بني الفوتوغرايف وبني الفضاء الصحراوي وما حيبل
. 1ميكن عودة القارئ بخصوص هذه املسألة إىل كتابنا املعنون بـ«نظرة عن أن املسألة متعلقة بالغياب به من تفاصيل وجزئيات ثقافية؟ أم ّ
الصورة الفوتوغرافية باملغرب» ،منشورات الفنك ،الدار البيضاء ،2015 ،وتحديدا ً الشبه التام هلذا املوضوع عن ذهن الفوتوغرافيني وأسئلتهم
(ص ص 17ـ .)23حيث تناولنا بنوع من التفصيل كيف أ ّن هذا الصنف من الفنية؟
الفوتوغرافيات كان يندرج يف إطار السياسة العامة التي نهجها املستعمر بأرض
املغرب من أجل التعرف عىل طبائع ساكنته وجغرافيته وطبيعته وعمرانه، * فوتوغرايف وأستاذ باحث يف الفوتوغرافيا باملغرب
وقد جيد الدارس هلذه التمثيالت والتمثالت أثر ًا ،إ ّما بشكل
مبارش أو غري مبارش ،يف جتارب ومسارات بعض الفوتوغرافيني
املغاربة الذين اختذوا هم أيض ًا من موضوع فضاء الصحراء جماالً
ّ
ويتجل ذلك يف الطريقة التي يؤثث هبا إلبداعاهتم الفوتوغرافية.
هؤالء الفوتوغرافيون النتف البرصية التي التقطتها كامرياهتم، أبدعته العني املغربية/عني الفوتوغرايف املحيل بأساليب فنية
وكذلك من خالل احلموالت الداللية التي منحوها أو شحنوا هبا وبجهات نظر متفاوتة.
فوتوغرافياهتم ،والتي حتكي لنا قصص ًا عن الفضاءات الصحراوية
باملغرب وحيوات الناس هبا .ويمكن مالمسة جزء وافر من هذه إن الدارس لتاريخ الفوتوغرافيا باملغرب ال يمكنه جتاوز ّ
باحلس
ّ األسئلة والقضايا بدء ًا بأعامل أوالد السيد داود ،مرور ًا هذا املتن الفوتوغرايف الكولونيايل ،ألنّه بالرغم من العيوب
التجريبي لبنكريان التهامي ،وصوالً إىل فوتوغرافيات التازي واهلفوات واألدجلة التي أبان عنها يف مناسبات عديدة فهو
إن احلياة الصحراوية يف تعدّ دها املناخي والبيئيسعد وغريهمّ .3 يتوفر عىل بعض النقاط اإلجيابية التي تؤهله ألن يشغل مساحة
2ـ ميكن االستئناس يف هذا الباب ،عىل سبيل املثال ال الحرص ،بفوتوغرافيات مبعنى أشمل ثقافته .وقد خلصنا إىل أ ّن أغلب الصور امللتقطة رغم تعدّد مشارب
كتاب: فوتوغرافييها :رحالة ،باحثني ،جنود...إلخ؛ ورغم تعدد أسنادها :بطاقات بريدية
- LE CLEZIO J.M.G et JEMIA (1997), Gens des nuages, photographies وصور سياحية أو توضيحية...إلخ ،فقد تحكم يف نظر ملتقطها ومتخيله هاجسان؛
de Bruno Barbey, éd. Stock, Paris, 1997, (p.p 44 - 45, p. 48, p. 52, p. األول :جمع أكرب عدد ممكن من املعلومات واملعطيات عن مغاربة هذه الفرتة
54, p. 63, p. 77, p.p 88 - 89, p. 92, p. 100, p. 102, p. 119). التاريخية من خالل سند الصورة ،للقيام بعد ذلك بعملية جردها وتصنيفها
3ـ هناك أعامل لفوتوغرافيني آخرين تستحق هي األخرى التأمل والتفكري يف ومعالجتها فتحليلها ،وذلك بهدف توظيف نتائجها يف اسرتاتيجية العامة لنظام
خصوصياتها ولغتها البرصية كبعض إنتاجات مايل محمد وبوبلغيثي الحسني التي الحامية .ثم هاجس ثانٍ ،وميكن تلخيصه يف االستجابة الستيهامات املستهلك
اتخذت من الفضاءات الصحراوية للجنوب الرشقي للمغرب موضوعاً للتجريب الغريب وأفق انتظاراته ورغباته النفسية واللغوية والفنية والثقافية قصد
الفوتوغرايف. استدراجه والتأثري فيه لالفتتان باملغرب.
والبغداد وغريها من العنارص واألكسسوارات ذات الطابع الثقايف والبرشي واللغوي والثقايف حترض بقوة ،طبع ًا إىل جانب سامت
مقربة
الصحراوي ،إنّام الغاية من ذلك اإلرصار هي رسم صورة ّ أخرى ،يف السجل الفوتوغرايف هلذه التجارب املغربية ،وذلك
ومفصلة ومغايرة يف ذهن املشاهد عن هاته الفضاءات وساكنتها بدرجات فكرية ومقاربات فنية متفاوتة.
وعن العالقات التي جتمع بينهام ،وهي يف اآلن نفسه حماولة
لوصف وكشف وحتليل ثم تأويل كيف هلذه املشاهد الطبيعية واملتصفح أللبوم «مغاربة» ألوالد السيد ولكاتالوغات
املتنوعة وهلذه الفضاءات املفتوحة عىل الالمتناهي تأثريات قوية معارض بنكريان وملجموع فصول إصدارات التازي ،4سيقف
وأحيان ًا حاسمة يف العالقات االجتامعية ومتخيالت األفراد عىل الرغبة الكبرية عند هؤالء الفوتوغرافيني من أجل ختييل
إن هاجس الفوتوغرايف أثناء التقاطه هلذهوسلوكات اجلامعاتّ . أو تسجيل أو توثيق بعض الشذرات واللحظات واحلاالت
املشاهد واللقطات ،كان ومايزال هو تقديم منتج برصي يقطع والواقعات واألحداث التي متيز املجتمع الصحراوي يف كل ّيته.
والـم َسنَّنَة التي برعت
ُ من جهة مع أسلوب املشاهدة الكسولة ّ
إن اهتاممهم بتمثيل ،أو إعادة متثيل ،فوتوغرافيا هذه الفضاءات
فيها الفوتوغرافية الكولونيالية من خالل استعانتها بكليشيهات املنسية باملغرب مثل زاكورة وطاطا وعقا وأسا وغريهم ،والتقاط
السياح واإلثنوغرافيني واملتلصصني ،ومن جهة أخرى العمل صور للتحوالت الرسيعة التي يعرفها الفضاء العمراين لبعض
عىل تأسيس مقاربة فوتوغرافية جديدة تقوم عىل مبدأي التوثيق املدن الصحراوية كالداخلة وبوجدور وسامرة والعيون وغريها
والتعبري يف اآلن نفسه. من املدن والقرى؛ تشهد عىل انشغاالت الفوتوغرايف املغريب
املعارص بطبائع احلياة ومظاهرها وإيقاعها يف املجتمع املغريب
الـمهيب الذي يفوح َ وقد كان لتجربة ُم َابة الصمت عموم ًا والصحراوي حتديد ًا .وكذلك عىل فضول فكري متجدد
به الفضاء الصحراوي بكثافة أثر يف الفوتوغرافيني للتزهد ونظر برصي جتريبي من أجل فهم أرسار هذا املجتمع وخفاياه،
والتساؤل ،والغوص يف البحث عن اآلليات الناجعة واملمكنة وإيقاع حتوالته ومتغرياته ،وطبيعة أفراحه وانكساراته...إلخّ .
إن
إلبداع أساليب مشاكسة ومغايرة عن التجارب السابقة .وقد مرة ومن خالل إرصار الفوتوغرايف عىل متثيل وإبراز ،أكثر من ّ
متكنوا يف مناسبات عديدة ،كام أخفقوا يف أخرى ،من االنزياح استعامل سياقات خمتلفة ،جزئيات وتفاصيل وخصوصيات
عن أشكال وأساليب ورؤى املوروث البرصي الذي تركه لنا املكونات الطبيعية للفضاء الصحراوي مثل الصخور والكثبان
بعض فوتوغرافيي اإلدارة الكولونيالية واملؤسسات املوازية هلا: الرملية والنباتات الشوكية واألعشاب والشجريات القصرية،
دور نرش البطاقات الربيدية ،االستوديوهات ،املنابر اإلعالمية... وكذلك األلبسة التقليدية كالدراعة وامللحفة واللثام األسود
إلخ .كام متكنت جتارهبم بتوظيفها تارة للمكونات التشكيلية الذي يوضع عىل الرأس ،ثم احليل كاملبايل والليات واخلالخل
وأحيان ًا أخرى للعنارص الكرافيكية أو بتوظيفها لطرق اإلخراج
الفوتوغرايف ،من أن تنتقل وترقى بنظر املشاهد من زمن االنبهار 4 - AOULAD SYAD, Daoud, Marocains, préface de Abdelkébir
بىسحر الفضاء الطبيعي إىل زمن التمثل واإلدراك والتفكيك ثم Khatibi, éd. Contrejour / Belvisi, Paris, 1989, p72.
إعادة البناء .5ويتمثل ذلك جل ّي ًا بإعطاء األولوية يف انشغاالهتم - AOULAD SYAD, Daoud, Territoires de l’instant, Poèmes de
لفضاءات العامل الصحراوي يف تعدده واختالفه وأيض ًا اشتغاهلم Ahmed Bouanani, éd. La Croisée des Chemins / Editions de l’œil,
عىل مواضيع وأشياء ال تقف عليها العني العادية كحركات Casablanca / Paris, 2000.
الرحل ،وبعض املواد املنسية أو
الرمل ،واجلزئيات الدقيقة ملعيش ّ - TAZI Saâd, Maroc saharien, éd. CITADELLES et MAZENOD,
املرتوكة للنسيان فوق حبات الرمل ،وأثر احليوانات ورسومات Paris, 2012.
- TAZI Saâd et BOUBRIK Rahal, Al Khayma - Tente noire du
5ـ ميكن العودة بخصوص هذا النموذج الفوتوغرايف إىل أعامل بنكريان التهامي Sahara, préface Ali Squalli, éd. Marsam, Rabat, 2008.
املوسومة - TAZI Saâd, Sahara Atlantique - Splendeurs Du Désert Marocain,
بــ »Globes du silence» 2008 et «Ombres sur dunes» 2009 : texte de Aziz Daki, éd. La Croisée des Chemins, Casablanca, 2006.
القديس أوغسطينّ
مؤسس الالهوت المسيحي وملهم فالسفة الغرب
ّ
احلسني سحبان*
أن ما هلذه السرية الذات َّية (التي ليست «سرية ذات َّية» بيد َّ * أكادميي من املغرب
املتداول) من سامت إبداع َّية و«مرسح َّية درام َّية»،
َ باملعنى املحدَّ د 1 . Thomas F. Martin, Allan D. Fitzgerald, Augustine of Hippo.
وقصديتها ،يطبعها بطابع املفارقة :بدالً من أن تكون كشف ًا Faithful Servant, Spiritual Leader, Prentice Hall, Pearson
وانكشاف ًا تام ًا وكل َّي ًا ألوغسطني ،صارت ستار ًا خيفيه أكثر ممَّا Education, 2011, p. VIII.
يلف أوغسطني غموض والتباس ،فظلت مشكلة يبينه .لذلك ُّ . 2مارو ،هرني-إيريني ،القديس أوغسطني واألوغسطينيَّة ،ترجمة سعد الله
نصه؟صدقه مطروحة :من هو أوغسطني احلقيقي املسترت وراء ّ سميح جحا ،دار املرشق ،بريوت ،2007 ،ص .24
3 . Augustin, Saint, Œuvres, Paris, La Pléiade, 1998 - 2002. (Trois
tomes).
5 . Thomas, Williams, Philosophical Books, Jul. 2000, Vol. 41, Issue 4 . Alfaric, Prosper, L’Evolution intellectuelle de Saint Augustin,
3, p. 145. 9p. Paris, Emile Nourry Editeur, 1918, p. I.
الرضائب ...،إلخ .وقد عارص أوغسطني سقوط روما سنة 410 يبدو فكره يف نظرة إمجال َّية متحرك ًا ،يعكس حياة قلقة َّأرقها
ميالد َّية من قبل جيش أالريك ( )Alaricالذي عاث فيها هنب ًا رصاع نفيس ضار ،وسؤال ميتافيزيقي مسيطر ،فاختذت شكل
وختريب ًا وتقتيالً ،وقد تويف أوغسطني حتت حصار الوندال ملدينة «ترحال» فكري وروحي ،وبحث مستمر عن احلقيقة استبدَّ
هيبون ( )Hipponeالتي كان أسقف ًا هلا. بعقله وقلبه ،يتعلم ويقرأ بنهم ،ويفكر يف معمعة املجادلة والر ّد
عىل خصوم وأعداء .جعل ذلك كله فكره «فوضوي ًا» ،فاقد ًا
يف دوامة هذا التحول التارخيي السيايس اهلائل أخذت لصبغة «نسق» مغلق« :كان عاجز ًا عن االنغالق إىل األبد داخل
تربز مالمح اإلمرباطور َّية املسيح َّية املقبلة ،التي ستقوم أ َّية منظومة فكر َّية .كان فكره القلق يدفعه بدون انقطاع إىل األمام،
عىل أنقاض عامل اإلمرباطور َّية الرومان َّية ،بدء ًا من اعتناق وإىل التوسيع املستمر ألفقه .وتتقدَّ م أمامنا حياته الفكر َّية مثل
قسطنطني للمسيح َّية وإيقافه الضطهاد املسيحيني ،الذي كان صعود بطيء نحو ذرى تبتعد باستمرار» .6وقد قال أوغسطني
أشدّ أشكاله قسوة وأطوهلا أمد ًا يف القرن الثالث امليالدي يف عن نفسه يف إحدى رسائله« :أنا من أولئك الذين يفكرون وهم
عهد اإلمرباطور دوكليانوس .وهو اضطهاد حفظت الذاكرة إن الصعوبة الكربى يف يتقدمون ،ويتقدمون وهم يفكرون»َّ .
املسيح َّية آثاره ،خاصة يف إقليم شامل أفريقية الروماين ،يف ختليد تقديم أوغسطني هي أنَّنا حيثام نبدأ فكره حيرض كله ،حي ًا متوتر ًا،
ذكريات الشهداء املسيحيني الذين سقطوا يف محالته ،واحلفاظ وممتزج ًا ومتشابك ًا بحياته وواقعه الدراميني.
عىل طقوس إكرام أولئك الشهداء ضمن طقوس العبادة
املسيح َّية.8 نغامر بمحاولة رسم صورة تقريب َّية هلذا الفكر ولصاحبه،
مستمدّ ين خطوط هذا الرسم وألوانه من سياقه التارخيي،
لكن كان عىل املسيح َّية أيض ًا أن ختوض حرب ًا خارج َّية ضدَّ من هويته االنتامئ َّية والشخص َّية ،من مسار حياته وارتداداته
مكون ًا
َّ وثنية العامل الروماين« .كان العامل الديني ألوغسطني الفكر َّية ،من اإلشكاالت الفلسف َّية التي طرحها وآرائه فيها ،من
سمون عىل وجه العموم من املسيحيني واليهود ،وممَّن كانوا ُي َّ تطور فكره من خالهلا عرب التاريخ ،وأخري ًا من
األوغسطين َّية التي َّ
«الوثنيني»( ...)païensوهو اسم قدحي يطلق عىل من يعبدون الرجوع إىل أوغسطني يف عرص احلداثة وما بعد احلداثة.
آهلة متعدّ دة ،أو إهل ًا آخر غري اإلله العربي-املسيحي .إنَّه يدل
يف آخر املطاف عىل من حيافظون عىل املامرسات الدين َّية القديمة أفول اإلمبراطور َّية الرومان َّية وانتصار المسيح َّية على
أن املانو َّيةعالوة عىل املسيح َّية أو ضدها» .9وعىل الرغم من َّ الوثن َّية
دين كتايب فقد عُدَّ ت هي أيض ًا وثن َّية ،وكانت قد تغلغلت يف عاش أوغسطني يف عرص اإلمرباطور َّية الرومان َّية املتأخرة ،يف
أوساط الطبقات األرستقراط َّية واملثقفني ورجال الدولة .كام مرحلة بدأ التفكك والضعف واالنحالل يرسي يف جسمها،7
ومتزق ًا داخلها :اتسمت كان عىل املسيح َّية أن تواجه غليان ًا ُّ ويسري هبا نحو الزوال :حروب منهكة مع بربر الشامل الزاحفني
الكنسية اإلفريق َّية بتفكري ضيق جد ًا وبنزعة حمافظة متزمتة ،يتشدد عىل ثروات روما وأراضيها مثل اجلراد ،ومع العدو الفاريس
أي معارضة أو احتجاج أو تغيري لنصوص الكتاب أساقفتها جتاه ّ الساساين الرهيب يف الرشق؛ فوىض وانقسامات داخل َّية
املقدَّ س .كان هذا املناخ املتوتر يثري بكيف َّية متواترة لدى املسيحيني للسلطة السياس َّية قضت عىل االستقرار واألمن؛ واغتصابات ُّ
األفارقة ردود أفعال عنيفة جد ًا .فنشأت رصاعات داخل َّية بني أزمة اقتصاد ّية تتفاقم بإرهاق املواطنني بالزيادات املتتالية يف
الكنيسة الكاثوليك َّية الرسم َّية وبني فرق مسيح َّية منشقة ،أمهها:
6 . Alfaric prosper, op. cit. p. III.
. 7انظر حول هذا السياق التاريخي ،عىل سبيل املثال ،تاريخ الحضارات العام،
. 8املرجع السابق ،ص 566ـ .567 املجلد الثاين :روما وإمرباطوريتها ،أندريه أميار ،جانني أوبوايه ،ترجمة فريد م.
