Académique Documents
Professionnel Documents
Culture Documents
Textes initialement publiés dans la revue TEXTARAB entre 1990 et 2002 - version nouvelle
http://langues.univ-paris1.fr/arabe/3arabeenligne.htm
ECOUTE :
Partie 1
جدا،
كان يا ما كان ،في قدمي الزمان ،في مدينة اإلسكندرية ،حالق ذكي اسمه أبو صير ،حالق فقير ً
كثيرا ،ولكن ال يكسب إال القليل .وبعد صبر طويل عزم على الرحيل إلى كثيرا ،ويتعب ً كثيرا ،ويجد ً
يعمل ً
سعيدا .
ً بلد آخر ،يكسب فيه ما يستحق ،ويعيش
دائما على الزبائن ويغشهم ،يأخذ أجرة صبغ وكان له جار صباغ اسمه أبو قير .كان هذا الصباغ يكذب ً
الثياب سل ًفا ،ثم يذهب إلى السوق ،ويبيع الثوب ،ويقول لصاحبه « :متأسف ،سرقه اللص ،واهلل ! » ،لهذا
أيضا .
فقيرا هو ً
قاطعه الناس ،فصار ً
ملا سمع أبو قير كالم جاره عن السفر قال له :
أيضا ،أريد الرحيل .أريد أن أسافر معك ،لنذهب م ًعا إلى بلد آخر ،نعمل فيه بجد ،ونقتسم كل _ أنا ً
ما نكسب .
وهكذا اتفق أبو صير وأبو قير على السفر م ًعا ،وباع كل واحد منهما دكانه ،ثم ركبا في سفينة كبيرة،
فيها عدد كبير من املسافرين ،وعلى ظهر السفينة ،جعل أبو صير يحلق حلى املسافرين ،ويقص شعرهم ،مقابل
أجرة بسيطة ،وكان يعطي صاحبه نصف ما يكسب ،حسب االتفاق .بينما كان أبو قير يأكل ويشرب وينام
ويتفرج على البحر ،وهو يقول :أنا متأسف ،فأنا صباغ ،ال بد لي من دكان لكي أعمل ،وسوف أعمل عندما
نصل إلى وطننا اجلديد .
أخيرا وصلت السفينة إلى ميناء عظيم ،فيه عدد هائل من الدكاكني واحلوانيت واملتاجر واحملالت واملخازن، ً
في أسواق كبيرة ،وأخرى صغيرة .نزل الصديقان من السفينة ليالً ،وسارا في شوارع املدينة ،وسط الظالم،
حتى وصال إلى فندق صغير نزال فيه .
في الصباح الباكر ،نهض أبو صير ،وخرج إلى السوق ليبحث عن عمل ،بينما ظل أبو قير في فراشه،
وقال :
غدا عن العمل .
_ أنا مريض اليوم .يجب أن أستريح ،وسأبحث ً
وهكذا صار أبو صير يعمل كل يوم ،من الصباح حتى املساء ،بينما يبقى أبو قير في الفندق ،يستريح ،
ويأخذ نصف املال الذي يكسبه صاحبه احلالق .
***
وحدث ذات يوم أن مرض أبو صير ،فلم يستطع اخلروج للعمل .فبقي الصديقان في غرفتهما في الفندق
أحدهما مريض ح ًقا واآلخر متمارض ،حتى جاع هذا األخير ونهض للخروج بح ًثا عن شيء من الطعام .وقبل
أن يخرج ،وبعد أن تأكد من أن صاحبه نائم ،فتش جيوب صاحبه وأخذ كل ما وجد فيها من دراهم ،ثم خرج
من الفندق .
ال حتى تبني له أمر عجيب ال يعقل .املدينة بال ألوان ! أو على ما إن سار أبو قير في املدينة قلي ً
األصح ليس فيها إال ما هو أبيض وأزرق ! فأين األحمر ،واألصفر ،واألخضر ،والبرتقالي ،والبني ،والبنفسجي،
والوردي!!!
أسرع أبو قير ودخل إلى دكان أحد الصباغني ،وقال له :
أجيرا عندك وسوف_ إني أبحث عن عمل ،وأنا أعرف ألوا ًنا جديدة ال تعرفونها في مدينتكم .اقبلني ً
أعلمك إياها فتكون أغنى صباغ في املدينة .
قال الصباغ بانزعاج :
_ نحن ال نقبل الغرباء في هذه الصنعة .