9 . Martin, Thomas F.; Fitzigerald, Allan D., Augustine of Hippo, داغر ،فؤاد ج .أبو ريحان ،منشورات عويدات ،باريس -بريوت ،الطبعة الثالثة،
Faihtful Servant, Spiritual Leader, Boston, Prtentice Hall, 2011, p. 4. ،1994الصفحات 541ـ .570
تتمجد به مدينة مداوروش ( ،)Madaureالقريبة من مسقط الدونات َّية 10والبالج َّية 11واألريان َّية.12
رأس أوغسطني ،والتي تلقى فيها تعليمه الثانوي .ومن أهم
مؤلفات أبويل التي بقيت كتاب شيطان سقراط (Le Démon de خالف ًا للحالة يف روما ،وإيطاليا عا َّمة ،كان اإلقليم الروماين
،)Socrateوروايته األدب َّية االنمساخات ()Métamorphoses لشامل أفريقية جهة خلف َّية رومان َّية آمنة نسبي ًا ،ومزدهرة اقتصادي ًا،
أو محار الذهب ( ،)L’Ane d’orالتي تُعدُّ إىل جانب اعرتافات إذ كانت نوميديا عىل اخلصوص ذات األرض الفالحية اخلصبة
أوغسطني من روائع األدب العاملي .وكانت قرطاجة يومئذ أعظم «هري روما» (خزان ًا للقمح) ،منه تتزود باملنتجات الفالح َّية
مدن شامل أفريقية الروماين ،وثانية املدن الرومان َّية بعد روما ،وقد الرضور َّية :القمح يف املقام األول ،ثم زيت الزيتون واخلمر
أنجبت الهوتيني مسيحيني كبار ًا أمثال طورطيليان( (�Tertul واخلشب والفواكه.13
،)lienأحد آباء الكنيسة الكاثوليك َّية الذي أسهم قبل أوغسطني
يف فتح أفق الالهوت املسيحي ،ويف قرطاجة سيتل َّقى أوغسطني ظهر يف شامل أفريقية الروماين هذا (خاصة نوميديا) مفكرون
تعليمه اجلامعي. وفالسفة والهوتيون عظام ،أمثال الفيلسوف األفالطوين
واألديب األمازيغي النوميدي أبويل ( )Apuléeالذي كانت
هو َّية أوغسطين االنتمائ َّية
روماني أم أمازيغي؟ . 10الدوناتية Donatismeمذهب مسيحي منشق ،Chismeمنسوب ملؤسسه
اسم أوغسطني أوريليوس أوغسطينو(س(�Aurilius Au أسقف قرطاجة ،Donatانطلق من إقليم نوميديا ثم انترش يف شامل أفريقية
)gustinusازداد بمدينة تاغاست ( ( ) Thagastاسمها يف الوقت برمته .نشأ هذا االنشقاق أصالً عن موقف متشدد من قبل دونات ض َّد تساهل
احلارض سوق أهراس باجلزائر) مواطن ًا روماني ًا سنة 345ميالدية، الكنيسة الكاثوليكيَّة يف انتخاب أساقفة م َّمن وصفوا بالخونة ،traditores
ألبوين مها :مونيكا ( )Monnicوباتريكيوس (.14)Patricius لكونهم سلموا أيام اضطهاد املسيحيني العنيف ،بني سنتي 303و ،305الكتب
مدينة تاغاست أمازيغ َّية ،واسم أ ّمه كذلك .لك َّن أوغسطني املقدَّسة للسلطات الرومانيَّة إلحراقها وإتالفها .بعد ذلك اقرتنت الدوناتيَّة بحركة
سكت عن نسبه ،ففتح الباب للنقاش بني املؤرخني حول هويته مت ُّرد واحتجاج اجتامعي خصوصاً من قبل الفالحني والقرويني الفقراء املعادين
االنتامئ َّية :هل هو أمازيغي ُم َرو َم ٌن أم روماين؟ والراجح حسب لالستعامر الروماين لنوميديا.
جون أومريا 15وكلود لوبليه 16أنَّه بربري نوميدي .ويرى بيرت . 11البالجية ، Pélagianismeمذهب الهويت انطلق من Pélageبروما ،طرح
أن «من املحتمل جد ًا أن ال يكون أوغسطني قد تكلم بلغة براون َّ قضايا الهوتيَّة ،وقدَّم حولها تصورا ً مخالفاً ملذهب الكنيسة الرسمي :الخطيئة
أخرى غري اللغة الالتين َّية» .17لك َّن مسألة ما إذا كان يعرف اللغة األصل َّية محصورة يف آدم وال تنتقل إىل ذريته ،كام أ َّن تعميد األطفال الصغار
األمازيغ َّية (البونيقية) فقد كانت موضع نقاش طويل .ترى نصرية لتطهريهم وهم بريئون من أي ذنب ال معنى له ،والعناية اإللهيَّة ال تتدخل يف
فعل اإلنسان الذي تفرتض محاسبته عليه يوم القيامة أن يكون حرا ً مسؤوالً.
14 . O’Meara, John J. La Jeunesse de Saint Augustin, tr. fr. Jeanne انتقل هذا املذهب إىل شامل أفريقية بعد نهب روما من قبل جيش أالريك
Henri Marrou, Editions universitaires Fribourg Suisse ; Cerf Paris, Alaricسنة ،410فأحدث ذلك املذهب بلبلة يف الكنيسة الكاثوليك َّية األفريقية.
1988, p. 32. . 12ينسب هذا التيار إىل الكاهن اإلسكندري أريوس ،ويتلخص مذهبه يف
15 . Opt. cit. p. 35 - 36. مناقشة مسألة التثليث يف العقيدة املسيح َّية .فانتهى إىل رفض القول بألوه َّية
16 . Leeplley, Claude, « Témoignage de Saint Augustin sur l’ampleur املسيح ،أل َّن رشط األلوهيَّة أن ال يكون اإلله مخلوقاً وال مولودا ً ،وهذا الرشط ال
et les limites de l’usage de la langue punique dans l’Afrique de son يتوفر سوى يف األب ،لذلك فإ َّن االبن ،املسيح ،ليس إلهاً .أثار هذا املذهب تدخل
temps », in Claude Biriand-Ponsart (dir.), Identités et culture dans الكنيسة ،فقد ح َّرمته واعتربته هرطقة ،كام أثار خالفات ومشاحانات وأحقادا ً
l’Algérie antique, Havre, Publications de Universités de Rouen et داخل الكنيسة دامت قرابة 60عاماً.
du Havre, 2005, p.127 - 145. 13 . Brown, Peter, La vie de Saint Augustin, tr. Fr. Jeanne-Henri
17 . Brown, p., Opt. cit. p. 18 - 19. Marrou, Seuil, 1971, p.16 - 17.
فستبقى إذن هويته االنتامئ َّية موضوع ًا للتساؤل ،وسيحول ذلك أن اعتبار «أوغسطني ذا ثقافة التينَّية عىل وجه بنصديق ،مثالًَّ ،
دون معرفة عالقته احلقيق َّية بأصله اإلثني ،وما إذا كان إخفاؤه احلرص ،ال خيلو من عدم االحرتاس .إذ كانت أرسة أوغسطني،
سبب ًا من أسباب التوتر يف نفسه. رغم اسمها العائيل أوريليوس الذي يشري إىل اكتساب املواطنة
الرومان َّية يف عهد مارقوس أوريليوس [ ،]...أرسة بربر َّية.
ابن أرستقراطي «فقير»! فلقب أ ّمه مونيكا ( )Monnicaاسم من تلك األسامء الليب َّية
كان بارتيكيوس أبو أوغسطني يف مرتبة اجتامع َّية مرموقة ،حيمل ( )libyquesالكثرية التي شكلت من اجلذر مون ()MONN
صفة ديكوريون ( ،)décurionأي مستشار يف املجلس البلدي مثل مونا ( )monnaوموناتا ( .18»)...monnataوتضيفَّ :
«إن
فلحي ًاملك ًا َّ
للمدينة .ومع ذلك يبدو ،حسب رواية أوغسطنيَّ ، بأن أوغسطني كان جيهل احلس السليم البسيط يمنعنا من الظن َّ َّ
متوسط احلال .ويظن أومريا 22أنَّه كان ميسور ًا ،ثم خرس ثروته، احلضور الكيل للغة الليب َّية يف منطقة «ذات ثقافة فالح َّية» ،...
ربام بسبب رضائب ثقيلة ،أو الوفاء بالواجبات التي يفرضها تقلد والتي اكتشف فيها %72من جمموع ما اكتشف من املنقوشات
ذلك املنصب .إذ كان عىل هؤالء املستشارين أن يسدّ دوا من أموهلم الليب َّية يف تونس واجلزائر ،حسب جابرييل كامب (Gabriel
اخلاصة النقص يف املداخيل الرضيب َّية ،وأن يسهموا يف تكاليف .19») Campsعىل عكس ذلك ينكر املؤرخ مارو هنري -إرينيه
يعرضهم أحيان ًا األلعاب واألنشطة الثقاف َّية للمدينة ،وهو ما ّ هذا النسب الرببري« :إنَّه [أوغسطني] روماين من أفريقية .وقد
للفقر أو اإلفالس .لك َّن املؤكد ،حسب ما خيربنا به أوغسطني يف ينساق البعض بسذاجة إىل االعتقاد أنَّه من أصل بربري ،ملا بدا
أن تكاليف تعليمه املاد َّية كانت فوق طاقة أرسته االعرتافات ،هو َّ هلم من حدَّ ة طبعه وغرابة سريته ...فقد ولد القديس مواطن ًا
فلجأت إىل االقتصاد والتقشف الشديد ،ووجدت صعوبات روماني ًا» .20وانطلق كلود لو بوليه ( )Claude Lepeleyفيام يتعلق
كربى يف توفري املال الالزم ملتابعة دراسته اجلامع َّية يف مدينة أن بمسألة معرفة أوغسطني للغة األمازيغ َّية النوميد َّية من فرض َّية َّ
قرطاجة .ولوال كرم ورعاية حمسن من أغنياء تاغاست ،وصديق برابرة شامل إفريقيا كانوا يومئذ ،كام ما يزالون إىل اليوم« ،متعددي
لباتريكيوس (وهو رومانيانوس 23) Romanianusلضاع حلم اللغات؛ إذ يتبني َّأنم عرفوا عرب العصور كيف يوافقون بني تبني
أوغسطني وحلم أرسته يف اإلفالت من مهمة املستشار البلدي ثقافات ولغات مهيمنة (البونيق َّية والالتين َّية والعرب َّية والفرنس َّية)
ومن خماطرها ،واالنعتاق من الفقر .ال بدَّ أن يكون أوغسطني قد وبني الوفاء لتقاليدهم اخلاصة ،السيام اللغو َّية [الليب َّية] ».21
عانى من هذا التناقض :انتامء طبقي أعياين وفقر.
تتعزز هذه االفرتاضات والرتجيحات بتسمية أوغسطني البنه َّ
أوغسطين «األفريقي» ،أو السياق السوسيوثقافي باسم أمازيغي نوميدي ،أديودا ( ،)Adeodatوهو ترمجة التين َّية
رسم كثري من ُكتَّاب سرية أوغسطني الغربيني مالمح شخصيته لعبارة أمازيغ َّية معناها «عطاء اهلل» ،ثم بالعنف النقدي والتهكمي
انطالق ًا من النموذج ـ املثايل لـ«األفريقي» ( )l’Africainعىل اجلارح والقايس ،يف كتابه مدينة اهلل ،لكل ما هو روماين :املرسح
غرار النموذج -املثايل لـ«الرشقي» :الرجل األفريقي (النوميدي والشعر والتاريخ والسياسة .إذ لو كانت الدماء الرومان َّية جتري
القروي الفالح خاصة) هو من جهة ،بسيط ،قوي البنية ،حذر يف عروقه ملا وصل إىل تلك الدرجة من العنف النقدي يف حق
من األجنبي الغريب ،متقد الذكاء ،م َّيال إىل التكتل يف مجاعات الرومان .وال يكفي دفاعه عن املسيح َّية لتربير عنف ذلك النقد.
أو طوائف مرتاصة ومتالمحة ،قادر عىل نسج عالقات صداقة
مستديمة والوفاء هلا مدى احلياة ،ميال إىل املحافظة والتمسك 18 . Benseddik, Nacéra, Thagaste,Souk Ahras. Patrie de Saint
Augustin, Alger, Editions INAS, 2005, p. 25.
22 . O’Meara, John J., La Jeunesse de Saint Augustin, tr. fr. Jeanne 19 . Ibid, p. 24.
Henri Marrou, Editions universitaires Fribourg Suisse ; Cerf Paris, . 20هرني -إريني ما ُّرو ،القديس أوغسطني واألوغسطين َية ،ترجمة سعد الله
1988, p. 32. سميح جحا ،دار املرشق ،بريوت ،2007 ،ص.18 .
23 . Brown, p., Opt. cit. p.17 - 18. 21 . Lepelley, Claude, Opt. cit. p. 128.
أوغسطني بجانب هذا الضعف وامليل إىل االعتزال وجه ًا خميف ًا: الشديد بتقاليد عتيقة «مل تتغري كثري ًا منذ ما قبل التاريخ» ،24ثرثار
اللإنسان َّية (لقد اخرتت هذا «إن يف شخصية أوغسطني سامت َّ َّ ٍ
بمعان تقريب َّية؛ مولع بالكالم ،هيوى اللعب بالكلامت واستعامهلا
يتم جتاهلها بسهولة مفرطة؛ ففي إمكاننا أن اللفظ بعناية)ُّ ، وهو من جهة أخرى ،رجل يتلذذ بالسخرية الالذعة واجلارحة
نتحدث عىل حد سواء عن افتقاره إىل االحرتام جتاه النساء ،أو عن من اآلخرين ،حاد الطبع رسيع الغضب واالنفعال اهلائج،
ال مباالة باردة يف عالقاته البرش َّية» .27ويرشح ياسربز هذه السمة يضمر األحقاد والضغائن ،متعصب آلرائه ،باتريارك ،أي س ّيد
اللإنسانَّية يف شخص َّية أوغسطني بقوله ...« :كان أوغسطني يعترب َّ مطلق السلطة يف أرسته ،حمتكر النتساب أبنائه ،مزهو ومتغطرس
اجلنسان َّية سيئة وخبيثة يف ذاهتا ،...هنا أيض ًا يبدو من املستحيل أن بفحولته وبصوالته اجلنسان َّية يف إطار الزواج وخارجه ،هيوى
ال نعترب ال إنساني ًا هذا الفصل الذي يقيمه بني اجلنسان َّية واحلب. النميمة والغيبة ،يمتلئ قلبه باحلسد ،ولذلك خيشى العني املؤذية
إذ َّملا كان أوغسطني إ َّما متهتك ًا وإ َّما زاهد ًا فإنَّه جيهل احرتام املرأة، كم التامئم التي كان النوميدي يصنعها (كام يشهد عىل ذلك ُّ
يمس بكرامتها». 28
ويف كلتا احلالتني ُّ ألطفاله حلاميتهم منها) ،وخياف اجلن والشياطني ،ويلجأ إىل
السحر والشعوذة التقاء رشورها أو تسخريها لتلبية رغباته،
هشة :كانت صحته يبدو أوغسطني من الناحية البدن َّية بصحة ّ ويعبد آهلة ج َّبارة خميفة عىل نموذج هيوه إله العربيني ،ويصدق
ضعيفة مرهفة .أصيب إ َّبان دراسته يف تاغاست بأزمة صدر َّية، ِرؤى األحالم باعتبارها خطاب ًا غيبي ًا منذر ًا أو مبرش ًا ،ويستشري
ربام كانت بسبب الربو .عاودته مثلها يف الثالثني من عمره بسبب املنجمني والعرافني الستطالع املستقبل .25أ َّما النموذج -املثايل
إجهاد رئتيه ،من فرط الكالم يف إلقاء دروس اخلطابة .29ويظن أنَّه للمرأة «األفريق َّية» (النوميد َّية عىل نحو خاص) فهي خاضعة
مات بمرض محى املالريا أو السل .لكنَّه يبدو أيض ًا ذا قدرة كبرية للرجل خضوع العبد لس ّيده ،تتكفل بأشغال البيت وتربية
حتمل العمل املضني ،ومشاق مهنة األسقف َّية ،والتأليف، عىل ُّ األطفال إن كانت األرسة فقرية ،وتتكفل إن كانت زوجة يف أرسة
والسفر الطويل ،للمحارضة أو للحضور يف املجامع الكنس َّية، ميسورة باإلرشاف عىل اخلدم والعبيد واملربيات ،وتلبية رغبات
وظل يتمتع بحواسه سليمة حتى النهاية .وهو من الناحية َّ الزوج .وهبذا االتصال الوثيق بني األم وأطفاهلا تقوم بدور نقل
السيكولوج َّية الوجدان َّية ذو حساس َّية مرهفة ،ور َّقة يف العواطف، التقاليد (الرببر َّية) واملحافظة عليها .وقد متارس املرأة رغم مظهر
وقابل َّية للتأثر الرسيع والبكاء بغزارة ،وأبان عن ذكاء ونبوغ «سلطة سلب َّية» خفية داخل البيت ،جتعلها هي اخلضوع الظاهر ُ
مبكرين ،وسهولة فائقة يف التعلم ويف اكتساب اللغة الالتين َّية، املتحكمة يف الرجل رغم املظاهر.
وكان لديه ميل إىل التعلم الذايت وهنم شديد للقراءة ،وكانت
تستحوذ عليه شهوان َّية جنسان َّية طاغية ظهرت يف مراهقة متأخرة كان كثري من هذه املالمح يف شخص َّية أوغسطني ،تراكبت مع
أهنيت برسعة خطرية .30كانت له ذاكرة خارقة حفظت اإلنجيل اخلاصة.
َّ سامته الشخص َّية
ال وروائع من األدب الروماين الكالسيكي ،دائم القلق كام ً
والشعور املستديم بالذنب والندم ،وكان لديه طموح للمجد الهو َّية الشخص َّية ألوغسطين
والسلطة والثروة ،ويؤرقه بحث مستمر عن احلقيقة، ُّ واجلاه كتب كارل ياسربز يف وصف شخص َّية أوغسطني« :إنَّه كائن
و َّملا صار أسقف ًا أصبح متشدّ د ًا متزمت ًا قاسي ًا ومستبد ًا برأيه جتاه بالسلطة املطلقة؛
يعيش حالة اضطراب وفوىض ،ولذلك يلوذ ُّ
اخلصوم .وله قدرة خارقة عىل الكتابة واملجادلة. يميل إىل العدم َّية ،ولذلك حيتاج إىل ضامنة مطلقة؛ يظل يف العامل،
دون تعلق حقيقي ،دون زوجة ،دون صديق ،ومن هنا أتى بحثه
Hersh, H. Naef, Paris, Plon, 2009. p. 289. عن اهلل وحده ،مستبعد ًا العامل » .26ويكشف ياسربز يف شخص َّية
27 . Ibid, p. 292.
28 . Ibid, p. 293. 24 . Brown, Peter, Opt. cit. p. 16.
29 . Prosper, Alfaric, Opt. cit. p. 40. 25 . Ibid, p. 1921- ; p. 31 - 34.
30 . Brown, p. Opt. cit. p. 40. 26 . Jaspers, Karl, Les Grands Philosophes, t. 2, tr. fr. G. Floquet, J.
وسيلة النتزاعي ،ولوضع حد هلذه الشهوات نفسها؛ أ َّما شهوهتا َّإنا إذن شخص َّية متعدّ دة األوجه ،ومركَّبة ،وحافلة بعنارص
هي ،تلك الشهوة التي هي كالم اجلسد ،فقد رضبت بالسوط التوتر وعدم االستقرار ،ومهيأة لتجارب درام َّية ،كام يتضح يف
حتب حضوري بالقرب منها ،مثل العادل لألمل .كانت يف الواقع ُّ جتربة ح ّبه أل ِّمه.
حتب ذلك أكثر بكثري من عدد كبري منهن،األمهات ،لكنَّها كانت ُّ
ومل تكن تعلم ما يف وسعك ،أنت ،أن تستخلصه من أجلها من َّ
معذبة ،وابن أم مسيح َّية
وأمه (مونيكا)ٌّ :
أوغسطين ّ
أفراح بغيايب .مل تكن تعلم ذلك ،ولذلك كانت تبكي وتشكو، وأب وثني غائب
شهواني حائرٌ ،
ومن تباريح أوجاعها كان ينكشف مرياث حواء :تبحث يف نوح كانت أ ُّم أوغسطني ،مونيكا ،كام وصفها يف االعرتافات ،مؤمنة
عم ولدته يف نوح».33
َّ مسيح َّية تق َّية ورعة ،وديعة وخاضعة لزوجها ،حم َّبة للسلم ،تسعى
للحفاظ عىل ابنها مؤمن ًا مسيحي ًا ،بينام كان أبوه ،باتريكيوس،
أغرت هذه العالقة املثرية أصحاب التحليل النفيس بمقاربتها وثني ًا ،تعرتيه سورات من الغضب الشديد ،وخيون زوجته.
من منظور العالقة :االبن/األم. كان هذا االختالف والتباين املزدوج (مسيح َّية /وثن َّية ،أب
باترياركايل /أم خاضعة) وااللتباس يف عالقة أبوي أوغسطني
يقدّ م راين ناوتا ( ،34)Rein Nautaتركيب ًا مكثف ًا ملجموعة مصدر ًا لتوتر شديد صامت ،ظلت آثاره السلب َّية تعتمل يف نفسه،
كبرية من الدراسات التحليل َّية -النفس َّية لشخص َّية أوغسطني من يتبي يف وصفه لفراق أ ّمه من أجل وجتعلها «نفس ًا منشطرة» ،كام َّ
نص االعرتاف ،حماوالً «كشف الديناميات السيكولوج َّية خالل ّ السفر للعمل يف روما:
املعذبة ،واالبن الضال ،والدور الذي أداه لألب الغائب ،واألم َّ
ذلك يف توبة أوغسطني وارتداده إىل املسيح َّية» .ويقدم استناد ًا
35
«هكذا كنت مؤمن ًا [منذ طفولتي] ،كام كانت أمي ومجيع أهل
إىل كتاب االعرتافات قراءتني ألرسة أوغسطني :قراءة أوديب َّية البيت مؤمنني ،ما خال أيب ،الذي مل ينزع من أمي مع ذلك حقها
حمورها أبو أوغسطني ،وقراءة نرجس َّية حمورها أ ُّم أوغسطني، يف تقواي ،من أجل أن ال أومن باملسيح لكونه مل يؤمن به بعد .لقد
وأوغسطني نفسه. كل ما يف وسعها لكي تكون أنت ،يا إهلي، كانت بالتأكيد تفعل َّ
أيب ،بدالً منه هو .وكنت يف ذلك تعينها عىل الفوز عىل زوجها
تبدو أرسة أوغسطني نموذج ًا لألرسة الفاقدة للتأثري أو ألنا إذ ختضع له إنَّام
الذي ظلت ،مع كوهنا أفضل منه ،خاضعة لهَّ ،
للحضور الفعيل لألب ( ،)father-ineffective familiesتوجد حب أ ّمه ختضع لك أنت ،أنت الذي أمرهتا هبذا اخلضوع » .كان ُّ
31
السلطة الفعل َّية بني يدي األم ،بحيث يعترب األب كأنَّه غائب، فيه ُّ له حب ًا «مفرتس ًا» ،32وفيه جانب «جسدي مفرط»« :كنت تعلم،
ومهمش رغم تظاهره بمظهر الس ّيد املسيطر .هكذا يبدو أبو َّ يا إهلي ،ملاذا كنت أتأهب للرحيل من هنا [قرطاجة] إىل هناك
ال نموذجي ًا للرجل الذي يعاين من أوغسطني ،باتريكيوس ،متثي ً [روما] ،لكن دون أن تنبه أ َّي ًا منا ال أنا وال أمي ،التي بكت رحييل
استمر
َّ عقدة الذكر املسيطر( ،)machism complexوهي ظاهرة بكاء مروع ًا ،وتبعتني حتى البحر .غري ّأن خدعتها ،بينام كانت
وجودها يف البلدان املتوسط َّيةَّ .إنا «إيديولوج َّية مركز َّية الذكر، متسك بتالبيبي بعنف ،إ َّما إلرجاعي وإ َّما للرحيل معي[.]...
التي تشجع الرجال عىل أن يكونوا عنيفني جنساني ًا ،وأن يتباهوا
ببسالتهم اجلنسان َّية ،وبخصائصهم التناسل َّية ،وبالسيطرة عىل [أقلعت السفينة] وغاب عن أنظارنا الساحل حيث كانت
أمي عند الصباح متأل ،بعد أن ج َّن جنوهنا من فرط األمل ،آذانك
. 33املرجع نفسه ،V, VIII, 15 ،ص.87 – 86 . باألنني والعويل .مل ِ
تبال [أنت] بذلك؛ أ َّما شهوايت أنا فقد اختذهتا
34 . Nauta, Rein, «The Prodigal Son : Some Psychological Apsects
of Augustine’s Conversion to Christianity», Journal of Religion . 31االعرتافات ،مرجع مذكور .مع إجراء بعض التعديالت يف الرتجمة ،بغاية
and Health, n° 47, published online 1 August 2007, p. 75- 87. مزيد من الدقة والوضوح.
35 . Ibid, p. 75. 32 . P. Brown, Opt. cit. p.29.
أحب.أحب أن ّ أحب بعد ،وكنت ّ كل مكان من حويل .وكنت مل ّ ّ وجهت إىل املدرسة ألتعلم احلروف .كنت ،أنا الزائفة! ثم ّ
أقل حاجة [إىل احلب]. كانت حاجة دفينة جتعلني أكره نفيس لكوين َّ رضب إذا تكاسلت البائس ،أجهل فائدهتا ،ومع ذلك ،كنت ُأ َ
للحب .كنت أكره األمن ،والطريق ّ أحب ،حمب ًا
عمذا ّكنت أبحث َّ عن حفظها .وكان الكهول حيبذون ذلك .والكثريون قبلنا عاشوا
اخلالية من كامئن»( . )I. I. 1قد تكون قرطاجة كذلك ،لكن
38
هذه احلياة ،وأعدوا لنا السبل الشاقة التي كنا ـ نحن بني آدم ـ
أن نفس أوغسطني هي التي كانت تغيل غليان ًا داخلي ًا. أغلب الظن َّ جمربين عىل العبور منها بعناء وشقاء مضاعفني[ ]...بدأت أترضع
إليك أنا الطفل الصغري بورع كبري ،حتى ال أرضب يف املدرسة.
وصف بيرت براون برنامج الدراسة التي تلقاها أوغسطني وعندما ال تستجيب لدعائي ،وكان يف ذلك خري يل ،كان الكبار
يف جامعة قرطاجة عىل النحو التايل« :وجهت تربية أوغسطني أي أذى) يضحكون من (حتى والداي اللذان مل يكونا يريدان يل َّ
ال ووثني ًا،
بأكملها للتحكم يف الكالم .كان حمتوى تلك الرتبية قاح ً كدمات السوط ،وهي آنذاك يف نفيس أذى وأمل كبري[ .]...كنت
وكان الربنامج حمدود ًا بصورة غريبة .كان املؤلفون الوحيدون أحب اللعب ،وكان العقاب يأيت ممَّن كانوا يفعلون مثلنا بالضبط. ّ
الذين درست مؤلفاهتم هم فرجيل ،وشيشريون ،وسالوست َّ
سمى عمالً ،وعىل الرغم من أن لألطفال َّ
غري أن لعب الكهول ُي َّ
( ،)Sallusteوتريانس ( . )Térenceوكان التكوين أدبي ًا عىل وجه فإن الكهول يعاقبوهنم ،وال أحد يرأف باألطفال [ ]...فهل مثلهَّ ،
احلرص :فقد أمهلت الفلسفة والعلوم والتاريخ» .39كانت طريقة يعقل أن يقبل حاكم نزيه أن أعاقب بالرضب النرصايف ،وأنا
املقررة كلمة كلمة ،وحفظها عن الدراسة رشح نصوص املؤلفات َّ طفل ،بسبب لعب كرة الراحية ،عن اإلقبال عىل أن أحفظ برسعة
جتسد ظهر قلب ،إذ كانت تلك املؤلفات ،خاصة إنيادة فرجيلّ ،
37
ال لعبة أبشع؟»دروس ًا سألعب هبا كه ً
الكامل اللغوي واألديب والثقايف.
التعليم الجامعي بقرطاجة
قراءة كتاب شيشيرون هورتنسيوس (:)Hortensius َّملا انتقل أوغسطني الستكامل تعليمه العايل إىل قرطاجة،
ارتداد( )conversionفكري َّ
أول عاصمة العلم والثقافة الراقية يومئذ ،انبهر هبا انبهار ًا شديد ًا،
للحث عىل دراسة الفلسفة ،بتبيان ّ أ َّلف شيشريون هذا الكتاب هو الذي جاء إليها من تاغاست الصغرية واملتواضعة .لكنَّه َّملا
طبيعتها وقيمتها ورشوطها .وكانت الفلسفة يومئذ تُسمى حكمة، اسرتجع ذكرياته عن قرطاجة يف اعرتافاته ،حتدث عنها حديث
وهي كلمة كانت مفعمة بداللة مزدوجة فلسف َّيةـ دين َّية ،ونظر َّية- ندم أخالقي ازدرائي ،ناكر ًا مراهقته التي قضاها فيها ،بحر َّية
تبق منه سوى املقتطفات التي عمل َّية .ضاع هذا الكتاب ومل َ مطلقة واستمتاع وابتهاج باحلب واملرسح ،بعيد ًا عن مراقبة أ ّمه
أوردها أوغسطني يف بعض مؤلفاته .مقتطف أول« :فينا نفس وحصارها األخالقي الديني له:
خالدة إهل َّية ...علينا أن نفكر يف أنَّه عىل قدر ما يعمل اإلنسان دون
االنحراف عن طريقه ،أي وفق ًا للعقل والرغبة يف تعميق أبحاثه، يئز يف
«ووصلت إىل قرطاجة ،وكان مرجل الغرام َّيات املخجلة ُّ
وعىل قدر ما يقلل من انغامسه يف الرذائل ويف ضالالت الناس،
يكون أيرس عليه السمو والرجوع إىل حياة اخللد» .40مقتطف ٍ
ثان: . 37أوغسطني ،القديس ،االعرتافات ،الكتاب األ َّول .14 .IX ،ترجمة إبراهيم
«أينبغي السعي إىل ملذات اجلسد التي وصفها أفالطون بكثري الغريب ،املجمع التونيس للعلوم واآلداب والفنون ،بيت الحكمة ،تونس ،طبعة
بأنا أحابيل ،ومصادر مجيع الرشور؟ من الصواب والرزانةَّ ، ثانية ،2015 ،ص.23 - 22 .
ثم هي والبواعث الشهو َّية هي أقوى البواعث اجلسد َّية ،ومن َّ ملحوظة :سنلجأ أحياناً إىل إدخال بعض التعديالت عىل ترجمة النصوص َّ -
وربا
أسوأ أعداء الفلسفة .من ذا الذي ينغمس يف هذا االستمتاع إعادة ترجمتها متاماً -التي نستشهد بها من هذه الرتجمة ،الجيدة عىل العموم،
وذلك استنادا ً إىل آخر ترجمة فرنسيَّة لألعامل الكاملة ألوغسطي:
38 . Augustin, Saint, Les Confessions, Opt. cit. p. 817. Saint Augustin, Complètes, Œuvres, t. 1, tr., fr. Jean-Yves
39 . Brown, peter, Opt. cit. p. 36. Boriaud, Patrice Cambronne, Jean-Louis Dumaset Sophie Dupuy-
40 . Augustin, Saint, Œuvres, Opt. cit. p. 821. Trudelle Paris, Collection La Pléiade, 1998.
وسيلة للخالص وتطهري النفس من رشور اجلسد .فقد كان كل رضوب االستمتاع األخرى ،ويكون يف وسعه مع األقوى من ّ
املسيح شخص َّية رئيس َّية يف مذهبهم ،إذ اعترب ماين نفسه رسوالً أي يشءذلك تركيز انتباهه واستخدام عقله ،بل حتى التفكري يف ّ
(باراكليت) للمسيح ،وكانت صورته لدهيم مطابقة متام ًا لتمثل من األشياء؟» .41ويقول عن االرتداد الفكري الذي أحدثته لديه
أوغسطني له :مبدأ للحكمة بأكمل معناه.43 قراءة هذا الكتاب:
انخرط أوغسطني بحامسة يف العقيدة املانو َّية ،وواظب عىل ووجه شطرك أنت ،سيدي، ّ «غي هذا الكتاب مشاعري، َّ
حضور جلسات نقاشها بوصفه «مستمع ًا» (كانت املانو َّية تن ّظم ال أماين ورغبايت غري ما كانت إ َّياه متاماً.
دعوايت التي غريها ،جاع ً
جلسات أخرى خاصة ألعضائها الـ«خمتارين» الذين ُيسمح هلم كل أمل باطل .فـ[رصت] أشتهي خلود فقد سفل فجأة يف عيني ُّ
باالطالع عىل كتب ماين وتعاليمه الرس َّية ،ويلزمون باتباعها)، احلكمة ،وقلبي يغيل غليان ًا ال يصدق ،وكنت قد بدأت يف النهوض
ال للقلق واعتقد أنَّه وجد فيها جواب ًا عن سؤال أصل الرش ،وح ً ألذهب نحوك .وليس من أجل صقل لغتي كنت أستعمل قراءة
األخالقي والتوتر النفيس الذي يؤرقه« :فمصدر الرش هو غزو تذوق
هذا الكتاب ،...وال من أجل هتذيب أسلويب ،بل من أجل ُّ
إله اخلري ـ أمري مملكة النور ـ من قبل قوة رشيرة مساوية لقوة الفكر املعرب عنه فيه »(. 42)III, IV, 7
اخلري وأبد َّية ،هي أمري مملكة الظلامت .بناء عىل هذا املبدأ الثنائي
الرش ال يوجد يف النفس ،وال األسايس يف العقيدة املانو َّيةَّ ،
فإن َّ عدل أوغسطني بسبب ذلك عن إعداد نفسه ملهنة املحاماة التي
مسؤول َّية لإلنسان وال هلل عليه .فنحن نفعل اخلطيئة رغ ًام عنَّا، كان أبوه وراعيه هييئانه هلا .فأصبح مثله األعىل منذئذ حياة فلسف َّية
ونخضع لقهر جوهر مضاد لنا وعدو لنا .وسبيل اخلالص من معتزلة زاهدة.
الرش يف نفوسنا هو معرفة األشياء وعلمها ،وحتطيم التقاليد
والديانة اليهود َّية املبنية عىل اخلوف».44 و َّملا كانت احلكمة عند املسيحيني يف وقت أوغسطني هي
اإلنجيل ،فقد أقبل عىل قراءته بعهديه القديم واجلديد .لك َّن
خترج أوغسطني أستاذ ًا للخطابة ،وعاد إىل تاغاست وفتح أمله خاب بسبب اللغة الركيكة واملبتذلة هلذه الكتب ،وانحطاط
مدرسة لتدريس اخلطابة .وبعد فرتة انتقل للتدريس يف قرطاجة. مضموهنا ،وعدم متاسكه يف كثري من األحيان ،بحيث بدت له
ويف مساره هذا اكتشف تدرجيي ًا ،خالل السنوات التسع التي تلك الكتب غري الئقة بمستواه الفكري .يف أثناء ذلك كان قد
قضاها داخل املانو َّيةَّ ،أنا «كذب» ،بعد أن اكتشف اعتامدها تزوج زواج ًا غري رشعي ،لكنَّه أخلص لعشيقته مدَّ ة مخس عرشة
عىل األساطري والسحر والتنجيم ،ومل يستطع كبري املانويني آنئذ، سنة ،وأنجبت له ابن ًا َّ
سمه ديودا ،قال عنه فيام بعد إنَّه أبان عن ذكاء
األسقف الذائع الصيت فاوستوس امليليفي( (�Faustus de Mi خميف .كام تويف أبوه قبل أن يكمل دراسته اجلامع َّية.
،)levاإلجابة عن أسئلته يف لقاء خاص بينهام .فبدأ منذئذ يشعر
بفقدان األمل فيها ،ويضطرم من جديد يف نفسه قلق السؤال أول
المانو َّية :ارتداد عقدي َّ
ختب
حب احلكمة الذي أيقظه فيه شيشريون مل ُ والبحث .بيد َّ
أن َّ اجتذبه أثناء دراسته بقرطاجة نشاط تبشريي ف َّعال إىل املانو َّية،
جذوته ،فام زال شغفه باحلكمة (الفلسفة) ح َّي ًا يف فكره ووجدانه. كان يقوم به مانويون مثقفون وفصحاء يف صفوف الطلبة والنخبة
املثقفة بقرطاجة :كانوا يقدّ مون املانو َّية بوصفها املسيح َّية احلقيق َّية،
األفالطون َّية الجديدة :ارتداد فكري ثالث القائمة عىل العقل وحر َّية النقاش ،والتي تتخذ املعرفة والعلم
يف حالة خيبة األمل الفكر َّية تلك انتقل أوغسطني ،بفضل ما
أتاحته له وظيفته التعليم َّية من نسج عالقات مع شخصيات نافذة 41 . Brown, p. Opt. cit. p. 56.
. 42مل ِ
نكتف يف هذا النص بتعديالت طفيفة ،بل ترجمنا النص ترجمة كاملة
43 . Brown, Peter, Opt. cit. p. 47. استنادا ً إىل الرتجمة الفرنسيَّة التالية:
44 . Ibid, p. 53. Augustin, Saint, Œuvres, Opt. cit. p. 821- 822.
أكثر ما يمكن من املادة (اجلسد) ،وأن نتحمل مسؤول َّية األلوه َّية يف السلطة الرومان َّية ،إىل روما ملامرسة مهنة تدريس اخلطابة ،لكنَّه
التحرر من جسدنا ونستعيد احتادنا ُّ املوجودة فينا ،إىل أن نصل إىل مل يمكث يف روما سوى سنة ،غادرها بعدها إىل مدينة ميالن التي
مع العقل الكيل األعىل .ومن هناك نستطيع أخري ًا أن نصعد إىل أسند له فيها منصب أستاذ اخلطابة الرسمي للدولة ،وبدا حتقيق
االحتاد الصويف مع الواحد ،واخلري األسمى .ولعلنا نقرتب من حلمه يف منصب حاكم والية رومان َّية قريب املنال ،إذ أصبحت له
وأول كاتب سريته انبهار أوغسطني بأفلوطني إن سمعنا تلميذهَّ ، صالت بوسطاء مؤثرين لدى البالط الروماين.
فورفوريوس ،وهو يقول عنه« :كان الفيلسوف أفلوطني الذي
عاش يف وقتنا احلارض يبدو أنَّه خيجل ويستحي من أن يكون بدأ باعتناق مذهب «األكاديميني» الشكّي (ارتداد فكري
له جسد .لذلك مل يكن يتحدث أبد ًا عن أرسته وال عن وطنه. ثان) ،الذي يتالءم وحالة اخليبة وفقدان األمل التي اعرتته
ومل يقبل أن يصور أو يصنع له متثال» ،46واألفضل من ذلك إن يف الوصول إىل معرفة احلقيقة .ثم قاده لقاؤه بأسقف ميالن،
«إن ربام خلوت بنفيس وخلعت بدين ورصت سمعناه هو نفسهّ : أمربواز ،أوالً :إىل اكتشاف التأويل الرمزي لنصوص الكتب
ال يف ذايت راجع ًا إليها جمرد بال بدن ،فأكون داخ ًكأن جوهر َّ ّ املقدَّ سة ،واالنكباب عىل قراءة رسائل بولس ،ثاني ًا :إىل قراءة
خارج ًا من سائر األشياء ،فأكون العلم والعامل واملعلوم مجيع ًا، سمهم «األفالطونيني» يف ترمجاهتا الالتين َّية ،فعاش من كتب من َّ
فأرى يف ذايت من احلسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجب ًا هبت ًا، وحتول فكري ،خرج به من عامل الفكر املانوي جديد جتربة ارتداد ُّ
فأعلم ّأن جزء من أجزاء العامل الرشيف الفاضل اإلهلي ،ذو حياة األسطوري إىل عامل الفلسفة اإلغريق َّية العقالن َّية املمزوجة بطابع
ف َّعالة».47 صويف :األفالطون َّية اجلديدة.