وكان أبو قير يسمع نفس اجلواب في كل مصبغة يدخلها .احتار في أمره ،وفكر طويالً ،ثم عزم على
خطيرا لن يبوح به إال للسلطان
ً سرا
الذهاب إلى قصر السلطان ،وطلب من احلرس أن يخبروا سيدهم بأن له ً
نفسه .فأذن له السلطان بالدخول ،فسلم وقبل األرض بني يديه ،ثم جلس بخشوع على مقربة من العرش .
وعندما أشار إليه احلاجب ،قال :
_ يا موالي السلطان ،يا ملك الزمان ،يا صاحب اجلاللة ،إن عندي ألوا ًنا ال يعرفها أحد في مدينتكم،
وأنا أمتنى أن يستفيد منها موالي ورعيته ،كما استفاد منها أهل اإلسكندرية .
قال السلطان ،غير مهتم مبا سمع :
_ من أنت ؟
_ أنا أكبر صباغ في مدينة اإلسكندرية ،أنا أبو قير الشهير .
ظل السلطان غير مهتم بكالم أبي قير ،لكنه قال لوزيره :
_ أقيموا له مصبغة ،وأعطوه بعض ثياب السلطانة .
أبدا .ففرح امللك
ال ًصبغ أبو قير ثياب السلطانة أحسن صبغ ،بألوان رائعة ،لم ير لها سكان اململكة مثي ً
وامللكة ،وصار أبو قير من أغنى جتار املدينة ،وصارت مصبغته أشهر مصبغة في البالد ،وجاءه الزبائن من كل
صوب ومكان .
أبدا بصاحبه .
جدا ،ولكنه لم يفكر ً وغنيا ً
غنيا ،بل ًصار أبو قير ً
***
مريضا في فراشه ثالثة أيام ،ال يخرج من الغرفة ،حتى انتبه إليه صاحب الفندق ورق له قلبه، بقي أبو صير ً
وعندما تبني له أن الشاب املسكني مفلس متا ًما ،قال له :
_ ال حتزن ! ابق هنا حتى تشفى ،فأنا لست بحاجة إلى املال .
وأتاه الرجل الطيب بالطعام والدواء ،وظل يعتني به حتى شفي من مرضه .حينها خرج إلى املدينة بح ًثا
عن صاحبه ،وعن عمل يكسب منه عيشه .فصار يزور املصابغ مصبغة مصبغة ،حتى وقع نظره فجأة على
جالسا على كرسي مصبغة كبيرة ،يدخل إليها الناس ويخرجون في نشاط منتظم .دخل إليها ورأى صاحبه ً
كبير وحوله اخلدم ينفذون أوامره .ففرح احلالق برؤية صاحبه وأسرع إليه يهنئه مبا صار إليه ،لكنه فوجيء به
يصيح في وجهه :
_ اخرج ! أيها اللص اللعني ! أنت الذي كان يسرق ثيابي في اإلسكندرية ،وتريد أن تفعل هذا من
جديد هنا ! اطردوه أيها اخلدم !
***
منقبضا ،وضاقت ً كئيبا ،ال يدري ماذا يقول فيما سمع ورأى .كان قلبهرجع أبو صير إلى الفندق حزي ًنا ً
الدنيا في عينيه ،وحن إلى مدينته ،اإلسكندرية ،وإلى تلك األيام التي كان يعمل فيها بكد عظيم ،دون أن
يغدر به أحد .وبعد أن بكى ساعات ،هدأت نفسه وعاد إليه العزم على مواجهة املصاعب بروح عالية ،وصبر
شديد .
خرج أبو صير إلى املدينة في اليوم التالي بح ًثا عن العمل ،وصار يعمل عند أحد احلالقني ،ثم في أكبر
حمام في املدينة ،وملا كان عمله ممتا ًزا ،صار يكسب املزيد واملزيد من املال ،حتى توفر لديه مبلغ يكفي لبناء
واحدا من أغنى أهل حمام جديد .بنى حمامه على أحسن وجه ،وبنى بجانبه دكا ًنا للحالقة ،وسرعان ما صار ً
السوق في املدينة ،فسمع به أبو قير ،وجاءه يو ًما إلى الدكان ،وتظاهر بأنه سعيد برؤيته ،وقال له :
_ يا صديقي العزيز ،يا أخي احلبيب ! أين كنت ؟ ملاذا لم تسأل عني كل هذه املدة ؟ بحثت عنك في
كل مكان ،ولم أكن أتصور أن أجدك هنا ! كم أنا سعيد بنجاحك !
قال له أبو صير :
_ وملاذا طردتني إذن عندما جئت إليك في املصبغة ؟
تعبا ،فلم أعرف أنك كنت أنت ذلك الرجل الذي طردته، _ أنا طردتك ! مستحيل ! ...آه ،رمبا كنت ً
أو رمبا هو نظري ! آه ،لقد ضعف نظري يا صاحبي العزيز منذ فراقنا ،ذلك هو القلق عليك ،واحلزن لغيبتك!