يرجح أن يكون أوغسطني قد قرأ ،عىل األقل ،كتاب يف نواة فلسفة أفلوطني هي نظر َّية الفيض األفلوطين َّية :45هناك
اجلامل ،ضمن تساعيات أفلوطني ،وكتاب صعود النفس لتلميذه سمىأقانيم ثالثة :أقنوم الواحد أو اخلري األسمى ( )le Bienو ُي َّ
أن ما استخلصه من هذين الكتابني حول فورفريوس .وال بدَّ َّ أحيان ًا األب ( ،)le Pèreوهو غري قابل للوصف ألنَّه مبدأ
مصري اإلنسان كان له أثر عميق يف نفسه .ففي إمكان النفس ثم العقل (نوس ،)Nousثم أقنوم ثم يعلو عليهَّ ،
الوجود ،ومن َّ
البرش َّية أن ترجع إىل اهلل ،الذي يتجىل هلا حني تبلغ الوجد( (�ex النفس الكل َّية ( .)l’Ameتصدر أو «تفيض» كثرة املوجودات عن
)taseيف التجربة الصوف َّية. الواحد بتوسط تعقل العقل للواحد ولذاته ،وتتسلسل يف مراتب
تفقد فيها الكامل واخللود كلام ابتعدت عن الواحد ،وآخر املراتب
وقع أوغسطني فريسة ألزمة روح َّية (ال يوضح كيف أصابته)، موجودات عامل املادة السفيل األريض ،عامل «الكون والفساد» .إىل
وصف خروجه منها بتوبته إىل املسيح َّية (ارتداد عقدي ثان) ،يف هذا العامل أهبطت النفس (النفوس) البرش َّية ،وسجنت يف اجلسد
«مشهد احلديقة» الشهري«:يف خضم تلك املعركة الباطن َّية الكربى البرشي .ففينا إذن ،نحن البرش ،قبس نوراين إهلي ،وهو نفسنا،
التي كنت أخوضها حينئذ ببسالة ضدَّ نفيس ،يف بيتنا احلميم ـ املق َّيدة إىل املادة (اجلسد) ،واملشتتة يف تعدُّ د احلواس ،والشهوات
قلبي -ألقيت بنفيس عىل أليبيوس ،ووجهي شاحب ومبعثر مثل والرغبات ،وحتوهلا وتغريها .ما نحتاجه إذن لكي نحيا حياة
فكري ،ورصخت يف وجهه« :أو نقبل ذلك؟ ماذا؟ أسمعت؟ الكامل واخللود هو أن نتجمع يف ذواتنا ونعود إىل أنفسنا ونتذكر
جهلة ينتصبون ،ويستولون بالقوة عىل السامء ،وها نحن ،مع علمنا طبيعتنا اإلهل َّية ونعيها .لك َّن هذا التذكر وهذا الوعي يكاد يكون
ال أو يف غاية الصعوبة عملي ًا بالنسبة إىل معظم البرش. مستحي ً
46 . Arbre d’Or, Genève, juin 2004, p.4. لذلك ينبغي لنا أن نحاول بدون انقطاع تطهري أنفسنا لنتخلص
http://www.arbredor.com
. 47أفلوطني ،إيثولوجيا أرسطاليس (وهو كتاب تساعيات أفلوطني الذي ترجم . 45اعتمدنا يف أخذ كثري من عنارص هذا التلخيص لنظريَّة أفلوطني األنطولوج َّية
إىل العربيَّة منسوباً خطأ إىل أرسطو) ،ضمن كتاب أفلوطني عند العرب ،عبد عىل كتاب ،John J. O’Meara, La Jeunesse de Saint Augustinوهو مرجع
الرحمن بدوي ،القاهرة ،دار النهضة العربية ،1966 ،ص.22 . سبق ذكره ،وذلك يف الصفحتني .176-175
كل طموحاته بعد هذه التوبة هجر أوغسطني املهنة وختىل عن ّ البارد ،حيث نتمرغ يف اللحم والدم! أيكون من العار أن نتبعهم
فكون مع ثلة من أصدقائه ،رفقة أ ّمه وابنه ،مجاعة الدنيو َّيةَّ ، بذريعة َّأنم سبقونا؟ أال يكون باألحرى من العار أن ال نحاول
للتأمل الفلسفي ،يف خلوة واعتزال بالقرب من مدينة ميالن. بأي ألفاظ عىل األقل اتباعهم؟» ،بعد أن قلت ذلك ـ ال أدري ّ
كتب يف هذه اخللوة َّأول جمموعة من كتبه يف شكل حماورات. بالضبط -انتزعني غلياين الداخيل من حوله .كان صامت ًا حيدّ ق َّيف
و َّملا قفل راجع ًا إىل بلدته تاغاست توفيت أ ُّمه يف الطريق بمدينة مذهوالً :كان صويت ُّ
يرن رنين ًا غريب ًا .كان ما يعتمل يف نفيس ينجيل
نص صويف رائع من اعرتافاته. أوستي( ،)Ostieوصف فراقها يف ٍّ يف جبيني ،وخدي ،ويف عيني ولون حمياي ،ونربة صويت ،أكثر ممَّا
َّملا وصل إىل تاغاست ،باع إرثه ،واشرتى أرض ًا بنى فيها منزالً كان ينجيل بالكلامت التي كنت أنطق هبا »(.48)VIII,19
للتأ ُّمل الفلسفي مع جمموعة من أصدقائه .لك َّن املصادفة قضت
بتقليده منصب قس ،ثم أسقف يف كنيسة مدينة هيبون ،التي َّ
ظل والتوسل
ُّ استمرت يف نفس أوغسطني بعد ذلك معركة الرت ُّدد َّ
يسريها حتى وفاته« .فرض يف ديره تنظي ًام متشدد ًا ،ونظام تغذية إىل نعمة اهلل ولطفه هلدايته وعونه عىل اختاذ القرار ]...[« :أ َّما أنا
نباتي ًا تقريب ًا ،ومنع بصورة قاطعة زيارات النساء ولقاء امرأة عىل فقد ذهبت ،مل أعد أدري كيف ،ألمتدَّ د إزاء جذع شجرة تني،
بكلوظل يكافح ضدَّ الوثن َّية والفرق املسيح َّية املنشقة ّ انفراد»َّ . وأطلقت العنان لدموعي ،ففاضت غزيرة من عيني ،قربان ًا
ما أويت من وسائل املجادلة والكتابة والدحض ،إىل حدّ تأليب مستطاب ًا أمامك .وخاطبتك بكالم كثري ،ها هو ذا ليس بحروفه
تأسف له َّملا اشتد
السلطة الدين َّية والسياس َّية ضدَّ اخلصوم .وهو ما َّ
ُّ بالتأكيد بل بمعناه :وأنت موالي ،إىل متى؟ إىل متى ،موالي
السلطة بالدوناتيني.
بطش هذه ُّ ستتامدى يف غضبك حتى النهاية؟ ال تكن متذكر ًا لرضوب
بأنا هي التي كانت مناكرنا القديمة»« .كان خيامرين شعور َّ
اإلشكاالت واآلراء متنعني .وأطلقت رصخات مثرية للشفقة «:كم بقي من وقت؟
50
الفلسفة والالهوت كم بقي من وقت؟ غد ًا! غد ًا! مل َ ال يكون ذلك فور ًا؟ مل َ ال أختلص
كان طورطليان قد اختذ موقف الرفض اجلذري للفلسفة خستي؟» من َّ
«الوثن َّية» (اإلغريق َّية) ،معترب ًا إ َّياها منافية للعقيدة املسيح َّية،
أن هذا املوقف غري واقعي، ولعل أوغسطني أدرك َّ ومرضة هباَّ .َّ كنت وأنا أقول ذلك أبكي وقلبي ينفطر مرارة .وإذا يب أسمع
ألن املسيح َّية والفلسفة اإلغريق َّية كانتا متناسجتني ،بحيث ال َّ من الدار املجاورة صوت ًا ـ لست أدري إن كان لطفل أو لطفلة
يمكن فصل إحدامها عن األخرى يف تلك الفرتة ،كام أوضح -ير ّدد بطريقة غنائ َّية مرات عديدة« :خذ ،اقرأ! خذ اقرأ!»[]...
هايدغر.51 مؤوالً ذلك عىل أنَّه أمر إهليُّ :
كل كفكفت دموعي ،فنهضت ّ
عيل أن أفعله أن أفتح الكتاب وأقرأ َّأول فصل تقع عليه ما َّ
درس أوغسطني تلك الفلسفة (قارئ ًا هاوي ًا وعصامي ًا ،وليس عيناي[ ]...عدت مرسع ًا مكان جلوس أليبيوس ،حيث كنت قد
عىل يد أساتذة يف جامعة اإلسكندر َّية أو أثينا) ،و«استوعبها» وضعت كتاب احلواري َّملا ذهبت منذ قليل ،فتحته ،وقرأت يف
و«متثلها» (باملعنى الغذائي) ،واختذها أداة للتفكري والتحليل، صمت أول فصل وقعت عليه عيناي« :ال قصف بعد اليوم ،وال
فجور وال فحشاء ،وال خصام وال حسد .البسوا السيد املسيح،
50 . cf. Rist, John, « Faith and reason », in Eleonore Stump, The وال جتعلوا من أنفسكم مزودي اجلسد يف الشهوات» .مل أرد أن
Cambridge Companion to Augustine, Cambridge, Cambridge أقرأ أكثر من ذلك ،ما عاد ذلك رضوري ًا .وما إن أكملت قراءة
University Press, 2001, p. 26 - 39. كل شع يف قلبي نور مثل نور أمان ذائب ،بدَّ د َّ
هذه اجلملة ،حتى َّ
51 . Caputo, John D. « Toward a Postmodern Theology of ظلامت الشك».49
the Cross. Augustin, Heidgger, Derrida », in Augustine and
Philosophy, Phillip Cary, John Doody, Kim Paffenroth (edited), . 48ترجمنا املصدر املذكور ،ص942 .
Lanham, Lexington Books, 2010, p. 246. . 49ترجمنا النص من املصدر الذكور ،ص.951-950 .
يستطيعون رؤيته بالعقل ،ولكنَّهم يصلون إليه عملي ًا .إن تكن بحيث «ال يدري املرء أبد ًا ما إذا كان أوغسطني يتكلم بوصفه
الفلسفة مفيدة لألولني فليست رضور َّية لألخريين .أ َّما املتكربون فيلسوف ًا أم بوصفه الهوتي ًا» ،52كام قال إتيان جيلسون.
فهم الفالسفة (الوثنيون األفالطونيون اجلدد) الذين يرون اخلري
األسمى ،ولكنَّهم يرفضون االعرتاف بالتجسيد ،وبتواضع استمدَّ أوغسطني املبادئ األساس َّية التي ناقش عىل أساسها
املسيح ،فيتغطرسون بثقتهم يف العقل ويف استقالله عن الوحي عالقة الفلسفة بالدين املسيحي من الكتاب املقدَّ س ومن الواقع
وإنكارهم لرضورة النعمة اإلهل َّية. التارخيي الفعيل للفلسفة .فقد جاء يف األصحاح السابع من سفر
أشعياء« :إن مل تؤمنوا ،فلن تفهموا» ( .)7: 9يدقق أوغسطني
الفلسفة إذن تكون يف وفاق مع الوحي (العقل مع اإليامن) إن هذا املبدأ (أسبق َّية اإليامن عىل العقل) يف كتابه يف النظام بقوله:
ثم استخدمت أداة لتعزيز أفرغت من حمتواها غري املطابق للوحيَّ ، السلطة الدين َّية هي األوىل ،وباعتبار الواقع العقل «باعتبار الزمن ُّ
ثمة يف العمق توافقالعقيدة الدين َّية وعرضها عرض ًا مقنع ًا .فليس َّ هو األول» ( .)II, 9, 22يرى أوغسطني َّ
أن هذه األسبق َّية أساس َّية
استمرت هذه
َّ حقيقي ،بل تسخري الفلسفة خدمة للوحي .لذلك يف الدين والالهوت .فالعقل البرشي هنا ضعيف ال يستطيع
املشكلة مطروحة يف العصور التالية كلها ،وربام إىل يومنا هذا. السلطة معرفة مجيع احلقائق الدين َّية بنفسه ،لذلك حيتاج إىل سند ُّ
بأن العقل كام يثبت واقع الدين َّية .ويف كتاب مدينة اهلل ،يعرتف َّ
َّ 54
الخطيئة األصل َّية والشر الفلسفة األفالطونَّية واألفلوطين َّية قادر عىل بلوغ احلقيقة بنفسه،
تتلخص مشكلة وجود الرش يف العامل (التغري ،الفناء ،األمل، أن «اهلل هو توصل أفالطون إىل َّ يف استقالل عن الوحي :لقد َّ
الشهوة اجلنسان َّية، املرض ،املوت ،الكربياء ،احلسد ،اجلشعَّ ، علة الوجود ومبدأ العقل ونظام احلياة» ( .)VIII, 4بيد َّ
أن 53
ال خري ًا خالد ًا احلروب )...يف السؤال التايل :إذا كان اهلل كائن ًا كام ً أن الفلسفة (ومن ثم العقل) ال عىل َّ
أوغسطني وجد يف جتربته دلي ً
الش يف العامل ممكن ًا؟ ثابت ًا وخالق ًا للكون ،فكيف يكون وجود َّ فيحورهاّ غري كافية .هنا يعود إىل أمثولة الكهف عند أفالطون،
ويوسعها :لن جيد سجني الكهف الذي كرس أغالله وخرج منه
الوجود نفسه خري ،ألنَّه نتج عن خلق اهلل ،وما خلقه اهلل هو مثال اخلري األسمى أمامه مبارشة ،بل عليه أوالً أن يصعد إىل
الش الش ،وكيف؟ َّ أحسن ما يمكن أن يكون .فمن أين أتى َّ قمة جبل يرى منها عن بعد وطن هذا املثال ،وراء بحر ،ويتبني َّ
مفهوم وليس جوهر ًا مادي ًا (كام قالت املانو َّية) .يستعري أوغسطني السبيل إليه ،فينزل ليقطع البحر عىل ظهر سفينة من خشب .يرمز
املفهوم األرسطي للمعدوم َّية أو احلرمان( )privationلتعريف قمة اجلبل للرؤية العقل َّية الفلسف َّية للخري األسمى، الصعود إىل َّ
الش عدم ،وليس شيئ ًا الش خري معدوم ،أو عدم اخلريَّ . الشَّ :
َّ والبحر للحياة اإلنسان َّية بمخاطرها املحتملة ،والسفينة للصليب،
قائ ًام بذاته ،بل هو فقدان ليشء كان موجود ًا ،أو يمكن أن يوجد. أي للديانة املسيح َّية .الرؤية العقل َّية الفلسف َّية للخري األسمى
وهذا العدم يأيت من كون املخلوقات قابلة للتغري والفساد ،ويأيت ألنا تبقى بعيدة مفيدة يف معرفة موقعه واجتاهه ،لكنَّها غري كافية َّ
رشير». بالنسبة إىل اإلنسان من «استخدام ما هو خري عىل نحو ّ عنه ،ال بدَّ من اجتياز البحر يف سفينة املسيح (العقيدة املسيح َّية)
ويتضمن ذلك إرادة واختيار ًا حر ًا .فاإلرادة البرش َّية هي سبب اآلمنة .يضيف إىل تلك األمثولة تصنيف الناس ثالثة أصناف،
الش البرشي الذي نتج عن اخلطيئة األصل َّية ،بعصيان األمر َّ واملتكبون) .العظامء قادرون عىل ّ هي( :العظامء ،والبسطاء،
اإلهلي من قبل آدم وحواء ،أي بابتعاد إرادهتام عن اهلل ،وعن الرؤية العقل َّية للخري األسمى وعىل بلوغه عملي ًا ،والبسطاء ال
اخلري األبدي األسمى يف اجلنَّةَّ .
ألن اإلرادة البرش َّية تتمتع بقوة
كبرية ،تتجىل يف قدرهتا عىل انحرافها عن خري أسمى نحو خري 52 . Gilson, Etienne, Introduction à la lecture de Saint Augustin,
املحرمة بدالً من نعيم اجلنَّة) ،وعدم
َّ أدنى (اختيار ثمرة الشجرة Paris, Vrin, 1969, p. 311.
. 53أوغسطني ،القديس ،مدينة الله ،ترجمة الخور أسقف يوحنا الحلو ،مج.
. 54اعتمدنا يف تناول هذا املوضوع عىل مقالة لـ William E. Mannبعنوان ،1دار الرشق ،بريوت ،ص . 371.قمنا بتعديل طفيف يف الرتجمة ليطابق النص
« ،»Augustine on evil and original sinضمن CC A p. 40 - 48 األصيل بدقة.
طبيعة اهلل ،التثليث ،اخللق ،الزمن ،النفس واجلسد ،اإلرادة رضوخها دائ ًام للعقل وحكمه ،فقد يعقل اإلنسان اخلري وال
احلرة ،الذاكرة ،اإلرشاق ،اللغة ،التعليم/التعلم ،التاريخ ،تلكَّ يفعله ،عن جهل كام قال أفالطون «العارف ال يرتكب الرش»،
أهم القضايا التي صاغ أوغسطني إشكاالهتا الفلسف َّية-الالهوت َّيةُّ تكب ًا وغرور ًا (تش ُّبه ًا باهلل) ،أو حتت تأثري الشهوة (خاصة أو ُّ
صياغة جديدة متميزة ،وقدَّ م حوهلا تصورات ومفاهيم شغلت الش إىل العامل عرب اإلنسان ،عرب كربيائه ترسب َّ
اجلنسان َّية) .فقد َّ
الفكر الفلسفي والالهويت يف العصور الالحقة إىل اليوم. وغطرسته .وبسبب ذلك دخلت اخلطيئة األصل َّية إىل العامل،
باعتبارها حالة فرضها اهلل عىل آدم وحواء عقاب ًا لعصياهنامَّ .إنا
خصص أوغسطني الكتاب العارش من اعرتافاته للذاكرة،َّ نزع للخلود و«اكتساب للقابل َّية البدن َّية لألمل والتعب واملرض،
والكتاب احلادي عرش منها للزمن .ومها من أروع النصوص املتمردة ،خاصة يف الشهوة اجلنسان َّية» .انتقلّ والفوىض اجلسد َّية
ٍ
مجاالً وعمق ًا وإشكاالت ،ال يمكن ُّ
تذوقهام إال باالستامع رش اخلطيئة األصل َّية مثل مرض معد بالوراثة إىل مجيع بني آدم،
إليهام: وأصبح فطري ًا فيهم ،يظهر يف احلدود التي حتدُّ من قدراهتم النفس َّية
والعقل َّية واإلراد َّية ،لكن دون أن تعدمها.
الذاكرة
«عظيمة هي قوة الذاكرة ،عظيمة حد اإلفراط ،يا إهلي! أي 55
القدر()prédestination
معبد فسيح وال ٍ
متناه! من ذا الذي غاص إىل قعرها؟ إن هي إال طرحت مشكلة القدر عىل أوغسطني يف شكل جدايل عنيف بينه،
قوة فكري ،والتي تتعلق بطبيعتي؛ ومع ذلك ال أستطيع أن أدرك ومن ورائه الكنيسة الكاثوليك َّية األفري َّقية ،وبني بيالج ()Pélage
َّ
كل ما أنا إياه .أفيكون الفكر إذن أضيق من أن يمتلك نفسه هو وأتباعه ،خاصة كايليستوس ( .)Caelestiusأساس اخلالف
ذاته؟ لكن أين يمكن أن يكون ما يفلت منه من كينونته؟ خارج ًا «أن بعض البرش قادرون بالفعل عىل تصوروا َّ بينهام َّ
أن البالجيني َّ
عنه ،وليس يف ذاته؟ لكن كيف ال يدركه؟ ها نحن أمام موضوع َّ
فيها؛ وأن بني آدم األولني الذين عاشوا أن حييوا حياة ال خطيئة
يدهشني دهشة عظيمة ،ويستبد يب الذهول [أمامه]. بعد اخلطيئة ولدوا بريئني من اخلطيئة» ،بحيث ال يستدعي
56
ألنم أبرياء مل تعميد األطفال استحضار فكرة اخلطيئة األصل َّيةَّ ،
أن الناس يذهبون بعيد ًا ليفتتنوا بذرى اجلبال،
كيف يصدق َّ أي ذنب ،وال يعقل أن يعاقب من تويف وهو طفل عىل يرتكبوا بعد َّ
وأمواج البحر العاتية ،وجماري األهنار الواسعة ،وبالبحر ذنب مل يرتكبه .ر ّد أوغسطني عىل هذا التصور هو أنَّه حتدَّ د مسبق ًا
املحيط باألرض ،وبحركات األفالك ،بينام هيملون أنفسهم! يف علم اهلل من ستنقذهم النعمة اإلهل َّية فيحيون حياة خالصة من
وال يندهشون من ّأن قادر عىل الكالم عىل ذلك كله دون أن األول األنبياء والرسل ،واملسيح ،كلمة اهلل، اخلطيئة ،وهم يف املقام َّ
يكون حارض ًا أمام عيني ،وال من أنَّني ما كنت ألستطيع أن ومن هيدهيم اهلل ملحبته وعبادته ،وما عداهم من البرش كتب عليهم
أتكلم عن تلك اجلبال واألمواج واألهنار ،والكواكب (التي أن يعيشوا حياة الضياع والضالل ويف اخلطيئة .ويف محأة اجلدال
رأيتها) ،وهذا البحر املحيط (الذي أعتقد يف وجوده) ،لو مل الذي أثاره هذا الرأي جلأ أوغسطني يف موقفه الدفاعي إىل فكرة
وكأن أراها أمامي »(X,
أرها َّيف أنا ،يف ذاكريت ،باتساعها نفسهّ ، وجود أرسار غامضة (منها النعمة اإلهل َّية ،والتجسيد ،والتثليث،
.57)VIII, 15 والتعميد )...يف الوحي ستبقى فوق الفهم البرشي ،ينبغي اإليامن
هبا كام نزلت.
يواصل أوغسطني يف بقية هذا النص حركة صعود للنفس،
باالرتقاء َّأوالً من العامل احليس إىل عامل الصور والتمثالت الذهن َّية 55 . Wetzel, James, « Predestination, Pelagianism, and
التي يصنع منها الفكر« ،اإلنسان الداخيل» ،األفكار ،ويتوقف foreknowledge », in The Cambridge Companion to Augustine,
الش التي تؤدهيا الذاكرة ،باختزاهنا لذكريات األفعال عند وظيفة َّ Opt. cit., p. 49 - 59.
56 . Wetzel, James, « Predestination, and foreknowledge », in CCA,
. 57ترجمتنا ،املرجع املذكور ،ص.991 . Opt. cit., p.49 - 54.
60
التاريخ الالهوتي واألشياء السيئة املقرتنة باللذة ،فتصبح بتكرارها مصحوبة
بعد وقوع كارثة هنب روما سنة ،410اهتم الوثنيون الرومانيون بذكرى لذته عادات راسخة يف النفس ،ال يستطيع اإلنسان
املسيح َّية التي حرمت بسببها عبادة آهلتهم بكوهنا سبب ًا لتلك التخلص منها إال بفضل العناية اإلهل َّية .لك َّن الذاكرة هي أيض ًا
الكارثة .يروي أوغسطني أنَّه ألف كتابه مدينة اهلل (وهو أضخم ألنا مأوى اهلل ،ففيها عثر أوغسطني عىل اهلل الذي «رضع خريَّ ،
مؤلفاته ،استغرق يف كتابته مخس عرشة سنة ،ويتألف من 22 اإليامن به من ثدي أمه».
كتاب ًا) للر ّد عىل هذه التهمة ،وتربئة املسيح َّية منها.
الزمن
يصوغ أوغسطني دفاعه عن املسيح َّية ضدّ هتمة الوثنيني «ما الزمن إذن؟ من يستطيع أن يقدّ م بسهولة تفسري ًا وجيز ًا له؟
تصور أنثروبولوجي الرومان يف قالب تارخيي نقدي انطالق ًا من ُّ من يستطيع أن يمسك به ولو يف الفكر ،ليقول عنه كلمة؟ ومع ذلك
احلب
ّ لالجتامع البرشي :تقوم احلياة البرش َّية واالجتامع َّية عىل أي ذكر أكثر ألفة واعتياد ًا من ذكر الزمن يف املحادثة؟ نفهمه فه ًام
ّ
املحرك للبرش يف عالقاهتم باألشياء وببعضهم بعض ًا. ّ الذي هو ً
جيدا حني نتكلم عنه؛ ونفهمه أيضا حني نسمع الغري يتحدث عنه. ً
حب «استمتاع»، حب يشء لذاته ،وهو ُّ احلب ح َّبانُّ :
ُّ وهذا فإن أعرفه .وإذا ماأي أحد ما هوّ ، فام الزمن إذن؟ إن مل يطلب مني ّ
حب «استعامل» .واليشء الذي ُّ وحب يشء لغرض ،وهو ُّ فإن ال أعود أعرفه. طرح أحد السؤال وأردت أن أرشح له ما هوّ ،
حيب لذاته عىل نحو تام هو الذي يمكنه أن يمنح يستحق أن َّ
حيب لذاته عىل نحو السعادة .واهلل وحده هو الذي يستحق أن َّ عىل ّأن أؤكد بقوة ما ييل :إن مل حيدث أي يشء ،فلن يكون هناك
تام .وال يشء ممَّا سواه من املخلوقات يستحق مثل هذا احلب، أي يشء ،فلن يكون هناك مستقبل؛ وإن مل يكن ٍ
ماض؛ وإن مل يطرأ ّ
ألنا ال تشبع الرغبات إشباع ًا تام ًا .يميل البرش إىل قلب احلبني َّ قد مىض يشء ،فلن يكون هناك حارض .لك َّن هذين الزمنني ـ املايض
وعكسهام :يستمتعون بام هو لالستعامل ،ويستعملون ما هو واملستقبل -كيف يمكن أن يقال َّإنام «موجودان» ،ما دام املايض مل يعد
لالستمتاع .وهذا هو سبب الفوىض واالضطراب يف النفس موجود ًا ،واملستقبل ما زال مل يوجد؟ أ َّما احلارض فإنَّه إن بقي حارض ًا
واملجتمع .كام يميل البرش إىل البحث عن السعادة بامتالك أشياء كف عن كونه «زمن ًا» ليكون «أبد َّية». ٍ
ماضَّ ، دائ ًام دون أن َّ
يتحول إىل
ال تستطيع أن متنحها ،مثل اللذات اجلسد َّية واملجد والشهرة، ماض ،كيف ٍ إذا كان عىل احلارض إذن لكي يكون «زمن ًا» أن َّ
يتحول إىل
والسيطرة عىل اآلخرين. نستطيع أن نقول إنَّه «موجود» ،ما دام الداعي الوحيد لوجوده ،هو َّأل
يعود موجود ًا ،وذلك إىل حدّ أنَّنا ال نستطيع ،يف الواقع ،أن نتحدث
التصور استند أوغسطني يف تفسري أصل املدينتني ُّ عىل هذا عن وجود الزمن إال ألنَّه يسري نحو الالوجود». 58
حب الذات إىل حدّ وتقدّ مهام عرب الزمن« :ح َّبان بنيا مدينتنيُّ :
وحب اهلل إىل حدّ احتقار الذات
ُّ احتقار اهلل بنى املدينة األرض َّية؛ ابتغى أوغسطني من وراء طرح إشكال َّية الزمن عىل هذا النحو
بالرب
ّ بنى املدينة السامو َّية .الواحدة تفاخر بنفسها ،والثانية حل معضلة تفسري اخللق يف الزمن يف سفر التكوين .فقد انتهى يف َّ
تفاخر ،الواحدة تستجدي جمدها من البرش ،واهلل ،الشاهد عىل الش ،وبالتايل حتليله ملفهوم الزمن إىل َّ
أن الزمن شبيه بالعدم مثل َّ
الضمري ،جمد الثانية األعظم.الواحدة ترفع الرأس مزهوة بذاهتا، 59
فهو مفهوم ال وجود له إال يف الفكر .وقد تناول بول ريكور
والثانية تقول إلهلها« :أنت جمدي ورافع رأيس»( .مزمور) 3: 4 بالش وبالذاكرة انطالق ًا من بيان َّ
أن مسألة الزمن يف عالقته َّ
السلطة فتنقاد إىل امللوك واألمم؛ والثانية مجيع من األوىل تستهوهيا ُّ أوغسطني طرح مشكلة الزمن بعمق لكنَّه تركها بدون حل.
فيها خدَّ ام للقريب يف املحبة [ ]...املدينة األوىل بشخص رئيسها
«يارب ،يا قويت»(مزمور .»)17 : 2ينتج
ّ تزهو بالقوة ،والثانية تقول
60 . Weithman, Paul, « Augustine’s political philosophy », in The . 58ترجمتنا ،نفسه ،ص 1040 .ـ .1041
Cambridge Companion to Augustine, Opt. cit., p. 239 - 252. 59 . Ricoeur, Paul, Temps, mal et récit, Paris, Seuil, 1983 - 1985.
احلرة
حمدَّ د ملذهب اخلطيئة األصل َّية والنعمة اإلهل َّية (اإلرادة َّ عن اختالف أساس املدينتني ،وحتكم شهوة السيطرة عىل شعوب
والقدر)» .وبشهادته يكون «الهوت العرص الوسيط قد أخرى يف املدينة األرض َّية ،تشتتهام يف الزمن .بدأت املدينة األرض َّية
تأسس عىل [فكر] أوغسطني» .62ومل تستطع األرسط َّية أن َّ أسسها قابيل بعد أن قتل أخاه هابيل ،أ َّما املدينة باملدينة التي َّ
تكون منافسة لألوغسطين َّية إال مع ظهور توما األكويني، أن هلا أشباه ًا يف األرض (أورشيليم، السامو َّية فهي يف السامء ،عىل َّ
الذي أخذ من أوغسطني كثري ًا من أفكاره ،واستدجمها يف يضم مواطنني لكلتا املدينتنيُّ كل جمتمع سيايس الكنيسة) ،لك َّن َّ
النسق الالهويت الذي بناه عىل فلسفة أرسطو ،بعد أن أصبحت يعيشون جنب ًا إىل جنب .والتمييز بني املدينتني الهويت أخروي أكثر
يف متناول الفالسفة الغربيني عرب ترمجاهتا العرب َّية ثم الالتين َّية، ممَّا هو سيايس .خيتلط أعضاء املدينتني يف عامل الوجود يف الزمن،
وعرب رشوحها وتطويرها عىل يدي الفيلسوفني اإلسالميني الذي تتخذ فيه السياسية مكاهنا.
ابن سينا وابن رشد .ونشأت معركة ضارية بني التيارات
خاصة األوغسطين َّية وبني التوماويني والسينويني والرشدينيَّ ، استخدم أوغسطني التاريخ ليثبت َّ
أن روما مل تكن كام يدَّ عي
تغذى يف جامعة باريس خالل القرن الثالث عرش .كذلك َّ املؤرخون والفالسفة واألدباء الرومان مدينة فاضلة وال عادلة.
التصوف واملامرسة الكهنوت َّية للعقيدة ُّ من فكر أوغسطني السلطة ،ومل يكن نبالؤها تأسست روما عىل اغتصاب ُّ فقد َّ
التنسك والزهد املسيح َّية يف العرص الوسيط ،وكذلك حركات ُّ عادلني .ثم يأخذ بعد ذلك يف نقد العبادات الوثن َّية والتخليد
والرهبنة ،وتأثر به مارتن لوثر ،وحظي لدى الربوتستان َّية الثقايف هلا يف املرسح واالحتفاالت ،والسخرية الالذعة من
بتقدير يفوق تقدير غريه من آباء الكنيسة أمجعني« .أحيي فكر املؤرخني والفالسفة واألدباء الرومان.
أوغسطني أيض ًا يف الكنيسة الكاثوليك َّية ،خصوص ًا يف فرنسا
خالل القرن السابع عرش (ديكارت ،مابرانش ،باسكال، مدينة اهلل مغتصبة من قبل شهوة السيطرة التي متيز املدينة
وظل منذ ذلك احلني مألوف ًا َّ اجلنسين َّية ،بوسويه ،فينيلون). إن احلب والنزاع مها القوتان املحركتان للتاريخ األرض َّيةَّ .
خاصة يف فرنسا ،حتى املدرسة احلديثة للمدافعني َّ بصورة يتطور التاريخ بوصفه نتيجة للتنازع بني َّ السيايس ،بحيث
الكاثوليكيني الذين أخذوا يف الوقت ذاته أفكار ًا برجسون َّية املدينتني .ال يشء جيري خارج هذه الثنائ َّية .ومن أجل تلبية حاجة
(متأثرة بأفلوطني) ».63 الناس إىل الردع والكبح ُوجدت احلكومة.
لك َّن تلقي فكر أوغسطني كان ذا أوجه متعدّ دة ،منها املعتدل مل ينشغل أوغسطني بمسألة نظم احلكم السياس َّية مثل أفالطون
الرصني ،واملتطرف الذي سار ببعض آرائه املتشدّ دة ،خاصة تتكون هبا تلك هتمه السريورة التارخي َّية التي َّ
وأرسطو .إذ مل تكن ُّ
يف القدر واخلطيئة األصل َّية ،إىل نتائج بعيدة اخلطورة ،أ َّدت إىل النظم وتزول« .كان مهت ًام بمعرفة كيف تعمل العناية اإلهل َّية عرب
تطاحنات ومشاحنات ومعارك أنست عمق تفكريه وثرائه. التاريخ السيايس ،أكثر من اهتاممه بتوقف التاريخ عىل القوى
بأن حماكم التفتيش مستوحاة من آرائه بحيث اهتم أوغسطني َّ االجتامع َّية التي يستخدمها هذا الشكل أو ذاك من أشكال
أن األوغسطين َّية مل متت ،رغم انتصار األرسط َّية تلك .بيد َّ املؤسسات السياس َّية».
والعقالن َّية .بل يشهد العرص الراهن أوغسطين َّية جديدة تستلهم
فكر أوغسطني يف تناول قضايا العرص ،ويف مقدمتها قض َّية الديني األوغسطين َّية
والساييس ،وقض َّية اهلو َّية. حيدّ د هايدغر مدلولني ملصطلح «أوغسطين َّية»ُّ :
تدل 61
ملونة بلون املسيح َّية من الناحية الفلسف َّية عىل «أفالطون َّية َّ
«تصورُّ موجهة ضدَّ أرسطو» ،ومن الناحية الالهوت َّية ،عىل َّ
62 . Ibid., p. 177. 61 . Heidegger, Martin, Phénoménologie de la vie religieuse, tr. Fr.
63 . Ibidem. Jean Greisch, Paris, Gallimard, 2012, p. 178.
لفض غطاء أوغسطني ،ليخضعه لقراءة فينومينوجل َّية تفكيك َّية ّ 64
أوغسطين وما بعد الحداثة
امليتافيزيقا األفلوطين َّية الذي غ ّطى به أوغسطني جتربته املسيح َّية، قرئ أوغسطني يف ما بعد احلداثة بطريقتني :من جهة ،قراءة
فحجب أصالتها ،وذلك هبدف الرجوع إىل الشكل األويل النقي الهوت َّية أحيت بناءه الفكري حتت اسم «أوغسطين َّية جديدة»
هلذه التجربة ،بوصفه جتربة دين َّية قابلة للتجريد والتعميم .تناول لشفاء واقع راهن زعم أنَّه فريسة ملرض العدم َّية والنسب َّية .ومن
أن النفس مع نص أوغسطني انطالق ًا من مالحظة َّ هايدغر َّ جهة أخرى ،قراءة فلسف َّية انبهرت بصورة خاصة بالطريقة التي
أوغسطني صارت مسألة أمام نفسها ،وساحة ملعركة بني الغواية سعى هبا أوغسطني إىل فهم ذاته بذاته ،وكشفه عن طبيعة هذه
واملحاكمة ،تعيش يف قلق واضطراب ،تفتقد األمان ،ترى احلياة املحاولة ،وتناقضها األسايس وخماطرها« .تبحث األوغسطين َّية
من أقصاها إىل أقصاها غري آمنة ،لذلك تلجأ إىل اهلل لتجد األمان اجلديدة عند أوغسطني عىل ما يمكن أن يفيد يف صون اهلو َّية يف
واالستقرار .يبدو أوغسطني هلايدجر مثل «جندي مسيحي جياهد عامل ضال ،وتستلهم منه ما بعد احلداثة كون البحث عن اهلو َّية
حتت لواء بولس يف سبيل اإليامن ،مسلح ًا بدرع من األمل وبخوذة ال متناهي ًا ،حتى ولو عرض ذلك للخطر ،واقتىض االنفتاح
من اإليامن ...بحيث يمكن قراءة كتاب االعرتافات كأنَّه يوميات املتجدد باستمرار يف وجه أحد آخر (اآلخر؟) .ويف احلالتني يتعلق
حرب» .67لقد جعل أوغسطني املسيح َّية مصدر ًا إلدخال البلبلة اللجوء إىل أوغسطني بمسألة املعنى واحلقيقة ،يف سياق اهنارت
واالضطراب يف نفس اإلنسان الغريب عن طريق شحن التجربة املقررة مسبق ًا ،واستوجبت اهلو َّية إعادة بنائها إىل حدٍّ
فيه البنيات َّ
املسيح َّية األصل َّية بامليتافيزيقا األفلوطين َّية املبنية عىل نسيان كينونة بارزين الهوتيي َ
َ كبري» .65يف اجلانب الالهويت نكتفي باإلشارة إىل
الكائن. أحييا أوغسطني واختذاه سالح ًا ضدَّ ما بعد احلداثة :األكاديمي
أسس اإلنجليزي جون ميلبانك ( ،)John Milbankالذي َّ
خالف ًا هلايدغر ،اختذ ديريدا أوغسطني صاحب ًا ورفيق ًا يف كتابة تيار األرثوذوكس َّية الراديكال َّية ،وجوزيف راتسينجر( Joseph
سريته الذات َّية ،حتت عنوان مركَّب «االعذراف» ()Circonfession ،) Ratzingerالبابا السادس عرش.
(كلمة مركَّبة من اعرتاف ( ،)confessionوإعذار ،أو ختان،
(َّ .)Circoncisionإنام يتشاهبان يف بعض اجلوانب :أوغسطني نأخذ هايدغر وديريدا مثالني لعودة فالسفة ما بعد احلداثة إىل
«مواطنه» ،ويتكلم مثله لغة ليست لغته األم ،وهي لغة مسيح َّية/ ألنام قرآ مع ًا أوغسطني قراءة تفكيك َّية ،لكنَّهام جاءا
أوغسطنيَّ ،
التين َّية /فرنس َّية ،وختن وهو طفل صغري فـ»وشمت» ذاكرته هبويته إليه من طريقني خمتلفتني وأنتجا حوله نصني متباينني .خيتلف
الدين َّية اليهود َّية بالدم .يبكي كثري ًا ويصيل يف الرس .أم أوغسطني هي هايدغر وديريدا 66يف وقت عودهتام إىل أوغسطني ويف طريقتها
حمور اعرتافاته ،ويكتب ديريدا أيض ًا عن أ ّمه التي حيبها كثري ًا ،وهي واهلدف منها .عاد إليه هايدغر يف مرحلة مبكرة من حياته الفكر َّية،
يف حالة احتضار دام طويالً .يكتب ديريدا رفقة أوغسطني مستشهد ًا مرحلة إعداد مفاهيم مؤلفه الكينونة والزمان ،واالنفصال
بمقاطع من اعرتافاته بنصها الالتيني .يكتب مثل أوغسطني عن عن الفكر املسيحي الذي كان واقع ًا يف إطاره حتت تأثري لوثر
نفسه املنشطرة ،حيكي عن الرشخ الذي أحدثه اخلتان يف هويته ،وعن وكريكجارد .ووقف بالتحديد عند الكتاب العارش من اعرتافات
انفصاله عن هيوديته .لك َّن هدف ديريدا من كتابة سريته خمتلف عن
هدف أوغسطني ،إنَّه ليس التوبة واإلقرار بالذنب ،والكشف عن 64 . cf. Boeve, Lieven, « Retrieven Augustine today. Introduction :
حقيقة كان خيفيها عن الناس .إنَّه ال يعرتف أمام اهلل ،بل أمام جمهول Recontextualisation, postmodernity and Augustine », in L. Boeve,
ال يعرفه ،يف انتظار احلدث الذي يفاجئ ،وال خيرب عن جميئه (موت M. Lamberights, M. Wisse (ed.), Leuven-Paris-Walple, Uitgeveru
كررهفيظل يف حالة انتظار خميف .أمام السؤال الذي َّ أ ّمه مثالً)ّ ، Petrs, 2009, p. 1 - 17.