_ ال بأس عليك ،املهم أننا ما زلنا أصدقاء ،أليس كذلك ؟
_ وكيف ال ،بل نحن إخوة ،أنا أخوك وأنت أخي وحبيبي .
_ نعم ،أنت أخي وصديقي .
_ ...ولكن ،قل لي ...ملاذا ال تكمل جناحك بأن تدعو السلطان إلى حمامك ،وحتلق له شعره ،فتصبح
أشهر حالق في البالد !
_ إنها واهلل فكرة حسنة .سأفعل إن شاء اهلل .
***
ما إن خرج أبو قير من عند صاحبه حتى ذهب إلى قصر السلطان ،وطلب املثول بني يديه على أسرع وجه،
وقال له :
_ يا موالي ،هناك من يريد قتلك !
_ من ؟
_ احلالق أبو صير ،صاحب احلمام اجلديد .
_ وملاذا يريد قتلي ؟
_ إنه حالق عدوك اللدود ،ملك اجلزيرة اخلضراء ،جاء إلى مملكتك لهدف واحد هو أن يقتلك في
حمامه .
_ وما الذي يثبت أن ما تقوله صحيح ؟
_ سترى يا موالي ،أيها السلطان العظيم ،سيأتي إليك أبو صير ،ويدعوك لزيارة حمامه ودكانه ،وهناك
سيعرض عليك قص شعرك ثم يحاول قتلك .
بعد يومني جاء أبو صير إلى قصر السلطان ،ودعاه إلى حمامه ،فأمر السلطان احلرس بحبسه ،ثم أمر
احلاجب بأن يضعه في كيس ويرمي به إلى البحر .حدث ذلك كله في دقائق ،ولم يتمكن احلالق املسكني
من الدفاع عن نفسه .ولكن احلاجب أدرك حقيقة األمر ،وكان من أصدقاء احلالق املقربني ،فأخفاه في بيته،
حجرا في الكيس ،ورمى به إلى البحر على مرأى من السلطان ،وكان السلطان في شرفة عالية من قصره ووضع ً
يتفرج على هذا املشهد وهو يداعب بأصابعه خامته العظيم ،خامت احلكم والقوة والسلطة ،وعندما ألقى احلاجب
عظيما ،إذ أن
ً شديدا ،ويأسه
ً بالكيس إلى املاء ارتعد السلطان وسقط اخلامت من يده إلى البحر .وكم كان حزنه
أمرا غير مختوم بخامت اململكة .
السلطان بال خامت ليس بسلطان ،وال أحد ينفذ ً
***
انطوى السلطان على نفسه ،ال يتحدث إلى أحد ،وال يأكل إال القليل ،وال يخرج من غرفته .وكان أبو
كثيرا،
حبيسا في دار صديقه املخلص حاجب السلطان .وفي يوم من األيام ،ضجر أبو صير ً ً صير ،هو اآلخر،
متنكرا بثياب صياد سمك ،وذهب إلى الشاطئ ليصطاد بعض السمك .فاصطاد سمكة كبيرة وجد في ً فخرج
بطنها خامتا لم ير مثله قط ،ال في جماله وال روعة صنعته .فلما عاد احلاجب إلى داره وأراه أبو صير ما وجد
ال :
في بطن السمكة ،صاح قائ ً
_ إنه خامت السلطان !
ثم أسرع إلى القصر ،وبصحبته أبو صير ،ودخل على السلطان ،وبشره بعودة اخلامت ،وقص عليه ما حدث.
عندها ،قال السلطان للحالق النبيل :
_ اطلب ما شئت ! إني مدين لك بالكثير !
قال أبو صير :
_ لي طلب بسيط ،يا موالي .قل لي ،ملاذا غضبت علي ؟
أخبره السلطان مبا كان ،فحدثه أبو صير بحقيقة األمر .فغضب السلطان على الصباغ اللعني وأمر احلاجب
بأن يرميه إلى البحر .فقال له أبو صير :
_ موالي ،أرجوك أن تعفو عنه ،إنه كان صاحبي ،وهو إسكندراني مثلي .
ولكن السلطان رفض العفو عنه ،فمات أبو قير ،ولم يأسف عليه أحد .أما أبو صير فقد كره أن يبقى في
املدينة التي مات فيها صاحبه ،فعاد إلى اإلسكندرية وعاش فيها في أمان وسعادة وهناء .
***