أحب حني أحبك ،يا إهلي؟» يسأل أوغسطني يف اعرتافاته« « :ماذا ُّ 65 . Ibid, p.3.
ديريدا نفسه :ما ذا عساي أن أفعل غري أن أجعل هذا السؤال سؤايل 66 . cf. Caputo, John D., « Toward a Postmodern Theology of the
Cross », in Philip Cary, John Doody, and Kim Paffernoth, Augustine
67 . Ibid, p. 243 - 244. and Philosophy, Lanham, Lexington Books, 2010, p. 243 -265.
قدره أن يكون ناقص ًا ،بسبب اخلطيئة األصل َّية التي نتجت عن أنا؟» ،68ماذا كان ديريدا يفعل طيلة حياته غري سؤال هذا السؤال
ِك ْبه الذي دفعه إىل إرادة التش ُّبه باهلل ،وعصيانه ،فعوقب باحلياة هيتم به ديريدا يف خطاب االعرتاف ،هو أنَّه يسائل نفسه .ما ُّ
ُّ
وسيظل األرض َّية برشورها املختلفة (الزمن ،واملوت ،والشقاء). إن هذا النوع من اخلطاب ال عىل نحو جذري استقالل الذاتَّ .
اإلنسان كائن ًا عاجز ًا عن فعل اخلري اعتامد ًا عىل جهده وحده يف يتعلق باعرتاف ذات ارتكبت خطيئة ،متحملة مسؤوليتهاَّ .
«إن
استقالل عن عناية اهلل ولطفه الذي ال يمكن لإلنسان بدونه أن االعرتاف اجلذري ال يكون أبد ًا «اعرتايف أنا» ،بل هو قرار اآلخر
يعيش السالم والطمأنينة. إن اآلخر هو عىل الدوام الذي َّيف أنا ،اآلخر الذي يعلوينَّ ...
يعرتف َّيف» .تقدّ م معركة أوغسطني مع اهلل مثاالً أكمل لبيان
هكذا يتبدَّ ى لنا أوغسطني بوجهني عىل األقل :وجه التشاؤم استمرار إشكال َّية تكوين اهلو َّية اإلنسان َّية ،والداللة عىل الثغرة
والتطرف
ُّ القاتم الذي مال به إىل إنتاج مقدّ مات َّ
«اللإنسان َّية»، كل بناء للهو َّية .ويرى ديريدا يف عبارة أوغسطني أو الثلمة يف ّ
الديني :ربط الرغبة /الشهوة (خاصة اجلنس َّية) باخلطيئة ،تربير أن ما يريد من يشهد أن يف اعرتافاته «أحببتك متأخر ًا» داللة عىل َّ
العنف واإلكراه من قبل األقل َّية املختارة عىل الكثرة بافرتاض يتحمل مسؤولية الشهادة عليه ال يمكن له أن يتضمن يف الشهادة،
«حب اهلل إىل حدّ احتقارّ عجزها عن االستقامة الذات َّية التلقائ َّية، ألن موضوع الشهادة يكون دائ ًام قد غادر الشهادة حلظة قوهلاَّ .
«إن َّ
حب الغري يف
حب احلياة وهبجتها وفرحهاّ ، الذات» ،ومن ثم قتل ّ الشهادة تأيت دائ ًام متأخرة».
اهلل ،أي رشط أن يكون رشيك ًا يف إيامن مجاعة وإال استحق النفي
أو القتل تقر َّب ًا هلل ،لذلك فقد أوغسطني فضيلة االعرتاف باجلميل خاتمة
للفالسفة «الوثنيني» الذين فتحوا له كنوز فكرهم ،فأخذ منها من هو أوغسطني؟ هل يف وسعنا اآلن أن نجيب؟
ألنم ليسوا رشكاءه بغري حساب ،ثم «قتلهم» ،وذلك بالتحديد َّ أمازيغي أفريقي ،طبعت ذاكرته باملسيح َّية منذ الصغر ،وتش َّبع
يف اإليامن املسيحيَّ ،إنم «آخرون» .بجانب هذا الوجه يظهر بالثقافة الالتين َّية ،وعاش اهنيار احلضارة الرومان َّية وصعود
أوغسطني بوجه آخر؛ وجه املفكر اجلدّ ي الصادق اجلريء ،الذي اإلمرباطور َّية املسيح َّية ،عرب حرب ضارية مع الوثن َّية كان له فيها
كانت القيمة العليا لديه ،والتي قد يكون اكتشفها عند أبويل ،هي دور كبري .انقسمت نفسه بسبب التباين واالختالف بني أبويه،
الفضول والتعطش إىل املعرفة يف كافة مستوياهتا ،وكشف قوهتا وبسبب تراجيديا عالقته بأ ّمه .ورث سامت األفريقي النوميدي
كل سلطة ،ما دامت متكن من امتالكها. التي تفوق قوة السلطةّ ، خاصة الولوع بالكالم (اخلطابة والبيان والبالغة) ،وقدرته اجل َّبارة
«حول التوق النهم للمتناهي إىل التوق النهم َّ إنَّه ذلك الذي عىل السيطرة عىل اآلخرين والتحكم فيهم .عذبته شهوانيته يف
َّللمتناهي» ،والذي أبدع شعر ًا منثور ًا يف حوار بصوت واحد، املراهقة فختمها قبل األوان .عانى من املرض ومن اخلوف من
صوت املعرتف بذنوبه ،والباحث عن ذاته ،والباحث يف الذات فمر بارتدادات متعدّ دة انتهت بارتداده املوت .تاه فكري ًا وروحي ًاَّ ،
بوصفها مشكلة من املشكالت اإلنسان َّية األساس َّية .كشف عن األفلوطينَّة (هل ارتدَّ عنها فعالً؟) إىل املسيح َّية فأغناها بثقافته
أساس االجتامع اإلنساين واحلياة السياس َّية يف احل َّبني االستمتاعي الواسعة والعميقة ،التي أنفق منها بسخاء يف الدفاع عنها ،ويف
واالستعاميل لألشياء ،وأساس املشكالت السياس َّية واالجتامع َّية تأسيس الفكر الالهويت املسيحي ،بصياغة قضاياه التي صارت
والنفس َّية يف قلب هذين احل َّبني :حيث تصبح الوسائل غايات، يف الوقت ذاته القضايا الكربى للفلسفة الغرب َّية ،فامتدَّ تأثريه فيهام
والغايات وسائل .وكان يف قلبه القايس واملتشدّ د جتاه اخلصوم أزيد من ستة عرش قرن ًا :العقل واإليامن ،اخلطيئة األصل َّية ،القدر،
مكان للعطف عىل الفقراء ،وتنصيب نفسه قاضي ًا نزهي ًا ّ
حلل احلرة ،النعمة اإلهل َّية ،التثليث ،الطبيعة البرش َّية ،التاريخ،
اإلرادة َّ
منازعاهتم بعدل وإنصاف .واألمجل من ذلك كله أنَّه رجل عاشق اللغة ،التعلم ،املعرفة ،الذات.
للموسيقى ،ترك لإلنسان َّية مؤلف ًا يف املوسيقى يكشف عن كتابة
ببالغة أخرى ،بالغة حتريك املشاعر بالصوت والنَّغم. تأ َّمل جتربته فاستخلص منها تصور ًا كل َّي ًا لإلنسان :كائن
«مهام حاولوا اهلروب منه أو النيل من وقاره العلمي وشموخه التارخيي ]...[ ،فسوف يبقى أساس ًا من أسس الفكر البرشي الراقي.
الرشدي.».عم بعدها هو املوقف ُّ
أن الربزخ الذي يفصل ما قبل احلداثة َّ
[ ...ذلك] َّ
حممد املصباحي
َّ
سمية املحفوظي*
َّ
مراكش إىل «اليسانة أ َّدت إىل حرق كتبه الفلسف َّية ونفيه عن َّ
2
توطئة
للصوف َّية ،ليعفو أن أظهر األمري مي ً
ال ُّ ضواحي مدينة قرطبة» بعد ْ نشأ أبو الوليد بن رشد احلفيد ( 520هـ1126 /م 595 -هـ/
األمري عن ابن رشد بعد سنتني ،أي قبل وفاته بسنة تقريب ًا. 1198م) يف أرسة عريقة اشتغلت بالقضاء ،وهو ما ساعده عىل
اإلملام بمذاهب الفقه وقواعده .وقد تو َّفرت له مجيع الظروف
وقد ترك ابن رشد كتب ًا عديدة منها «تلخيص اخلطابة»، الطب والطبيع َّيات
َّ للتبحر يف علوم عرصه؛ فدرس ُّ املواتية
و«تلخيص كتاب اجلدل» ،و«تلخيص الشعر» ،و«رشح الربهان»، والرياض َّيات والفلسفة والنَّحو .وهذا ما جعل منه املث ّقف
و«تلخيص ما بعد الطبيعة» ،و«تلخيص كتاب النفس» ،و»كتاب النموذج الباحث عن َّ
«لذة املعرفة واالكتشاف .فعالوة عىل عدم
اآلثار العلو َّية» ،و«الك ّل َّيات يف ال ّطب» ،و«الكشف عن مناهج اكتفائه بتحصيل صنف واحد أو صنفني من صنوف املعرفة [...
األدلة يف عقائد امل ّلة» ،و«هناية املقتصد وبداية املجتهد» ،و«هتافت كان] شغف ًا بميادين بعيدة الصلة عن بعضها بعض ًا ،عىل غرار
التهافت» ،و«فصل املقال وتقرير ما بني احلكمة والرشيعة من والطب
ّ الفقه وعلم الكالم واللغة والنبات واحليوان والفلك
االتصال».3 والفلسفة».1
وقد متَّيزت مؤ ّلفاته باجلدَّ ة وال َّطرافة ،وهي تكشف أيض ًا عن رشحه (565هـ) ابن طفيل (ت وقد بدأ اسمه يطفو عندما َّ
استقالل ابن رشد فكر َّي ًا عن اخلطابات السائدة يف عرصه التي 581هـ) إىل األمري أيب يعقوب يوسف بن عبد املؤمن كي يرشح
غلب عليها الطابع اخلطايب ،ففيها أكَّد َّ
أن املسلك الوحيد الذي عي ابن رشد بعد ذلك عىل قضاء ّ
ويلخصها ،ل ُي َّ له أعامل أرسطو
إشبيلية (565هـ) ،ويف سنة (567هـ) ُو ّل منصب قايض القضاة،
مراكش ويف سنة (578هـ) ّاتذه اخلليفة أبو يعقوب يوسف أمري َّ
2ـ فريد ،العليبي ،رؤية ابن رشد السياس َّية ،مركز دراسات الوحدة العرب َّية، تعرض ملحنةطبيب ًا له ،ويف عهد األمري أيب يوسف يعقوب املنصور َّ
سلسلة أطروحات الدكتوراه عــ 64ـدد ،ط ،1بريوت ،لبنان ،2007ص -264
،276ذكر أ َّن «محنة ابن رشد [راوحت] بني الكفر يف الدين والكفر يف السياسة». *أكادمي َّية تونس َّية.
3ـ ذهب بعض الدارسني (جامل الدين العلوي )... ،إىل القول إ َّن م ّؤلفات ابن 1ـ راجع عبد املجيد الرشيف ،لبنات IIيف قراءة النصوص ،دار الجنوب للنرش،
رشد الحفيد تربو عىل مئة كتاب ورسالة ورشح. سلسلة معامل الحداثة ،ط ،1تونس ،2011 ،ص .201
يف سبيل حترير اإلنسان من القيود التي حتول دون بلوغه مراتب حجة العقل 4الذي
جيب اتِّباعه هو املسلك الربهاين القائم عىل َّ
اإليامن احلقيقي الذي يعطي لذاته قيمة يف الوجود.8 َّنزله ابن رشد منزلة العمود الفقري لإليامن القويم الذي ال معنى
له خارج دائرة التأ ُّمل والتفكري النقدي.
و َّملا كان اإلملام بالرتاث الرشدي -يف هذه الورقة -مسألة غري
وتنوع
ممكنة بالنظر إىل تعدُّ د جماالت اشتغال فيلسوف قرطبة ُّ 1ـ ابن رشد الحفيد الفيلسوف العقالني إزاء الغزالي
املباحث التي أ ّلف فيها ،فإنَّنا نتطرق إىل عالقة العقل والفلسفة المتك ِّلم
بالرشع يف بعض نصوص ابن رشد .باعتبار َّ
أن تلك العالقة هي إن عودة الفكر العريب اإلسالمي املعارص إىل ابن رشد َّ
تصورنا -مربط الفرس يف مرشوع ابن رشد الفلسفي ،وقد -يف ُّ مهمة مل حيسن الفكر اإلسالمي احلفيد هي عودة إىل حلظة فكر َّية َّ
5
نفى الغزايل قدرة العقل عىل تناول حقائق األمور اإلهل َّية ،ففي اتّصل نقد الغزايل للفالسفة ور ُّد أيب الوليد عليه
«املنقذ من الضالل» خيربنا َّ
بأن ما انتهى إليه يف بحثه عن احلقيقة 14
بمجموعة من القضايا امليتافيزيق َّية( )Métaphysique
والتيولوج َّية( 15 )Théologieالتي جعلت من التهافتني
عويدات ،منشورات عويدات ،ط ،2بريوت ،لبنان ،2001 ،ص 1451أ َّن هذا
العلم يبحث يف صفات الله وصالته بالعامل وباإلنسان. تحقيق ورشح عبد السالم مح َّمد هارون ،دار الجيل ،ط ،1بريوت ،لبنان( ،د ت).
16ـ هو أبو نرص مح ّمد بن مح ّمد بن طرخان امللقّب باملعلّم الثاين ،ولد يف 13ـ رفض السريايف الرأي القائل إ َّن املنطق األرسطي هو األداة الوحيدة القادرة
فاراب (تقع عند البعض يف بالد فارس ،وهي عند البعض اآلخر تقع يف بالد عىل متييز الصحيح من الخطأ ،وذلك بقوله ...« :إذا كان املنطق وضعه رجل
الرتك)ُ ،عرف بإملامه بالطب واملوسيقى والرياضيات والفقه والفلسفة ،وقد وضع من يونان عىل لغة أهلها واصطالحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها
رشوحاً عديدة للفلسفة اليونانيَّة ،ومن أه ّم ما كتب« :آراء يف املدينة الفاضلة»، التك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه
وصفاتها ،فمن أين يلزم ُّ
و«السياسة املدن َّية» ،وكتاب «الجمع بني رأيَي الحكيمني» ،و«كتاب الربهان»، قاضياً وحكامً لهم وعليهم ،ما شهد لهم به قبلوه ،وما أنكره رفضوه؟» راجع أبا
و«عيون املسائل» ،و«إحصاء العلوم»... ح ّيان التوحيدي :اإلمتاع واملؤانسة ،تصحيح أحمد أمني وأحمد الزين ،دار مكتبة
الطب
17ـ أبو عيل الحسن بن عبد الله بن سينا امللقّب بالشيخ الرئيس ،برع يف ّ الحياة ،بريوت ،لبنان( ،د ت) ،ج ،1ص .110
واملنطق والعلوم الرشعيَّة والنحو والرياضيات ،ومن أه ّم ما كتب« :اإلشارات 14ـ تتك ّون امليتافيزيقا من كلمتني ،وهام ميتا μετάأي «ما بعد/ما وراء»
والتنبيهات» ،و«الشفاء» ،و«القانون» ،و«الحكمة املرشق ّية» ،...وقد تأث ّر والفيزيقا φυσικάالطبيعة ،مبعنى ما وراء الطبيعة ،ما بعد الطبيعة.
ابن سينا بالفارايب وفالسفة اإلغريق (أرسطو )..،وفالسفة مدرسة اإلسكندريَّة اللتين ّية Theologiaخطاب اإلنسان حول الله ،وقد َّبي
15ـ تعني الكلمة ّ
(أفلوطني.)... ، أندريه الالند ،موسوعة الالند الفلسفيَّة ،ترجمة خليل أحمد خليل ،إرشاف أحمد
يف اإلهل َّيات من فساد .فاملسائل الطبيع َّية التي تناوهلا يف «هتافت « مل يكن ...بنظم دليل وال ترتيب كالم ،بل بنور قذفه اهلل تعاىل
الفالسفة» والتي متثل أربع مسائل تدور عىل قضايا متَّصلة اتِّصاالً يف الصدر».18
الست عرشة املتبقية واملتعلقة باإلهل َّيات ،ويف ذلك
َّ شديد ًا بالقضايا
أن الكتاب نقد آلراء الفالسفة يف اإلهل َّيات .فالنظر يف تأكيد عىل َّ حجة اإلسالمعمقه َّ صويف واضح املالمحَّ ،
ٌ ويف الكالم ن َف ٌس
جوهر النفس وعالقتها بالبدن وخلود النفس والسبب َّية مباحث يف «املقصد األسنى يف أسامء اهلل احلسنى» ،ويف «معارج القدس
كانت الغاية من تناوهلا إبراز مناقضة الفالسفة للعقيدة اإلهل َّية. يف مدارج معرفة النفس ،»،ويف جممل ما كتب الغزايل بعد «املنقذ
تصور جيعل
وكل ُّ من الضالل» سعي إىل قطع الطريق عىل العقل ّ
وقد م َّيز الغزايل بني مستويات عديدة من العلوم ،منها موافقة قضايا التوحيد موضع سؤال وتفكري عقيل ،باعتبار إقحام العقل
الفالسفة األخذ بالعلوم الرياض َّية واملنطق َّية ،فـ« الرياضيات السوي.
ّ يف تلك القضايا فيه حياد عن الطريق
[ ]...هي نظر يف الكم املنفصل -وهو احلساب -فال تع ّلق
لإلهل َّيات به».22 وفيام يتعلق هبذه املسألة َّنزل الباحثون القدامى واملعارصون
تكفري الغزايل للفالسفة وتبديعه هلم يف مجلة من القضايا ،فمن
بالكم املتصل،ّ وكذلك الشأن بالنسبة إىل اهلندسة التي تتع ّلق أن أبا حامد ك َّفر الفالسفة يف ثالث مسائل 19وبدَّ عهم يف
املعلوم َّ
وحقائقها ال تقدح « يف يشء من النظر اإلهلي» .23وقد هاجم سبع عرشة مسألة .20
حجة اإلسالم أسلوب الفالسفة يف معاجلة القضايا امليتافيزيق َّية َّ
الذي يتمثل باألساس يف اعتامد الرياض َّيات واملنطق َّيات مداخل َّ
إن تلك اإلشكال َّيات موصولة بقضايا عدَّ ها الغزايل من أصول
أن هذا األسلوب هو شكل من للقضايا امليتافيزيق َّية زاع ًام َّ الدين ،فالنزاع « يتعلق [ ]...بأصل من أصول الدين ،كالقول يف
أشكال اخلداع والتمويه التي يستند عليها الفالسفة يف استاملتهم حدوث العامل وصفات الصانع وبيان حرش األجساد واألبدان.
للجمهور ،24وهو بذلك عمد إىل الفصل بني املقدِّ مات التي انطلق وقد أنكروا [الفالسفة] مجيع ذلك ،فهذا الف ُّن ونظائره هو الذي
إن ما انتهوا منها الفالسفة والنتائج التي بلغوها ،وذلك بالقول َّ أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه». 21ينبغي ْ
إليه غري صحيح وال يقني فيه ،وهو إذ يفعل ذلك فلكي حي ِّقق
مقصده املتم ّثل يف توحيد «مجيع الفرق إلب ًا واحد ًا عليهمَّ ،
فإن حظيت القضايا امليتافيزيق َّية باحليز األكرب من كتابه ،ففي خطبة
يتعرضون ألصول سائر الفرق ر َّبام خالفونا يف التفصيل ،وهؤالء َّ كتاب «هتافت الفالسفة» م َّيز بني ثالثة رضوب من الفالسفة
الدّ ين فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب األحقاد» .
25
مهته عىل كشف (الدهريون ،الطبيعيون ،اإلهليون) ،وقد قرص َّ
ما انطوت عليه مواقف الفالسفة املسلمني (ابن سينا ،الفارايب)
صنَّف الغزايل الفالسفة ،وم َّيز بني أصناف العلوم ،وحدَّ د
جماالت تفكري العقل البرشي من جهة ،ومن جهة أخرى انترص 18ـ أبو حامد الغزايل :املنقذ من الضالل ،تحقيق وتقديم سميَّة املحفوظي،
للمتكلمني ورام دفعهم إىل هداية العا َّمة بإجلام الفالسفة. مكتب التبادل الثقايف اإلسالمي املسيحي ،فريجينيا الواليات املتحدة األمريكية،
،2013ص .97
يتوجه وال تفوتنا يف هذا املقام اإلشارة إىل َّ
أن كتاب الغزايل مل َّ 19ـ تتعلق هذه املسائل بـقول الفالسفة بقدم العامل وأزليته ،وبإنكارهم حرش
حيرض عىل «إجلام فحجة اإلسالم ما َّ
انفك ّ َّ باخلطاب إىل العا َّمة، األجساد ،وقولهم إ ّن الله يعلم الكليَّات دون الجزئيَّات
20ـ نذكر منها مذهبهم يف نفي الصفات ،ويف أ ّن األول بسيط بال ماهية ،وقولهم
22ـ املرجع نفسه ،ص .84 باستحالة خرق العادات ،وبأ ّن نفس اإلنسان جوهر قائم بنفسه وليس بجسم
23ـ املرجع نفسه ،الصفحة نفسها. وال عرض.
24ـ املرجع نفسه ،الصفحة نفسها. 21ـ أبو حامد الغزايل :تهافت الفالسفة ،تحقيق وتقديم سليامن دنيا ،دار
25ـ املرجع نفسه ،ص .83 املعارف ،ط ،4القاهرة مرص ،1966 ،ص .81
الساسة .30وقد رام من خالل ذلك تقويض مواقف الغزايل العوام عن علم الكالم» ،والنأي هبم عن قضايا اإلهل َّيات ،وهو ما
ومنطلقاهتا والتشكيك يف صدق رسيرة أيب حامد ،وزاد عىل ذلك جيعل من الكتاب دعوة للمتكلمني إىل مواجهة الفالسفة الذين
ْ
بأن أكَّد عىل سوء فهمه ملا ذهب إليه الفالسفة من آراء .وقد كان ع ّطلوا «وظائف اإلسالم من العبادات واستحقروا شعائر الدين
مقصد أيب الوليد من وراء ذلك زحزحة السلطة الرمزية للغزايل من وظائف الصلوات والتوقي عن [من] املحظورات واستهانوا
كي يسهل دحض أفكاره. بتع ُّبدات الرشع وحدوده ومل يقفوا عند توقيفاته وقيوده ،بل خلعوا
بالكُل َّية ربقة الدين بفنون من الظنون ،يتبعون رهط ًا يصدُّ ون عن
حلجة اإلسالم
أن يكيل ابن رشد التُّهم َّ وال غرابة بعد ذلك ْ سبيل اهلل ويبغوهنا عوج ًا وهم باآلخرة هم كافرون ،وال مستند
وخيرجه من اإلسالم اعتامد ًا عىل اآلل َّيات نفسها التي اعتمدها لكفرهم غري تقليد سامعي كتقليد اليهود والنصارى . 26» ....
صاحب «هتافت الفالسفة» ،فالغزايل باعتباره «الداعي إىل الكفر
كافر».31 وقد َّبي الغزايل املقصود بالفالسفة الذين أخذوا بالظن
وحرصوا عىل الصدّ عن سبيل اهلل ،والذين سلكوا طريق
آىل «الشارح األكرب» عىل نفسه الر َّد عىل الغزايل ودفع أذاه الذي الضالل ،فإذا به يقصد الفارايب وابن سينا باألساس.27
طال الفلسفة قبل الفالسفة محاية للرشيعة ،فأبو حامد مل حيتم
عول عىل األقاويل اجلدل َّية واألقاويل اخلطاب َّية،
بالربهان بقدر ما َّ 2ـ ابن رشد والقول َّ
إن إحياء الفلسفة إحيا ٌء لعلوم الدين
شأنه يف ذلك شأن مجيع املتك ّلمني الذي حيتكمون إىل املذهب قبل حدَّ د ابن رشد احلفيد لكتاب «هتافت التهافت» هدف ًا واضح ًا
يتم َّثل يف إبراز «قصور أكثرها [أقاويل الغزايل] عن رتبة اليقني
30ـ املرجع نفسه ،ص .79وقد َّبي مح َّمد يوسف إدريس يف «الجسد املُ عذّب يف والربهان». 28
الثّقافة العرب َّية اإلسالم َّية من القرآن الكريم إىل ال ُّنصوص الحواف» بحث منشور
عىل املوقع اإللكرتوين ملؤسسة مؤمنون بال حدود (قسم الدراسات الدينيَّة) وقد عمد ابن رشد إىل إخراج الغزايل من دائرة الفلسفة ،فلئن
بتاريخ 14مايو َّ ،2013بي أ َّن الهاجس الرئيس للغزايل هو ر ُّد امل ّد الباطني حجة االسالم نفسه فيلسوف ًا َّ
فإن أبا الوليد حرص عىل مل يعترب َّ
الذي يهدّد بقاء الخالفة العباسيَّة والسلطة السلجوقيَّة ،وهو ما دفع بالغزايل إبراز قرص باع أيب حامد يف الفلسفة ،فهو املجادل الذي مل يستطع
إىل مهاجمة الفالسفة (ابن سينا ،الفارايب )...،الذين اعتنقوا املذهب الشيعي، وتبي مقاصدهم واستيعاب منطقهم، اإلحاطة بآراء الفالسفة ّ
فــ«الغزايل عندما وضع «فضائح الباطنيَّة وفضائل املستظهريَّة» و«تهافت أن الفلسفة -احلكمة هي «النظر يف األشياء بحسب فالغزايل مل ي ِع َّ
الفالسفة» مل يكن يواجه خصوماً متكلّمني ،وإنَّ ا كان يواجه خصوماً سياسيني، ما تقتضيه طبيعة الربهان» ،29وهو ما ترتَّب عليه اخللط بني
يفس محاولته توجيه رضبة قاصمة لهم باعتامد الدّين ،فالفكر الشّ يعي
وهو ما ّ مباحث الفلسفة والدين وعدم الوعي بمسالك أهل الربهان يف
الذي اتّخذ منزعاً روحانياً ،متأثّرا ً بفلسفة ابن سينا والفارايب وإخوان ّ
الصفا وخالن تبي حقائق األشياء. ُّ
يزج بالعامة يف الرصاعات السياسيَّة ،ويف املقابل فإ َّن تحييد
الوفا ،من شأنه أ ْن َّ
العا َّمة ال يتحقّق ما مل يت ّم لفت األنظار إىل اآلخرة ،وليس لآلخرة معنى ما مل ف ابن رشد احلفيد اعتقاده َّ
بأن تأليف الغزايل «هتافت ومل ُي ِ
يكن العقاب فيها حسياً ،وليس مث َّة آلة تع ّمق هذا الشعور أكرث من الجسد، الفالسفة» كان بتأثري من واقعه وبرغبة من مؤ ّلفه يف كسب و ّد
فأمل الجسد تدركه العوام وتخشاه ،وهو ما من شأنه أ ْن يدفعهم إىل ترك الدنيا
ورصاعاتها -فهي مورثة الفنت واملهالك -ألهلها وااللتفات إىل اآلخرة باالعتكاف 26ـ املرجع نفسه ،ص .73
بتغي
تتغي ُّ
يف املساجد ....،إ َّن آراء الغزايل ال تنبع من تص ُّور فكري وعقدي ،وإنّ ا َّ 27ـ املرجع نفسه ،ص .78
املقامات والغايات التي من أجلها أُلّف هذا الكتاب أو ذاك». 28ـ أبو الوليد بن رشد :تهافت التهافت ،تحقيق وتقديم سميَّة املحفوظي،
31ـ أبو الوليد ابن رشد :فصل املقال فيام بني الحكمة والرشيعة من االتصال، مكتب التبادل الثقايف اإلسالمي املسيحي ،فريجينيا الواليات املتحدة األمريكية،
تصدير مح َّمد عيل الحلواين ،رساس للنرش ،سلسلة عنارص ،ط ،1تونس ،1994 ،2015ص .25
ص .42 29ـ املرجع نفسه ،ص .232
بتحريف أقوال الفالسفة .أ َّما الثاين فقد سار عىل غري منهج واضح يتحل باألمانة يف نقل أقوال االحتكام إىل العقل ،وآية ذلك أنَّه مل َّ
وخبط خبط عشواء فأحلق الرضر العظيم بالرشيعة والفلسفة بام حرف ما قاال ،32ومل يع َّأنام مل يتم ّثال ماابن سينا والفارايب ،فقد َّ
أهم نتائجها الفصل بني احلكمة نرشه من تعاليم خاطئة كانت من ّ ذهب إليه أرسطوطاليس التّم ّثل القويم ،فابن سينا خلط بني
33
-الفلسفة والرشيعة ،37وكان ال ُبدَّ من إبراز«فصل املقال وتقرير الفلسفة والدّ ين وحما احلدود القائمة بينهام ،وهو ما يقتيض يف
ما بني احلكمة والرشيعة من االتصال» ،ذلك َّ
أن الرشيعة بام هي تقديره العودة إىل نصوص أرسطو بدالً من التعويل عىل اآلراء
احلق ،فإنَّنا ـ معرش املسلمني ـ
دعوة «إىل النظر املؤ ّدي إىل معرفة ّ التي نسبها الفالسفة املسلمون (ابن سينا ،الفارايب )...،إليه.34
نعلم عىل القطع أنَّه ال يؤ ّدي النظر الربهاين إىل خمالفة ما ورد به
فإن احلق ال يضاد احلق بل يوافقه ويشهد له».38 الرشعَّ ، ظل يتحرك يف السياق أن ابن رشد َّ ويف هذا املستوى نالحظ َّ
حترك فيه الغزايل ،فالعقل يف تقدير فيلسوف املعريف نفسه الذي َّ
إن البحث العقيل يف ولعل ذلك ما دفع بابن رشد إىل القول َّ قرطبة قارص عن إدراك مجلة من القضايا امليتافيزيق َّية إدراك ًا يقيني ًا،
النبوة والوحي ومعاين اللوح املحفوظ ومعاين القلم َّ قضايا عب عنه من خالل رفضه خوض املتكلمني يف منزلة وهو ما َّ
ألنا متع ّلقة بعامل الغيب
واملعجزات ال ُيوصل إىل رأي سديدَّ ، لف لفهم – الذات اإلهل َّية وصفاهتا .فاملعتزلة واألشعر َّية ومن َّ
أكثر من اتصاهلا بعامل الشهادة ،39ولذلك مل ُينسب إىل الفالسفة املاتوريد َّية - ...،35عاجلوا إشكاليات فلسف َّية باألساس ،فإقرار
القدامى آراء يف تلك القضايا ،فمبادئ الرشائع ال تقبل التشكيك بأن الصفات هي عني الذات أو نفي األشاعرة لذلك املعتزلة َّ
عندهم وال حاجة إىل فحصها ،فـ«وجودها هو أمر إهلي معجز واعتبارهم الصفات زائدة عىل الذات قد انتهى إىل نتيجة واحدة
عن إدراك العقول اإلنسان َّية».40 تتمثل يف الوقوع يف املحظور وإتيان ما عابوه عىل الفالسفة من
عم مل تأمر به الرشيعة لكون قوى «تعدٍّ عىل الرشيعة وفحص َّ
خرج الغزايل يف عرف فيلسوف قرطبة عن احلياد عندما عمد كل ما سكت عنه الرشع البرش مقرصة عن هذا ،وذلك أنَّه ليس ُّ
إىل تكفري الفالسفة يف مواقفهم من اإلهل َّيات ،واحلال َّ
أن مواقفهم ويرصح للجمهور بام أ َّدى إليه َّ أن يفحص عنه من العلوم جيب ْ
احلق فتبلغه أو حتيد عنه ،ذلك
أن تكون اجتهادات تطلب َّ ال تعدو ْ النظر عىل أنَّه من عقائد الرشع ،فإنَّه يتو ّلد عن [كذا] ذلك مثل
احلق ،ولو مل يكن هلم إال هذا القصد
أن «قصدهم إنَّام هو معرفة ّ َّ هذا التخليط العظيم».36
لكان ذلك كافي ًا يف مدحهم ،مع أنَّه مل يقل أحد من الناس يف
العلوم اإلهل َّية قوالً ُيعتدُّ به» .41 ويف ذلك رفض واضح آلراء ابن سينا من جهة ،وآلراء الغزايل
فاألول خاض يف قضايا امليتافيزيقيا دون برهان،
َّ من جهة أخرى،
وهو ما انتهى به إىل اخللط بني الفلسفة وامليتافيزيقا ،وذلك
37ـ أبو الوليد بن رشد ،الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امللّة ،تقديم مح َّمد
عابد الجابري ،مركز دراسات ال َوحدة العربيَّة ،ط ،1بريوت لبنان ،1998 ،ص ص 32ـ أبو الوليد بن رشد :تهافت التهافت ،مرجع مذكور ،ص .297
.152-150 33ـ راجع الدور الذي لعبته الفلسفة اإلغريق َّية يف بناء املنت الفلسفي الرشدي
38ـ أبو الوليد بن رشد :فصل املقال فيام بني الحكمة والرشيعة من االتصال، عند املسكيني ،فتحي ،ابن رشد واإلغريق :الفلسفة وسياسة الحقيقة ،مجلة
املرجع مذكور ،ص .27 دراسات عرب َّية ،العـ 3و4ـددان ،جانفي -فيفري ،1999ص ص .74-63
39ـ راجع يف ذلك عىل سبيل الذكر مح َّمد املصباحي :فلسفة ابن رشد ،مركز ِ
يكتف يف كتاب «تهافت 34ـ نشري يف شأن هذه املسألة إىل أ َّن ابن رشد مل
دراسات الوحدة العرب َّية ،بريوت لبنان 2011 ،وجامل الدين ،العلوي (1945م- التهافت» بال ّر ِّد عىل الغزايل ،ففي العديد من املواضع وجدناه يدحض ما ذهب
1992م) ،املنت الرشدي ،مدخل لقراءة جديدة ،دار توبقال للنرش ،الدار البيضاء إليه الفالسفة املسلمون -ابن سينا عىل وجه الخصوص -ال سيَّام يف مسألة
املغرب.1986 ، الفيض .L’émanation La procession
40ـ أبو الوليد بن رشد :تهافت التهافت ،مرجع مذكور ،ص .501-500 35ـ نسبة إىل أيب منصور املاتريدي (ت 331هـ) املولود يف «ما تريد /سمرقند».
41ـ املرجع نفسه ،ص .376 36ـ أبو الوليد بن رشد :تهافت التهافت ،املرجع مذكور ،ص .432
وال غرابة يف ذلك ،فاملباحث الرشد َّية سواء تلك املتعلقة هذا السؤال ُيعترب السؤال املحوري الذي انشدَّ ت إليه الفلسفة
باملدونة الفقه َّية والدين َّية أو املتعلقة بالقضايا الفلسف َّية قامت
ّ اإلسالم َّية القديمة يف أغلب أزمنتها ،عىل اختالف املقاربات
عىل ثنائيات عديدة منها (العقل /النقل) (الفلسفة /الوحي) والتوجهات .فابن رشد راهن عىل َوحدة العقل البرشي املتج ّلية ُّ
(التفكري /اإليامن) ،وغريها من الثنائ َّيات التي دارت يف فلك باألساس يف َوحدة الفلسفة والرشع .أ َّما الغزايل فقد حرص
43
املعرفة وطرق حتصيلها سواء عن طريق عالقة وجدان َّية أو جتربة فك االرتباط بينهام ،رغم إقراره يف معارج القدس يف مدارج عىل ّ
عقل َّية. معرفة النفس بـ «تظاهر العقل والرشع وافتقار أحدمها لآلخر»،
ذلك َّ
أن «العقل ال هيتدي إال بالرشع ،والرشع مل يتبني إال بالعقل،
حيملها بدالالت وهو إذ يستدعي تلك الثنائ َّيات فإنَّه مل ِّ أس ما مل يكن بناء ولن فالعقل كاألس والرشع كالبناء ،ولن يغني ّ
تنزل عند أيب الوليد منزلة املتضادات بقدر متناقضة ،فهي ال َّ يثبت بناء ما مل يكن أس ». 44
ما يقوم بينها تواصل أتاح له الوصل بني الفلسفة والدين ،فإذا
بالفلسفة وهي حتاول الكشف عن ماه َّية اإلنسان وماه َّيات انفك يف التشابيه (البرص والشعاع /الرساجأن الغزايل ما َّبيد َّ
األشياء يف حياته تكشف عن مسلك مغاير للمعرفة الدين َّية ،قوامه والزيت) التي اعتمدها إلبراز عالقة العقل بالرشع يؤكّد َّ
أن
الرشع هو املصدر الذي يستقي منه العقل بنيانه ،فـ«العقل بنفسه
Tempus Philo, Paris, 2009. يتوصل إىل معرفة كُل َّيات اليشء دون جزئياته
قليل الغناء ال يكاد َّ
47 . Aussi la concordance de la religion et de la philosophie الشع [فــ]يعرف كُل َّيات اليشء وجزئياته» .
45
[ ...أ َّما] َّ
est – elle chez lui une exigence première, une vérité à établir,
un cap à maintenir envers et contre tout. Dans cette quête, si فإن العقل الذي يتحدث عنه الغزايل خيتلف عن وهبذا املعنى َّ
difficile, tellement semée d’embûches, dans cette quête du salut, العقل الرشدي ،فابن رشد دعا إىل القول باستقالل العقل وقدرته
du bonheur et de la grâce, la raison et la foi sont concourantes ثمة توافق ًا بني احلكمة/ عىل بلوغ احلقيقة ،46مؤكد ًا عىل َّ
أن َّ
et non concurrentes et on a besoin autant de l’une que l’autre.
Elles se soutiennent, se consolident et comme dit si bien 42ـ املرجع نفسه ،ص .468
Averroès «s’appellent mutuellement et témoignent l’une pour حمدي :إصالح الفكر الديني من منظور ابن رشد،
43ـ راجع يف ذلك إدريس َّ
L’autre .Sans la raison, la foi est inopérante et sans la foi, la raison املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء (املغرب) بريوت( ،لبنان).2007 ،
est aveugle. » Bouhdiba, Abdelwahab: L’Homme en islam, Ed Sud 44ـ أبو حامد الغزايل :معارج القدس يف مدارج معرفة النفس ،منشورات دار
Editions, Tunis, 2006, P 74. اآلفاق الجديدة ،ط ،2بريوت ،لبنان ،1975 ،ص .57
48ـ راجع مح َّمد املصباحي :إشكاليَّة العقل عند ابن رشد ،املركز الثقايف العريب، 45ـ املرجع نفسه ،ص .58
بريوت لبنان ،والدار البيضاء ،املغرب ،1985 ،ص 227ـ .229 46 . Ben Makhlouf, Ali; Averroès,Ed Tempus Perrin, Collection
أن إحياء الدين يكون بإحياء الفلسفة ،وطاملا وفهم ابن رشد َّ الربهان ،وهبذا املعنى غدت الرشيعة /الرشع وامللة موضوع
كانت الفلسفة لغة القوم فال خوف عليهم وال هم حيزنون ،ومتى تأ ُّمل فلسفي.
كف املسلمون عن طلب احلكمة ماتت العلوم الدين َّية ،فإذا بابن َّ
رشد وهو حياور /جيادل الغزايل يكشف عن بنية الثقافة العرب َّية أن العقل وهو يتناول مبادئ ويف ما يتعلق هبذه املسألة نشري إىل َّ
القائمة عىل نسقني :نسق يسعى إىل الطمأنينة بعد احلرية ،ونسق الرشيعة وأصوهلا ومبادئها (وجود اهلل ،البعث ).... ،يعمد إىل
آخر فهم جيد ًا َّ
أن ال طمأنينة خارج حرية الفكر. أن أساس النظر العقيل اإليامن الذي التأويل قصد فهمها ،ذلك َّ
يتحول عند أيب الوليد إىل قاعدة ال مناص منها ،فإعامل النقد َّ
قائمة المصادر والمراجع ألن مبادئ الرشيعة هي منبعيقوض أساس الوجودَّ ، يف اإليامن ّ
القيم األخالق َّية ،وهو يف ذلك مل خيرج عن اآلفاق التي رسمها
أ .املراجع العرب َّية الفكر اإلسالمي القديم.
عذب يف ال ّثقافة العرب َّيةحممد يوسف ،اجلسد ا ُمل َّ ـ إدريسَّ ،
اإلسالم َّية من القرآن الكريم إىل النُّصوص احلواف ،مؤسسة ومثلام دعا الغزايل إىل إجلام العوام عن علم الكالم ،دعا ابن
مؤمنون بال حدود (قسم الدراسات الدين َّية) بتاريخ 41مايو واملتصوفة عن التأويل 49الذي ُّ
يظل ّ رشد إىل إجلام املتك ّلمني
.2013 (املتصوفة،
ّ صناعة الفالسفة ،مم ّيز ًا بني إيامن اجلمهور وصنَّاعه
ـ أنطون ،فرح ،ابن رشد وفلسفته ،تقديم ط ّيب تيزيني ،دار املتكلمون ،الفقهاء) وإيامن العقل ،إيامن الربهان ،إيامن التأويل،
الفارايب ،ط ،1بريوت لبنان.1988 ، وهو اإليامن األكمل (أربابه الفالسفة) ،وهو بذلك يرفع التناقض
التوحيدي ،أبو ح َّيان ،اإلمتاع واملؤانسة ،تصحيح أمحد أمني املصطنع الذي أرسى أركانه أبو حامد الغزايل .ففي تقدير ابن
وأمحد الزين ،دار مكتبة احلياة ،بريوت لبنان( ،د ت). رشد يوجد توافق واضح بني العقل والوجدان ،بني اإليامن
حممد عابد ،ابن رشد سرية وفكر (دراسة نصوص)، ـ اجلابريَّ ، بالظاهر واإليامن بالعقل ،وهو اإليامن باألصول.
مركز دراسات الوحدة العرب َّية ،ط ،1بريوت لبنان.1998 ،
ـ اجلاحظ ،أبو عثامن ،عمرو بن بحر ،كتاب العثامن َّية ،حتقيق وهبذه الطريقة يستعري أبو الوليد من الغزايل ثنائ َّية العوام
حممد هارون ،دار اجليل ،ط ،1بريوت ورشح عبد السالم َّ يتحول فيها خواص أيب حامد واخلواص فيعطيها دالالت جديدة َّ
لبنان( ،د ت). بحجة اإلسالم ال خيتلف يف إيامنه
(املتكلمون )... ،إىل عوام ،فإذا َّ
ـ ابن أيب احلديد ،عبد احلميد ،رشح هنج البالغة ،مراجعة نصب نفسه عليهم مرشد ًا وهادي ًا ،وآية عن إيامن العوام الذين َّ
الذخائر يف الشيخ حسن متيم ،حتت إرشاف جلنة إحياء ّ وحتقيق ّ أن الغزايل أقحم نفسه يف مباحث ال قدرة له ذلك عند ابن رشد َّ
دار مكتبة احلياة ،مكتبة احلياة ،بريوت ،لبنان.1979 ، عليها ،فكان امليسء ألهل املعرفة احلقيق َّية ومهدّ م رصح الرشيعة
ـ احلري ،عبد النبي ،صورة ابن رشد يف الفكر املغريب املعارص، ومشع ً
ال النار فيها.
املركز الثقايف العريب ومؤسسة مؤمنون بال حدود ،ط ،1الدار
البيضاء املغرب.2015 ، وهبذا املعنى استطاع ابن رشد دحض آراء الغزايل ،فكان الدفاع
محادي ،إدريس ،إصالح الفكر الديني من منظور ابن رشد، ـ َّ عن الفالسفة دفاع ًا عن احلكمة ،وما االنتصار هلا سوى انتصار
املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء (املغرب) بريوت (لبنان)، للمعرفة الدين َّية.
.2007
الصمد ،مقامع الصلبان، ـ اخلزرجي األندليس ،أمحد بن عبد َّ أن إحياء علوم الدين يكون بِ َو ْأد الفلسفة وقربها،
فهم الغزايل َّ
الشيف ،مركز الدراسات واألبحاث حتقيق عبد املجيد ّ
االقتصادية واالجتامعية ،اجلامعة التونسية ،سلسلة الدراسات 49ـ أبو الوليد بن رشد ،الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امللّة ،مرجع
اإلسالم َّية ،تونس.1975 ، مذكور ،ص .205
العرب َّية ،سلسلة أوراق عربية ،سري وأعالم ،بريوت لبنان، ـ أبو الوليد بن رشد :هتافت التهافت ،حتقيق وتقديم سمية
2011 املحفوظي ،مكتب التبادل الثقايف اإلسالمي املسيحي ،فريجينيا
حممد ،إشكالية العقل عند ابن رشد ،املركز الثقايف
ـ املصباحيَّ ، الواليات املتحدة األمريك َّية.2015 ،
العريب ،بريوت لبنان والدار البيضاء املغرب.1985 ، ـ أبو الوليد بن رشد ،الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امل ّلة،
الوحدة العرب َّية ،طحممد عابد اجلابري ،مركز دراسات َ تقديم َّ
ب .املراجع األجنب َّية ،1بريوت لبنان.1998 ،
- Arnaldez, Roger ; «Ibn Rus̲h̲d», Encyclopedia of ـ ابن رشد ،أبو الوليد ،فصل املقال فيام بني احلكمة والرشيعة
Islam, Tom3, Leiden, E, J, Brill, 1971. حممد عيل احللواين ،رساس للنرش، من االتصال ،تصدير َّ
- Ben Makhlouf, Ali ; Averroès, Ed Tempus Perrin, سلسلة عنارص ،ط ،1تونس .1994
Collection Tempus Philo, Paris, 2009. ـ الرشيف ،عبد املجيد ،لبنات IIيف قراءة النصوص ،دار اجلنوب
- Bouhdiba, Abdelwahab ; L’Homme en islam, Ed للنرش ،سلسلة معامل احلداثة ،ط ،1تونس.2011 ،
Sud Editions, Tunis, 2006. ـ الصديق ،يوسف ،اآلخر واآلخرون يف القرآن ،دار التنوير،
- Urvoy, Dominique, Averroès: Les ambitions d’un ط ،1بريوت لبنان.2015 ،
intellectuel musulman, Flammarion, Collection ـ العلوي ،مجال الدين ،املتن الرشدي مدخل لقراءة جديدة،
Champs Biographie, Paris, 2008. سلسلة املعرفة الفلسف َّية ،دار توبقال للنرش ،الدار البيضاء
املغرب.1986 ،
ـ العليبي ،فريد ،رؤية ابن رشد السياس َّية ،مركز دراسات
الوحدة العرب َّية ،سلسلة أطروحات الدكتوراه عــ 64ـدد ،ط
،1بريوت لبنان .2007
ـ الغزايل ،أبو حامد :املنقذ من الضالل ،حتقيق وتقديم سمية
املحفوظي ،مكتب التبادل الثقايف اإلسالمي املسيحي ،فريجينيا
الواليات املتحدة األمريك َّية.2013 ،
ـ الغزايل ،أبو حامد ،معارج القدس يف مدارج معرفة النفس،
منشورات دار اآلفاق اجلديدة ،ط ،2بريوت لبنان.1975 ،
ـ الغزايل ،أبو حامد ،هتافت الفالسفة ،حتقيق وتقديم سليامن
دنيا ،دار املعارف ،ط ،4القاهرة مرص.1966 ،
ـ الڤروايش ،حسن ،املنطوق به واملسكوت عنه يف فقه ابن رشد
احلفيد ،الدار التونس َّية للنرش ،سلسلة موافقات عــ06ـدد ،ط
،1تونس.1993 ،
ـ الالند ،أندريه ،موسوعة الالند الفلسف َّية ،ترمجة خليل أمحد
خليل ،إرشاف أمحد عويدات ،منشورات عويدات ،ط ،2
بريوت لبنان.2001 ،
ـ املسكيني ،فتحي ،ابن رشد واإلغريق :الفلسفة وسياسة
احلقيقة ،جملة دراسات عرب َّية ،العــ 3و4ـددان ،جانفي -
فيفري .1999
حممد ،فلسفة ابن رشد ،مركز دراسات الوحدة ـ املصباحيَّ ،
(الكتاب أص ً
ال من أصول التشريع)
ال من أصول الترشيع؛ استعرض املؤلف القضايا التي أثارها اعتامد النص القرآين أص ً
فعاد إىل عرشات املصادر ليستقي منها معلوماته ،وقام برتتيب وتصنيف املسائل ،ون َّبه إىل
اإلشكال َّيات التي طرحتها الدراسات احلديثة.
نص ًا ترشيع َّي ًا
يربز الكتاب كيفيات اشتغال الفكر األصو ّيل ،وآلياته يف تد ُّبر املصحف َّ
َّأول يف فرتات من التاريخ متباينة .ومازال الفكر اإلسالمي ،إىل اليوم ،يثري هذه املسائل
يف أكثر من فضاء.
كام َّبي الكتاب وضع علم أصول الفقه ،وجهود العلامء يف إرسائه ،يف إطاره العام من
فعرف املصطلحات واإلشكال َّيات املتَّصلة بموضوع البحث ،واخترب العلوم اإلسالم َّيةَّ ،
املدونة أهم املس ّلامت األصول َّية واالعتقاد َّية عند املسلمني ،وح ّلل أبعادها ،مثلام جت ّلت يف َّ
َّ
ّ
ووضح اختالف اتاهات أصحاهبا ،وفرقهم الكالم َّية ،ومذاهبهم الفقه َّية، األصول َّيةَّ ،
ومدى أثر الواقع ومقتضياته فيها.
السنَّة املتواترة ،ويف خرب اآلحاد ،؛ بل وقف عىل مصادر الترشيع مثل كام بحث يف ُّ
السن َّية ،واالعتزال َّية ،والشيع َّية ،واخلارج َّية ،واستفاد
أهم املصادر األصول َّية ُّ اإلمجاع ،واالجتهاد ،والقياس ،وغريها من األصول الفرع َّية ،وعاد إىل ّ
من كتب العقائد ،والتفسري ،والفقه ،والتاريخ ،وغريها ،لوضع البحث يف إطاره من العلوم اإلسالم َّية.
(الموت في ِّ
الشعر العربي)
هذا كتاب جليل القدر ،عميم النَّفع ،قوي عىل صعيد االستشكال واالستدالل ،وهو
حممد عبد السالم ـ رمحه اهلل ـ أطروحة معمق ،أنجزه األستاذ َّتقص َّ يف األصل بحث ُم ٍّ
لدكتوراه الدولة بإرشاف املسترشق الفرنيس الكبري رجييس بالشري.
وبي حجمه ومكانته يف الشعر العر ّيب وقد أوضح البحث أمه َّية املوت باعث ًا للشعرَّ ،
القديم ،ودرس أبرز جت ّلياته الغرض َّية فيه ،وح ّلل أساليب التعبري عنه بتوضيح شعر َّيته
تصورات أهم ُّ
عىل مستوى املعجم والبناء والتخييل والداللة ،ما كشف القناع عن ّ
وتصورات الشعوب التي اعتنقت اإلسالم، ُّ العرب املتصلة به ،قبل اإلسالم وبعده،
اهلجري ،ومت ُّثالهتا املستقاة من الديانات
ّ واندجمت يف العروبة ،بدء ًا من القرن َّ
األول
التوحيد َّية وغريها ،وحدَّ د نظرة اإلنسان العريب إىل احلياة وسلوكه فيها انطالق ًا من موقفه
خاصة.
من املوت ،وأطال الوقوف لدى املرث َّية ،والزهد َّية ،وقصيدة التعزية َّ
(متخ ّيل أحداث قصص األنبياء وال ّرسل في الكتاب المقدس والقرآن
ُ
الكريم)
عمد األفق املعريف املعارص الذي ُحدّ د للنظر يف « ُمتخ ّيل النصوص الدين َّية» إىل تقديم
تؤسس ماهية تصور جديد حدَّ من منزلة املقدَّ س ،معترب ًا إ َّياه ُبعد ًا من أبعاد عديدة ّ ُّ
اإلنسان.
يتنزل هذا البحث باعتباره حماولة للوقوف عىل ويف سياق النظر يف تلك األمور ّ
بفك رموزه ،واستجالء دالالته ،من خالل النظر يف النص املقدَّ سّ ،
بعض خصائص ّ
مظان «قصص األنبياء والرسل» ،فهو بجث ال خيرج عن ّ «األحداث ا ُملتخ َّيلة» الثاوية يف
اآلفاق التي تروم «تفكيك اخلطاب الديني» فه ًام لطرق إنتاجه للمعنى ،وذلك باستجالء
وتبي آليات تشكُّله من خالل النظر يف السياق الذي نشأ فيه اخلطاب الدّ يني. كنههُّ ،
إن جوهر النصوص املقدَّ سة والتجارب الدين َّية ماثل فيام تؤ ّديه من وظائف تارخي َّية َّ
تؤسس رؤاها انطالق ًا من املؤثرات الثقاف َّية والعقائد َّية احلا َّفة هبا ،ذلك ووجود َّية ،فهي ّ
أن األحداث املتخ َّيلة تعبري عن أحالم تاقت مجاعة املؤمنني إىل معانقتها ،ففي عوامل َّ
ا ُملتخ َّيل ُت ّلق نفوسهم يف فضاءات ال ُتىص وال تُعدُّ ،وتطوف أماكن قص َّية ،وتتخ َّطى أزمنة عودة إىل زمن البدايات.
الفلسفةْ ...
مشيًا
عبد السالم بنعبد العايل
األفكار التي ختطر عىل بالنا ونحن نميش هي التي هلا قيمة».
ُ «وحدَ ها
ف .نيتشه
املشائني ،بل أغلب الفالسفة مشاؤون كبار :سقراط ،روسو ،كانط ،كيريكغارد ،نيتشه...احتفظ التاريخ ليس أتباع أرسطو وحدهم َّ
املش ممارس ًة يومية فحسب ،وإنَّام جعلوه موضوع ًا لتفكريهم الفلسفي ،كام احتفظت اجلغرافية بأسامء بأسامء هؤالء الذين مل يكتفوا باختاذ ْ
ممر الفيلسوف كانط ،زقاق نيتشه ،دروب هايدغر. َمْشياهتم :آغورا سقراط ،رواق األرسطيني والرواقينيّ ،
***
«الفلسفة ،هي هنج طريق».
ك .ياسربز
***
يتحول وهو يف طريقه إليه».
فإن هذا يسري نحوه ويالحقه ،لكن قد يتأتَّى له أن َّ ّ
يستحث يشء ما الفكرَّ ، «عندما
م .هايدغر
***
املرصعة بالنجوم ،أخطأ
َّ السامء
ُيرجع أرسطو ميالد الفلسفة إىل طاليسُ .يكَى عن فيلسوف ملطة أنَّه ،بينام كان يميش وهو يتأ َّمل َّ
سيل من الضحك. اخلَطو فهوى يف بئر ،وكان ذلك عىل مرأى خادمة انفجرت مقهقه ًة؛ اقرتن ميالد الفلسفة بخطوة خاطئة أعقبها ٌ
***
خطوة خطوة :خطوة قدم ،وخطوة فكر .الوقع وااليقاع :اإلنصات إىل اجلسد وإىل صوت النفس.
***
حتركه الساقان».
«ترقد أفكاري إذا أقعدهتا .وال يعمل ذهني ما مل ّ
مونتيني
***
املشاء حارض دائ ًام يف جسده ،مضطر إىل اإلنصات إىل وقعه وإيقاعه ،متن ِّبه إىل ردوده واستجاباته ،جمرب عىل التفكري باستمرار يف مشاكله ّ
اجلسم َّية والتنفس َّية.
***
فنتبي حدودنا.
املش نشعر باألرض حتت أقدامنا ،وندرك انجذابنا نحوهاَّ ، عن طريق ْ
***
عند امليش نشعر بثقلنا ( )pesanteurوتقدُّ م أعامرنا ،فنغدو متن ّبهني لذواتنا ولزمن حياتنا.
***
وعي باملحايثة والتعايل ،وإدراك للمحدود َّية واالنفتاح،
بالروحيٌ : بالساموي ،والتحام اجلسدي ُّ يف امليش ،نعيش جتربة لقاء األريض َّ
حلظة تَفكُّر ودرس يف األخالق.
ف
صلي
* املجلة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نرشت أم مل تنرش ،وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النرش ،وال تلتزم
بإبداء أسباب عدم النرش.
* حتتفظ املجلة بحقها يف نرش النصوص وفق خطة التحرير ،وحسب التوقيت الذي تراه مناسب ًا.
ة .ف
النصوص التي تنرش يف املجلة تعبِّ عن آراء ُك َّتاهبا ،وال تعبِّ ،بالرضورة ،عن رأي املجلة ،أو مؤسسة (مؤمنون بال
حدود للدراسات واألبحاث).
ال ،أو ضمن جمموعة من البحوث ،بلغته األصلية أو ُمرتمج ًا إىل أية لغة أخرى كر * للمجلة حقّ إعادة نرش النص منفص ً
ورقي ًا ،أو إلكرتوني ًا ،عىل موقع املؤسسة عىل اإلنرتنت ،دون حاجة إىل استئذان صاحب النص.
* جملة (يتفكرون) ال متانع يف النقل ،أو االقتباس عنها رشيطة ذكر املصدر.
ية .
* يرجى من الكاتب ،الذي مل يسبق له النرش يف املجلة ،إرسال نبذة خمترصة عن سريته الذاتية.
* يتل ّقى صاحب البحث ،أو املقال ،مكافأة مالية حتدّ دها هيئة التحرير وفق ًا ملعايري موضوعية.
ثقا
يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير املجلة ،أو عرب الربيد اإللكرتوين:
تقاطع زنقة واد هبت وشارع فال ولد عمري ،أكدال
فية